الإيمانِ بوُجودِ اللهِ تعالى وأقسامِ التَّوحيدِ -
توحيدُ الرُّبوبيَّةِ - توحيدُ الأُلوهيَّةِ - توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ
أولاً : مَعرِفةُ اللهِ
إنَّ أوَّلَ ما يَجِبُ على الإنسانِ مَعرِفتُه هو أن يعرِفَ اللهَ عزَّ وجلَّ.
قال اللهُ تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد: 19] .
قال البُخاريُّ في (بابِ العِلمِ قَبْلَ القَولِ والعَمَلِ) من صحيحِه: (فبدأَ بالعِلْمِ) .
وقال ابنُ القيِّمِ مُعَلِّقًا على هذه الآيةِ الكريمةِ: (فالعِلمُ بوحدانيَّتِه تعالى وأنَّه لا إلهَ إلَّا هو: مطلوبٌ لذاتِه، وإن كان لا يُكتفى به وَحْدَه، بل لا بُدَّ معه من عبادتِه وَحْدَه لا شريكَ له، فهما أمرانِ مَطلوبان لأنفُسِهما؛ أن يُعرَفَ الرَّبُّ تعالى بأسمائِه وصِفاتِه وأفعالِه وأحكامِه، وأن يُعبَدَ بموجِبِها ومقتضاها، فكما أنَّ عِبادتَه مَطلوبةٌ مرادةٌ لذاتِها، فكذلك العِلمُ به ومَعرِفتُه) .
وعن عثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((من مات وهو يَعلَمُ أنَّه لا إله إلَّا اللهُ، دَخَل الجنَّةَ )) .
في هذا الحديثِ يوضِّحُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَضْلَ العِلمِ بكَلِمةِ التَّوحيدِ، والموتِ على ذلك، وضِدُّ العِلمِ: الجَهلُ، وهو الذي أوقع أهلَ الضَّلالِ مِن هذه الأُمَّةِ في مُخالفةِ معناها، وتَرْكِ العَمَلِ بمُقتضاها .
وعن عليِّ بنِ الحَسَنِ بنِ شقيقٍ قال: سألتُ عبدَ اللهِ بنَ المبارَكِ: كيف ينبغي لنا أن نعرِفَ ربَّنا عزَّ وجلَّ؟ قال: (على السَّماءِ السَّابعةِ على عَرْشِه، ولا نقولُ كما تقولُ الجَهْميَّةُ: إنَّه هاهنا في الأرضِ) .
وقال أبو الحَسَنِ الأشعَرِيُّ: (أجمَعوا على أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دعا جميعَ الخَلْقِ إلى مَعرِفة اللهِ) .
وقال الخَطَّابي: (القولُ فيما يجِبُ من مَعرِفةِ اللهِ سُبحانَه وتعالى:
أوَّلُ ما يجِبُ على من يلزمُه الخِطابُ: أن يعلَمَ أنَّ للعالَمِ بأسِره صانِعًا، وأنَّه هو اللهُ الواحِدُ لا شريكَ له) .
وقال ابنُ مَنْدَه: (ذِكرُ الدَّليلِ على أنَّ المجتهِدَ المُخطئَ في مَعرِفةِ الله عزَّ وجلَّ ووحدانيَّتِه كالمعانِدِ:
قال الله تعالى مخبرًا عن ضلالتِهم ومُعاندتِهم: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف: 103-104] ،
وقال عليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه لَمَّا سُئِلَ عن الأخسَرِينَ أعمالًا، فقال: (كَفَرةُ أهلِ الكِتابِ، كان أوائِلُهم على حقٍّ، فأشركوا برَبِّهم عزَّ وجلَّ، وابتَدَعوا في دِينِهم، وأحدَثوا على أنفُسِهم، فهم يجتَمِعون في الضَّلالةِ، ويَحسَبون أنَّهم على هدًى، ويجتَهِدون في الباطِلِ، ويَحسَبون أنَّهم على حقٍّ، ضَلَّ سعيُهم في الحياةِ الدُّنيا، وهم يَحسَبونَ أنَّهم يُحسِنون صُنعًا!) .
