آل راشد



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

آل راشد

آل راشد

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
آل راشد

ثقافى-اجتماعى

*** - اللَّهُمَّ اَنَكَ عَفْوٍ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعِفُو عَنَّا - *** - اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك . *** - اللَّهُمَّ اُرْزُقْنَا تَوْبَةً نَصُوحًا قَبْلَ الْمَوْتِ وَ ارْزُقْنَا حُسْنَ الْخَاتِمَةِ . *** -

إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا شَابَتْ عَبِيدَهُمْ.. .. فِي رِقِّهِمْ عَتَقُوهُمْ عِتْقَ أَبْرَارٍ .. .. وَأَنْتَ يَا خَالِقِيُّ أوْلَى بِذَا كَرَمًا.. .. قَدْ شُبْتُ فِي الرِّقِّ فَأَعْتَقَنِي مِنَ النَّارِ .

المواضيع الأخيرة

» التعليق على بعض الأبيات من منظومة السفاريني في العقيدة
(( 3 )) مَوَاقِفُ تَرْبَوِيَّة فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .   Ooou110الأربعاء أكتوبر 30, 2024 8:59 pm من طرف عبدالله الآحد

» تأكيد العمل بسنن الفطرة
(( 3 )) مَوَاقِفُ تَرْبَوِيَّة فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .   Ooou110الأربعاء أكتوبر 30, 2024 2:46 pm من طرف عبدالله الآحد

» الإقعاء منه المكروه ومنه السنة
(( 3 )) مَوَاقِفُ تَرْبَوِيَّة فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .   Ooou110الثلاثاء أكتوبر 29, 2024 2:36 pm من طرف عبدالله الآحد

» النفي في صفات الله سبحانه عز وجل
(( 3 )) مَوَاقِفُ تَرْبَوِيَّة فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .   Ooou110الثلاثاء أكتوبر 29, 2024 11:53 am من طرف عبدالله الآحد

» خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
(( 3 )) مَوَاقِفُ تَرْبَوِيَّة فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .   Ooou110الثلاثاء أكتوبر 29, 2024 11:02 am من طرف صادق النور

» قال الإمام عبد الغني المقدسي فكما لا يثبت إلا بنص شرعي كذلك لا ينفى إلا بدليل سمعي
(( 3 )) مَوَاقِفُ تَرْبَوِيَّة فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .   Ooou110الأحد أكتوبر 27, 2024 3:42 pm من طرف عبدالله الآحد

» (( 1 )) مَوَاقِفُ تَرْبَوِيَّة فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
(( 3 )) مَوَاقِفُ تَرْبَوِيَّة فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .   Ooou110السبت أكتوبر 26, 2024 8:16 pm من طرف صادق النور

» لا يشرع رفع اليدين في السجود والجلوس
(( 3 )) مَوَاقِفُ تَرْبَوِيَّة فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .   Ooou110السبت أكتوبر 26, 2024 4:49 pm من طرف عبدالله الآحد

» نتبع القرآن والسنة ولا نبتدع
(( 3 )) مَوَاقِفُ تَرْبَوِيَّة فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .   Ooou110الجمعة أكتوبر 25, 2024 4:40 pm من طرف عبدالله الآحد

» (( 2 )) مَوَاقِفُ تَرْبَوِيَّة فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
(( 3 )) مَوَاقِفُ تَرْبَوِيَّة فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .   Ooou110الخميس أكتوبر 24, 2024 4:22 pm من طرف صادق النور

اهلا بكم

الثلاثاء نوفمبر 08, 2011 2:32 am من طرف mohamed yousef

(( 3 )) مَوَاقِفُ تَرْبَوِيَّة فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .   Ooousu10

المتواجدون الآن ؟

ككل هناك 20 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 20 زائر

لا أحد


أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 624 بتاريخ الأربعاء سبتمبر 15, 2021 4:26 am

احصائيات

أعضاؤنا قدموا 10079 مساهمة في هذا المنتدى في 3382 موضوع

هذا المنتدى يتوفر على 308 عُضو.

آخر عُضو مُسجل هو ابراهيم عبدالله ادريس فمرحباً به.

دخول

لقد نسيت كلمة السر

أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى

أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع


    (( 3 )) مَوَاقِفُ تَرْبَوِيَّة فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5370
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود (( 3 )) مَوَاقِفُ تَرْبَوِيَّة فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

    مُساهمة من طرف صادق النور الأحد أكتوبر 06, 2024 10:57 pm

     
    موقفه صل الله عليه وسلم مع رحل يلبس خاتماً من ذهب .

    ((  يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده ))


    سعادة المسلم في اتباعه وطاعته للنبي صلى الله عليه وسلم،
    وذلك لأن الغاية التي يسعى المسلم لأجلها إنما هي تحصيل الهداية التي تصل به إلى السعادة في الدنيا وإلى دار السعادة في الآخرة، ولا يتم ذلك إلا بطاعته لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم وإن خالفت نفسَه وعقله،
    قال الله تعالى-  {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (النور:54)،
    وقال - {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ} (الحشر:7).
    قال ابن كثير: "أي مهما أمركم به فافعلوه ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمركم بخير وإنما ينهى عن شر".
    وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلُّ أمتي يدخلون الجنة إلا من أبَىَ، قالوا: يا رسول الله، ومن يأبَىَ؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبَىَ) رواه البخاري.

    وقد سجلت لنا السيرة النبوية الكثير من المواقف التي ظهر من خلالها مدى حرص الصحابة رضوان الله عليهم على طاعة أمر النبي صلى الله عليه وسلم وإن خالفت النفس والعقل،
    ومنها: موقفه صلوات الله وسلامه عليه مع الصحابي الذي كان يلبس خاتماً من ذهب، فنزعه النبي صلى الله عليه وسلم من يده.
    عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتماً من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه، وقال: يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده، فقيل للرّجل بعد ما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك انتفع به، قال: لا والله لا آخذه أبدا، وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم.
    قال ابن عثيمين في شرحه لهذا الحديث: "فالعذاب كما يكون عاماً على جميع البدن قد يكون خاصاً ببعض أجزائه، وهو ما حصلت به المخالفة،
    ومن فوائد هذا الحديث أيضاً: بيان كمال صدق الصحابة في إيمانهم، فإن هذا الرجل لما قيل له خذ خاتمك انتفع به قال: لا آخذ خاتماً طرحه النبي عليه الصلاة والسلام، وذلك من كمال إيمانه رضي الله عنه، ولو كان ضعيف الإيمان لأخذه وانتفع به ببيع أو بإعطائه أهله أو ما أشبه ذلك،
    ومن فوائد هذا الحديث أيضاً: أن الإنسان يستعمل الحكمة في تغيير المنكر، فهذا الرجل استعمل معه النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً من الشدة، لكنّ الأعرابي الذي بال في المسجد لم يستعمل معه النبي عليه الصلاة والسلام الشدة،
    ولعل ذلك لأن هذا الذي لبس خاتم الذهب علم النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان عالماً بالحكم والتحريم ولكنه متساهل، بخلاف الأعرابي فإنه كان جاهلاً لا يعرف، جاء ووجد هذه الفسحة في المسجد فجعل يبول يحسب نفسه أنه في البَر،
    ولما قام إليه الناس يزجرونه نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك،
    وكذلك استعمل النبي صلى الله عليه وسلم اللين مع معاوية بن الحكم السلمي حين تكلم في الصلاة، وكذلك مع الرجل الذي جامع زوجته في نهار رمضان فلكل مقام مقال".

    تحريم الذهب على الرجال:


    في هذا الموقف النبوي دلالة واضحة على أن نهي الرجال عن لبس الذهب نهي تحريم،
    وقد نقل النووي في شرح مسلم الإجماع على ذلك فقال: "أجمع المسلمون على إباحة خاتم الذهب للنساء، وأجمعوا على تحريمه على الرجال، إلا ما حُكي عن أبي بكر بن محمد أنه أباحه، وعن بعض أنه مكروه لا حرام، وهذان النقلان باطلان، فقائلهما محجوج بهذه الأحاديث التي ذكرها مسلم مع إجماع من قبله على تحريمه".
    وعن عليِّ بنِ أبي طالب رضي الله عنه قال: (إنَّ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريراً فجعله في يمينه، وأخذ ذهباً فجعله في شماله، ثم قال: إنَّ هذيْن حرامٌ على ذكورِ أمتي) رواه أبو داود وصححه الألباني.

    لقد حث الصحابة الذين شاهدوا هذا الموقف الرجلَ على التقاط خاتمه وبينوا له جواز الانتفاع به، ومع ذلك لم يفعل،
    بل أقسم بالله على عدم أخذ الخاتم بقوله: (لا والله لا آخذه أبدا)، وكأنه أراد أن يمنعهم من محاولة إقناعه بذلك،
    قال النووي: "فيه المبالغة في امتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجتناب نهيه، وعدم الترخص فيه بالتأويلات الضعيفة،
    ثم إن هذا الرجل إنما ترك الخاتم على سبيل الإباحة لمن أراد أخذه من الفقراء وغيرهم، وحينئذ يجوز أخذه لمن شاء، فإذا أخذه جاز تصرفه فيه، ولو كان صاحبه أخذه لم يحرم عليه الأخذ والتصرف فيه بالبيع وغيره، ولكن تورع عن أخذه وأراد الصدقة به على من يحتاج إليه"..
    فأين نحن من هذا الأدب والتعظيم الشديد لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم؟!!، ويتفرع على ذلك سوء أدب من يعلم شدة إنكار النبي صلّى الله عليه وسلّم على أمْرٍ ما ومع ذلك يصرّ عليه بحجج واهية.
    المسلم العاقل هو الذي يعرف حقيقة الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم وذلك بالتسليم لأمره، وطاعته في كل ما أمر به، والانتهاء عما نهى عنه، دون ريْبٍ أو تردد أو حرج، ولو كان أمره أو نهيه مخالفاً للنفس والعقل،
    قال الله تعالى:-  {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب:36)،
    قال السعدي في تفسيره: " أي: لا ينبغي ولا يليق، ممن اتصف بالإيمان، إلا الإسراع في مرضاة الله ورسوله، والهرب من سخط الله ورسوله، وامتثال أمرهما، واجتناب نهيهما، فلا يليق بمؤمن ولا مؤمنة
    {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} من الأمور، وحتَّما به وألزما به {أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} أي: الخيار، هل يفعلونه أم لا؟ بل يعلم المؤمن والمؤمنة،
    أن الرسول أولى به من نفسه، فلا يجعل بعض أهواء نفسه حجاباً بينه وبين أمر الله ورسوله".
    وقال ابن القيم في كتابه مدارج السالكين: "رأس الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم كمال التسليم له والانقياد لأمره".

    ================================
    موقف  النبي صلى الله عليه وسلم  مع أبي الدحداح رضي الله عنه .


    (( كم مِن عِذْقٍ مُدَلًّى لأبي الدَّحداحِ في الجنَّة ))


    من مقاصد دراسة السيرة النبوية, استخراج الدروس والفوائد والأحكام من أحداثها ومواقفها, ليستفيد المسلم منها في واقع حياته, فيستقيم سلوكه, وتحسن أخلاقه، وتعلو همته, ويسمو تعامله, ويحصل له التأسي والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم.

    ومن المعلوم أن نبينا صلى الله عليه وسلم بلغ في خُلُق الجود والكرم والبذل والعطاء مَبْلَغاً لم يبلغه غيره، فكان كرمه كرماً بلا حدود، يُعطي عطاء من لا يخاف الفقر، ولا يرد سائلاً،
    فعن أنس بن مالك رضي الله: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا، فإنَّ محمداً يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة (الفقر) رواه مسلم.
    وقد أكدت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها تحليه واتصافه صلى الله عليه وسلم بهذا الخُلُق قبل بعثته بقولها: (والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف) رواه البخاري، وكلها صفات تحمل في طيّاتها معاني الكرم والجود، والبذل والعطاء.

    وكان الصحابة رضوان الله عليهم أجود الناس بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم، لأنهم تعلموا وتربوا على يديه واقتدوا به. ومن مواقف السيرة النبوية التي بينت أن الصحابة رضوان الله عليهم اشتروا الآخرة بالدنيا، وتاجروا مع الله تجارة رابحة، موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي الدحداح رضي الله عنه.

    وأبو الدحداح رضي الله عنه صحابي جليل، اسمه ثابت بن الدحداح بن نعيم، ويُكَنّى أبا الدحداح وأبا الدحداحة، شهد أُحُداً، فلما رأى انكشاف المسلمين، وسمع منادي المشركين يدَّعي قتل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "يا معشر الأنصار! إن كان محمد قتل، فإن الله حي لا يموت، فقاتلوا عن دينكم".

    وأما موقفه في إنفاقه لله عز وجل وتصدقه بحديقته وما فيها من نخل وخير كثير، فيخبرنا عنه أنس رضي الله عنه، قال: إن رجلاً قال: (يا رسول الله! إن لفلان نخلة، وأنا أقيم حائطي بها، فأمُرْه أن يعطيني، حتى أُقيم حائطي بها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعطها إياه بنخلة في الجنة، فأبَى،
    فاتاه أبو الدحداح فقال: بِعْنِي نخلتك بحائطي، ففعل، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني قد ابتعت النخلة بحائطي، قال: فاجعلها له، فقد أعطيتكها،
    فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم مِن عِذق (غُصْنُ مِنَ النَّخْلَة) ردّاح (ثقيل) لأبي الدحداح في الجنة ـقالها مراراًـ قال: فأتى امرأته فقال: يا أم الدحداح! أخرجي من الحائط (البستان) فإني قد بعته بنخلة في الجنة، فقالت: ربح البيع، أو كلمة تشبهها) رواه أحمد وصححه الألباني.

    وعند مسلم وابن حبان من حديث جابر بن سَمُرَة رضي الله عنه قال: (كنَّا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازةِ أبي الدَّحداح، فلمَّا صلَّى عليها، أُتِي بفرَسٍ فركِبه، ونحن نسعى خَلْفه، فقال صلى الله عليه وسلم: كم مِن عِذْقٍ مُدَلًّى لأبي الدَّحداحِ في الجنَّة).

    قال النووي: "العِذق هنا بكسر العين المهملة وهو الغصن من النخلة، وأما العَذق بفتحها فهو النخلة بكمالها، وليس مراداً هنا، قوله صلى الله عليه وسلم: (كم من عِذق معلق في الجنة لأبي الدحداح)
    قالوا سببه: أن يتيماً خاصم أبا لبابة في نخلة، فبكى الغلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: أعطه إياها، ولك بها عذق في الجنة، فقال: لا، فسمع بذلك أبو الدحداح فاشتراها من أبي لبابة بحديقة له،
    ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألي بها عذق إن أعطيتها اليتيم؟ قال: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كم من عذق معلق في الجنة لأبي الدحداح).

    فائدة:

    لا يلزم من هذا الموقف أن أبا لبابة رضي الله عنه الذي رفض أن يتصدق ويتنازل عن نخلته كان عاصياً، فإن النخلة كانت حقه وملكه، وقد شقَّ عليه خروجه عن ملكه، وربما تضرر بذلك، ولم يُلزِمْه النبي صلى الله عليه وسلم بإعطائها لرجل جاره ـأو لليتيم على الرواية الثانية التي ضعفها البعضـ وإنما ندبه إلى ذلك، ووعده عليها أجراً خاصاً في الجنة،
    ولو علم أبو لبابة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه ذلك على وجه الوجوب والإلزام لسارع إليه دون تردد، ولكنه فهم أن تنازله عن النخلة وصدقته بها كان مندوباً في حقه، وعملاً فاضلاً، وليس كل من ترك المندوب أو العمل الفاضل يكون مذموماً أو آثماً، كما أن الرواية المسندة والصحيحة تفيد أن جاره الذي حصل معه الخصام ولم يتنازل له عن نخلته كان رجلاً ولم يكن يتيماً، أما رواية البيهقي الذي ذكر فيها أن الموقف كان مع طفل يتيم فهي رواية مرسلة، والحديث المرسل من أنواع الحديث الضعيف.

    وفي هذا الموقف بين النبي صلى الله عليه وسلم وأبي الدحداح رضي الله عنه فوائد كثيرة، منها:

    ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم ربَّى أصحابه على حب البذل والصدقة والعطاء طمعاً في ثواب الله وفضله وجنته،
    فقد قال صلى الله عليه وسلم: (كم مِن عِذق (غُصْنُ مِنَ النَّخْلَة) ردّاح (ثقيل) لأبي الدحداح في الجنة)، ومن ثم كان الصحابة رضوان الله عليهم يبذلون ويتصدقون والسعادة تملأ قلوبهم بوعد النبي صلى الله عليه وسلم لهم الأجر العظيم.

    ـ ومنها: حُسن مناداة الزوج لزوجته، فقد نادى أبو الدحداح رضي الله عنه على زوجته قائلاً: (يا أم الدحداح)، وكذلك حُسن الإجابة من الزوجة لزوجها، وتشجيعه والثناء على فعله للخير، فلم تُجِزْ أم الدحداح رضي الله عنها ما فعل زوجها فحسب، بل اعتبرت ذلك ربحاً وفوزاً فقالت لزوجها: (ربح البيع).

    ـ ومنها: جواز إعلان الصدقة وإشهارها والإشهاد عليها، وأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا مثالاً للسخاء والعطاء، وكانوا يختارون أجود أموالهم وأنفسها لتكون صدقة ووقْفاً لله تعالى.
    لقد كان أبو الدحداح رضي الله عنه من المسارعين في الخيرات، المتسابقين في الباقيات الصالحات، وقد ترك لنا موقفه في صدقته وثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليه وتبشيره بالجنة درساً ومثالاً عملياً في الجود والسخاء، والبذل والعطاء، وقد مات رضي الله عنه ولكن صدقته ستبقى دافعة للأمة للصدقة والإنفاق في سبيل الله تعالى.

    ===================================
    ا
    موقفه صل الله عليه وسلم مع  ربيعة بن كعب الأسلمي ـ رضي الله عنه .

    ((  يا ربيعة، ألا تزوج ))

    ما مِن خصلة من خصال الخير إلا ولرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
    أوفر الحظ والنصيب منها، وقد وصفه الله تعالى بلين الجانب لأصحابه فقال: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ }(آل عمران: من الآية: 159) .
    والمتأمل في السيرة النبوية تستوقفه مواقف كثيرة، يظهر فيها حب النبي صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه، وحسن معاملته لهم، والاهتمام بهم، فكان يؤلفهم ولا ينفرهم، ويتفقدهم ويعودهم، ويعطى كلَّ مَنْ جالسه نصيبه من العناية والاهتمام، حتى يظن جليسه أنه ليس أحدٌ أكرم منه، وكان يقضي حوائجهم، ويشفق عليهم، ويشعر بآلامهم وآمالهم،
    ومن هذه المواقف: موقفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع ربيعة بن كعب الأسلمي الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ .

    عن ربيعة بن كعب الأسلمي ـ رضي الله عنه ـ قال: ( كنت أخدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقال لي: يا ربيعة ألا تزوج؟، قال: قلت: والله، يا رسول الله، ما أريد أن أتزوج، ما عندي ما يقيم المرأة، وما أحب أن يشغلني عنك شيء، فأعرض عني، فخدمته ما خدمته، ثم قال لي الثانية: يا ربيعة، ألا تزوج؟، فقلت: ما أريد أن أتزوج، ما عندي ما يقيم المرأة، وما أحب أن يشغلني عنك شيء، فأعرض عني، ثم رجعت إلى نفسي، فقلت: والله، لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما يصلحني في الدنيا والآخرة أعلم مني، والله، لئن قال: تزوج، لأقولن: نعم يا رسول الله، مرني بما شئت .
    قال: فقال: يا ربيعة، ألا تزوج؟، فقلت: بلى، مرني بما شئت، قال: انطلق إلى آل فلان، حي من الأنصار، وكان فيهم تراخ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقل لهم: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرسلني إليكم، يأمركم أن تزوجوني فلانة، لامرأة منهم، فذهبت، فقلت لهم: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرسلني إليكم، يأمركم أن تزوجوني فلانة، فقالوا: مرحبا برسول الله، وبرسول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والله، لا يرجع رسولُ رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا بحاجته، فزوجوني وألطفوني، وما سألوني البينة .
    فرجعت إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حزيناً، فقال لي: ما لك يا ربيعة؟،
    فقلت: يا رسول الله، أتيت قوما كراما، فزوجوني وأكرموني وألطفوني، وما سألوني بينة، وليس عندي صداق،
    فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: يا بريدة الأسلمي، اجمعوا له وزن نواة من ذهب، قال: فجمعوا لي وزن نواة من ذهب، فأخذت ما جمعوا لي،
    فأتيت به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: اذهب بهذا إليهم، فقل: هذا صداقها، فأتيتهم، فقلت: هذا صداقها، فرضوه وقبلوه، وقالوا: كثير طيب .
    قال: ثم رجعت إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حزيناً، فقال: يا ربيعة، ما لك حزين؟، فقلت: يا رسول الله، ما رأيت قوما أكرم منهم، رضوا بما آتيتهم، وأحسنوا، وقالوا: كثيراً طيباً، وليس عندي ما أولم، قال: يا بريدة، اجمعوا له شاة، قال: فجمعوا لي كبشا عظيما سمينا، فقال لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: اذهب إلى عائشة، فقل لها: فلتبعث بالمكتل الذي فيه الطعام، قال: فأتيتها، فقلت لها ما أمرني به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقالت: هذا المكتل فيه تسع آصع شعير، لا والله، إن أصبح لنا طعام غيره، خذه، فأخذته، فأتيت به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
    وأخبرته بما قالت عائشة، فقال: اذهب بهذا إليهم، فقل: ليصبح هذا عندكم خبزاً، فذهبت إليهم، وذهبت بالكبش، ومعي أناس من أسلم،
    فقال: ليصبح هذا عندكم خبزا، وهذا طبيخا، فقالوا: أما الخبز فسنكفيكموه، وأما الكبش فاكفونا أنتم، فأخذنا الكبش، أنا وأناس من أسلم، فذبحناه وسلخناه وطبخناه، فأصبح عندنا خبز ولحم، فأولمت، ودعوت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَأَجَابَنِي ) رواه أحمد .

    وفي موقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع ربيعة بن كعب الأسلمي ـ رضي الله عنه ـ الكثير من الفوائد، منها:


    ـ اهتمام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأصحابه ـ لا سيما الفقراء منهم ـ، وحرصه عليهم، وتلمس احتياجاتهم، وشفقته بهم، وصدق الله ـ تعالى ـ في قوله عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }(التوبة الآية: 128)، وفي ذلك تعليم للأمة على اهتمام المسؤول برعيته .
    ـ معرفة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأحوال أصحابه واحتياجاتهم، وبما يصلح لهم دنياهم وآخرتهم، فقد قال لربيعة ـ رضي الله عنه ـ: ( يا ربيعةُ ألا تَزَوَّجُ؟ )، كما أن فيه رجاحة عقل ربيعة ـ رضي الله عنه ـ، وثقته ويقينه في حكمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ويظهر ذلك من قوله ـ رضي الله عنه ـ ( والله لرسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بما يصلحني في الدنيا والآخرة أعلم مني ) .
    ـ سرعة استجابة أهل البنت لأمر النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وفرحهم بذلك واعتبارهم له بركة وكرم، وقولهم: ( مرحبا برسول الله، وبرسول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والله، لا يرجع رسولُ رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا بحاجته، فزوجوني وألطفوني )،
    وفي ذلك منقبة عظيمة من مناقب الأنصار تضاف إلى مناقبهم ـ رضي الله عنهم ـ الذين مدحهم الله ـ عز وجل ـ
    بقوله: { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ }(الحشر الآية: 9) .
    ـ استجابة الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ وتعاونهم في جمع المهر وإقامة ولية زواج ربيعة ـ رضي الله عنه ـ تعطي صورة المجتمع المسلم في المدينة المنورة، والذي قام على السمع والطاعة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والأخوة والإيثار والتكافل الاجتماعي .

    لم يكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعيش بعيداً عن أصحابه، بل كان يتفقدهم ويسأل عنهم، فما أن يفتقد أحدهم ويغيب عن مجلسه إلا ويسأل عنه، فإن كان مريضاً سارع إلى عيادته، وإن كان مسافراً خَلَفَه في أولاده،
    وإن كان في حاجة سارع إلى قضائها له، فكان مع أصحابه بمثابة الأب الحاني، والصاحب المعطاء، يفرح لفرحهم، ويحزن لحزنهم، ويشاركهم مشكلاتهم ويعينهم على حلها، ويقترح عليهم ما يصلح شأنهم، ويعلمهم ما ينفعهم، ولا يضجر من مساعتهم،
    وقد قال عنه صاحبه وزوج ابنتيه وخليفته عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ: " لقد صحبنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في السفر والحضر، وكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير " .
    ======================================
    موقف النبي صلى الله عليه وسلم في التصدي لمؤامرات اليهود والمنافقين ..

    (( أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم ))

    ----------------------------------
    لا تنسونا من صالح دعائكم

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5370
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود موقف النبي صلى الله عليه وسلم في التصدي لمؤامرات اليهود والمنافقين .. (( أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم ))

    مُساهمة من طرف صادق النور الإثنين أكتوبر 07, 2024 5:03 pm

    ما قبله : -

    موقف النبي صلى الله عليه وسلم في التصدي لمؤامرات اليهود والمنافقين ..


    (( أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم ))

    المتتبع لجذور المؤامرات في تاريخ المسلمين ـقديماً وحديثاًـ يجد وراءها اليهود والمنافقين، والتي يريدون من خلالها إثارة الفرقة والخلاف والنزاع والشقاق في المجتمع الإسلامي، ومعلوم أن اليهود هم قتلة الأنبياء والمرسلين، وهم أعداء المسلمين في كل عصر ومِصر، ومواقفهم الخبيثة الحاقدة على الإسلام وعلى نبينا صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة كثيرة متعددة...
    أما المنافقون الذين يُبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، فخطرهم على المسلمين أعظم من خطر الكفار المجاهرين؛ لأنهم يتآمرون ويظهرون في مظهر الأصدقاء، فما أكثر الفتن التي أثاروها، والمؤامرات التي دبروها، سواء في غزوة أُحُد أو في غزوة الأحزاب، أو في بني المصطلق أو في تبوك ..
    وهذه المؤامرات تتكرر بين الحين والحين، وتتغير أشكالها ومُسَمَّياتها بتغير الزمان والمكان، لكنها لا تتوقف، ولن تتوقف،
    فقد قال الله تعالى عن اليهود - {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة:120)،
    وقال عن المنافقين - {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (البقرة:14-15).

    والسيرة النبوية مليئة بالمواقف التي تصدى فيها النبي صلى الله عليه وسلم لمؤامرات اليهود والمنافقين، التي حاولوا من خلالها إشاعة الفرقة بين المسلمين، وبث الخلاف بينهم، ومن ذلك:
    اليهود:
    من النماذج والأمثلة لما كان يفعله اليهود ويحاولونه من إثارة القلاقل والفرقة والخلاف بين المسلمين، ما رواه ابن هشام في السيرة النبوية، والطبري والبغوي والشوكاني وابن المنذر وغيرهم،
    عن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: (مرَّ شاس بن قيس -وكان شيخاً (يهوديا) قد بقي على جاهليته، عظيمَ الكفر، شديدَ الضغن (الحقد) على المسلمين شديد الحسد لهم- على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من أُلفتهم، وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قَيْلَة -الأوس والخزرج- بهذه البلاد، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شاباً معه من يهود،
    فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم ذكرهم يوم بُعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا قالوا فيه من الأشعار ..
    وكان يوم بُعَاث قبل الهجرة بثلاث سنين يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج، ففعل، فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا، وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين: أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فقال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددناها الآن جَذَعَة (حربا)، وغضب الفريقان، وقالوا: قد فعلنا، السلاحَ السلاحَ .. موعدكم الحَرَّة (مكان في المدينة)، فخرجوا إليها، وانضمت الأوس بعضها إلى بعض، والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية.

    فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم، فقال: (يا معشر المسلمين! الله، الله .. أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم، بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألَّف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً ؟!).
    فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم لهم، فألقوا السلاح، وبكوا، وعانق بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عز وجل عنهم كيد عدو الله شاس،
    وأنزل الله في شأن شاس بن قيس وما صنع قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (آل عمران:98-99)،
    وأنزل في شأن أوس بن قيظي وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} (آل عمران:100)،
    إلى قوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:105).

