آل راشد



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

آل راشد

آل راشد

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
آل راشد

ثقافى-اجتماعى

*** - اللَّهُمَّ اَنَكَ عَفْوٍ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعِفُو عَنَّا - *** - اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك . *** - اللَّهُمَّ اُرْزُقْنَا تَوْبَةً نَصُوحًا قَبْلَ الْمَوْتِ وَ ارْزُقْنَا حُسْنَ الْخَاتِمَةِ . *** -

إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا شَابَتْ عَبِيدَهُمْ.. .. فِي رِقِّهِمْ عَتَقُوهُمْ عِتْقَ أَبْرَارٍ .. .. وَأَنْتَ يَا خَالِقِيُّ أوْلَى بِذَا كَرَمًا.. .. قَدْ شُبْتُ فِي الرِّقِّ فَأَعْتَقَنِي مِنَ النَّارِ .

المواضيع الأخيرة

» (( 2 )) مَوَاقِفُ تَرْبَوِيَّة فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
(( 2 )) مَوَاقِفُ تَرْبَوِيَّة فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .  Ooou110الخميس أكتوبر 03, 2024 10:25 pm من طرف صادق النور

» حكم جلسة الإستراحة في الصلاة
(( 2 )) مَوَاقِفُ تَرْبَوِيَّة فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .  Ooou110الخميس أكتوبر 03, 2024 5:18 pm من طرف عبدالله الآحد

» هل الحجاب مخلوق وهل هو أكبر من العرش
(( 2 )) مَوَاقِفُ تَرْبَوِيَّة فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .  Ooou110الخميس أكتوبر 03, 2024 5:17 pm من طرف عبدالله الآحد

» لا يمكن التقارب بين أهل السنة والرافضة عند أهل السنة
(( 2 )) مَوَاقِفُ تَرْبَوِيَّة فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .  Ooou110الأربعاء أكتوبر 02, 2024 4:41 pm من طرف عبدالله الآحد

» (( 1 )) مَوَاقِفُ تَرْبَوِيَّة فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
(( 2 )) مَوَاقِفُ تَرْبَوِيَّة فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .  Ooou110الأربعاء أكتوبر 02, 2024 12:29 pm من طرف صادق النور

» حجابه النور
(( 2 )) مَوَاقِفُ تَرْبَوِيَّة فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .  Ooou110الثلاثاء أكتوبر 01, 2024 5:06 pm من طرف عبدالله الآحد

» كيفية تحريك الأصبع في التشهد والجمع بين الأحاديث
(( 2 )) مَوَاقِفُ تَرْبَوِيَّة فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .  Ooou110الإثنين سبتمبر 30, 2024 4:26 pm من طرف عبدالله الآحد

» حكم زيارة القبور
(( 2 )) مَوَاقِفُ تَرْبَوِيَّة فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .  Ooou110الأحد سبتمبر 29, 2024 5:08 pm من طرف عبدالله الآحد

» الإسلام دين نوحيد الله في التوجه والطلب
(( 2 )) مَوَاقِفُ تَرْبَوِيَّة فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .  Ooou110السبت سبتمبر 28, 2024 3:47 pm من طرف عبدالله الآحد

» أكثروا الصلاة على رسول الله اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وسلم
(( 2 )) مَوَاقِفُ تَرْبَوِيَّة فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .  Ooou110الجمعة سبتمبر 27, 2024 5:08 pm من طرف عبدالله الآحد

اهلا بكم

الثلاثاء نوفمبر 08, 2011 2:32 am من طرف mohamed yousef

(( 2 )) مَوَاقِفُ تَرْبَوِيَّة فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .  Ooousu10

المتواجدون الآن ؟

ككل هناك 22 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 22 زائر :: 1 روبوت الفهرسة في محركات البحث

لا أحد


أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 624 بتاريخ الأربعاء سبتمبر 15, 2021 4:26 am

احصائيات

أعضاؤنا قدموا 10011 مساهمة في هذا المنتدى في 3352 موضوع

هذا المنتدى يتوفر على 303 عُضو.

آخر عُضو مُسجل هو Sara706018 فمرحباً به.

دخول

لقد نسيت كلمة السر

أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى

أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع


    (( 2 )) مَوَاقِفُ تَرْبَوِيَّة فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5347
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود (( 2 )) مَوَاقِفُ تَرْبَوِيَّة فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

    مُساهمة من طرف صادق النور الأربعاء أكتوبر 02, 2024 8:00 pm

    موقفه صل الله عليه وسلم مع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ..


    بين لنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن من أفضل وجوه الإنفاق:

    الإنفاق على الأهل والأبناء، فقال صلى الله عليه وسلم: (دينارٌ أنفقته في سبيلِ الله، ودينارٌ أنفقته في رقبة، ودينارٌ تصدقتَ به على مسكينٍ، ودينارٌ أنفقته على أهْلِك، أعظمُها أجراً الذي أنفقته على أهلِك) رواه مسلم.
    وقد أوصانا صلوات الله وسلامه عليه أن نترك لأهلنا وأبنائنا من المال ما يكفيهم ويغنيهم عن الحاجة وسؤال الناس شيئا،
    فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (عادني (زارني) رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، من وجعٍ أشفيتُ (قاربتُ) منه على الموت،
    فقلتُ: يا رسول الله! بلغني ما ترى من الوجع، وأنا ذو مالٍ، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدقُ بثلثيْ مالي؟ قال: لا، قلتُ: أفأتصدقُ بشطرِه (نصفه)؟ قال: لا، الثلثُ، والثلثُ كثير، إنك إن تذَرَ ورثتكَ أغنياءَ، خيرٌ من أن تذَرَهم (تتركهم) عالةً (فقراء) يتكففون (يسألون) الناسَ، ولستَ تنفقُ نفقةً تبتغي بها وجه الله، إلا أُجِرْتَ بها، حتى اللقمةَ تجعلُها في فِي (فم) امرأتِك، قال: قلتُ: يا رسولَ الله! أُخَلَّفُ بعدَ أصحابي (هل سأتأخر بعد أصحابي فأموت بمكة)؟
    قال: إنك لن تُخَلَّفَ فتعملَ عملًا تبتغي بهِ وجهَ الله، إلا ازددتَ به درجة ورفعة، ولعلك تُخَلَّف حتى ينفع بك أقوامٌ ويُضَرَّ بك آخرون) رواه مسلم. وفي رواية أخرى قال سعد: (أفأُوصي بثلُثَيْ مالي).
    من المعلوم أن السيرة النبوية بأحداثها ومواقفها تساعد العلماء على استنباط الأحكام الفقهية، واستخراج الدروس والفوائد التربوية، ومن هذه الأحداث والمواقف:
    موقف النبي صلى الله عليه وسلم وحواره مع سعد بن أبي وقاص.

    دروس وفوائد وأحكام :

    ـ من شمائل النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه العظيمة:
    حسن معاملته لأصحابه، فكان صلى الله عليه وسلم يتواضع معهم، ويجيب دعوتهم، ويشهد جنائزهم، ويدعو لهم ولأبنائهم، ويمازحهم ويداعبهم، ويشفق عليهم ويقضي حوائجهم، ويؤلفهم ولا ينفرهم، ويعطى كلَّ مَنْ جالسه نصيبه من العناية والاهتمام، حتى يظن جليسه أنه ليس أحدٌ أكرم منه، وكان يزورهم إذا مرضوا،
    فعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم) رواه الحاكم.
    وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في زيارته للمريض: التحدث إليه ونصحه بما ينفعه، والدعاء له بالشفاء، وذلك للتخفيف من معاناته، وهذا ما فعله صلى الله عليه وسلم في زيارته لسعد رضي الله عنه، ففي رواية أحمد في مسنده: قال صلى الله عليه وسلم وهو في زيارته لسعد رضي الله عنه: (اللهمَّ اشفِ سعداً، اللهمَّ اشفِ سعداً، اللهمَّ اشفِ سعداً
    قال النووي: "فيه استحباب عيادة المريض، وأنها مستحبة للإمام كاستحبابها لآحاد الناس".

    ـ استشارة الصحابة رضوان الله عليهم للنبي صلى الله عليه وسلم في كافة أمورهم، وحرصهم على البذل والصدقة والإنفاق في سبيل الله عز وجل،
    وذلك لقول سعد رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: (أفأتصدقُ بثلثيْ مالي؟ قال:لا، قلتُ: أفأتصدقُ بشطرِه (نصفه)؟ قال: لا)، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد رضي الله عنه: (ولعلك تُخَلَّفُ (يطول عمرك) حتى ينفعَ بك أقوامٌ ويُضَرَّ بك آخرون
    قال النووي: "وهذا الحديث من المعجزات، فإن سعداً رضي الله عنه عاش حتى فتح العراق وغيره، وانتفع به أقوام في دينهم ودنياهم، وتضرر به الكفار في دينهم ودنياهم".

    لا تجوز الوصية إلا بالثلث وأقل، وأما ما زاد على الثلث فلا، ويجوز للمسلم أن يوصي لغير وارث بما لا يزيد عن ثلث التركة، وتكون الوصية حينئذ صحيحة،
    قال ابن عبد البر: "وأجمع علماء المسلمين على أنه لا يجوز لأحدٍ أن يوصى بأكثر من ثلثه إذا ترك ورثة من بنين أو عصبة".
    وقال ابن عثيمين: "منعت الوصية بأكثر من الثلث لأن حق الورثة يتعلق بالمال، فإذا أوصى بزائد عن الثلث صار في ذلك هضم لحقوقهم". فإذا كان الموصِي يريد بالوصية الثواب والأجر، فإن تركه المال لورثته الفقراء المحتاجين إليه أكثر ثواباً،
    قال ابن بطال: "لأنه بفعله ذلك يؤدى فرضاً لله عليه هو أفضل من صدقة التطوع التى يتصدق بها على غريب منه لا حق له فى ماله".
    وقال ابن عثيمين: "إذا كان مال الإنسان قليلاً وكان ورثته فقراء فالأفضل أن لا يوصي بشيء لا قليل ولا كثير لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة) ..
    ويظن بعض العامة أنه إذا لم يوص فإنه لا أجر له وليس كذلك، بل إذا ترك المال لورثته فهو مأجور في هذا، وإن كان الورثة يرثونه قهراً، لكن إذا كان مسترشداً بهدي النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة) فإن أجره بذلك أفضل من أن يتصدق عنه بشيء من ماله".

    ـ حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن يبقى الورثة ـ الأهل والأبناء ـ في كفاف مالي، وذلك من خلال منع الصدقة والوصية بأكثر من الثلث،
    قال النووي: "وفي هذا الحديث مراعاة العدل بين الورثة والوصية، قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: إن كانت الورثة أغنياء استُحِب أن يُوصي بالثلث تبرعاً، وإن كانوا فقراء استُحِب أن ينقص من الثلث، وأجمع العلماء في هذه الأمصار على أن من له وارث لا تنفذ وصيته بزيادة على الثلث إلا بإجازته".
    فالوصية تجوز لغير الوارث في حدود الثلث فقط، وما زاد على الثلث فهو موقوف على إجازة الورثة، فإن أجازوه صح ذلك،
    قال ابن قدامة في المغني: "وجملة ذلك أن الوصية لغير الوارث تلزم في الثلث من غير إجازة، وما زاد على الثلث يقف على إجازتهم، فإن أجازوه جاز، وإن ردوه بطل في قول جميع العلماء،
    والأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد حين قال: أوصي بمالي كله؟ قال:لا، قال: فبالثلثين؟ قال: لا، قال: فبالنصف؟ قال: لا، قال: فبالثلث، قال: الثلث، والثلث كثير".

    ـ الاشتغال بجمع المال في الدنيا ليس بمذموم مادام من طريقٍ حلال ومشروع، ولم يشغل صاحبه عن أداء الفرائض والواجبات، وأُنْفِقَ في حلال وفي وجوهه المشروعة،
    قال ابن حجر: "وفيه إباحة جمع المال بِشَرْطه، لأن التنوين في قوله: (وأنا ذو مالٍ) للكثرة، وقد وقع في بعض طرقه صريحاً: (وأنا ذو مالٍ كثير)".

    ـ ارتباط السيرة النبوية بالقرآن الكريم:
    لا يمكن فهم الكثير من الآيات القرآنية فهماً صحيحا، واستباط الأحكام منها في مَعْزلٍ عن السيرة النبوية، فلا غناء للمسلمين وهم يعايشون القرآن الكريم وتفسيره عن السيرة النبوية،
    وقد قال ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}(النساء:9):
    "عن ابن عباس: هذا في الرجل يحضره الموت، فيسمعه الرجل يوصي بوصية تضر بورثته، فأمر الله تعالى الذي يسمعه أن يتقي الله، ويوفقه ويسدده للصواب، ولينظر لورثته كما كان يحب أن يصنع بورثته إذا خشي عليهم الضيعة.
    وهكذا قال مجاهد وغير واحد، وثبت في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على سعد بن أبي وقاص يعوده قال: يا رسول الله، إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي..".
    قال ابن عبد البر: "وفي هذا الحديث (حديث سعد): تخصيص للقرآن، لأنه أطلق الوصية ولم يقيدها بمقدار لا يُتعدى، وكان مراده عز وجل من كلامه ما بينه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم،
    قال الله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}(النحل:44) يعني لتبين لهم مراد ربهم فيما احتمله التأويل من كتابهم الذي نزل عليهم.. وأجمع فقهاء الأمصار أن الوصية بأكثر من الثلث إذا أجازها الورثة جازت، وإن لم يجزها الورثة لم يَجُزْ منها إلا الثلث".

    ـ الإنْفاق على الأهل والعِيَال يُثَاب عليه الإنسان إذا قصَد بِه وَجْه الله تعالى، بل إن الإنسان يؤجر على صغار الأمور ومباحاتها، كاللقمة التي يضعها في فمِ زوجته، فكيف بما هو أكبر من ذلك؟!
    وقَدْ أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (حتَّى اللُّقْمَة تَجْعلها في فِي امْرَأَتك
    وفي عون المعبود شرح سنن أبي داود": "والمعنى أن المُنفِق لابتغاء رضاه تعالى يُؤجر وإن كان محل الإنفاق محل الشهوة وحظ النفس لأن الأعمال بالنيات".

    لقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارته وحواره مع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن كل نفقة ينفقها المسلم على زوجته أو ولده أو أقاربه، هي له صدقة وله ثوابها، ما دام يبتغي بها وجه الله تعالى، وأن كل ما ينفقه ويفعله بهذه النية الصالحة صدقة، ولو كان قليلا، حتى اللقمة يرفعها إلى فم زوجته،
    وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من الوصية بأكثر من الثلث، وأشار إلى الحكمة من هذا المنع، وهي أن يترك مالاً لورثته، يكفيهم ويغنيهم، حتى لا يحتاجون بعد موته لسؤال الناس..
    ومع هذه الفوائد والدروس والأحكام من هذا الموقف والحديث النبوي مع سعد رضي الله عنه، ينبغي أن يُرْجع إلى أحكام الوصية والمواريث في الإسلام .
    ===============================
    موقف النبي صل الله عليه وسلم على أن المسلم عليه أن يبريء نفسه من مواطن الريبة والسوء ..


    من شأن وحال المسلم الابتعاد عن مواطن التُهم والشُبهات، والتحرز من كل ما يوقعه في تهمة أو شبهة، وذلك لأن مواطن الرِيبة والتهم قد تجر الناس إلى إساءة الظن به، وإطلاق ألسنتهم فيه،
    وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فمَنِ اتّقى الشُبُهات فقد استبرأ لدينه وعِرْضِه) رواه مسلم،
    قال ابن رجب: "أي: طلب لهما البراءة مما يشينهما".

    ومن مواقف السيرة النبوية الدالة على أن المسلم عليه أن يبريء نفسه من مواطن الريبة والسوء، حفظاً لعرضه، وصيانة لقلوب الناس وألسنتهم، ما رواه البخاري في صحيحه عن أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنها: (أنها جاءتْ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَزورُه، وهو مُعْتَكِفٌ في المسجِد، في العَشْر الأواخرِ مِن رمَضان، فتَحَدَّثَت عنده ساعَة مِن العِشاء، ثم قامتْ تَنْقَلِب (ترجع إلى بيتها)، فقام معها النبي صلى الله عليه وسلم يَقْلِبُها (يردها و يمشي معها)،
    حتى إذا بلغت بابَ المسجد، الذي عِندَ مَسكَن أُمِّ سَلَمَة زَوْجِ النبي صلى الله عليه وسلم، مَرَّ بهِما رجلان مِنَ الأنْصارِ، فسَلَّما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نَفَذا (أسرعا)، فقال لهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: علَى رِسْلِكُما (مهلكما)، إنَّما هي صفيَّة بنتُ حُيَيٍّ، قالا: سبحان الله يا رسول الله، ـ وكَبُرَ عليهِما (عظُم و شقّ) ما قال ـ
    قال صلى الله عليه وسلم: إنَّ الشَّيطان يَجْري مِن ابنِ آدَم مَبلَغ الدَّم، وإنّي خَشيتُ أنْ يَقذِف في قُلوبِكُما).