وقال أبو بكرٍ الخوارزميُّ: (بيانُ أنَّ مَعرِفةَ اللهِ تعالى واجبةٌ بالآياتِ الدَّالَّةِ عليها، وإجماعِ الأمَّةِ؛ فأمَّا الآياتُ
فقَولُه تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد: 19] ، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ [الأنفال: 40] ، قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [يونس: 101] ، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [البقرة: 164]
حتى قال العُلَماءُ: نزلت ثلاثُمائةِ آيةٍ في الحثِّ على النَّظَرِ والمَعرِفةِ، والإجماعُ مُنعَقِدٌ على ذلك) .
وقال الحليميُّ: (لا شيءَ أعوَدُ على العاقِلِ مِن مَعرِفةِ اللهِ تعالى بصفاتِه، ومَعرِفةِ ما يُرضيه عنه؛ ليأتيَه) .
وقال اللَّالَكائيُّ: (إنَّ أوجَبَ ما على المرءِ: مَعرِفةُ اعتقادِ الدِّينِ، وما كَلَّف اللهُ به عبادَه؛ مِن فَهمِ توحيدِه وصفاتِه، وتَصديقِ رُسُلِه بالدَّلائِلِ واليقينِ) .
وقال السِّجزيُّ: (اتَّفَق السَّلَفُ على أنَّ مَعرِفةَ اللهِ مِن طَريقِ العَقلِ مُمكِنةٌ غيرُ واجبةٍ، وأنَّ الوُجوبَ من طريقِ السَّمعِ؛ لأنَّ الوعيدَ مقترِنٌ بذلك؛ قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] ) .
وقال البَيهقيُّ: (فَصلٌ في مَعرِفةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ومَعرِفةِ صفاتِه وأسمائِه. حقيقةُ المَعرِفة أنْ نعَرفَه موجودًا قديمًا، لم يَزَلْ ولا يَفنى، أحدًا صَمَدًا شَيئًا واحِدًا) .
وقال الغزاليُّ: (العِلمُ الأشرَفُ ما معلومُه أشرَفُ، وأشرَفُ المعلوماتِ هو اللهُ تعالى؛ فلذلك كانت مَعرِفةُ اللهِ تعالى أفضَلَ المعارِفِ، بل مَعرِفةُ سائِرِ الأشياءِ أيضًا إنَّما تَشرُفُ؛ لأنَّها مَعرِفةٌ لأفعالِ اللهِ عزَّ وجلَّ أو مَعرِفةٌ للطَّريقِ الذي يقرِّبُ العبدَ من اللهِ عزَّ وجلَّ، أو الأمرِ الذي يَسهُلُ به الوصولُ إلى مَعرِفةِ اللهِ تعالى والقُرْبِ منه، وكلُّ مَعرِفةٍ خارجةٍ عن ذلك فليس فيها كثيرُ شَرَفٍ) .
وقال أبو القاسمِ الأصبَهانيُّ: (قال عُلَماءُ السَّلَفِ: أوَّلُ ما افتَرَض اللهُ على عبادِه الإخلاصُ، وهو مَعرِفةُ اللهِ والإقرارُ به، وطاعتُه بما أمَرَ ونهى، وأوَّلُ الفَرْضِ شهادةُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَه لا شريكَ له، وأنَّ محمدًا عبدُه ورَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) .
وقال ابنُ أبي الخير العِمرانيُّ: (أمَرَ اللهُ نبيَّه أن يسألَه زيادةَ علمٍ، فقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه: 114] ، وأجَلُّ المعارفِ المَعرِفةُ باللهِ) .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (مَن عَرَف أسماءَ اللهِ ومَعانيَها وآمَنَ بها، كان إيمانُه أكمَلَ ممَّن لم يَعرِفْ تلك الأسماءَ، بل آمَنَ بها إيمانًا مجمَلًا، أو عَرَف بعضَها، وكلَّما ازداد الإنسانُ مَعرِفةً بأسماءِ اللهِ وصِفاتِه وآياتِه، كان إيمانُه به أكمَلَ) .