    المنافقون:


    واجه النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة إلى جانب عداء اليهود ومؤامراتهم، عدواً جديداً لم يكن للمسلمين عهد به في مكة، وهم المنافقون الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، وأعلنوا الولاء للمسلمين وأضمروا العداء والكيد لهم، وكان على رأس هؤلاء المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول، ومؤامرات المنافقين على المسلمين في السيرة النبوية كثيرة، ومنها ما حدث في غزوة بني المصطلق(المريسيع)، حيث حاول المنافقون فيها ـكما حاول اليهودـ تمزيق وحدة المسلمين بإيجاد الشقاق بين المهاجرين والأنصار، وإعادة النعرة الجاهلية،
    فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كسع (ضرب) رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فاستثمر المنافقون ـوعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول- هذا الموقف، وحرضوا الأنصار على المهاجرين، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما بال دعوى الجاهلية؟) قالوا يا رسول الله: كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
    (دعوها فإنها منتنة) رواه البخاري.

    ومع أن اسم المهاجرين والأنصار من الأسماء الشريفة التي تدل على شرف أصحابها، وقد سماهم الله عز وجل بها على سبيل المدح لهم، كما قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (التوبة:100)، إلا أن هذه الأسماء لما استُعْمِلت استعمالاً خاطئاً ربما يؤدي إلى تفريق المسلمين ويُحْيي العصبية الجاهلية،
    أنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكاراً شديداً،
    وقال قولته الشديدة: (دعوها فإنها منتنة)، وذلك حفاظاً على وحدة الصف المسلم، والتحذير من العصبية بجميع ألوانها، سواء كانت عصبية تقوم على القبلية، أو الجنس، أو اللون أو غير ذلك.
    قال النووي: "وأما تسميته صلى الله عليه وسلم ذلك (دعوى الجاهلية) فهو كراهة منه لذلك، فإنه مما كانت عليه الجاهلية من التعاضد بالقبائل في أمور الدنيا ومتعلقاتها، وكانت الجاهلية تأخذ حقوقها بالعصبات والقبائل، فجاء الإسلام بإبطال ذلك، وفصل القضايا بالأحكام الشرعية".
    وقال الشنقيطي: "قوله صلى الله عليه وسلم: (دعوها) يدل على وجوب تركها، ويؤكد ذلك تعليله الأمر بتركها بأنها منتنة،
    وما صرح النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بتركه وأنه منتن لا يجوز لأحد تعاطيه".
    وقال ابن تيمية: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة؛ لئلا يكون ذريعة إلى قول الناس أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه؛ لأن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه، وممن لم يدخل فيه".

    لقد كانت المواقف النبوية في القضاء على محاولات اليهود والمنافقين لتفريق المسلمين حكيمة، فقد أسرع إلى الأنصار ـ الأوس والخزرج ـ وذكّرهم بالله عز وجل، وبيّن لهم أن ما أقدموا عليه من خلاف وعصبية هو مِن أمر الجاهلية، وذكّرهم بالإسلام،
    وما أكرمهم الله به من إنقاذهم من الكفر، وتأليف قلوبهم بالإيمان، وقال لهم: (أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم، بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألَّف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً؟!) فأزالت كلماته صلى الله عليه وسلم كل أثر للخلاف بينهم، وأدركوا أن ما وقعوا فيه كان من وساوس الشيطان، وكيد عدوهم من اليهود والمنافقين، فبكوا ندماً على ما وقعوا فيه، وتعانقوا تعبيراً على وحدتهم ومحبتهم الإيمانية لبعضهم.

    تعتبر السيرة النبوية بأحداثها وتفاصيلها مدرسة متكاملة، لما تحمله بين ثناياها من دروس نافعة ومواقف نبوية حكيمة وتربوية، نستفيد منها في حاضرنا ومستقبلنا في اليقظة لمؤامرات أعدائنا علينا، وحكمة التعامل معها للقضاء عليها، كما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    ================================
    موقفه صل الله عليه وسلم مع ثابت بن قيس رضي الله عنه .

    (( يا ثابت ألا ترضى أن تعيش حميدا، وتُقتل شهيدا، وتدخل الجنة ))

    هو ثابت بن قيس بن شمّاس بن زهير بن مالك الأنصاري الخزرجي،
    وكنيته: أبو عبد الرحمن، أحد السابقين إلى الإسلام في يثرب، الذين أسلموا على يد مصعب بن عمير ـ رضي الله عنه ـ، ولم يشهد بدرًا، لكنه شهد أحدًا وبيعة الرضوان،
    ومن إخوته لأمه: عبد الله بن رواحة، وعمرة بنت رواحة، كان جهير الصوت خطيباً بليغا، وهو الذى خطب بين يدى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند مقدمه المدينة
    فقال: ( نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأولادنا، وما لنا؟، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: الجنة ) رواه الحاكم .
    ولذلك يقال عنه: خطيب الأنصار، وخطيب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
    قال الزهري: " قدم وفد بني تميم وافتخر خطيبهم بأمور, فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لثابت بن قيس: ( قم فأجب خطيبهم ), فقام وحمد الله وأبلغ, وسُرَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمسلمون بمقامه، وكان مما قال ثابت ـ رضي الله عنه ـ: " الحمد لله الذي السماوات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه علمه، ولم يكن شيء قط إلا من فضله، ثم كان من فضله أن جعلنا ملوكا، واصطفى من خير خلقه رسولا، أكرمهم نسبا، وأصدقهم حديثا، وأفضلهم حسبا، فأنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه، وكان خيرة الله من العالمين،
    ثم دعا الناس إلى الإيمان بالله، فآمن به المهاجرون من قومه ذوي رحمه، أكرم الناس أحسابا، وأحسنهم وجوها، وخير الناس فعلا، ثم كان أول الخلق إجابة واستجابة لله حين دعاه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نحن، فنحن أنصار الله ووزراء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، نقاتل الناس حتى يؤمنوا، فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه، ومن نكث جاهدناه في الله أبدا، وكان قتله علينا يسيرا، أقول هذا وأستغفر الله العظيم للمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم
    " .

    وقد أثنى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ثابت بن قيس ـ رضي الله عنه ـ في أحاديث كثيرة، وبشّره بالجنة، وأخبره أنه من أهلها،
    فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله قال: ( نِعْم الرجل أبو بكر،نعم الرجل عمر، نعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح، نعم الرجل أسيد بن حضير، نعم الرجل ثابت بن قيس بن شماس، نعم الرجل معاذ بن عمرو بن الجموح ) رواه الترمذي .
    وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: ( لما نزلت هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ }(الحجرات الآية: 2)،
    جلس ثابت بن قيس في بيته وقال: أنا من أهل النار، واحتبس عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فسأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو! ما شأن ثابت؟ أشتكى؟، قال سعد: إنه لجاري، وما علمت له بشكوى،
    قال: فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقال ثابت: أنزلت هذه الآية، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأنا من أهل النار، فذكر ذلك سعد للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: بل هو من أهل الجنة ) رواه مسلم .
    فائدة :
    قال الشيخ ابن عثيمين: " فأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فدعا به (ثابت بن قيس)، فحضر وأخبره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه من أهل الجنة، وقال: ( أما ترضى أن تعيش حميداً، وتقتل شهيداً، وتدخل الجنة؟،
    قال: بلى رضيت )، فقُتل ـ رضي الله عنه ـ شهيداً في وقعة اليمامة، وعاش حميداً وسيدخل الجنة بشهادة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولذلك كان ثابت ـ رضي الله عنه ـ ممن يُشهد له بأنه من أهل الجنة بعينه، لأن كل إنسان يشهد له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنه في الجنة فهو في الجنة، وكل إنسان يشهد أنه في النار فهو في النار،
    وأما من لم يشهد له الرسول فنشهد له بالعموم، نقول: كل مؤمن في الجنة، وكل كافر في النار، ولا نشهد لشخص معين بأنه من أهل النار، أو من أهل الجنة، إلا بما شهد له الله ورسوله ..
    وفي هذه الآية الكريمة بيان تعظيم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وأنه لا يجوز لإنسان أن يجهر له بالقول كجهره لسائر الناس، وأنه لا يجوز له أن يرفع صوته على صوت الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ، ولما نزلت هذه الآية تأدب الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ بذلك حتى كان بعضهم يكلمه مسارةً (بصوت منخفض)، ولا يفهم الرسول ما يقول من إسراره حتى يستثبته مرة أخرى " .
    وقد سُئِل الشيخ ابن عثيمين: هل يشمل عدم رفع الصوت عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ،عدم رفعه عنده بعد موته، أي: عند قبره؟،
    فأجاب: " رفع الصوت عند قبر الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ
    يدخل في قوله تعالى: { وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ }(الحجرات من الآية:2)، وإن كنا لا نخاطبه لكن لا يليق أن ترتفع الأصوات عند قبره،
    ولهذا لما سمع عمر ـ رضي الله عنه ـ رجلين من الطائف يرفعان أصواتهما عند قبر النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ، سألهما وقال: " أتعلمان أين أنتما؟، ثم قال: من أي بلد أنتما؟، قالا: من الطائف، قال: لو كنتما من هذا البلد لفعلت كذا وكذا "، فدل هذا على أن من تمام الأدب ألا يرفع الإنسان صوته عند قبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ " .

    رؤيا ووصية :

    لم يُعْلم أحد وصَّى بعد موته فنفِّذت وصيّته غير ثابت بن قيس ـ رضي الله عنه ـ،
    فقد نقل الإمام النووي في تهذيب الأسماء واللغات من كتب المغازي: " أنه لما استشهد ـ ثابت بن قيس ـ كان عليه درع نفيس، فأخذها رجل، فرأى رجل ثابتا في منامه،
    فقال له ثابت: إني أريد أن أوصيك وصية، فإياك أن تقول: هذا حلم فتضيّعه، إني قُتِلْتُ أمس، فمر بي رجل فأخذ درعي، ومنزله في أقصى الناس، وعند خبائه فرس يستنّ في طوله، وقد كفأ على الدرع برمة (قدر من الخزف)، وفوق البرمة رحل، فأتِ خالداً فمره، فليبعث فليأخذها، فإذا قدمت المدينة فقل لأبي بكر: عليَّ من الدَيْن كذا وكذا، وفلان من رقيقي حر وفلان عتيق، فأتى الرجل خالدا فبعث إلى الدّرع فأتى بها على ما وصف، وأخبر أبا بكر برؤياه فأجاز وصيّته " .
    وهذه القصة رواها البغوي، وابن المنذر، والطبراني في المعجم الكبير، والحاكم في المستدرك وصححها ووافقه الذهبي، والهيثمي في مجمع الزوائد، وقال: رجاله رجال الصحيح ..
    وهي وصية من ثابت بن قيس ـ رضي الله عنه ـ، ولهذا لما وجد أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ الدرع في المكان الذي وصفه ثابت بن قيس أجاز وصيته ونفذها لأن القرائن دلت على صدقها، وليس في هذه القصة ما يدل على تشريع الأحكام عن طريق المنامات والرؤى كما هو حال أهل البدع والأهواء، فالرؤيا لا يترتب عليها حكم شرعي، ولا اعتداد بالرؤى والأحلام إذا خالفت نصًّا شرعيًّا واقتضت ترك واجب، أو ارتكاب محرم، أو تحريم مباح .
    يقول الشاطبي في هذا الخصوص: " وأضعف هؤلاء احتجاجاً قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المقامات، وأقبلوا وأعرضوا بسببها، فيقولون: رأينا فلاناً الرجل الصالح، فقال لنا: اتركوا كذا، واعملوا كذا، ويتفق هذا كثيراً للمتمرسمين برسم التصوف، وربما قال بعضهم: رأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في النوم فقال لي كذا وأمرني بكذا، فَيَعْمَلُ بِهَا وَيَتْرُكُ بها، معرضاً عن الحدود الموضوعة في الشريعة، وهو خطأ، لأن الرؤيا من غير الأنبياء لا يُحْكَمُ بها شرعاً على حالٍ، إلا أن تُعْرَضَ على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية، فإن سَوَّغَتْهَا عُمِلَ بِمُقْتَضَاهَا، وإلا وجب تركها والإعراض عنها، وإنما فائدتها البشارة، أو النذرة خاصة، وأما استفادة الأحكام، فلا " .

    تحقق نبوءة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :

    تنوّعت النبوءات التي أخبر بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين البشارة باستشهاد عددٍ من أصحابه، والإخبار بتمكين هذه الأمة وظهورها على أعدائها، والتحذير مما سيحدث في الأمة من الافتراق والبعد عن منهج الله، والتنبّؤ بزوال بعض الممالك والدول من بعده وفتح البعض الآخر، والبيان لأشراط الساعة وما بين يديها من الفتن، وغير ذلك من الأخبار الصحيحة ..
    وقد أخبر ـ صلى الله عليه وسلم ـ باستشهاد عمر بن الخطاب وعثمان بن عفّان ـ رضي الله عنهما ـ،
    فعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: ( اثبت أحد، فما عليك إلّا نبيّ، أو صدّيق، أو شهيدان ) رواه البخاري،
    وقد وقع الأمر كما قال وأخبر، فالصدِّيق هو أبو بكر، والشهيدان هما: عمر وعثمان ـ رضي الله عنهم ـ .
    وأخبر ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثابت بن قيس ـ رضي الله عنه ـ باستشهاده فقال: ( يا ثابت ألا ترضى أن تعيش حميدا، وتُقتل شهيدا، وتدخل الجنة ) رواه ابن حبان والحاكم .
    وقد استشهد ثابت بن قيس ـ رضي الله عنه ـ يوم اليمامة في خلافة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ سنة إحدى عشرة، قال أنس: " أن ثابتَ بنَ قيس بن شماس جاء يومَ اليمامةِ وقد نشر أكفانَه وتحنَّط، وقال: اللهمَّ إني أبرأُ إليك مما جاء به هؤلاء، وأعتذرُ مما صنع هؤلاء، فقُتِل " .

    إن من فوائد دراسة السيرة النبوية الوقوف على أسباب نزول بعض الآيات القرآنية، والتعرف على حياة الصحابة الكرام ـ رضوان الله عليهم ـ، ومنهم ثابت بن قيس ـ رضي الله عنه ـ الذي شهد له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالجنة، واصطفاه خطيباً، كما اصطفى حسان بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ ليكون شاعر الإسلام، وبلالا ـ رضي الله عنه ـ ليكون مؤذنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ .

    =================================
    [size=24
    ]موقفه صل الله عليه وسلم مع سواد بن غزية .

    (( ما حملك على هذا يا سواد ))


    كلنا ذو خطأ، ولسوف نُوَفَّى قصاص أخطائنا يوم القيامة بين يدي الله الحكمِ العدلِ،
    قال الله تعالى- {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (البقرة: 281)،
    وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ضَرَب بسوط ظلما، اقتُصَّ منه يوم القيامة) رواه الطبراني وصححه الألباني.
    والعاقل هو من يتخلص من تبعات أخطائه، ويتحلل من آثار ظلمه في الدنيا، وذلك باسترضاء أصحاب هذه المظالم، وطلب عفوهم ومسامحتهم، أو بتمكينهم من القود (القصاص) من نفسه، والأخذِ منه بقدر مظلمته أو خطئه معهم، فهذا خير له من أن يأتي يوم القيامة مع المفلسين، الذين أضاعوا حسناتهم وأعمالهم الصالحة بظلمهم وأخطائهم مع غيرهم،
    فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون من المفلس؟) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: (إنّ المفلس من أمّتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعْطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أُخِذَ من خطاياهم فطرحت عليه ثمّ طرح في النّار) رواه مسلم.

    ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أخوف الناس لربه وأخشاهم له، وأحرصهم على أن يلقى الله عز وجل، وليس لأحد عنده مظلمة له، ومن ثم كان الإنصاف والقود (القصاص) من النفس خُلُق تحلى به صلوات الله وسلامه عليه، وهذا أمر واضح وجلي لمن تأمل أحواله ومواقفه في سيرته صلى الله عليه وسلم.
    روى ابن هشام وابن كثير وغيرهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدَّل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح (سهم) يعدل به القوم،
    فمر بسواد بن غزية حليف بني عدي بن النجار وهو مُستَنْتِلٌ (متقدم) من الصف، فطعن في بطنه بالقدح، وقال: (استوِ يا سواد) فقال: يا رسول الله! أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني (مكِّنِّي من القصاص لنفسي)، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه فقال: (استقد) (أي: اقتص)، قال: فاعتنقه، فقبَّل بطنه، فقال: (ما حملك على هذا يا سواد؟) قال: يا رسول الله! حضر ما ترى، فأردتُ أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير، وقال له: (استو يا سواد!) حسَّنه الألباني.
    فلم يتردَّد النبي صلى الله عليه وسلم في إعطاء سواد رضي الله عنه حقه في القصاص حين طالب به، مع أنه صلوات الله وسلامه عليه لم يكن يقصِد إيذاءه وإيجاعه، ليَضرب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً رائعاً للعدل والقود من النفس.
    وعن عبد الله بن جبير الخزاعي رضي الله عنه قال: (طعن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً في بطنه إما بقضيب وإما بسواك، فقال: أوجعتني فأقدني، فأعطاه العود الذي كان معه، فقال: (استقد) (أي: اقتص مني)، فقبَّل بطنه، ثم قال: بل أعفو، لعلك أن تشفع لي بها يوم القيامة) رواه الطبراني.

    وفي موطن آخر وبينما النبي صلى الله عليه وسلم يمازح أُسَيْدَ بن حضير، طعنه في خاصرته بعود، فقال أُسَيْد: (أصبِرني (أقدني من نفسك)، فقال: (اصطبرْ) (استقد)، قال: إنَّ عليك قميصاً وليس عليَّ قميص، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه، فاحتضنه وجعل يقبِّل كشحَه (ما بين الخاصرة إلى الضلع)، قال: إنما أردتُ هذا يا رسول الله) رواه أبوداود وصححه الألباني.

    ولا شك أن من أعطى العدل والقود من نفسه فهو من باب أولى يعطيه من أهله وأصحابه وقومه، وهو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم،
    فعن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا جهم بن حذيفة عاملاً للصدقة، فنازعه رجل في صدقته،
    فضربه أبو جهم، فجرح رأسه، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: القصاص يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
    (لكم كذا وكذا) فلم يرضوا، فقال: (لكم كذا وكذا) فلم يرضوا، فقال: (لكم كذا وكذا) فرضوا،
    فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني خاطب العشية على الناس ومخبرهم برضاكم) فقالوا: نعم، فخطب رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن هؤلاء الليثيين أتوني يريدون القود، فعرضت عليهم كذا وكذا فرضوا، أرضيتم؟) قالوا: لا، فهمَّ المهاجرون بهم، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا عنهم، فكفوا، ثم دعاهم فزادهم، فقال: (أرضيتم؟) فقالوا: نعم، قال: (إني خاطب على الناس، ومخبرهم برضاكم) قالوا: نعم، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (أرضيتم؟) قالوا: نعم) رواه أبو داود وصححه الألباني.

    وعن عائشة رضي الله عنها: أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت،
    فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتشفع في حد من حدود الله؟) ثم قام فاختطب ثم قال: (إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) رواه البخاري.
    قال ابن عثيمين: "وهذا العدل غاية في عدل البشر، لا يوجد عدل يصدر من أي بشرٍ كان، مثل هذا العدل من النبي صلى الله عليه وسلم، ليقطع كل الحجج والوساطات والشفاعات،
    وهذا يدل على كمال عدله صلى الله عليه وسلم".

    إن حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته مدرسة زاخرة بالمواقف التربوية، التي يستلهم منها المسلمون الأخلاق الفاضلة، والأحكام العادلة، التي تصل بهم إلى السعادة في الدنيا الآخرة، ومنها مواقفه المشرقة في إعطاء القصاص من نفسه، وهو النبي المُصْطَفى والرسول المُجْتَبَى، وإمام الأنبياء والمرسلين،
    ومن ثم فالعاقل من يطلب السلامة والنجاة في آخرته، فيتحلل في الدنيا من المظالم والأخطاء في حق الغير؛ خشية أن يُحاسَبَ عليها يوم القيامة،
    فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت عنده مظلمة لأخيه مِن عرضه، أو مِن شيء، فليتحلله منه اليوم، قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات، أخذ من سيئات صاحبه فحُمل عليه) رواه البخاري.

    وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ـوقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخرـ لا يرى بأساً ولا حرجاً أن يُقْتص منه في سبيل طلب السلامة في الآخرة، فهل تُرَانا نحن نصنع هذا مع من نخطئ معهم في حياتنا؟!
    ثم أوَلسْنا أحوج إلى هذا من نبينا صلى الله عليه وسلم؟!

    ==================================

    موقف النبي صل الله عليه وسلم من جفاة ألأعراب .

    (( فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله ))


    كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ أعظم وأجَّل في نفوس الصحابة من أن يرفعوا أصواتهم بحضرته، أو يلغوا إذا تحدث، وينشغلوا عنه إذا تكلم، وإنما كانوا يلقون إليه أسماعهم ويتأدبون معه،
    فعن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ في وصف حال أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ عند سماع قوله وحديثه - صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( وإذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا ) رواه الترمذي .
    قال ابن القيم: " رأس الأدب مع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كمال التسليم له، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يُحَّمِّله معارضة، بخيال باطل يسميه معقولا، أو يحمله شبهة أو شكاً، أو يقدم عليه آراء الرجال " .
    والأعراب هم ساكنو البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة، وليست قبائل بعينها، فهم لذلك أقسى قلوبا وأقل علما بحقوق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والأدب معه،
    قال ابن الجزري: " والأعراب ساكنو البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة "، وكذا قال الشوكاني في فتح القدير .
    وجُفَاة الْأَعْرَاب من حديثي العهد بالإسلام الذين أساء بعضهم الأدب مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقد صبر وحلم على جفائهم وغلظتهم معه, بل وأحسن إليهم، فكان مثالا للمعلم والمربي الذي يدرك أحوالهم, وطبيعة بيئتهم وحياتهم المتصفة بالشدة والقسوة، فكان يبين لهم برفق، ويعاملهم بحكمة على قدر عقولهم وتفكيرهم وطبيعتهم، بل اتسع حلمه عليهم حتى جاوز العدل إلى الإحسان إليهم، فكان بهم رحيماً، ولهم محسنا ومصلحاً .

    رحابة الصدر فيه غير خافية من أجلها عظمت فيهم مكانته

    وهذه بعض المواقف النبوية التي تدل على حسن معاملته ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأعراب رغم غلظتهم معه، وإساءتهم له :

    أكثرْتَ عليَّ مِن أبشر :

    عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه
    ـ قال: ( كنت عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو نازل بالجعرانة بين مكة والمدينة ومعه بلال، فأتى النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعرابي فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟، فقال له: أبشر، فقال: قد أكثرت عليَّ من أبشر، فأقبل على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان، فقال: ردَّ البشرى، فاقبلا أنتما، قالا: قبلنا، ثم دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه، ومج فيه ثم قال: اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما وأبشرا، فأخذا القدح ففعلا، فنادت أم سلمة من وراء الستر أن أفضلا لأمكما, فأفضلا لها منه طائفة ) رواه البخاري .
    قال الحافظ ابن حجر في الفتح : ( أبشر ) بهمزة قطع، أي بقرب القسمة، أو بالثواب الجزيل على الصبر" .
    وقال النووي: " في الحديث: فضيلة ظاهرة لأبي موسى وبلال وأم سلمة - رضي الله عنهم -، وفيه استحباب البشارة واستحباب الازدحام فيما يتبرك به وطلبه ممن هو معه، والمشاركة فيه " .
    وعن محمَّد بن جبير قال: أخبرني جبير بن مطعم أنه: ( بينما يسير هو مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مقفله (رجوعه) من حنين، فَعَلِقَهُ (تبعه) الأعراب يسألونه، حتى اضطروه إلى سمرة (شجرة)، فخطفت رداءه، فوقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: أعطوني ردائي، فلو كان لي عدد هذه العضاه (شجر له شوك) نعما، لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذابا ولا جبانا ) رواه البخاري .
    قال ابن حجر: " في هذه الأحاديث وفي معناها: ذم الخصال السيئة، وهي البخل والكذب والجبن، وأن إمام المسلمين لا يصلح أن يكون فيه خصلة منها، وفيه ما كان في النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الحلم وحسن الخلق وسعة الجود، والصبر على جفاة الأعراب " .

    حلمه مثل سنا الشمس وهل لسنا الشمس يُرى من جاحد .

    ما أريدَ بهذه القسمة وجه الله :

    عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه ـ قال : ( فلما كان يوم حنين آثر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ناسا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناسا من أشراف العرب، وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: والله إن هذه القسمة ما عُدِل فيها وما أريد فيها وجه الله، قال : فقلت: والله لأخبرن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قال: فأتيته فأخبرته بما قال، قال: فتغير وجهه حتى كان كالصِرف (صبغ أحمر)، ثم قال: فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله؟!، قال :
    ثم قال : يرحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر )، قلت: لا جرم لا أرفع إليه بعدها حديثا ) رواه مسلم .
    يقول ابن القيم في كتابه زاد المعاد: " ومعلوم أن الأنفال لله ولرسوله يقسمها رسوله حيث أمره لا يتعدى الأمر، فلو وضع الغنائم بأسرها في هؤلاء لمصلحة الإسلام العامة، لما خرج عن الحكمة والمصلحة والعدل ..
    ولعمر الله إن هؤلاء من أجهل الخلق برسوله، ومعرفته بربه وطاعته له، وتمام عدله، وإعطائه لله، ومنعه لله " .

    يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك :

    عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : ( كنت أمشى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه (جذبه) بردائه جبذة شديدة، نظرت إلى صفحة عنق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته ، ثم قال : يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك ، فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضحك ثم أمر له بعطاء ) رواه مسلم، وفي رواية النسائي ( ضعفها الألباني )
    أن الأعرابي قال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " فإنك لا تعطي من مالك ولا مال أبيك " .
    لقد جمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الموقف بين الحلم والصبر على جفاء الأعرابي وغلظته، وبين الإحسان إليه، بل أضاف إلى الموقف الابتسامة والضحك .
    قال النووي: " فيه احتمال الجاهلين والإعراض عن مقابلتهم، ودفع السيئة بالحسنة، وإعطاء من يتألف قلبه، والعفو عن مرتكب كبيرة لا حدَّ فيها بجهله، وإباحة الضحك عند الأمور التي يتعجب منها في العادة، وفيه كمال خلق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحلمه وصفحه " .

    واغدراه، واغدراه :

    عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: ( ابتاع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جزورا من أعرابي بوسق من تمر الذّخيرة (العجوة)، فجاء منزله، فالتمس التمر، فلم يجده، فخرج إلى الأعرابي فقال: عبد الله، إنا قد ابتعنا منك جزورك هذا بوسق من تمر الذّخيرة، ونحن نرى أن عندنا، فلم نجده،
    فقال الأعرابي: واغدراه، واغدراه، فوكزه الناس وقالوا:إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ تقول هذا؟!، فقال: دعوه، فإن لصاحب الحقّ مقالا، فردد ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ مرتين أو ثلاثا، فلما رآه لا يفقه عنه قال لرجل من أصحابه: اذهب إلى خولة بنت حكيم بن أمية فقل لها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ يقول لك إن كان عندك وسق من تمر الذّخيرة فسلفينا حتى نؤديه إليك إن شاء الله تعالى، فذهب إليها الرجل ثم رجع قال:
    قالت: نعم هو عندنا يا رسول الله، فابعث من يقبضه، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ للرجل: اذهب فأوفه الذي له، فذهب فأوفاه الذي له، قال فمرَّ الأعرابي برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو جالس في أصحابه، فقال: جزاك الله خيرا، فقد أوفيْتَ وأطيبت، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ: أولئك خيار الناس الْمُوفُونَ الْمُطَيِّبُون (الذين طيب الله أوصافهم) ) رواه أحمد وحسنه الألباني .

    ما أظلت الخضراء وما أقلت الغبراء أحسن خُلُقَاً مِنْ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم
    ومن عظيم أخلاقه وجميل صفاته التي ظهرت في مواقفه مع الأعراب وغيرهم: حلمه على من جهل عليه، وعفوه عمن ظلمه، وإحسانه مع من أساء إليه، امتثالاً لقول الله تعالى- { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ }(المائدة من الآية: 13) .
    =================================
    التالي : -
    موقفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع صحابي فقير اسمه جليبيب .

    (( هذا مني وأنا منه ))

    -----------------------------------------
    لا تنسونا من صالح دعائكم
    [/size]

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5370
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود موقفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع صحابي فقير اسمه جليبيب . (( هذا مني وأنا منه ))

    مُساهمة من طرف صادق النور السبت أكتوبر 12, 2024 7:39 am

    ما قبله : -

    من الأمور التي أكدت عليها السنة النبوية أن ميزان الرجال لا يكون بالحسب والنسب، أو المال والمنصب، أو الصور والمناظر، ولكن بتقوى الله والعمل الصالح،
    فعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: ( خطبنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسط أيام التشريق في حجة الوداع، فقال: أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ألا هل بلغتُ؟، قالوا : بلى يا رسول الله، قال : فليُبلغ الشاهدُ الغائب ) رواه أحمد،
    وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم ) رواه مسلم .