    من حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هذين الصحابيين الأنصاريَّيْن، وخشية أن يلقى الشيطان في قلبيهما شيئاً، فيكون ذلك كفرا، أو يشتغلا بدفع هذه الوسوسة، بيّن لهما حقيقة الأمر، وقطع طريق الشك والوسوسوسة من الشيطان عنهما، فأخبرهما أن التي تقف معه هي زوجته صفية رضي الله عنها،
    قال ابن حجر في فتح الباري: "النبي صلى الله عليه وسلم لم ينسبهما إلى أنهما يظنان به سوءاً، لما تقرر عنده من صدق إيمانهما، ولكن خشي عليهما أن يوسوس لهما الشيطان ذلك، لأنهما غير معصومين، فقد يفضي بهما ذلك إلى الهلاك، فبادر إلى إعلامهما، حسماً للمادة، وتعليماً لمن بعدهما،
    إذا وقع له مثل ذلك،
    وقد روى الحاكم أن الشافعي كان في مجلس ابن عيينة فسأله عن هذا الحديث؟
    فقال الشافعي: إنما قال لهما ذلك، لأنه خاف عليهما الكفر، إن ظنا به التهمة، فبادر إلى إعلامهما، نصيحة لهما، قبل أن يقذف الشيطان في نفوسهما شيئاً، يهلكان به".
    وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)
    قال العيني في عمدة القاري: "قيل هو على ظاهره، وأن الله عز وجل جعل له قوة على ذلك، وقيل هو على الاستعارة لكثرة أعوانه ووسوسته فكأنه لا يفارق الإنسان كما لا يفارقه دم، وقيل إنه يلقي وسوسته في مسام لطيفة من البدن فتصل الوسوسة إلى القلب"،
    وقال القرطبي: "حمله بعض العلماء على ظاهره، فقال: إن الله تعالى جعل للشيطان قوة وتمكنا من أن يسري في باطن الإنسان، ومجاري دمه، والأكثر على أن معنى هذا الحديث: الإخبار عن ملازمة الشيطان للإنسان واستيلائه عليه بوسوسته، وإغوائه، وحرصه على إضلاله، وإفساد أحواله. فيجب الحذر منه، والتحرز من حيله، وسد طرق وسوسته وإغوائه وإن بعُدت، وقد بين ذلك في آخر الحديث بقوله: (إني خشيت أن يقذف في قلوبكما..)، وخصوصاً في مثل هذا الذي يفضي بالإنسان إلى الكفر، فإن ظن السوء والشر بالأنبياء كفر".

    وهذا الموقف النبوي فيه من الفوائد الكثير، قال الخطابي: "في هذا الحديث من العلم استحباب أن يحذر الإنسان من كل أمر من المكروه مما تجري به الظنون، ويخطر بالقلوب، وأن يطلب السلامة من الناس بإظهار البراءَة من الريب".
    وقال ابن حجر: "وفي الحديث من الفوائد: جواز اشتغال المعتكف بالأمور المباحة من تشييع زائره والقيام معه، والحديث مع غيره، وإباحة خلوة المعتكف بالزوجة، وزيارة المرأة للمعتكف،
    وبيان شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته وإرشادهم إلى ما يدفع عنهم الإثم، وفيه التحرز من التعرض لسوء الظن والاحتفاظ من كيد الشيطان والاعتذار".
    وقال ابن عثيمين في فوائد وعِبر هذا الموقف النبوي: "حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم في معاملته أهله، ومنها: جواز زيارة المرأة زوجها في الاعتكاف وأن ذلك لا يبطل الاعتكاف..،
    ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يشيع أهله إذا انقلبوا من عنده إذا كان ذلك ليلا أو في وقت يخاف فيه عليهم،
    ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يزيل أسباب الوساوس من القلوب، فمثلا إذا خشي أن أحدا يظن به شراً فإنه يجب عليه أن يزيل ذلك عنه ويخبره بالواقع حتى لا يحدث في قلبه شيء،
    ومنها: أنه إذا حدث للإنسان ما يتعجب منه فليقل سبحان الله كما قال ذلك الأنصاريان وأقرهما النبي صلى الله عليه وسلم،
    ومنها: شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ودرء الشر عنهم".

    من المعلوم أن نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه أعظم مخلوق وأفضل نبي، وفضله ومقامُه فوق أي شبهة من الشبهات، ومع ذلك بيَّن لصاحبيه أن التي تقف معه هي زوجته صفية رضي الله عنها،
    قال الماوردي: "هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أبعد خلق الله من الرِّيَب وأصونهم من التُّهم... فكيف من تخالجت فيه الشُّكوك، وتقابلت فيه الظَّنون؟
    فهل يَعْرى مَن في مواقف الرِّيَب مِن قادح محقَّق، ولائم مُصدَّق؟)".
    وقال ابن دقيق العيد: "في الحديث دليلٌ على التحرّز مما يقع في الوهم نسبة الإنسان إليه مما لا ينبغي، و هذا متأكَّد في حق العلماء و من يُقتدى بهم، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلا يوجب ظنَّ السوء بهم، وإن كان لهم فيه مخلص، لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم"..
    ومن ثم فمما ينبغي على المسلم البعد عن مواطن التهم والريب، وأن يقي عِرْضَه من طعنات الألسن فيه، فلا ينبغي أن يُرى حيث تقع في أمره شبهة، أو توجّه له تهمة، ولو كان بريئاً منها وبعيداً عنها، فإذا اضطر لأن يقف موقفاً مشروعاً، وخاف أن يتطرق إليه عند الناس شبهة أو تهمة، فعليه أن يُبادر للتصريح بحقيقة حاله، والتعريف بمشروعية موقفه، إزالة للشبهة، وحفظاً لعرضه، وصيانة لقلوب الناس وألسنتهم،
    وقد فعل ذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقال لصاحبيه: (على رِسْلِكُمَا إنها صفية)،
    قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري: "قال المهلب: فيه من الفقه تجنب مواضع التهم، وأن الإنسان إذا خشى أن يسبق إليه بظن سوء أن يكشف معنى ذلك الظن، ويبرئ نفسه من نزغات الشيطان الذى يوسوس بالشر فى القلوب، وإنما خشى عليه الصلاة والسلام أن يحدث على الرجل من سوء الظن فتنة، وربما زاغ بها فيأثم أو يرتد،
    وإن كان النبى عليه السلام منزهًا عند المؤمنين من مواضع التهم،
    ففى قوله صلى الله عليه وسلم: (إنها صفية) السُنة الحسنة لأمته، أن يتمثلوا فعله ذلك فى البعد عن التهم ومواقف الرِيَب".
    ==================================


    موقفه صل الله عليه وسلم مع أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها وأمها المشركة ..


    بِرُّ الوالدين من الأمور الواجبة على المسلم، ولا يختص برهما لكونهما مسلمين، بل حتى لو كانا فاسقين أو كافرين يجب برهما والإحسان إليهما ما لم يأمرا بشرك أو ارتكاب معصية،
    قال الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}(لقمان:15)،
    قال ابن كثير: "أي: إنْ حرصا عليك كل الحرص على أن تتابعهما على دينهما فلا تقبل منهما ذلك، ولا يمنعك ذلك من أن تصاحبهما في الدنيا معروفاً، أي: محسِنًا إليهما".

    ومن مواقف وأحداث السيرة النبوية الدالة على ذلك:
    موقف أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها مع أمها المشركة قُتَيْلة بنت عبد العزى التي كانت زوجة لأبي بكر وطلقها قبل الإسلام، كانت ولدت له عبد الله وأسماء. وقد اخْتُلِف في إسلامها،
    قال النووي: "اختلف العلماء في إسلام قتيلة هل أسلمت أم ماتت على كفرها، والأكثرون على موتها مشركة"،
    وقال البيهقي : "وليست بأم عائشة"،
    وقال السيوطي: "واختلف في إسلامها، والأكثر أنها ماتت مشركة".
    وهذا الموقف بين أسماء وأمها رواه البخاري عن أسماء رضي الله عنها قالت: (قدِمَت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد قريش، إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدتهم (ما بين الحديبية والفتح)، فاستفتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقلتُ: إن أمي قدِمت علي وهي راغبة، أفأصل أمي؟
    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، صِلي أمك. فأنزل الله تعالى: {للا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}- الممتحنة  - رواه البخاري .
    قال ابن حجر في فتح الباري: "قولها رضي الله عنها: (وهي راغبة): أي في شيء تأخذه وهي على شركها, ولهذا استأذنت أسماء في أن تصلها, ولو كانت راغبة في الإسلام لم تحتج إلى إذن".
    وقال النووي: "(قدمت عليَّ أمي وهي راهبة)، وفي الرواية الثانية (راغبة) وفيها وهي مشركة، فقلت للنبي صلى الله عليه وسلم: أفأصل أمي؟ قال: نعم صِلي أمك
    قال القاضي عياض: الصحيح راغبة بلا شك، قال: قيل معناه راغبة عن الإسلام وكارهة له .. وفيه جواز صلة القريب المشرك".
    وقال ابن بطال: "في الحديث من الفقه أنه صلى الله عليه وسلم أباح لأسماء أن تصل أمها ولم يشترط في ذلك مشاورة زوجها، وأن للمرأة أن تتصرف في مالها بدون إذن زوجها".

    وفي رواية لأحمد عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: (قَدِمَت قُتيلة ابنة العزى بن عبد أسعد من بني مالك بن حسل على ابنتها أسماء بنت أبي بكرٍ بهدايا ضِباب وأقط (لبن مجفف) وسَمْن، وهي مشركة، فأبَت (رفضت) أسماء أن تقبل هديَّتها وتُدخِلَها بيتها،
    فسألت عائشة النبي صلى اللهُ عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} :الممتحنة  :، فأمرها أن تقبل هديَّتها وتُدخِلَها بيتها)

    قال السعدي في تفسيره لقول الله تعالى: {للا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}--الممتحنة --: "أي: لا ينهاكم الله عن البر والصلة، والمكافأة بالمعروف، والقسط للمشركين من أقاربكم وغيرهم، حيث كانوا بحال لم ينتصبوا لقتالكم في الدين والإخراج من دياركم، فليس عليكم جناح أن تصلوهم، فإن صلتهم في هذه الحالة، لا محذور فيها ولا مفسدة كما قال تعالى عن الأبوين المشركين إذا كان ولدهما مسلما: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}(لقمان: 15)".
    وقال ابن حجر في فتح الباري: "وروى ابن أبي حاتم عن السدي: أنها ـ {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} ـ نزلت في ناس من المشركين كانوا ألين شيء جانباً للمسلمين وأحسن أخلاقا.
    قلتُ (ابن حجر): ولا منافاة بينهما، فإن السبب خاص واللفظ عام فيتناول كل من كان في معنى والدة أسماء..
    وقال الخطابي: فيه أن الرحم الكافرة توصل من المال ونحوه كما توصل المسلمة، ويستنبط منه وجوب نفقة الأب الكافر والأم الكافرة وإن كان الولد مسلما. وفيه: موادعة أهل الحرب ومعاملتهم في زمن الهدنة، والسفر في زيارة القريب، وتحري أسماء في أمر دينها، وكيف لا وهي بنت الصِدِّيق وزوج الزبير رضي الله عنهم".

    وقال ابن عثيمين:" ففي هذا دليل على أن الإنسان يصل أقاربه ولو كانوا على غير الإسلام، لأن لهم حق القرابة، ويدل لهذا قوله تعالى في سورة لقمان: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً}(لقمان: 15)، يعني إن أمرك والداك وألحَّا في الطلب على أن تشرك بالله فلا تطعهما، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولكن صاحبهما في الدنيا معروفاً، أي أعطهم من الدنيا ما يجب لهم من الصلة، ولو كانا كافرين أو فاسقين، لأن لهما حق القرابة. وهذا الحديث يدل على ما دلت عليه الآية، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها وعن أبيها أن تصل أمها مع أنها كافرة".

    من الدروس المستفادة من السيرة النبوية:
    وجوب بر الوالدين ولو كانا كافرين أو فاسقين، ويكون برهما بالإحسان إليهما بالقول والفعل، وطاعتهما بالمستطاع فيما لا معصية فيه، ومن المواقف النبوية الدالة على ذلك: موقفه صلى الله عليه وسلم مع أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها لما سألته عن أمها وهي مشركة،
    وقوله لها: (نعم، صِلي أمَّك).
    ======================================
    التالي : -
    موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع النعيمان  بن عمرو رضي الله عنه
    لا تَلْعَنُوه، فوالله ما عَلِمْتُ إلَّا أنه يُحِبُّ اللهَ ورسولَه .

    من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم التي تحلّى بها خُلُق الرحمة والرأفة بالغير، تلكم الرحمة التي شملت الصغير والكبير، والمؤمن والكافر، والطائع والعاصي، وإذا كان الناس ـ عامة ـ بحاجة إلى الرحمة والرعاية،
    فإن الذي زلَّ ووقع في المعصية بحاجة خاصة أن نأخذ بيده لا أن نتركه يقع على الأرض، أو نهيل عليه التراب، أو ندعو عليه باللعنة فنكون عوناً للشيطان عليه، بل وربما ترتد هذه اللعنة وتعود على منْ لَعَن، إن لم يكن الملعون مستحقاً لهذا اللعن،

    فعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتُغلق أبوابُها دونها، ثم تأخذ يمينا وشمالا، فإذا لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لعن فإن كان لذلك أهلاً، وإلا رجعت إلى قائلها) رواه أبو داود.
    قال المناوي في فيض القدير: "اللعن: طرد عن رحمة اللّه، فمن طرد ما هو أهل لرحمته عن رحمته فهو بالطرد والإبعاد عنها أحق وأجْدر، ومحصول الحديث التحذير من لعن من لا يستوجب اللعنة والوعيد عليه بأن يرجع اللعن إليه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الأَبْصَارِ}(آل عمران:13)".
    وقال ابن عثيمين: "وهذا وعيد شديد على من لعن من ليس أهلا للَّعن، فإن اللعنة تتحول في السماء والأرض واليمين والشمال ثم ترجع في النهاية إلى قائلها إذا لم يكن الملعون أهلا لها".

    والسيرة النبوية فيها من المواقف الكثير التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم فيها عن لعْنِ أحَد، وإن كان هذا الملعون عاصياً، ومن هذه المواقف .
    موقفه مع النعيمان بن عمرو رضي الله عنه..
    الذي كان مشهوراً بالمزاح خاصة مع النبي صلى الله عليه وسلم،
    وقد قال عنه ابن سعد في الطبقات: "شهد بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم".

    وموقف النبي صلى الله عليه وسلم مع النعيمان كان في نهي الصحابة عن لعْنِه رغم شربه للخمر وإقامة الحدِّ عليه.
    فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أن رجلاً على عهْدِ النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يُلَقَّبُ حِمَاراً، وكان يُضحِكُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قدْ جلدَه في الشَّراب (الخمر)، فأُتيَ به يوماً فأمَرَ بِهِ فجُلِدَ، فقال رجلٌ مِن القوم: اللَّهُمَّ العَنْه، ما أكثر ما يُؤتَى به؟
    فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تَلْعَنُوه، فوالله ما عَلِمْتُ إلَّا أنه يُحِبُّ اللهَ ورسولَه) روه البخاري.
    وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم لمن لعَنَه: (لا تلعنْه فإنه يحبُّ اللهَ ورسولَه).
    قال ابن حجر: "في هذا الحديث من الفوائد جواز التلقيب .. وهو محمول هنا على أنه (النعيمان) كان لا يكرهه (يُلَقَّب حِمَاراً)، أو أنه ذُكِر به على سبيل التعريف لكثرة من كان يُسَمَّى بعبد الله، أو أنه لما تكرر منه الإقدام على الفعل المذكور نُسِب إلى البلادة فأُطْلِق عليه اسم من يتصف بها ليرتدع بذلك".
    وقال ابن تيمية: "هذا مع أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن الخمر وشاربها، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن ـ عموماً ـ شارب الخمر، ونهَى في الحديث الصحيح عن لعن هذا المُعَيَّن... لجواز تخلف المُقتضِي عن المُقتضَى لمعارض راجح، إما توبة، وإما حسنات ماحية، وإما مصائب مكفرة، وإما شفاعة مقبولة".
    وقال ابن عثيمين: "الفرق بين لعن المُعَيَّن، ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم،
    فالأول ممنوع، والثاني جائز، فإذا رأيت من آوى محدِثًا، فلا تقل: لعنك الله، بل قل: لعن الله من آوى محدثًا، على سبيل العموم، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صار يلعن أناساً من المشركين من أهل الجاهلية بقوله: (اللهم العن فلاناً، وفلاناً، وفلاناً
    نُهِيَ عن ذلك بقوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}(آل عمران: 128)، فالمُعَيَّن ليس لك أن تلعنه، وكم من إنسان صار على وصف يستحق به اللعنة، ثم تاب، فتاب الله عليه".

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أُتيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بسَكران، فأمر بضَربه، فمِنَّا مَن يضربه بيده، ومنَّا مَن يضربه بنعله، ومنَّا مَن يضربه بثوبه، فلمَّا انصرف،
    قال رجلٌ: ما له؟! أخزاه الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا عونَ الشَّيطان على أخيكم) رواه البخاري. وفي رواية لأبي داود وصححها الألباني قال صلى الله عليه وسلم: (.. ولكن قولوا: اللهم اغفر له اللهم ارحمه).
    قال ابن حجر في فتح الباري: " قوله: (أتي النبيّ صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب) وهذا الرجل يحتمل أن يُفَسَّر بعبد الله الذي كان يلقب حماراً، ويحتمل أن يُفَسَّر بابن النعيمان والأوَل أقرب .. وذلك الرجل (الذي قال: ما له أخزاه الله؟!) هو عمر بن الخطاب إن كانت القضية متحدة مع حديث عمر في قصة حمار"،
    وقال ابن حجر: "ووجْه عَوْنهم الشيطان بذلك أن َّالشيطان يريد بتَزْيينه له المعصية أن يحصلَ له الخزي، فإذا دعوا عليه بالخزي، فكأنهم قد حصَّلوا مقصود الشيطان .. ويُستفاد من ذلك منع الدُّعاء على العاصي بالإبعاد عن رحمة الله، كاللعن...
    وفيه الرَّد على مَن زعم أن مرتكب الكبيرة كافر لثُبُوت النَّهي عن لعنه، والأمر بالدُّعاء له،
    وفيه: أن لا تنافي بين ارتكاب النَّهي، وثُبُوت محبة الله ورسوله في قلب المرتكِب، لأنه صلى الله عليه وسلم أخْبَرَ بأن المذكور يحب اللهَ ورسوله، مع وجود ما صدر منه، وأنَّ مَن تَكَرَّرتْ منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله، ويؤخذ منه تأكيد ما تقدَّم أن نفي الإيمان عن شارب الخمر لا يُراد به زواله بالكلية، بل نفي كماله".

