آداب الحج .. أسرار ومقاصد الحج .. الصحبة في الحج .. لبيك لا شريك لك .. كيف يكون حجك مبروراً؟
آداب الحج
هناك جملة من الوصايا والآداب ينبغي لمن عزم على الحج أن يراعيها وأن يحرص عليها، حتى يؤدي نسكه على الوجه المشروع، ويكون حجه مبروراً متقبلاً، وأول هذه الآداب والوصايا أن يقصد الحاج بحجه وجه الله عز وجل والدار الآخرة، فيخلص النية لله ، ولا يقصد بحجه الرياء أو السمعة، فإن الإخلاص هو أساس الأعمال، وعليه مدار القبول، قال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} (البينة:5) ، وفي الحديث المتفق عليه: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).
ثم على المسلم إذا أراد الحج أن يستخير الله عز وجل، وهذه الاستخارة لا ترجع إلى نفس الحج فإن الحج خير كله، وإنما ترجع إلى الوقت والرفقة وحال الشخص وغير ذلك من الأمور التي تدخلها الاستخارة، فيصلي ركعتين من غير الفريضة ثم يدعو دعاء الاستخارة المعروف، ويستشير كذلك من يثق بدينه وعلمه وخبرته.
وعلى الحاج أن يصلح ما بينه وبين الله عز وجل بالتوبة النصوح من جميع الذنوب والمعاصي، وأن يصلح ما بينه وبين الخلق بالتحلل من حقوق العباد ورد المظالم والودائع وقضاء الديون أو الاستئذان من أصحابها.
ومن الآداب أيضاً أن يكتب العبد وصيته قبل سفره، فإن السفر مظنة تعرض الإنسان للأخطار والمشاق، فيبين فيها ما له وما عليه، ويوصي أهله وأصحابه بتقوى الله عز وجل، وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين – وفي رواية – ثلاثَ ليال إلا ووصيته مكتوبة عنده) متفق عليه.
وعليه أن يختار لحجه النفقة الطيبة والمال الحلال، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، لذا كان من موانع إجابة الدعاء أكل الحرام.
كما عليه أن يتفقه في أحكام السفر والحج والعمرة، وأن يسأل عما أشكل عليه من ذلك، فيعرف شروط الحج وواجباته وأركانه وسننه، حتى يعبد الله على بصيرة ولا يقع فيما يفسد عليه حجه أو ينقص أجره، ويستعين في ذلك بأن يأخذ ما يحتاجه من الكتب والأشرطة التي تبين أحكام الحج، وأن يصاحب أهل العلم والخبرة بالمناسك وأوقاتها وأماكنها.
وينبغي على الحاج أن يختار الرفقة الصالحة التي تعينه إذا ضعف، وتذكره إذا غفل، وتأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وأن يحذر من مصاحبة البطالين الذين لا يراعون حرمات الله، ولا يعظمون شعائر الله، فيضيعون عليه أشرف الأوقات فيما لا ينفع ولا يفيد.
كما ينبغي عليه أن يحرص على الالتزام بآداب السفر وأدعيته، فيدعو دعاء السفر، ويكبر كلما صعد مرتَفَعاً، ويسبح كلما هبط وادياً، ويدعو بدعاء نزول منازل الطريق، وغير ذلك من الأدعية والآداب المذكورة في كتب أهل العلم، وإذا كانوا جماعة فعليهم أن يؤمروا أميراً ويطيعوه في غير معصية الله.
ومن الآداب التي يجب على الحاج مراعاتها حفظ اللسان عما حرم الله من غيبة ونميمة وسب وشتم وجدال بالباطل، وكذلك غض البصر عن محارم الله، فليتق الحاج ربه وليعظم حرمات الله، ولا يرجع من حجه بالذنوب والأوزار كما قال القائل واصفا من هذا حاله:
يحج لكي ما يغفر الله ذنبه فيرجعُ قد حُطَّت عليه ذنوبُ
وعلى المرأة المسلمة أن تحرص على الستر والعفاف، وأن تحذر من التبرج والسفور ومخالطة الرجال ومزاحمتهم، كما عليها أن تتفقه في أحكام الحج المختصة بالنساء، وأن تسأل عما يشكل عليها في ذلك.
وينبغي على الحاج -كذلك - أن يكون رحيماً رفيقاً بإخوانه من الحجاج ، وذلك بالحرص على راحتهم، وإرشاد ضالهم، وتعليم جاهلهم ، والابتعاد عن كل ما فيه أذيتهم، والصبر على ما يصدر من بعضهم، إلى غير ذلك مما هو من محاسن الأخلاق وكريم الطباع.
كما أن عليه أن يحرص على أداء الصلوات المكتوبة في أوقاتها مع جماعة المسلمين، وأن يحذر من تأخيرها عن وقتها.
واعلم أخي الحاج أن مما يعينك على التزام هذه الآداب أن تستشعر عظمة الزمان والمكان، فإن ذلك أدعى إلى أن تؤدي المناسك بخضوع وإجلال لله جل وعلا، قال سبحانه: {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}(الحج :32)، ولتتذكر أيضاً أنها أيام قليلة معدودة، سرعان ما تنقضي وتذهب ، فاحرص على اغتنام الأوقات واللحظات فيما يقربك من ربك جل.