    ومن المواقف النبوية الدالة على أن الميزان الصحيح الذي يوزن به الرجال هو الدين والتقوى :
    موقفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع صحابي فقير اسمه جليبيب ـ رضي الله عنه ـ،
    ليس من أعلام وكبار الصحابة، ومع ذلك قال عنه ـ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( هذا مني وأنا منه ) .
    قال عنه ابن الأثير: " جليبيب بضم الجيم، عَلَى وزن قنيديل، وهو أنصاري، له ذكر في حديث أَبِي برزة الأسلمي في إنكاح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ابنة رجل من الأنصار، وكان قصيرًا دميمًا " .
    وقال عنه ابن حجر: " غير منسوب .. أي لا يعرف نسبه "،
    ولكن ذكره أبو الفرج بن الجوزي في كتابه ( صفة الصفوة ) عن ابن سعد قال: " وسمعت من يذكر أن جليبيبًا كان رجلاً من بني ثعلبة حليفًا في الأنصار " .

    أما قصته وموقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معه فيرويها أبو بَرْزَةَ الأَسْلَمِىِّ ـ رضي الله عنه ـ
    فيقول : ( كانت الأنصار إذا كان لأحدهم أَيِّمٌ لَمْ يُزَوِّجْهَا حَتَّى يَعْلَمَ هل للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها حاجة أم لا، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لرجل من الأنصار: زوجني ابنتك، فقال: نِعِمَّ وَكَرَامَةٌ يَا رسول الله، وَنُعْمَ عَيْنِى، فقال: إِنّى لسْتُ أُريدها لنفسي، قال: فَلِمَنْ يا رسول اللَّه؟ قال: لِجُلَيْبِيبٍ، قال: فقال: يا رسول الله أشاور أمها، فأتى أمها فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ابنتك، فقالت: نعم، ونعمة عيني، فقال: إنه ليس يخطبها لنفسه، إنما يخطبها لجليبيب، فقالت: أَجُلَيْبِيبٌ ابْنَهْ؟، أَجُلَيْبِيبٌ ابْنَهْ؟! لاَ لَعَمْرُ اللَّهِ لاَ تُزَوَّجُهُ، فلما أراد أن يقوم ليأتي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليخبره بما قالت أمها، قالت الجارية: من خطبني إليكم؟ فأخبرتها أمها، فقالت: أتردون على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمره، ادفعوني فإنه لم يضيعني، فانطلق أبوها إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبره، قال: شأنك بها، فزوجها جليبيبا،
    قال: فخرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة له، قال: فلما أفاء الله عليه، قال لأصحابه: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نفقد فلانا، ونفقد فلانا، قال: انظروا هل تفقدون من أحد؟، قالوا: لا، قال: لكني أفقد جليبيبا، قال: فاطلبوه في القتلى، قال: فطلبوه، فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه، فقالوا: يا رسول الله، ها هو ذا إلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه، فأتاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقام عليه، فقال: قتل سبعة وقتلوه، هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه، مرتين، أو ثلاثا، ثم وضعه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ساعديه، وحفر له، ما له سرير إلا ساعدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ثم وضعه في قبره، ولم يذكر أنه غسله ) رواه أحمد .
    قال النووي: قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( هذا مني وأنا منه ): معناه المبالغة في اتحاد طريقتهما، واتفاقهما في طاعة الله تعالى " .

    وفي الموقف النبوي مع جليبيب ـ رضي الله عنه ـ فوائد كثيرة، منها :

    حب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ، وعنايته واهتمامه بأحوالهم، والسعي في قضاء حوائجهم، فكان لهم نِعْمَ الصاحب لأصحابه، يسعد لسعادتهم، ويحزن لحزنهم، ويسعى لتفريج كرباتهم، وقد ظهر ذلك في اهتمامه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بأمر جليبيب ـ رضي الله عنه ـ ووساطته في زواجه .
    ـ المكانة العظيمة التي تبوأها جليبيب ـ رضي الله عنه ـ وحب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الشديد له، مما جعله يتفقده ويسأل عنه، ثم يجعل ساعديه له سريرا بعد استشهاده، ويقول مرتين عنه: ( هذا مني وأنا منه )، وقبل ذلك ما ناله من شرف الشهادة في سبيل الله .
    ـ منزلة الإنسان في ميزان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسنته تكون على قدر تقواه، وبمقدار ما يقدم من تضحيات لأجل دينه، ولا عليه بعد ذلك أن يكون فقيرا، أو دميم الخِلقة، أو ضعيف النسب، وقد قال عن جليبيب ـ رضي الله عنه ـ: ( هذا مني وأنا منه ) رواه أحمد .

    لعمرك ما الإنسان إلا بدينه فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب

    فقد رفع الإسلامُ سلمانَ فارسٍ وَقَدْ وَضَعَ الشِّرْكُ الشَّرِيْفَ أَبَا لَهَبْ
    ـ عاقبة طاعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خير في الدنيا والآخرة، فقد قال ابن كثير في حديثه عن قصة جليبيب ـ رضي الله عنه ـ: "
    وذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر في " الاستيعاب ": أن الجارية لما قالت في خِدرها: أتردون على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمره؟ تلت هذه الآية -
    { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا }(الأحزاب:36) " .
    وقد قبلت الفتاة بالزواج من جليبيب ـ رضي الله عنه ـ رغم فقره ودمامة خلقته، طاعة لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فكان من آثار استجابتها وطاعتها للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن دعا لها بقوله: ( اللَّهُمَّ صُبَّ عَلَيْهَا الْخَيْرَ صَبًّا، وَلَا تَجْعَلْ عَيْشَهَا كَدًّا كَدًّا ) رواه البيهقي، فأدركتها بركة دعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فما كان في الأنصار أيم ( من لا زوج لها ) أنفق منها،
    قال أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ: " فما رأَيْتُ بالمدينةِ ثيِّبًا أنفَقَ منها ( أي كثيرة النفقة والخير والأموال )، وما كادت تنتهي عِدَّتها حتَّى تسابق إليها الرجال يخطبونها " .

    ما فعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع جليبيب ـ رضي الله عنه ـ وقوله عنه بعد استشهاده: ( هذا مني وأنا منه )، نتعلم منه الميزان الصحيح الذي يوزن به الرجال وهو تقوى الله ـ عز وجل ـ، وأن مكانة الناس في قلوبنا تكون على حسب إيمانهم وتقواهم وصلاح أعمالهم، ولو كانوا فقراء ..

    =================================

    موقف رسول الله ـصل الله عليه وسلم ـ القدوة العملية في مشاركته لأصحابه التعب والعمل، والآلام والآمال ..

    (( كان خلقه القرآن، يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه ))


    إذا كان لكل أمّة رسول تقتدي به في جميع شؤونها، ولكل فرد شخصية تكون مثله الأعلى وقدوته في هذه الحياة،
    فنحن المسلمين نملك أفضل وأعظم قدوة، إنه سيِّد ولد آدم، وأفضل الأنبياء المرسلين،
    وهو القدوة العملية والأُسوة الحسنة للمؤمنين، قال الله تعالى - { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا }(الأحزاب: 21) .
    قال ابن حزمٍ: " مَنْ أراد خيرَ الآخرة، وحكمة الدنيا، وعدل السيرة، والاحتواء على محاسن الأخلاق كلها، واستحقاق الفضائل بأسرها، فليقتدِ بمحمد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وليستعمل أخلاقه، وسيره ما أمكنه، أعاننا الله على الاتساء به بمَنِّه، آمين " .
    ومن المعلوم أن المناهجَ والنظرياتِ التربويةَ في حاجةٍ دائمةٍ إلى من يُطَبِّقُهَا ويعملُ بها، وبدون ذلك تظلُّ حِبراً على ورق، لا تحقق جدواها،
    ولذلك كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أمر بشيء عمل به أولا، وإذا نهى عن شيء كان أول المنتهين عنه،
    قال ابن حجر في كتابه ( الإصابة ) : " قال الجلندى: لقد دَلَّنِي على هذا النبي الأمي أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له، وأنه يغلب فلا يبطر، ويغلب فلا يهجر ( لا يتلفظ بقبيح )، وأنه يفي بالعهد وينجز الوعد، وأشهد أنه نبي " .

    والسيرة النبوية فيها الكثير من المواقف التي يظهر من خلالها مدى تأثيرُ القُدوة العملية في المدعوين، والتي قد لا تتوافر لمجرد الدعوة النظرية،
    ومن هذه المواقف مشاركته ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه العمل والحفر في غزوة الأحزاب، وموقفه مع أصحابه في عمرة الحديبية .

    في غزوة الأحزاب (الخندق) أعطى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ القدوة العملية في مشاركته لأصحابه التعب والعمل، والآلام والآمال، فقد تولى المسلمون وعلى رأسهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، المهمة الشاقة في حفر الخندق، ورغم طوله الذي بلغ خمسة آلاف ذراع، بعرض تسعة أذرع، وعمق يقرب من عشرة أذرع، فقد تم إنجازه في سرعة كبيرة، وكان لمشاركة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الفعلية، الأثر الكبير في الروح العالية التي سيطرت على المسلمين في موقع العمل، وكان أثناء حفره يردد أبيات عبد الله بن أبي رواحة ـ رضي الله عنه ـ :

    اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلّينا
    فأنزلن سكينة علينا وثبّت الأقدام إن لاقينا
    إن الألى قد بغوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا
    والمسلمون يرددون بعده قائلين :

    نحن الذين بايعوا محمدا على الإسلام ما بقينا أبد
    ا

    وفي ذلك تعليم للقادة والدعاة والمربين أن يعطوا القدوة بفعلهم مع قولهم، فالرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ أمر بحفر الخندق وشارك أصحابه في الحفر وحمل الحجارة، وجاع كما جاعوا، وقد تأثر الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ بذلك تأثرا كبيرا، وعبروا عن ذلك بإنشادهم :

    لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المُضَلل

    عمرة الحدييية :

    لما صدَّ المشركون الرسولَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه عن البيت الحرام، حين أرادوا العمرة عام الحديبية، وبعد إبرام الصلح مع قريش، كان وقع ذلك عظيماً على الصحابة ـ رضوان الله عليهم -، فلما أمرهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بنحر ما معهم من الهَدْي ليُحِلُّوا من إحرامهم، ترددوا مع شدةِ حرصهم على طاعته ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهنا يتجلى الأثرُ العظيم للقدوة العملية، إذ أشارت أمُّ سَلَمَة - رضي الله عنها ـ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقوم هو أولاً فينحر ويحلق شعره ـ عمليا ـ، لأن صحابته سيقتدون به عند ذلك لا محالة .
    عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم - رضي الله عنهما - في حديث طويل، ذكرا فيه: أنه لما تم الصلح بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومشركي قريش، قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ( يا أيها الناس انحروا واحلقوا، قال: فما قام أحد، قال: ثم عاد بمثلها، فما قام رجل حتى عاد بمثلها، فما قام رجل، فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل على أم سلمة فقال: يا أم سلمة! ما شأن الناس؟، قالت: يا رسول الله قد دخلهم ما قد رأيت، فلا تكلمن منهم إنساناً، واعمد إلى هديك حيث كان فانحره، واحلق فلو قد فعلتَ ذلك، فعل الناس ذلك، فخرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يكلم أحدا حتى أتى هَدْيَه فنحره ثم جلس فحلق، فقام الناس ينحرون ويحلقون ) رواه أحمد .
    وفي الرواية التي ذكرها ابن القيم في كتابه " زاد المعاد ": ( فخرج ـ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نَحَرَ بُدْنَهُ، ودعا حالقَه فحلقه، فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غمّاً ) .
    وفي هذا الموقف دلالة ظاهرة على أهمية القدوة العملية، والتفاوت الكبير بين تأثير القول وتأثير الفعل، ففي حين لم يتغلب القولُ على هموم الصحابة وتألُّمِهم مما حدث، فإنهم بادروا إلى التنفيذ اقتداءً بالرسول - صلى الله عليه وسلم - حين تحوَّل أمرُهُ القَولي إلى تطبيقٍ عمليٍّ، حتى كاد يقتل بعضهم بعضاً، ولهذا يدعو الإسلام إلى دعم القول بالعمل، ومطابقة الأفعال للأقوال، قال الله تعالى - { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ }(الصف الآية 2: 3) .

    كان خُلُقُهُ القُرآن :

    بدراسة السيرة النبوية يتم حسن الاقتداء بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ومعرفة شمائله، فإنها ترشد المسلم إلى مكارم الأخلاق، وتعينه على اكتسابها، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو القدوةَ التي ترجمت المنهج الإسلامي وأخلاقه إلى حقيقة وواقع، فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يغرس في أصحابه الأخلاق الطيبة بفعله وسلوكه مع قوله، ولذلك لما سُئِلَت أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها - عن خُلُقِهِ - صلى الله عليه وسلم - قالت: ( كان خُلُقُهُ القُرآن ) رواه مسلم .
    فجميع ما في القرآن الكريم من أخلاق وآداب وفضائل ومكارم متمثّلة في شخصيته وحياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقد تأدب بآدابه، وتخلق بأخلاقه، فما مدحه القرآن، كان فيه رضاه، وما ذمه القرآن، كان فيه سخطه، وجاء في رواية البخاري،
    قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: ( كان خلقه القرآن، يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه ) .
    لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صورةً حيةً لأخلاق وتعاليم الإسلام السامية، رأَى الناس فيه الإسلام رأْيَ العين، فهو أفضل معلم وأعظم قدوةً في تاريخ البشرية كلها، والذي أمرنا ربنا ـ سبحانه ـ بطاعته واتباعه والاقتداء به،
    قال الله تعالى - { وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا }(الحشر من الآية:7)،
    وقال - { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }(آل عمران:31)،
    وقال - { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا }(الأحزاب:21) ..
    ==================================

    موقفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع النعمان بن بشير وأبيه ـ رضي الله عنهما ..

    (( لا تشهدني على جور ))


    رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو القدوة والأسوة الذي يجب أن يقتدي به الآباء والمُرَّبون في تربيتهم، ولا شك أن حياته وسيرته ـ صلى الله عليه وسلم- مليئة بالمواقف الجديرة بالوقوف معها لاستخراج فوائدها ودروسها، والتعامل من خلالها مع الصغار والكبار، والأبناء والناس أجمعين،
    قال الله تعالى - { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً }(الأحزاب:21) .وقد حفظت لنا السيرة النبوية العديد من هذه المواقف،
    ومنها موقفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع النعمان بن بشير وأبيه ـ رضي الله عنهما ـ، الذي يظهر فيه حرصه على بيان أهمية العدل مع الأبناء .

    عن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ: أن أباه أتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ( إني نَحَلْتُ (أعطيت) ابني هذا غلاما كان لي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَكُلَّ ولدك نحلته مثل هذا؟، فقال: لا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فأرجعه )،
    وفي رواية: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( أفعلت هذا بولدك كلهم؟، قال: لا، قال: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم، فرجع أبي، فرد تلك الصدقة )،
    وفي رواية: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا بشير ألك ولد سوى هذا؟، قال: نعم، قال: أَكُلَّهم وهَبْتَ له مثل هذا؟، قال: لا، قال: فلا تشهدني إذا، فإني لا أشهد على جور
    وفي رواية: ( لا تشهدني على جور ) البخاري ومسلم وغيرهما .
    وفي رواية ابن ماجه عن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ قال: ( انطلق به أبوه يحمله إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقال: اشهد أني قد نحَلْتُ (أعطيت) النعمان من مالي كذا وكذا، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: فكل بنيك نحلتَ مثل الذي نحلت النعمان؟، قال: لا، قال: فأشهد على هذا غيري، قال: أليس يسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟، قال: بلى، قال: فلا، إذاً ).
    وعن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( اعدلوا بين أولادكم، اعدلوا بين أولادكم، اعْدِلوا بين أولادكم ) رواه أحمد .

    قال الشيخ ابن عثيمين: " النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعطاه نِحْلة غلاما، وفي رواية حائطا ( بستانا )، ولعله أعطاه البستان والغلام من أجل أن يعمل في البستان،
    فقالت أمه عمرة بنت رواحة ـ رضي الله عنها ـ وهي فقيهة: لا أرضى أن تعطي ابني هذا دون إخوانه حتى تُشْهِدَ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فذهب إلى النبي يشهده على ذلك، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له: ( ألك بنون سواه )؟، قال: نعم، قال: أعطيتهم مثل ما أعطيت النعمان؟، قال: لا، قال: رُد ـ يعني رد ما أعطيت ـ، ثم قال: ( أشهد على هذا غيري )، وهذا تبرؤ منه وليس إباحة له على أن يُشْهِدَ على ذلك، بل هو تبرؤ منه، ولهذا قال: أشْهِد على هذا غيري، فإني لا أشهد على جور " .

    وقال ابن القيم في كتابه " تحفة المودود بأحكام المولود: " قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( أشهد على هذا غيري )، هذا أمر تهديد لا إباحة، فإن تلك العطية كانت جَوْراً بنص الحديث، ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يأذن لأحد أن يشهد على صحة الجور، ومن ذا الذي كان يشهد على تلك العطية، وقد أبَىَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يشهد عليها، وأخبر أنها لا تصلح، وأنها جور، وأنها خلاف العدل،
    ومن العجيب أن يحمل قوله : ( اعدلوا بين أولادكم ) على غير الوجوب، وهو أمر مطلق مكرر ثلاث مرات، والعدل واجب في كل حال، فلو كان الأمر به مطلقاً لوجب حمله على الوجوب، فكيف وقد اقترن به عشرة أشياء تؤكد وجوبه، فتأملها في ألفاظ القصة " .
    وقال ابن حجر في فتح الباري: " وفي الحديث أيضا الندب إلى التآلف بين الإخوة، وترك ما يوقع بينهم الشحناء أو يورث العقوق للآباء " .

    إن ظاهرة عدم العدل بين الأبناء من الظواهر الاجتماعية السيئة الموجودة في بعض الأسر، فيعمد بعض الآباء أو الأمهات إلى تخصيص بعض أولادهم بهبات وأعطيات دون الآخرين، وهذا عمل محرم إذا لم يكن له مسوغ شرعي، كأن تقوم حاجة بأحد الأولاد لم تقم بالآخرين ـ كمرض أو ديْن عليه لا يستطيع سداده ـ .. وهذه الظاهرة لها أسوأ النتائج في الانحرافات السلوكية والنفسية على الأبناء، لأنها تولد الحسد والشحناء بينهم، وتورث العقوق للآباء والأمهات،
    ولذا حث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الوالدين على العدل بين أبنائهم في الهدايا والعطايا، والطعام والكلام، والاستماع والاهتمام، بل وفي المداعبات والقبلة،
    فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ، قال: ( كان مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجل، فجاء ابن له فقَّبَّله وأجلسه على فخذه، ثم جاءت بنت له فأجلسها إلى جنبه، قال: فهلَّا عدلتَ بينهما ) رواه البيهقي،
    وعن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( اعدلوا بين أولادكم في النِحَل، كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف ) رواه الطبراني

    ===================================
    موقفه صل الله عليه وسلم من أعرابي قطفان الذي أراد قتله ..

    (( ما يمنعك مني؟ )) (( فقال ـ صل الله عليه وسلم ـ: اللهُ عز وجل ))


    على الرغم من كثرة المكائد والمؤامرات، وتعدد أشكال الأذى البدني والنفسي الذي تعرض له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا أنه ضرب المثل الأعلى والقدوة الحسنة ـ للمسلمين عامة، وللمُربين خاصة ـ في العفو عن المسيء، وحسن التوكل على الله، والشجاعة ..
    والمواقف الدالة على ذلك من سيرته وحياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ كثيرة، منها ما رواه البخاري في صحيحه
    عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: ( غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة قِبَل نجد، فأدركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في واد كثير العضاه (شجر فيه شوك)، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها،
    قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن رجلا أتاني وأنا نائم، فأخذ السيف، فاستيقظت وهو قائم على رأسي، فلم أشعر إلا والسيف صلتا في يده، فقال لي: من يمنعك مني؟، قال: قلتُ: الله، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟، قال: قلت: الله، فشام السيف (رده في غمده) فها هو ذا جالس، ثم لم يعرِض له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يعاقبه وجلس ) رواه البخاري .
    وفي رواية الإمام أحمد أن الرجل ( قام على رأس رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالسيف فقال: من يمنعك مني؟ فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: اللهُ عز وجل .. فسقط السيف من يده فأخذه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: من يمنعك مني؟، فقال الأعرابي: كن كخير آخذ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أتشهد أن لا إله إلا الله؟، قال: لا، ولكني أعاهدُك أن لا أقاتِلَكَ، ولا أكونَ مع قوم يقاتلونك، فخلى سبيله، فذهب إلى أصحابه، فقال: قد جئتُكم من عندِ خير الناس ) .
    وذكر الواقدي أنه أسلم ورجع إلى قومه فاهتدى به خلق كثير .

    وفي هذا الموقف النبوي الكثير من الفوائد، منها :


    شجاعته وحسن توكله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ربه :

    رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان أفضل الناس توكلا على الله، وأشجع الناس في المواقف والمصاعب، وكانت مواقفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مضرب المثل، ومحط النظر، فهو شجاع في موطن الشجاعة، قوي في موطن القوة، رحيم رفيق في موطن الرفق .
    وفي هذا الموقف الذي نحن بصدده ظهرت شجاعته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحسن توكله على ربه، فقد علق سيفه بغصن شجرة ثم نام، ولولا حسن ثقته بوعد الله بكفايته وعصمته من الناس لطلب حراسة عليه من الجيش أثناء نومه، ولمَّا استيقظ ـ صلى الله عليه وسلم ـ من نومه ووجد السيف مسلطا عليه، والأعرابي يقول له: ( ما يمنعك مني؟ )، لم تظهر عليه أي من علامات الخوف، ولم يزِدْ عن قوله: ( الله )، وهذا يدل على شجاعته وعظيم تعلق قلبه ـ صلوات الله وسلامه ـ بربه، وحسن توكله عليه،
    قال الماوردي : " فمن معجزاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ : عصمتُه من أعدائه، وهم الجمُّ الغفير، والعددُ الكثير، وهم على أتم حَنَقٍ عليه، وأشدُّ طلبٍ لنفيه، وهو بينهم مسترسلٌ قاهر، ولهم مخالطٌ ومكاثر، ترمُقُه أبصارُهم شزراً، وترتد عنه أيديهم ذعراً، وقد هاجر عنه أصحابه حذراً حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة، ثم خرج عنهم سليماً، لم يَكْلَمْ في نفسٍ ولا جسد، وما كان ذاك إلا بعصمةٍ إلهيةٍ وعدَه الله تعالى بها فحققها، حيث قال ـ سبحانه ـ - { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }(المائدة: من الآية67)،فعَصَمَه منهم ".

    حب الصحابة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :

    قول جابر ـ رضي الله عنه ـ في هذا الحديث وهذا الموقف: ( فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ) فيه دلالة واضحة على عظيم حبهم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإيثارهم له على أنفسهم، فلقد أحب الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حُباً فاق كل حب، فآثروه على أنفسهم بالمال والنفس والولد،
    وقد سُئِل علي ـ رضي الله عنه ـ كيف كان حبكم لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟،
    قال: " كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ "، فكان لسان حالهم ومقالهم عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :

    هو المُقَّدم في نفسي على نفسي وأهل بيتـي وأحبابـي وخِلانـي

    العفو النبوي :

    من فوائد وثمرات هذا الموقف النبوي الهامة ظهور حبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ للعفو والصفح عمن أراد إيذاءه، فقد ورد في الحديث: ( فها هو ذا جالس، ثم لم يعرض له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )، ومعنى ( ثم لم يعرض له ): أي لم يعاقبه على ما فعل .
    قال ابن حجر: " فمنّ عليه (عفا عنه)، لشدة رغبته ـ صلى الله عليه وسلم ـ في استئلاف الكفار ليدخلوا في الإسلام ".
    ألا ما أجمل العفو عند المقدرة، وما أعظم النفوس التي تسمو على الانتقام للنفس، بل تسمو على أن تقابل السيئة بالسيئة، وتعفو وتصفح، ثم أليس من صفاته ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ التي بشّرت بها التوراة أنه " ليس بفظّ ولا غليظ، ولا سخّاب في الأسواق، ولا يقابل السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح ؟ ".
    وإذا كان العفو من صفات الجمال والكمال الخُلقي، فلنبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ النصيب الأوفى منه، إذ كان أحسن الناس عفواً، وألطفهم عشرة، يعفو عن المسيء، ويصفح عن المخطئ، ولا ينتقم لنفسه أبدا،
    فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: ( ما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا قَط بيده، ولا امرأة ولا خادما، إِلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نِيلَ منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إِلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل ) رواه مسلم .

    لقد ترك هذا الموقف النبوي الكريم أثرًا كبيرًا في أعراب هذه المنطقة من غطفان، فقد أظهر وأكد أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس رجلاً كريمًا فحسب، وليس قائدًا شجاعًا جريئًا فقط، وإنما هو أيضًا نبي مُرْسَل، لأنه ليس من عادة الملوك والقادة أن يتركوا من وقف عليهم بالسيف مهدِّدًا هكذا دون أن يقتلوه، وليس من عادتهم الرحمة والتسامح إلى هذا الحد، مما كان لذلك أبلغ الأثر في تفكير هؤلاء الأعراب جديًّا في الدخول في الإسلام .

    ======================================
    التالي : -
    موقفه صل الله عليه وسلم مع معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ..

    (( يا معاذ! والله إني لأحبك ))


    ------------------------------
    لا تنسونا من صالح دعائكم

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5370
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود موقفه صل الله عليه وسلم مع معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه .. (( يا معاذ! والله إني لأحبك ))

    مُساهمة من طرف صادق النور السبت أكتوبر 12, 2024 8:46 pm

    ما قبله : -

    موقفه صل الله عليه وسلم مع معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ..

    (( يا معاذ! والله إني لأحبك ))


    عن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخذ بيده وقال: (يا معاذ! والله إني لأحبك، أوصيك يا معاذ لا تدَعَنَّ في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) رواه أبو داود، وفي إحدى روايات الحديث ـ كما عند البخاري في "الأدب المفرد": أن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ ردَّ على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائلا: (وأنا والله أحبك).

    معاذ بن جبل الخزرجي الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ، كنيته أبو عبد الرحمن، أحد السبعين الذين شهدوا العقبة من الأنصار، وكان عمره ثمانية عشر عاماً،
    قال الذهبي عنه في كتابه سِير أعلام النبلاء: " معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المقربين، ومن الذين شهد لهم بالعلم والفقه والدين، أمر ـ صلى الله عليه وسلم ـ الناس بأخذ القرآن عنه، وبعثه إلى اليمن معلما وداعيا وأميرا".
    وقال ابن تيمية: "وكان معاذ ـ رضي الله عنه ـ من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمنزلة علية، فإنه قال له: (يا معاذ! والله إني لأحبك)، وكان يردفه وراءه " .

    لا شك أن حب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمعاذ ـ رضي الله عنه ـ وإخباره بذلك فيه فضيلة عظيمة له، غير أنه ـ رضي الله عنه ـ لم يُخْتص بهذه الفضيلة دون باقي الصحابة، فقد ورد تصريح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإخباره لبعض الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ بمحبته لهم على وجه الخصوص أو العموم، والأمثلة في ذلك كثيرة، منها :

    محبة الأنصار جميعا :

    عقد الإمام البخاري في صحيحه بابا قال فيه: " باب قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأنصار: (أنتم أحب الناس إليَّ)، ثم ساق الحديث بسنده عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: (رأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ النّساء والصبيان مقبلين قال: ـ حسبت أنه قال: من عُرْس ـ فقام النبي ـ صلى الله عليه ـ وسلم مُمْثِلًا (قائما منتصبا)،فقال: اللهم أنتم من أحب الناس إليَّ ، قالها ثلاث مرات).

    أبو بكر، وعمر، وأم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنهم ـ :

    سأل عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (أي الناس أحب إليك؟، قال: عائشة، قلتُ: فمِنَ الرجال؟، قال: أبوها، قلت: ثم مَنْ؟، قال: ثم عمر بن الخطاب، فعدَّ رجالا) رواه البخاري .

    الحسن والحسين ـ رضي الله عنهما ـ :

    عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال في الحسن: (اللهم! إني أحبُّه، فأحبَّه وأحبِبْ من يُحبُّه) رواه البخاري،
    وقال في الحسن والحسين: (اللهم إني أُحبهما، فَأَحِبَّهُمَا، وأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُمَا) رواه الترمذي.