وقال أيضًا: (كان أهلُ المَعرِفةِ بالله متَّفِقينَ على أنَّه لا يَتمُّ مَعرِفةُ عبدٍ برَبِّه، ويَتِمُّ قَصدُه له وتوجُّهه إليه ودُعاه له إلَّا بإقرارِه بأنَّه فَوقَ العالَمِ، وأنَّه بإقرارِه بذلك تَثبتُ الإلهيَّةُ في قَلْبِه، ويصيرُ له ربٌّ يَعبُدُه ويَقصِده، وبدون ذلك لا يبقى قَلْبُه مُستَقِرًّا مُطمَئِنًّا إلى إلهٍ يَعبُدُه ويَقصِدُه، بل يبقى عِندَه مِنَ الرَّيبِ والاضطرابِ ما يَجِدُه من جَرَّب قَلْبَه في هذه الأسبابِ، كما قال الشَّيخُ أبو جَعفرٍ الهمذانيُّ: ما قال عارفٌ قطُّ: يا اللهُ، إلَّا وَجَد في قلبِه ضرورةً تَطلُبُ العُلُوَّ، ولا تلتفِتُ يَمنةً ولا يَسْرةً) .
وقال أيضًا مبيِّنًا بَعضَ الطُّرُقِ التي تُنالُ بها مَعرِفةُ الله تعالى: (يجِبُ على من أراد أن يَعرِفَ اللهَ تعالى المَعرِفةَ التامَّةَ أن يفحَصَ عن منافِعِ جَميعِ الموجوداتِ، وأمَّا دلالةُ الاختراعِ فيَدخُلُ فيها وجودُ الحيوانِ كلِّه، ووجودُ النَّباتِ، ووجودُ السَّمواتِ، وهذه الطَّريقةُ تنبني على أصلينِ موجودينِ بالقوَّةِ في جميعِ فِطَرِ النَّاسِ:
أحَدُهما: أنَّ هذه الموجوداتِ مُختَرَعةٌ، وهذا معروفٌ بنَفْسِه في الحيوانِ والنَّباتِ،
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج: 73] الآية؛ فإنَّا نرى أجسامًا جماديَّةً، ثمَّ تحدُثُ فيها الحياةُ، فنعلَمُ قَطعًا أنَّ هاهنا مُوجِدًا للحياةِ ومُنعِمًا بها، وهو اللهُ تبارك وتعالى، وأمَّا السَّمواتُ فنَعلمُ مِن قِبَلِ حَرَكاتِها التي لا تَفتُرُ أنَّها مأمورةٌ بالعنايةِ بما هاهنا، ومُسَخَّرةٌ لنا، والمسخَّرُ المأمورُ، مخترَعٌ مِن قِبَل غَيرِه ضرورةً.
وأمَّا الأصلُ الثَّاني: فهو أنَّ كلَّ مخترَعٍ فله مُخترِعٌ.
فيصحُّ من هذين الأصلَينِ أنَّ للموجودِ فاعِلًا مُخترِعًا له، وفي هذا الجِنسِ دلائِلُ كثيرةٌ على عَدَدِ المختَرَعاتِ؛ ولذلك كان واجبًا على من أراد أن يَعرِفَ اللهَ حَقَّ مَعرِفتِه أن يَعرِفَ جواهِرَ الأشياءِ؛ ليَقِفَ على الاختراعِ الحقيقيِّ في جميعِ الموجوداتِ؛ لأنَّ مَن لم يعرِفْ حقيقةَ الشَّيءِ لم يَعرِفْ حقيقةَ الاختراعِ؛
ولهذا أشار تعالى وتقدَّس بقَولِه: أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ [الأعراف: 185] ،
وكذلك أيضًا مَن تتبَّعَ معنى الحِكمةِ في موجودٍ موجودٍ -أعني: مَعرِفةَ السَّبَبِ الذي من أجْلِه خُلِقَ، والغايةِ المقصودةِ به- كان وقوفُه على دليلِ العنايةِ أتمَّ، فهذان الدَّليلانِ هما دليلا الشَّرعِ.