***************************************************************
أسرار ومقاصد الحج
شرع الله العبادات والشعائر لحكم عظيمة وغايات جليلة، فهي تزكي النفوس، وتطهر القلوب، وتقرب العباد من ربهم جل وعلا، وهناك معانٍ مشتركة تشترك فيها جميع العبادات، كما أن هناك معانٍ خاصة تختص بها كل عبادة على حدة، ومن هذه العبادات العظيمة عبادة الحج، فللحج حكمٌ وأسرار ومعان ينبغي للحاج أن يقف عندها، وأن يمعن النظر فيها، وأن يستشعرها وهو يؤدي هذه الفريضة، حتى يحقق الحج مقصوده وآثاره .
فالحج من أعظم المواسم التي يتربى فيها العبد على تقوى الله عز وجل، وتعظيم شعائره وحرماته، قال تعالى في آيات الحج: { ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } (الحج:32)، وأَمَرَ الحجيج بالتزود من التقوى، فقال سبحانه: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب } (البقرة:197)، وبين أن المعنى الذي شرع من أجله الهدي والأضاحي إنما هو تحصيل هذه التقوى، فقال سبحانه: { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم } (الحج:32).
والحج يربي العبد على معاني العبودية والاستسلام والانقياد لشرع الله، فالحاج يؤدي أعمالاً غير واضحة المعاني، فيتجرد من ملابسه التي اعتادها، ويجتنب الزينة، ويطوف ويسعى سبعة أشواط، ويقف في مكان معين ووقت معين، ويدفع كذلك في وقت معين وإلى مكان معين، ويرمي الجمار ويبيت بمنى ، إلى غير ذلك من أعمال الحج التي يؤديها الحاج غير مدرك لمعانيها سوى أنها امتثال لأمر الله، واتباع لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، كما قال عمر رضي الله عنه للحجر عندما أراد تقبيله: "والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك".
والحج يثير في النفس الشعور بالأخوة بين المؤمنين، وضرورة الوحدة فيما بينهم، فالحجاج يجتمعون في مكان واحد وزمان واحد، وهيئة واحدة، يدعون إلهاً واحداً، غايتهم واحدة، ووجهتهم واحدة، فيشعر الحاج أن هذه الأمة تملك من مقومات الوحدة والاجتماع ما لا تملكه أمة من أمم الأرض، وأن بإمكانها أن تصنع الشيء الكثير إذا ما توحدت الصفوف وتآلفت القلوب واجتمعت الكلمة، وهو شعور عظيم لا يشعر به الإنسان مثلما يشعر به في هذه المواطن العظيمة .
والحج يذكر المؤمن باليوم الآخر وما فيه من أهوال عظيمة يشيب لهولها الولدان، عندما يرى الإنسان في هذا الموطن زحام الناس واختلاطهم وارتفاع أصواتهم وضجيجهم، وهم في صعيد واحد، ولباس واحد، قد تجردوا من متع الدنيا وزينتها، فيذكر بذلك يوم العرض على الله حين يقف العباد في عرصات القيامة حفاة عراة غرلاً، وقد دنت الشمس من رؤوسهم، فيحثه ذلك على العمل للآخرة والاستعداد ليوم المعاد.
وفي الحج يستعيد المسلم ذكريات أسلافه من الأنبياء والعلماء والعباد والصالحين، الذين أَمُّوا هذا البيت المبارك، ووطئت أقدامهم تلك المواطن العظيمة، فيتذكر نبي الله إبراهيم عليه السلام وهجرته مع زوجه، وما جرى لهم من الابتلاءات والكرامات، ويتذكر قصة الذبيح إسماعيل عليه السلام، ثم بناء البيت وأذانه في الناس بالحج، ويتذكر نبينا عليه الصلاة والسلام الذي نشأ في هذه البقاع ولقي فيها ما لقي من كفار قريش، ويتذكر حجة الوداع التي أكمل الله فيها الدين وأتم النعمة، وغيرها من الذكريات العظيمة التي تربط المسلم بهذا الركب المبارك، وتشعره بأهمية السير على منهجهم وتقفي آثارهم.
إلى غير ذلك من المعاني والمنافع العظيمة، التي تجل عن الحصر والاستقصاء، والتي ورد ذكرها في قوله تعالى: {ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات } (الحج:28)، وورد لفظ (المنافع) في الآية نكرة؛ للدلالة على كثرتها وتنوعها.
*****************************************************************
الصحبة في الحج
قال الله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (الزخرف:67)، وقال: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} (الفرقان:27-29).
من الأمور والآداب المهمة للحاج الاهتمام والاعتناء باختيار الصحبة والرفقة التي سيرافقها أثناء حجه، فيختار أصحابا ورفقاء صالحين، من الأتقياء والعباد والزهاد، وأهل العلم والخير، وأصحاب الفضل والهمة، الذين يذكرونه إذا نسي، ويعلمونه إذا جهل، وينشطونه إذا كسل، فيكتسب منهم أخلاقا وآدابا صالحة، وهمة عالية، وذلك لأن المرء على دين خليله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المرءُ على دِين خليله، فلينظرْ أحدُكُم مَن يُخَالِلْ) رواه أبو داود، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تصاحبْ إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامَك إلا تقيٌّ) رواه الترمذي.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
لا تَصْحَبْ أَخَا الْجَهْلِ وإياك وإياه فكمْ مِنْ جاهلٍ أَرْدَى حلِيمًا حين آخَاهُ
يُقاسُ الْمَرْءُ بِالمرء إذا ما المرء مَاشَاهُ وَلِلشَّيْء من الشيء مَقَايِيسٌ وَأَشْبَاهُ
فالرفقة الصالحة مِن أعظم الأسباب المعينة على الهدى والخير ومحاسن الأخلاق؛ وذلك لأن الطبع لص، يسرق مَن الطبع الخير والشر، فمن كان جليسه وصاحبه صالحاً استفاد منه صلاحاً وهدى، ومن كان صاحبه من أهل الكبر والفسوق والمعاصي، فلن تزيده إلا شراً وبعداً عن الله، فاحذر من مصاحبة الفاسقين، الذين لا يراعون حرمات الله، ولا يعظمون شعائر الله، ولا يحرصون على تأدية حجهم على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيضيعون عليك أشرف الأوقات فيما لا ينفع ولا يفيد، وكما قيل: "الصاحب ساحب".