    زيد بن حارثة ، وابنه أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ :

    عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَال عن زيد بن حارثة وابنه أسامة : (إِنْ كانَ مِنْ أَحَبِّ الناسِ إلَيَّ (يعني: زيداً)، وإِن هذا (يعني: أسامة) لمِنْ أَحَبِّ النَّاس إِلَيَّ بعده) رواه البخاري.

    ليست هذه جميع الأمثلة الواردة في هذا الباب، بل هناك الكثير من الأحاديث التي تتضمن معاني المودة والمحبة من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمعاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ أو لغيره من صحابته الكرام ـ رضوان الله عليهم ـ، فقد كان ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يحبهم جميعا، وإنما خص بعضهم بألفاظ المحبة، أو أخبرهم بها لمزيد عناية بهم، ولِما لهم من المكانة الخاصة .

    فائدة

    من السُنَّة إذا أحببتَ شخصاً أن تقول له: إني أحبك في الله، وذلك لما في هذه الكلمة من إلقاء المحبة في قلبه،
    فعن المقداد بن معد يكرب ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه) رواه أبو داود ،
    وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن رجلا كان عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمر به رجل، فقال: يا رسول الله إني لأحب هذا، فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (أعلمته؟، قال: لا، قال: أعلمه، قال: فلحقه فقال: إني أحبك في الله، فقال: أحبَّك الذي أحببتني فيه) رواه أبو داود.

    وعن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهم ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إذا أحب أحدكم أخاه في الله فليبين له، فإنه خير في الألفة، وأبقى في المودة).

    قال المناوي: "فليخبره بمحبته له ندبا، بأن يقول له إني أحبك لله، أي: لا لغيره من إحسان أو غيره، فإنه أبقى للألفة، وأثبت للمودة، وبه يتزايد الحب ويتضاعف، وتجتمع الكلمة، وينتظم الشمل بين المسلمين، وتزول المفاسد والضغائن، وهذا من محاسن الشريعة".

    وقال الشيخ ابن عثيمين: "وذلك لما في هذه الكلمة من إلقاء المحبة في قلبه، لأن الإنسان إذا علم أنك تحبه أحبك، مع أن القلوب لها تعارف وتآلف وإن لم تنطق الألسن،
    وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) رواه مسلم، لكن إذا قال الإنسان بلسانه فإن هذا يزيده محبة في القلب ، فتقول : إني أحبك في الله".

    لقد جاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالنور الذي أضاء العالم، وأعطى للبشرية مثالا راقياً في التربية والقيادة بمنهج الحب، بين المُرَبِي والمُرَبَّى، والقائد والجندي، والصاحب وصاحبه،
    والمتأمل في سيرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرى ذلك واضحا جليا،
    وقد فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك مع بعض أصحابه ـ ومنهم معاذ ـ رضي الله عنه ـ ليعطينا القدوة في ذلك.

    =======================================
    موقفه صل الله عليه وسلم على ترسيخ خطورة الظلم في نفوس أصحابه والمسلمين من بعدهم ..

    (( اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ))


    للظلم عواقب سيئة على الأمم والأفراد، وهو خُلق ذميم، وذنب عظيم، يحيل حياة الناس إلى شقاء وجحيم، ويأكل الحسنات، ويجلب الويلات على المجتمعات،.
    قال الله تعالى - { وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً }(الكهف:59) .. ولشدة خطره وعظيم أثره كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكثر من الاستعاذة منه فيقول: ( وأعوذ بك أن أَظلِم أو أُظلم ) رواه النسائي .
    وعن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( إن الله ليُمْلِي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }(هود:102) .
    وقال ابن تيمية: " إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة،
    ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام
    " .

    وسيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مليئة بالأحاديث والمواقف التي حرص النبي - صلى الله عليه وسلم ـ من خلالها على ترسيخ خطورة الظلم في نفوس أصحابه والمسلمين من بعدهم، وتحذر من الظلم وشره، وتبين آثاره على الأفراد والأمم، ومنها :

    عن جابر - رضي الله عنه - قال: ( لما رجع مهاجروا البحر ( الحبشة ) إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟! ، قال فتية منهم: بلى يا رسول الله! بينما نحن جلوس، إذ مرت عجوز من عجائز رهابينهم تحمل على رأسها قُلَّةً من ماء، فقام إليها فتىً من فتيانهم فوضع إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها فخرت على ركبتيها، فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت، التفتت إليه فقالت: سوف تعلم، يا غُدر (غادر)، إذا وضع الله الكرسي، وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف يكون أمري وأمرك عنده غداً،
    فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صدقت .. صدقت، كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم ؟! ) رواه ابن ماجه .
    قال السِّندي: ( يقدِّس الله ) أي: يُطَهِّرهم من الدَّنس والآثام " .
    وقال المناوي: " ( كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم ): استخبار فيه إنكار وتعجُّب، أي: أخبروني كيف يُطهِّر الله قومًا لا ينصرون العاجز الضَّعيف على الظَّالم القويِّ، مع تمكُّنهم من ذلك؟!، أي: لا يطهِّرهم الله أبدًا، فما أعجب حالكم إن ظننتم أنَّكم مع تماديكم في ذلك يُطهِّركم! ".

    وعن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ : أن أمه بنت رواحة سألت أباه بعض الموهبة من ماله لابنها فالتوى بها سنة ثم بدا له، فقالت : لا أرضى حتى تُشْهِدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما وهبتَ لابني، فأخذ أبى بيدي وأنا يومئذ غلام فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله : إن أم هذا بنت رواحة أعجبها أن أُشْهِدك على الذي وهبتُ لابنها،
    فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( يا بشير ألك ولد سوى هذا؟، قال: نعم، فقال: أكلهم وهبْتَ له مثل هذا ؟، قال: لا، قال: فلا تُشْهِدني إذاً، فإني لا أشهد على جور( ظلم ) ) رواه مسلم .

    وعن أبي مسعود البدري ـ رضي الله عنه ـ قال: ( كنتُ أضرب غلامًا لي بالسَّوط، فسَمِعتُ صوتًا من خلفي: اعْلَم أبا مسعود، فلم أفهم الصَّوت من الغضب، قال: فلمَّا دنا مني إذا هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو يقول: اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود، قال: فألقيتُ السَّوط من يدي، فقال: اعلم أبا مسعود أنَّ الله أقدر عليك مِنْك على هذا الغلام، قال: فقلتُ لا أضرب مملوكًا بعده أبدًا، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أما لو لم تفعل لَلَفَحَتْكَ النار ـ أو لَمَسَّتْكَ النار ـ ) رواه مسلم .

    وعن أبي أمامة الباهلي ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة، فقال رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟!، فقال - صلى الله عليه وسلم -: وإن كان قضيباً من أراك ) رواه مسلم .

    وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: ( من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه، أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخِذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات، أخذ من سيئات صاحبه فحُمل عليه ) رواه البخاري .

    وعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ) رواه مسلم .
    قال النووي: " قال القاضي: قيل : هو على ظاهره فيكون ظلمات على صاحبه لا يهتدي يوم القيامة سبيلا حتى يسعى نور المؤمنين بين أيديهم وبأيمانهم " .

    وعن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما
    ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث معاذا إلى اليمن، فقال ( اتّق دعوة المظلوم، فإنّها ليس بينها وبين الله حجاب ) رواه البخاري .
    قال ابن حجر: " أي تجنب الظلم لئلا يدعو عليك المظلوم، وفيه تنبيه على المنع من جميع نوازع الظلم " .

    وعن خزيمة بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام، يقول الله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين ) رواه الطبراني .

    =====================================
    موقفه صل الله عليه وسلم مع أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص بن أمية رضي الله عنها ..

    (( يا أمَّ خالد هذا سنا ـ والسنا بلسان الحبشة الحسنُ ـ ))

    عن أم خالد بنت خالد ـ رضي الله عنها ـ قالت : ( أُتيَ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بثيابٍ فيها خميصة سوداء، قال: من ترَون نكسوها هذه الخميصةَ؟!، فأسكتَ القومُ، قال: ائتوني بأمِّ خالدٍ، فأتي بي النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فألبسَنيها بيده، وقال: أبلي وأخلِقي ـ مرتين ـ، فجعل ينظر إلى علمِ الخميصةِ ويشير بيده إليَّ ويقول: يا أمَّ خالد هذا سنا ـ والسنا بلسان الحبشة الحسنُ ـ ) رواه البخاري .

    أم خالد: هي أَمَة بنت خالد بن سعيد بن العاص بن أمية، وأمها أميمة بنت خلف الخزاعية إحدى فضليات نساء الصحابة، وُلِدَت بأرض الحبشة، وفتحت عينيها على الإسلام، وكان والدها من المهاجرين إلى الحبشة حين اشتد الأذى على المؤمنين في مكة، وتزوجها الزبير بن العوام ـ رضي الله عنه ـ أحد العشرة المبشرين بالجنة، وولدت له عمرا وخالدا، وعاشت دهرا طويلا حتى لحقها موسى بن عقبة .
    ( الخميصة ) : كساء من خز أو صوف أسود، ( أبلي وأخلقي ) : كلام معروف عند العرب معناه الدعاء بطول البقاء ،( سنا ) : في الحديث تفسيره أنه بلسان الحبشة : الحسن .
    قال ابن حجر: " أَبْلِي بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَسُكُون الْمُوَحَّدَة وَكَسْر اللَّام أَمْر بِالْإِبْلاءِ ,
    وَكَذا قوله: أَخْلِقِي بِالْمُعْجَمَةِ وَالْقَاف أَمْر بِالْإِخْلاقِ وَهُمَا بِمَعْنًى, وَالْعَرَب تُطْلِق ذَلِكَ وَتُرِيد الدُّعَاء بطول البقاء لِلْمُخَاطَبِ بذلك, أَيْ أَنَّهَا تَطُول حَيَاتُهَا حَتَّى يَبْلَى الثَّوْب وَيَخْلَق "
    وقال: " .. ووقع في رواية أبي زيد المروزي عن الفربري: ( وأخلفي ) بالفاء وهي أوجه من التي بالقاف، لان الأولى تستلزم التأكيد، إذ الإبلاء والإخلاق بمعنى، لكن جاء العطف لتغاير اللفظتين، والثانية تفيد معنى زائدا، وهو أنها إذا أبلته أخلفت غيره، ويؤيد هذه الرواية ما أخرجه أبو داود بسند صحيح عن أبي نضرة قال:
    ( كان أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا لبس أحدهم ثوبا جديدا، قيل له: تبلي ويخلف الله ) " .

    لا شك أن اهتمام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأم خالد، والمعاملة النبوية الكريمة مع طفولتها، فيه تكريم لها، وإدخال للسرور عليها وعلى أبيها، إذ رأى أبوها ـ سعيد بن العاص ـ رضي الله عنه ـ، النبيَّ - صلى الله عليه وسلم – يكسوا ابنته الصغيرة بيديه،
    ويقول لها : ( يا أم خالد سنا ) أي: هذا جميل وحسن، بلغة الحبشة التي تعلمتها أم خالد حيث وُلدت، ثم يُعَّقِّب النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك فيدعو لها بطول العمر، قائلا: ( أبلي وأخلقي )، ومعلوم أن إكرام الصغار إكرام لآبائهم، والبر بهم برٌ بأهليهم وذوي قرابتهم .

    وفي موقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع الطفلة الصغيرة أم خالد اهتمامه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وتكريمه للبنات، فمن المعلوم أن العرب في الجاهلية كانوا لا يحبون البنات، ويترقبون الأولاد، للوقوف إلى جانبهم ومساندتهم، أما البنت فكان التخوف من عارها يحملهم على كراهتها، حتى بعث الله نبينا ـ صلى الله عليه وسلم -، فحفظ للبنت حقوقها وأكرمها، ووعد من يرعاها ويحسن إليها بالأجر الجزيل، وجعل حسن تربيتها ورعايتها والنفقة عليها سبب من الأسباب الموصلة إلى رضوان الله وجنته، حتى قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم -: ( من عال جارتين حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو وضم أصابعه ) رواه مسلم .

    الـتـكـنـيـة :

    يؤخذ من حديث أم خالد فائدة وهي جواز التكنية للصغير، ومثله حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : ( كان النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ ـ قال: أَحسبُهُ فَطِيمًا ـ وكان إِذا جاء قَالَ: يا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ ) رواه البخاري . والنغير: طائر صغير كان يلعب به .
    فمن سُنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ التكنية ومناداة الصغير بأبي فلان، أو الصغيرة بأمّ فلان، وتكنية الطفل ينمّي لديه الإحساس بالثقة، ويُشعره بأنّه أكبر من سنّه فيزداد نضجه، ويرتقي بشعوره عن مستوى الطفولة المعتاد، ويحسّ بمشابهته للكبار .

    بركة دعاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :

    لقد كان لدعاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأثر المبارك في حياة أم خالد ـ رضي الله عنها ـ عندما قال لها: ( أبلي وأخلقي )، إذ استجيبت دعوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فلم تعِش امرأة من الصحابة ما عاشت أم خالد ـ رضي الله عنها ـ، فقد ذكر الذهبي في السِّيَر: " أنها عُمِّرَت إلى قريب من عام تسعين " ..

    وفي قصة أم خالد ـ رضي الله عنها ـ نرى مع كثرة أعبائه ومسئولياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ كيف اتسع وقته ليهتم بإدخال السرور على أصحابه وعلى أطفالهم الصغار، ولا عجب فهو المبعوث لإسعاد البشرية في دنياهم وأخراهم،
    وهو الذي دلّ أمته على أن أحب الأعمال إلى الله ـ عز وجل ـ: ( سرور تدخله على قلب مسلم ) ..

    ========================================

    موقفه صل الله عليه وسلم مع أبي خيثمة ـ رضي الله عنه ..

    (( كن أبا خيثمة ))


    خرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمحاربة الروم في رجب من العام التاسع الهجري، في غزوة سميت بغزوة تبوك نسبة إلى عين ماء يقال لها تبوك، وعرفت كذلك بغزوة العُسْرة، لصعوبة وشدة الظروف التي وقعت فيها، من شدة الحر، وقلة الماء، وبُعْد المكان، وقلة المال والدواب،
    ويصف عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ذلك فيقول: " خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه فيشربه
    وقال الله تعالى عن هذه الغزوة: { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ } (التوبة: 117) .

    ورغم صعوبة وشدة هذه الغزوة فقد استجاب للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ، فنفروا للجهاد مسرعين، يسيرون في الصحراء المترامية، بين الحر الشديد ووعورة الطريق، لا يكترثون بوعثاء السفر، ولا يثنيهم عن غايتهم ما يحيط بهم من المتاعب، بل يَجدون في طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم ـ ما يذهب كل ألم ويزيل كل مشقة.
    ومع ذلك فقد تخلف عن الخروج مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعض المسلمين عن غير شك ولا ارتياب، منهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية .
    وهناك الذين فترت - أول الأمر- هممهم، فلما جدّ الرحيل وانطلق الجيش أحسوا خطر التخلف على إيمانهم، فنهضوا يدركون ما يوشك أن يفوتهم، منهم : أبو خيثمة،
    قال ابن إسحاق عنهم : " نفر صدق لا يُتهم في إسلامهم، غير أن أبا خيثمة لحق برسول الله ـ صلّى الله عليه وسلم ـ في تبوك " .

    روى البيهقي في الدلائل، والطبراني، والواقدي، وابن كثير، وابن إسحاق في قصة أبي خيثمة ـ رضي الله عنه ـ: " .. ثم إن أبا خيثمة رجع بعد أن سار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أيامًا إلى أهله في يوم حارّ، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه (بستانه) قد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبردت له فيه ماء، وهيأت له فيه طعامًا, فلما دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه، وما صنعتا له، فقال: رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الضح (الشمس) والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد، وطعام مهيأ, وامرأة حسناء في ماله مقيم؟!،
    ما هذا بالنَصَف (العدل)، ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فهيِّئا لي زادًا، ففعلتا، ثم قدم ناضحه (جمله) فارتحله، ثم خرج في طلب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى أدركه حين نزل تبوك، وقد كان أدرك أبا خيثمة عميرُ بن وهب الجمحي في الطريق، يطلب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فترافقا، حتى إذا دنوا من تبوك،
    قال أبو خيثمة لعمير بن وهب: إن لي ذنبًا، فلا عليك أن تخلف عني حتى آتي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ففعل حتى إذا دنا من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو نازل بتبوك، قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( كن أبا خيثمة ) , فقالوا: يا رسول الله, هو – والله - أبو خيثمة، فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( أوْلى لك يا أبا خيثمة، ثم أخبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الخبر، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خيرًا، ودعا له بخير ) " .

    هذه القصة فيها الكثير من الدلالات والعبر أهمها :

    ـ حكمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقوله: ( كن أبا خيثمة ) يدل على معرفته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأصحابه، ومعرفة خصال الرجال ومعادنهم .
    ـ الدلالة على حب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه، وحرصه عليهم، فهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما قال عنه ربه ـ عز وجل ـ - { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ }(التوبة:128) .
    ـ توجيه صاحب الخطأ إذا أخطأ، إذ قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي خيثمة: ( أوْلى لك يا أبا خيثمة )، وهي كلمة فيها عتاب وتربية، ومعناها: دنوتَ من الهلكة، وكان الأجدر بك ألا تفعل ذلك، وهذا منهج نبوي كريم في تعليم القادة والمُرَبِّين عدم السكوت على الخطأ، لأن ذلك يضر صاحبه ويلحق الضرر بغيره، مع توجيه المخطيء برفق وحب ..

    وفي قصة أبي خيثمة درس لكل مسلم، أن لا يتخلف أو يتردد عن عملٍ يقتضيه دينه، فالراحة والسعادة لا معنى ولا طعم لهما مع مخالفة أمر الله، أو أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فالتخلف عن القيام بواجباتنا نقص في الإيمان، وخلل في الدين، لابد فيه من التوبة الصادقة مع الله،
    ولذلك سارع أبو خيثمة إلى إصلاح خطئه، فهذا سلوك المتقين الذين تمر عليهم لحظات ضعف يعودون بعدها أقوى إيمانا مما كانوا عليه إذا تذكروا وحاسبوا أنفسهم,
    وفي ذلك يقول الله تعالى - {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } (الأعراف: 201) ..
    ====================================
    التالي : -
    موقفه صل الله عليه وسلم فيمن غش المسلمين ..

    (( أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غشّ فليس مني ))

    -----------------------------------
    لا تنسونا من صالح دعائكم

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5370
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود موقفه صل الله عليه وسلم فيمن غش المسلمين .. (( أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غشّ فليس مني ))

    مُساهمة من طرف صادق النور الأحد أكتوبر 13, 2024 9:27 pm

    التالي : -

    موقفه صل الله عليه وسلم فيمن غش المسلمين ..

    (( أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غشّ فليس مني ))


    عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرّ على صُبْرَة طعام، فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً، فقال: ( ما هذا يا صاحب الطعام؟ ) ، قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: ( أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غشّ فليس مني) رواه مسلم .

    وفي رواية أخرى للحديث عند مسلم : (من غشنا فليس منا) .

    معاني المفردات == السماء : المطر === الصُبْرة : الكومة المجموعة بلا كيل ولا وزن.

    تفاصيل الموقف

    الغشّ ظاهرةٌ اجتماعيّة خطيرة، يقوم فيها الكذب مكان الصدق، والخيانة مكان الأمانة، والهوى مقام الرّشد، نظراً لحرص صاحبها على إخفاء الحقيقة، وتزيين الباطل، ومثل هذا السلوك لا يصدر إلا من قلبٍ غلب عليه الهوى، والانحراف عن المنهج الرّباني.

    ومظاهر الغش والخداع كثيرةٌ، جاء أحدها في موقفٍ سجّله لنا التاريخ، وفيه أنه النبي –صلى الله عليه وسلم- كانت له زيارةٌ إلى السوق ليشتري ما يحتاجه، فاستوقفه منظر كومة من طعام –جاء في المستدرك أنها من الحنطة- وقد عرضها صاحبها للبيع.

    ومن النظرة الأولى أُعجب النبي –صلى الله عليه وسلم- بالطعام فهو يبدو فائق الجودة والنضارة، لكن الفحص الدقيق يُظهر ما كان خافياً، فقد أدخل النبي عليه الصلاة والسلام يده الشريفة إلى تلك الكومة فإذا بها مبتلّةٌ على نحوٍ يوحي بقرب فسادها.
    استدار النبي –صلى الله عليه وسلم- إلى الرجل، وألقى إليه بنظرةِ لائمٍ وأتبعها بسؤال المعاتب: ( ما هذا يا صاحب الطعام؟ ) ، فأطرق الرجل رأسه في خجل وقال: ": أصابته السماء يا رسول الله"، وكأنه يريد أن يعتذر عن فعلته ولكن بما لا يُعتذر به، وأن يُبرّر موقفه ولو بأقبح التبريرات، كل ذلك محاولةً منه في تخفيف غضب النبي عليه الصلاة والسلام وعتابه.

    لكنّه رسول الله، ومعلّم البشريّة، ومتمّم الأخلاق، ما كان له أن يتغاضى عن موقفٍ كهذا، وليس الموقف موقف مجاملات أو صفحٍ عن خطأ فردي، ولكنّه أوان ترسيخ مبدأ عظيم يحفظ حقوق الناس ويصونها من العبث والتدليس: ( أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غش فليس مني)

    إضاءات على الموقف

    حقيقة الغش هو تقديم الباطل في ثوب الحق، الأمر الذي ينُافي الصدق المأمور به والنصح المندوب إليه،
    وقد صحّ الحديث عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) متفق عليه، ومن هذا المنطلق جاء تحريم الغشّ حتى يُعامل كل فردٍ من أفراد المجتمع غيره بما يُحبّ أن يُعاملوه به، فكما لا يرضى الخديعة والاحتيال على نفسه فكيف يرضاه على الآخرين؟

    ومن العار على الشرفاء أن يرضوا على أنفسهم بمثل هذه الدناءة الخُلُقيّة، فعلاوةً على كونها معصيةً صريحة لله ورسوله،
    وأكلاً لأموال الناس بغير حق، فهي كذلك سببٌ في ضياع الذمم وانعدام الثقة وإشاعة البغضاء، وقد أوضح النبي –صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: ( بيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما مُحقت بركة بيعهما ) متفق عليه.

    وإذا جئنا إلى صور الغشّ في البيع فهي كثيرة جداً، ومن ذلك: التطفيف في المكيال وعدم إيفاء الوزن حقه بما يتنافى -
    مع قوله تعالى: {وزنوا بالقسطاس المستقيم} ( الإسراء: 35)،
    ومن ذلك بيع التصرية: وهو ترك حلب الناقة مدّة قبل بيعها لإيهام المشتري بكثرة لبنها،
    ومن صورها: إطعام النحل للسكّر حتى تُكثر نتاجها، وخلط الماء باللبن حتى يكثر، وبيع البضائع المقلّدة على أنها أصليّة، ومنع المشتري من فحص السلعة أو تجريبها قبل شرائها، وقريحة من لا خلاق لهم لا تنضب من ابتكار صورٍ جديدة له في كلّ عصرٍ وبلد، ولا حول ولا قوّة إلا بالله.

    على أن مفهوم الحديث أوسع من دلالته على تحريم الغش في مجال المعاملات المالية فحسب، فقد خرج مخرج القاعدة الشموليّة التي تخاطب جميع أنواع الحياة، فيكون الغشّ في الزواج بإخفاء عيوب الزوجة، أو منافاة الأمانة في عدم بيان حال من تقدّم للخطوبة وأخلاقه ودينه، ويكون الغشّ في النطاق الوظيفيّ في العمل بما يحقّق المصالح الشخصيّة ولو كان على حساب الآخرين، ويكون الغش مع العلماء في كتم النصيحة عنهم، فضلاً عن أشهر أنواع الغشّ وأكثرها خطورة: غش الطلاّب في الامتحانات.

    ولن يكون علاج مثل هذا الداء العضال إلا بإيقاظ الضمائر وإحياء جانب المراقبة عند الأفراد، فيعلم كل فردٍ أن الله مطّلع على أعماله وسوف يحاسبه، ويتزامن ذلك مع إيجاد عقوبات رادعة تُعاقب كل من سوّلت له نفسه خيانة الأمانة، وبذلك يتحقّق الأمن وتنتشر الأمانة، ويسود الإخاء في أرجاء الأمّة.
    ======================================
    موقفه صل الله عليه وسلم مع شارب الخمر --

    ((لا تقولوا هكذا، ولكن قولوا: اللهم اغفر له اللهم ارحمه ))


    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أُتي النبي -صلى الله عليه وسلم- برجل قد شرب، قال: ( اضربوه ) ، فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، قال: ( لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان) ". رواه البخاري .

    وفي رواية أخرى: " ثم أمرهم فبكَّتوه فقالوا: ألا تستحي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تصنع هذا؟ ثم أرسله، فلما أدبر وقع القوم يدعون عليه ويسبونه،
    يقول القائل: اللهم أخزه اللهم العنه، فقال رسول الله -صلى الله عليه و سلم-: (لا تقولوا هكذا، ولكن قولوا: اللهم اغفر له اللهم ارحمه) " رواه أبو داوود والبيهقي .

    تفاصيل الموقف

    "حرمت الخمر، ولم يكن للعرب عيش أعجب منها، وما حُرم عليهم شيء أشد من الخمر" هكذا يصف أنس بن مالك رضي الله عنه ولع العرب بشرب الخمر أيّام الجاهليّة وشدّة تعلّقهم بها، فقد كان تعاطيها أكثر من مجرّد عادةٍ فرديّة، بل كانت ظاهرةً اجتماعيّة تربّى عليها الصغير قبل الكبير، والفقير قبل صاحب المال الوفير، وعُقدت لها المجالس، وصُرفت عليها النفقات، وأُنشدت فيها الأشعار، ويوضّح حقيقة ذلك التعلّق المذموم قول أحدهم في جاهليّته:

    إذا مت فادفني إلى جنب كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها

    ولا تدفنــني بالفــلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقه
    ا

    ثم جاء الإسلام بمنهجه العملي والواقعي لعلاج هذا الواقع المعقّد، فاستطاع وبكلّ جدارة أن يقتلع جذور هذه الآفة من نفوس العرب، فلما أُعلن في المدينة تحريم الخمر والتحذير من مقاربته –فضلاً عن مقارفته-،
    رأينا الامتثال الفوري من الصحابة رضوان الله عليهم، وتروي كتب السيرة في هذا الصدد كيف سالت أزقّة المدينة من الخمور التي أُريقت وتم التخلّص منها.

    ثم بقي بعد ذلك تفاوت الصحابة رضوان الله عليهم في قدرتهم على امتثال الأوامر الإلهيّة، فأما عامّة الناس فقد امتنعوا عن شراب المسكرات وتجاوزوا هذه المرحلة، وبقي منهم أفرادٌ قلائل لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة –فيما نعلم من مرويّات السيرة- لم يقدروا على كسر دائرة الإدمان، فكانت تعتريهم لحظات ضعفٍ بين الفينة والأخرى، كان منهم صاحب القصّة التي بين أيدينا.

    وما نحسب هذا الصحابي رضي الله عنه إلا رجلاً قد طرق من أبواب الخير ما نرجو أن تكون شفيعاً له عند ربّه، إلا أن صراعه مع شهوة الخمر كان مريراً، فينجح مرَّاتٍ في الابتعاد عنها، وأحياناً تغلبه نفسه وتضعف مقاومته، حتى إذا انتهى من المعصية ساوره الندم وخالجته المرارة وعزم على عدم العودة، وأحدث من الصالحات ما عسى أن يمحو سيّئاته.

    وفي إحدى "هفواته" ظهر للعيان كونه شارباً للخمر، واقعاً في الذنب، فاقتاده الصحابة الكرام إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- مُتلبّساً بفعلته، فأصدر النبي عليه الصلاة والسلام الأمر بمعاقبته وقال: (اضربوه) .

    ولكن هل هو ضربٌ ينكأ جرحاً أو يكسر عظماً أو يُدمي جسداً؟ كلا، ذلك لأنه تعبيرٌ عن الاستياء والاستنكار، ويُراد منه العلاجُ والتأديب والزجر لا غير؛ ولذلك كان الضرب مرّة باليد، وأخرى بالنعال، وثالثة بالثوب، وما عسى الثوب أن يضرّ؟

    كان المقصود إذن هو العقوبة التأديبيّة، سواءٌ منه ما كان بالضرب أو بالعتاب و"التبكيت"، لكن بعض الصحابة رضوان الله عليهم تجاوز تلك اللفتة التربويّة وزاد على المطلوب، وتعدّى بالسبّ والشتم المجرّد، بل والدعاء عليه بالخزي والطرد من رحمة الله!!

