بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
السيرة النبوية زاخرة بالمواقف التربوية والفوائد الجليلة التي يستفيد المسلم منها في واقع حياته, ويحصل له التأسي والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم.
ومن هذه المواقف موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين ردَّ أبو بكر على رجل وقع فيه بالسبِّ والشتم، فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحلم والصبر وعدم الانتصار للنفس.
عن سعيد بن الْمُسَيِّب رضي الله عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس مع أصحابه، وقع رجل بأبي بكر فآذاه (ذمه وسبَّه)، فصمَتَ عنه أبو بكر، ثم آذاه الثانية، فصمتَ عنه أبو بكر،
ثم آذاه الثّالثة، فانتصر منه أبو بكر (ردَّ عليه)، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتصر أبو بكر، فقال أبو بكر: أوَجدْتَ عليَّ (أغضِبْتَ عليَّ) يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:نزل ملَكٌ من السماء يكذبه بما قال لك، فلما انتصرتَ وقع الشيطان (حضر حين ذهب المَلَك)، فلم أكن لأجلس إذْ وقع الشّيطان) رواه أبو داود وحسنه الألباني.
وفي رواية أخرى: (أن رجلا شتم أبا بكر والنبى صلى الله عليه وسلم جالس يعجب ويتبسم (من شتم الرجل وقلة حيائه)، فلما أكثر ردّ (أبو بكر) عليه بعض قوله، فغضب النبى صلى الله عليه وسلم وقام،
فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله، كان يشتمنى وأنت جالس، فلما رَدَدْتُ عليه بعض قوله غَضِبْتَ وَقُمْتَ!!
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان معك مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْك، فلما رددْتَ عليه وقع الشيطان (أى حضر)، فلمْ أَكُنْ لِأَقْعُدَ مع الشّيطان.
ثم قال: يا أبا بكر ثلاث كلهن حق: مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلَمَةٍ فَيُغْضي (أى يعفو) عنها لله عز وجل إلا أعزَّ الله بها نصره، وما فتح رجل باب عطيّة (أى باب صدقة يعطيها لغيره) يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة، وما فتح رجل باب مسألة (أى يسأل الناس المال) يريد بها كثرة إلا زاده الله بها قلّة) رواه أحمد والبيهقي وحسنه الألباني.
لقد انتصر أبو بكر رضي الله عنه لنفسه من الرجل الذي وقع فيه وسبه ـ بعد المرة الثالثة ـ، ولكن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أراد لأبي بكر الفضيلة وحصول الأجر والثواب،
فالسبب الأول لقيام النبي صلى الله عليه وسلم وانصرافه بعد رد أبي بكر على الرجل الذي سبه وشتمه:
أنه صلى الله عليه وسلم أراد لأبي بكر ألا ينتصر لنفسه ويرد على الرجل، وأن يأخذ بالأفضل، وبالكمال المناسب لمنزلته وفضله،
والسبب الثاني في قيامه صلى الله عليه وسلم: أنه لا يحضر مجلسا حضر فيه الشيطان،
وقد قال لأبي بكر: (فلما انتصرتَ (رددتَ) وقع الشيطان، فلم أكن لأجلس إذْ وقع الشيطان).
قال الهروي في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح": "(يتعجب) أي: من شتم الرجل وقلة حيائه، أو مِنْ صبر أبي بكر وكثرة وفائه،
(ويتبسم): لما يرى من الفرق بين الشخصين وما يترتب على فعلهما من العقوبة الكاملة والرحمة النازلة ..
(فلما أكثر) أي: الرجل في مقاله (رد) أي: أجاب أبو بكر (عليه) أي: على الرجل (بعض قوله): عملا بالرخصة المُجَوِّزة للعوام وتركاً للعزيمة المناسبة لمرتبة الخواص،
قال الله تعالى- {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ}(الشُّورى:40:39)،
وقال عز وجل - {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}(النحل:126).