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
وإذا كان الأمر كذلك فحري بالمسلم ـ عامة والحاج خاصةـ أن يحذر صحبة الفاسد والفاسق؛ لأنه يجر صاحبه إلى طريق الشر والفساد، ويمنعه من مواصلة السير إلى الله، ويصده عن سواء السبيل، ويحول بينه وبين الحج المبرور، إنه جليس السوء الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك -يعطيك دون بيع- وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة. ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحاً خبيثة) رواه البخاري.
وقال ابن الجوزي: "ما رأيت أكثر أذى للمؤمن مِن مخالطة مَن لا يصلح، فإن الطبع يسرق، فإن لم يتشبه بهم، ولم يسرق منه، فتر عن عمله".
فاحرص -أيها الحاج- أن تكون صحبتك ـ في سفرك عامة وفي الحج خاصةـ من أهل الدين والعلم والخير، فقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بصحبة الأخيار في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} (الكهف:28)، ولذلك كان السلف رحمهم الله يختارون لسفر الحج ونحوه الصحبة الصالحة، من أهل العلم والصدق، وأصحاب الديانة والهمة العالية.
***************************************************************
لبيك لا شريك لك
توحيد الله وإفراده بالعبادة دون ما سواه هو أساس الدين، وقطب رحاه الذي تدور عليه جميع العبادات والأعمال.
فمن أجل التوحيد خلق الله الخلق{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } (الذاريات:56)، قال ابن عباس : أي "ليوحدون"، ومن أجله بعث الله الرسل وأنزل الكتب قال سبحانه: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } (النحل:36)، ومن أجله جردت سيوف الجهاد، وقام سوق الجنة والنار، وانقسم الناس إلى شقي وسعيد، وبر وفاجر، ولذا جاءت نصوص الشرع بتعظيم أمر التوحيد، والتحذير من أي شائبة تشوبه أو تخدش جنابه.
ومن أهم القضايا التي جاء الحج ليرسخها في القلوب، ويغرسها في النفوس قضية توحيد الله عز وجل، بل ما شُرع الحج، وما أمر الله ببناء البيت إلا من أجله، قال سبحانه: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود } (الحج:26)، وحذر سبحانه في ثنايا آيات الحج من الشرك ورجسه، فقال سبحانه: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور * حنفاء لله غير مشركين به } (الحج:30-31).
ولو تأملنا أعمال الحج لوجدنا العناية بالتوحيد ظاهرة جلية، فالتلبية -التي هي شعار الحج- تضمنت إعلان التوحيد، وإفراد الله وحده بالعبادة والتوجه والقصد، على خلاف ما كان يفعله أهل الجاهلية، حين كانوا يعلنون الشرك، ويجاهرون به في تلبيتهم، فيقولون: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك"، يقول جابر رضي الله عنه، وهو يصف حجته صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم -: ( فأهلَّ بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ).
وفي ركعتي الطواف يقرأ الحاج والمعتمر سورتي الكافرون والإخلاص؛ اقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم؛ ولأن فيهما إعلاناً للتوحيد وبراءة من الشرك وأهله، قال جابر رضي الله عنه: فقرأ فيهما بالتوحيد و{قل يا أيها الكافرون } رواه أبو داود ، وفي رواية: قرأ في ركعتي الطواف بسورتي الإخلاص: { قل يا أيها الكافرون } و{قل هو الله أحد }.
وفي المواطن التي كان أهل الجاهلية يتخذونها محلاً للشرك وعبادة غير الله، حرص عليه الصلاة والسلام على إعلان التوحيد فيها، فدعا على الصفا والمروة بالتوحيد، يقول جابر رضي الله عنه: ( فبدأ بالصفا، فرقى عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبره، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، قال مثل هذا ثلاث مرات، حتى أتى المروة ففعل كما فعل على الصفا ) رواه مسلم .
وفي يوم عرفة كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، بيده الخير وهو على كل شيء قدير ) رواه أحمد .
وحرص صلى الله عليه وسلم في حجته على مخالفة المشركين في كثير من شعائر الحج وأحكامه، فوقف مع الناس بعرفة، مخالفاً بذلك كفار قريش، الذين كانوا يقفون في المزدلفة، ويقولون: "لا نفيض إلا من الحرم". وأفاض من عرفة بعد غروب الشمس مخالفاً للمشركين، الذين كانوا يفيضون قبل غروبها، وكان أهل الجاهلية يدفعون من المشعر الحرام (المزدلفة) بعد طلوع الشمس، وكانوا يقولون: "أشرق ثبير كيما نغير"، فخالفهم عليه الصلاة والسلام، ودفع قبل أن تطلع الشمس، وفي خطبته في حجة الوداع أبطل صلى الله عليه وسلم أعمال الجاهلية ورسومها، فقال: ( ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع )رواه مسلم .
