المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،
وأشهد إلا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة ..
حديثنا في هذه المجالس عن بعضِ النوازل في الحج، وقبل أن نبدأ الحديث في النازلة الأولى من النوازل، أُحبُّ أن أنبِّه على أمرين
الأمر الأول
هو أن النازلة في اصطلاح أهل العلم، هي القضية الفقهية الحادثة ( المعاصرة التي لم تكن فيما سبق، بحيث إنها تحتاج إلى اجتهاد جديد، ونظر جديد، وإعمال ذهن، وتبيين لحُكْم الله – سبحانه وتعالى – فيها، وبموجب هذا التعريف للنازلة،
فإن ما سأطرحه في المجالس ليس بالضرورة مما ينطبق علية هذا التعريف، فإن ثمة مسائل ليست من النوازل؛ ولكنها تحتاج إلى إعادة نظر، وتحتاج إلى إعادة بحث،
وتحتاج إلى اجتهاد وَفْقَ ما استجد في هذه الأزمنة، فأنتم تعرفون أحوال الناس في الحج والمناسك والمشاعر قبل مائة سنة ومائتي سنة، وأحوال الناس في الحج في هذه الأيام، فما حصل من أحوال وظروف ومتغيرات، وسهولة في وسائل الاتصال ووسائل النقل، وما وسَّع الله – سبحانه وتعالى – به من الخيرات، جعل الأعداد التي تتدفق لهذا البيت الحرام أعدادًا يَضِيق عن استيعابها المسجدُ الحرام، والحَرَمُ، والمشاعر المقدسة، والمناسك؛ ولهذا كان لزامًا أن يُعاد بحث هذه المسائل وَفْق هذه الظروف الجديدة، ولهذا قد يقول قائل: هذه ليست بنازلة؛ هذه موجودة في كتب الفقه قبل ألف سنة!
أقول .. نعم؛ لكنها بحثت في زمن، ونحن الآن في زمن آخر، وظروف أخرى، وأحوال مستجدة؛ فتحتاج إلى إعادة نظر، وإلى تمعُّن، وأنتم تعرفون على مدى ثلاثين أو أربعين سنة أن أهل العلم تغيَّرت اجتهاداتُهم في مسائل فقهية، عما كانوا قبل مائة سنة أو ستين أو سبعين سنة، فهذا التغير هو بسبب هذه الظروف، وما سنبحثه من المسائل ربما يكون مثل هذه المسائل، تحتاج إلى نظر جديد وَفْق الظروف الجديدة.
أما الأمر الثاني –
أيها الأخوة – فهو أن المسائل التي تُعَدُّ من النوازل والوقائع الجديدة ليست من السهولة بمكان، بحيث أن أحد طلاب العلم يجلس فيها وينبري للإفتاء فيها والقطع، وبيان حُكْم الله – سبحانه وتعالى – والتوقيع عنه بمفرده!
لا.. المسائل الجديدة تحتاج إلى إعمال نظر، وإلى جهد من عدد كبير من طلاب العلم، ومن العلماء ومن الفقهاء للنظر فيها، والإنسان لا شك قليل بنفسه، كثير بإخوانه وبأهل العلم، وربما يخفى على العالم الكبير شيء، يورده عليه أحد طلابه، وهذا معروف. ولهذا فإني أقول إن ما سنبحثه – إن شاء الله تعالى – في هذه المجالس إنما هو من المباحثات، ومِن طرح المسائل العلمية بين طلاب العلم وأهل العلم، وتداول النظر فيها والاجتهاد، ولا نزعم أن هذا إفتاء وقطعُ رأيٍ فيها؛ ولكننا ندلي فيها بدلونا، وأهل العلم في كل مكان يبحثونها، والمجامع الفقهية تبحث، وهيئة كبار العلماء تبحث، وطلبة العلم والأساتذة في الجامعات كلهم يشتغلون ويبحثون، وفي النهاية تتبين هذه النازلة، ويظهر فيها حُكْم الله – سبحانه وتعالى – الذي يوقع عنه، عز وجل.
بعد هذه المقدمة نبدأ بالنازلة الأولى من هذه النوازل، وهي
النازلة الأولى
العجز عن الحصول على تصريح الحج
أنتم تعرفون – أيها الإخوة – أن المشاعر المقدسة لها طاقة استيعابية محدودة، وأنتم تشاهدون الآن مِنًى قد استغلت بالكامل، ومزدلفة في ليلة جَمْعٍ تمتلئ بالكامل، وعرفات ليست منها ببعيد، والمسجد الحرام في يوم الثاني عشر والثالث عشر لا يحتمل المزيد، ومن أجل ذلك نظر الفقهاء والعلماء وولاة الأمر في تحديد نسب الحجيج في كل بلد إسلامي، وإلا فإن الذين يرغبون في تأدية الحج أضعافُ هذه الأعداد عشرات المرات، وكل الناس تهفو نفسه للوصول إلى بيت الله الحرام، والوفود على الله عز وجل، والطواف في بيته؛ ولكن هذه هي طاقة هذه المشاعر وتلك الأماكن، ومن رحمة الله – سبحانه وتعالى – أن هذا النسك، وهذه الشعيرة، وهذه الفريضة،
أن الله – سبحانه وتعالى – ربطها بالاستطاعة فقال – عز وجل - {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران 97]، فهذا الركن وهذه الشعيرة إنما هي فيمن يطيق ويستطيع، فأنتم تعرفون في البلاد الإسلامية أنها حددت نسبة، بنظر أهل العلم، وبنظر أهل الحل والعقد والرأي، نسبة معينة من كل بلد إسلامي، فمثلاً إذا قلنا إن النسبة واحد بالمائة، وكنت أنت مثلاً في مصر أو في نيجيريا أو في أندونيسيا أو في الباكستان أو في غيرها، وترغب في الحج، وعندك القدرة المالية والبدنية على حج بيت الله الحرام؛ ولكنك حينما تقدمت لطلب الحج فوجئت بأن التصريح لا يمكن أن يصل إليك؛ إلا بعد عشر سنوات أو عشرين سنة! فحينئذ ماذا نقول بالنسبة لك: هل أنت معذور أمام الله – عز وجل – بحيث أن الإنسان لو مات، ولم يحج بسبب عدم حصوله على التصريح، أنه لا يسأل أمام الله – عز وجل – ولا يجب أن يُحجَّ عنه مِن تَرِكَتِه وماله؟ أم أنه مؤاخذ ويجب أن يُحجَّ عنه من ماله وتركته؟ هذه هي المسائلة التي بين أيدينا، هذه المسألة والتصريح كما تعرفون أنها حادثة، وليست قديمة. لكن أهل العلم قبل ذلك بحثوا مسألة نظيرة هذه المسألة. النظيرة هي: “تخلية الطريق”، فقد بحث أهل العلم في شروط وجوب الحج مسألةَ تخلية الطريق؛ هل هي شرط في وجوب الحج أم شرط للزوم أداء الحج؟
ومعنى تخلية الطريق، يعني أن الطريق إلى بيت الله الحرام يكون متاحًا مفتوحًا سائغًا، ليس هناك عدو يمنع، أو سلطان يحول بين الإنسان وبين بيت الله الحرام، هذا هو المقصود بتخلية الطريق، فعدم الحصول على التصريح لا شك أنه من عدم تخلية الطريق، فالطريق لم تكن خالية لمن لم يكن معه تصريح، فإذا لم يكن معك تصريح لن تستطيع أن تسجل في الحج، ولن تستطيع أن تركب الطائرة، ولن تستطيع أن تدخل إلى المشاعر المقدسة، ولا إلى هذه البلاد، فأهل العلم اختلفوا في مسألة تخلية الطريق على قولين
فمن أهل العلم مَن قال
إن تخلية الطريق شرط لوجوب الحج. فما لم يكن الطريق خاليًا من الموانع والأعداء الذين يمنعون؛ فإن الحج لا يجب على هذا الإنسان، ولو وجد مالاً، ولو كان صحيحًا سليمًا معافًى، فإذا كان الطريق غير مخلى، ولم يحصل الإنسان على تصريح؛ فإنه عاجز عن الحج، ولذلك يقولون إن الحج غير واجب عليه؛ هذا هو القول الأول.