وهو (أبو بكر) رضي الله عنه وإن كان جمع بين الانتقام عن بعض حقه وبين الصبر عن بعضه، لكن لمَّا كان المطلوب منه الكمال المناسب لمرتبته من الصديقية ما استحسنه صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى قوله: (فغضب النبي صلى الله عليه وسلم) أي: تغير منه تغيُّر الغضبان، (وقام) أي: من ذلك المجلس وخلاهما عملا بقول الله تعالى - {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ}(القصص:55)،
(فلحقه أبو بكر) أي: معتذراً ومستفهماً، وقال: (يا رسول الله! كان ..) أي: الرجل (يشتمني): بضم التاء والكسر، (وأنت جالس، فلما ردَدْتُ عليه بعض قوله) أي: من الشتم بعينه أو بما يناسبه (غضبتَ وقُمْتَ):
يعني فما الحكمة في ذلك؟ (قال: كان معك مَلَك يرد عليه) أي: ويدلك على الصبر (فلما رددت عليه) أي: بذاتك ودخل فيه حظ النفس (وقع الشيطان) أي: وطلع الملك، والشيطان إنما يأمر بالفحشاء والمنكر، فخفتُ عليك أن تتعدَّى على خصمك وترجع ظالماً بعد أن كنتَ مظلوماً".
الانتصار للنفس جائز مع عدم التجاوز، والحلم وعدم الانتصار للنفس والعفو أفضل :
ـ قال ابن رسلان في "شرح سنن أبي داود" في شرحه لحديث أبي بكر رضي الله عنه: "فانتصر منه أبو بكر بعد ظلمه له ثلاث مرات، وأخذ بحقه، وجاوبه بمثل ما قال، ولم يجاوز مثل ما قال له، فالمنتصر (لنفسه) مطيع لله بما أباحه له، وقد ذكر الله حدَّ الانتصار فقال= {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}(الشورى:40)..
فمن وقع في عِرْضه إنسان فله حالتان: حالة جواز وإباحة، وهو الانتصار ممن وقع فيه دون عدوان،
وحالة فضيلة وحصول ثواب على صبره، فأبو بكر استعمل فضيلة الجواز بعد ثالثة، فانتصر،
والنبي صلى الله عليه وسلم أراد له حالة الفضيلة وحصول الثواب".
وقال الصنعاني: "وكأنه صلى الله عليه وسلم أحبّ للصديق الصبر والمغفرة .
لقوله تعالى= {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(الشُّورى:43)".
ـ وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسُتْبَّان ما قالا، فعلى البادئ ما لم يعْتَدِ المظلوم) رواه مسلم.
قال النووي: "معناه أن إثم السِباب الواقع من اثنين مختص بالبادئ منهما كله، إلا أن يتجاوز الثاني قدْر الانتصار، فيقول للبادئ أكثر مما قال له.
وفي هذا جواز الانتصار، ولا خلاف في جوازه، وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة، قال الله تعالى = {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ}(الشُّورى:41)، وقال تعالى = {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ}(الشُّورى:39)، ومع هذا فالصبر والعفو أفضل،
قال الله تعالى = {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}(الشُّورى:43)، ولحديث: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عِزَّا)".
ـ وقال السعدي في تفسيره لقول الله تعالى = {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}(الشورى:40): "ذكر الله في هذه الآية، مراتب العقوبات،
وأنها على ثلاث مراتب: عدل وفضل وظلم.
فمرتبة العدل: جزاء السيئة بسيئة مثلها، لا زيادة ولا نقص، فالنفس بالنفس، وكل جارحة بالجارحة المماثلة لها، والمال يضمن بمثله.
ومرتبة الفضل: العفو والإصلاح عن المسيء، ولهذا قال= {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} يجزيه أجراً عظيماً، وثواباً كثيراً، وشرَط اللهُ في العفو الإصلاح فيه، ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني لا يليق العفو عنه، وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته، فإنه في هذه الحال لا يكون مأموراً به،
وفي جعل أجر العافي على الله ما يهيج (يبعث ويشجع) على العفو، وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به، فكما يحب أن يعفو الله عنه، فَلْيَعْفُ عنهم، وكما يحب أن يسامحه الله، فليسامحهم، فإن الجزاء من جنس العمل.