فهذا كله يؤكد ارتباط هذه الشعيرة العظيمة بقضية التوحيد، فهل حقق معنى الحج من توجه إلى الموتى وأصحاب القبور بالدعاء والمسألة والذبح وغيرها من أنواع البدع، أو اعتقد أن أحداً يملك الضر والنفع مع الله عز وجل؟! وهو القائل سبحانه: {ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير * إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير } (فاطر:13-14) ، هل فَقِه معنى الحج من تعلق بالسحرة والمشعوذين والدجالين ظناً منه أنهم يعلمون شيئاً من أمور الغيب؟! هل فَقِه معنى الحج من تحاكم إلى غير شرع الله، أو اعتقد أن أحداً غير الله يملك التشريع والتحليل والتحريم للناس؟! والله جل وعلا يقول: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } (الشورى:21) ويقول: {ألا له الخلق والأمر } (الأعراف:54)، هل فَقِه معنى الحج من والى أعداء الله، أو تشبه بهم في خصائصهم وأخلاقهم وسلوكياتهم؟!
إن ذلك كله مما ينافي حقيقة هذه الشعيرة العظيمة، بل هو تناقض وازدواجية يجب على الحاج أن يتنزه عنها، فاجعل -أخي الحاج- قضية التوحيد نُصب عينيك وأنت تؤدي المناسك، حتى يكون حجك مبروراً وعملك صالحاً مقبولاً.
****************************************************************
كيف يكون حجك مبروراً؟
ورد في الحج الكثير من الأحاديث الدالة على عظيم فضله، وجزيل أجره وثوابه عند الله عز وجل، وجاء في بعض الأحاديث وصف الحج التام بالحج المبرور، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري: (والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة).
ومن أجل ذلك فإنك بحاجة -أخي الحاج- إلى أن تتعرف على علامات الحج المبرور، وما هي الأمور التي يتحقق بها بر الحج حتى تقوم بها؟ وما هي الأمور التي تنافي ذلك حتى تجتنبها؟ فالناس يتفاوتون في حجهم تفاوتاً عظيماً على حسب قربهم وبعدهم من هذه الصفات والعلامات.
وقد ذكر أهل العلم أقوالاً في معنى الحج المبرور، كلها متقاربة المعنى، ترجع إلى معنى واحد وهو: "أنه الحج الذي وفيت أحكامه، ووقع موقعاً لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل".
وأول الأمور التي يكون بها الحج مبروراً، ميزان الأعمال وأساس قبولها عند الله وهو إخلاص العمل لله والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً، وابتُغِيَ به وجْهُه، فعليك -أخي الحاج- أن تفتش في نفسك، وأن تتفقد نيتك، ولتحذر كل الحذر من أي نية فاسدة تضاد الإخلاص، وتحبط العمل، وتذهب الأجر والثواب، كالرياء والسمعة وحب المدح والثناء والمكانة عند الخلق، فقد حج نبينا عليه الصلاة والسلام على رحل رث وقطيفة تساوي أربعة دراهم ثم قال : (اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة) كما عند ابن ماجه.
ثم احرص على أن تكون أعمال حجك موافقة لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، ولن يتحقق لك ذلك إلا بأن تتعلم مناسك الحج وواجباته وسننه، وصفة حجه عليه الصلاة والسلام، فهو القائل كما في حديث جابر رضي الله عنه: (لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري، لعلي لا أحج بعد حجتي هذه) رواه مسلم.
ومن الأمور التي تعين العبد على أن يكون حجه مبروراً الإعداد وتهيئة النفس قبل الحج، وذلك بالتوبة النصوح، واختيار النفقة الحلال والرفقة الصالحة، وأن يتحلل من حقوق العباد، إلى غير ذلك مما هو مذكور في آداب الحج.
ومن علامات الحج المبرور طيب المعشر، وحسن الخلق، وبذل المعروف، والإحسان إلى الناس بشتى وجوه الإحسان، من كلمة طيبة، أو إنفاق للمال، أو تعليم لجاهل، أو إرشاد لضال، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: "إن البر شيء هين، وجه طليق وكلام لين".
ومن أجمع خصال البر التي يحتاج إليها الحاج -كما يقول ابن رجب- ما وصَّى به النبي صلى الله عليه وسلم أبا جُرَيٍّ الهجيمي حين قال له: (لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تعطي صلة الحبل، ولو أن تعطي شسع النعل، ولو أن تنزع من دلوك في إناء المستسقي ، ولو أن تنحي الشيء من طريق الناس يؤذيهم، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منطلق، ولو أن تلقى أخاك فتسلم عليه، ولو أن تؤنس الوحشان في الأرض) رواه أحمد.
واعلم أن مما يتحقق به بر الحج الاستكثار من أنواع الطاعات، والبعد عن المعاصي والمخالفات، فقد حث الله عباده على التزود من الصالحات وقت أداء النسك، فقال سبحانه في آيات الحج: {وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} (البقرة:197)، ونهاهم عن الرفث والفسوق والجدال في الحج فقال عز وجل: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} (البقرة:197)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) متفق عليه، و(الرفث) هو الجماع وما دونه من فاحش القول وبذيئه، وأما الفسوق فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما وغير واحد من السلف أنه المعاصي بجميع أنواعها، والجدال هو المِراء بغير حق ، فينبغي عليك -أخي الحاج- إذا أردت أن يكون حجك مبروراً أن تلزم طاعة ربك، وذلك بالمحافظة على الفرائض، وشغل الوقت بكل ما يقربك من الله جل وعلا من ذكر ودعاء وقراءة قرآن وغير ذلك من أبواب الخير، وأن تحفظ حدود الله ومحارمه، فتصون سمعك وبصرك ولسانك عما لا يحل لك.