القول الثاني
من أقوال أهل العلم، يقولون: إن تخلية الطريق ليست شرطًا في وجوب الحج؛ لكنها شرط في لزوم الأداء؛ بمعنى أن الإنسان إذا كان قادرًا ماليًّا وبدنيًّا؛ فإن الحج يجب عليه؛ لكن لا يجب عليه الأداء في الحال، حتى يخلى بينه وبين الطريق ويستطيع.
والفرق بين القولين – يا إخوة – هو أن القول الأول، الذي يقول إن تخلية الطريق شرط لوجوب الحج، يقول: إذا مات فإنه لا يُحج عنه من تركَتِه، ولا يسأله اللهُ – سبحانه وتعالى – عن ذلك؛ لأن الله – عز وجل – قال {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران 97]، هذا الذي لم يُخَلَّ بينه وبين الطريق، ومُنع من الإتيان إلى المشاعر المقدسة، وإلى بيت الله الحرام، ولم يستطع الحصول على التصريح. هل استطاع إلى بيت الله الحرام سبيلاً؟ ما استطاع إلى بيت الله الحرام سبيلاً؛ ولهذا لا يجب عليه الحج، وإذا مات على هذه الحال، فإنه لا يُقضى عنه ولا يُحجج عنه مِن تَرِكَتِه.
أما الذين يقولون إنه شرط للأداء،
فإنهم يقولون إنه لا يأثم؛ ولكن الحج يبقى في ذمته، فإذا مات يُخرَج من تركته، ويُدفع لمن يحج عنه. فإذا مات يُحجج عنه مِن تركته؛ لأن الحج وجب عليه؛ لكن سقط عنه الأداء في الحال؛ لعدم القدرة على الوصول إلى بيت الله الحرام.
الذين قالوا إن الحج من شروط وجوبه تخليةُ الطريق،
هؤلاء استدلوا بظاهر قول الله – سبحانه وتعالى - {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران 97]، وقالوا هذا لم يستطع إلى بيت الله الحرام سبيلاً؛ وبالتالي فإنه عاجز، فلا يجب عليه الحج.
والذين قالوا إنه شرط للأداء، وإذا مات على هذه الحال يُحج عنه مِن تركته، استدلوا على ما يقولون بأنه لما نزل قول الله – سبحانه وتعالى -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران 97]،
قال رجل “يا رسول الله ما السبيل؟” – يعني ما السبيل في قول الله – عز وجل - {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} – قال – صلى الله علية وسلم - ((الزاد والراحلة))
. فهؤلاء يقولون شروط الوجوب هي الزاد والراحلة، فإذا وُجدتْ وَجَبَ الحج، وما عدا ذلك فهي شروط أداء، فإذا مات ولم توجد، فإنه يُخرَج عنه مِن تركته. ولكن هذا القول يمكن مناقشة دليله، فإن هذا الحديث رواه الترمذي في جامعه، وابن ماجه، وهو حديث ضعيف عند أكثر أهل العلم بالحديث، هذا الحديث ضعيف، وممن ضعفه الحافظ الزيلعي، وابن حجر، والبيهقي، والألباني – رحمة الله تعالى عليهم جميعًا – بل إن الألباني _ رحمه الله تعالى _ قال: إن هذا الحديث ليس بحسن، ولا ضعيف ضعفًا يَنْجَبِر؛ وإنما هو ضعيف جدًّا. وبالتالي فالاستدلال به لا يستقيم، وإنما هو من الآثار المروية عن بعض التابعين؛ كالحسن وغيره، وإذا كان كذلك فإنه لا حجة فيه، وبناء على هذا فالراجح – إن شاء الله تعالى
– هو القول الأول.. بأن تصريح الحج شرط في وجوب الحج، وبناء على هذا الترجيح، الذي اختاره العلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز – رحمة الله تعالى عليه – والعلامة الشيخ محمد العثيمين – رحمة الله تعالى عليه – بناء على هذا الترجيح فإننا نقول لعموم إخواننا المسلمين، الذين تهفو نفوسهم، وتتعلق أفئدتهم بهذا البيت العتيق، ويجدون الزاد والراحلة؛ ولكنهم لا يستطيعون الحصول على التصريح، نقول لهم: إن الله – سبحانه وتعالى – قد عذركم، ولم يوجب عليكم الحج، فمن حصل على التصريح بعد ذلك؛ وجب عليه الحج، ومن مات قبل أن يحصل على التصريح؛ فإنه غير آثم عند الله – سبحانه وتعالى – وغير مسؤول عن ذلك، والله – عز وجل – أرحم مِن أن يكلف عباده ما لا يستطيعون.
النازلة الثانية هل جدة ميقات
أو لا؟وهذه المسألة قد تكون نازلة باعتبار أن جدة لم تكن على عهد النبي – صلى الله علية وسلم – كما هي الآن مدينة مأهولة وعامرة، وباعتبار أيضًا أن الناس إلى عهد قريب كان كثير منهم يأتي إلى الحج عن طريق البر، وحتى الذين يأتون عن طريق البحر، كانوا ربما ينزلون عن طريق “ينبع”، أو عن طريق الشعيبة، وهذه كلها لا إشكال، فالذي يأتي مِن ينبع يُحرِم من ذي الحُلَيْفة، أو من الجُحْفَة، والذي يأتي من الشعيبة يُحرِم من يَلَمْلَم. أما في هذه الأزمنة، فأنتم تعرفون أن أكثر من نصف الحجاج يأتي عن طريق جدة، إما عن طريق الطيران، أو عن طريق البحر، فبالنسبة إلى هؤلاء، هل نقول لهم: إن جدة ميقات بحيث إن الواحد منهم لا يُحرِم حتى يصل إلى جدة وينزل فيها، ثم بعد ذلك يُحرِم؟ أم نقول: إن الإحرام واجب عليهم قبل أن يصلوا إلى جدة؟
قبل أن نبحث هذه المسألة، يَحسُن بنا أن نحرر محل النزاع؛ حتى نعرف ما هو متفق علية، وما هو مختلف فيه من هذه المسألة. فنقول: إن أهل العلم أجمعوا على أن أهل جدة، والمقيمين في جدة، وحتى الطارئين على جدة؛ لكنهم ما أنشؤوا نية النسك من حجٍ أو عمرة إلا وهم في جدة، أن هؤلاء جدة بالنسبة لهم ميقات، فأهل جدة مثلاً إذا أراد الواحد منهم أن يعتمر، فبإجماع أهل العلم أنه يُحرِم من بيته في جدة، وحتى القادمين عليها من الآفاق. افترض أن إنسانًا من مصر وضيفته في جدة، فسكن جدة؛ فإنه إذا أراد أن يعتمر أو يحج يُحرِم من جدة. هذا يإجماع أهل العلم، حتى غير المقيم فيها إذا جاء إليها، ثم أنشأ النية في جدة؛ فإن ميقاته جدة بإجماع أهل العلم. إذًا هؤلاء لا يدخلون في محل النزاع، فجدة بالنسبة لهم ميقات بالإجماع.