وأما مرتبة الظلم: فقد ذكرها بقوله= {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} الذين يجنون على غيرهم ابتداء، أو يقابلون الجاني بأكثر من جنايته، فالزيادة ظلم".
الحلم والعفو وعدم الانتصار للنفس أفضل، وهو دليل قوة لا ضعف، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لَيْسَ الشَّدِيد بِالصُّرَعة، إِنَّمَا الشَّدِيد الذي يَمْلِكُ نفسه عند الغَضَب) رواه البخاري.
يقول ابن القيم في "مدارج السالكين": "إن العبد يشتد فرحه يوم القيامة بما له قِبَل الناس من الحقوق في المال والنفس والعِرْض، فالعاقل يعد هذا ذخراً ليوم الفقر والفاقة، ولا يبطله بالانتقام الذي لا يجدي عليه شيئا".
وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ اليَهُودِ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ: وَعَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ. قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ». فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ»
وروى ابن أبي حاتم بسنده قال: إن محمد بن واسع قال: قدمت مكة فإذا على الخندق مَنْظَرَة، فأُخِذْتُ فانطلق بي إلى مروان بن المهلب، وهو أمير على البصرة، فقال: "حاجتك يا أبا عبد الله".
قلت حاجتي إن استطعت أن تكون كما قال أخو بني عدي. قال: ومن أخو بني عدي؟ قال: العلاء بن زياد، استعمل صديقًا له مرة على عمل، فكتب إليه: أما بعد فإن استطعت ألا تبيت إلا وظهرك خفيف، وبطنك خميص، وكفك نقية من دماء المسلمين وأموالهم، فإنك إذا فعلت ذلك لم يكن عليك سبيل،
(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[الشورى:42]؛ فقال: صدق والله ونصح، ثم قال: ما حاجتك يا أبا عبد الله؟ قلت: حاجتي أن تلحقني بأهلي. قال: نعم.
من عظيم أخلاق وجميل شمائل نبينا صلى الله عليه وسلم حلمه على من جهل عليه، وعفوه عمن ظلمه، وعدم الانتصار لنفسه أبداً،
وما من حليم إلا عُرِفَت منه زلة، وحُفِظت عنه هفوة، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زاد مع كثرة الإيذاء إلا صبراً وحلماً،
وقد اتسع حلمه حتى جاوز العدل إلى الفضل والعفو مع من أساء إليه وجهل عليه، ومن المعلوم والمشهور عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه كان لا يغضب ولا ينتصر لنفسه أبداً مهما أوذي،
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيءٍ قطُّ (أبداً) إلا أن تُنْتَهَكَ حُرْمةُ الله، فينتقم بها لله) رواه البخاري.
ذهب أهلُ الدُّثورِ بالدرجات العُلى
والسيرة النبوية فيها الكثير من المواقف والأمثلة الدالة على مسارعة الصحابة رضوان الله عليهم إلى الطاعات وتنافسهم في والخيرات..
ومن هذه المواقف ذلك الموقف الذي دار بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين بعض فقراء الصحابة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهلُ الدُّثورِ (أصحاب الأموال الكثيرة) بالدرجات العُلى والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ قالوا: يُصلُّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به مَنْ بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبحون وتكبرون وتحمدون دُبُرَ (عَقِبَ) كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة. قال أبو صالح:
فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) رواه مسلم.
قال ابن الجوزي: "وهذا الحديث يتضمن شكوى الفقراء وغِبْطَتُهُم للأغنياء، كيف ينالون الأجر بالصدقة، وهم لا يقدرون، فأخبرهم أنهم يثابون على تسبيحهم وتحميدهم وأفعالهم الخير كما يثاب أولئك على الصدقة".