    لقد حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة من اللعن، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس المؤمن بالطّعّان، ولا اللّعّان، ولا الفاحش، ولا البذيء) رواه الترمذي.
    قال الطيبي: "(ولا اللّعّان) أي الذي يُكثر لعن الناس بما يبعدهم من رحمة ربهم، إما صريحا كأن يقول: لعنة الله على فلان، أو كناية كغضبه عليه، أو أدخله النار".
    وقال الصنعاني: "واللّعّان اسم فاعل للمبالغة بزنة فعال أي كثير اللعن، ومفهوم الزيادة غير مراد، فإن اللعن محرم قليله وكثيره".
    وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تلاعنوا بلعنة الله، ولا بغضبه، ولا بالنار) رواه الترمذي،
    قال ابن عثيمين: "يعني لا يلعن بعضكم بعضا بلعنة الله، فيقول لصاحبه لعنك الله،
    ولا بغضبه فيقول غضب الله عليك، ولا بالنار فيقول أدخلك الله النار، كل هذا حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قدْ يُقال لمن لا يستحقه".

    هذه المواقف والأحاديث النبوية تؤكد على خطورة أمر الدعاء باللعنة على أحد ولو كان مرتكباً لكبيرة من الكبائر، وذلك حتى يظل المجتمع الإسلامي متماسكاً برباط المودة والحب، ويكون أفراده كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، وفي ذلك منهج نبوي تربوي قويم في كيفيَّة التعامُل مع أصحاب المعاصي بالرفق والرحمة بهم، وعدم الدعاء عليهم، مع أمرهم بالمعروف ودعوتهم للطاعة والخير، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم حين قال عن نفسه وبعثته ودعوته: (إني لم أبعث لعَّاناً، وإنما بُعِثْتُ رحمة) رواه مسلم .
    ==================================
    التالي : -
    موقفه صل الله عليه وسلم في القنوت في الصلاة بسبب النوازل العارضة ..

    ---------------------------------------------------
    لا تنسونا من صالح دعائكم

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5347
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود موقفه صل الله عليه وسلم في القنوت في الصلاة بسبب النوازل العارضة

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس أكتوبر 03, 2024 7:47 am

    ما قيله : -

    موقفه صل الله عليه وسلم في القنوت في الصلاة بسبب النوازل العارضة ..


    مِن هَدْي وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم التفاعل مع الآيات الكونية، مثل خسوف القمر وكسوف الشمس، وحدوث الرعد والبرق والريح، وشدة المطر وقِلته، وقد شرع لنا ما يناسب ذلك من صلاة وأدعية مخصوصة.
    وكذلك من هديه وسنته صلوات الله وسلامه عليه القنوت في النوازل العارضة التي تحل بعموم المسلمين في الصلاة، وذلك كاعتداء الكفار على المسلمين، والدعاء للأسْرى، أو حدوث مجاعات، أو انتشار للأوبئة،
    قال النووي: "والصحيح المشهور أنه إذا نزلت نازلة كعدو وقحط ووباء وعطش وضرر ظاهر بالمسلمين ونحو ذلك، قنتوا في جميع الصلوات المكتوبات".

    والسيرة النبوية فيها الكثير من المواقف والأحداث الدالة على أن القنوت في الصلاة بسبب النوازل العارضة التي تقع بالمسلمين من السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك:
    إيذاء المستضعفين من المسلمين، ومنعهم من الهجرة:

    منعت قريش بعضاً من المسلمين المستضعفين عن الهجرة، وحبسوهم وعذبوهم، وكان من هؤلاء المؤمنين المستضعفين:
    الوليد بن الوليد، وعياش بن ربيعة، وهشام بن العاص، ولم يستطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل لهم شيئاً، فقنت في صلاته يدعو لهم، ويدعو على من عذبهم ومنعهم من الهجرة،
    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لما رفَع النبيُّ صلى الله عليه وسلم رأسَه منَ الركعة قال: اللهمَّ أنجِ الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشامٍ، وعَيَّاشَ بن أبي رَبيعة، والمُستَضعَفين بمكة، اللهمَّ اشدُدْ وَطأتَك على مُضَر، اللهمَّ اجعَلْها عليهم سِنينَ كسِني يوسُف) رواه البخاري.
    وفي رواية لمسلم: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة ويكبر ويرفع رأسه:سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم يقول وهو قائم: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم كسِنِّي يوسف).

    حادثة بئر معونة :

    حادثة بئر معونة قُتِل فيها سبعون من الصحابة رضوان الله عليهم غدراً وخيانة، وقد حزن النبي صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً لمقتل أصحابه، وظل يقنت في صلاته يدعو على من قتلهم شهراً كاملاً،
    فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (أنَّ رِعْلًا وذَكْوان وعُصَيَّةَ وبَني لَحْيان، اسْتَمَدُّوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على عدو، فأمدهم بسبعين من الأنصار، كنا نسميهم القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار، ويصلون بالليل، حتى إذا كانوا ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقنت شهراً يدعو في الصبح على أحياء من أحْياء العرب: على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان) رواه البخاري.
    وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (قَنَتَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شهراً متتابعاً في الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح، في دبر كل صلاة،
    إذا قال: سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة، يدعو على أحياء من بني سليم، على رعل وذكوان وعصية، ويؤمِّن من خلفه،
    وكان أَرْسَلَ يدعوهم إلى الإسلامِ فقتلوهم) رواه أبو داود وحسنه الألباني.
    وفي رواية في صحيح مسلم: (قنتَ شهراً يدعو على أحياءٍ من أحياءِ العرب ثم تركه).

    فوائد :

    ـ قال ابن حجر في "فتح الباري": "وظهر لي أن الحكمة في جعل قنوت النازلة في الاعتدال دون السجود مع أن السجود مظنة الإجابة، كما ثبت (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، وثبوت الأمر بالدعاء فيه: أن المطلوب من قنوت النازلة أن يشارك المأموم الإمام في الدعاء ولو بالتأمين، ومن ثم اتفقوا على أنه يُجْهَر به".

    ـ مِنْ هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته القنوت والدعاء في النوازل والشدائد.
    قال ابن تيمية: "والدعاء على جنس الظالمين الكفار مشروع مأمور به، وشُرِعَ القنوت والدعاء للمؤمنين والدعاء على الكافرين.. فيُشْرَع أن يقنت عند النوازل يدعو للمؤمنين ويدعو على الكفار في الفجر وفي غيرها من الصلوات.. وينبغي للقانت أن يدعو عند كل نازلة بالدعاء المناسب لتلك النازلة".
    وقال ابن القيم: "وكان هديه صلى الله عليه وسلم القنوت في النوازل خاصة، وترْكَه عند عدمها، ولم يكن يخصه بالفجر"،
    وقال ابن عثيمين: "القنوت في النوازل مشروع في جميع الصلوات كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم".

    ـ دعاء القنوت في النازلة ليس هو دعاء القنوت في الوتر أو الصبح، وإنما يُدْعَى برفع النازلة بما يناسب الحال، والأوْلى في دعاء القنوت التزام اللفظ الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم, وإن دُعِيَ بغيره جاز ذلك،
    قال النووي: "الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور أنه لا تتعين بها (بهذه الصيغة)،
    بل يحصل بكل دعاء"، "واعْلم أن القنوت لا يَتَعَيَّن فيه دعاء على المذهب المختار، فأي دعاء دعا به حصل القنوت ..
    ولكن الأفضل ما جاءت به السُنَّة".
    وقال ابن تيمية: "القنوت يكون عند النوازل، وأن الدعاء في القنوت ليس شيئاً معيناً،
    ولا يدعو بما خطر له، بل يدعو من الدعاء المشروع بما يناسب سبب القنوت".
    وقال ابن عثيمين: "القنوت في النوازل ليس هو دعاء القنوت في الوتر، بل القنوت في النوازل أن تدعو الله تعالى بما يناسب تلك النازلة".
    وينبغي على الإمام في دعائه وقنوته مراعاة التيسير، والبعد عن التطويل، وأن يهتدي بهدي النبي صلى الله عليه وسلم،
    فقد كان دعاؤه جُملاً قليلة كما في الأحاديث السابقة، والسعيد من وُفِق لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنْ يُحتاج للتطويل اليسير في الدعاء، لاسيما إذا اشتد الكرب والنازلة بالمسلمين ما لم يكن في ذلك مشقة،
    قال ابن عثيمين: "الوارد عنه صلى الله عليه وسلم في قنوت النوازل أنه قنوت قصير، يدعو لقوم أو يدعو على قوم بدون إطالة، ولكن إذا أطال الإمام وهو يقنت إطالة لا يحصل فيها تعب على المصلين، وكان يرى فيهم الرغبة في هذا، والدعاء لا يتجاوز ما يتعلق بالنازلة، فإن هذا لا بأس به، لأن الإلحاح في الدعاء من الأمور المشروعة".

    ـ ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا على الكافرين تارة، ودعا لهم تارة أخرى. فالدعاء على الكفار أو الدعاء لهم له أحوال، فحين يشتد عداؤهم ومحاربتهم للإسلام والمسلمين يُدْعَى عليهم، وحين يُرْجَى إسلامهم يدعى لهم بالهداية، فقد دعا على أهلِ مكَّةَ بِالشِّدّة وأن يُريهم سنين كَسِني يوسف، ودعا على صناديدِ قريش لِكثرةِ أذاهم وعداوتِهم، وكذلك كان يدعو للكافرين بالهداية، كما دعا لثقيف ودوس وغيرهم،
    وقد بوب البخاري على ذلك بقوله: "باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم".
    قال ابن حجر: وقوله: "ليتألفهم" مِن تفقُّه المصنِّف، إشارة منه إلى الفَرق بين المقامين،
    وأنه صلى الله عليه وسلم كان تارة يدعو عليهم، وتارة يدعو لهم، فالحالة الأولى حيث تشتد شوكتهم، ويكثرُ أذاهم، والحالة الثانيةُ حيث تُؤمَنُ غائلتهم، ويُرجى تألفهم، كما في قصة دوس".

    ـ القنوت مشروع عند وجود سببه: (وهو النازلة بالمسلمين) فإذا زال السبب تُرِك القنوت، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك القنوت لما زال سببه بقدوم من قنت لهم،
    قال ابن القيم في "زاد المعاد": "إنما قنت عند النوازل للدعاء لقوم، وللدعاء على آخرين،
    ثم تركه لما قدم من دعا لهم، وتخلصوا من الأسْر، وأسلم من دعا عليهم وجاؤوا تائبين، فكان قنوته لعارض، فلما زال ترك القنوت".

    القنوت والدعاء في الصلوات بسبب النوازل سنة نبوية، وهو في أصله طلب من الله تعالى أن يُفَرِّج عنِ المسلمين ما هم فيه من نازلة وشدة، وفي ذلك تعليم وتربية نبوية ـ للفرد والمجتمع والأمة ـ على الالتجاء والتضرع إلى الله عز وجل، وبخاصة في الشدائد والابتلاءات التي تنزل بالمسلمين في أي بلد، إذ أنه ليس قاصراً على مكان دون مكان، ومن ثم ففيه أيضا ـ القنوت عند النوازل ـ إظهار لوحدة الأمة الإسلامية، وإعلان للأخوة والتناصر بين المسلمين جميعا، قال الله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(الحجرات:10)،
    والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) رواه مسلم.

    ==================================

    موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع فاطمة وعلي رضي الله عنهما ..

    فاطمة رضي الله عنه، أم الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وزوج علي رضي الله عنه، وابنة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، والإبنة الشفيقة المواسية لأبيها صلى الله عليه وسلم، وهي أحب أبنائه إليه، وأشبههم به، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عنها: (فاطمة بَضْعَة (قطعة) مِنِّي، فَمَنْ أَغْضبها أَغْضَبَنِي) رواه البخاري.
    ومع ذلك لم تكن حياتها في بيت زوجها مُترفة ولا ناعمة، لان علياً رضي الله عنه - على عِظم مكانته ـ لم يكن صاحب حظ من مال، ومن ثم فقد عاشت رضوان الله عليها في بيتها حياة بسيطة متواضعة، أقرب إلى أن توصف بالفقر والتقشف والخشونة .
    وفي حياة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم مواقف متعددة مع علي وفاطمة رضي الله عنهما، فيها الكثير من الفوائد والعبر،
    ومن هذه المواقف: موقفه صلى الله عليه وسلم معهما حين علمت فاطمة رضي الله عنها أن الله عز وجل جاء للنبي صلى الله عليه وسلم بسبي (أسرى)، فطلبت منه أن يرسل لها خادماً (يُطلق على العَبْد والجَارية) يساعدها في أعمال بيتها، فكان جوابه صلى الله عليه وسلم عليهما: (والله لا أعطيكم وأدع أهل الصفة (فقراء الصحابة الذين كانوا يسكنون بالمسجد النبوي) تطوي بطونهم من الجوع لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم) رواه أحمد.
    ثم أرشدها النبي صلى الله عليه وسلم لما هو أفضل لها من الخادم .
    فعن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: (أنّ فاطمة عليها السلام اشتكت ما تلقى من الرّحى (آلة الطحن) ممّا تطحن، فبلغها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بسَبْيٍ، فأتته تسأله خادماً فلم تُوافِقْه، فذكرت لعائشة، فجاء النّبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك عائشة له، فأتانا وقد دخلنا مضاجعنا، فذهبنا لنقوم، فقال: على مكانكما، حتّى وجدت برد قدميه على صدري (من شدة البرد)، فقال: ألا أدلّكما على خير ممّا سألتماه، إذا أخذتما مضاجعكما فكبّرا الله أربعا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وسبّحا ثلاثا وثلاثين، فإنَّ ذلك خير لكما ممّا سألتماه) رواه البخاري.
    وفي رواية لمسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم لهما: (ألا أُعلِّمُكما خيرًا مما سألتُما؟ إذا أخذتُما مضاجعكما، أن تكبِّرا اللهَ أربعاً وثلاثين، وتسبِّحاه ثلاثاً وثلاثين، وتحمَداه ثلاثاً وثلاثين، فهو خيرٌ لكما من خادم
    وفي رواية: قال عليٌّ: ما تركتُه منذ سمعتُه من النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قيل له: ولا ليلة صِفِّين؟ قال: ولا ليلة صِفِّين).

    فوائد:
    هذا الموقف الذي حدث بين النبي صلى الله عليه وسلم وفاطمة وعلي رضي الله عنهما فيه من الفوائد الكثير، ومنها:
    قال ابن حجر:"ويستفاد من قوله: (ألا أدلكما على خير مما سألتما) أن الذي يلازم ذكر الله يُعْطَى قوة أعظم من القوة التي يعملها له الخادم، أو تسهل الأمور عليه بحيث يكون تعاطيه أموره أسهل من تعاطي الخادم لها، هكذا استنبطه بعضهم من الحديث، والذي يظهر أن المراد أن نفع التسبيح مختص بالدار الآخرة ونفع الخادم مختص بالدار الدنيا، والآخرة خير وأبقى".
    وقال ابن هبيرة: "وفيه أن التسبيح خير من خادم لأنه جمع لها بين تسبيح الله ثلاثًا وثلاثين، وحمده ثلاثًا وثلاثين، وتكبيره أربعًا وثلاثين يكمل ذلك مائة، فيكتب الله به ألف حسنة".
    وقال المهلب: "وفيه حمل الإنسان أهله على ما يحمل عليه نفسه من إيثار الآخرة على الدنيا إذا كانت له قدرة على ذلك".
    وقال القرطبي: "إنما أحالهما على الذكْرِ ليكون عِوضا عن الدعاء عند الحاجة، أو لكونه أحب لابنته ما أحب لنفسه من إيثار الفقر وتحمل شدته بالصبر عليه تعظيما لأجرها".

    ومن فوائد هذا الموقف النبوي:
    أن من واظب على هذا الذكر لم يصبه الإعياء، لأن فاطمة رضي الله عنها لما شكت التعب أحالها النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الذكر، والذي من فوائده أنه يقوي البدن كما أنه يقوي القلب، وقد أفاد بهذا ابن تيمية.

    ومن الفوائد أيضا:
    أنه إذا حصل ازدحام في الحقوق فإنه يؤثر صاحب الحق الأقوى والأعظم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها ـ لما طلبت خادماً من السبي الذي جاءه ـ: (والله لا أعطيكم وأدع (أترك) أهل الصُفة تطوي بطونهم من الجوع لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم).

    ومنها: جواز أن تشتكي البنت لأبيها ما تلقاه من الشدة والتعب، إذ لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على ابنته فاطمة رضي الله عنها أنها اشتكت، ومن ثم فلو اشتكت البنت لأبيها أو أمها تعبها من أعمال بيتها، أو مشقة وأعباء تربية أطفالها،
    أو مشكلة في حياتها، فعليهما أن يقوما بدور الناصح الموجه، وأن يواصلا الاعتناء ببنتهما حتى بعد زواجها، فمسئوليتهما عنها لم تنته بتزويجها، وإنما هي مستمرة في التسديد والإصلاح والنصيحة وتخفيف ما يصيبها من أعباء جديدة نتيجة زواجها.