إذًا محل النزاع الذي نريد أن نبحثه – أيها الإخوة – هو من يأتي إلى جدة، وهو في نيته أن يحج أو يعتمر قبل أن يصل إلى جدة؛ كمن يسافر مثلاً مِن بريدة إلى جدة وهو ينوي الحج أو العمرة، أو يأتي من مصر، أو يأتي من العراق، أو من الباكستان، أو من المغرب، أو من أي بلد، يأتي إلى جدة، وهو من حين أنشأ السفر ينوي الإحرام بالحج أو العمرة، فهذا مِن أين يُحرِم؟ وهل تعد جدة بالنسبة له ميقاتًا أو لا؟
الذي يأتي إلى جدة وهو في نيته الإحرام، إذا مر فوق أحد المواقيت؛ كأن يمر فوق قَرْنِ المَنَازِل أو السيل الكبير الآن، أو فوق ذي الحليفة، أو فوق الجحفة، أو فوق يلملم، فإذا أحرم فوق الميقات، أو من محاذاة الميقات الذي يمر عليه، فهذا لا شك أنه أبرأ لذمته وأسلم له؛ لأنه يكون قد خرج من الخلاف.
الذي يمر على ميقات من المواقيت، في الجو أو في البر أو في البحر، فيحرم من الميقات الذي يمر عليه قبل أن يصل إلى جدة، فإن هذا يخرج من خلاف أهل العلم، ومن النزاع، ويسلم من التأثُّم على قول بعض أهل العلم. لكن نأتي إلى أحد رجلين: إما شخص يأتي إلى جدة ولم يمر بميقات من المواقيت، ولا بما يحاذيه، أو أنه مرَّ بميقات؛ ولكنه أراد أن يحرم من جدة.
افترض أن إنسانًا خرج من عندنا، من هنا من بريدة، وهو يريد أن يذهب إلى العمرة، وقال أنا أريد أن أحرم من جدة، فهل يجوز لي ذلك أم لا يجوز؟ هذه هي مسألتنا فهذا بالتأكيد أنه سيمر فوق ذي الحليفة، أو قرن المنازل، أو الجحفة؛ لكنه يريد أن لا يحرم إلا من جدة. فهل يجوز له أن يحرم من جدة أم لا؟ أهل العلم اختلفوا في هذه المسألة على أربعة أقوال:
* القول الأول: قالوا إن جدة ليست ميقاتًا لأحد. ليست ميقاتًا إلا لمن ذكرناهم في المسألة المُجمَع عليها قبل ذلك، وهم أهلها والمقيمون فيها، أو مَن لم ينوِ العمرة أو الحج إلا فيها. أما القادم عليها بنيَّة العمرة، فإنها ليست ميقاتًا له، وبالتالي فإن مَن تجاوز الميقات قبل أن يحرم؛ فإنه آثم، وهل عليه فدية أو لا؟ هذه مسألة خلافية بين أهل العلم، واستدلوا بأن جدة لم يوقِّتْها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وليست محاذية لأقرب المواقيت إليها؛ فإن يَلَمْلَمَ أقرب المواقيت إليها، ويلملم تبعد عن مكة أكثر من تسعين كيلو متر، وجدة لا تبعد أكثر من سبعين كيلو متر.
* القول الثاني: قالوا إن جدة ميقات لمن يأتي من جهة الغرب عنها، وهم الذين يأتون من شمال السودان، أو من جنوب مصر، فهؤلاء الذين يأتون من هذا الاتجاه؛ يعني من جهة الغرب لا يمرون بميقات من المواقيت، وبالتالي فإن جدة تعتبر ميقاتًا لهم، أما من عدا هؤلاء فليست ميقاتًا له، وبالتالي إذا تجاوز الميقات ولم يحرم منه؛ فإنه آثم.
* القول الثالث
قالوا إن جدة ميقات لمن قَدِمَ إليها عن طريق الجو أو عن طريق البحر، أما من جاء عن طريق البر فليست ميقاتًا له؛ وإنما ميقاته ما قبلها من المواقيت، أما الذي يأتي من البحر أو من الجو فجدة تعتبر ميقاتًا له. هذا هو القول الثالث في هذه المسألة، وحُجة أصحابه أن جدة ليست محاذية؛ ولكن لمشقة إحرام الناس في الطائرة والباخرة، ولأن الحرج مرفوع؛ فيجوز لهم الإحرام من جدة.
* القول الرابع
يقول إن جدة ميقات فرعيٌّ لكل مَن أتى إليها من الجو أو البحر أو حتى من البر، فهي ميقات فرعي، وحينما نقول ميقات فرعي؛ لأن المواقيت التي وقَّتها النبي – صلى الله عليه وسلم – معروفة، أربعة، وزاد عمر – رضي الله عنه – خامسًا، وما عدا ذلك فهو ميقات فرعي، كما سنبيِّنه الآن. هذا هو القول الرابع في هذه المسألة، وهو أوسع هذه الأقوال، أن جدة ميقات لكل مَن أتى إليها. لو أردنا – أيها الإخوة – أن نستعرض أدلةَ كلِّ قولٍ من هذه الأقوال، لطال بنا المقام واتسع، ولكننا سننظر في هذه المسألة باعتبار أن ملايين من المسلمين يأتون إلى جدة عن طريق البحر، أو عن طريق الجو، وهؤلاء منهم الجاهل، ومنهم من له أحد يفتيه، ومنهم من لم يعلم حتى وصل. فهؤلاء إذا جاؤوا إلى جدة وأحرَمُوا منها، أو قيل لهم لا تحرِمُوا إلا من جدة، أو وصلوا إلى جدة وقيل لهم ليست ميقاتًا، أو نحو ذلك. هؤلاء ما حُكْمهم؟ الذين يقولون بأن جدة ميقات لكل من أتى إليها عن طريق البر أو البحر أو الجو، هؤلاء قالوا إن جدة تعتبر محاذية لميقات يلملم، وإذا كانت محاذية لهذا الميقات فإنها تكون ميقاتًا فرعيًّا، فمَن أتى إليها فإنها ميقاته؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال ((هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن))، فمن أتى عليها من غير أهلها أصبحت ميقاتًا له،
وقبل أن نتبين هل جدة فعلاً محاذية ليلملم؟ نتبين بعض الأمور أولها ما معنى المحاذاة؟ المحاذاة هي التي وردت في حديث عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في صحيح البخاري، فإن أهل العراق، لما فتح العراق، جاؤوا إلى عمر- رضي الله عنه – فقالوا “يا أمير المؤمنين، إن قرنًا جور عن طريقنا – يعني قرن المنازل، الذي هو السيل الكبير الآن بعيد عن طريقنا، ويشق علينا – وإن ذهبنا إليه شق علينا”، فقال عمر – رضي الله تعالى عنه -: “انظروا حذوه من طريقكم – يعني انظروا ما يحاذي قرن المنازل من طريقكم –”، ثم وقَّت لهم – رضي الله تعالى عنه – ذات عِرْقٍ. وذات عرق تقع تقريبًا إلى جهة الشمال من قرن المنازل على طريق الحاج العراقي قديمًا. أخذ من ذلك أهلُ العلم أن كل إنسان يأتي إلى الحرم من طريق، لا تمر بإحدى النقاط التي وقَّتها الرسول – صلى الله عليه وسلم – وهي ذو الحليفة والجحفة ويلملم وقرن المنازل، أن كل من أتى من غير هذه الطرق، أنه يحرم إذا حاذى أقرب هذه المواقيت.