وأمَّا أنَّ الآياتِ المنبِّهةَ على الأدِلَّةِ المُفضِيةِ إلى وُجودِ الصَّانعِ سُبحانَه في الكِتابِ العزيزِ هي مُنحَصِرةٌ في هذينِ الجِنْسينِ من الأدلَّةِ، فهذا بيِّنٌ لمن تأمَّل الآياتِ الواردةَ في الكِتابِ العزيزِ في هذا المعنى، وذلك أنَّ الآياتِ في الكِتابِ العزيزِ في هذا المعنى إذا تُصُفِّحَت وُجِدَت على ثلاثةِ أنواعٍ:
- إمَّا آياتٌ تتضمَّنُ التَّنبيهَ على دَلالةِ العنايةِ.
- وإمَّا آياتٌ تتضَمَّنُ التَّنبيهَ على دَلالةِ الاختراعِ.
- وإمَّا آياتٌ تَجمَعُ الأمرينِ مِن الدَّلالةِ جَميعًا) .
وقال ابنُ جماعةَ: (عِلمُ التَّوحيدِ عِلمٌ يُعنى بمَعرِفةِ اللهِ تعالى والإيمانِ به، ومَعرِفةِ ما يجِبُ له سُبحانَه وما يستحيلُ عليه، وما يجوزُ، وسائرِ ما هو من أركانِ الإيمانِ الستَّةِ، ويَلحَقُ بها، وهو أشرَفُ العُلومِ وأكرمُها على اللهِ تعالى؛ لأنَّ شَرَفَ العلمِ يَتْبَع شَرَفَ المعلومِ، لكِنْ بشَرطِ ألَّا يَخرُجَ عن مدلولِ الكِتابِ والسُّنَّةِ الصَّحيحةِ، وإجماعِ العُدولِ، وفَهْمِ العُقولِ السَّليمةِ في حُدودِ القَواعدِ الشَّرعيَّةِ، وقواعدِ اللُّغةِ العربيَّةِ الأصيلةِ) .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (لا يَستَقِرُّ للعَبدِ قَدَمٌ في المَعرِفة، بل ولا في الإيمانِ، حتى يؤمِنَ بصفاتِ الرَّبِّ جلَّ جلالُه، ويَعرِفَها مَعرِفةً تُخرِجُه عن حدِّ الجَهلِ برَبِّه، فالإيمانُ بالصِّفاتِ وتعَرُّفُها: هو أساسُ الإسلامِ، وقاعِدةُ الإيمان، وثَمَرةُ شَجرةِ الإحسانِ؛ فمن جَحَد الصِّفاتِ فقد هَدَم أساسَ الإسلامِ والإيمانِ، وثَمَرةَ شَجَرةِ الإحسانِ، فضلًا عن أن يكونَ من أهلِ العِرْفانِ) .
وقال ابنُ رَجَبٍ: (لا صلاحَ للقُلوبِ حتى يستقِرَّ فيها مَعرِفةُ اللهِ وعَظَمتُه ومَحبَّتُه وخَشيتُه ومَهابتُه ورَجاؤُه والتوَكُّلُ عليه، وتمتَلِئَ من ذلك، وهذا هو حقيقةُ التَّوحيدِ، وهو معنى قَولِ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، فلا صلاحَ للقُلوبِ حتى يكونَ إلهُها الذي تألَهُه وتَعرِفُه وتُحبُّه وتخشاه هو اللهَ وَحْدَه لا شريكَ له) .
وقال ابنُ رَجَبٍ أيضًا: (العِلمُ النَّافِعُ يدلُّ على أمرَينِ:
أحَدُهما: على مَعرِفةِ اللهِ، وما يَستَحِقُّه من الأسماءِ الحُسنى، والصِّفاتِ العُلا، والأفعالِ الباهِرةِ، وذلك يَستلزِمُ إجلالَه وإعظامَه، وخَشْيتَه ومهابتَه، ومحبَّته ورجاءَه، والتوكُّلَ عليه، والرِّضا بقَضائهِ، والصَّبرَ على بلائِه.