    كان لابد من الحزم مع هذا التصرّف الذي دعت إليه الغيرة على حرمات الله مع عدم إدراك عواقب الأمور ونتائجها، فنهى النبي –صلى الله عليه وسلم- عن الدعاء على أخيهم المذنب بقوله: ( لا تقولوا هكذا لا تعينوا عليه الشيطان) .

    إضاءات حول الموقف

    صدق الله القائل في كتابه - {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء:107)، فقد تجلّت في هذا الموقف النبوي الكريم مدى الشفقة البالغة التي طُبع عليها خير الأنام عليه الصلاة والسلام تجاه فئة المذنبين، ومدى حرصه على هدايتهم ورغبته في تطهيرهم من دنس الآثام والمعاصي، ثم محاولته إصلاحهم وتنقية نفوسهم وتغيير دواخلهم لينالوا الجنّة التي وُعد المتقون، فصلوات الله وسلامه عليه.

    وفي معنى قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: ( لا تعينوا عليه الشيطان)
    ذكر العلماء عدّة معانٍ:
    منها أن الدعاء على العاصي بالخزي يوافق مقصود الشيطان؛ فإنه بتزيينه للمعصية يريد أن يوقعه فيما يُخزيه في دنياه وآخرته،
    وقالوا: إن الدعاء على المذنب بالخزي يعين استحواذ الشيطان عليه، لأنه إذا سمع إخوانه يدعون عليه بمثل ذلك ازداد في عتوّه ونفوره، وأخذته العزّة بالإثم، ولربما أيس من رحمة الله فانهمك في المعاصي والموبقات، ولذلك جاء التوجيه النبوي بأن يقولوا: (اللهم اغفر له، اللهم ارحمه) .

    ويقيم الموقف النبوي منهجاً متوازناً في التعامل مع الأشخاص، فليس ثمّة حبٌّ كاملٌ أو بغضٌ كامل، ولسنا أمام بياضٍ كامل أو سوادٍ حالكٍ لا يتخلّلهما درجات، ولكن قد نُحبّ رجلاً من وجهٍ ونُبغضه من وجهٍ آخر، وحتى هذا البغض لا يمنعنا من بخس الناس حقوقهم أو إهدار مكانتهم، من هنا نجد أن النبي –صلى الله عليه وسلم وصف الرجل بأنه "أخٌ لهم على الرغم من شربه للخمر.

    ====================================

    حرص النبي – صلى الله عليه وسلم – على تحذير أصحابه من خطر الدنيا والافتتان ..

    (( فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم ))


    عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرّ بالسوق داخلاً من بعض العالية، والناس كنفته، فمرّ بجدي أسك ميت فتناوله فأخذ بأذنه .
    ثم قال: ( أيكم يحب أن هذا له بدرهم ) ، فقالوا: "ما نحب أنه لنا بشىء، وما نصنع به؟" قال: ( أتحبون أنه لكم ) ، قالوا: "والله لو كان حيا كان عيبا فيه لأنه أسكّ فكيف وهو ميت؟" فقال: ( فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم ) رواه مسلم .

    تفاصيل الموقف

    لا يكاد سوق يخلو من ( مزاد ) تُباع فيه السِلَع التجاريّة، وصورته لا تكاد تختلف من واحد لآخر،
    عناصره : رجلٌ يقف وسط جموع الناس يسوّق السلعة من خلال ذكر خصائصها وميّزاتها، وسلعةٌ بين يديه تنتظر مشترياً لها، وتجّار يحيطون به يتبارون في الحصول على تلك السلعة من خلال المزايدة في سعرها، ليستقرّ الأمر أخيراً على صاحب الرّقم الأعلى.

    هذا هو ما نعرفه عن هذا النشاط التجاري الذي بدأ منذ فجر التاريخ، لكنّ ما بين أيدينا (مزاد ) لا كغيره من المزادات، فالاختلاف يبدأ بالماثل بين يدي السلعة المعروضة، وهو سيد العالمين وأفضل الخلق أجمعين، ويمرّ بالجموع الذين يقفون من حوله،
    وهم صحابته رضوان الله عليهم، وينتهي بالسلعة التي كانت (وياللغرابة!) جدي ميّت ناقص الخلقة، لا يُرتجى نفعه ولا يُنتظر خيره، في مشهدٍ تلفّه الدهشة وتكتنفه الحيرة، فما هي قصّة هذا المزاد وما حقيقته؟

    سيزول العجب وتنقضي الغرابة عندما نعود إلى الحديث الشريف الذي تناول هذا الموقف، والذي يبيّن أن النبي – صلى الله عليه وسلم – دخل السوق كعادته بين الحين والآخر، ليقضي الوقت في مقابلة الناس ومخالطتهم، والوقوف على أحوالهم المختلفة، يتخلّل ذلك تصحيح معاملاتهم وإرشادهم، وضبط سلوكهم التجاري.

    ولا تخلو زيارات النبي – صلى الله عليه وسلم – تلك من صحابة يلزمونه كظلّه، ويطوفون معه أينما دار، ليقتبسوا منه علماً جديداً، ورُشداً قويماً، وخلقاً كريما.

    وبينما كانت هذه الكوكبة المباركة تسير وسط أحياء المدينة، إذ رأى النبي – صلى الله عليه وسلم – على قارعة الطريق "جدْياً" ميتاً ، نتن الرائحة، معيباً في أذنيه ، فتهيّأ الصحابة رضي الله عنهم لمجاوزة هذه الجيفة، لكنّهم تفاجؤوا بوقوف النبي عليه الصلاة والسلام أمامها.
    وسرعان ما تحلّق الصحابة حول نبيّهم متسائلين في قرارة نفوسهم عن السرّ في الوقوف أمام هذا الجسد الخاوي من الروح،
    والذي تشمئزّ النفوس من منظره والأنوف من رائحته، ولم يَطُل تساؤلهم كثيراً، فقد رأوا النبي – صلى الله عليه وسلم – يأخذ بأذن هذا الجَدْي ثم يقول: ( أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ ) .

    نظر الصحابة رضوان الله عليهم إلى بعضهم ثم قالوا : "ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟"، ويكرّر النبي – صلى الله عليه وسلم – عرضه الغريب بألفاظ اختلفت قليلاً : ( أتحبون أنه لكم؟ ) ، فذكروا له من عيوب هذا الجدي ما لو رأوه حيّاً لزهدوا فيه، فكيف وهو ميت؟!

    وهنا يكشف النبي – صلى الله عليه وسلّم – عن الغموض في لفتةٍ تربويّة عظيمة، تجسّد المعاني، وتُبرز الحقائق، وتعمّق في النفس معاني الزهد والتقليل من شأن الدنيا : ( فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم ) .

    إضاءات حول الموقف

    يبيّن هذا الموقف العظيم مدى حرص النبي – صلى الله عليه وسلم – على تحذير أصحابه من خطر الدنيا والافتتان بها، وهو – فوق ذلك – يُغذّي عقول الناس أن الحياة الصحيحة المستحقّة لألوان البذل والتضحيّة إنما هي وراء هذه الحياة لا فيها، وأما ما كان قبل ذلك فهو غرور ووهم كما وصفها الله تعالى في محكم كتابه -{ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } (الحديد:20).

    ولقد تنوّعت أساليب النبي – صلى الله عليه وسلّم – في تصوير حقيقة الدنيا والتحذير من زخرفها، فتارةً نراه يطرق حال الفقراء والأغنياء في عرصات القيامة وما بعدها،
    يقول النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( إن الأكثرين هم الأقلّون يوم القيامة، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا –يقصد من تصدق عن يمينه وشماله ومن خلفه -، وقليلٌ ما هم) رواه البخاري ،
    وقال عليه الصلاة والسلام : ( اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء ) متفق عليه، وقال عليه الصلاة والسلام : (يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام ) رواه الترمذي ،
    وصحّ عنه – صلى الله عليه وسلم - قوله: (قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجدّ - أي الموسرون - محبوسون، غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار) متفق عليه.

    وتارة يمثّل النبي – صلى الله عليه وسلم – الدنيا لأصحابه بالأمثلة المعنويّة والحسّيّة التي ترسّخ في نفوسهم حقارة الدنيا ودنوّها، وأنّها لا تساوي شيئا عند الله تعالى ،
    ومن قبيل المعنوي: تشبيه النبي عليه الصلاة والسلام للدنيا بالزهرة التي سرعان ما تذبل، وبالأرض اليانعة التي لا تلبث أن تفقد جمالها وألوانها، ومن جملة الشواهد على ذلك قوله تعالى - { زهرة الحياة الدنيا } (طه:131)،
    وقوله تعالى - {واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا} (الكهف:45)،
    وما صحّ عن النبي عليه الصلاة والسلام من قوله : ( لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء ) رواه الترمذي ، ومن التمثيل الحسّي لحقيقة الدنيا الموقف الذي بين يدينا.

    ومن نسمات عبير هذا الموقف النبوي، أن نلحظ كيف كان النبي – صلى الله عليه وسلّم – ينوّع في أساليبه الوعظيّة والتربويّة فلا يقف فيها عند نمطٍ واحد، بل هو تجديد يُراد به إشعار النفس بالفكرة المطلوبة بطريقة عمليّة واضحة، وهو الأمر الذي يحتاجه الدعاة والمصلحون لإيصال رسالتهم وتحقيق أهدافهم.

    =================================
    موقفه صل الله عليه وسلم مع معاذ بن جبل رضي الله عنه ..

    (( يا معاذ أفتّان أنت؟ - قالها ثلاثاً ))


    عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان يصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يأتي قومه فيصلي بهم الصلاة، فقرأ بهم البقرة، فتجوّز رجل فصلى صلاة خفيفة فبلغ ذلك معاذاً فقال: إنه منافق، فبلغ ذلك الرجل فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إنا قوم نعمل بأيدينا ونسقي بنواضحنا، وإن معاذاً صلّى بنا البارحة فقرأ البقرة، فتجوّزت فزعم أني منافق،
    فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ( يا معاذ أفتّان أنت؟ - قالها ثلاثاً -، اقرأ {والشمس وضحاها} و { سبّح اسم ربك الأعلى } . ونحوها) متفق عليه واللفظ للبخاري .

    وفي رواية أخرى: ( فلولا صليت بسبح اسم ربك والشمس وضحاها والليل إذا يغشى، فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة) .

    تفاصيل الموقف :

    الصلاة بالمسلمين، وقراءة سورة البقرة، والوقوف بين يدي الله تبارك وتعالى، أمورٌ ثلاثةٌ تبوّأت مكانة عظيمة في قلوب أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم-، فالإمامة مسؤوليّة عظيمة دعا النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابها، وسورة البقرة من أكبر سور القرآن وتتضمّن أعظم آية فيه، والوقوف بين يدي الله والاستغراق في ذكره وإطالة الوقوف بين يديه عبادة لا يضاهيها عمل.

    وهذه الشعب الإيمانية اجتمعت في شخص أفقه الصحابة وأعلمهم بالحلال والحرام، ومحبوب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كما صَرّح له، وأحد النفر الستّة الذين جمعوا القرآن الكريم في العهد النبوي، ومن القلّة القليلة التي امتازت بحدّة الذكاء وسعة الدراية وقوّة الفطنة، ذلكم هو معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه.

    من هنا نستطيع أن نفهم سرّ العادة التي اكتسبها معاذ رضي الله عنه، وهي أنه كان يصلّي مع النبي –صلى الله عليه وسلم- صلاة الفريضة، ثم ينطلق مسرعاً إلى مسجدٍ في نواحي المدينة ليصلّي بهم تلك الصلاة إماماً، غير مبالٍ بمشقّة الذهاب والإياب كلّ يوم.

    ويبدو أن الدعاء الذي علّمه النبي –صلى الله عليه وسلّم- لمعاذ أن يقوله دبر كلّ صلاة:
    (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) قد ترك فيه أثراً ظاهراً، فكانت صلاته بالناس طويلة وكثيرة القراءة، وما ذاك إلا إحساناً لعبادته وإتقاناً لعمله.

    لكن حدثاً بعينه غيّر وتيرة النمط الذي كان ينتهجه معاذ بن جبل رضي الله عنه ويسير عليه في إمامته، ففي إحدى الليالي وبعد أن فرغ رضي الله عنه من صلاته مع النبي –صلى الله عليه وسلم-، انطلق إلى المسجد الآخر كعادته ليؤم المسلمين، وشرع في قراءة سورة البقرة، واستطرد في قراءتها، وفي القوم رجلٌ من عوام المسلمين الذين يكدّون طوال اليوم بالأعمال الحِرَفيّة الشاقة،
    والتي تتطلّب منهم جهداً ووقتاً؛ ولذلك استثقل الرجل طول الصلاة ورأى أنها ستؤخّره عن أعماله وستُربِك جدول مهامّه، فانفرد الرجل فأتمّ الصلاة لوحده ثم انصرف.

    ويصل الخبر إلى إمام القوم معاذ بن جبل رضي الله عنه أن أحد المصلّين ترك الصلاة خلفه فأنكر فعله؛ إذ أن صلاة الجماعة تصهر المؤمنين جميعاً فتجعلهم كالجسد الواحد، وهذا الصنيع قد يُفسّر بالمعارضة والرغبة في إثارة الفتن وإشاعتها بين المسلمين، ومثل هذه التصرّفات مشهورةٌ عن جماعة المنافقين الحريصين على كسر وحدة الصفّ الإسلامي والتاريخ يشهد؛ ولذلك لم يتردّد معاذ رضي الله عنه في الحكم على الرجل بأنه من المنافقين.

    ويُصدم الرجل بمقولة معاذ رضي الله عنه، ويحاول أن يدفع التهمة عن نفسه، لكن دفاعه لم يجد له صدىً، وهنا: اشدّ عليه الكرب، وحلّ به الهمّ، فانطلق إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُخبره بما دار، ويعتذر مما صنع، محتجّاً بما يتطلّبه العمل في الزراعة من أوقات كثيرة لا يمكن معها الاسترسال في الصلاة والتطويل فيها، فلماذا إذن يصدر عليه معاذ ذلك الحكم الجائر بالنفاق؟!.

    ولا تسل عن غضب النبي –صلى الله عليه وسلم- واستيائه من موقف معاذ ، والذي يُنبئ عن التسرّع في الحكم، وعدم تقدير ظروف الآخرين،
    فيُعاتبه لذلك أشدّ عتاب: ( يا معاذ أفتّان أنت؟ - قالها ثلاثاً -) ثم يوجّهه إلى قراءة السور القصار كالشمس والليل والأعلى ونحوها مما يتناسب مع كبار السنّ والضعفة من المسلمين وأصحاب الحاجات،
    وكان الجواب العمليّ لمعاذ رضي الله عنه السمع والطاعة، وسرعة الرجوع إلى الحق والتزامه، وهذا هو شأن النفوس الكريمة، فرضي الله عن ذلك الجيل العظيم.

    إضاءات على الموقف .

    تكلّم العلماء في هذا الحديث النبويّ من الناحية السلوكيّة والناحية الفقهيّة،
    أما الناحية السلوكيّة: فهو التأكيد على ضرورة أن يعلم الإمام أحوال المأمومين خلفه وأن يراعيها؛ فالناس ليسوا على شاكلة واحدة، والمجتمعات تختلف، والظروف تتباين، فقد يقع المسجد في وسط السوق أو قرب المصانع أو بجانب المزارع والحقول فيتوجّه حينها قصر الصلاة وعدم تطويلها، وقد يكون في موطن يغلب فيه طلّاب العلم وأصحاب العبادة فيمكن حينها للإمام أن يزيد من مقدار صلاته.

    فالحاصل أن الإمام يوازن بين مقدار قراءته وبين طبيعة المصلّين خلفه ونشاطهم، وبإدراك هذه القضيّة نستطيع أن نفهم التفاوت المذكور في مقدار قراءات النبي –صلى الله عليه وسلم- في صلاته الواردة في كتب السنة، فلربما قرأ في المغرب بالطور، ولربما قرأ فيها بالمعوذتين، وكم بين الطور وبين المعوذتين من تفاوت.

    ومما ينبغي للأئمة التنبّه له: أن كثرة المصلين مظنّة وجود ذوي الأعذار، ومتى ما تبيّن له وجود ذوي الأعذار خلفه –ولو بعد الشروع في الصلاة- فعليه أن يُخفّف من صلاته، ولقد كان من هدي نبيّنا –صلى الله عليه وسلّم- أنه كان يدخل الصلاة وينوي الإطالة، فيسمع بكاء الأطفال من بين الصفوف فيخفّف لأجل ذلك من صلاته رحمةً بأمّهاتهم.

    وفي قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: ( يا معاذ أفتّان أنت؟ ) نهيٌ عن كل ما يُنفّر عن الدين ويصد عن سبيله أو يوقع الناس في الفتنة سواءٌ أكان بالقول أم بالفعل، وقلّ ما يتنبّه الدعاة لهذه اللفتة النبويّة خصوصاً عند التعامل مع المهتدين الجدد.

    وبخصوص الناحية الفقهيّة من القصّة، فقد استدلّ العلماء به على جواز اختلاف نيّة المأموم والإمام كأن يُصلّي الإمام بنيّة النفل والمأموم بنيّة الفرض أو عكسه، والحديث الذي بين يدينا عمدةٌ في هذا الباب،
    كما استدلّوا به على أن المأموم إذا شقّت عليه متابعة الصلاة في الجماعة، بإجهادٍ أو غلبة نعاسٍ أو خشية أن يعدو الذئب على غنمه أو هروب دابّته ونحو ذلك، فله أن يفارق الجماعة ويتمّ الصلاة لوحده.

    =====================================
    التالي : -

    موقفه صل الله عليه وسلم مع عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ..

    (( والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أُحُد ))


    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5370
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود موقفه صل الله عليه وسلم مع عبدالله بن مسعود رضي الله عنه .. (( والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أُحُد ))

    مُساهمة من طرف صادق النور الثلاثاء أكتوبر 15, 2024 12:49 am

    ما قبله :: -

    موقفه صل الله عليه وسلم مع عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ..

    (( والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أُحُد ))


    عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يجتني سواكاً من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مم تضحكون؟) ، قالوا: يا نبي الله من دقة ساقيه، فقال: (والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أُحُد) ، رواه أحمد .

    وفي رواية أخرى: " فنظر أصحابه إلى حموشة ساقيه فضحكوا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : (ما يُضحككم ؟ لَرِجْل عبد الله في الميزان أثقل من أُحُد) رواه الطبراني .

    معاني المفردات : يجتني سواكاً: يقطف السواك :: الأراك: من شجر البوادي ويُصنع منها السواك :: تكفؤه: أي تحرّكه يميناً وشمالاً :: حموشة ساقيه: دقّة الساقين
    تفاصيل الموقف :

    كان معدوم المال ولكن غني النفس، وضئيل الجسد ولكن ذائع الصيت، ومستور المكانة ومغمور الجاه، فأبدله الله بذلك كلّه شرفاً وعزّاً، وعلماً وعملاً، ومحبة في قلوب الناس،ومنزلة في نفوس المتقين.

    إنه الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه، صاحب م- في حرسول الله -صلى الله عليه وسلم وترحاله، وأوّل من صدح بالقرآن الكريم على رؤوس الملأ بمكّة وناله من ذلك أذىً كثيراً، وهو الذي قام بالإجهاز على أبي جهل يوم بدر وحمل رأسه إلى المسلمين ليُبشّرهم بمقتل عدوّهم.

    وفضائل هذا الصحابي الجليل وخصاله أكثر من أن تُعدّ وتُحصى، بيد أنها انضوت كلّها داخل جسدٍ صغير ذي قامةٍ نحيلة لم تزل موضع عجبٍ وتساؤل، واستغراب وتندّر، وكانت له في ذلك قصّة!.

    تروي لنا كتب السير أن ابن أم عبد -كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يلقّبه- اشتهى عوداً من أراك ليُطهّر به فمه، فيجتمع له نقاء الظاهر وصفاء الباطن، خصوصاً أثناء قراءته لكتاب ربّه آناء الليل وأطراف النهار.

    والحصول على الأراك كان يتطلّب بطبيعة الحال صعوداً فوق الشجرة حتى يتخيّر الأنسب والأفضل، فكان أن ارتقى رضي الله عنه الشجرة مستعيناً بساقيه الدقيقتين ويديه الضعيفتين، وبينما هو كذلك إذ هاجت الريح واشتدّ هبوبها حتى كادت أن تسقطه من العلو، وظلّ الجو العاصف يلعب به يمنةً ويسرة.

    وشاهد من كان حاضراً من الصحابة ابن مسعود رضي الله عنه وهو على تلك الحال، فتضاحك بعض القوم من منظره، ولم يستحسن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ضحكهم على أخيهم، فسألهم: (مم تضحكون؟) ، فذكروا له دقّة ساقيه رضي الله عنه.

    ولكن هل يُقاس الناس بأشكالهم وألوانهم؟! وهل يضرّ عبدالله رضي الله عنه ضعفه ونحوله؟!! لا والله؛ فإن لصاحب تلك الساقين فضائل تُثقل الميزان، وأعمالاً تُقرّ العين، ومزايا تُبهر الألباب، جامعاً في ذلك بين جمال السيرة ونقاء السريرة.

    ويشهد لتلك المنزلة العالية خير الخلق –صلى الله عليه وسلم- ويُسطّرها في سجلاّت الخالدين: (والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أُحُد) .

    إضاءات حول الموقف :

    يُذكر العلماء هذا الحديث ضمن فضائل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، والتي تُجمع إلى مناقبه الأخرى، كقول رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : (خذوا القرآن من أربعة:...وذكر منهم من عبد الله بن مسعود) متفق عليه، وقوله عليه الصلاة والسلام : (من أحب أن يقرأ القرآن غضّاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد) رواه ابن ماجة و أحمد في مسنده،
    وطلب النبي عليه الصلاة والسلام منه أن يقرأ عليه القرآن ليسمعه منه، بل أذن له أن يدخل عليه بيته في أي وقت شاء، وأن يستمع إلى أسراره حتى ينهاه عن ذلك، كما جاء في سنن ابن ماجة .

    وفيما يتعلّق بالقصّة، فإن فحواها هو التنبيه على أن الميزان الحقيقي عند الله لا يكون بالصور ولا المناظر، ولكن بالجوهر والعمل، يقول رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم) متفق عليه،
    وقبل ذلك يقول الله في كتابه - { والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون} ( الأعراف:8-9) وهذا هو الوزن الحق والعدل.

    وفي القصّة بعدٌ عقدي، نصّ عليه كثيرٌ من علماء أهل السنة والجماعة، وهو إثبات أن الميزان كما يكون للأعمال يوم القيامة، فإنه يكون كذلك لصاحب العمل، استدلالاً بهذه القصّة،
    وبحديث النبي –صلى الله عليه وسلم- : ( إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة قال واقرءوا إن شتم -  { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } ( الكهف : 105 ) ) متفق عليه.
    =================================

    موقفه صل الله عليه وسلم مع أبو هريرة رضي الله عنه ..

    ( يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ )


    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : "وكلني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنّك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: إني محتاج وعليّ عيال ولي حاجة شديدة، فخلّيتُ عنه فأصبحتُ فقال النبي -صلى الله عليه و سلم-: ( يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ ) ، قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته فخليت سبيله،
    قال: ( أما إنه قد كذبك وسيعود ) ، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله -صلى الله عليه و سلم- إنه سيعود، فرصدتُه فجاء يحثو من الطعام،
    فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: دعني فإني محتاج وعليّ عيال لا أعود. فرحمته فخلّيت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( يا أباهريرة ما فعل أسيرك؟ ) . قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته فخليت سبيله، قال: ( أما إنه كذبك وسيعود ) .
    فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنّك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات تزعم لا تعود ثم تعود،
    قال: دعني أعلّمك كلماتٍ ينفعك الله بها، قلت: ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي -  { الله لا إله إلا هو الحي القيوم} (البقرة:255) حتى تختم الآية؛ فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربنك شيطان حتى تصبح؛ فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( ما فعل أسيرك البارحة؟ ) ، قلت: يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلماتٍ ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: ( ما هي؟ ) ، قلت: قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } ،
    وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير -،
    فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ( أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ ) . قال: لا، قال: ( ذاك شيطان ) رواه البخاري .

    معاني المفردات : - يحثو:يأخذ بكفّيه. ::  ليّ عيال: عليّ نفقة العيال والمقصود بهم الزوجة والأولاد ونحوهم .
    فرصدته: راقبته .
    تفاصيل الموقف :

    أوشكت ليالي رمضان على الانتهاء، وشارفت على الأفول، شاهدةً على صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واجتهادهم في العبادة والذكر، والصلاة والدعاء، وأعمال البرّ وأوجه الخير، وهذا الظنّ بطلاّب الجنّة ومتطلّبي الهداية، وهو المتصوّر ممن ربّاهم أعظم المعلّمين وسيّد الخلق أجمعين عليه الصلاة والسلام.

    وقبيل العيد بعدّة ليالٍ، استدعى النبي –صلى الله عليه وسلم- أبا هريرة رضي الله عنه وأمره أن يحفظ أموال زكاة الفطر؛ حتى لا تطالها أيدي ذوي النفوس المريضة والقلوب الضعيفة، فتلقّى أبو هريرة رضي الله عنه الأمر النبوي بصدرٍ رحب ونشاطٍ كبير، بل كانت هذه المهمّة الموكلة إليه مصدر فخرٍ وتباهٍ، فقد اختاره عليه الصلاة والسلام واجتباه دون غيره من الصحابة .

    وبدأت صدقات الفطر تتوافد على أبي هريرة رضي الله عنه من أنحاء المدينة وأقاصيها،
    وهو يُشرف على خزانتها وحفظها، تمهيداً لتوزيعها يوم العيد القادم بعد أيّامٍ ثلاث، حتى إذا جاء الليل وسكنت الحركة واشتدّت الظلمة رصد أبو هريرة رضي الله عنه حراكاً مشبوهاً يدلّ على محاولة جادّة لسرقة أموال المسلمين، وكان مصدر تلك المحاولة رجلٌ تستّر بجنح الليل لينهب الطعام المكوّم لديه بكلتا يديه، فقفز أبو هريرة رضي الله عنه مهتماً الهصور وانقضّ عليه ممسكاً به، وقائلاً له: " لأرفعنك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ".

    ارتعدت فرائص ذلك الشخص المجهول وزاغت عيناه، وبدت ملامح الخوف والهلع على محيّاه، فقال بصوت يقطر ألماً ومسكنة: " إني محتاج، وعليّ عيال، ولي حاجة شديدة".

    رقّت نفس أبي هريرة رضي الله عنه وهو يسمع كلماته التي تصف فقره ومسغبته، وهل صدقة الفطر إلا لأمثاله من المعوزين والمحتاجين؟ وهل ثمة خيرٌ من إسعاد نفسٍ وإدخال السرور عليها؟
    وهنا قرر أبو هريرة رضي الله عنه أن يطلق سراحه ويتركه في سبيله.

    وجاء الصباح، وانطلق أبو هريرة رضي الله عنه، وصدى الحوار الذي دار بينه وبين أسيره لا يزال يرن في أذنه ويذكي في نفسه مشاعر الرحمة والشفقة، ورآه النبي -صلى الله عليه وسلم- مقبلاً، فإذا به يسأله : ( يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ ) .

    دُهِشَ أبو هريرة رضي الله عنه بهذا السؤال! ؛ إذْ كانت أحداث الأمس بمعزلٍ عن الناس فلم يسمعه أحد، لكن هذه الدهشة زالت سريعاً؛ فهو رسول الله المتصل بوحي السماء، فأخبره بتفاصيل ما حدث له بالأمس ،
    واستمع له النبي عليه الصلاة والسلام باهتمام، ثم أعلن له الخبر المفاجيء : ( أما إنه قد كذبك وسيعود ) .

    كذبني؟ واستغل طيبتي وحلمي؟ وفوق ذلك: سيعود للسرقة ويكرر الخطيئة؟! يا لوقاحة الرجل، واستحالت مشاعر الرأفة في نفس أبي هريرة رضي الله عنه إلى غضبٍ عارم، وما دام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر أنه سيعود فسيعود حتماً ، ولن يفلت الليلة بفعلته.

    وهكذا ظل أبو هريرة رضي الله عنه يترقّب طيلة يومه ونهاره، وفي الليل ألقى القبض على الرجل المتلبس بفعلته الشنعاء، لكن لصّ الصدقة هذا جمع إلى خفة يده براعةَ التظاهر والقدرة على الإقناع، فشرع يتصنّع المسكنة والذلّة حتى استطاع أن ينتزع من أبي هريرة رضي الله عنه كل عزمه وتصميمه على تسليمه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وانتهى الأمر بإطلاق سراحه.