فما معنى المحاذاة؟
كثير من الناس يتبادر إلى ذهنه أن المحاذاة هي أن الإنسان يخط خطوطًا بين المواقيت الأربعة، ثم إذا وصل إلى هذا الخط يعتبر محاذيًا للميقات الذي يليه، ويكون هذا محل إحرامه؛ والحقيقة أن المحاذاة ليست بهذا المفهوم، فالمحاذاة عند عامة أهل العلم هي أن الإنسان إذا أتى من طريق، لا يمر على ميقات من المواقيت التي وقَّتها الرسول – صلى الله عليه وسلم – فإنه ينظر إلى أقرب ميقات من المواقيت التي وقَّتها الرسول – صلى الله علية وسلم – إليه، فإذا كان مثلاً أقربها ذا الحليفة ينتقل إلى الخطوة التالية، وهي أنه ينظر كم المسافة بين الميقات القريب، وهو ذو الحليفة، وبين الحرم؟ فإذا كان في نقطة بينه وبين الحرم مثلها، فإن هذا هو ميقاته، فإذا قلنا مثلاً إن ذا الحليفة بينه وبين مكة أربعمائة كيلو متر، فجاء إنسان مثلاً من جهة مهد الذهب، قلنا أقرب المواقيت إليك ما هو؟ قال أقرب المواقيت إليَّ هو ذو الحليفة، نقول له انظر إذا كنت في نقطة بينك وبين مكة أربعمائة كيلو، فهذا هو ميقاتك، هذا هو معنى المحاذاة. المحاذاة – كما قلت لكم – أن تنظر إلى أقرب المواقيت الأصلية، التي وقَّتها النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحديث إليك، فتنظر المسافة بين هذا الميقات وبين مكة، فإذا كنت أنت في مكان، بينك وبين مكة مثلُ المسافة التي بين هذا الميقات وبين مكة، فأنت حينئذ في المحاذاة، فلو نظرت مثلاً إلى ذات عرق لوجدت أن المسافةَ التي بينها وبين قرن المنازل أقربُ من المسافة التي بينها وبين ذي الحليفة، إذًا هي محاذية لقرن المنازل. ثم تنظر المسافة بين قرن المنازل ومكة، هي المسافة نفسها التي بين ذات عرق وبين مكة، هذا معنى المحاذاة.
نرجع الآن إلى جدة. فنقول العملية الأولى: ما هي أقرب المواقيت إلى جدة؟ جدة بين ميقاتين بين الجحفة وبين يلملم. الجحفة ميقات أهل الشام ومصر، ويلملم ميقات أهل اليمن. فجدة بين هذين الميقاتين؛ لكنها كما هو معروف أقرب إلى يلملم، وإذًا إذا أردنا أن ننظر هل تكون جدة محاذية ليلملم؟ نقول يجب أن ننظر كم المسافة التي تكون بين يلملم وبين مكة؟ فإذا كانت المسافة بين جدة وبين مكة هي نفس المسافة، قلنا أن جدة ميقات. يلملم في موقع الميقات الموجود الآن الذي يسمى السعدية، أو الذي على طريق الساحل، المسافة بينه وبين الحرم مسافة كبيرة، المسافة بحدود ستة وتسعين كيلو متر (96 كم)، وجدة بينها وبين مكة ما يصل إلى ستين (60) أو خمسة وستين كيلو متر (65 كم)، إذًا كيف قال أصحاب هذا القول إن جدة ميقات، وأنها محاذية ليلملم؟! أقول لكم أولاً ما هي يلملم؟ ثبت كما في الصحيحين أن النبي – صلى الله عليه وسلم – وقَّت لأهل اليمن يلملم، فما هي يلملم؟ اختلف أهل العلم في يلملم. قد رجعتُ إلى كثير من كتب البلدان والأماكن والبقاع واللغة، فوجدت أن مِن أهل اللغة مَن يقول إن يلملم جبل، ومنهم من يقول إنها وادٍ. والذي يظهر لي – والله سبحانه وتعالى أعلم – أن يلملم جبل ووادٍ جميعًا، ولهذا تجد بعض أهل العلم يقول إنها جبل، وبعضهم يقول إنها وادٍ، والذين قالوا إنها وادٍ كثيرون من أهل العلم، فقد ذُكِر ذلك في “معجم البلدان” وفي كتاب أُلِّف حديثًا، تكلم عن المواقع التي وردت في السيرة، كلهم قالوا يلملم عبارة عن وادٍ، فإذا نظرنا إلى هذا الوادي الذي هو يلملم، نجد أن هذا الوادي تمتد أصوله وأعاليه من أعلى جبال تهامة، أعلى جبال السروات، فهو في أعلاه يكون تقريبًا على شكل سبعة، له أصلان أحدهما ينحدر تقريبًا من منطقة الشفا بالطائف.
والثاني يقع شمالاً عنه بحدود عشرة كيلو مترات في بلاد هذيل، ثم ينزل هذا الوادي، ثم يجتمع هذان الواديان في وادٍ واحد، فيمر في يلملم التي كانت ميقاتًا عصورًا طويلة، ثم تقريبًا بحدود الأربع مائة والألف هجرية خرج طريق الساحل مما يلي الليث والشعيبة تقريبًا، وكان قريبًا من الساحل، فنُقِل الميقات أو انتقل الناس وبدؤوا يُحرِمون من مسجدٍ أقيم على هذا الطريق في أسفل هذا الوادي. الوادي هذا ينطلق تقريبًا من الشمال الشرقي ويتجه إلى الجنوب الغربي بهذا الشكل، ولهذا حتى الذين نقلوا الميقات من موقعه الأول إلى موقعه الجديد على الطريق الساحلي نظروا إلى الوادي، فإنك لو تأملت الميقات الجديد وجدته أبعد من الميقات القديم، فلو كان في المحاذاة لوضعوه في موضعٍ تكون المسافة واحدة، لكنهم نظروا إلى الوادي، فالوادي ينزل حتى يقطع الطريق الجديد طريق الساحل، فجعلوا الميقات على تقاطع طريق الساحل مع هذا الوادي. وهذا الوادي ممتد؛ كأن النبي النبي – صلى الله عليه وسلم – جعله ميقاتًا لكل مَن أتى من أهل اليمن عن طريق تهامة؛ إن أتى من أسفل فهو من طريق الساحل الآن، أو من أعلى فمن الذي كان الناس يحرمون منه سابقًا، ومن أتى من أعلى فإنه يحرم من أصول هذا الوادي ومن أعاليه. فهذا الوادي الذي هو يلملم لا شك أنه أقرب المواقيت إلى جدة، فإذا نظرنا إلى أعالي هذا الوادي – كما قلت لكم – أعلى هذا الوادي واديان؛ أحدهما قريب من منطقة الشفا بالطائف، وهذه المنطقة التي هي طرف الوادي من هنا، بينها وبين مكة بحدود ستين كيلو متر(60 كم)، وإذا أتينا إلى الفرع الشمالي منه الذي في بلاد هذيل، فإن المسافة بينه وبين الحرم لا تزيد على خمسين كيلو متر(50 كم)، فأهل العلم الذين قالوا بأن جدة ميقات، وأنها محاذية ليلملم، نظروا إلى أقرب نقطة من يلملم وقاسوا المسافة بينها وبين الحرم، ثم نظروا إلى المسافة بين جدة وبين الحرم، فوجدُوا أن المسافتين متساويتان؛ بل إن أوسط جدة وغرب جدة أبعد من أصول و أعالي وادي يلملم عن الحرم، وبناء على ذلك قالوا إنها تُعَدُّ محاذية ليلملم، وبالتالي فإنها ميقات من المواقيت. إذا قلنا إنها ميقات من المواقيت، وهذا القول هو الذي يظهر لي – والعلم عند الله سبحانه وتعالى – أنها ميقات فرعي؛ لمحاذاتها لوادي يلملم في أعاليه. فننتقل إلى مسألتين هما آخر المسألة.