والأمرُ الثَّاني: المَعرِفةُ بما يحبُّه ويرضاه، وما يَكرَهُه ويَسخَطُه من الاعتِقاداتِ والأعمالِ الظَّاهرةِ والباطِنةِ والأقوالِ، فيُوجِبُ ذلك لِمَن عَلِمَه المسارَعةَ إلى ما فيه محبَّةُ اللهِ ورِضاه، والتَّباعُدَ عما يَكرَهُه ويَسخَطُه، فإذا أثمَرَ العِلمُ لصاحِبِه هذا فهو عِلمٌ نافِعٌ، فمتى كان العِلمُ نافعًا، ووقَرَ في القَلبِ؛ فقد خَشَع القلبُ لله، وانكسَرَ له، وذَلَّ هيبةً وإجلالًا وخَشيةً ومحبَّةً وتعظيمًا، ومتى خَشَع القلبُ لله وذَلَّ وانكسَرَ له قَنَعت النَّفسُ بيسيرِ الحَلالِ مِن الدُّنيا، وشَبِعت به؛ فأوجب لها ذلك القناعةَ والزُّهدَ في الدُّنيا) .
وقال ابنُ الوَزيرِ: (مَعرِفةُ اللهِ جَليَّةٌ في الفِطرةِ، سابقةٌ للشَّكِّ، كما قال تعالى: قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [إبراهيم: 10] ؛ ولذلك قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((كلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفِطرةِ ))... الحديث) .
وقال محمَّدُ بنُ عبدِ الوَهَّابِ: (اعلمْ -رَحِمَك الله- أنَّه يجِبُ علينا تعلُّمُ أربعِ مَسائِلَ.
الأُولى: العِلمُ: وهو مَعرِفةُ اللهِ، ومَعرِفةُ نبيِّه، ومَعرِفةُ دينِ الإسلامِ بالأدلَّةِ.
الثَّانيةُ: العَمَلُ به.
الثَّالِثةُ: الدَّعوةُ إليه.
الرَّابِعةُ: الصَّبرُ على الأذى فيه) .
وقال عبدُ اللهِ أبا بطين: (أفرَضُ العُلومِ: مَعرِفةُ اللهِ سُبحانَه بأسمائِه وصِفاتِه، ومَعرِفةُ حَقِّه على عِبادِه، الذي خَلَق الجِنَّ والإنسَ لأجْلِه، وهو توحيدُ الأُلوهيَّةِ الذي أرسَلَ به جميعَ الرُّسُلِ، وأنزل به جميعَ الكُتُبِ، قال سُبحانَه: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد: 19] ، وقال: فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [هود: 14] أي: واعلَموا أنْ لا إلهَ إلَّا هو، وقال: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ [إبراهيم: 52] ؛ فبَيَّن سُبحانَه أنَّ من الحكمةِ في إنزالِ القُرآنِ لِيعلَمَ النَّاسُ بما فيه من الحُجَجِ والبَراهينِ أنَّه هو المستَحِقُّ للأُلُوهيَّةِ وَحْدَه، ففَرَض على عبادِه العِلمَ بأنَّه الإلهُ وَحْدَه، وأخبَرَ أنَّه ضَمَّن كتابَه من الأدِلَّةِ والبراهينِ ما يَدُلُّ على ذلك، فتعيَّنَ على كلِّ مُكَلَّفٍ مَعرِفةُ لا إلهَ إلَّا اللهُ، الذي هو أصلُ الأُصولِ، وأوجَبُ العُلومِ) .
وقال ابنُ عُثيمين: (مَعرِفةُ اللهِ سُبحانَه وتعالى نوعانِ:...
- مَعرِفةُ وجودٍ ومَعانٍ.
- ومَعرِفةُ كُنْهٍ وحقيقةٍ.