    ومنها: جواز الاستخدام ـ بضوابطه وأحكامه ـ للرجل الصالح والمرأة الصالحة،
    قال ابن هبيرة: "وفيه جواز الاستخدام للرجل الصالح والمرأة الصالحة، ألا ترى أن فاطمة رضي الله عنها طلبت من أبيها صلى الله عليه وسلم خادماً ولم ينكر ذلك عليها".

    وكذلك من فوائد هذا الموقف النبوي كما قال ابن حجر: "إظهار غاية التعطف والشفقة على البنت والصهر (زوج البنت)"،
    فمواقف النبي صلى الله عليه وسلم مع علي وفاطمة رضي الله عنهما تدل على أنه كان يبر بصهره كما يبر بابنته صلى الله عليه وسلم، فعلى الإنسان إذا كان عنده زوج بنت أو زوج أخت أن يدخل السرور عليهما، ويسعى في دوام الألفة بينهما.

    لقد علمت فاطمة رضي الله عنها أنها بنت أفضل النبيين والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك رضيت بالقليل، وضُرب بها المثل في زواجها اليسير المهر، القليل المؤنة،
    وعاشت في بيتها حياة بسيطة متواضعة خشنة، فهي تطحن وتعجن خبزها بيديها، مع إدارة كافة شئون بيتها الأخرى،
    إضافة إلى حقوق زوجها عليها، وفي ذلك تسلية لكل من اشتدت حاله من تعب أو فقر، أنَّ مَنْ هو أفضل منه ـ
    كفاطمة رضي الله عنها ـ لاقى مثله أو ما هو أشد، فلعل أن يكون في ذلك عبرة ودافعاً له على الصبر والرضا.
    =================================

    موقفه صل الله عليه وسلم في تلقيح المسلمين النخل بالمدينة المنورة وعدم الصواب فيه ..


    أنتم أعلمُ بأمرِ دنياكم


    الأنبياء هم صفوة البشر، وهم أكرم الخلق على الله تعالى، اصطفاهم الله تعالى وجعلهم مبلغين دينه لِخَلقه،
    قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ}(الأنعام: 89)،
    وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ}(الأنعام:90).
    وقد اتفقت الأمة على أن رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم معصومون فيما يتعلق بتبليغ الوحي، فلا يكذبون، ولا ينسون، ولا يغفلون،
    قال القاضي عياض: "الأنبياء منزَّهون عن النقائص في الخَلق والخُلق "،
    وقال ابن تيمية: " فإن الآيات الدالة على نبوة الأنبياء دلت على أنهم معصومون فيما يخبرون به عن الله عز وجل، فلا يكون خبرهم إلا حقا وهذا معنى النبوة".
    وقال ابن حجر: "وعصمة الأنبِياء على نبيِّنا وعليْهِم الصلاة والسلام: حِفْظُهم من النقائص، وتخصيصهم بالكمالات النفيسة، والنصرة والثَّبات في الأمور، وإنْزال السَّكينة".

    واجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يحالفه فيه الصواب أوِ الأوْلى لا يُخِلُّ بعصمته،
    لأن وحي الله تعالى معه، فإن أصاب فى اجتهاده لم يأت تنبيه وتصحيح من الله عز وجل، فدلَّ على إقرار رب العزة له، ووجوب متابعته فيه، وإن خالف اجتهاده الأوْلى نزل وحي الله تعالى بالتنبيه والتصويب لما هو أوْلى (مثل ما حدث مع الأسرى في غزوة بدر)، وفى التنبيه والتصحيح يصبح اجتهاده صلى الله عليه وسلم وحْياً وحكماً نهائياً يجب طاعته ويحرم مخالفته، وهذا أهم ما يُفَرَّق به بين اجتهاد النبى صلى الله عليه وسلم واجتهاد علماء أمته.. وأما اجتهاده ورأيه صلى الله عليه وسلم في أمر من أمور الدنيا وعدم صوابه فيه فهو لا يتعارض مع نبوته وعصمته، إذ أن الخطأ في أمر من أمور الدنيا ربما يقع من الأنبياء والرسل، ولا يقدح في نبوتهم،
    ولا يتعارض مع عصمتهم .

    وقد استدل بعض المشككين في السنة النبوية وفي عصمة نبينا صلى الله عليه وسلم برأيه صلوات الله وسلامه عليه في تلقيح المسلمين النخل بالمدينة المنورة وعدم الصواب فيه،
    فعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: (قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يأبرون النخل (يُلقِّحون النخلَ) فقال: ما تصنعون؟
    قالوا: كنا نصنعه، قال:لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا، فتركوه فنفضت، فذكروا ذلك له فقال:إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشئ من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشئ من رأى فإنما أنا بشر) رواه مسلم.
    وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بقومٍ يُلقِّحون فقال: لو لم تفعلوا لصلَح، قال فخرج شِيصاً (تمراً رديئاً). فمرَّ بهم فقال: ما لنخلِكم؟ قالوا: قلتَ كذا وكذا، قال: أنتم أعلمُ بأمرِ دنياكم) رواه مسلم.
    وفي رواية عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن كان ينفعهم ذلك فلْيصنَعوه، فإني إنما ظننتُ ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظنِّ، ولكن إذا حدَّثتُكم عنِ اللهِ شيئًا فخُذوا به، فإني لن أكذبَ على الله عز وجل) رواه مسلم.

    لم يُرِدِ النبي صلى الله عليه وسلم صرف المسلمين عما هم فيه من طريقتهم التي يعرفونها في تلقيحهم للنخل، وإنما كان ذلك اجتهاداً منه في أمر من أمور الدنيا، ربما يصيب فيه أو لا يصيب،
    بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في رواية طلحة بن عبيد الله: (إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإنى إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذونى بالظن)، فالصحابة غلطوا فى ظنهم أنه نهاهم بوحى، ثم بيَّن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا حدثهم بوحي عن الله تعالى فإنه لن يخطئ فى هذا الوحي، ولذا قال لهم: (إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإنى لن أكذب على الله تعالى)، والكذب هنا بمعنى: الخطأ، أى: فلن أخطئ فيما أُبَلِّغ من وحْي الله تعالى،
    ولا يصح أن يكون المراد حقيقة الكذب، لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم منه، حتى ولو حدَّث عن غير الله تعالى،
    ولذا قال صلى الله عليه وسلم في حديث رافع بن خديج: (إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشئ من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشئ من رأي فإنما أنا بشر).
    قال المناوي في شرحه لهذه الأحاديث: "(إنما أنا بشر) أي واحد منهم في البشرية، ومساوٍ لهم فيما ليس من الأمور الدينية،
    وهذا إشارة إلى قوله تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ}(الكهف: 110)، فقد ساوى البشر في البشرية، وامتاز عنهم بالخصوصية الإلهية التي هي تبليغ الأمور الدينية، (إذا أمرتكم بشيء من دينكم) أي إذا أمرتكم بما ينفعكم في أمر دينكم (فخذوا به) أي افعلوه فهو حق وصواب دائما، (وإذا أمرتكم بشيء من رأيي) يعني من أمور الدنيا (فإنما أنا بشر) يعني أخطئ وأصيب فيما لا يتعلق بالدين، لأن الإنسان محل السهو والنسيان ومراده بالرأي الرأي في أمور الدنيا".

    وقد بوَّب النووي على أحاديث تلقيح النخل في صحيح مسلم بقوله: "باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً، دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي"،
    وقال في شرحه: "(أنتم أعلم بأمر دنياكم)
    قال العلماء: أي في أمر الدنيا ومعايشها لا على التشريع، فأما ما قاله باجتهاده صلى الله عليه وسلم ورآه شرعا يجب العمل به، وليس إبار النخل من هذا النوع، بل من النوع المذكور قبله..
    قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبراً وإنما كان ظناً كما بينه في هذه الروايات،
    قالوا ورأيه صلى الله عليه وسلم في أمور المعايش وظنه كغيره فلا يمتنع وقوع مثل هذا ولا نقص في ذلك".
    وقال ابن تيمية: "لم ينههم عن التلقيح، لكنهم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم".
    وقال الشيخ أحمد شاكر: "والحديث واضح صريح، لا يعارض نصاً، ولا يعارض عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده، ولا يدل على عدم الاحتجاج بالسنة فى كل شأن، كما لا يدل على ما يزعمون أن السنة النبوية ليست كلها وحي ..
    وإنما الحديث فى قصة تلقيح النخل أن قال لهم: ما أظن ذلك يغنى شيئاً، فهو لم يأمر ولم ينه، ولم يخبر عن الله، ولم يسن فى ذلك سنة حتى يتوسع فى هذا المعنى إلى ما يُهْدَم به أصل التشريع".

    نبينا صلى الله عليه وسلم معصوم من الخطأ فيما يبلغه عن الله عز وجل، بخلاف غيره من رأيه في أمر من أمور الدنيا الذي يحتمل الصواب وغيره، فالمسلم يعتقد ويؤمن بعصمة والأنبياء والرسل،
    وأولهم وأفضلهم نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن ثم يجب الحذر والانتباه غاية الانتباه لمن يُريد أن يطْعن ويشكك في السنة بقوله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يُخْطئ في أمور الدنيا، وأن بعض الأحكام الشّرعية التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم هي اجتهادات شخصيّة قابلة للصواب والخطأ، فهذا ادعاء كاذب وشبهة واهية،
    ولذا قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(النَّجم 4:3)،
    قال البغوي: "يريد لا يتكلم بالباطل".
    وقال السعدي: " أي: ليس نطقه صادرا عن هوى نفسه {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} أي: لا يتبع إلا ما أوحى الله إليه من الهدى والتقوى، في نفسه وفي غيره. ودل هذا على أن السُنّة وحي من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم،
    كما قال تعالى: {وَأَنزلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}(النساء:113)، وأنه معصوم فيما يخبر به عن الله تعالى وعن شرعه، لأن كلامه لا يصدر عن هوى، وإنما يصدر عن وحي يوحى".
    وقد قال الله تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(الحشر:7).
    قال ابن كثير: "أي: مهما أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمر بخير وإنما ينهى عن شر".
    ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إني قد تركتُ فيكم ما إن اعتصمتُم به فلن تَضِلُّوا أبدًا ، كتابَ اللهِ ، وسُنَّةَ نبيِّه) رواه الحاكم وصححه الألباني.
    فالسنة النبوية هي سفينة النجاة وبر الأمان من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق،
    قال الزهري: "كان من مضى من علمائنا يقول: الاعتصام بالسنة نجاة"،
    وقال مالك: "السُنَّة سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق"..
    وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) فَبَدَاهة لا يكون في الدين والشرع، والواجبات والمحرمات،
    والمراد: أنتم أيها الذين تلقحون النخل ومن على شاكلتكم من أهل الصناعات والزراعات والمهارات والخبرات أعلم بصنائعكم منى،
    قال المناوي في فتح القدير: "(أنتم أعلم بأمر دنياكم) مِنِّي، وأنا أعلم بأمر أخراكم منكم، فإن الأنبياء والرسل إنما بُعِثوا لإنقاذ الخلائق من الشقاوة الأخروية، وفوزهم بالسعادة الأبدية".
    ======================================
    التالي : -
    موقفه صلى الله عليه وسلم مع عِتْبانَ بنَ مالكٍ رضي الله عنه ..

    -----------------------------
    لا تنسونا من صالح دعائكم

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5347
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود موقفه صلى الله عليه وسلم مع عِتْبانَ بنَ مالكٍ رضي الله عنه ..

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس أكتوبر 03, 2024 12:26 pm

    ما قبله : -

    موقفه صلى الله عليه وسلم مع عِتْبانَ بنَ مالكٍ رضي الله عنه ..

    فإن الله حرَّم على النار مَنْ قال: لا إله إلا الله، يَبْتَغِي بذلك وجهَ الله


    من المواقف النبوية التي فيها الكثير من والفوائد والآداب، والمسائِلِ العَقَديَّة والفقهيَّة، موقفه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في حديثُ عِتْبان بن مالك الأنصاريّ الخزْرَجيِّ رضي الله عنه، فعن محمود بن الربيع رضي الله عنه: (أن عِتْبانَ بنَ مالكٍ، وكان من أصحاب االنبيّ صلى الله عليه وسلم ممَن شَهِد بدراً مِن الأنصار: أنه أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أَنْكَرْتُ بصري (ذهب بصري)، وأنا أُصلِّي لقومي، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم، لم أَسْتَطَعْ أن آتي مسجدهم لأصَلِّيَ لهم، فودَدْتُ يا رسول الله أنك تأتي فتُصَلّي في بيتي، فأَتّخِذُه مُصَلًّى، فقال: سأَفْعل إن شاء الله. قال عِتبانُ: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ حين ارتفع النهار، فاستأْذن النبيُّ صلى الله عليه وسلم فأَذِنْتُ له، فلم يَجْلِسْ حتى دخل البيت،
    ثم قال لي: أين تُحِب أن أُصَلّيَ مِن بيتك؟ فأَشَرْتُ إلى ناحيةٍ مِن البيت، فقام النبيُّ صلى الله عليه وسلم فكَبَّرَ، فصَفَفْنا، فصلَّى ركعتين ثم سلَّم، وحبَسْناه على خَزِيرٍ (دقيق يُطبخ بشحم) صنعْناه، فثاب (اجتمع) في البيت رجالٌ مِن أهل الدار ذُوُو عددٍ فاجتمعوا،
    فقال قائلٌ منهم: أين مالك بن الدُّخْشُن؟ فقال بعضهم: ذلك منافقٌ، لا يُحِبُّ اللهَ ورسوله، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: لا تَقُلْ، ألا تراه قال: لا إلهَ إلا الله، يريد بذلك وجهَ الله. قال: اللهُ ورسولُه أعلم، قال: قلنا: فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين (مودته وكلامه مع المنافقين)، فقال صلى الله عليه وسلم: فإن الله حرَّم على النار مَنْ قال: لا إله إلا الله، يَبْتَغِي بذلك وجهَ الله) رواه البخاري ومسلم.

    قال النووي في شرحه لصحيح مسلم في ذكر بعض الفوائد والعِبَر من ذلك الموقف والحديث النبوي: "فيه زيارة الفاضل المفضول وحضور ضيافته،
    وفيه سقوط الجماعة للعذر،
    وفيه استصحاب الإمام والعالم ونحوهما بعض أصحابه في ذهابه،
    وفيه الاستئذان على الرجل في منزله وإن كان صاحبه وقد تقدم منه استدعاء،
    وفيه الابتداء في الأمور بأهمها لأنه صلى الله عليه وسلم جاء للصلاة فلم يجلس حتى صلى، وفيه جواز صلاة النفل جماعة،
    وفيه أن الأفضل في صلاة النهار أن تكون مثنى كصلاة الليل وهو مذهبنا ومذهب الجمهور،
    وفيه أنه يُسْتَحَب لأهل المحلة وجيرانهم إذا ورد رجل صالح إلى منزل بعضهم أن يجتمعوا إليه ويحضروا مجلسه لزيارته وإكرامه والاستفادة منه،
    وفيه أنه لا بأس بملازمة الصلاة في موضع معين من البيت، وإنما جاء في الحديث النهي عن إيطان موضع من المسجد للخوف من الرياء ونحوه،
    وفيه الذب (الدفاع) عمَّن ذُكِرَ بسوء وهو بريء منه،
    وفيه أنه لا يخلد في النار من مات على التوحيد،
    وفيه غير ذلك والله أعلم".
    وفي "فيض الباري على صحيح البخاري": "خَّصَ عِتْبَان بن مالك بعدمِ حضورِ الجماعة ولم يُرَخِّص به ابنَ أَمِّ مَكْتُوم، فقيل في وجهه إنَّ ابن أم مَكْتُوم كان أعمى مِنْ بَطْنِ أمه، ومثله لا يلحقه تعب ومشقة في الإياب والذهاب، بخلاف عِتْبان فإنَّ بَصَرَهُ قد ساء في آخره".
    وقال ابن حجر: "في هذا الحديث من الفوائد: إمامة الأعمى، وإخبار المرء عن نفسه بما فيه من عاهة ولا يكون من الشكوى، وأنه كان في المدينة مساجد للجماعة سوى مسجده صلى الله عليه وسلم، والتخلف عن الجماعة في المطر والظلمة ونحو ذلك..
    والتنبيه على من يُظن به الفساد في الدين عند الإمام على جهة النصيحة ولا يعد ذلك غيبة، وأن على الإمام أن يتثبت في ذلك ويحمل الأمر فيه على الوجه الجميل،
    وفيه افتقاد من غاب عن الجماعة بلا عذر، وأنه لا يكفي في الإيمان النطق من غير اعتقاد، وأنه لا يخلد في النار من مات على التوحيد، وترجم عليه البخاري:.. الرخصة في الصلاة في الرحال عند المطر، وصلاة النوافل جماعة، وسلام المأموم حين يسلم الإمام، وأن رد السلام على الإمام لا يجب، وأن الإمام إذا زار قوما أمَّهم، وشهود عتبان بدرا، وأكل الخزيرة، وأن العمل الذي يبتغى به وجه الله تعالى ينجي صاحبه إذا قبله الله تعالى، وأن من نسب من يظهر الإسلام إلى النفاق ونحوه بقرينة تقوم عنده لا يكفر بذلك ولا يُفَسَّق بل يُعْذَر بالتأويل".