    وفي اليوم التالي دار بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين أبي هريرة رضي الله عنه الحديث ذاته الذي دار بالأمس، وتكرر التحذير الموجه إلى أبي هريرة بعودة الرجل،
    وبالفعل راقب أبو هريرة رضي الله عنه الرجل مراقبة دقيقة ، فلما شرع في السرقة قبض عليه قبضاً شديداً ، وأفقده الأمل في أن يتركه يهرب بفعلته كما فعل في الليلتين الماضيتين، فقد استنفذ وسائل النجاة وصفح عنه المرة تلو المرة فما رعى الأمر حق رعايته، وما حفظ الجميل لأصحابه، وهنا لجأ الرّجل إلى أسلوبٍ جديد، وعرضٍ بديع،
    وذلك بقوله: " دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها".

    وهنا استيقظت في نفس أبي هريرة رضي الله عنه كوامن الخير ودوافع الرغبة في الاستزادة من العلم والمعرفة، ورأى أنها صفقةٌ عادلة، أن يتجاوز عن أسيره مقابل فائدةٍ جليلةٍ مضمونها أن قراءة آية الكرسيّ تحفظ المؤمن من كيد الشيطان بل تمنعه من الاقتراب منه حتى يصبح.

    وعند الصباح أخبر أبو هريرة رضي الله عنه النبي –صلى الله عليه وسلم- الخبر مستفسراً عن صحّة المقولة وقيمتها في ميزان الشرع،
    فأقرّ عليه الصلاة والسلام بصحّتها وقال: ( أما إنه قد صدقك وهو كذوب) ، ثم أراد أن يبيّن له الجانب الخفيّ لشخصيّة زائر الليل الذي كان من أمره عجباً: ( ذاك شيطان ) .

    إضاءات حول الموقف :

    اتّجهت أنظار الشرّاح عند تناول هذا الموقف إلى قول النبي –صلى الله عليه وسلّم-: (صدقك وهو كذوب) ؛ فإنها تُلفت النظر إلى ركيزةٍ أساسيّة في خلق المسلم، والتي تتمثّل في العدل والقسط مع الآخرين، فأسير أبي هريرة شيطان، والشيطان هو أصل الشرور ومنبعها، ومع ذلك لم يمتنع رسول الله عليه الصلاة والسلام من إقرار مقولة الشيطان وبيان صدقه في هذا الموقف بالرغم من المعدن الخبيث للشيطان وتأصّل جانب الكذب والزور والافتراء عنده،
    ولذلك تحدّث العلماء بأن قول المصطفى عليه الصلاة والسلام (وهو كذوب) هو إتمامٌ بليغ لوصف الشيطان؛ حيث أثبت الصدق له على نحوٍ لا يوهم المدح المطلق، وهذا هو مقتضى القسط المأمور به شرعاً.

    وثمّة فائدةٌ أخرى تُستنبط من قول النبي –صلى الله عليه وسلم- المذكور سابقاً، وهي أن الحكمة ضالّة المؤمن أينما وجدها أخذ بها، فالفاجر قد يعلم الحق فلا يتّبعه ولا ينتفع به، فيتلقّاه المؤمن منه فيجد فيه الخير الكثير.

    ويدلّ الموقف على فضل آية الكرسي، فهي أعظم آية بنصّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم-، وفي قراءتها حفظٌ ووقاية من الشيطان، ومن قرأها بعد كل صلاة مكتوبةلم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت.

    ونشير أخيراً إلى جملةٍ من الفوائد المستنبطة، ومن ذلك: إمكان رؤية الإنس للجنّ ولكن في غير صورتهم الحقيقيّة، وبيان حرص الصحابة على الخير وإقبالهم عليه، وظهور حلم النبي –صلى الله عليه وسلم-
    حينما لم يُعنّف أبا هريرة رضي الله عنه على تركه لأسيره، وخوف الجن والشياطين من المؤمنين الصالحين، وأن للشياطين أزواجاً وذريّة، وأن شياطين الجن تعرف الحقّ وتجحده كشياطين الإنس،
    وأن التريّث على مفسدةٍ خفيفةٍ جائزٌ إذا كانت نهايتها مصلحةً مؤكّدة وهي هنا علمٌ صالح، وبيان جواز جمع صدقة الفطر قبيل العيد بيومٍ أو يومين.

    ================================

    موقفه صل الله عليه وسلم مع عمته صفيّة بنت عبدالمطلب رضي الله عنه ..

    ( المرأة المرأة )


    عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال : "لما كان يوم أحد أقبلت امرأة تسعى، حتى إذا كادت أن تُشرف على القتلى، فكره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تراهم،
    فقال: ( المرأة المرأة ) ، فتوسمت أنها أمي صفية ، فخرجت أسعى إليها فأدركتها قبل أن تنتهي إلى القتلى، فلدمت في صدري وكانت امرأة جَلْدَة،
    قالت: إليك لا أرض لك، فقلت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عزم عليك،
    فوَقَفَت وأخرجت ثوبين معها فقالت: هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة ، فقد بلغني مقتله فكفّنوه فيهما، فجئنا بالثوبين لنكفّن فيهما حمزة فإذا إلى جنبه رجلٌ من الأنصار قتيل قد فُعل به كما فعل بحمزة ، فوجدنا غضاضة وحياءً أن نكفّن حمزة في ثوبين والأنصاري لا كفن له،
    فقلنا: لحمزة ثوب وللأنصاري ثوب، فقدرناهما فكان أحدهما أكبر من الآخر، فأقرعنا بينهما فكفّنّا كل واحد منهما في الثوب الذي صار له" رواه أحمد .

    معاني المفردات : -  فتوسّمت: تبيّن له أنها صفيّة بالفراسة والنظر. :: فلدمت في صدري: أي دفعته بيدها في صدره. :: امرأة جلدة: أي  امرأة صلبة وقويّة النفس. :: غضاضة: الذلة والمنقصة والعيب.

    تفاصيل الموقف : -

    انجلت معركة أحد، وفي القلوب انزعاج لا يُحتمل، وفي النفوس جراحٌ لا تندمل، فها هي الدائرة تدور على المسلمين الذين لم يحقّقوا أسباب النصر بمخالفتهم لأوامر رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فاستحقّوا ما حصل لهم، لكن وَقْع الهزيمة عليهم أذهلهم عن جراحات أجسادهم، فقد خالط الأرواح شعورٌ بمرارة الهزيمة، وهجم على الناس داء الحزن والقهر فأضناهم وأثقل كاهلهم.

    وتشتدّ النكبة وتعظم المصيبة بمقتل ثُلّة من خيرة أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وغرّة فرسانه، أولئك النجوم اللوامع التي صاغها الإيمان ورباها نبي الإسلام طيلة سنوات القهر المكّيّة،
    من مثل مصعب بن عُمير، وسعد بن الربيع، وعبدالله بن جحش، وحنظلة بن أبي عامر، وعبدالله بن عمرو بن حرام، وعمرو بن الجموح، وسيد الشهداء: حمزة بن عبدالمطلب ، رضي الله عنهم أجمعين.

    ويحمل المشهد صورة القتلى وقد تناثروا في ساحة المعركة، والمسلمون وقد تحاملوا على أنفسهم ليُواروا جثامين الشهداء تحت الثرى، وبينما هم كذلك إذ أقبلت امرأة تحثّ الخطى من بعيد، حتى كادت من سرعتها أن تصل إلى ساحة المعركة وتُبصر ما بها من أهوال.

    ويلمح النبي –صلى الله عليه وسلم- تلك المرأة وهي مقبلة نحوهم، فيخشى عليه الصلاة والسلام أن تُصدم بتلك المناظر البشعة التي رسمها القتال بلون الدم وأعبق أجواءها برائحة الموت،
    والنبي عليه الصلاة والسلام يعلم ما خُلقت عليه النساء من رقةٍ في الإحساس وإرهافٍ في الشعور، فلن تحتمل تلك المرأة مشاهدة ما قام به المشركون من تنكيل بالمسلمين وتمثيلٍ بجثثهم على نحوٍ يُعبّر عن بربريتهم وهمجيّتهم.

    وهنا تنطلق الصيحة النبويّة: ( المرأة المرأة) وتتلقّفها أُذُنا الزبير بن العوام رضي الله عنه الذي كان أقرب الناس إليها، فانطلق كالسهم نحوها وأدركها قبل أن تصل إلى القتلى،
    فإذا بها أمّه صفيّة بنت عبدالمطلب رضي الله عنها، فوقف أمامها ليقطع عنها الطريق ويمنعها من المواصلة.

    لكن صفيّة رضي الله عنها كانت بطبيعتها امرأة رابطة الجأش قويّة النفس، فدفعت ولدها في صدره لتنحّيه جانباً، واستمات الزبير رضي الله عنه في منع والدته وقال لها: " إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عزم عليك" فلما علمت أنه أمرٌ نبوي رضخت للأمر، وأخرجت ثوبين كانا بحوزتها، ثم طلبت من الزبير أن يجعلهما كفناً لأخيها حمزة رضي الله عنه.

    أخذ الزبير الثوبين وانطلق بهما إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وعندما أشرفوا على حمزة رضي الله عنه وجدوا بجانبه أحد الأنصار وقد مثّل المشركون بجثّته كما مُثّل بأخيه حمزة ، فاستحيوا أن يُكفّنوا حمزة ويتركوا الأنصاري من غير كفن،
    فقالوا: " لحمزة ثوب وللأنصاري ثوب"، فدُفن كلٌّ منهما بثوبه الذي صار له، والذي سيُبعث عليه يوم القيامة.

    إضاءات حول الموقف :: -

    في الموقف النبوي بعدٌ تربوي عميق المعنى، شديد الأهميّة، ألا وهو الحديث عن أثر المشاهد الدمويّة التي تُخلّفها الحروب على نفوس مشاهديها من النساء والأطفال، خصوصاً إذا احتوت تلك المشاهد والصور على الأطراف المبتورة والأشلاء الممزقة والمجازر الرهيبة والإبادة الجماعيّة.

    ويكمن الخطر في أن تلك المناظر تعرّض المشاهد لها إلى صدمة نفسيّة شديدة، يشتدّ أثرها إن كان من الأطفال، وتظهر عليهم في صورة اضطرابات عصبيّة، بحيث تكثر فيهم الرؤى المخيفة ويتكرّس لديهم الشعور بالخوف والقلق والاكتئاب، فضلاً عما قد يكتسبه المشاهد من سلوكٍ عدواني في المستقبل.

    لذا نجد من الحكمة النبويّة، أمر النبي –صلى الله عليه وسلم- للزبير بن العوام رضي الله عنه أن يمنع والدته من مشاهدة قتلى أحد، خوفاً عليها من الأثر السلبي الذي قد يحدث لها جرّاء المناظر البشعة.

    وهذا يقودنا إلى الحديث عن أمرٍ آخر تُخطئ فيه الجهات الإعلاميّة التي تبثّ تلك الفواجع والكوارث مما لا يصلح للعرض، فبعيداً عن الأثر السلبي الذي ذكرناه، فإن في سياسة النشر المتّبعة انتهاكاً واضحاً لحرمة الأموات والجرحى خصوصاً من المسلمين،
    إذ الواجب ستر العورات لا انتهاك الخصوصيّات مهما كانت المبررات، والمطلوب ستر الميت لا نشر صور أشلائه!،
    حتى لو كان المقصود من تلك الصور والمشاهدات فضح أفعال المجرمين والقتلة؛ فإن القائم على أمر الإعلام يمكنه الاختيار والانتقاء، فيُحقق الرسالة الإعلامية المطلوبة من جهة، ويتجنب الوقوع في المحذور من جهة أخرى.

    ويبقى في الموقف دروسٌ أخرى، منها:
    بيان صبر صفيّة رضي الله عنها وتجلّدها بالرغم من قتل أخيها، ثم ظهور سرعة استجابتها عندما علمت عزم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عليها بعدم التقدّم إلى ساحة المعركة،
    ومن الدروس كذلك: ظهور مبدأ المساواة في أبهى صوره حينما أخذ الصحابة بمبدأ القرعة بين عمّ الرسول عليه الصلاة والسلام وبين أخيه الأنصاري، فلم يؤثروا حمزة لمكانه من سيد الأوّلين والآخرين، وتلك ثمرةٌ من ثمار التربية النبويّة .

    =================================

    موقفه صل الله عليه وسلم مع عامر بن ربيعة  و سهل بن حنيف رضي الله عنهما ..

    ( علام يقتل أحدكم أخاه؟ إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة )


    عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: "مرّ عامر بن ربيعة بسهل بن حنيف رضي الله عنهما وهو يغتسل، فقال: لم أر كاليوم ولا جِلدَ مُخبّأة، فما لبث أن لُبِطَ به،
    فأتي به النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقيل له: أدرك سهلاً صريعاً،
    قال : ( من تتهمون به؟) ، قالوا: عامر بن ربيعة ، فقال: ( علام يقتل أحدكم أخاه؟ إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة ) ،
    ثم دعا بماء، فأمر عامراً أن يتوضأ، فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، وركبتيه وداخلة إزاره، وأمره أن يصب عليه" رواه ابن ماجة .

    وفي رواية للطبراني وغيره: "فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس".

    معاني المفردات : - جِلدَ مُخبّأة: المخبّأة هي الجارية التي في خدرها لم تتزوج بعد. :: -
    لُبِطَ به: صُرِع بسببه وسقط على الأرض. :: - فليدع له بالبركة: فليقل له بارك الله فيك.:: - وداخِلَة إزاره: طرفه وحاشيته من الداخل.
    تفاصيل الموقف : -

    بين مهاجري وأنصاري استحكمت عُرى المحبّة وتشابكت أغصان الأخوة حتى غدت جنّة وارفة الظلال،
    أما المهاجري: فهو عامر بن ربيعة أحد السابقين الأوّلين والقلائل المعدودين الذين هاجروا الهجرتين وشهدوا مع رسول الله -صلى الله عليه و سلم- غزوة بدر،
    وأما الأنصاري: فهو سهل بن حنيف أحد الأبطال الذين شهدت لهم ساحات القتال بشجاعتهم وثباتهم، لا سيّما يوم أحد حين انكشف الناس عن رسول الله عليه الصلاة والسلام فبايعه يومئذٍ على الموت وقام ينافح عنه بالنَبل، حتى انكشفت الغمّة وانتهت المعركة.

    ولقد قامت دلائل المحبّة بين الصحابييّن الجليلين واضحةً لكل من كان يعرفهما ويراهما، ومن بين تلك الدلائل ما كان بينهما من التزاور والتلاقي بين الحين والآخر، خصوصاً إذا استبطأ أحدهما رؤية أخيه أو افتقده.

    ويوماً عزم عامر بن ربيعة رضي الله عنه أن يزور أخاه سهلاً كعادته، فدخل عليه فإذا به يغتسل، وعندها توقّف عامر رضي الله عنه مشدوهاً، وهاله ما رآه من جمال أخيه الأنصاري الذي فاقت محاسنه كلّ تصوّر، فلم يُر قط بياضٌ كبياض جلده، ولا زهرة كزهرة لونه،
    فانفلت لسان عامر المعجب قائلاً: " لم أر كاليوم ولا جِلدَ مُخبّأة!".

    وما أن خرجت تلك الكلمات من فم عامر رضي الله عنه حتى انطلقت سهماً صائباً في أخيه، فتهاوى جسده وتخاذلت قدماه، وخرّ صريعاً من لحظته.

    تفاجأ عامر رضي الله عنه بما حدث، فلم يكن يتصوّر أن تُحدث كلماته في أخيه كلّ هذا الأثر، وندم على تسرّعه وتلقائيّته، وفي الوقت ذاته: ألجمته المصيبة التي حلّت فلم يدرِ ما يصنع.

    وسرعان ما حُمل سهل رضي الله عنه إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- والناس ينظرون إليه فزعين، وكلماتهم تستنجد برسول الله –صلى الله عليه وسلم- ليُرشدهم في إنقاذه قائلين: " أدرك سهلاً صريعاً".

    نظر النبي –صلى الله عليه وسلم- إلى سهل رضي الله عنه وهو في حالةٍ يُرثى لها من الإعياء والإجهاد، وأدرك من النظرة الأولى أنه مصابٌ بالعين، فاستفسر عن الفاعل، فأُخبر أنه عامر رضي الله عنه، فغضب لذلك ووجه كلامه لعامّة من كان حوله:
    ( علام يقتل أحدكم أخاه؟) ، وحتى لا تتكرّر المأساة بيّن لهم ما يجب فعله على من رأى ما يُعجبه: (إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة ) .

    وبعد التحصين جاء دور العلاج، فدعا بماء وأمر عامراً أن يتوضأ منه ، فيغسل الوجه واليدين، ثم الركبتين وطرف الإزار، ثم أمر أن يُجمع ذلك الماء فيُصبّ على سهل رضي الله عنه، وسرعان ما انجلت الغُمّة وانكشف البلاء، وزالت العين، لتكون تلك الحادثة شاهدة على أثر العين، ودرساً مهماً في كيفية التعامل معها.

    إضاءات حول الموقف : -

    تُبرز الحادثة التي وقفنا معها مدى خطورة العين وقوّة تأثيرها وبالغ ضررها؛ فهي ذلك السهم الذي لا يُرى بالعيون المجرّدة ولكن يُدرك أثرها من خلال نتائجها الوخيمة، فتجعل السليم سقيماً، والقوي ضعيفاً، والكثير قليلاً، والخصيب قاحلاً، بل هي القادرة على إنزال الفارس عن مركبه، وإيراد الرجل القبر، وإدخال الجمل القدر، كما صحّ بذلك الحديث.

    ولأن العين حق، وأثرها نافذ وشرّها واقع، جاءت الأوامر الشرعيّة والنصوص النبويّة لتحذّر الناس من خطرها، وتدعوهم إلى التحصّن منها، وتبيّن لهم سبل الوقاية، وكيفيّة رفع بلائها.

    فقد جاءت الوصيّة من النبي –صلى الله عليه وسلم- بالتزام الأذكار والأوراد الشرعيّة في كل يوم وليلة، كقراءة آية الكرسي، والدعاء بقول: " أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة
    وقول: " أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق
    والمداومة على قراءة سورتي "الفلق والناس" التي قال عنهما النبي عليه الصلاة والسلام: ( ما تعوذ متعوذ بمثلهما) رواه أبو داوود .
    كما جاء التشديد على ضرورة ذكر الله تعالى والدعاء بالبركة عند رؤية المستحسن من الأمور، فقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: ( إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة؛ فإن العين حق) رواه الحاكم .

    فإذا وقعت العين، شُرعت الرقية لدفعها، وقد كان جبريل عليه السلام يرقي النبي –صلى الله عليه وسلم- بقوله: " بسم الله أرقيك من كل شىء يؤذيك ، من شر كل نفس أو عينِ حاسد ، الله يشفيك، باسم الله أرقيك" رواه مسلم ، ورخّص النبي عليه الصلاة والسلام-كما صحّ عنه- بالرقى ما لم تكن شركاً.

    ومن وسائل الاستشفاء من العين، الاغتسال من الماء الذي توضّأ منه العائن واغتسل به على نحو ما مرّ بنا في الموقف الذي تناولناه، ولا ينبغي للمسلم أن يمتنع من الاغتسال إذا اتُّهم بالعين، لأن النبي –صلى الله عليه وسلم قال: (وإذا استُغسلتم فاغتسلوا) رواه مسلم .

    ومما يعين على درء العين والوقاية منها، ستر المحاسن عن أعين الناس حتى يُؤمن جانبهم، خصوصاً إذا كان الستر عند من لا يُؤمن شرّه، وقد رأى عثمان بن عفان رضي الله عنه غلاماً جميلاً ، فأمر أهله أن يخفوا جماله حتى لا تصيبه العين.

    وخير ما نختم به قول الإمام ابن القيم في هذا الباب، حيث قال: " ومن جرّب هذه الدعوات والتعوّذات عرف مقدار منفعتها وشدة الحاجة إليها ، وهي تمنع وصول أثر العائن ، وتدفعه بعد وصوله ، بحسب قوة إيمان قائلها ، وقوة نفسه واستعداده ، وقوة توكله وثبات قلبه ، فإنها سلاح ، والسلاح بضاربه لا بحدّه"
    ===================================

    موقفه صل الله عليه وسلم مع أبو ذر رضي الله عنه ..

    (( يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية ))


    عن المعرور بن سويد قال : "رأيت أبا ذر رضي الله عنه وعليه بُردٌ وعلى غلامه بُرد، فقلت: لو أخذتَ هذا فلبسته كانت حلّة، وأعطيته ثوباً آخر،
    فقال: كان بيني وبين رجل كلام، وكانت أمه أعجمية فنلت منها، فذكرني إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لي: ( أساببت فلاناً؟ ) ، قلت: نعم قال: ( أفنلت من أمه؟ ) ، قلت: نعم، قال: ( إنك امرؤ فيك جاهلية ) ، قلت: على حين ساعتي هذه من كبر السن ؟، قال: ( نعم، هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليُطعمه مما يأكل، وليُلبسه مما يلبس، ولا يكلّفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليُعِنْه عليه ) "متفق عليه واللفظ للبخاري .

    وفي رواية مسلم : "فشكاني إلى النبى -صلى الله عليه وسلم- فلقيت النبى -صلى الله عليه وسلم- فقال: (يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية) ، قلت: يا رسول الله، من سبّ الرجال سبّوا أباه وأمه،
    قال: (يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية) ".

    وفي رواية أبي داوود : (إنهم إخوانكم فضّلكم الله عليهم، فمن لم يلائمكم فبيعوه ولا تعذّبوا خلق الله) .

    معاني المفردات : - بُرد: هو كساء مربع مخطط ::- حلّة: الحلة هي ثوبان من جنس واحد يلبسان معاّ. :: - أعجمية: حبشية من غير العرب. :: - نلت منها: أي ذمّها. :: - فعيّرته بأمّه: عاب عليه بسبب أمه لكونها سوداء. :: - فيك جاهلية: أي خصلة من خصال الجاهلية وهي التفاخر بالآباء. :: - على حين ساعتي هذه من كبر السن: يعني بعد هذا العمر الطويل الذي قضاه في الإسلام؟ :: - خَوَلكم : الخول : أتباع الرجل، وهو اسم يقع على العبد . ::- تحت أيديكم: أي تحت سلطتكم. :: -
    ما يغلبهم: ما يعجزون عن القيام به :: - يلائمكم : يناسبكم؟
    تفاصيل الموقف

    في بادية من البوادي التي تحيط بالمدينة، عاش شيخٌ وقور كانت له قدم صدقٍ عند ربّه، وقد كان من أوائل الذين التحقوا بقوافل المؤمنين والرسالة المحمّدية، ومن النوادر الذين بدؤوا صفحات حياتهم بالمواجهة والتحدّي والمصادمة مع أعداء الملّة وطواغيت الكفر، فأصابه لأجل ذلك أذىً كثيراً، وما زاده البلاء إلا استمساكاً بدين الله وإقبالاً على تعاليمه، كما أن إسلامه كان فاتحة خيرٍ على عشيرته الذين تابعوه على دينه.

    ذلك هو الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه، شريفٌ من أشراف قومه، وصاحب القلب الحيّ والنفس الأبيّة والشعور المرهف، والذي كان يرى في نفسه رابع أربعةٍ دخلوا الإسلام، وإن كان قد ثبت إسلامُ نفرٍ قبله ومنهم آل النبي – صلى الله عليه وسلم- إلا أن ذلك يعني أنّه من الرعيل الأوّل في الإسلام.

    وعندما تُوفّي النبي – صلى الله عليه وسلم- قرّر ابو ذر رضي الله عنه أن يستقرّ في موضعٍ يُقال له:"الربذة
    فرآه يوماً المعرور بن سويد وعليه حلّة جميلة، إلا أنّه اقتسمها مع غلامه الذي يرافقه بحيث ائتزر أحدهما بالنصف الأوّل وارتدى الآخر نصفها الثاني، فاحتار المعرور من هذه القسمة الغريبة، وتعجّب كيف لم يقم أبو ذر رضي الله عنه بارتداء كلا القطعتين لتصبحا حلّةً كاملة عليه، ثم يُعطي الغلام ثوباً آخر!!، ونقل تساؤله إلى صحابيّ رسول الله ليقف على الحقيقة ويطّلع على الحكمة من هذا التصرّف.

    لكنّ كلام المعرور أثار ذكرياتٍ قديمة ما كان لأبي ذر رضي الله عنه أن ينساها، وأنّى له ذلك وقد نال من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عتاباً بلغ من نفسه مبلغاً كبيراً، وأحدث في حياته نقطة تحوّل في منهج التعامل مع الضعفاء، فمضى أبو ذرّ يشرح لصاحبه وقائع تلك الذكريات.

    كان ذلك فيما مضى، إذ كان لأبي ذر رضي الله عنه عبدٌ مملوك، وحصل أن دار بينهما خلافٌ حول مسألةٍ ما، وتطوّر الخلاف إلى تلاسن بالقول وتراشقٍ بالألفاظ، فعيّر أبو ذر رضي الله عنه الرجل بأمّه الأعجمية فقال: "يا ابن السوداء"، فغضب العبد من هذه المقولة لما انطوت عليه من استنقاصٍ وتعريضٍ به، فانطلق إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يشكو إليه قول أبي ذر رضي الله عنه.

    وعندما استمع النبي –صلى الله عليه وسلم- شكاية العبد تمعّر وجهه غضباً،
    وقال لأبي ذر رضي الله عنه: ( أساببت فلاناً؟، أفنلت من أمه؟) ،
    فاعتذر قائلاً: "يا رسول الله، من سبّ الرجال سبّوا أباه وأمه"، لكنّ اعتذاراً كهذا لا يمكن القبول به في ميزان الشرع،
    بل هو ضربٌ من ضروب العصبيّات الجاهليّة التي جاء الإسلام لاجتثاثها، فقال له عليه الصلاة والسلام: (يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية) ".

    استعظم أبو ذر رضي الله عنه أن يتبقّى فيه من رواسب الجاهليّة شيء، وهو الذي ظلّ يُفاخر الناس بإسلامه مبكّراً، واستاء أن يتسلّل إليه ذلك الخلق دون انتباهه،
    فقال رضي الله عنه: "على حين ساعتي هذه من كبر السن ؟"، فجاءه الجواب: (نعم) ثم تطرّق النبي –صلى الله عليه وسلم- إلى قيمٍ أخلاقيّة ومُثُلٍ عالية لم يحظ بمثلها الضعفاء على مرّ العصور: ( إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليُطعمه مما يأكل، وليُلبسه مما يلبس، ولا يكلّفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليُعِنْه عليه ) .

    وبعد أن انتهى أبو ذر رضي الله عنه من سرد الموقف أدرك المعرور سبب اقتسامه للحلّة بينه وبين غلامه، إنه الإحسان إلى من جعله الله تحت يديه وسخّره لخدمته وتحقيق رغباته، ومنذ ذلك اليوم والألسنة تتناقل هذه القصّة لتبقى شاهداً على عظمة الإسلام وأهله.

    إضاءات حول الموقف : -

    لم يحذّر النبي –صلى الله عليه وسلم- من شيء تحذيره من الجاهليّة وأخلاقها، وقيمها ومبادئها، حتى إنه عليه الصلاة والسلام جعل لهذه القضيّة نصيباً من خطبته يوم عرفة حيث قال:
    ( ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع) رواه مسلم .

    ومن صور الجاهليّة التي يقع فيها الناس بين الحين والآخر: التنقيص بالآباء والأمهات؛ ذلك أن مثل هذه المعايير المبنيّة على المفاخرة الكاذبة والنظرة الدونيّة للآخرين تتنافى مع الإيمان بوحدة الناس من جهة النسب بأبينا آدم وأمّنا حوّاء عليهما السلام،
    قال سبحانه وتعالى - { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء} (النساء:1)، والشرف كلّ الشرف إنما هو في تقوى الله عز وجل والالتزام بشريعته الغرّاء بعيداً عن القيم الأرضيّة والفوارق التي يذكرها الناس من النسب أو اللون أو الجاه ونحو ذلك، بل الكل يُقيّم بحسب الميزان الإلهيّ الأوحد، قال تعالى -  { إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات:13).

    وفي الموقف النبويّ الوصيّة بالضعفاء والتنبيه على حقوقهم، فهم "إخوة" قبل أن يكونوا خدماً، وقد سخّرهم الله لأسيادهم، فكان لهم الحق في المطعم الذي يُناسبهم والملبس الذي يلائم حالهم، مع عدم تكليفهم بالأعمال الشاقة التي تفوق قدراتهم وملكاتهم فيعجزون عن القيام بها، وإن كان لابد من تكليفهم بمثل هذه الأعمال فلابد من إعانتهم عليها، وإن لم يحصل التوافق والانسجام بين السيّد والعبد ولم تصل كفاءة العمل إلى المستوى المطلوب فالحلّ يكون في بيع العبد والبحث عن غيره، لا أن يُعذّب بأعمالٍ لا يطيقها.