أما مَعرِفةُ الوُجودِ والمعاني فهذا هو المطلوبُ مِنَّا.
وأما مَعرِفةُ الكُنْهِ والحقيقةِ فهذا غيرُ مَطلوبٍ مِنَّا، فلا أحدَ يَعرِفُ حقيقةَ ذاتِ اللهِ سُبحانَه وتعالى، ولا حقيقةَ صِفاتِه، والوصولُ إلى ذلك مُستحيلٌ) .
ثانياً : وجودُ اللهِ
إنَّ وجودَ الله عزَّ وجلَّ أمرٌ فِطْريٌّ، مغروزٌ في النَّفسِ البَشَريَّةِ.
- قال اللهُ تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا... [الأعراف: 172] .
أي: اذكُرْ -يا مُحمَّدُ- حين استخرجَ ربُّك ذريَّةَ بني آدَمَ؛ بَعضَهم من ظهورِ بَعضٍ، وأخرَجَ جميعَ ذلك من صُلبِ آدَمَ؛ ليأخُذَ عليهم العَهدَ فقرَّرَهم على توحيدِه، فقال لهم: ألسْتُ أنا خالِقَكم ومَعبُودَكم؟ فقالوا: قد أقرَرْنا بذلك .
وعن أبي هُريرةَ رَضِي اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لَمَّا خلَقَ اللهُ آدمَ مَسحَ ظَهرَه، فسقَطَ مِن ظَهرِه كُلُّ نَسَمةٍ هو خالِقُها مِن ذُرِّيَّتِه إلى يومِ القيامةِ )) .
وعن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يقولُ اللهُ تعالى لأهوَنِ أهلِ النَّارِ عَذابًا يومَ القيامةِ: لو أنَّ لك ما في الأرضِ مِن شَيءٍ، أكنتَ تَفتَدِي به؟ فيقولُ: نعم، فيقولُ: أردتُ منك أهوَنَ من هذا وأنت في صُلبِ آدَمَ: ألَّا تُشرِكَ بي شيئًا، فأبيتَ إلَّا أن تُشرِكَ بي )) .
وقال ابنُ عاشور في تفسيرِ قَولِه تعالى: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ [الرعد: 20] : (المرادُ به الإيمانُ الذي أخذه اللهُ على الخَلْقِ، المشارُ إليه بقَولِه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ...، فذلك عَهْدُهم ربَّهم. وأيضًا بقَولِه: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي [يس: 60-61] ،
وذلك عَهدُ اللهِ لهم بأن يعبُدوه ولا يعبُدوا غيره، فحصل العهدُ باعتبارِ إضافتِه إلى مفعولِه وإلى فاعِلِه. وذلك أمرٌ أودَعَه اللهُ في فِطرةِ البَشَرِ، فنشأ عليه أصلُهم وتقَلَّده ذُرِّيَّتُه، واستمَرَّ اعترافُهم لله بأنَّه خالقُهم. وذلك من آثارِ عَهدِ اللهِ. وطرأ عليهم بعد ذلك تحريفُ عَهدِهم، فأخذوا يتناسَون وتشتَبِهُ الأمورُ على بعضِهم، فطرأ عليهم الإشراكُ لتفريطِهم النَّظَرَ في دلائِلِ التوحيدِ، ولأنَّه بذلك العَهدِ قد أودع اللهُ في فطرةِ العُقولِ السَّليمةِ دلائِلَ الوحدانيَّةِ لِمن تأمَّل وأسلم للدَّليل،ِ ولكِنَّ المُشرِكين أعرضوا وكابروا ذلك العهدَ القائِمَ في الفطرةِ؛ فلا جَرَمَ أنْ كان الإشراكُ إبطالًا للعَهدِ ونقضًا له؛ ولذلك عُطِفت جملةُ: وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ على جملةِ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ) .
- وقال اللهُ سُبحانَه: قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [إبراهيم: 10] .