ومن الأمور التي تعين العبد على أن يكون حجه مبروراً، أن يستشعر حِكم الحج وأسراره، وفرقٌ كبير بين من يحج وهو يستحضر أنه يؤدي شعيرة من شعائر الله، وأن هذه المواقف قد وقفها قبله الأنبياء والعلماء والصالحون، فيذكر بحجه يوم يجتمع العباد للعرض على الله، وبين من يحج على سبيل العادة، أو للسياحة والنزهة، أو لمجرد أن يسقط الفرض عنه، أو ليقال: "الحاج فلان".
وأخيراً، فإن من علامات الحج المبرور أن يستقيم المسلم بعد حجه فيلزم طاعة ربه، ويكون بعد الحج أحسن حالاً منه قبله، فإن ذلك من علامات قبول الطاعة، قال بعض السلف: "علامة بر الحج أن يزداد بعده خيراً، ولا يعاود المعاصي بعد رجوعه"، وقال الحسن البصري رحمه الله: "الحج المبرور أن يرجع زاهداً في الدنيا، راغباً في الآخرة".
أخي الحاج! هذه هي أهم صفات الحج المبرور وعلاماته، فاجتهد في طلبها وتحصيلها، عسى أن تفوز بثواب الله ورضوانه، أسأل الله أن يجعل حجك مبروراً، وذنبك مغفوراً، وسعيك مشكوراً.
****************************************************************
الاعتبار بأعمال الحج
الحج ليس مجرد سفر وسياحة في الأرض، وليس مجرد عمل يقوم به الحاج وكفى، بل هو قبل ذلك وبعده تذكر واعتبار، وتدبر وافتكار. وقد كتب حجة الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله كلاماً نفيساً جعله تحت عنوان "الأعمال الباطنة...وطريق الاعتبار بالمشاهد الشريفة وكيفية الافتكار فيها والتذكر لأسرارها ومعانيها". وذكَّر قاصد البيت أن لا يغفل عن تذكر أمور الآخرة في شيء مما يراه؛ إذ إن كل أعمال الحج دليل على أحوال الآخرة.
وقد ذكر الغزالي أعمال الحج الرئيسة، فقال: أول الحج: الفهم -أي فهم موقع الحج في الدين- ثم الشوق إليه، ثم العزم عليه، ثم قطع العلائق المانعة منه، ثم الإحرام، ثم الزاد، ثم الراحلة، ثم الخروج، ثم المسير، ثم الإحرام من الميقات، ثم دخول مكة، ثم استتمام الأفعال. وذكر أن في كل واحد من هذه الأعمال تذكرة للمتذكر، وعبرة للمعتبر، وتنبيه للقاصد، وإشارة للفطن. وهاك تلخيصاً مكثفاً لما ذكره مفصلاً لهذه الأعمال، قال:
أما الفهم: فاعلم أنه لا وصول إلى الله سبحانه وتعالى إلا بالتنزه عن الشهوات، والكف عن الملذات، والاقتصار على الضرورات فيها، والتجرد لله سبحانه في جميع الحركات والسكنات؛ ولأجل هذا المعنى انفرد الرهبانيون في الملل السالفة عن الخلق؛ لطلب الأنس بالله عز وجل، فتركوا لله عز وجل اللذات الحاضرة، وألزموا أنفسهم بالمجاهدات الشاقة؛ طمعاً بما هو خير وأبقى. وقد أثنى الله تعالى عليهم، فقال: {ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون} (المائدة:82). فلما اندرس ذلك، وأقبل الخلق على اتباع الشهوات، وهجروا التجرد لعبادة الله سبحانه، وفتروا عنه بعث الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم لإحياء طريق الآخرة، وتجديد سنة المرسلين في سلوكها.
فسأله أهل الملل عن الرهبانية والسياحة في دينه، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أبدلنا بالرهبانية الحنفية السمحة، والتكبير على كل شرف)، رواه البيهقي. وسئل صلى الله عليه وسلم عن (السائحين) فقال: (هم الصائمون)، رواه الحاكم. فأنعم الله عز وجل على هذه الأمة بأن جعل الحج رهبانية لهم. يقصده الزوار من كل فج عميق، شعثاً غبراً متواضعين لرب البيت، ومستكينين له خضوعاً لجلاله واستكانة لعزته.
وقد كلف سبحانه في الحج أعمالاً لا تأنس بها النفوس، ولا تهتدي إلى معانيها العقول، كرمي الجمار، والتردد بين الصفا والمروة. وبمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرق والعبودية. فإن الزكاة إرفاق، ووجهه مفهوم، وللعقل إليه ميل. والصوم كسر للشهوة التي هي آلة عدو الله، وتفرغ للعبادة بالكف عن الشواغل. والركوع والسجود في الصلاة تواضع لله سبحانه بأفعال هي هيئة التواضع، وللنفوس أنس بتعظيم الله تعالى. أما السعي ورمي الجمار وأمثال هذه الأعمال، فلا حظ للنفوس ولا أنس فيها، ولا اهتداء للعقل إلى معانيها، فلا يكون في الإقدام عليها باعث إلا الأمر المجرد، وقصد الامتثال للأمر من حيث إنه أمر واجب الاتباع فقط؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحج على الخصوص: (لبيك بحجة حقاً تعبداً ورقاً) رواه البزار، ولم يقل ذلك في صلاة ولا غيرها.