* المسألة الأولى هي
إذا قلنا إن جدة ميقات فرعي، فالذي يأتي من جهة البحر مثلاً من السودان أو من مصر أو نحو ذلك، يأتي إلى جدة، هذا لا إشكال فيه؛ لأن هذا الميقات هو أول ميقات يصل إليه، فحينئذ يُحرِم منه، ولا خلاف بين مَن يقول هذا القول في أنه قد أحرم من الميقات، وأنه ليس عليه شيء أمام الله – سبحانه وتعالى – وأنه أحرم من الميقات الفرعي المقيس على الميقات الذي وقَّته رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لكن الإشكال هو في أمثالنا مثلاً، من يأتي مثلاً من القصيم أو من الرياض أو من الشام أو من اليمن، فيأتي عن طريق الطائرة مثلاً أو عن طريق السيارة، فيتجاوز قرن المنازل ويذهب إلى جدة، أو يتجاوز ذا الحليفة أو يتجاوز الجحفة ويذهب إلى جدة، ويقول لن أحرِم إلا من جدة، فما حكم هذا؟ أهل العلم يبحثون هذه المسألة في مسألة حُكْم تجاوز الميقات إلى ميقات آخر. يعني افترض أنك أنت مِن أهل المدينة، وأردت أن تعتمر، وقلت لن أحرم من ذي الحليفة ميقات أهل المدينة، وسأذهب إلى الجحفة فتعتمر من هناك، ما حكم هذا عند أهل العلم؟ المسألة فيها قولان عند أهل العلم: أكثر أهل العلم يقولون لا يجوز أن يتجاوز الإنسان ميقاتًا إلى ميقاتٍ آخر. وهذا يقول به كثير من أهل العلم، وعلى هذا مَن يذهب مِن هنا على الطائرة لا يجوز له أن يحرم من جدة؛ بل يجب عليه أن يحرم إذا حاذى السيل، أو حاذى ذا الحليفة، أو حاذى الجحفة، ولا يجوز له أن يتجاوز ذلك إلى الميقات الآخر وهو جدة، هذا هو القول الأول. واستدلوا لذلك بقول النبي – صلى الله عليه وسلم – عن هذه المواقيت: ((هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن))، فإن من يأتي على أي ميقات من المواقيت، سواء كان من أهله أو من غير أهله، فإنه لا يجوز له أن يتجاوز إلا بإحرام.
ومن أهل العلم، وهو منسوب إلى الإمام مالك وأبي حنيفة و أبي ثور، وهو قبل ذلك مروي عن عائشة – رضي الله عنها – مَن يقول إنه يجوز تجاوز الميقات إلى ميقات آخر. فإنه قد ذكر أهل العلم أن عائشة – رضي الله عنها -كانت مقيمة في المدينة، فكانت إذا أرادت أن تعتمر أحرمت من الجحفة، وإذا أرادت أن تحج أحرمت من ذي الحليفة، فإذا أرادت أن تعتمر فلا شك أنها تجاوزت ذا الحليفة إلى الجحفة، وثبت أيضًا في الصحيحين من حديث أبي قتادة – رضي الله عنه – أنه خرج مع المسلمين عام الحديبية، فالمسلمون أحرموا من ذي الحليفة، وأبو قتادة – رضي الله تعالى عنه – ما أحرم من ذي الحليفة، فالموفَّق بن قُدَامَة يقول إنه أحرم من الجحفة، فيكون أبو قتادة – رضي الله تعالى عنه – أيضًا مثل عائشة، تجاوز ميقاتًا إلى ميقاتٍ آخر. وأيضًا يمكن أن يُستدل لأصحاب هذا القول بقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن))، فإذا أتيت إلى جدة، وإن كانت جدة ليست ميقاتًا لك، إلا أنك إذا أتيت من جهتها تصبح ميقاتًا لك، والذي يظهر لي – والله سبحانه وتعالى أعلم – أن هذا القول هو الراجح؛ لأنه بالنظر إلى هذه المواقيت، نلاحظ أن هذه المواقيت جعلها الله – سبحانه وتعالى – حرمة للبيت الحرام، تعظيمًا لهذا البيت، فإن الله – عز وجل – جعل لبيته الحرام
وللكعبة المشرفة ثلاث حرمات
“حرمة المسجد، وحرمة الحرم، وحرمة المواقيت”، فأنت لو وضعت نقاطًا على كل منطقة – سواء كانت ميقاتًا أصليًّا أو فرعيًّا – لوجدت أنها تحيط بالحرم من كل جوانبه، فهي كما إذا أتيت هذا المسجد، فإذا دخلت مع هذا الباب، وتريد أن تخرج مع هذا الباب، ثم ترجع مرة أُخرى، هل نقول صلِّ تحية المسجد الآن أم إذا رجعت؟ نقول صلِّ تحية المسجد إذا أردت أن تجلس ولو مررت بالمسجد. فنحن نقول لمن دخل في حدود المواقيت ثم خرج أنه لم يُرِد الحج والعمرة في هذا الدخول، وبالتالي فإنه لا يجب عليه الإحرام؛ حتى يدخله مرة أُخرى بنيَّة الحج أو العمرة، تمامًا كما لو أن إنسانًا ذهب من هنا وهو يريد أن يمر بالمدينة، ويصطاف بالطائف لمدة أسبوع، ثم يرجع ويعتمر، ومن حين خرج من هنا وهو يريد العمرة؛ لكنه ما أرادها في الدخول الأول، دخل حدود المواقيت ثم خرج، ثم يريد أن يرجع مرة أُخرى، فهذا – والعلم عند الله سبحانه وتعالى – يجوز أن يتجاوز الميقات الأول إلى الميقات الثاني؛ لأنه لا يعتبر مُخلاًّ بهذا البيت إن دخل وخرج، ولا شك أن تأثيم ملايين المسلمين ليس من مقاصد الدين، ولا من أهداف الشريعة، فما دام أن الأمر يحتمل، وأن المسألة ليس فيها تجاوز لكتاب الله ولا لسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تجاوزًا صريحًا، وأن هذا له مسوِّغ من كلام أهل العلم؛ فإنه لا معنى أن نذهب للقول الأشد، أو حتى الأحوط؛ لأن الأحوط أحيانًا يكون فيه حرج على مئات الملايين من المسلمين، الذين يأتون في كل عام للحج والعمرة.