    المعاملة والحُكم بالظاهر:
    من هَدْي وخُلُق نبينا صلى الله عليه وسلم في معاملته مع الناس:
    معاملتهم على حسب ظواهرهم، وترك سرائرهم إلى الله تعالى،
    قال الشاطبي: "إن أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصاً، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموما، فإن سيد البشر مع إعلامه بالوحي يجري الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم، وإن علم بواطن أحوالهم".
    والسيرة النبوية مليئة بالمواقف الدالة على المعاملة والحكم بالظاهر
    ومنها حديث عِتْبان بن مالكٍ وقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم لمن تكلم في مالكُ بن الدُّخْشُن: (لا تَقُلْ، ألا تراه قال: لا إلهَ إلا الله، يريد بذلك وجهَ الله).
    ومنها كذلك حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه المشهور الذي رواه البخاري والذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة حين قتل في سرية رجلا قال: لا إله إلا الله، (أقتلْتَه بعدما قال لا إله إلا الله؟ قال (أسامة): قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوذًا)، فقال صلى الله عليه وسلم له: (أفلا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أمْ كاذب؟) وفي رواية: (أفلا شقَقتَ عن قلبه حتَّى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا؟)..
    وفي ذلك دلالة واضحة على وجوب الحكم بالظاهر, والتحذير الشديد من تجاوز الظاهر إلى السرائر، والحكم على ما في القلوب دون بينة ودليل، قال ابن حجر: "وفيه دليل على ترتُّب الأحكام على الأسباب الظاهرة دون الباطنة".
    فضْل كلمة التوحيد: لا إله إلا الله :

    شهادة أن لا إله إلا الله: أصلُ الدِّين وأساسه، ومعناها لا معبود بحق إلا الله، وفضلها عند الله عز وجل عظيم، ومما امتن الله تعالى به على هذه الأمة هو دخول الجنة لمن مات منهم وهو يعلم ويؤمن أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}(النساء:116)، قال السعدي:"وأما ما دون الشرك من الذنوب والمعاصي فهو تحت المشيئة، إنْ شاء الله غفره برحمته وحكمته، وإن شاء عذب عليه وعاقب بعدله وحكمته".
    ومما يدلُّ على فضل كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" في موقف النبي صلى الله عليه وسلم رداً على ما قيل عن مالك بن الدُّخْشُن بأنه منافق: (لا تَقُلْ، ألا تراه قال: لا إلهَ إلا الله، يريد بذلك وجهَ الله)، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فإن الله حرَّم على النار مَنْ قال: لا إله إلا الله، يَبْتَغِي بذلك وجهَ الله).
    والأدلة على فضْل كلمة التوحيد من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديثه كثيرة،
    فعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة) رواه مسلم.
    وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (.. فمن لقيتَ من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله، مستيقنًا بها قلبه، فبشره بالجنة) رواه مسلم.
    وفي حديثٍ لمسلم أيضاً قال صلى الله عليه وسلم: (أشهد أن لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله، لا يلقي الله بهما عبد، غير شاك فيهما، إلا دخل الجنة).
    فمن مات على التوحيد موقناً أنه لا إله إلا الله غير آت بشيء من نواقضها فهو من أهل الجنة، وقد يدخل النار فيُعَذَّب بما عليه من الإثم وقد يَغْفِرُ الله عز وجل له، وإن عُذِّب بما عليه فمآله إلى الجنة في نهاية المطاف،
    فعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما مِنْ عبدٍ قال: لا إلهَ إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخَلَ الجنة، قلتُ: وإن زنى وإن سَرَق؟ قال: وإن زنى وإن سَرَق، قلتُ: وإن زنى وإن سَرَق؟
    قال: وإن زنى وإن سَرَق، قلتُ: وإن زنى وإن سَرَق؟ قال: وإن زنى وإن سَرَقَ على رَغْمِ أنفِ أبي ذرٍّ. وكان أبو ذرٍّ إذا حدَّثَ بهذا قال: وإن رَغِمَ أنفُ أبي ذرٍّ) رواه البخاري.

    السيرة النبوية بأحداثها ومواقفها تحمل بين ثناياها الكثير والكثير من الدروس التربوية والآداب والأحكام شرعية، والمتأمل في حياة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم يرى فقهه وحكمته في تربية النفوس وإصلاح وعلاج ما بها من خلل وخطأ،
    ومن ذلك موقفه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه حين قال أحدهم عن مالك بن الدُّخْشُن رضي الله عنه: (ذلك منافقٌ، لا يُحِبُّ اللهَ ورسوله)، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تَقُلْ، ألا تراه قال: لا إلهَ إلا الله .. فإن الله حرَّم على النار مَنْ قال: لا إله إلا الله، يَبْتغِي بذلك وجه الله).
    =====================================

    موقفه صل الله عليه وسلم مع رجل دخل الجنة لم يُصل قط ..

    أُصَيْرِمُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، عَمْرُو بْنُ ثَابِتٍ بْنِ وَقْشٍ
    يسار راعي الغنم .

    يُبعث الإنسان على ما مات عليه، فمن مات على عملٍ صالح بُعِث عليه، وكان علامة على حسن خاتمته،
    فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يُبعَثُ كُل عبدٍ على ما مات عليه) رواه مسلم.
    قال النووي: "قال العلماء معناه يُبعث على الحالة التي مات عليها". ولا أفضل، ولا أعظم من أن يموت المسلم شهيداً في سبيل الله،
    فعن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (للشهيد عند الله سبع خصال: يُغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويُحَلَّى حلة الإيمان، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويشفع في سبعين إنسانًا من أهل بيته) رواه أحمد وابن ماجه .
    وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه بالجنة، رغم أنه لم يمر على إسلامهم إلا بضع ساعات، جاهدوا فيها في سبيل الله، وشاركوا النبي صلى الله عليه وسلم في قتاله للكفار، فقُتِلوا ورزقهم الله الشهادة في سبيله، وصدق فيهم قوله صلى الله عليه وسلم: (عَمِل قَليلاً وأُجِرَ كَثِيراً).والأمثلة الدالة على ذلك من السيرة النبوية كثيرة، ومنها :

    1 ـ عمرو بن ثابت بن أقيش الأنصاري رضي الله عنه،
    المعروف بأصيرم بني عبد الأشهل، تأخر إِسلامه إِلى يوم أحد، فأسلم يومئذ
    ، قال ابن الأثير: "عمرو بن ثابت بن وَقْش بن زُغْبة بن زعوراء بن عبد الأشْهَل الأنصاري الأوسي الأشهلي وهو أخو سلمة بن ثابت، وابن عمِّ عباد بن بِشْر، ويعرف عمرو بأصيرم بني عبد الأشهل، وهو ابن أخت حذيفة بن اليمان، استشهد يوم أحد، وهو الذي قيل: إنه دخل الجنة ولم يُصلِّ صلاة".
    عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن عمرو بن أُقَيْشٍ كان له رِباً في الجاهلية، فكره أن يسلم حتى يأخذه، فجاء يومُ أحد فقال: أين بنو عمي؟ قالوا: بأُحُد، قال: أين فلان؟ قالوا: بأحد، قال: أين فلان؟ قالوا: بأحد، فلبس لأمتَهُ وركب فرسه ثم توجه قِبَلهم، فلما رآه المسلمون قالوا: إليك عنا يا عمرو، قال: إني آمنت، فقاتل حتى جُرِح، فحُمِل إلى أهله جريحاً، فجاءه سعد بن معاذ فقال لأخته: سليه حمية لقومك، أو غضباً لهم، أمْ غضباً لله؟ فقال: بل غضباً لله ورسوله، فمات فدخل الجنة وما صلى لله صلاة) رواه أبو داود وصححه الألباني.
    وذكر ابن حجر في كتابه الإصابة في معرفة حياة الصحابة: "عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: (حدثوني (أخبروني) عن رجل دخل الجنة لم يُصل قط، فإذا لم يعرفه الناس، سألوه: من هو؟ فيقول: أصيرم بني عبد الأشهل، عمرو بن ثابت بن وقش،
    قال الحصين: فقلت لمحمود بن لبيد: كيف كان شأن الأصيرم؟ قال: كان يأبى الإسلام على قومه، فلما كان يوم أحد، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد، بدا له الإسلام، فأسلم، فأخذ سيفه، فغدا حتى أتى القوم، فدخل في عرض الناس، فقاتل حتى أثبتته الجراحة، قال: فبينما رجال بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة، إذا هم به، فقالوا: والله، إن هذا للأصيرم، وما جاء به؟! لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الحديث، فسألوه: ما جاء به؟ قالوا: ما جاء بك يا عمرو؟ أحرْبَاً على قومك، أو رغبة في الإسلام؟
    قال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله ورسوله، وأسلمت، ثم أخذت سيفي، فغدوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتلت حتى أصابني ما أصابني، قال: ثم لم يلبث أن مات في أيديهم، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه لمن أهل الجنة)".

    2 ـ عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: (أتى النبيَّ صلى اللَّه عليه وسلّم رجل مُقنّع (مغطى الوجه بالحديد) بالحديد، فقال: يا رسول الله، أقاتل أوْ أُسلم؟ قال: أسْلِم ثمّ قاتل، فأسلم ثم قاتل فقُتِل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمل قليلا وأُجِرَ كثيراً) رواه البخاري.
    قال ابن حجر: "قوله: "(أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجل) لم أقف على اسمه،
    ووقع عند مسلم من طريق زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق أنه من الأنصار ثم من بني النبيت بفتح النون وكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة ثم مثناة فوق، ولولا ذلك لأمكن تفسيره بعمرو بن ثابت بن وقش بفتح الواو والقاف بعدها معجمة، وهو المعروف بأصيرم بن عبد الأشهل، فإن بني عبد الأشهل بطن من الأنصار من الأوس وهم غير بني النبيت".
    وفي هذا الحديث أن الأجر الكثير قد يحصل بالعمل اليسير فضلاً من الله وإحساناً، كما فيه: أن الأعمال بالخواتيم.
    وفي كتاب الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري: "العمل القليل: هو الإسلام قبل القتال، والأجر الكثير: النعيم الدائم، ومنازل الشهداء".
    وقال ابن بطال في شرحه لصحيح البخاري: "قال المهلب: فى هذا الحديث دليل أن الله يعطى الثواب الجزيل على العمل اليسير تفضلاً منه على عباده، فاستحق هذا نعيم الأبد فى الجنة بإسلامه، وإن كان عمله قليلا، لأنه اعتقد أنه لو عاش لكان مؤمناً طول حياته فنفعته نيته، وإن كان قد تقدمها قليل من العمل، وكذلك الكافر إذا مات ساعة كفره يجب عليه التخليد فى النار، لأنه انضاف إلى كفره اعتقاده أنه يكون كافراً طول حياته،
    لأن الأعمال بالنيات".
    وقال ابن عثيمين: "وفي هذا الحديث: أن الجهاد بدون إسلام لا ينفع صاحبه، لأن الرجل الذي استأذن من النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله أجاهد ثم أُسْلِم، أمْ أُسْلِم ثم أجاهد؟ قال: أَسْلِم ثم جاهد، فأسلم ثم جاهد، وهكذا جميع الأعمال الصالحة يشترط فيها الإسلام".

    3 ـ الراعي الأسود في غزوة خيبر :

    أسلم راعي غنم وبمجرد إسلامه قاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر فقُتِل شهيداً ولم يركع لله ركعة،
    قال عنه ابن الأثير: "يسار الحبشي كان عبداً ليهودي اسمه عامر، فأسلم لمَّا حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، واستُشْهِد عليها.
    سماه الواقدي: يساراً، وسماه ابن إسحاق : أسْلَم،
    قاله أبو عمر. وقال أبو نعيم: اسمه يسار، كانَ عبداً لعامر اليهودي".
    وأما قصة استشهاده فقد رواها ابن هشام في السيرة النبوية، والبيهقي في دلائل النبوة، والذهبي في تاريخ الإسلام، وذكرها ابن القيم في كتابه زاد المعاد،
    عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر، خرجت سرية فأخذوا إنساناً معه غنم يرعاها، فجاؤا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه النبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يكلمه به، فقال له الرجل: إني قد آمنتُ بك وبما جئتَ به، فكيف بالغنم يا رسول الله! فإنها أمانة، وهي للناس الشاة والشاتان وأكثر من ذلك؟ قال: أحْصِب وجوهها (ارمها بحصيات صغيرة) ترجع إلى أهلها . فأخذ قبضة من حصباء أو تراب فرمى به وجوهها، فخرجت تشتد حتى دخلت كل شاة إلى أهلها،
    ثم تقدم إلى الصف فأصابه سهم فقتله ولم يُصَلّ لله سجدة قط، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدخلوه الخباء، فأدخل خباء رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليه ثم خرج، فقال: لقد حَسُن إسلام صاحبكم، لقد دخلت عليه وإن عنده لزوجتين له من الحور العين).

    من دروس السيرة النبوية التي تعلمها الصحابة الكرام والمسلمون من بعدهم:
    عظم منزلة الشهيد في الإسلام، وأن الناس في خواتيم حياتهم بين عبْدٍ يُخْتم له بخير، وآخر يُختم له بشر، فهنيئا ثم هنيئاً لمن خُتِم له بالموت في سبيل الله، فقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وإن كان عمله قليلا .. فعلى المسلم أن يدعو الله دائماً بحُسْن الخاتمة، ويعمل بالأسباب التي توصل إليها، وأن يستعيذ بالله دائما من سوء الخاتمة، ويبتعد عن جميع الأسباب التي تؤدي لها.
    ====================================

    موقفه صلى الله عليه وسلم مع زينب الثقفية زوجة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما
    ..


    باب التنافس في أعمال البر والخير ليس مقصوراً على الرجال دون النساء، بل هو مفتوح على مصراعيه للجميع،
    والأصل في الأوامر أنها للرجال والنساء معاً، ما لم يدل الدليل على تخصيص الرجال دون النساء، أو النساء دون الرجال،
    وقد قال الله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}(المطففين:26)،
    وقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(النحل:97)،
    قال ابن كثير: "هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحا ـ وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه ـ من ذكرٍ أو أنثى من بني آدم، وقلبه مؤمن بالله ورسوله.. بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا، وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة".
    وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما النساء شقائق الرجال) رواه الترمذي وصححه الألباني،
    قال المناوي: "لأن النساء شقائق الرجال كما هو مُطْرد في جُل (مُعْظم) الأحكام، حيث يدخلن مع الرجال تبعاً إلا ما خصه الدليل".

    ومن مواقف النبي صلى الله عليه وسلم ووصاياه الخاصة بالنساء،
    موقفه صلى الله عليه وسلم مع زينب الثقفية زوجة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، والتي تحدثنا عنه فتقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تصدّقن يا معشر (جماعة) النّساء، ولو من حُليِّكنّ،
    قالت: فرجعتُ إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقلتُ: إنك رجل خفيف ذات اليد (كناية عن الفقر)، وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالصّدقة، فأته فاسأله، فإن كان ذلك يجزئ عنّي وإلا صرفتها إلى غيركم. فقال لي عبد الله: بل ائْتيهِ أنتِ.
    قالَت: فانطلقتُ، فإذا امرأة من الأنصارِ ببابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، حاجتي حاجتُها، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُلْقِيَتْ عليهِ المهابة.
    قالت: فخرج علينا بلال فقلنا له: ائْتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرْه أنَّ امرأتينِ بالبابِ تسألانِك: أتجزي الصدقةُ عنهما على أزواجهما، وعلى أيتامٍ في حُجورِهما؟ ولا تخبره من نحن. قالت: فدخل بلال على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هما؟ فقال: امرأةٌ من الأنصار وزينب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الزَّيانب؟ قال امرأة عبد الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لهما أجران، أجر القرابة وأجر الصدقة) رواه مسلم.
    والمرأة التي لقيتها زينب امرأة عبد الله بن مسعود عندما ذهبت لسؤال النبي صلى الله عليه وسلم هي: زينب امرأة أبي مسعود،
    قال القسطلاني في إرشاد الساري: "هي زينب امرأة أبي مسعود يعني عقبة بن عمرو الأنصاري كما عند ابن الأثير في أسد الغابة".

    وفي هذا الموقف النبوي مع زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما الكثير من الفوائد والعبر، ومنها:

    فضل الصدقة على الأقارب وصلة الرحم :
    قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم: (لهما أجران، أجر القرابة وأجر الصدقة) فيه الحث على الصدقة على الأقارب، وصلة الأرحام، وأن فيها أجرين"، وقال ابن حجر: "وفيه الحث على صلة الرحم"، وقال ابن عثيمين: "صلة الأقارب بالصدقة يحصل بها أجران: أجر الصدقة، وأجر الصلة، ودليل ذلك حديث زينب بنت مسعود الثقفية امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه".

    مهابة النبي صلى الله عليه وسلم :

    قال القاري: "(وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألقيت عليه المهابة) بفتح الميم، أي أعطى الله رسوله هيبة وعظمة يهابه الناس، ويعظمونه، ولذا ما كان أحد يجتريء على الدخول عليه،
    قال الطيبي: كان: دل على الاستمرار، ومن ثم كان أصحابه في مجلسه كأن على رءوسهم الطير، وذلك عزة منه صلى الله عليه وسلم، لا كِبْر وسوء خلق، وإن تلك العزة ألبسها الله تعالى إياه صلى الله عليه وسلم، لا من تلقاء نفسه".
    وقال ابن عثيمين: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطاه الله المهابة العظيمة، وكل من رآه هابه، لكنه من خالطه معاشرةً أحبه وزالت عنه الهيبة، لكن أول ما يراه الإنسان يهابه هيبة عظيمة، فإذا خالطه وعاشره أحبه وألفه صلى الله عليه وسلم".
    ومن الأحاديث الواردة في مهابة وإجلال النبي صلى الله عليه وسلم بالإضافة لقول زينب رضي الله عنها: (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألقيت عليه المهابة
    ما رواه مسلم في صحيحه عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: (وما كان أحدٌ أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجلَّ في عينيَّ منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالًا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن أملأ عيني منه).
    ومع علو منزلته والمهابة التي ألقاها الله تعالى عليه صلى الله عليه وسلم، فقد كان شديد التواضع،
    فعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه: (أن رجلا كلم النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فأخذته الرعدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هوِّن عليك، فإنَّي لستُ بمَلِك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد (اللحم المجفف في الشمس)) رواه الحاكم وصححه الألباني.
    وهذا من تمام تواضعه صلى الله عليه وسلم حيث بين له أنه ليس بملك، وذكر له ما كانت تأكله أمه لبيان أنه رجل منهم، وليس بمتجبر يُخاف منه،
    وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تُطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) رواه البخاري، والإطراء هو مجاوزة الحد في المدح.