وإذا اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى ربط نجاة الخلق بأن تكون أعمالهم على خلاف هوى طباعهم، وأن يكون زمامها بيد الشرع، فيترددون في أعمالهم على سنن الانقياد وعلى مقتضى الاستعباد. كان ما لا يهتدي إلى معانيه أبلغ أنواع التعبدات في تزكية النفوس وصرفها عن مقتضى الطباع والأخلاق. وإذا تفطن المرء لهذا، فهم أن تعجب النفوس من هذه الأفعال العجيبة مصدره الذهول عن أسرار التعبدات.
وأما الشوق: فإنما ينبعث بعد الفهم، والتحقق بأن البيت بيت الله عز وجل، وأنه وُضِع على مثال حضرة الملوك، فقاصده قاصد إلى الله عز وجل، وزائر له، وأن من قصد البيت في الدنيا جدير بأن لا يضيع زيارته، فيرزق مقصود الزيارة؛ وذلك أن قصد البيت، والنظر إليه، تستحق لقاء رب البيت بحكم الوعد الكريم.
وأما العزم: فليعلم أنه بعزمه قاصد إلى مفارقة الأهل والوطن، ومهاجرة الشهوات واللذات، متوجهٌ إلى زيارة بيت الله تعالى. وليعظم في نفسه قدر البيت، وقدر رب البيت، وليعلم أنه عزم على أمر رفيع شأنه، خطير أمره، وأن من طلب عظيماً خاطر بعظيم. وليجعل عزمه خالصاً لوجه الله سبحانه بعيداً عن شوائب الرياء والسمعة، وليتحقق أنه لا يقبل من قصده وعمله إلا ما كان خالصاً لله تعالى. وإن من أفحش الفواحش أن يقصد العبد بيت الله وحرمه والمقصود غيره. فليصحح مع نفسه العزم، وتصحيحه بإخلاصه، وإخلاصه باجتناب كل ما فيه رياء وسمعة، فليحذر أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
وأما قطع العلائق: فمعناه رد المظالم، والتوبة الخالصة لله تعالى عن جملة المعاصي. فإن كنت راغباً في قبول زيارتك، فنفذ أوامره، ورد المظالم، وتب إليه أولاً من جميع المعاصي، واقطع علاقة قلبك عن الالتفات إلى ما وراءك؛ لتكون متوجهاً إليه بقلبك، كما أنك متوجه إلى بيته بظاهرك. فإن لم تفعل ذلك، لم يكن لك من سفرك أولاً إلا النصب والشقاء، وآخراً إلا الطرد والرد.
وليقطع العلائق عن وطنه انقطاع من قُطع عنه، وقُدِّر له أن لا يعود إليه. وليكتب وصيته لأولاده وأهله، فإن المسافر وماله لعلى خطر إلا من وقى الله سبحانه. وليتذكر عند قطعه العلائق لسفر الحج قطع العلائق لسفر الآخرة، فإن ذلك بين يديه على القرب، وما يقدمه من هذا السفر طمع في تيسير ذلك السفر، فهو المستَقَر وإليه المصير. فلا ينبغي أن يغفل عن ذاك السفر، عند الاستعداد لهذا السفر.
وأما الزاد: فليطلبه من موضع حلال، وإذا أحس من نفسه الحرص على استكثاره، وطَلَبِ ما يبقى منه على طول السفر، فليتذكر أن سفر الآخرة أطول من هذا السفر، وأن زاده التقوى، وأن ما عداه مما يظن أنه زاده، يتخلف عنه عند الموت، ويخونه فلا يبقى معه، كالطعام الرطب الذي يفسد في أول منازل السفر، فيبقى وقت الحاجة متحيراً محتاجاً لا حيلة له. فليحذر أن تكون أعماله التي هي زاده إلى الآخرة لا تصحبه بعد الموت، بل يفسدها شوائب الرياء ومظاهر التقصير.
وأما الراحلة: فليشكر الله بقلبه على تسخير الله عز وجل له وسائل النقل؛ لتحمل عنه الأذى؛ وتخفف عنه المشقة. وليتذكر عند ركوبها المركب الذي يركبه إلى دار الآخرة، وهي الجنازة التي يُحمل عليها. فإن أمر الحج من وجه يوازي أمر السفر إلى الآخرة، ولينظر أيصلح سفره على هذا المركب؛ لأن يكون زاداً له لذلك السفر على ذلك المركب؟ فما أقرب ذلك منه. وما يدريه لعل الموت قريب، ويكون ركوبه للجنازة قبل ركوبه لوسيلة النقل. وركوب الجنازة أمر مقطوع به لا شك في ركوبها، وتيسر أسباب السفر مشكوك فيه، فكيف يحتاط في أسباب السفر المشكوك فيه، فيستعد في زاده وراحلته، ويهمل أمر السفر المستيقن؟
وأما الخروج من بلده: فليعلم عنده أنه مفارق الأهل والوطن، متوجه إلى الله عز وجل في سفر لا يضاهي أسفار الدنيا. فليحضر في قلبه ماذا يريد، وأين يتوجه، وزيارة من يقصد؟ وليعلم أنه متوجه إلى ملك الملوك في زمرة الزائرين له، الذين نودوا فأجابوا، واستُنهضوا فنهضوا، وقطعوا العلائق، وفارقوا الخلائق، واقبلوا على الله، سائلين إياه أن يرزقوا منتهى مناهم، ويسعدوا بالنظر إلى وجهه الكريم. وليستحضر في قلبه رجاء الوصول والقبول لا اتكالاً على أعماله في الارتحال ومفارقة الأهل والمال، ولكن ثقة بفضل الله عز وجل، وافداً إليه؛ إذ قال جل جلاله: {ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله} (النساء:100).