قال ابنُ كثيرٍ: (هذا يحتَمِلُ شيئينِ: أحدُهما: أفي وجودِه شَكٌّ؟! فإنَّ الفِطَرَ شاهدةٌ بوُجودِه، ومجبولةٌ على الإقرارِ به؛ فإنَّ الاعترافَ به ضروريٌّ في الفِطَرِ السَّليمةِ... والمعنى الثَّاني: في قَولِهم: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ، أي: أفي إلهيَّتِه وتفرُّدِه بوُجوبِ العِبادةِ له شكٌّ؟! وهو الخالِقُ لجَميعِ الموجوداتِ، ولا يستحِقُّ العبادةَ إلَّا هو وَحدَه لا شَريكَ له؛ فإنَّ غالبَ الأمَم كانت مُقِرَّةً بالصَّانِعِ، ولكِنْ تعبُدُ معه غيرَه من الوَسائطِ التي يظنُّونها تنفَعُهم أو تقَرِّبُهم مِن اللهِ زُلفى) .
وعن عِياضٍ المُجاشِعيِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال فيما يرويه عن ربِّه: ((إنِّي خَلقتُ عبادي حُنَفاءَ كُلَّهم، وإنَّهم أتَتْهم الشيَّاطينُ فاجتالَتْهم عن دينِهم، وحَرَّمَت عليهم ما أحلَلْتُ لهم، وأمرَتْهم أن يُشرِكوا بي ما لم أُنَزِّلْ به سُلْطانًا )) .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما من مولودٍ إلَّا يُولَدُ على الفِطرةِ، فأبواه يُهَوِّدانِه أو يُنَصِّرانِه أو يُمَجِّسانِه، كما تُنتَجُ البهيمةُ بهَيمةً جمعاءَ، هل تُحِسُّون فيها من جَدْعاءَ؟ ))
ثمَّ يقولُ أبو هُريرةَ: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الروم: 30] .
قال أبو الوليد الباجي: (الفِطرةُ في كلامِ العَرَبِ: الخِلْقةُ؛ يقال: فَطَر اللهُ الخَلْقَ، بمعنى: خلَقَهم، وهو في الشَّرعِ: الحالةُ التي خُلِقوا عليها من الإيمانِ والمعرفةِ والإقرارِ بالرُّبوبيَّةِ؛ فمعنى هذا الحديثِ: أنَّ كُلَّ مولودٍ يُولَدُ على الفِطرةِ التي خُلِقَ عليها من الإيمانِ) .
وقال ابنُ الوزيرِ اليماني: (إنَّ اللهَ تعالى قد فَطَر الخَلْقَ على مَعرفتِه، كما قال تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الروم: 30] ، وأوضح ذلك رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وزاده بيانًا بقَولِه: ((كلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفِطرةِ))، واتَّفَق الكُلُّ على صحَّتِه، وهذه الفِطرةُ تقتضي الإيمانَ بنَفْسِها، وتُرجِّحُه على ما ينافيه... فمن قَبِلَها، ولم يُعارِضْها بما هو دُونهَا مِن شُبَهِ المُبطِلين، أثابه اللهُ الزِّيادةَ في إيمانِه، ومَن عصى بعِنادٍ أو تقليدٍ لأبَوَيه أو شُيوخِه، استحَقَّ العُقوبةَ، كما قال تعالى: كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام: 110] ) .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (لا شَكَّ أنَّ الإقرارَ بالرُّبوبيَّةِ أمرٌ فِطْريٌّ، والشِّركَ حادِثٌ طارِئٌ، والأبناءُ تقَلَّدوه عن الآباءِ، فإذا احتجُّوا يومَ القيامةِ بأنَّ الآباءَ أشركوا ونحن جَرَينا على عادتِهم كما يجري النَّاسُ على عادةِ آبائِهم في المطاعِمِ والملابِسِ والمساكنِ،ِ يُقالُ لهم: أنتم كنتُم مُعترفينَ بالصَّانعِ، مُقِرِّين بأنَّ اللهَ رَبُّكم لا شَريكَ له، وقد شَهِدتُم بذلك على أنفُسِكم) .