* المسألة الثانية هي
هل جدة كلها ميقات أم لا؟ تعرفون أن جزءًا كبيرًا من الحجاج الآن ينزل في مطار الملك عبدالعزيز، فهل نقول إن مطار الملك عبدالعزيز ميقات؟ وجزء كبير ينزل في ميناء جدة الإسلامي. مدينة جدة واسعة جدًّا وطويلة، تمتد على البحر ما يقرب من سبعين كيلو متر، وبناء على هذا القول الذي أراه – والعلم عند الله سبحانه وتعالى – راجحًا؛ فإن جدة ليست كلها ميقاتًا، فمطار الملك عبدالعزيز ليس ميقاتًا، ولا يجوز لمن ذهب إلى جدة أن يحرِم من المطار؛ لأنه بالنظر إلى مطار جدة نجد أن بينه وبين الجحفة أقرب من المسافة بينه وبين يلملم، وقد قلنا في المحاذاة: إن المحاذاة أن تنظر إلى أقرب الميقاتين إليك، فبالنسبة إلى شمال جدة والمطار فإن الجحفة أقرب من يلملم، وبالتالي لا تكون محاذية حتى تكون المسافة بينها وبين الحرم كالمسافة بين الجحفة وبين الحرم، وإذًا فبناء على هذا القول الذي يعتبر ميقاتًا هو وسط وجنوب جدة، هذا هو الذي يعتبر ويعد ميقاتًا، بناء على هذا القول فالميناء الإسلامي وأوسط جدة وجنوب جدة وغرب جدة، هذا كله يعد ميقاتًا. وقبل أن أختم هذه المسألة فإني أقول إن هذه المسألة من المسائل الكبيرة والمهمة، التي تعم بها البلوى، والتي وردت فيها فتاوى كثيرة، ودرسها مَجمَع الفقه الإسلامي، وبحثها غير واحد من أهل العلم وطلابه، ومن أحسن من بحث هذه المسألة هو الشيخ عدنان العرعور -حفظه الله تعالى- في كتاب أو رسالة سماها “أدلة إثبات أن جدة ميقات”؛ لكني أقول إن هذه المسألة تحتاج إلى مزيد بحث، والذي أراه و أشير به وأدعو إليه، هو أن الجهات المختصة وولاة الأمر يُكلِّفون عددًا من طلبة العلم، ممن يرى هذا الرأي ويرى أن جدة ميقات، ويكلفون معهم عددًا من المختصين بعلم الجغرافيا، الذين عندهم القدرة والخبرة على قراءة الخرائط وقراءة الصور الجوية، وأن يجتمع هؤلاء ثم يبحثوا هذه المسألة بحثًا شرعيًّا، وينزلونها على الواقع، ويضعون المعالم لما يُعدُّ من جدة ميقاتًا، وما لا يعد منها ميقاتًا، ثم تعرض هذه المسألة وهذا البحث على هيئة كبار العلماء للنظر فيه، فإذا أقر فإنه ينزل على الواقع، وتوضع علامات في جدة للمواقيت، وأيضًا يستحسن أن يوضع في جدة – كما وضع في سائر المواقيت – مسجدًا يكون علامة على الميقات، بحيث إن الناس يُحرِمون منه، مَن أتى من طريق المطار أو من البحر أو من غيره، فيكون هذا مَعْلَمًا وميقاتًا مثل المساجد التي أقامتها الدولة – بارك الله فيها – في بقية المواقيت، هذا ما يسر الله – سبحانه وتعالى – وفتح به في هذة المسألة، أسأل الله – سبحانه وتعالى – السداد والتوفيق.
المجلس الثاني
فهذا هو المجلس الثاني من المجالس التي تعقد من الدورة المباركة؛ للحديث عن بعض نوازل الحج، وكنا تكلمنا في المجلس السابق عن نازلتين، وفي هذا اليوم نتحدث عما ييسره الله من هذه النوازل.
النازلة الثالثة: الإحرام بالإزار المخيط، أو ما يسمى في اللغة بالنقبة:
الإزار المخيط هو ما ظهر في هذا الوقت، وأفتى به مجموعه من أهل العلم وطلابه، وهو الإزار الذي يخاط جانباه، ويوضع في أعلاه تكة؛ إما من خيط أو مطاط أو سير أو نحو ذلك، وفي اللغة يسمى النقبة، وهو يشبه تمامًا ما تلبسه النساء في هذا الزمن ويسمى التنورة، فهذا هو الإزار الذي نريد أن نتحدث عنه.
ما حكم لبس هذا الإزار بالنسبة للمُحرِم من الرجال؟ أولاً قبل الحديث عن حكم هذه النازلة، أو هذا الإزار، نريد أن نتحدث عن بعض الأمور التي هي مقدمة وتوطئة؛ حتى نصل إلى حكم لبس هذا الإزار.
فأولاً ماذا يلبس المحرم؟ فقد ورد في السُّنة عدد من الأحاديث كلها تتحدث عما يلبسه المحرِم في إحرامه، ففي الصحيحين عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – في بعض الروايات أنه كان في المدينة فسأله سائل فقال: “يا رسول الله، ما يَلبس المحرمُ؟”، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: ((لا يلبس القُمُص، ولا البرانس، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا الخفاف)). في هذا الحديث سأل هذا الرجل عما يلبسه المحرم، فأجاب النبي – صلى الله عليه وسلم – بما لا يلبسه المحرم. قال ابن حجر: “وهذا قمة في البلاغة والجزالة فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما عَلِم أن الممنوع محدود، والمباح مطلق؛ أعرض عما سأل عنه السائل، وبين المحصور المحدود؛ فقال: ((لا يلبس القمص ولا البرانس ولا العمائم ولا السراويلات، ولا ثوبًا مسه ورس أو زعفران))….الحديث”. فهذا هو الحديث الأول في مسألة ما يلبسه المحرم.
الحديث الثاني هو ما في الصحيحين أيضًا من حديث يعلى بن أمية – رضي الله تعالى عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان في الجعرانة في مرجعه من الطائف، فجاءه أعرابي فقال: “يا رسول الله، ما تقول في رجل أحرم في جبة، وتضمخ بطيب – يعني تلطخ بطيب –”، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((أما الطيب فاغسله ثلاثًا، وأما الجبة فانزعها)). فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم – أن ينزع الجبة.