وأما الدخول إلى الميقات: فليتذكر فيها ما بين الخروج من الدنيا بالموت إلى ميقات يوم القيامة وما بينهما من الأهوال والمطالبات.
أما الإحرام والتلبية من الميقات: فليعلم أن معناه إجابة نداء الله عز وجل، فارجُ أن تكون مقبولاً، واخشَ أن يقال لك: لا لبيك ولا سعديك، فكن بين الرجاء والخوف متردداً، وعن حولك وقوتك متبرئاً، وعلى فضل الله عز وجل وكرمه متكلاً...وليتذكر الملبي عند رفع الصوت بالتلبية في الميقات إجابته لنداء الله عز وجل، إذ قال: {وأذن في الناس بالحج} (الحج:27)، ونداء الخلق بنفخ الصور وحشرهم من القبور وازدحامهم في ساحات القيامة، مجيبين لنداء الله سبحانه؛ ومنقسمين إلى مقربين وممقوتين. ومقبولين ومردودين.
وأما دخول مكة: فليتذكر عندها أنه قد انتهى إلى حرم الله تعالى آمناً، وليرجُ عنده أن يأمن بدخوله من عقاب الله عز وجل، وليخشَ أن لا يكون أهلاً للقرب، فيكون بدخوله الحرم خائباً، ومستحقاً للمقت. وليكن رجاؤه في جميع الأوقات غالباً، فالكرم عميم، والرب رحيم، وشرف البيت عظيم، وحق الزائر مرعي، وذمام المستجير اللائذ غير مضيع.
وأما وقوع البصر على البيت: فينبغي أن يحضر عنده عظمة البيت في القلب، ويقدر كأنه مشاهد لرب البيت؛ لشدة تعظيمه إياه. وارجُ أن يرزقك الله تعالى النظر إلى وجهه الكريم، كما رزقك الله النظر إلى بيته العظيم. واشكر الله تعالى على تبليغه إياك هذه الرتبة، وإلحاقه إياك بزمرة الوافدين عليه. واذكر عند ذلك انصباب الناس في القيامة إلى جهة الجنة، آملين لدخولها كافة، ثم انقسامهم إلى مأذونين في الدخول ومصروفين، انقسام الحاج إلى مقبولين ومردودين.
وأما الطواف بالبيت: فاعلم أنه صلاة، فأحضر في قلبك فيه من التعظيم والخوف والرجاء والمحبة ما استطعت. واعلم أنك بالطواف متشبه بالملائكة المقربين الحافين حول العرش الطائفين حوله. ولا تظنن أن المقصود طواف جسمك بالبيت، بل المقصود طواف قلبك، بذكر رب البيت حتى لا تبتدىء الذكر إلا منه، ولا تختم إلا به، كما تبتدىء الطواف من البيت وتختم بالبيت.
أما الاستلام: فاعتقد عنده أنك مبايع لله عز وجل على طاعته، فصمم عزيمتك على الوفاء ببيعتك، فمن نكث في المبايعة استحق المقت. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الحجر الأسود يمين الله عز وجل في الأرض يصافح بها خلقه كما يصافح الرجل أخاه) رواه الشهاب في "مسنده".
أما السعي بين الصفا والمروة: فإنه يضاهي تردد العبد بفناء دار المَلك ذهاباً وإياباً مرة بعد أخرى؛ إظهاراً للخلوص في الخدمة، ورجاء للملاحظة بعين الرحمة، فهو لا يدري ما الذي يقضي به الملك في حقه من قبول أو رد؟ فلا يزال يتردد على فناء الدار مرة بعد أخرى، يرجو أن يُرحم في الثانية، إن لم يُرحم في الأولى.
وأما الوقوف بعرفة: فاذكر -بما ترى من ازدحام الخلق وارتفاع الأصوات واختلاف اللغات- ساحات القيامة، واجتماع الأمم مع الأنبياء والأئمة، واقتفاء كل أمة نبيها، وطمعهم في شفاعتهم، وتحيرهم في ذلك الصعيد الواحد بين الرد والقبول؛ ولذلك قيل: إن من أعظم الذنوب أن يحضر عرفات، ويظن أن الله تعالى لم يغفر له. واعلم أن اجتماع الهمم، والاستظهار بمجاورة الخلق المجتمعين من أقطار البلاد هو سر الحج وغاية مقصوده، فلا طريق إلى استدرار رحمة الله سبحانه مثل اجتماع الهمم وتعاون القلوب في وقت واحد.