وفي رواية أخرى لمسلم عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه: (أنَّ ناسًا من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! ذهب أهلُ الدُّثورِ بالأجور، يُصلُّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضولِ أموالهم،
قال: أو ليس قد جعل اللهُ لكم ما تصدَّقون؟ إنَّ بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرةٍ صدقة، وكل تحميدةٍ صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمرٌ بالمعروفِ صدقة، ونهيٌ عن منكر صدقة، وفي بُضْعِ أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أياتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتُم لو وضعها في حرامٍ أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر).
قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم: (وفي بُضع أحدكم صدقة): هو بضم الباء، ويطلق على الجماع.. وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات".
وقال القرطبي: "ومقصود هذا الحديث: أن أعمال الخير إذا حسُنت النيات فيها تنزلت منزلة الصدقات في الأجور، ولا سيما في حق من لا يقدر على الصدقة. ويُفْهَم منه: أن الصدقة في حق القادر عليها أفضل له من سائر الأعمال القاصرة على فاعلها".
لم يكن قول فقراء الصحابة رضي الله عنهم: (ذهب أهلُ الدُّثورِ بالدرجات العُلى والنعيم المقيم) انطلاقاً من حسدٍ لإخوانهم الأغنياء، أو لرغبة في المال وتطلع إلى الغِنى، ولكن كلامهم خرج مخرج الغِبطة والحرص على فعل الخيرات والطاعات، ليحوزوا المرتبة التي امتاز بها الأغنياء بنفقاتهم وصدقاتهم،
ومثل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق، ورجلٌ آتاه اللهُ الحكمة فهو يَقضي بها ويُعلمُها) رواه البخاري. والحسد هنا يعني الغبطة، وليست من الحسد المذموم، وإنما أطلق عليها الحسد مجازاً،
قال ابن حجر في فتح الباري: "وأما الحسد المذكور في الحديث فهو الغبطة، وأطلق الحسد عليها مجازا، وهي أن يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن يزول عنه، والحرص على هذا يسمى منافسة، فكأنه قال في الحديث: لا غبطة أعظم أو أفضل من الغبطة في هذين الأمرين".
وقال ابن عثيمين: "قوله: (أن أناساً) هؤلاء هم الفقراء قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (ذهب أهل الدثور) أي الأموال الكثيرة (بالأجور) أي الثواب عليها، وليس قصدهم بذلك الحسد، ولا الاعتراض على قدر الله، لكن قصدهم لعلهم يجدون أعمالا يستطيعونها يقومون بها تقابل ما يفعله أهل الدثور".
وقال ابن هبيرة: "قولهم: (ذهب أهل الدثور) يعني أهل الأموال الكثيرة، ثم عللوا ذهاب القوم بالأجور،
فقالوا: يتصدقون بفضول أموالهم. وهذا القول لم يصدر من أولئك السادة الذين وصفهم الله عز وجل بقوله= {الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ}(التوبة:91)
خارجاً مخرج الحسد للأغنياء على ما في أيديهم من الدنيا بل منافسة في الفضيلة، لذلك وصفهم الله عز وجل فقال= {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}(التوبة:92) فنافسوا فيما يتنافس فيه المتنافسون".
وذكر ابن عثيمين الكثير من فوائد هذا الموقف والحديث النبوي، فقال: "من فوائد هذا الحديث: مسارعة الصحابة رضي الله عنهم وتسابقهم إلى العمل الصالح.
أن الصحابة رضي الله عنهم يستعملون أموالهم فيما فيه الخير في الدنيا والآخرة، وهو أنهم يتصدقون. أن الاعمال البدنية يشترك فيها الغني والفقير، لقولهم: (يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم) وهو كذلك، وقد يكون أداء الفقير أفضل وأكمل من أداء الغني.
أن النبي صلى الله عليه وسلم فتح للفقراء أبوابا من الخير، لقوله: (أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به) وذكر الأبواب.