الحديث الثالث الذي ورد في مسألة ما يلبسه المحرم حال إحرامه، هو ما رواه البخاري من حديث ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال وهو يخطب بعرفات: ((ومن لم يجد الإزار فليلبس السراويلات، ومن لم يجد النعلين فليلبس الخفين)). ففي هذا الحديث أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – ورخص لمن لم يجد الإزار أن يلبس السراويلات، وبالمناسبة السراويل هذا هو المفرَد؛ لا على ما هو شائع في لهجتنا أنهم يسمونه السروال، لا؛ في اللغة العربية المفرَد السراويل. من خلال هذه الأحاديث الثلاثة قال أهل العلم إن المحرم ممنوع من لبس ما يُفَصَّل على قَدْرِ الأعضاء، وعبَّر بعض الأئمة عما يفصل على قدر الأعضاء بالمخيط، فقالوا لا يلبس المحرم المخيط، ومقصودهم بالمخيط ليس ما يخاط بالإبرة أو بالمكينة، أو نحو ذلك؛ لا وإنما قصدهم بالمخيط ما يخاط ويفصَّل على قدر أعضاء البدن؛ كالفنيلة والسراويل والثوب ونحوها، وهذه اللفظة لم تَرِد في السنة لا في حديث ابن عمر، ولا حديث يعلى، ولا حديث ابن عباس، ولا في شيء من كتب الحديث، كما أعلم. فالتعبير بأن المحرم لا يلبس المخيط إنما ورد عن بعض السلف، فانتشر وتداولته كتب الفقه، وتناقله الفقهاء بعضهم عن بعض، ومن خلال هذا النقل التبس هذا الأمر على كثير من الناس، فظن أن المقصود بالمخيط هو ما يخاط في الإبرة أو المكينة أو نحو ذلك. وهذا ليس مقصودًا للفقهاء على الإطلاق؛ فإنه بإجماع أهل العلم لو أن الإنسان عنده إزار، ثم شق هذا الإزار فخاطه ثم لبسه، أن ذلك جائز بإجماع أهل العلم. فليس المقصود بالمخيط هو الذي جرت به الإبرة أو المكينة أو نحو ذلك؛ وإنما المقصود بالمخيط هو ما يخاط ويفصل على قدر الأعضاء – كما قلت لكم – مثل: الفنيلة، والثوب، والمشلح، والبنطال، والسراويل…إلخ. هذا هو المقصود بالمخيط في لغة الفقهاء. ننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن المسألة التي نحن بصددها، وهي حكم لبس الإزار المخيط، الذي وُضع في أعلاه هذه التكة أو الربطة، وبعض الناس وضع له جيبًا يوضع فيه المال أو الجوال أو نحو ذلك. ما حُكْم لبس هذا الإزار؟ قبل أن ننتقل إلى الحكم، أحب أن أبيِّن أن اختلاف أهل العلم المعاصرين في حكم لبس هذا الإزار أو هذه النقبة، له سببان:
السبب الأول: هو أنه اختلفوا في ما يلبسه المحرم على أسفل بدنه؛ يعني من الحِقْوَيْن أو من الإزار أو من السرة. والذين اختلفوا في الإزار اختلفوا فيما يلبسه المحرم على أسفل بدنه: هل هو محدود أو غير محدود؟ فمن أهل العلم مَن قال إن ما يلبسه المحرم على أسفل بدنه غيرُ محدود؛ فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – كما في حديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما – لما سئل ما يلبس المحرم؟ أعرض عن سؤال السائل، وانتقل إلى ما لا يلبس، قال كثير من أهل العلم؛ كالحافظ ابن حجر وغيره، قالوا إن هذا النكتة البلاغية هي أن ما يلبسه المحرِم مطلقٌ واسع، لا حدَّ له؛ إنما الممنوع هو المقيَّد؛ فتَرَكَ النبي – صلى الله عليه وسلم – المطلقَ، الواسع، غير المحصور؛ لأنه لا مطمع في حده ولا حصره، وانتقل إلى ما يُمنع منه فذكره، وهو السراويلات. فما لا يُلبس على أسفل البدن هو السراويلات، فهؤلاء قالوا إن الممنوع محدود، وهو السراويلات وما كان في حكمها، وأما المباح المسموح فإنه غير محدود؛ فيَلبس المحرم إزارًا أو غيره مما شاء، المهم أن لا يكون من السراويل، ولا ما في حكمها. هذا هو القول الأول.
القول الثاني: الذين قالوا إن هذا الإزار، الذي قد خِيط طرفاه ووُضع فيه تُكة، إنه لا يجوز. قالوا العكس من ذلك، قالوا إن المباحَ في السنة لبسه على أسفل بدن المحرم محدودٌ؛ فقد حدده النبي – صلى الله عليه وسلم – كما في حديث ابن عباس، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال وهو بعرفة: ((ومَن لم يجد الإزار فليلبس السراويل))، فقالوا هذا دليل على أن المباح فقط هو الإزار، وبالتالي فإنه لا يجوز أن يلبس على أسفل البدن إلا الإزار، وما كان في حكمه. واضح هذا الخلاف، القول الأول: يقول المحرَّم والممنوع محدودٌ، والمباح واسع. والقول الثاني: يقول بل المباح هو المحدود، والممنوع واسع؛ فالمباح فقط هو الإزار وما في حكمه. والحقيقة أن الذي يظهر لي رجحانه – والله سبحانه وتعالى أعلم – هو القول الأول؛ فإن الممنوع هو المحدودُ، والمباحَ مطلقٌ؛ فالممنوع هو السراويلات وما كان في حكمها. والدليل على أن هذا القول هو الراجح هو أن حديث ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – الذي سئل فيه النبي – صلى الله عليه وسلم – عما يَلبس المحرِم، فأجاب بأنه: ((لا يلبس القمص و لا البرانس ولا العمائم ولا السراويلات)) أن هذا بالمدينة قبل أن يتلبس الناس في النسك.
قاله النبي – صلى الله عليه وسلم – لهم قبل أن يُحرِموا؛ أما حديث ابن عباس – رضي الله عنه – قي قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((ومن لم يجد الإزار فليلبس السراويلات)) فهذا قاله النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو بعرفات. وأنتم تعرفون أن الحاج في عرفات، إما أن يكون متمتِّعًا فيكون قد أحرم مرتين؛ أحرم بالعمرة ثم تحلل، ثم أحرم بالحج، وإما أن يكون مفرِدًا أو قارنًا ويكون قد أحرم منذ أيام، وأهل العلم يقولون إنه “لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة”. فلو قلنا بأن المباح هو الإزار فقط وما كان في حكمه، فمعنى ذلك أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أخَّر البيان حتى أحرم المتمتِّع مرتين، وأحرم المفرِد والقارن منذ أيام؛ ولكن يُحمَل حديث ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – في عرفات على أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أراد أن يرخص للناس: مَن شقَّ عليه أن يجد ما يلبسه، أو يتَّزر به أن يلبس السراويل؛ لأن مَن عجز عن لبس الإزار جاز له أن يلبس السراويل. فهذا هو الذي يظهر لي رجحانه بهذا التعليل. هذا هو السبب الأول من الخلاف في هذه المسألة، وهو الخلاف في ما يلبسه المحرِم على أسفل بدنه: هل هو محدود أو مطلق؟
السبب الثاني من أسباب الخلاف في المسألة: هو اختلاف أهل العلم المعاصرين في هذا الإزار الذي نتكلم عنه، المخيط في جوانبه والذي عقد بتكة في أعلاه. اختلافهم هل هو مما يشبه المباح؛ فنقول مباح أو يشبه المحرَّم؛ فنقول محرَّم؟ فالذين قالوا إنه مباح قالوا يشبه المباحات. والذين قالوا إنه محرَّم قالوا إنه يشبه المحرَّم والممنوع، وهو السراويل. والحقيقة أن هذا السؤال قد صغته لكم كما هو في كثير من البحوث، التي بحثها طلاب العلم في هذا الزمان، فإنهم يقارنون هذا الإزار أو هذا اللباس الذي يسمى النقبة، يقارنونه بالإزار أو السراويل؛ فمن شبَّهه بالإزار أو قال إنه لا يزال يسمى إزارًا، قال إنه مباح. ومَن قال إنه يشبه السراويل، قال إنه محرَّم.