وأما رمي الجمار: فاقصد به الانقياد للأمر؛ إظهاراً للرق والعبودية؛ وانتهاضاً لمجرد الامتثال من غير حظ للعقل والنفس فيه. ثم اقصد به التشبه بـإبراهيم عليه السلام حيث عرض له إبليس لعنه الله تعالى في ذلك الموضع لِيُدْخِلَ على حجه شبهة أو يفتنه بمعصية فأمره الله عز وجل أن يرميه بالحجارة طرداً له وقطعاً لأمله. فإن خطر في نفسك: أن الشيطان عرض له وشاهده، فلذلك رماه، وأما أنت فليس يعرض لك الشيطان؟ فاعلم أن هذا الخاطر من الشيطان، وأنه الذي ألقاه في قلبك؛ ليفتر عزمك في الرمي، ويخيل إليك أنه فعل لا فائدة فيه، وأنه يضاهي اللعب، فلِمَ تشغل به؟ فاطرده عن نفسك بالجد والتشمير في الرمي فيه برغم أنف الشيطان.
وأما ذبح الهدي: فاعلم أنه تقرب إلى الله تعالى بحكم الامتثال، فأكمل الهدي وارج أن يعتق الله بكل جزء منه جزءاً منك من النار، فهكذا ورد الوعد. فكلما كان الهدي أكبر وأجزاؤه أوفر كان جزاؤك أعظم، وفداؤك من النار أعم.
وأما زيارة المدينة: فتذكر أنها البلدة التي اختارها الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم، وجعل إليها هجرته، وأنها داره التي شرع فيها فرائض ربه عز وجل وسنته، وجاهد عدوه وأظهر بها دينه إلى أن توفاه الله عز وجل. ثم جعل تربته فيها وتربة وزيريه القائمين بالحق بعده رضي الله عنهما...ثم تذكر ما منَّ الله تعالى به على الذين أدركوا صحبته، وسعدوا بمشاهدته واستماع كلامه، وأعظم تأسفك على ما فاتك من صحبته وصحبة أصحابه رضي الله عنهم. ثم اذكر أنك قد فاتتك رؤيته في الدنيا، وأنك من رؤيته في الآخرة على خطر. وأنك ربما لا تراه إلا بحسرة وقد حيل بينك وبين قبوله إياك بسوء عملك. وليعظم مع ذلك رجاؤك أن لا يحول الله تعالى بينك وبينه بعد أن رزقك الإيمان، وحملك من وطنك لأجل زيارته من غير تجارة، ولا حظ في دنيا، بل لمحض حبك له وشوقك إلى أن تنظر إلى آثاره.
وأما زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم: فينبغي أن تزوره ميتاً كما تزوره حياً، ولا تقرب من قبره إلا كما كنت تقرب من شخصه الكريم لو كان حياً. وكما كنت ترى الحرمة في أن لا تمس شخصه ولا تقبله، بل تقف من بعد ماثلاً بين يديه، فكذلك فافعل، فإن المس والتقبيل للمشاهد عادة النصارى واليهود. واعلم أنه عالم بحضورك وقيامك وزيارتك، وأنه يبلغه سلامك وصلاتك، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (إن لله ملائكة سياحين في الأرض، يبلغوني عن أمتي السلام) رواه النسائي، هذا في حق من لم يحضر قبره، فكيف بمن فارق الوطن، وقطع البوادي شوقاً إلى لقائه، واكتفى بمشاهدة مشهده الكريم، إذ فاته مشاهدة غرته الكريمة؟
فهذه وظيفة القلب في أعمال الحج. فإذا فرغ منها كلها، فينبغي أن يلزم قلبه الحزن والهم والخوف، وأنه ليس يدري أقبل منه حجه، وأُثبت في زمرة المحبوبين، أم رد حجه، وأُلحق بزمرة المطرودين؟
وليتعرف ذلك من قلبه وأعماله، فإن وجد قلبه قد ازداد تجافياً عن دار الغرور، وانصرافاً إلى دار الخلود، ووجد أعماله قد اتزنت بميزان الشرع، فليثق بالقبول، فإن الله تعالى لا يقبل إلا من أحبه؛ ومن أحبه تولاه، وأظهر عليه آثار محبته، وكف عنه سطوة عدوه إبليس لعنه الله. فإذا ظهر ذلك عليه دل على القبول، وإن كان الأمر بخلافه، فليوشك أن يكون حظه من سفره: العناء والتعب نعوذ بالله سبحانه وتعالى من ذلك.
******************************************************************
لا تنسوني من صالح دعائكم
أمس في 9:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» وجوب التوكل على الله وخده لا شريك له
أمس في 3:26 pm من طرف عبدالله الآحد
» أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 5:24 pm من طرف عبدالله الآحد
» العبادة وأركانها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 2:55 pm من طرف عبدالله الآحد
» الراجح من أقوال العلماء أن جلسة الاستراحة سنة في الصلاة
الإثنين نوفمبر 18, 2024 2:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» -(( 3 -))- خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
الأحد نوفمبر 17, 2024 10:15 pm من طرف صادق النور
» لا يعلم الغيب إلا الله وحده لا شريك له
الأحد نوفمبر 17, 2024 3:12 pm من طرف عبدالله الآحد
» تابع زبدة التوحيد لنعمان بن عبد الكريم الوتر
السبت نوفمبر 16, 2024 2:15 pm من طرف عبدالله الآحد
» هيئات السجود المسنونة
الخميس نوفمبر 14, 2024 3:24 pm من طرف عبدالله الآحد
» (( - 2 -)) خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
الأربعاء نوفمبر 13, 2024 11:28 pm من طرف صادق النور