تقرير المخاطب بما لا يمكنه إنكاره، لقوله: (أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به) لأن هذا أبلغ في إقامة الحجة عليه.
أن ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من الأعمال كله صدقة، لكن هذه الصدقة منها واجب، ومنها غير واجب، ومنها متعد (للغير)، ومنها قاصر..
حُسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم حيث ضرب المثل الذي يقتنع به المخاطَب، وهذا من حسن التعليم أن تقرب الأمور الحسية بالأمور العقلية،
وذلك في قوله: (أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)".
لقد فتح النبي صلى الله عليه وسلم للفقراء أبواباً كثيرة من الخير والصدقة، ووسَّع وعمَّم مفهوم الصدقة حتى شملت العادات التي يخلص أصحابها في نياتهم، فالصدقة ليست مقصورة على المال فحسب، بل تشمل كل أنواع المعروف والخير..
ومن المعلوم من أحاديث وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم أن أبواب الصدقة غير مقصورة على ما ورد هنا في حديث الفقراء، بل وردت أعمال أخرى في أحاديث نبوية كثيرة أخذت وصف الصدقة،
منها: التبسم في وجوه الآخرين، وإماطة الأذى والشوك عن طريق الناس، وسقي الماء، وإرشاد الأعمى، وإغاثة الملهوف، والسعي في حاجة الناس، والقرض الحسن، والتفريج عن المسلمين، ونفقة الرجل على أهله، بل إن كل ما هو داخل في لفظة "المعروف" يعتبر صدقة من الصدقات..
خُزَيْمة بن ثابت الأنصاري الأوسي .
صحابي جليل، شهد بدراً وأحداً، يُكَنَّى أبا عمارة، له ثمانية وثلاثون حديثا، تفرد له مسلم بحديث، وروى له الجماعة إلا البخاري، وهو المُلقب في السيرة النبوية بذي الشهادتين، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادته بمثابة شهادة رجلين..
وكان زيد بن ثابت رضي الله عنه يقول: "وكان خزيمة يُدْعَى ذا الشهادتين". ولأبي يعلى عن أنس رضي الله عنه: "أنه افتخر الأوس والخزرج، فقالت الأوس مِنَّا منْ جعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين، وهو خُزَيْمة بن ثابت الأنصاري"..
عن عمارة بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه: (أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ابتاع (اشترى) فرسًا من أعرابيٍّ، واستتبعه ليقبض ثمنَ فرَسه،
فأسرع النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأبطأَ الأعرابيُّ، وطفِق الرجالُ يتعرضون للأعرابي، فيسومونه بالفرس (يريدون أن يشتروه منه)، وهم لا يشعرون أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ابتاعه (اشتراه)، حتى زاد بعضُهم في السومِ على ما ابتاعه به منه،
فنادى الأعرابيُّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال: إن كنتُ مبتاعًا هذا الفرسَ وإلا بعتُه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداءَه، فقال: أليس قد ابتعتُه (اشتريتُه) منك؟ قال: لا واللهِ، ما بعتُكَه، فقال النبيُّ: قد ابتعتُه منك.
فطفِق الناسُ يلوذون بالنبيِّ وبالأعرابيِّ، وهما يتراجعان وطفِق الأعرابي يقول: هلمَّ شاهدًا يشهد أني قد بعتُكَه،
قال خزيمةُ بنُ ثابتٍ: أنا أشهد أنك قد بعتَه.
قال: فأقبل النبيُّ صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: بم تشهد؟ قال: بتصديقِك يا رسول الله،
قال: فجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شهادةَ خزَيمة شهادةَ رجلينِ) رواه النسائي.
وفي رواية الحاكم: (أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ابتاع من سواء بن الحارث المحاربي فرسا فجحده، فشهد له خزيمة بن ثابت، فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: ما حملك على الشهادة ولم تكن معه؟ قال: صدقت يا رسول اللَّه، ولكن صدّقتك بما قلت، وعرفتُ أنك لا تقول إلا حقاً، فقال: مَنْ شهد له خزيمة أو شهد عليه فحسبه) .