والذي يظهر لي أن هذا السؤال يجب أن يصاغ بطريقة أُخرى. فإننا رجحنا في المسألة السابقة أن المحرَّم محدود، وهو السراويل وما في حكمها، والمباح مطلق، ولهذا من يقول إنه مباح لا يحتاج أن يقيم الدليل على أنه إزار، أو على أنه يسمى في اللغة إزارًا؛ سُمي إزارًا أو لم يُسمَّ إزارًا، المهم أن لا يشبه الممنوع. ولهذا ينبغي أن نصوغ هذا السؤال بصيغة أُخرى فنقول: هذا الإزار الذي يسمى لغةً بالنقبة، هل يشبه الممنوع وهو السراويل، أو لا يشبهها؟ فإن أشبهها فهو ممنوع، وإن لم يشبهها فإنه مباح؛ سُمِّي إزارًا أو لم يُسمَّ، كان شبيهًا بالإزار أو ليس بشبيه؛ لأن المباح مطلق. والذي يظهر لي – والله سبحانه وتعالى أعلم – أن هذا اللباس لا يشبه السراويلات، التي منعها النبي – صلى الله عليه وسلم – فإننا لو تأملنا في جميع الألبسة، التي منعها النبي – صلى الله عليه وسلم – كالبرانس والقُمُص والسراويلات والجُبَّة؛ لوجدنا أنها كلها تجتمع في صفة واحدة: هي أنها فُصِّلَتْ على قَدْرِ الأعضاء، وحينما تتأمل هذا الإزار تجد وتلاحظ أنه ليس من هذا القبيل.
وبناء على ذلك نقول – والعلم عند الله سبحانه وتعالى – إن هذا الإزار يجوز لبسُه؛ لأنه ليس مما نصَّ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – على تحريمه ولا يُشبِهه، وقد كانت عائشة – رضي الله تعالى عنها – تذهب إلى الحج وإلى العمرة، فكان غلمانها إذا أرادوا أن يَحمِلوا هودجها على البعير أو ينزلوه، ربما بدا منهم شيء من عوراتهم؛ فأمرتهم عائشة – رضي الله عنها – أن يلبسوا تحت الإزار شيئًا يقال له التُّبَّان. والتبان هذا – باختصار شديد – هو الإزار المنتشر في هذا الزمن، إلا أنه قصير إلى حدود أنصاف الفخذين – يعني هو مثل السراويل القصيرة إلى نصف الفخذ؛ لكنه لا أكمام له وإنما له تكة في أعلاه – فكانت عائشة – رضي الله عنها – تأمر غلمانها بأن يلبسوا هذا التُّبان تحت أُزُرِهم؛ ليستر عوراتهم. فالذي يظهر لي – والله سبحانه وتعالى أعلم – أن الممنوع هو السراويل وما في حكمها، وأن هذا الإزار لا يشبه السراويل، وبتالي فإنه يجوز لبسه، سواء سمي إزارًا أو لم يُسمَّ.
بعض الباحثين وبعض طلبة العلم يقول إن هذا خرج عن مُسمَّى الإزار، وإن كتب اللغة لا تسمي هذا إزارًا، ونحن نقول إن المباح مطلق، ولم يحدد بالإزار؛ فالمباح سواء كان إزارًا أو غير إزار المهم ألا يكون سراويل، ولا ما في معناها، هذا هو الذي ظهر لي رجحانه في هذه المسألة، والعلم عند الله سبحانه وتعالى.
النازلة الرابعة: لبس الكمامات حال الإحرام:
والكمامات هي ما يُوضع على الأنف والفم من قطن أو قماش أو نحو ذلك؛ ليمنع دخول الدخان والغبار والروائح الكريهة وغيرها، وقد انتشر استعماله في هذه الأزمنة في أوقات الحج؛ بسبب كثرة السيارات وعوادمها والغبار وغير ذلك؛ فأصبح كثير من الناس – خاصة رجال الأمن، الذين يكثر وجودهم في الشوارع – أصبحوا يلبسونها بكثرة، فما حُكْم لبس هذه الكمامات على الوجه؟
قبل أن نجيب على هذا السؤال، ونبيِّن حُكْم لبس هذه الكمامات، لا بد أن نجيب على سؤالين:
السؤال الأول هو: هل الكمامات من جنس ما نُهي عنه من الألبسة في حال الإحرام؟ قد ذكرنا في المسألة السابقة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – نهى عن القمص والسراويلات والعمائم والبرانس، ونهى عن الجبة؛ كما في مجموع الأحاديث: حديث ابن عباس، وحديث يعلى، وابن عمر – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وقلنا إن أهل العلم قالوا إن هذه الأحاديث بمجملها تدل على إن المحرَّم ممنوع ما فُصِّل على قَدْرِ الأعضاء. فهل الكمام الذي يوضع على الوجه من قماش أو نحوه، يأخذ حكم هذه الألبسة؛ مثل الفنيلة التي فُصِّلت على قدر الجسم واليدين، أو مثل السراويل الذي فُصِّل على قدر الرِّجْلين، أو مثل القميص، أو نحو ذلك؟
هذا الكمام لم يفصل على قدر الأعضاء، خاصة ما يكون منه على شكل قماش، فإن هذا إنما يوضع على الفم، ويُربط خلف العنق؛ فهذا لم يفصل على قدر أعضاء الوجه. وبالتالي فإننا نقول إن الكمامات ليست من الألبسة التي نصَّ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – على تحريمها، ولا من جنس هذه الألبسة التي نص النبي – صلى الله عليه وسلم – على تحريمها، هذا هو جواب السؤال الأول.
نأتي إلى سؤال آخر يتعلق بهذه المسألة، فإذا لم تكن من المخيط فهل يجوز لبسها؟ لا بد أن نجيب على السؤال الثاني، الذي يقول: هل المُحرِم ممنوع من تغطية وجهه؟ أنتم تعرفون أن المُحرِم ممنوع من تغطي
أمس في 9:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» وجوب التوكل على الله وخده لا شريك له
أمس في 3:26 pm من طرف عبدالله الآحد
» أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 5:24 pm من طرف عبدالله الآحد
» العبادة وأركانها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 2:55 pm من طرف عبدالله الآحد
» الراجح من أقوال العلماء أن جلسة الاستراحة سنة في الصلاة
الإثنين نوفمبر 18, 2024 2:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» -(( 3 -))- خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
الأحد نوفمبر 17, 2024 10:15 pm من طرف صادق النور
» لا يعلم الغيب إلا الله وحده لا شريك له
الأحد نوفمبر 17, 2024 3:12 pm من طرف عبدالله الآحد
» تابع زبدة التوحيد لنعمان بن عبد الكريم الوتر
السبت نوفمبر 16, 2024 2:15 pm من طرف عبدالله الآحد
» هيئات السجود المسنونة
الخميس نوفمبر 14, 2024 3:24 pm من طرف عبدالله الآحد
» (( - 2 -)) خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
الأربعاء نوفمبر 13, 2024 11:28 pm من طرف صادق النور