    التورية، وإخبار بلال النبيَ صلى الله عليه وسلم باسم المرأتين :

    في التورية مندوحة عن الكذب إذا احتيج إلى ذلك، والتورية في الاصطلاح:
    أن يتكلم المتكلم بكلام له معنى ظاهر متبادَر للسامع، وله معنى آخر خفي. ومقصود المتكلم هو هذا المعنى الخفي، إلا أنه ورّاه وأخفاه بذلك المعنى الظاهر المتبادَر، ويلجأ المتكلم عادة لهذا الأسلوب إذا كان لا يريد الإخبار بالحقيقة لسبب ومصلحة ما،
    ولا يرضى بالوقوع في الكذب. والتورية غير مذمومة من الناحية الشرعية إلا إذا توصل بها إلى إحقاق باطل، أو إبطال حق أو نحو ذلك، لكنها ـ
    التورية ـ ليست جائزة بإطلاق، فإن كان الإنسان محتاجاً إليها فهي جائزة، وإن كان غير محتاج إليها فلا ..
    وقد حاول بلال رضي الله عنه في هذا الموقف التورية حتى ينفذ ما طلبته الصحابيتان منه وذلك بقوله: "امرأة من الأنصار وزينب"، والزيانب كثيرات، ولكن فطنة النبي صلى الله عليه وسلم أوقعت بلالاً رضي الله عنه في موقف لم يجد مخرجاً منه غير الصدق، لأن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، والكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، ولأن بلالاً رضي الله عنه ليس أمامه إلا التصريح والصدق، ولا مضرة في إخباره للنبي صلى الله عليه وسلم باسم المرأتين.
    قال النووي: "قولهما (ولا تخبر من نحن ثم أخبر بهما) قد يقال إنه إخلاف للوعد وإفشاء للسر،
    وجوابه: أنه عارض ذلك جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجوابه صلى الله عليه وسلم واجب محتم لا يجوز تأخيره، ولا يقدم عليه غيره وقد تقرر أنه إذا تعارضت المصالح بدئ بأهمها".
    وقال الكرماني في الكواكب الدراري: "فإن قلت: فلم خالف بلال قولهما وهو إخلاف للوعد وإفشاء للسر؟ قلت: عارضه سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فان جوابه واجب متحتم لا يجوز تأخيره، وإذا تعارضت المصلحتان بدئ بأهمهما.
    فإن قلت: كان الجواب المطابق للفظ هو أن يقال زينب وفلانة، قلت: الأخرى محذوفة وهي أيضا اسمها زينب الأنصارية وزوجها أبو مسعود الأنصاري، ووقع الاكتفاء باسم من هي أكبر وأعظم منها".
    وقال ابن عثيمين: "فدخل بلال على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره وقال: إن بالباب امرأتين حاجتهما كذا وكذا، فقال: من هما؟ وحينئذٍ وقع بلال بين أمرين، بين أمانة ائتمنتاه عليها المرأتان، حيث قالتا: لا تخبره من نحن، ولكن الرسول قال من هما؟ قال: امرأة من الأنصار، وزينب، فقال: أي الزيانب؟ حيث اسم زينب كثير، فقال: امرأة عبد الله، وكان عبد الله بن مسعود خادماً للرسول صلى الله عليه وسلم يدخل بيته حتى بلا استئذان، وقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم أهله وعرف حاله، وهو (بلال) إنما أخبره مع قولهما له لا تخبره،
    لأن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم واجبة مقدمة على طاعة كل أحد".

    ومن فوائد هذا الحديث والموقف النبوي مع زينب امرأة عبد الله بن مسعود كما قال النووي: "فيه أمْر ولي الأمر رعيته بالصدقة وفِعال الخير، ووعظه النساء إذا لم يترتب عليه فتنة"،
    وقال ابن حجر :"وفيه الحث على صلة الرحم، وجواز تبرع المرأة بمالها بغير إذن زوجها، وفيه عظة النساء، وترغيب ولي الأمر في أفعال الخير للرجال والنساء، والتحدث مع النساء الأجانب عند أمن الفتنة، والتخويف من المؤاخذة بالذنوب وما يتوقع بسببها من العذاب. وفيه فتيا العالم مع وجود من هو أعلم منه، وطلب الترقي في تحمل العلم".
    إن الناظر والمتأمل في سيرة وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم يرى أنه أعطى المرأة جانباً كبيراً من اهتمامه وأحاديثه ووصاياه، فالمرأة في حياة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم هي الأم والإبنة والأخت والزوجة، وكل أمر ونهي في أوامر ووصايا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه شامل للرجل والمرأة، وإنما يوجّهَ الخطاب للرجال تغليباً على النساء، وهذا أمر سائغ في اللغة، إلا أن هناك أحكاماً ووصايا لا خلاف في اختصاصها بالرجل دون المرأة، وبالمرأة دون الرجل،
    وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً يوجه للنساء خطاباً خاصاً بهن بعد حديثه للرجال، وربما خصهن بيوم يعلمهن فيه دون الرجال، ومن ذلك وصيته صلى الله عليه وسلم للنساء بقوله: (تصدّقن يا معشر النّساء ولوْ مِنْ حُليِّكنّ).
    =====================================
    التالي : -
    موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه ..

    ------------------------------
    لا تنسونا من صالح دعائكم
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5347
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه ..

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس أكتوبر 03, 2024 5:38 pm

    ما قبله : -

    موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه ..

    (اللهم اهد دوسا وائت بهم)


    السيرة النبوية زاخرة بالمواقف التربوية المضيئة التي تنير للمسلمين ـ عامة ـ والدعاة إلى الله والمربين ـ خاصة ـ طريقهم في الدعوة والتربية والإصلاح، والتي ينبغي الاستفادة منها والاقتداء بصاحبها صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الآخرين ولو كانوا كافرين بديننا، أو مخالفين لنا،
    قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}(الأحزاب:21)..

    ومن المواقف النبوية في ذلك:
    موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه حين طلب منه أن يدعو الله على قبيلته دوْس لعصيانها لله عز وجل وامتناعها عن الإسلام،
    فردَّ النبي صلوات الله وسلامه على طلبه قائلاً: (اللهُمَّ اهْدِ دَوْسَاً وائتِ بهم).
    فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قدِم الطُّفَيل وأصحابه فقالوا: يا رسول الله! إنَّ دَوسْاً قد كفَرتْ وأبَتْ، فادعُ اللهَ عليها ـ
    فقيل: هلكتْ دَوس ـ، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهمَّ! اهدِ دَوْساً وائتِ بهم) رواه مسلم.
    قال القاري: "(اللهم اهد دوسا وائت بهم) أي: إلى المدينة مهاجرين، أو قربهم إلى طريق المسلمين، وأقبل بقلوبهم إلى قبول الدين".
    وقوله: (فقيل: هلكتْ دَوس) لأنَّهم ظنُّوا أن النبي صلى الله عليه وسلم سيدعو عليهم فَيستجيبُ الله عز وجل له، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم اهد دوسا
    وأمَر الطُّفيل رضي الله عنه بالرجوعِ إلى قومه ودعوتهم إلى الله، والترفُّقِ بهم،
    فقد روى السيوطي في الخصائص الكبرى، والبيهقي في دلائل النبوة، وابن كثير في البداية والنهاية، وابن هشام في السيرة النبوية وغيرهم،
    أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن دعا لدوس بالهداية أمَر الطُّفيل رضي الله عنه بالرجوعِ إلى قومِه ودَعوتِهم إلى اللهِ، والترفُّقِ بهم،
    فقال: (ارجع إلى قومك فادعهم إلى الله وارفق بهم، فرجعتُ إليهم فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الله، ثم قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن أسلم معي من قومي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، فنزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتاً من دوس،
    ثم لحقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين".

    وفي هذا الموقف النبوي مع الطفيل رضي الله عنه الكثير من الدروس والفوائد التي ينبغي الوقوف معها والاستفادة منها، .
    ومن ذلك:
    - الرحمة بالمدعو والشفقة عليه وإن كافراً أو عاصياً: وقد ظهر ذلك حين قال الطفيل رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله، إن دوسا قد عصت وأبت فادع الله عليهم)، فدعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهداية،
    وهذا يدل على مدى حلمه ورحمته وشفقته صلوات الله وسلامه عليه حتى مع الكافرين،
    قال الكرماني: "ودعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهداية في مقابلة العصيان، والإتيان بهم في مقابلة الإباء (الامتناع عن الإسلام)".
    وقال: "فإن قلتَ: هم طلبوا الدعاء عليهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لهم، قلتُ: هذا من كمال خلقه العظيم ورحمته بالعالمين".

    ـ الحرص على هداية الناس:
    ظهر ذلك في حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هداية دوس رغم رفضهم الإسلام في أول أمرهم، فلم يدع عليهم حينما طلب منه ذلك، بل ودعا لهم لحرصه على هدايتهم ودخولهم في الإسلام
    فقال: اللهم اهد دوسا وائت بهم، قال العيني: "وفيه حرص النبي صلى الله عليه وسلم على من يسلم على يديه ..
    وكان يحب دخول الناس في الإسلام، فكان لا يعجل بالدعاء عليهم ما دام يطمع في إجابتهم إلى الإسلام".

    ـ الدعاء على الكافرين، من يُدْعَىَ له أو يُدْعَى عليه؟:
    الدعاء على الكفار أو الدعاء لهم له أحوال، فحين يشتد عداؤهم ومحاربتهم للإسلام والمسلمين يُدْعَى عليهم، وحين يُرْجَى إسلامهم يدعى لهم بالهداية، فتارة كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لهم بالهداية كما دعا لثقيف ودوس وغيرهم،
    وتارة يدعو عليهم بالهلاك، كما دعا على أهلِ مكَّةَ بِالشِّدّة وأن يُريهم سنين كَسِني يوسف، ودعا على صناديدِ قريش لِكثرةِ أذاهم وعداوتِهم، فأُجيبتْ دعوتُه فيهم، فقُتلوا بِبدرٍ، ودعا على الكافرين عقب غزوة أحد فقال: (اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسُلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك إله الحق) رواه أحمد وصححه الألباني.
    قال ابن حجر: "كان صلى الله عليه وسلم تارة يدعو عليهم، وتارة يدعو لهم،
    فالحالة الأولى حيث تشتد شوكتهم ويكثر أذاهم،
    والحالة الثانية حيث تؤمن غائلتهم ويرجى تألفهم كما في قصة دوس".
    وقال العيني: "وقد ذكرنا أن دعاء النبي على حالتين: إحداهما: أنه يدعو لهم إذا أمِن غائلتهم، ورجا هدايتهم،
    والأخرى: أنه يدعو عليهم إذا اشتدت شوكتهم، وكثر أذاهم، ولم يأمن مِن شرهم على المسلمين"..
    ولهذا ترجم البخاري في صحيحه فقال: "باب الدعاء على المشركين"،
    وفي موضع آخَر: "باب الدعاء للمشركين بالهُدى ليتألفهم".
    قال ابن حجر: "وقوله: "ليتألفهم" من تفقه المصنف إشارة منه إلى الفرق بين المقامين، وأنه صلى الله عليه وسلم كان تارة يدعو عليهم، وتارة يدعو لهم، فالحالة الأولى حيث تشتد شوكتهم ويكثر أذاهم ..
    والحالة الثانية حيث تؤمن غائلتهم ويُرْجَى تألفهم كما في قصة دوس".
    وثمة فرق بين الدعاء للكافرين بالهداية، وحبهم والاستغفار لهم، فالدعاء لهم جائز على حسب حالهم، أما حبهم والاستغفار لهم فلا يجوز، قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}(التوبة: 113)،
    قال السعدي: "فإن الاستغفار لهم في هذه الحال غلط غير مفيد، فلا يليق بالنبي والمؤمنين، لأنهم إذا ماتوا على الشرك، أو علم أنهم يموتون عليه، فقد حقت عليهم كلمة العذاب، ووجب عليهم الخلود في النار، ولم تنفع فيهم شفاعة الشافعين، ولا استغفار المستغفرين. وأيضا فإن النبي والذين آمنوا معه، عليهم أن يوافقوا ربهم في رضاه وغضبه، ويوالوا من والاه الله، ويعادوا من عاداه الله".

    ـ من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته:
    إجابة دعواته، وفي موقفه صلى الله عليه وسلم مع الطفيل رضي الله عنه والدعاء لقومه دوس بالهداية (اللهم اهد دوس وائت بهم) من الأدلة على ذلك، فقد هدى الله عز وجل هذه القبيلة وجاء الطفيل في غزوة خيبر بتسعين أو ثمانين أسرة منهم قد دخلوا الإسلام كما قال الذهبي وغيره.
    قال القاضي عياض: "وهذا باب واسع جدا، وإجابة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لجماعة، بما دعا لهم وعليهم، متواتر على الجملة، معلوم ضرورة ".

    لم تقف رحمة النبي صلى الله عليه وسلم مع الكافرين عند الإعراض عنهم، والحلم والصبر على جهلهم وأذاهم، بل إنها تعدَّت ذلك إلى مجال أرحب وأفسح، ظهرت في حرصه على هدايتهم،
    وهذه صورة من صور الرحمة النبوية بالكافرين به والمخالفين له، والمواقف النبوية الدالة على ذلك كثيرة،
    وقد قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(الأنبياء:107).
    قال ابن كثير: "يخبر تعالى أن الله جعل محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، أي: أرسله رحمة لهم كلهم"،
    وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قيل: يا رسول الله! ادْعُ على المشركين، قال: إني لم أُبْعَث لعَّاناً، وإنما بُعِثتُ رحمة) رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس، إنما أنا رحمة مهداة) رواه الحاكم وصححه الألباني.

    ========================================
    موقفه صل الله عليه وسلم مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
    ( قم يا أبا تراب)


    أبو تراب هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد كان له ثلاث كُنَى مشهورة،
    الأولى: أبو الحسن: نسبة إلى ابنه الحسن أكبر أولاده. الثانية: أبو السِّبطين (الحسن والحسين) سِبْطَيِّ النبي صلى الله عليه وسلم، والسِّبْطُ هو ابن البنت، أما الكنية الثالثة: أبو تراب، وكانت هذه الكُنيةُ أحبَّ الكُنى إلى عليٍّ رضي الله عنه، لأن الذي كنَّاه بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم..
    وسبب هذه التسمية والكنية أنه بعد زواج علي وفاطمة رضي الله عنهما، زار النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة في بيتها، وحدث موقف قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه لعلي رضي الله عنه: ( قم يا أبا تراب)، وهذا الموقف فيه الكثير من الفوائد التي ينبغي الاستفادة منها في علاقاتنا الأسرية.

    روى البخاري عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: (ما كان لعلي اسم أحب إليه من أبي تراب، وإن كان ليفرح به إذا دُعِيَ بها، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة عليها السلام، فلم يجد عليّاَ في البيت، فقال: أين ابن عمك؟ فقالت: كان بيني وبينه شيء، فغاضبني فخرج فلم يقِل (ينم وسط النهار) عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان: انظر أين هو؟ فجاء فقال: يا رسول الله هو في المسجد راقد، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع، قد سقط رداؤه عن شِقِّه (جانبه) فأصاب تراب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه وهو يقول: قم أبا تراب، قم أبا تراب (أي: يا أبا تراب)).
    وفي رواية مسلم: (فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع، قد سقط رداؤه عن شِقِّه، فأصابه ترابٌ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول: قُمْ أبا التراب! قُمْ أبا التراب!).

    قال الكرماني في "الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري": "قوله صلى الله عليه وسلم: (ابن عمك) أي زوجها علي رضي الله عنه. فإن قلتَ: لِمَ اختار هذه العبارة، ولم يقل أين زوجك؟ أو أين علي؟! قلتُ: لعله صلى الله عليه وسلم فهم أنه جرى بينهما شئ فأراد استعطافها عليه بذكر القرابة النسبية التي بينهما".
    وقال العيني في كتاب "عمدة القاري شرح صحيح البخاري: "(ذكر ما يستنبط منه من الأحكام)
    الأول: فيه جواز دخول الوالد في بيت ولده بغير إذن زوجها.
    الثاني: فيه استعطاف الشخص على غيره بذكر ما بينهما من القرابة.
    الثالث: فيه إباحة النوم في المسجد لغير الفقراء ولغير الغريب..
    الرابع: فيه الممازحة للغاضب بالتكنية بغير كنية إذا كان ذلك لا يغضبه بل يؤنسه.
    الخامس: فيه مدارة الصهر وتسلية أمره في غيابه.
    السادس: فيه جواز التكنية بغير الولد فإنه صلى الله عليه وسلم كنَّاه أبا تراب".
    وقال ابن حجر في فتح الباري: "ويستفاد من الحديث: جواز تكنية الشخص بأكثر من كنية، والتلقيب بلفظ الكنية وبما يشتق من حال الشخص، وأن اللقب إذا صدر من الكبير في حق الصغير تلقاه بالقبول ولو لم يكن لفظه لفظ مدح، وأن من حمل ذلك على التنقيص لا يلتفت إليه..
    قال ابن بطال: وفيه أن أهل الفضل قد يقع بين الكبير منهم وبين زوجته ما طُبِعَ عليه البشر من الغضب، وقد يدعوه ذلك إلى الخروج من بيته ولا يعاب عليه. قلت: ويحتمل أن يكون سبب خروج عليّ خشية أن يبدو منه في حالة الغضب ما لا يليق بجناب فاطمة رضي الله عنهما، فحسم مادة الكلام بذلك إلى أن تسكن فورة الغضب من كل منهما".