وفي رواية لأبي داود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى فرساً من أعرابي، ولم يكن هناك أحد فأنكر الأعرابي بيع الفرس، فشهد خزيمة بأنه باعه،
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تشهد ولم تكن حاضراً؟! قال: يا رسول الله، أُصَدِّقُكَ في كل ما جئت به من الله، أفلا أصدّقك في شراء الفرس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَْن شهد له خُزَيمة فحسبه).
هذا الموقف النبوي مع خزيمة بن ثابت رضي الله عنه كغيره مِنْ مواقفه صلوات الله وسلامه عليه، فيه مِنَ الفوائد الكثير التي ذكرها العلماء، ومنها:
قال ابن القيم: "وفي هذا الحديث عدة فوائد:
منها: جواز شراء الإمام الشيء من رجل من رعيته..
ومنها: مباشرته الشراء بنفسه.. ذا تيقن من غريمه اليمين الكاذبة لم يكن له تعزيره، إذ هو غريمه..
ومنها: الاكتفاء بالشاهد الواحد إذا علم صدقه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال لخزيمة: أحتاج معك إلى شاهد آخر، وجعل شهادته بشهادتين، لأنها تضمنت شهادته لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدق العام فيما يخبر به عن الله، والمؤمنون مثله في هذه الشهادة".
وقال الخطابي: "هذا حديث يضعه كثير مِنَ الناس غير موضعه، وقد تذرَّع به قوم مِنْ أهل البدع إلى استحلال الشهادة لمن عُرِف عنده بالصدق على كل شيء ادَّعاه،
وإنما وجه الحديث ومعناه أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما حكم على الأعرابي بعلمه،
إذْ كان النبي صلى الله عليه وسلم صادقاً باراً في قوله،
وجرت شهادة خزيمة في ذلك مجرى التوكيد لقوله، والاستظهار بها على خصمه، فصارت في التقدير شهادته له وتصديقه إياه على قوله كشهادة رجلين في سائر القضايا".
وفي "عون المعبود شرح سنن أبي داود": "شهادة خزيمة قد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم بشهادتين دون غيره، وهذا المخَصِّص اقتضاه وهو مبادرته دون من حضر من الصحابة إلى الشهادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قَبِل الخلفاء الراشدون شهادته وهي له خاصة".
وقال ابن تيمية: "قال القاضي أبو الطَّيِّب: وإن خص الشارع شخصاً بحكم يبقى الحكم خاصاً به ولا يتعداه إلى غيره بالقياس، كقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ شهد له خزيمة أو شهد عليه فحسبه)، وهذه مَكْرُمَةٌ خاصة بخزيمة بعد شهادته بشهادتين، فلا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُه لأنه كرامة مختصة به، فلا يقاس عليه غيره".
وقال المنذري: " وهذا الأعرابي: هو سواء بن الحارث، وقيل: سواء بن قيس المحاربي، ذكره غير واحد من الصحابة، وقيل: إنه جحد البيع بأمر بعض المنافقين..".
وفي "الروض الأنف في شرح السيرة النبوية"، و"شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية":
"أنه عليه الصلاة والسلام ردَّ الفرس على الأعرابيّ، وقال: لا بارك الله لك فيها، فأصبحت من الغد شائلة برجلها، أي: قد ماتت".
وقال الحافظ السندي في "شرح سنن النسائي": "والمشهور أنه صلى اللَّه عليه وسلم ردّ الفرس بعد ذلك على الأعرابي، فمات من ليلته عنده، واللَّه تعالى أعلم".