    والعجب من موقف أبي ذرٍّ رضي الله عنه من هذه الوصيّة، فعلى الرغم من أنها كانت تدعو إلى مجرّد المواساة لا المساواة، إلا أن أبا ذرّ أصرّ على أن يُعامل مماليكه وخدمه بالأكمل والأفضل، فالتزم المساواة بينه وبينهم،
    ولم ذلك في موقفٍ عابرٍ أو حالةٍ استثنائيّة، ولكن سلوكاً راسخاً ظلّ يطبّقه طيلة حياته.

    وفي الحديث جملة أخرى من الفوائد، منها:
    تحريم أذيّة المسلم بالقول أوالفعل، والنهي عن التنابز بالألقاب كما جاء في الآية الكريمة،
    وبيان قرب النبي –صلى الله عليه وسلم
    - من جميع طبقات المجتمع، بحيث يستطيع الجميع أن يحادثه ويشتكي إليه ويُناجيه، وحرصه عليه الصلاة والسلام على وحدة الصفّ الإسلامي، ووضوح سرعة استجابة الصحابة للأوامر الشرعيّة.

    ===================================
    التالي : -
    موقفه صل الله عليه وسلم مع أم عبد الله بن عامر رضي الله عنه ..

    (( أما إنك لو لم تعطه شيئاً كُتبت عليك كذبة))


    -------------------------------------------------------
    لا تنسونا من صالح دعائكم

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5370
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود سيرة بعض الصحابه رضوان الله عليهم الذين تم ذكرهم في الموضوع

    مُساهمة من طرف صادق النور الأربعاء أكتوبر 23, 2024 6:01 pm

    (( - أبو الدحداح -))



    أبو الدحداح هو الصحابيّ الجليل ثابتٌ بن الدحداح بن نعيم،

    ويُكَنّى بأبي الدحداح أو بأبي الدحداحة، شهد أبو الدحداح غزوة أُحد مع النبيّ وكان ممّن ثبت من الصحابة حين أُشيع كذباً خبر مقتل النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "يا معشر الأنصار! إن كان محمد قتل، فإن الله حي لا يموت، فقاتلوا عن دينكم".

    وأما موقفه في إنفاقه لله عز وجل وتصدقه بحديقته وما فيها من نخل وخير كثير،
    فيخبرنا عنه أنس رضي الله عنه، قال: إن رجلاً قال: (يا رسول الله! إن لفلان نخلة، وأنا أقيم حائطي بها، فأمُرْه أن يعطيني، حتى أُقيم حائطي بها،
    فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعطها إياه بنخلة في الجنة، فأبَى،
    فاتاه أبو الدحداح فقال: بِعْنِي نخلتك بحائطي، ففعل، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم
    فقال: يا رسول الله! إني قد ابتعت النخلة بحائطي، قال: فاجعلها له، فقد أعطيتكها،
    فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم مِن عِذق (غُصْنُ مِنَ النَّخْلَة) ردّاح (ثقيل) لأبي الدحداح في الجنة ـقالها مراراًـ
    قال: فأتى امرأته فقال: يا أم الدحداح! أخرجي من الحائط (البستان) فإني قد بعته بنخلة في الجنة، فقالت: ربح البيع، أو كلمة تشبهها) رواه أحمد وصححه الألباني.

    وعند مسلم وابن حبان من حديث جابر بن سَمُرَة رضي الله عنه
    قال: (كنَّا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازةِ أبي الدَّحداح، فلمَّا صلَّى عليها، أُتِي بفرَسٍ فركِبه، ونحن نسعى خَلْفه، فقال صلى الله عليه وسلم: كم مِن عِذْقٍ مُدَلًّى لأبي الدَّحداحِ في الجنَّة).

    قال النووي: "العِذق هنا بكسر العين المهملة وهو الغصن من النخلة، وأما العَذق بفتحها فهو النخلة بكمالها،
    وليس مراداً هنا، قوله صلى الله عليه وسلم: (كم من عِذق معلق في الجنة لأبي الدحداح) قالوا سببه: أن يتيماً خاصم أبا لبابة في نخلة، فبكى الغلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: أعطه إياها، ولك بها عذق في الجنة، فقال: لا، فسمع بذلك أبو الدحداح فاشتراها من أبي لبابة بحديقة له، ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألي بها عذق إن أعطيتها اليتيم؟ قال: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كم من عذق معلق في الجنة لأبي الدحداح).

    فائدة:

    لا يلزم من هذا الموقف أن أبا لبابة رضي الله عنه الذي رفض أن يتصدق ويتنازل عن نخلته كان عاصياً، فإن النخلة كانت حقه وملكه، وقد شقَّ عليه خروجه عن ملكه، وربما تضرر بذلك،
    ولم يُلزِمْه النبي صلى الله عليه وسلم بإعطائها لرجل جاره ـأو لليتيم على الرواية الثانية التي ضعفها البعضـ وإنما ندبه إلى ذلك، ووعده عليها أجراً خاصاً في الجنة،
    ولو علم أبو لبابة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه ذلك على وجه الوجوب والإلزام لسارع إليه دون تردد، ولكنه فهم أن تنازله عن النخلة وصدقته بها كان مندوباً في حقه، وعملاً فاضلاً، وليس كل من ترك المندوب أو العمل الفاضل يكون مذموماً أو آثماً، كما أن الرواية المسندة والصحيحة تفيد أن جاره الذي حصل معه الخصام ولم يتنازل له عن نخلته كان رجلاً ولم يكن يتيماً،
    أما رواية البيهقي الذي ذكر فيها أن الموقف كان مع طفل يتيم فهي رواية مرسلة، والحديث المرسل من أنواع الحديث الضعيف.

    وفي هذا الموقف بين النبي صلى الله عليه وسلم وأبي الدحداح رضي الله عنه فوائد كثيرة، منها:

    ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم ربَّى أصحابه على حب البذل والصدقة والعطاء طمعاً في ثواب الله وفضله وجنته، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (كم مِن عِذق (غُصْنُ مِنَ النَّخْلَة) ردّاح (ثقيل) لأبي الدحداح في الجنة)، ومن ثم كان الصحابة رضوان الله عليهم يبذلون ويتصدقون والسعادة تملأ قلوبهم بوعد النبي صلى الله عليه وسلم لهم الأجر العظيم.

    ـ ومنها: حُسن مناداة الزوج لزوجته، فقد نادى أبو الدحداح رضي الله عنه على زوجته قائلاً: (يا أم الدحداح)، وكذلك حُسن الإجابة من الزوجة لزوجها، وتشجيعه والثناء على فعله للخير، فلم تُجِزْ أم الدحداح رضي الله عنها ما فعل زوجها فحسب، بل اعتبرت ذلك ربحاً وفوزاً فقالت لزوجها: (ربح البيع).

    ـ ومنها: جواز إعلان الصدقة وإشهارها والإشهاد عليها، وأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا مثالاً للسخاء والعطاء، وكانوا يختارون أجود أموالهم وأنفسها لتكون صدقة ووقْفاً لله تعالى.

    لقد كان أبو الدحداح رضي الله عنه من المسارعين في الخيرات، المتسابقين في الباقيات الصالحات، وقد ترك لنا موقفه في صدقته وثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليه وتبشيره بالجنة درساً ومثالاً عملياً في الجود والسخاء، والبذل والعطاء،

    استنبط العلماء أكثر من فائدةٍ من قصّة تبرّع أبي الدحداح ببستانه لوجه الله، يُذكر منها:

    الفضل بعدم تعلّق القلوب بالدنيا وما فيها، والرغبة الخالصة بالآخرة وثوابها على الدوام.
    فضل طاعة الزوجة لزوجها، وتشجيعه على فعل الطاعات وأداء القُربات لله سبحانه.
    فضل سرعة استجابة العبد لأوامر النبيّ عليه الصلاة و السلام-، وتطبيق آيات القرآن الكريم. الاستيقان بوعد الله تعالى.

    روى الواقدي عن عبد الله بن عامر قال: قال ثابت بن الدحداح يوم أحد والمسلمون أوزاع: "يا معشر الأنصار إليَّ إليَّ، إن كان محمد قد قتل فإن الله حي لا يموت، فقاتلوا عن دينكم"، فنهض إليه نفر من الأنصار؛ فجعل يحمل بمن معه،
    وقد وقفت له كتيبة خشناء فيها خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة، فحمل عليه خالد بن الوليد بالرمح فأنفذه فوقع ميتًا وقتل من كان معه.

    وقد مات رضي الله عنه ولكن صدقته ستبقى دافعة للأمة للصدقة والإنفاق في سبيل الله تعالى.

    ===============================
    ==================


    ((- جابر بن سَمُرَة رضي الله عنه - ))


    جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ صحابي يكنى أبا عبيد الله، وقيل:

    أبا عبد الله، وقيل: أبا خالد، وأمه خالدة بنت أبي وقاص، أخت سعد بن أبي وقاص. كان له من الوَلَدِ: خَالِد، وطَلْحة، وسَلْم،
    ولما توفي جابر خلَّف من الذكور أربعة بنين: خالد، وأبو ثور مسلم، وأبو جعفر، وجبير، فالعقب منهم لمسلم، وخالد. نزل بالكوفةَ، وابتنى بها دارًا في بني سُوَاءة.

    أخرج له أصحاب الصّحيح، أنه قال: جالست النّبي صَلَّى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة،
    وفي صّحيح البخاري عنه قال: صليت مع النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم أكثر من ألفي مرة، وروى عن النّبيّ صل الله عليه وسلم أحاديثَ كثيرة، منها قولُه:
    رأيت رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، في ليلةٍ مقْمِرة، وعليه حلّةٌ حمراء؛ فجعلتُ أنظر إليه وإلى القَمَرِ، فَلهُوَ عندي أحسنُ من القَمَرِ،
    ومنها قوله صَلَّى الله عليه وسلم: «الْمُسْتَشَارَ مُؤْتَمِنٌ»، وروى عنه الشعبي، وعامر بن سعد بن أبي وقاص، وتميم بن طَرَفة الطائي، وأبو إسحاق السبيعي، وأبو خالد الوالبي، وسماك بن حرب، وحصين بن عبد الرحمن، وأبو بكر بن أبي موسى، وغيرهم.

    نسبه


    عن جابر بن سمرة ، قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمر بنا ، فيمسح خدودنا ، فمر ذات يوم ، فمسح خدي ، فكان الخد الذي مسحه أحسن .

    جابر بن سمرة بن جنادة بن جندب بن حجير بن رئاب بن حبيب بن سواءة بن عامر بن صعصعة العامري ثم السوائي.

    وقيل: جابر بن سمرة بن عمرو بن جندب، وقد اختلف في كنيته؛ فقيل: أبو خالد، وقيل: أبو عبد الله، وهو حليف بني زهرة، وهو ابن أخت سعد بن أبي وقاص، أمه خالدة بنت أبي وقاص، سكن الكوفة وابتنى بها داراً.

    وفاته ..

    توفي بالكوفة سنة أربع وسبعين للهجرة، قال ابن سعد «مات جابر بن سمرة في ولاية بشر بن مروان على العراق،» وصلى عليه عمرو بن حريث المخزومي، وقيل: توفي سنة ست وستين أيام المختار.

    ===============================
    ================

    (( - ربيعة بن كعب الأسلمي ـ رضي الله عنه -))


    ربيعة بن كعب صحابي جليل من أهل الحجاز وهو من كبار المهاجرين البدريين، ومِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ ..


    هو الصحابي الجليل رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ بْن مالك بْن يعمر أَبُو فِرَاسٍ الْأَسْلَمِيُّ يعد من أهل الحجاز، وهو من كبار المهاجرين البدريين، ومِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ وكان يحب أن يَخدِمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَزَلْ رَبِيعَةُ يَلْزَمُ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ يَغْزُو مَعَهُ حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم


    أسلم ربيعة بن كعب رضي الله عنه أسلم في بداية شبابه، فقد كان شابًّا ناهز الخمسة عشر

    إنه ربيعة بن كعب الأسلمي - رضي الله عنه -، والذي أحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حبًّا كبيرًا استقر في سويداء قلبه، لذا لما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة عز عليه أن يعيش بعيدًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فليس للحياة طعم بدون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

    فكَّر ربيعة بالهجرة من بلاد أسلم إلى المدينة النبوية إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم عزم على الهجرة، فذهب إلى أبويه، واستأذنهما بالهجرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأذنا له، وقالا كان الله معك، أيّ حب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟!

    ترك الوالدين والديار والأقارب ليكون بجانب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، انطلق ربيعة مهاجرًا إلى مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سافر لا لتجارة ولا لزوجة، ولا للنظر إلى الأشجار، ولا إلى البحار والأنهار، ولكن ليرضي الواحد القهار، هاجر إلى الله ولرسوله.

    لما وصل المدينة اتجه إلى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل المسجد وإذا به يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤم أصحابه في صلاة العصر، فصلى العصر معهم، ثم تقدم وسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

    آوى ربيعة إلى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتخذه بيتًا ومسكنًا يقضي فيه ليله ونهاره ويجاور أحب البشر عليه الصلاة والسلام ويقوم بخدمته، فقد أصبح خادمًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أنس بن مالك.

    قَالَ رَبِيعَةُ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: «سَلْ» فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: «أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ» قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ».


    وفي عام ثلاثة وستين للهجرة ودع ربيعة بن كعب هذه الفانية، وهو يرجو الله أن يجمعه بنبيه - صلى الله عليه وسلم - في جنة الخلد فقد كان يردد كثيرًا في أيامه الأخيرة:
    "غدًا ألقى الأحبة محمدًا وصحبه".

    - رضي الله عنه - ورفع درجته وجمعنا وإياه بنبينا - عليه الصلاة والسلام -، فقد دخل الإسلام صادقًا، وهاجر إلى الإسلام راغبًا، وأحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حبًّا كبيرًا، وجعل في شباب الإسلام من يحملون همّ الدين كما حمله ربيعة بن كعب - رضي الله عنه - وأرضاه.

    ==========================
    =================


    (( - ثابت بن قيس رضي الله عنه - ))



    ثابت بن قيس ابن شماس بن زهير بن مالك بن امرئ القيس بن مالك الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج ، أبو محمد ، وقيل : أبو عبد الرحمن .

    خطيب الأنصار كان من نجباء أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم - ولم يشهد بدرا ، شهد أحدا ، وبيعة الرضوان .
    وأمه هند الطائية ، وقيل : بل كبشة بنت واقد بن الإطنابة ، وإخوته لأمه عبد الله بن رواحة ، وعمرة بنت رواحة .
    وكان زوج جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول ، فولدت له محمدا .

    قال ابن إسحاق : قيل : آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين عمار ، وقيل : بل المؤاخاة بين عمار وحذيفة . وكان جهير الصوت ، خطيبا ، بليغا .

    ، عن أنس ، قال : خطب ثابت بن قيس مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، فقال : نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأولادنا ، فما لنا ؟ قال : الجنة . قالوا : رضينا .

    عن إسماعيل بن محمد بن ثابت بن قيس أن ثابت بن قيس قال : يا رسول الله ، إني أخشى أن أكون قد هلكت ، ينهانا الله أن نحب أن نحمد بما لا نفعل ، وأجدني أحب الحمد . وينهانا الله عن الخيلاء ، وإني امرؤ أحب الجمال ، وينهانا الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك ، وأنا رجل رفيع الصوت ، فقال : يا ثابت ، أما ترضى أن تعيش حميدا ، وتقتل شهيدا ، وتدخل الجنة ؟ .

    عن عكرمة ، قال : لما نزلت لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي الآية ،
    قال ثابت بن قيس : أنا كنت أرفع صوتي فوق صوته ، فأنا من أهل النار . فقعد في بيته ، فتفقده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ما أقعده فقال : بل هو من أهل الجنة ،
    فلما كان يوم اليمامة ، انهزم الناس ، فقال ثابت : أف لهؤلاء ولما يعبدون ! وأف لهؤلاء ولما يصنعون ! يا معشر الأنصار ، خلوا سنني لعلي أصلى بحرها ساعة ، ورجل قائم على ثلمة ، فقتله وقتل .

    ، عن أنس ، قال : جئته وهو يتحنط ، فقلت : ألا ترى ؟ فقال : الآن يا ابن أخي .
    ثم أقبل ، فقال : هكذا عن وجوهنا نقارع القوم ، بئس ما عودتم أقرانكم ، ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقاتل حتى قتل .

    عن أنس أن ثابت بن قيس جاء يوم اليمامة وقد تحنط ، ولبس ثوبين أبيضين ، فكفن فيهما ، وقد انهزم القوم ، فقال : اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ، وأعتذر من صنيع هؤلاء ، بئس ما عودتم أقرانكم ! خلوا بيننا وبينهم ساعة ، فحمل ، فقاتل حتى قتل ، وكانت درعه قد سرقت ، فرآه رجل في النوم ،
    فقال له : إنها في قدر تحت إكاف ، بمكان كذا وكذا ، وأوصاه بوصايا ، فنظروا فوجدوا الدرع كما قال . وأنفذوا وصاياه .

    عن أبي هريرة ، قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : نعم الرجل ثابت بن قيس بن شماس .

    وعن الزهري : أن وفد تميم قدموا ، وافتخر خطيبهم بأمور ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لثابت بن قيس : قم فأجب خطيبهم . فقام ، فحمد الله وأبلغ ، وسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون بمقامه .

    وهو الذي أتت زوجته جميلة تشكوه وتقول : يا رسول الله : لا أنا ولا ثابت بن قيس . قال : أتردين عليه حديقته ؟ قالت : نعم . فاختلعت منه

    وقيل : ولدت محمدا بعد ، فجعلته في لفيف وأرسلت به إلى ثابت ، فأتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحنكه وسماه محمدا . فاتخذ له مرضعا .

    وصيته

    لما استشهد ثابت بن قيس في معركة اليمامة، كانت عليه درع نفيسة، فأخذها أحد المسلمين، فبينما أحد المسلمين نائم، إذ أتاه ثابت بن قيس في منامه .
    وقال له: أوصيك بوصية فإياك أن تقول: هذا حلم فتضيعه، إني لما قٌتلت مر بي رجل من المسلمين وأخذ درعي،
    ومنزله في أقصى الناس، وعند خبائه فرس يستن في طوله: (أي يمرح في حبله المشدود)، وقد كفأ على الدرع برمة (قدر)، وفوق البرمة رحل، فأتِ خالداً فمُره أن يبعث إليَّ درعي فيأخذها، فإذا قدمت إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر فقل له: إن عليَّ من الدين كذا وكذا، وفلان من رقيقي عتيق، فأتى الرجل خالداً فأخبره، فبعث إلى الدرع فأُتي بها، وحدث أبا بكر برؤياه فأجاز وصيته بعد موته، ولذا قيل: لا يُعلم أحد أجيزت وصيته بعد موته إلا ثابت بن قيس رضي الله عنه.
    ================================
    ======================


    (( - عبد الله بن رواحة رضي الله عنه - ))


    عبد الله بن رواحة ابن ثعلبة بن امرئ القيس بن ثعلبة ، الأمير السعيد الشهيد أبو عمرو الأنصاري الخزرجي البدري النقيب الشاعر .

    شهد بدرا والعقبة . يكنى أبا محمد ، وأبا رواحة ، وليس له عقب ، وهو خال النعمان بن بشير ، وكان من كتاب الأنصار .

    استخلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - على المدينة في غزوة بدر الموعد وبعثه النبي - عليه السلام - سرية في ثلاثين راكبا إلى أسير بن رزام اليهودي بخيبر فقتله .

    قال قتيبة : ابن رواحة وأبو الدرداء أخوان لأم .

    عن أنس قال : كان ابن رواحة إذا لقي الرجل من أصحابه يقول : تعال نؤمن ساعة . فقاله يوما لرجل ، فغضب ، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله ، ألا ترى ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة ، فقال : " رحم الله ابن رواحة ; إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة " .

    عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عبد الله بن رواحة أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب ، فسمعه وهو يقول : " اجلسوا " . فجلس مكانه خارج المسجد حتى فرغ من خطبته ، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : زادك الله حرصا على طواعية الله ورسوله .
    أنبأنا أبو عمران الجوني ، أن عبد الله بن رواحة أغمي عليه ، فأتاه النبي ، فقال : " اللهم إن كان حضر أجله فيسر عليه ، وإلا فاشفه " . فوجد خفة ، فقال : يا رسول الله ، أمي قالت : واجبلاه ، واظهراه ! وملك رفع مرزبة من حديد يقول : أنت كذا ، فلو قلت : نعم لقمعني بها .

    قال أبو الدرداء : إن كنا لنكون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر في اليوم الحار ما في القوم أحد صائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعبد الله بن رواحة .
    عن ابن أبي ليلى قال : تزوج رجل امرأة ابن رواحة ، فقال لها : تدرين لم تزوجتك ؟ لتخبريني عن صنيع عبد الله في بيته . فذكرت له شيئا لا أحفظه ، غير أنها قالت : كان إذا أراد أن يخرج من بيته صلى ركعتين ، وإذا دخل صلى ركعتين ، لا يدع ذلك أبدا .

    قال عروة : لما نزلت والشعراء يتبعهم الغاوون قال ابن رواحة : أنا منهم ؟ . فأنزل الله إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات .

    قال ابن سيرين : كان شعراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن رواحة ، وحسان بن ثابت ، وكعب بن مالك .

    قيل : لما جهز النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مؤتة الأمراء الثلاثة ، فقال : " الأمير زيد ، فإن أصيب فجعفر ، فإن أصيب ، فابن رواحة " . فلما قتلا ، كره ابن رواحة الإقدام ، فقال :
    أقسمت يا نفس لتنزلنه طائعة أو لا لتكرهنه فطالما قد كنت مطمئنه
    ما لي أراك تكرهين الجنه


    فقاتل حتى نال الشهادة رضي الله عنه.

    ===============================
    ======================



    (( - أسيد بن الحضير _ ))


    أسيد بن الحضيرابن سماك بن عتيك بن نافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل .

    الإمام أبو يحيى - وقيل : أبو عتيك - الأنصاري ، الأوسي الأشهلي ، أحد النقباء الاثني عشر ليلة العقبة .

    أسلم قديما ، وقال : ما شهد بدرا ، وكان أبوه شريفا مطاعا يدعى حضير الكتائب ، وكان رئيس الأوس يوم بعاث فقتل يومئذ قبل عام الهجرة بست سنين وكان أسيد يعد من عقلاء الأشراف وذوي الرأي .

    قال محمد بن سعد : آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين زيد بن حارثة ، وله رواية أحاديث ، روت عنه عائشة ، وكعب بن مالك ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، ولم يلحقه .

    وذكر الواقدي أنه قدم الجابية مع عمر ، وكان مقدما على ربع الأنصار ، وأنه ممن أسلم على يد مصعب بن عمير ، هو وسعد بن معاذ .

    قال أبو هريرة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نعم الرجل أبو بكر . نعم الرجل عمر ، نعم الرجل أسيد بن حضير أخرجه الترمذي وإسناده جيد .
    وروي أن أسيدا كان من أحسن الناس صوتا بالقرآن .
    عن عائشة قالت : ثلاثة من الأنصار من بني عبد الأشهل لم يكن أحد يعتد عليهم فضلا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : سعد بن معاذ ، وأسيد بن حضير ، وعباد بن بشر ، رضي الله عنهم .

    عن أسيد بن حضير أنه كان من أحسن الناس صوتا بالقرآن ، قال : وقرأت ليلة سورة البقرة ، وفرس لي مربوط ، ويحيى ابني مضطجع ، فقربته وهو غلام ، فجالت جولة ، ليس لي هم إلا يحيى ابني ، فسكت فسكنت الفرس ، ثم قرأت فجالت الفرس ، فقمت ليس لي هم إلا ابني يحيى ،
    فرفعت رأسي ، فإذا بشيء كهيئة الظلة ، فيه مثل المصابيح ، مقبل من السماء ، فهالني ، فسكت ، فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال : اقرأ يا أبا يحيى ، فقلت : قد قرأت فجالت الفرس ، وليس لي هم إلا ابني يحيى ، فقال : " تلك الملائكة دنوا لصوتك ، ولو قرأت حتى تصبح لأصبح الناس ينظرون إليهم " .

    وفي حديث سليمان بن أحمد : اقرأ يا أسيد ، فقد أوتيت من مزامير آل داود .


    قال ابن إسحاق : أسيد بن حضير نقيب لم يشهد بدرا ، يكنى أبا يحيى . ويقال : كان في أسيد مزاح وطيب أخلاق .

    ، عن أسيد بن حضير - وكان فيه مزاح - أنه كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فطعنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعود كان معه ، فقال : أصبرني ، فقال : اصطبر ، قال : إن عليك قميصا وليس علي قميص ، قال : فكشف النبي - صلى الله عليه وسلم - قميصه ، قال : فجعل يقبل كشحه ويقول : إنما أردت هذا يا رسول الله .
    عن ابن عمر قال : لما هلك أسيد بن الحضير ، وقام غرماؤه بمالهم ، سأل عمر في كم يؤدى ثمرها ليوفى ما عليه من الدين .
    فقيل له : في أربع سنين ، فقال لغرمائه : ما عليكم أن لا تباع ، قالوا : احتكم ، وإنما نقتص في أربع سنين ، فرضوا بذلك ،
    فأقر المال لهم ، قال : ولم يكن باع نخل أسيد أربع سنين من عبد الرحمن بن عوف ، ولكنه وضعه على يدي عبد الرحمن للغرماء .

    عن ابن عمر قال : هلك أسيد ، وترك عليه أربعة آلاف ، وكانت أرضه تغل في العام ألفا ، فأرادوا بيعها ، فبعث عمر إلى غرمائه : هل لكم أن تقبضوا كل عام ألفا ؟ قالوا : نعم .

    قال يحيى بن بكير : مات أسيد سنة عشرين وحمله عمر بين العمودين عمودي السرير حتى وضعه بالبقيع ثم صلى عليه ، وفيها أرخ موته الواقدي وأبو عبيد وجماعة .

    وندم على تخلفه عن بدر ، وقال : ظننت أنها العير ، ولو ظننت أنه غزو ما تخلفت . وقد جرح يوم أحد سبع جراحات .

    رضي الله عنه وأرضاه

    ============================
    ======================

    لا تنسونا من صالح دعائكم
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5370
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود سيرة بعض الصحابه رضوان الله عليهم الذين تم ذكرهم في الموضوع

    مُساهمة من طرف صادق النور الأربعاء أكتوبر 23, 2024 7:46 pm



    (( -   سواد بن غزية رضي الله عنه - ))



    سَوَاد بن غَزِيَّة الأنصاري
    من بني عدي بن النجار هو صحابي شهير عند المسلمين بقصة معانقته للنبي صل الله عليه وسلم وتقبيل بطنه في غزوة بدر الكبرى بعدما وخزه النبي لتسوية الصفوف، وهو الذي أسر خالد بن هشام المخزومي يوم معركة بدر. شهد بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلها مع النبي.

    اسمه ونسبه
    هو سَواد بن غَزِيَّّة بن وهب بن بليّ بن عمرو بن الحاف بن قُضاعة، وقيل سوادة،
    وقيل غزية بن سواد، ووقع في بعض النسخ عند الدارقطني سَوَّاد بن غَزِية والصواب سَواد بتخفيف الواو. وحكى السهيلي تشديدها. هو من الأنصار من بني عدي بن النجار، وقيل هو بَلَوي حليف الأنصار.

    قصته في غزوة بدر ..

    ذُكر في سيرة ابن هشام: «كان صلى الله عليه وسلم في بدرٍ يعدِّل الصُّفوف، ويقوم بتسويتها؛ لكي تكون مستقيمةً، متراصةً؛ وبيده سَهْمٌ لا ريش له، يُعَدِّل به الصَّف، فرأى رجلاً اسمه سَوَّاد بن غَزِيَّة وقد خرج من الصَّفِّ، فطعنـه صلى الله عليه وسلم في بطنـه،
    وقال لـه: «استوِ يا سَوَّاد» فقال: يا رسولَ الله أَوْجَعْتَنِي! وقـد بعثك الله بالحـقِّ والعـدل، فأَقِدْني، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه، وقال: «استَقِدْ»، فاعتنقه، فقبَّل بطنه، فقال: «ما حملك على هذا يا سَوَّاد!» قال: يا رسولَ الله حضر ما ترى؛ فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمسَّ جلدي جلْدَك. فدعا له رسول الله بخير.»