    لا حرج على الزوج إن خاف على نفسه أن يغلبه غضبه وانفعاله مع زوجته أن يخرج من البيت إلى أن يسكت عنه الغضب،
    ثم يرجع ليُرْضي زوجته أو ترضيه، وهذا ما فعله عليّ رضي الله عنه بذهابه ونومه في المسجد.. ومن حسن تصرف الزوجة مع ما يحدث بينها وبين زوجها ألا تذكره لأحد وتفشيه بين أهلها، وهذا ما فعلته فاطمة رضي الله عنها في عدم إفشائها أسرار بيتها ولو لأبيها النبي صلى الله عليه وسلم ..

    وفي هذا الموقف النبوي مع فاطمة وعلي رضي الله عنهما ظهرت حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في عدم سؤاله لفاطمة رضي الله عنها عما بينها وبين وزوجها، حتى لا تتسع دائرة الخلاف بينهما، وكذلك حسن خُلُقه وكرمه في تلطفه مع زوج ابنته مع وجود شيء بينهما، فمن حكمة الأب مع زوج ابنته أن ينظر إليه ويشعره أنه بزواجه من ابنته قد أصبح ابناً من أبنائه، وفرداً من أفراد الأسرة، فيكون صهره موضع إكرامه وتقديره،
    قال ابن حجر في فتح الباري في كلامه حول هذا الموقف النبوي: "وفيه كرم خلق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه توجه نحو عليّ ليترضَّاه، ومسح التراب عن ظهره ليبسطه، وداعبه بالكنية المذكورة المأخوذة من حالته، ولم يعاتبه على مغاضبته لابنته مع رفيع منزلتها عنده، فيؤخذ منه استحباب الرفق بالأصهار، وترك معاتبتهم إبقاء لمودتهم".

    لقد كانت عَلاقة النبي صلى الله عليه وسلم ببناته وأزواجهن عَلاقة قائمة على الحب والحنان، والاهتمام والمودة، وكان من هديه صلى الله عليه وسلم مع بناته بعد زواجهن زيارتهن والسؤال عنهن، والتدخل للإصلاح بينهن وبين أزواجهن إن وُجِدَت مشكلة وعَلِم بها، بشكل يضمن إعادة الود والصفاء إلى جو الأسرة ـ
    إن رأى وكانت المصلحة في التدخل بينهما ـ ..

    ====================================

    موقفه صل الله عليه وسلم عندما تذكر وهو في المسجد أن في بيته شئ من تبر ..

    (ذَكَرْتُ شيئاً من تِبْرٍ عندنا، فكَرِهْتُ أن يَحْبسني، فأمرتُ بقِسْمته)


    من هَدْي وسُنة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجلس مكانه بعد انتهائه من صلاته بعض الوقت، والصحابة رضوان الله عليهم حفظوا عنه أنه إذا انتهى من صلاته ظلَّ في مكانه يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله،
    ففي "صحيح مسلم" عن ثوبان رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً، وقال: (اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام).
    لكن هذه السُنَّة تغيرت يوماً، إذ قام النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة بعد سلامه وانتهائه من صلاة العصر مسرعاً متجهاً إلى بيته، فما السبب الذي جعله يفعل ذلك؟!

    يجيب عن هذا التساؤل عقبة بن الحارث رضي الله عنه فيقول: (صَلَّيْتُ وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر، فسلَّم ثم قام مسرعاً، فتخطَّى رقاب الناس (مرَّ بهم وهم جلوس) إلى بعضِ حُجَرِ (جمع حجرة) نسائه، ففَزِعَ الناس من سرعته! فخرج عليهم، فرأى أنهم عَجِبوا مِن سُرْعته،
    فقال: ذَكَرْتُ شيئاً من تِبْرٍ (ذهب أو فضة) عندنا، فكَرِهْتُ أن يَحْبسني، فأمرتُ بقِسْمَته) رواه البخاري.
    وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم: (كنت خلَّفت (تركت خلفي) في البيت تِبراً من الصدقة، فكرهتُ أن أبيِّته (أتركه حتى يدخل عليه الليل)، فقسمتُه).
    وقد ذكر البخاري هذا الموقف والحديث النبوي تحت باب: "من صلى بالناس فذكر حاجة فتخطاهم" عقب باب: "مكث الإمام في مصلاه بعد السلام".

    قال ابن بطال: "فيه أن الخير ينبغي أن يُبادر به، فإن الآفات تعرض، والموانع تمنع، والموت لا يؤمَن، والتسويف غير محمود. زاد غيره: وهو أخلص للذمة، وأنفى للحاجة، وأبعد من المطل المذموم، وأرضى للرب، وأمحى للذنب".
    وقال ابن عثيمين: "في هذا الحديث المبادرة إلى فعل الخير، وألا يتوانى الإنسان عن فعله، وذلك لأن الإنسان لا يدري متى يفاجئه الموت، فيفوته الخير، والإنسان ينبغي أن يكون كَيِّساً، يعمل لما بعد الموت ولا يتهاون، وإذا كان الإنسان في أمور دنياه يكون مسرعاً وينتهز الفرص، فإن الواجب عليه في أمور أخراه أن يكون كذلك بل أولى".

    ومن فوائد هذا الموقف النبوي:

    ـ ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الزهد في الدنيا، وحرصه على التقلُّل منها، وهذا الذهب الذي كان في بيته لم يكن يملكه، ولكنه كان من أموال الصدقة، فقد عاش نبينا صلى الله عليه وسلم زاهداً في الدنيا، وقد خيَّره ربه عز وجل بين أن يكون ملِكاً رسولاً أو عبداً رسولاً، فاختار أن يكون عبداً رسولاً، وذلك حين أرسل إليه مَلَكاً فسأله: (يا محمد! أرسلني إليك ربك: أملِكاً أجعلك أم عبداً رسولاً؟ قال له جبريل: تواضع لربك يا محمد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل عبداً رسولاً) رواه أحمد وصححه الألباني.

    ـ مراعاة الإنسان مشاعر مَن حوله، وإخبارهم بما رأوه منه من أمرٍ غريبٍ عليهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى دهشة أصحابه واستغرابهم من فعْله، بيَّن لهم حِكمة فِعله، وسبب تصرُّفه الذي شاهدوه واستغربوه من خروجه مسرعاً بعد انتهائه من الصلاة مباشرة، فقال: (ذَكَرْتُ شيئاً من تِبْرٍ عندنا، فكَرِهْتُ أن يَحْبسني، فأمرتُ بقِسْمته
    قال ابن رجب: "فيه دليل على أن الإسراع بالقيام عقب السلام من غير تمهل لم يكن من عادة النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا تعجبوا من سرعته في هذه المرة، وعلم منهم ذلك، فلذلك أعلمهم بعذره".
    جواز تخطي الرقاب في المسجد لعذر شرعي ..
    كالرعاف وحرقة البول، والغائط، أو تذكر أمر هام. قال ابن بطال مُسْتَخْلِصاً من هذا الموقف النبوي ما فيه من أحكام: "مباح للإمام إذا سلم أن ينصرف إن شاء قبل انصراف الناس. وفيه: أن التخطى بما لا غنى بالإنسان عنه مباح فعله. وقال المهلب: التخطى لا يكون مكروهاً إلا فى موضع يشتغل الناس فيه عن الصلاة أو عن الخطبة، فحينئذ يكره التخطى من أجل شغل الناس بمن تخطاهم عما هم فيه من الذكر والاستماع، وقد تحضر الإنسان ضرورة حقن، أو ذكر حاجة يخشى فوتها، فيستجاز التخطى فى ذلك كالراعف والمُحْدث يخرج من بين الصفوف"،
    وقال العيني: "فيه: إباحة تخطي رقاب الناس من أجل الضرورة التي لا غنى للناس عنها، كرعاف وحرقة بول، أو غائط، وما أشبه ذلك".

    ـ جَوَاز الِاسْتِنَابة مَعَ الْقُدْرَة على الْمُبَاشرة؛ .
    وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (ذَكَرْتُ شيئاً من تِبْرٍ عندنا، فكَرِهْتُ أن يَحْبسني، فأمرتُ بقِسْمَته
    قال العيني: "وفيه: جواز الاستنابة مع القدرة على المباشرة.
    وفيه: أن من حبس صدقة المسلمين من وصية أو زكاة أو شبههما يخاف عليه أن يُحبس في القيامة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (فكرهت أن يحبسني)، يعني: في الآخرة،
    ومنه قال ابن بطال: إن تأخير الصدقة يحبس صاحبها يوم القيامة".
    وقال ابن عثيمين: "وفي هذا الحديث أيضاً دليل على جواز التوكيل في قَسْم ما يجب على الإنسان قسمته، ولهذا قال: (فأمرت بقسمته)".

    ـ الاستعجال ليس مذموماً دائماً، بل منه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم، والاستعجال المحمود يكون في أمور الخير وأعمال الآخرة،
    قال الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمران:133)،
    ومن الاستعجال المحمود: الاستعجال في أداء الحقوق إلى أصحابها،
    ولذلك لما تذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من ذهب الصدقة عنده في بيته خرج بعد الصلاة مسرعاً، وقام بتقسيمه وتوزيعه، وقال: (كنت خلَّفت (تركت خلفي) في البيت تِبراً من الصدقة، فكرهتُ أن أبيِّته (أتركه حتى يدخل عليه الليل).

    ما أحوجنا إلى دراسة السيرة النبوية، واستلهام الفوائد والدروس والعبر منها، فليست سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم مجرد أحداث ومواقف وقصص وقعت وانتهت، بل الأمر أكبر وأعظم من ذلك، إنها سيرة خير البشر، وأفضل الرسل، التي حفظها الله تعالى لنا لنستضيء بنورها، ونسير على طريقها، وقد أمرنا ربنا عز وجل أن نتأسى ونقتدي به صلى الله عليه وسلم
    فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} (الأحزاب:21).
    ================================
    التالي : -
    موقفه صل الله عليه وسلم في من يشق علي نفسه في العباده .

    (( إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغَنِيٌّ . ))


    لا تنسونا من صالح دعائكم

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5347
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود موقفه صل الله عليه وسلم في من يشق علي نفسه في العباده . (( إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغَنِيٌّ . ))

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس أكتوبر 03, 2024 10:25 pm

    ما قبله :-

    موقفه صل الله عليه وسلم في من يشق علي نفسه في العباده .
    (( إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغَنِيٌّ . ))


    ليس للمسلم أن يعبد الله تعالى إلا بما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أُمِرْنا بالاتباع ونُهينا عن الابتداع، وذلك لكمال دين الإسلام، والاغتناء بما شرعه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا}(المائدة: 3)،
    وقال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(آل عمران:31)،
    وقال تعالى: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(الحشر: 7).
    قال ابن كثير: "أي مهما أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمركم بخير وإنما ينهى عن شر".
    وقال السعدي: "وهذا شامل لأصول الدين وفروعه، ظاهره وباطنه، وأن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يتعين على العباد الأخذ به واتباعه، ولا تَحِلّ مخالفته".
    وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ) رواه مسلم،
    وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خُطبتِه: (..إنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمّدٍ وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكل محدثة بدعة كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار..) رواه النسائي وصححه الألباني.
    قال ابن تيمية:"وجماع الدين أصلان: أن لا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع ..
    وذلك تحقيق الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمداً رسول الله، ففي الأولى أن لا نعبد إلا إياه، وفي الثانية أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو رسوله المُبّلِّغ عنه، فعلينا أن نصدق خبره ونطيع أمره، وقد بين لنا ما نعبد الله به، ونهانا عن محدثات الأمور، وأخبر أنها ضلالة".

    مدار الأمر في فلاح العبد ونجاته ليس على كثرة العبادة والتشدد فيها، أو التهاون بها والتفريط فيها، ولكن على اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم دون تفريط أو مغالاة، أو زيادة أو نقصان، فالسنة النبوية الشريفة أصلها التوازن والتوسط والاعتدال، والمواقف النبوية من سيرته وحياته صلى الله عليه وسلم الدالة على ذلك كثيرة، منها:

    ـ عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيخا يُهادى بين ابنيه فقال: (ما بال هذا؟! قالوا: نذر أن يمشي، قال: إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغَنِيٌّ، وأمره أن يركب) رواه البخاري.
    وأما المقصود من قوله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ لك من الأجرِ على قدْرِ نَصَبِك (تعبك) ونفقتك): هذا إذا كانت المشقة ملازمة للعبادة، بحيث لا يمكن القيام بالعبادة إلا مع تحمل هذه المشقة، فكلما زادت المشقة زاد معها الأجر والثواب ـ كالصيام مثلاً ـ،
    قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم: (عَلى قَدْر نَصَبِك ونفقتك) هذا ظاهر في أن الثواب والفضل في العبادة يَكْثُر بِكَثْرة النَّصَب وَالنَّفَقة, والمراد النَّصَب (التعب) الَّذِي لا يَذُمّه الشَّرْع, وكذا النفقة".

    ـ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس، فسأل عنه قالوا هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، قال: مروه فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه) رواه أبو داود وصححه الألباني.
    قال الخطابي: "قد تضمن نذره نوعين الطاعة والمعصية، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء بما كان منها من طاعة وهو الصوم، وأن يترك ما ليس بطاعة من القيام في الشمس وترك الكلام وترك الاستظلال بالظل، وذلك أن هذه الأمور مشاق تتعب البدن وتؤذيه، وليس في شيء منها قربة إلى الله تعالى".
    وقال ابن تيمية: "قول بعض الناس: الثواب على قدر المشقة ليس بمستقيم على الإطلاق، كما يستدل به طوائف على أنواع من الرهبانيات والعبادات المبتدعة، التي لم يشرعها الله ورسوله، من جنس تحريمات المشركين وغيرهم ما أحل الله من الطيبات، ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (هلك المتنطعون)..
    مثل حديث: أبي إسرائيل الذي نذر أن يصوم .. فكثيراً ما يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب، لا لأن التعب والمشقة مقصود من العمل، ولكن لأن العمل مستلزم للمشقة والتعب، هذا في شرعنا الذي رُفِعَت عنا فيه الآصار والأغلال، ولم يجعل علينا فيه حرج،
    ولا أُرِيد بنا فيه العسر".

    ـ روى البخاري ومسلم عن عقبه بن عامر رضي الله عنه قال: (نذرَتْ أختي أن تمشي إلى بيت الله الحرام حافية، فأمرتني أن أستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته، فقال: لِتمشِ ولْتركبْ) رواه مسلم.

    ـ وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت (كسلت وضعفت عن الصلاة) تعلقت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، حلوه لِيُصَلِّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد) رواه البخاري.

    لما نزل قول الله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}(الفتح:2)،
    قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد نزلت عليَّ آية أحبّ إليَّ مما على الأرض، ثمَّ قرأَها النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، فقالوا: هنيئاً مرياً يا رسول الله، قد بيَّنَ اللَّهُ لَكَ ماذا يفعل بِك، فماذا يفعل بنا؟! فنزلت عليه: {لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزًا عَظِيمًا}(الفتح:5)) رواه الترمذي وصححه الألباني.
    وقد ظَنَّ بعض الصحابة أَن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم كانت قليلة لكونه قد غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخّر كما قال الله تعالى، فلا يحتاج بعدئذ إلى مزيد من العبادة، أَما هم فليس الشأن فيهم كذلك، ولذا ينبغي عليهم أن يشددوا على أنفسهم، ويُشَمِّروا عنْ ساعدِ الجدِّ في العبادة والطاعة، ولو كان ذلك على حساب مجاوزة هديه وسنته صلى الله عليه وسلم، اجتهاداً منهم رضوان الله عليهم رجاء أن يغفر الله لهم،
    فصحَّح النبي صلى الله عليه وسلم لهم ولمن يأتي بعدهم هذا الخطأَ، وذلك من خلال مواقف كثيرة بين لهم فيه: أَنّه ليس للمسلم أن يعبد الله تعالى إلا على هديه وسنته وبما شرعه صلوات الله وسلامه عليه دون تفريط أو إفراط.
    وهديه صلى الله عليه وسلم في العبادة التي حسبها بعض الصحابة قليلة لم يكنْ نتيجة لغفران ما تقدَّمَ من ذنبه وما تأخَّر، وإنِّما هو سنته المبنية على الوسطية ـ دون تقصير أو مغالاة ـ التي هي من خصائص سيرته وحياته صلى الله عليه وسلم وربَّى عليها أصحابه، والتي جاء الإسلام بها كما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}( البقرة: 143).
    وعن أنس رضي الله عنه قال: (جاء ثلاثة رهط (جمع دون العشرة من الرجال) إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنّهم تقالّوها (استقلوها)، فقالوا: وأين نحن من النّبي صلى الله عليه وسلم، قد غُفِرَ له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر،
    قال أحدهم: أمّا أنا فإنّي أصلي اللّيل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدّهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النّساء فلا أتزوّج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: أنتم الّذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله إنّي لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنّي أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوّج النّساء، فمن رغب (أعرض استهانة وزهدا فيها, لا كسلا) عن سنّتي فليس منّي) رواه البخاري.