وأما السبب في تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم خزيمة بن ثابت رضي الله عنه بقبول شهادته وحده، وجعلها كشهادة رجلين،
فيقول ابن القيم: "وهذا التخصيص إنما كان لِمُخَصَص اقتضاه، وهو مبادرته دون مَنْ حضر مِنَ الصحابة إلى الشهادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بايع الأعرابي،
وكان فرْض على كل مَنْ سمع هذه القصة أن يشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بايع الأعرابي، وذلك من لوازم الإيمان والشهادة بتصديقه صلى الله عليه وسلم،
وهذا مستقر عند كل مسلم، ولكن خزيمة تفطَّن لدخول هذه القضية المعينة تحت عموم الشهادة لصدقه في كل ما يخبر به، فلا فرق بين ما يخبر به عن الله وبين ما يخبر به عن غيره في صدقه في هذا وهذا،
ولا يتم الإيمان إلا بتصديقه في هذا وهذا، فلما تَفَطَّن خزيمة دون مَن حضر لذلك استحق أن تجعل شهادته بشهادتين".
وقال ابن حجر:" وَفِيهِ فَضِيلَةُ الْفِطْنَة في الأمور وأَنَّهَا تَرْفع مَنْزِلة صاحبِها، لِأَنَّ السَّبَب الذي أَبْدَاه خُزَيْمة حَاصِلٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، يَعْرِفُه غَيْرُه مِنَ الصَّحابة، وَإِنَّمَا هو لَمَّا اخْتَصَّ بِتَفَطُّنِه لِمَا غَفَلَ عَنْه غَيْرُه مَع وُضُوحِه، جُوزِيَ على ذلك بِأَنْ خُصَّ بِفَضِيلة: (مَنْ شَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ أَوْ عَلَيْهِ فحسبه)".
وقال ابن القيم: "وأجاز النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بن ثابت وحده بمبايعته للأعرابي، وجعل شهادته بشهادتين لما استندت إلى تصديقه صلى الله عليه وسلم بالرسالة المتضمنة تصديقه في كل ما يخبر به،
فإذا شهد المسلمون بأنه صادق في خبره عن الله، فبطريق الأَوْلَى يشهدون أنه صادق عن رجل من أمته"..
ومعنى كون شهادة خزيمة رضي الله عنه بشهادتين، يعني أن شهادته وحده في الأمور التي لا تثبت إلا إذا شهد عليها رجلان كافية ومقبولة، وقد ظهرت قيمة هذه الخصوصية عندما أراد أبو بكر رضي الله عنه جمْع القرآن الكريم، وأمر زيد بن ثابت رضي الله عنه أن يتتبعه ويجمعه.
عن خارجة بن زيد أنّ زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (نُسِخَتِ الصحفُ في المصاحف، ففقدتُ آيةً مِن سورة الأحزاب كنتُ أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فلم أجدها إلّا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الّذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين،
وهو قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}(الأحزاب:23)) رواه البخاري.
----------------------
لا تنسونا من صالح دعائكم
عدل سابقا من قبل صادق النور في الأربعاء أكتوبر 02, 2024 6:43 pm عدل 2 مرات
أمس في 9:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» وجوب التوكل على الله وخده لا شريك له
أمس في 3:26 pm من طرف عبدالله الآحد
» أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 5:24 pm من طرف عبدالله الآحد
» العبادة وأركانها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 2:55 pm من طرف عبدالله الآحد
» الراجح من أقوال العلماء أن جلسة الاستراحة سنة في الصلاة
الإثنين نوفمبر 18, 2024 2:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» -(( 3 -))- خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
الأحد نوفمبر 17, 2024 10:15 pm من طرف صادق النور
» لا يعلم الغيب إلا الله وحده لا شريك له
الأحد نوفمبر 17, 2024 3:12 pm من طرف عبدالله الآحد
» تابع زبدة التوحيد لنعمان بن عبد الكريم الوتر
السبت نوفمبر 16, 2024 2:15 pm من طرف عبدالله الآحد
» هيئات السجود المسنونة
الخميس نوفمبر 14, 2024 3:24 pm من طرف عبدالله الآحد
» (( - 2 -)) خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
الأربعاء نوفمبر 13, 2024 11:28 pm من طرف صادق النور