    فشهد بَدْرًا، وهو الذي أسر خالد بن هشام المخزومي. وقد ذكره محمد بن سعد البغدادي في اثني عشر رجلًا في "طبقات البدريين من المهاجرين والأنصار"؛ من بني عديّ بن النجّار، وهم: حارثة بن سُراقة، وعمرو بن ثعلبة، ومُحْرِز بن عامر، وسَلِيط بن قيس، وأبو سَلِيط، وعامر بن أميّة، وثابت بن خَنْسَاء، وقيس بن السَّكَن، وأبو الأعور، وحَرام بن مِلْحان، وسُليم بن مِلْحان، وسَواد بن غَزِيَّة، وهو حليف لهم.

    إمارته على خيبر ..

    بعثه النبي صل الله عليه وسلم وأمّرَهُ على خيبر بعد أن فتحها المسلمون،

    بعث رسول الله سواد بن غزية أخا بني عدي من الأنصار وأمَّره على خيبر، فقدم عليه بتمر جنيب يعني الطيب،
    فقال رسول الله: "أكل تمر خيبر هكذا؟" قال: لا والله يا رسول الله، إنا نشتري الصاع بالصاعين والصاعين بثلاثة آصعٍ من الجمع.
    فقال رسول الله: "لا تفعل، ولكن بع هذا واشتر بثمنه من هذا، وكذلك الميزان"

    رضي الله عنه وأرضاه ..


    ==============================
    =================

    (( - أبو موسى الأشعري رضي الله عنه - ))


    أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري ..

    ينتمي عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب بن عامر بن عنز بن بكر بن عامر بن عذر بن وائل بن ناجية بن الجماهر بن الأشعر إلى قبيلة الأشعريين القحطانية.
    قدم أبو موسى الأشعري إلى مكة قبل الإسلام، وحالف أبا أحيحة سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس.
    أسلم أبو موسى بمكة، ثم رحل إلى قبيلته في اليمن، ثم خرج في بضعة وخمسين رجل من قومه فيهم أخويه أبو رهم وأبو بردة وأمه ظبية بنت وهب العكيّة التي أسلمت وماتت بالمدينة في سفينة، فجرفهم البحر إلى الحبشة، حيث كان جعفر بن أبي طالب وأصحابه مهاجرون، فخرجوا جميعًا في سفينتين متوجهين إلى المدينة المنورة، فوجدوا النبي صل الله عليه وسلم  عائدًا من فتح خيبر،
    فأسهم النبي صل الله عليه وسلم  لهم فيمن حضر الفتح، وقال لهم: «لكم الهجرة مرتين. هاجرتم إلى النجاشي، وهاجرتم إليّ»،
    فكانت غزوة خيبر أول المشاهد التي شهدها أبو موسى الأشعري مع النبي  صل الله عليه وسلم
    شارك أبو موسى بعدئذ في أوطاس التي بعثها النبي صل الله عليه وسلم بعد غزوة حنين قادها أبو عامر الأشعري عم أبي موسى لقتال فلول هوازن بقيادة دريد بن الصمة، فقُتل فيها أبا عامر، وقتل أبو موسى قاتله.
    فدعا لهما النبي صل الله عليه وسلم عند عودته، فقال: «اللهم إغفر لعبيد أبي عامر، ثم قال اللهم إجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك»،
    ثم قال: «اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مُدخلاً كريمًا». وقد استعمله النبي صل الله عليه وسلم مع معاذ بن جبل على زبيد وعدن.

    عن عياض الأشعري ، قال : لما نزلت : فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : هم قومك يا أبا موسى ، وأومأ إليه .

    بعد وفاة النبي  صل الله عليه وسلم  شارك أبو موسى في الفتح الإسلامي للشام، وشهد وفاة أبو عبيدة بن الجراح، وخطبة عمر بن الخطاب بالجابية.
    وفي سنة 17 هـ، عزل عمر بن الخطاب المغيرة بن شعبة عن البصرة، وولى أبا موسى،
    وكتب إليه عمر بالمسير إلى الأهواز، فافتتحها عنوة، وقيل صُلحًا،
    وافتتح أصبهان سنة 23 هـ، كما شارك في فتح تستر والرُها وسميساط وما حولهم.
    ولما استُخلف عثمان بن عفان بعد مقتل عمر بن الخطاب، عزل عثمان بن عفان أبا موسى عن البصرة، وولّى مكانه عبد الله بن عامر بن كريز. فخرج أبو موسى من البصرة وما معه سوى 600 درهم عطاء عياله، وانتقل إلى الكوفة، وأقام بها حتى أخرج أهل الكوفة سعيد بن العاص، وطلبوا من عثمان أن يستعمل أبا موسى عليهم، فاستعمله، و
    بقى عليها حتى قُتل عثمان، فعزله علي بن أبي طالب عنها. ولما اندلعت فتنة مقتل عثمان، اختار أبو موسى الانضمام إلى حزب علي بن أبي طالب، الذي اختاره ليكون مُحكّمًا في جلسة التحكيم التي لجأ إليها الفريقان بعد وقعة صفين.

    اختلفت الروايات في وفاة أبي موسى، فقيل مات سنة 42 هـ، وقيل سنة 44 هـ، وقيل سنة 49 هـ، وقيل سنة 50 هـ، وقيل سنة 52 هـ، وقيل سنة 53 هـ، إلا أن الذهبي وابن الجزري رجحا وفاته في ذي الحجة سنة 44 هـ. وكذلك كان خلاف حول مكان وفاته فقيل مات بالثوية على ميل من الكوفة، وقيل مات بمكة.

    وعن أسرته، فقد عدّ علماء الحديث النبوي من أبنائه الذين رووا عنه الحديث إبراهيم وأبا بكر وأبا بُردة وموسى،
    ومن زوجاته أم عبد الله وأم كلثوم بنت الفضل بن العباس بن عبد المطلب أم ولده موسى.
    أما هيئته، فقد وُصف بأنه كان قصيرًا، أثط (خفيف اللحية)، خفيف الجسم. ويأخذ الشيعة من أبي موسى موقفًا سلبيًا.

    روايته للحديث النبوي

    عاصر أبو موسى النبي  صل الله عليه وسلم  لسنوات، وسمع منه الحديث النبوي.
    وقد عدّ له الذهبي 163 حديثًا في مسند بقي بن مخلد، وأحصى له 49 حديثًا في الصحيحين، وتفرد البخاري بأربعة منها، ومسلم بخمسة عشر حديثًا.
    وكان أبو موسى يتهيّب أن يُكتب الحديث على لسانه، فقد ذكر ابنه أبو بردة أنه كتب أحاديث عن أبيه، فعرف أبو موسى بذلك، فمحاها، وقال: «خذ كما أخذنا»

    حفظ أبو موسى القرآن، وقرأه على النبي صل الله عليه وسلم ، وقرأه عليه حطان بن عبد الله الرقاشي وأبو رجاء العطاردي وأبو شيخ الهنائي.
    وكان أبو موسى من أطيب الناس صوتًا بالقرآن، حتى قال عنه النبي صل الله عليه وسلم : «لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير آل داود».
    وقال أبو عثمان النهدي: «ما سمعت مزمارًا ولا طنبورًا ولا صنجًا أحسن من صوت أبي موسى الأشعري، إن كان ليصلي بنا فنود أنه قرأ البقرة، من حسن صوته».

    عن ابن بريدة عن أبيه ، قال : خرجت ليلة من المسجد ، فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم- عند باب المسجد قائم ، وإذا رجل يصلي ، فقال لي : يا بريدة ، أتراه يرائي ؟ قلت : الله ورسوله أعلم . قال : بل هو مؤمن منيب ، لقد أعطي مزمارا من مزامير آل داود . فأتيته ، فإذا هو أبو موسى ; فأخبرته .

    عن أنس : أن أبا موسى قرأ ليلة ،
    فقمن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم- يستمعن لقراءته . فلما أصبح ، أخبر بذلك .
    فقال : لو علمت ، لحبرت تحبيرا ، ولشوقت تشويقا .


    وقد كان أبو موسى يُقرئ أهل البصرة، ويُفقّههم في الدين، فكان إذا صلى الصبح، استقبل الصفوف رجلاً رجلاً يقرئهم، حتى قال عنه الحسن: «ما أتاها راكب خير لأهلها منه».

    قال سعيد بن عبد العزيز : حدثني أبو يوسف ، حاجب معاوية : أن أبا موسى الأشعري قدم على معاوية ، فنزل في بعض الدور بدمشق ، فخرج معاوية من الليل ليستمع قراءته .

    مكانته الدينية ..

    وقال الشعبي : يؤخذ العلم عن ستة : عمر ، وعبد الله ، وزيد ، يشبه علمهم بعضه بعضا ، وكان علي ، وأبي ، وأبو موسى يشبه علمهم بعضه بعضا ، يقتبس بعضهم من بعض .


    قال الأسود بن يزيد النخعي: «لم أر بالكوفة أعلم من علي وأبي موسى»،
    وقال مسروق بن الأجدع، وقال مثله الشعبي: «كان القضاء في الصحابة إلى ستة عمر وعلي وابن مسعود وأبي وزيد وأبي موسى»،
    وقال صفوان بن سليم: «لم يكن يفتي في المسجد زمن رسول الله صل الله عليه وسلم غير هؤلاء عمر وعلي ومعاذ وأبي موسى»،
    وقال ابن المديني: «قضاة الأمة أربعة عمر وعلي وأبو موسى وزيد بن ثابت».

    أنس : بعثني الأشعري إلى عمر ، فقال لي : كيف تركت الأشعري ؟ قلت : تركته يعلم الناس القرآن . فقال : أما إنه كيس ! ولا تسمعها إياه .


    قد كان أبو موسى صواما قواما ربانيا زاهدا عابدا ، ممن جمع العلم والعمل والجهاد وسلامة الصدر ، لم تغيره الإمارة ، ولا اغتر بالدنيا .

    ===================================
    =========================

    (( - عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه  - ))


    هو :
    «عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب بن شمخ بن فار بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان».

    أمه : «أم عَبْد بنت عَبْد ود بْن سَوَاء بْن قريم بْن صاهلة بْن كَاهِل بْن الْحَارِث بْن تَمِيم بْن سعد بْن هُذَيْل بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان».

    ولديه من الأخوة اثنان وهما عتبة وعميس ابني مسعود.

    الإمام الحبر ، فقيه الأمة ، أبو عبد الرحمن الهذلي المكي المهاجري البدري ، حليف بني زهرة .

    كان من السابقين الأولين ، ومن النجباء العالمين ، شهد بدرا ، وهاجر الهجرتين ، وكان يوم اليرموك على النفل ، ومناقبه غزيرة ، روى علما كثيرا .

    شأ عبد الله في مكة، حيث استقر بها أبوه مسعود بن غافل قبل الإسلام، وقد كان والده من فرسان هذيل وقد أصاب قوم في الجاهلية فأصبح مطلوبا بالدم فدخل الى مكة ومعه خيول له وقد نادى في الناس من يعقد معي حلفا وله هذه الخيل فحالفه عبد بن الحارث من بني زهرة بن كلاب بن مرة القرشي. ثم تزوج من حفيدته أم عبد بنت عبد وُدّ بن سواءة الهذلية. ابنة ابنته هند بنت عبد بن الحارث الزهرية.

    كان عبد الله بن مسعود من السابقين الأولين في الإسلام، حيث أسلم قبل أن تصبح دار الأرقم مقرًا لتجمع أصحاب النبي صل الله عليه وسلم ، وقد اختُلف في ترتيبه في السبق إلى الإسلام، فقيل أنه سادس ستة أسلموا، وقيل أنه أسلم بعد اثنين وعشرين نفسًا.

    وقد روى عبد الله بن مسعود قصة إسلامه، فقال: «كنت أرعى غنمًا لعقبة بن أبي معيط، فمر بي رسول الله صل الله عليه وسلم وأبو بكر،
    فقال: يا غلام، هل من لبن؟ قلت: نعم، ولكني مؤتمن. قال: فهل من شاة لم ينزّ عليها الفحل؟ فأتيته بشاة، فمسح ضرعها، فنزل لبن، فحلب في إناء، فشرب، وسقى أبا بكر. ثم قال للضرع: اقلُص، فقلص.
    ثم أتيته بعد هذا، فقلت: يا رسول الله، علمني من هذا القول، فمسح رأسي، وقال: إنك غلام مُعَلَّمٌ.» منذئذ،
    أسلم عبد الله بن مسعود وأسلم معه أخوه عتبة بن مسعود، وأسلمت أمه معه، وكان لها صحبة. فكانوا من أوائل المسلمين في التاريخ.

    لزم عبد الله ابن مسعود صحبة النبي صل الله عليه وسلم في مكة، وكان جريئًا في الدين شجاعاً لا يهاب أحدا من أهل مكة فكان معلنا لإسلامه أمام كفار قريش،
    وكان أول من جهر بالقرآن في مكة بعد النبي صل الله عليه وسلم وذلك ليسمع كفار قريش القران وكان ذلك تحديا يطلب شجاعة كبيرة كون الكفار في مكة آنذاك هم الأكثرية ولشده معاداتهم للدعوة الإسلامية العلنية،

    قاسى ابن مسعود ما قاساه المسلمون الأوائل من اضطهاد قريش، مما اضطره إلى الهجرة إلى الحبشة تحت وطأة هذا الاضطهاد لينجو بنفسه وبدينه. ومعه أخوه عتبه بن مسعود الهذلي ثم عاد عبد الله ابن مسعود بعد سنوات إلى مكة، قبل أن يغادرها مجددًا مهاجرًا إلى يثرب بعد أن أذن النبي صل الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إليها.

    كان ابن مسعود آدم، خفيف اللحم، نحيفًا، قصيرًا، شديد الأدمة، وكان لا يغير شيبه، بعينيه أثرين أسودين من البكاء، وكان من أجود الناس ثوبًا أبيض، ومن أطيب الناس ريحًا، وكان يُعرف بالليل بريح الطيب. كما كان يتخذ خاتمًا من حديد.

    وبعد الهجرة إلى المدينة المنورة، نزل عبد الله على معاذ بن جبل، وقيل سعد بن خيثمة، وآخى النبي صل الله عليه وسلم بين ابن مسعود والزبير بن العوام، وقيل بينه وبين سعد بن معاذ، وقيل بينه وبين أنس بن مالك، وقيل بينه وبين معاذ بن جبل.
    واختطّ النبي صل الله عليه وسلم لعبد الله وأخيه عتبة بن مسعود دُورًا مع دور بني زُهرة بن كلاب في ناحية مؤخر المسجد.

    ما أن هاجر عبد الله ابن مسعود حتى لزم هو وأمه ام عبد الهذلية خدمة النبي محمد، فكان عبد الله يُلبس النبي صل الله عليه وسلم نعليه، ثم يمشي أمامه بالعصا، حتى إذا أتى مجلسه، نزع نعليه، فأدخلهما عبد الله في ذراعه، وأعطاه العصا، وكان يدخل حجراته أمامه بالعصا، وأصبح ابن مسعود صاحب سواد النبي ووساده وسواكه ونعليه وطهوره،

    وكان هو من يستر النبي صل الله عليه وسلم إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، ويُؤنسه إذا مشي.
    لذا، فقد كان كثير الولوج على النبي صل الله عليه وسلم ،
    حتى ظنّ أبو موسى الأشعري حين هاجر من اليمن إلى المدينة، أن ابن مسعود وأمه من أهل بيت النبي صل الله عليه وسلم لكثرة دخولهم وخروجهم عليه.
    أبي جهل يوم بدر بعد أن ضربه ابني عفراء، ونفله النبي صل الله عليه وسلم يومها سيف أبي جهل. كما كان ابن مسعود أحد أربعة ثبتوا مع النبي صل الله عليه وسلم بعد أن تقهقر عنه أصحابه يوم أحد.


    بعد وفاة النبي صل الله عليه وسلم .

    بعد وفاة النبي صل الله عليه وسلم ، شارك ابن مسعود في الفتح الإسلامي للشام،
    وشهد فيها معركة اليرموك، وتولى يومها قسمة الغنائم. اختار عبد الله بن مسعود بعد انتهاء الفتح الإقامة في حمص، إلى أن جاءه أمر من الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بالانتقال إلى الكوفة، ليعلّم أهلها أمور دينهم ويكون وزيرا فيها، وليعاون أميرها الجديد عمار بن ياسر،
    وكتب عمر إلى أهل الكوفة، فقال: «إني قد بعثت عمار بن ياسر أميرًا، وعبد الله بن مسعود معلمًا، ووزيرًا، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله صل الله عليه وسلم من أهل بدر، فاقتدوا بهما، وأطيعوا واسمعوا قولهما، وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي».

    وقد بقي عبد الله بن مسعود بالكوفة مدة خلافة عمر بن الخطاب، وبداية خلافة عثمان بن عفان، إلى أن عزله عثمان بن عفان، وبعث إليه يأمره بالعودة إلى المدينة المنورة.
    اجتمع أهل الكوفة ليقنعوه عبد الله بن مسعود بالبقاء في الكوفة، وقالوا له: «أقم، ونحن نمنعك أن يصل إليك شيء تكرهه»،
    فقال لهم عبد الله: «إن له علي حق الطاعة، وإِنها ستكون أمور وفتن، فلا أحب أن أكون أول من فتحها»، وردّ الناس، وترك الكوفة وعاد الى إلى المدينة المنورة.

    حظي ابن مسعود بمنزلة عالية عند النبي صل الله عليه وسلم الذي أولاه ثقته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لو كنت مؤمّرًا أحدًا عن غير مشورة، لأمرت عليهم ابن أم عبد»،

    كما عاتب النبي صل الله عليه وسلم أصحابه يومًا حين أمر ابن مسعود بصعود شجرة يأتيه منها بشيء، فضحكوا من نحافة ساقيه، فقال النبي صل الله عليه وسلم : «ما تضحكون؟ لرجل عبد الله أثقل في الميزان يوم القيامة من أُحد»، فشهد النبي صل الله عليه وسلم لعبدالله بن مسعود ان ساقه يوم القيامة في الميزان اثقل من جبل أحد وهذا فضل وكرامه من الله وتزكيه لأبن مسعود

    كما شهد بعض الصحابة على منزلة ابن مسعود من النبي صل الله عليه وسلم ،
    فقد روى حذيفة بن اليمان قول النبي صل الله عليه وسلم : «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد»،
    كما قيل عمرو بن العاص في مرض موته، وقد أصابه الهمّ: «قد كان رسول الله صل الله عليه وسلم يُدنيك ويُستعملك»، فقال: «والله ما أدري ما كان ذاك منه، أحُب أو كان يتألفني، ولكن أشهد على رجلين أنه مات وهو يحبهما ابن أم عبد وابن سمية»،

    كما روى أبو الدرداء الأنصاري أن النبي صل الله عليه وسلم خطب خطبة خفيفة، فلما فرغ من خطبته أمر أبا بكر، فقام فخطب، فقصّر دون النبي ثم أمر عمر بن الخطاب، فقام فخطب، فقصّر دون أبي بكر، ثم نادى آخر فقام فخطب، فشقق القول، فقال له النبي صل الله عليه وسلم : «اسكت أو اجلس، فإن التشقيق من الشيطان، وإن البيان من السحر»،

    ثم قال: «يا ابن أم عبد، قم فاخطب»، فقام عبد الله بن مسعود، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أيها الناس، إن الله - عز وجل - ربنا، وإن الإسلام ديننا، وإن القرآن إمامنا، وإن البيت قبلتنا، وإن هذا نبينا - وأومأ إلى النبي صل الله عليه وسلم - رضينا ما رضي الله لنا ورسوله، وكرهنا ما كره الله لنا ورسوله، والسلام عليكم»،
    فقال النبي صل الله عليه وسلم : «أصاب ابن أم عبد وصدق، رضيت بما رضي الله لأمتي وابن أم عبد، وكرهت ما كره الله لأمتي وابن أم عبد».


    أثنى العديد من الصحابة والتابعين على عبد الله بن مسعود، فقال عمر بن الخطاب عنه حين أرسله إلى الكوفة: «كُنيف ملئ علمًا، آثرت به أهل القادسية»،

    وقال حذيفة بن اليمان: «ما أعلم أحدًا أقرب سمتًا ولا هديًا ولا دلاً من رسول الله صل الله عليه وسلم ، حتى يواريه جدار بيته من ابن أم عبد، ولقد علم المحفوظون من أصحاب الرسول صل الله عليه وسلم أن ابن أم عبد من أقربهم إلى الله وسيلة يوم القيامة».

    وقال أبو الدرداء الأنصاري يوم أتاه نعي ابن مسعود: «ما ترك بعده مثله»،
    ومن التابعين قال مسروق بن الأجدع: «شاممت أصحاب الرسول صل الله عليه وسلم ، فوجدت علمهم انتهى إلى ستة علي وعمر وعبد الله وزيد وأبي الدرداء وأُبيّ. ثم شاممت الستة، فوجدت علمهم انتهى إلى علي وعبد الله»،

    وقال أبو وائل شقيق بن سلمة: «ما أعدل بابن مسعود أحدًا»،
    وقال الشعبي: «ما دخل الكوفة أحد من الصحابة أنفع علمًا، ولا أفقه صاحبًا من عبد الله».

    علمه وخدمته للقرآن ..

    كان لملازمة ابن مسعود للنبي صل الله عليه وسلم أثرها في سعة علمه بتفسير القرآن وأسباب نزول آياته،
    فقد روى مسروق بن الأجدع عن ابن مسعود قوله: «والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه»،
    وهو قول الصحابي أبي مسعود الأنصاري الذي قال: «والله ما أعلم النبي صل الله عليه وسلم ترك أحدًا أعلم بكتاب الله من عبد الله بن مسعود».

    أخذ ابن مسعود من فم النبي صل الله عليه وسلم مباشرة بضعًا وسبعين سورة، وكان حسن الصوت بقراءة القرآن، فكان النبي صل الله عليه وسلم يحب أن يسمعه منه،
    فقد روى ابن مسعود أن النبي صل الله عليه وسلم قال له يومًا: «إقرأ عليّ سورة النساء»، فتعجّب ابن مسعود وقال: «أقرأ عليك وعليك أُنزل؟»، فقال النبي صل الله عليه وسلم : «إني أحب أن أسمعه من غيري»،
    فقرأ عليه حتى بلغ قوله تعالى - ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء:41]، ففاضت عينا النبي صل الله عليه وسلم،
    وقال: «من أحب أن يقرأ القرآن غضًّا كما أُنزل، فليقرأ قراءة ابن أم عبد»،

    كما أوصى النبي صل الله عليه وسلم فقال: «استقرئوا القرآن من أربعة من عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة».
    وقد تفرّغ ابن مسعود لخدمة القرآن وأهله، فكان يملي المصاحف عن ظهر قلب في الكوفة، وأخذ عنه القراءة عرضًا مُقرئين كأبي عبد الرحمن السُلمي وعبيد بن نضيلة والأسود بن يزيد النخعي وتميم بن حذلم والحارث بن قيس وزر بن حبيش وعبيد بن قيس وعلقمة بن قيس النخعي وعبيدة بن عمرو السلماني وعمرو بن شرحبيل وأبو عمرو الشيباني وزيد بن وهب ومسروق بن الأجدع، وإليه تنتهي قراءة عاصم وحمزة والكسائي وخلف والأعمش. كما قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه: «كان عبد الله إذا هدأت العيون قام، فسمعت له دويًّا كدوي النحل حتى يُصبح».

    ولما همّ الخليفة الأول أبو بكر الصديق بجمع القرآن، وندب لذلك زيد بن ثابت، شقّ على ابن مسعود ذلك،
    وقال: «لقد قرأت من فِيّ رسول الله صل الله عليه وسلم سبعين سورة، وزيد له ذؤابة يلعب مع الغلمان»،
    كما قال: «يا معشر المسلمين، أعزل عن نسخ المصاحف، ويولاها رجل والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب أبيه كافر»،
    قال الزهري:« فبلغني أن ذلك كره من مقالة ابن مسعود، كرهه رجال من الصحابة».

    كما اختار الخليفة الثالث عثمان بن عفان زيد بن ثابت لكتابة مصحفه وحرق ما دونه من نسخ،
    وكان عبد الله بن مسعود وقتها بالكوفة، فقال عبد الله: «يا أهل الكوفة، اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها، فإن الله قال -
    ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [آل عمران:161]، فالقوا الله بالمصاحف»،

    وقال: «لقد علم أصحاب محمد أني أعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم، ولو أني أعلم أن أحدًا أعلمُ بكتاب الله مني تبلغنيه الإبل لأتيته»،
    قال الذهبي:« إنما شق على ابن مسعود، لكون عثمان ما قدمه على كتابة المصحف، وقدم في ذلك من يصلح أن يكون ولده،
    وإنما عدل عنه عثمان لغيبته عنه بالكوفة، ولأن زيدا كان يكتب الوحي لرسول الله صل الله عليه وسلم فهو إمام في الرسم،
    وابن مسعود فإمام في الأداء، ثم إن زيدا هو الذي ندبه الصديق لكتابة المصحف وجمع القرآن، فهلا عتب على أبي بكر؟
    وقد ورد أن ابن مسعود رضي وتابع عثمان ولله الحمد»
    وقال أيضًا أن في مصحف ابن مسعود أشياء أظنها نسخت، وأما زيد فكان أحدث القوم بالعرضة الأخيرة التي عرضها النبي عام توفي، على جبريل.

    وعندما تولى عمر بن الخطاب الإمارة قال من أراد أن يسأل عن القرآن، فليسأل عبد الله بن مسعود، ومن أراد أن يسأل عن المواريث فليسأل علي بن أبي طالب، ومن أراد أن يسأل عن العلم فليسأل معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليسألني أنا، فإن الله قد جعلني له خازنا وخاتما.
    وذكره لعبدالله في علم القران يدل على ان عبد الله بن مسعود أعلم المسلمين بالقران الكريم

    كان عبد الله بن مسعود من المكثرين من الرواية عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ومع ذلك فقد كان شديد التحري في الأداء وكان يشدد في الرواية، ويزجر تلامذته عن التهاون في ضبط الألفاظ، ولا يجرؤ على الجزم بأن ما ينقله هو نفس اللفظ النبوي تورعًا واحتياطًا،
    فعن أبي عمرو الشيباني قال: كنت أجلس إلى ابن مسعود حولاً لا يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا استقلته الرِّعدة وقال: هكذا أو نحو ذا أو قريب من ذا!

    قال عبد الله : إن في كتاب الله آيتين ما أصاب عبد ذنبا فقرأهما ثم استغفر الله إلا غفر له والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم إلى آخر الآية ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه .

    كان من دعاء عبد الله " ربنا أصلح ذات بيننا واهدنا سبل الإسلام وأخرجنا من الظلمات إلى النور ، واصرف عنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا وتب علينا وعليهم إنك أنت التواب الرحيم ، واجعلنا لأنعمك شاكرين مثنين بها قائلين بها وأتمها علينا " .

    قال عبد الله : يقول الله " من كان له عندي عهد فليقم " قالوا : يا أبا عبد الرحمن ، فعلمنا ، قال : قولوا : اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة ، إني أعهد إليك عهدا في هذه الحياة الدنيا إنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر ويباعدني من الخير ، وأني لا أثق إلا برحمتك فاجعله لي عندك عهدا تؤديه إلي يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد .

    عن أبي الأحوص أن ابن مسعود كان إذا دعا لأصحابه قال : اللهم اهدنا ، ويسر هداك لنا ، اللهم يسرنا لليسرى وجنبنا العسرى ؛ واجعلنا من أولي النهى ؛ اللهم لقنا نضرة وسرورا ، واكسنا سندسا وحريرا ؛ وحلنا أساور إله الحق اللهم اجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها قائليها وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم .
    عن مسعر عن معن قال : كان عبد الله مما يدعو يقول " اللهم أعني على أهاويل الدنيا وبوائق الدهر ومصائب الليالي والأيام ، واكفني شر ما يعمل الظالمون في الأرض ، اللهم اصحبني في سفري واخلفني في حضري وإليك فحببني ، وفي أعين الناس فعظمني ، وفي نفسك فاذكرني ، وفي نفسي لك فذللني ، ومن شر الأخلاق فجنبني يا رحمن ، إلى من تكلني ، أنت ربي ، إلى بعيد يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري " .

    عن أبي عبيدة قال : كان عبد الله إذا اجتهد في الدعاء قال " اللهم إني أسألك من فضلك الذي أفضلت علي ، وبلائك الحسن الذي ابتليتني ، ونعمائك التي أنعمت علي أن تدخلني الجنة ، اللهم أدخلني الجنة برحمتك ومغفرتك وفضلك " .
    ------------------------------------
    لا تنسونا من صالح دعائكم

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع


      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة نوفمبر 01, 2024 5:44 am