    المسلم يعبد الله تعالى بما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هديه وسنته، والسنة النبوية ـ قوله وفعله وتقريره صلوات الله وسلامه عليه ـ هي سفينة النجاة وبر الأمان من ركبها سَعِدَ ونجا، ومن تخلف عنها شقِيَ وغرق،
    عن الزُّهْرِيِّ قال: "كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة"،
    وقال مالك: "السُنَّة سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق".
    وقال ابن قدامة: "وفي اتباع السنة بركة موافقة الشرع، ورضا الرب سبحانه وتعالى،
    ورفع الدرجات، وراحة القلب، ودعة البدن، وترغيم الشيطان، وسلوك الصراط المستقيم".
    ==================================
    موقفه  صلى الله عليه وسلم مع أم مِحْجَن رضي الله عنها .

    (( أفلا كنتم آذنتموني  دُلُّوني على قبرها .


    أم مِحْجَن رضي الله عنها، امرأة سوداء، لم يرد لها في السيرة النبوية تسمية سوى "أم محجن، أو محجنة"، كانت من ضعفة ومساكين أهل المدينة المنورة الذين ليس لها نسب تعتز به، ولا يُفْتَقدون إذا غابوا، وكانت تقوم بتنظيف المسجد النبوي من الأذى،
    قال ابن الأثير: " مِحْجَنَةُ امرأة سوداء، كانت تَقُمُّ المسجد، فتوفِّيَت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم".
    وقال ابن حجر في كتابه "الإصابة في تمييز الصحابة": "مِحْجَنَةُ: وقيل أم مِحْجَن، امرأة سوداء كانت تقمّ المسجد، وقع ذكرها في الصّحيح بغير تسمية".

    وللنبي صلى الله عليه وسلم مع أم محجن رضي الله عنها موقف سجلته كتب السيرة النبوية، ففي إحدى الليالي ماتت رضي الله عنها، فصلى عليها جمعٌ من الصحابة رضوان الله عليهم، ودفنوها ولم يخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بأمرها، فافتقدها النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عنها، اهتماماً بها، وإكباراً وتعظيماً لشأنها وما كانت تفعله من تنظيفها للمسجد، فأخبره أصحابه بما كان منهم تجاهها، فقال صلى الله عليه وسلم: (دلوني على قبرها)، ثم أتى قبرها حتى وقف عليه وصلَّى عليها..
    وقد روى مسلم في صحيحه هذا الموقف النبوي عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن امرأة سوداء كانت تقم (تنظف) المسجد ـ أو شاباً ـ ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عنها ـ أو عنه ـ فقالوا: مات (ماتت) قال: أفلا كنتم آذنتموني (أعلمتموني)، قال: فكأنهم صَغَّروا أمرَها (أو أمرَه)، فقال: دُلُّوني على قبرها، فدَلُّوه، فصلى عليها، ثم قال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله تعالى يُنوِّرُها لهم بصلاتي عليهم) راه مسلم.
    وفي رواية للنسائي وصححها الألباني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: (اشتكت امرأة بالعوالي مسكينة, فكان النبي صلى الله عليه وسلم يسألهم عنها, وقال: إن ماتت فلا تدفنوها حتى أصلى عليها, فتوفيت, فجاءوا بها إلى المدينة, بعد العتمة, فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نام, فكرهوا أن يوقظوه, فصلوا عليها, ودفنوها ببقيع الغرقد, فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءوا, فسألهم عنها, فقالوا: قد دفنت يا رسول الله, وقد جئناك, فوجدناك نائماً, فكرهنا أن نوقظك, قال: فانطلقوا، فانطلق يمشي, ومشوا معه, حتى أروه قبرها, فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم, وصفوا وراءه, فصلى عليها, وكبر أربعا).
    وفي رواية عن ثابت عن أبى رافع عن أبى هريرة رضي الله عنه أن: (رجلاً أسود أو امرأة سوداء).

    أكثر روايات الحديث على أنها امرأة سوداء ـ تُسَمَّى أم محجن رضي الله عنها ـ،
    قال ابن حجر: "قوله أن (رجلا أسود أو امرأة سوداء) الشك فيه من ثابت لأنه رواه عنه جماعة هكذا ..
    ورواه ابن خزيمة من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة فقال: (امرأة سوداء) ولم يشك،
    ورواه البيهقي بإسناد حسن من حديث ابن بريدة عن أبيه فسماها: أم محجن". وقال: " وفي الحديث فضل تنظيف المسجد, والسؤال عن الخادم والصديق إذا غاب، وفيه المكافأة بالدعاء، والترغيب في شهود جنائز أهل الخير، وندب الصلاة على الميت الحاضر عند قبره لمن لم يُصلِّ عليه, والإعلام بالموت".
    وقال القاضى عياض: "وفى حديث السوداء هذا: ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من تفقد أحوال ضعفاء المسلمين، وما جُبِلَ عليه من التواضع والرأفة والرحمة بأمته".
    وقد ذكر ابن عثيمين لهذا الموقف النبوي فوائد كثيرة، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يعظم الناس بحسب أعمالهم، وما قاموا به من طاعة الله وعبادته.. ومنها: جواز تولي المرأة لتنظيف المسجد، وأنه لا يُحْجَر ذلك على الرجال فقط، بل كل من احتسب ونظف المسجد فله أجره، سواء باشرته المرأة، أو استأجرت من يقم المسجد على حسابها..
    ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، ولهذا قال: (دلوني على قبرها)، فإذا كان لا يعلم الشيء المحسوس فالغائب من باب أولى، فهو صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب،
    وقد قال الله له: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} (الأنعام: 50)..
    ومنها: مشروعية الصلاة على القبر لمن لم يصلِّ عليه قبل الدفن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج فصلى على القبر حيث لم يصلّ عليها قبل الدفن .. ومنها: حسن رعاية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، وأنه كان يتفقدهم ويسأل عنهم، فلا يشتغل بالكبير عن الصغير، كل ما يهم المسلمين فإنه يسأل عنه صلى الله عليه وسلم.

    تفقد الغائب:

    تَفَقُّدُ الشخصِ هو: السؤال عنه، ومعرفة سبب غِيابه، وتقديم يد العون له إذا كان في حاجة وشدة، وزيارته إن كان مريضاً، وهو خُلُقٌ نبوي كريم، فمن شمائله وصفاته صلى الله عليه وسلم التي عُرِف بها أنَّه: (يَتفَقَّد أصحابَه، ويسأل الناسَ عمَّا في الناس) رواه الطبراني،
    فمع عظيم انشِغاله ومسئولياته فإن من هديه وسنته صلى الله عليه وسلم السؤال عمَّن غاب، وهذا كثيرٌ في سيرته المشرفة، فعن أنس بن مالك رضِي الله عنه: "أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم افتَقَد ثابت بن قيس، فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك عِلمَه..) رواه البخاري،
    وعن عبد الله بن بُرَيْدَةَ عن أبيه رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يَتَعهَّد الأنصار ويَعُودُهم ويَسأل عنهم) رواه الحاكم وحسنه الألباني،
    ومن ذلك تَفَقُّده صلَّى الله عليه وسلم لأم محجن رضي الله عنها.

    لا تحتقر من المعروف شيئا:

    لم يكن أم محجن أن تُعْرَف ويُذْكَر اسمها في السيرة النبوية ويعرفه المسلمون إلا لعملها الذي كانت تقوم به، والذي قد يبدو حقيراً في أعين بعض الناس، ومن ثم ففي هذا الموقف النبوي معها عنها رسالةٌ إلى كلِّ مسلم:
    ألاَّ يحتَقِر من العمل شيئاً، فرُبَّ عملٍ صالح صغَّرَتْه الأعين، كان سبباً لرضا الرحمن، والفوز بالجنان،
    ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (لا تحتقر من المعروف شيئا) رواه مسلم،
    وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عُرِضَت عليَّ أعمال أمتي حَسَنُها وسيئُها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق) رواه مسلم.

    لقد كانت أم محجن رضي الله عنها امرأة ضعيفة مسكينة، تنظف المسجد، وتلتقط منه الأذى، ومع ذلك سأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أُخْبِرَ بموتها ودفنها،
    قال لأصحابه الذين قاموا بدفنها: (دلّوني على قبرها)، ولم يقف الموقف النبوي عند حدود السؤال، بل قام صلوات الله وسلامه عليه بالذهاب إلى قبرها، وصلّى عليها مع بعض أصحابه، مع استغفاره ودعائه لها، لتحظى في قبرها بالنور الذي يزيل عنها ظلمة القبر ووحشته، فصلاته ودعاؤه صلى الله عليه وسلم لها سكن ورحمة، ونور وضياء..
    فهنيئاً لأم محجن رضي الله عنها هذا الجزاء الذي تتطلع إليه القلوب، وتشرئب نحوه الأعناق، كيف لا؟
    وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ هذه القُبُور مملوءَة ظلمَة على أهلها، وإنَّ الله عزَّ وجلَّ يُنوِّرُها بصلاتي عليهم) رواه مسلم.

    =================================
    موقفه صل الله عليه وسلم  من تغير الاسم القبيح إلى الاسمِ الحسن .
    (( ما اسمك؟ قال: اسمي حَزْنٌ، قال: بل أنتَ سَهْلٌ .



    من الخطأ الشديد الذي يقع فيه البعضُ اختياره اسماً قبيحاً لابنه، يحمل معنى سيئاً يتأذى منه في صِغَرِهِ وكِبَرِه، إمَّا لغرابته،
    أو لِما يَحويه من معانٍ تدلُّ على عدم الخير، أو الغلظة، أو غير ذلك من المعاني المكروهة للنُّفوس..
    وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتسمية المولود باسم حسنٍ، لأن الاسم الحسن يترك انطباعاً حسناً لصاحبه وللسامعين، كما نهى صلى الله عليه وسلم عن تسميته باسم قبيح أو اسم غير جائز شرعا،
    فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -أحب الأسماء إلى الله تعالى: عبد الله وعبد الرحمن) رواه أبو داود، وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا تُسمِّينَّ غلامَك يَساراً، ولا رَباحاً، ولا نَجيحاً، ولا أفلحَ، فإنك تقول: أثَمَّ هُوَ؟ فلا يكون) رواه مسلم.

    ولم يَكُن اعتناء النبي صلى الله عليه وسلم بالاسم الحَسَن مقتصراً على الأطفال فقط، بل كان للرجال والنساء والعجائز نصيب من ذلك الهَدْي النبوي، فقد غيَّر صلوات الله وسلامه عليه أسماء بعض الأسماء القبيحة أو المحرمة لبعض الصحابة إلى أسماء حسنة طيبة,
    فقد أخرج الترمذي وصححه الألباني في: "باب ما جاء في تغيير الأسماء" عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغير الاسم القبيح
    وقال ابن القيم في كتابه "تحفة المودود" :""وهذا باب عجيب من أبواب الدين، وهو العدول عن الاسم الذي تستقبحه العقول، وتنفر منه النفوس، إلى الاسم الذي هو أحسن منه والنفوس إليه أمْيَل،
    وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الاعتناء بذلك".
    وقال المناوي في فيض القدير: "كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يشتد عليه الاسم القبيح ويكرهه، من مكان، أو قبيلة، أو جبل، أو شخص".

    وقد شمل اعتناء النبي صلى الله عليه وسلم بتغيير أسماء بعض الناس إلى تغيير أسماء بعض القرى والأماكن إذا كان اسمها قبيحاً أو سيئاً،
    فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان إذا سمع اسما قبيحا غيره، فمر على قرية يقال لها: عَفْرَة فسماها خضِرَة) صححه الألباني.
    وكذلك غير صلى الله عليه وسلم اسم يثرب إلى: المدينة، وطابة، وطيبة، وسبب هذه الكراهة أن يثرب إما من التثريب الذي هو التوبيخ والملامة، أو من الثرب وهو الفساد، وكلاهما مستقبح،
    فعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عاد من تبوك فأشرف على المدينة قال: هذه طابة) رواه البخاري،
    قال ابن القيم: "ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واسمها يثرب لا تعرف بغير هذا الاسم غيره بطيبة لما زال عنها ما في لفظ يثرب من التثريب، بما في معنى طيبة من الطيب".

    وقد ورد في السيرة النبوية الكثير من المواقف والأحاديث لبعض الأسماء التي غيرها النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها:

    ـ روى البخاري في "الأدب" أبو داود وابن حبان عن سعيد بن المسيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ما اسمك؟ قال: اسمي حَزْنٌ، قال: بل أنتَ سَهْلٌ، قال: ما أنا بمُغيرٍ اسماً سمانيه أبي، قال: قال ابنُ المُسَيَّب: فما زالت فينا الحُزونَةُ بعدُ).
    قال ابن الجوزي: "الْحزن: مَا غلظ من الأَرْض، وَيُقَال: فِي خلق فلَان حزونة: أَي غلظة وقساوة، وكأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كرِهَ الِاسْم لهذا المَعْنى فأبدله بضده تفاؤلا، فَأبّىّ الرجل". وفي "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح":
    "قال ابن المسيب: (فما زالت فينا) أي: معشر أولاده، (الحزونة) أي: صعوبة الخُلُق، (بعد) أي: بعد إباء أبي اسم السهل من النبي صلى الله عليه وسلم".
    وقال ابن حجر في فتح الباري: "وقال ابن بطال: فيه أن الأمر بتحسين الأسماء وبتغيير الاسم إلى أحسن منه ليس على الوجوب".

    ـ وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو عندي, فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أنتِ؟ قالت: أنا جَثَّامَةُ الْمُزَنِيَّة، فقال: بل أنت حسانة المزنية) رواه الحاكم وصححه الألباني. جثامة: اسم ثقيل يجمع في معناه أشياء كثيرة وكريهة من البلادة والكسل والكابوس.

    ـ وأخرج مسلم في كتاب الأدب: "باب استحباب تغيير الاسم إلى الحسن"
    عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير اسم عاصية، وقال: أنتِ جميلة).
    وروى البخاري في الأدب المفرد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (أنه ذُكِرَ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل يقال له: شهاب, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أنت هشام)، ومعنى شهاب: كلُّ مضيء متولد ضياؤه من النار، قال الخطابي: "الشهاب: الشعلة من النار".

    ـ وعن أسامة بن أخدري أن رجلا يقال له أصرم كان في النفر الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما اسمك؟ قال: أنا أصْرم, قال: بل أنت زُرْعَة) رواه أبو داود وصححه الألباني. وقد كره النبي صلى الله عليه وسلم اسم أصْرم، لما فيه من معنى الصَرْم، وهو القطع، وسماه: زُرعة، لأنه من الزرع، والزرع: النبات، وهو ضد القطع.

    الثابت والمعلوم من هدي نبينا صلى الله عليه وسلم وسيرته المشرفة أنه كان يحب الاسم الحسن، ويكره الاسم الذي يتضمن قُبْحاً وغلظة، أو الذي يتضمن شركاً، أو رضا بالمعصية، أو يشتمل على تزكية، ويغيِّره إلى اسم حسن طيب، فعن هانيء بن يزيد رضي الله عنه: أنه لما وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه، سمعهم النبي صلى الله عليه وسلم يُسَمُّون رجلاً منهم عبد الحجر،
    فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما اسمك؟ قال: عبد الحجر، قال: لا، أنت عبد الله) رواه البخاري في الأدب المفرد.
    قال ابن القيم في "زاد المعاد": وثبت أنه غيَّر اسم عاصية، وقال: أنت جميلة. وكان اسم جويرية: برة، فغيَّره باسم جويرية. وقالت زينب بنت أبي سلمة: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمى بهذا، فقال: لا تزكوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البر منكم ..
    قال أبو داود: وغيَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم اسم العاصي وعزيز وعَتَلَة وشيطان، والحكم، وغراب، وحبَّاب، وشهاب، فسماه هشاماً، وسمى حرباً سِلماً، وسمى المضطجع المنبعثَ، وأرضاً تسمى عفرَة سماها: خضرةَ، وشِعْبَ الضلالة، سماها شِعْبَ الهدى، وبنى الزِّنَية سماهم نبي الرُّشْدَة، وسمَّى بني مُغويَةَ بني رُشد".

    اسم الإنسان عَلَمٌ عليه، وهو أمر مهم في التعريف به، لذا لا بد من الحرص على انتقاء أحب وأجمل الأسماء لفظاً ومعنى لأولادنا ـ البنين والبنات ـ، ولو أن المسلم ـ صغيراً كان أو كبيراً ـ سُمِّيَ باسْمٍ قبيح يزعجه ويؤذيه، وأراد أن يستبدله باسم حسنٍ فليغيره ويستبدله، وهو بذلك مُتّبٍّع لا مُبْتٍدع, فعن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغير الاسم القبيح إلى الاسمِ الحسن)،
    وعن عُتْبَةُ بْنُ عَبْدٍ السُّلَمِيّ رضي الله عنه أنه قال: (كان إذا أتاه الرجل وله اسم لا يحبه حَوَّلَه (غيَّره)) رواه الطبراني وصححه الألباني، وهذا من كمال وجمال أدبه وهديه صلى الله عليه وسلم.
    =====================================
    التالي : -
    موقفه صل الله عليه وسلم مع خلاد بن رافع رضي الله عنه .

    (( ارجِعْ فصَلِّ فإنك لم تُصَلّ
    ))
    ----------------------------------
    لا تنسونا من صالح دعائكم

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع


      الوقت/التاريخ الآن هو السبت أكتوبر 05, 2024 4:23 pm