وقال ابنُ رجَبٍ: (العِبادُ وإن كانوا مَفطورينَ على مَعرِفةِ اللهِ ومحبَّته وتألُّهِه، فإنَّ كُلَّ مولودٍ يُولَدُ على الفِطرةِ، وهي سلامةُ القَلبِ، وقَبولُه وإرادتُه للحَقِّ الذي هو الإسلامُ، وتهيُّؤُه له، لكِنَّهم محتاجون أشدَّ الحاجةِ إلى ما يَحمِلُ به قوَّتَهم العِلْميَّةَ والعَمَليَّةَ، وهو العلِمُ النَّافِعُ والعَمَلُ الصَّالِحُ، وبذلك يَصيرون مُسلِمينَ بالفِعلِ، بعد أن كانوا مُسلِمينَ بالقوَّةِ؛ فلذلك أرسل اللهُ الرُّسُلَ، وأنزل معهم الكُتُبَ؛ ليُرشِدوا الخَلْقَ إلى ما فيه سَعادتُهم وفَلاحُهم في دُنياهم وآخِرتِهم) .
وقال علي القاري: (في فِطرةِ الخَلْقِ إثباتُ وُجودِ الباري... ولهذا لم يُبعَثِ الأنبياءُ إلَّا للتوحيدِ أي: توحيدِ العِبادةِ، لا لإثباتِ وُجودِ الصَّانِعِ) .
ووجودُ الله سُبحانَه ضَرورةٌ عقليَّةٌ، فلا يُمكِنُ لعَقلٍ سَليمٍ صَحيحٍ أن يُنكِرَ وُجودَه.
قال اللهُ تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور: 35].
قال أبو الحَسَنِ الأشعريُّ: (إنَّ القُطنَ لا يجوزُ أن يتحَوَّلَ غَزلًا مفتولًا، ثمَّ ثوبًا منسوجًا بغيرِ ناسجٍ ولا صانعٍ ولا مُدَبِّرٍ، ومن اتَّخَذ قطنًا ثم انتظر أن يصيرَ غزلًا مفتولًا، ثم ثوبًا منسوجًا بغير صانعٍ ولا ناسجٍ، كان عن المعقولِ خارجًا، وفي الجَهلِ والجًا، وكذلك من قصد إلى بَرِّيَّة لم يجد فيها قصرًا مبنيًّا، فانتظر أن يتحوَّلَ الطِّينُ إلى الآجُرِّ، وينتَضِدَ بعضُه على بعضٍ بغيرِ صانعٍ ولا بانٍ، كان جاهلًا، وإذا كان تحوُّلُ النُّطفةِ عَلَقةً، ثمَّ مُضغةً، ثمَّ لحمًا ودمًا وعظمًا؛ أعظَمَ في الأعجوبةِ- كان أَولى أن يدُلُّ على صانعٍ صَنَع النُّطفةَ، ونقَلَها من حالٍ إلى حالٍ، وقد قال اللهُ تعالى: أَفَرَءَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * ءَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَه أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ [الواقعة: 58-59] ، فما استطاعوا أن يقولوا بحُجَّةٍ: إنَّهم يَخُلقون ما يُمْنُون، مع تمنِّيهم الوَلَدَ فلا يكونُ، ومع كراهيتِهم له فيكونُ، وقد قال اللهُ تعالى منبِّهًا لخَلْقِه على وحدانيَّتِه: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21]، بَيَّن لهم عَجْزَهم وفَقْرَهم إلى صانِعٍ صَنَعَهم، ومُدَبِّرٍ دَبَّرَهم) .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (قد عُلِمَ بضَرورةِ العَقلِ أنَّه لا بُدَّ مِن موجودٍ قديمٍ غنيٍّ عمَّا سواه؛ إذ نحن نشاهِدُ حُدوثَ المحدَثاتِ، كالحيوانِ والمعدِنِ والنَّباتِ، والحادِثُ ممكنٌ ليس بواجِبٍ ولا ممتَنِعٍ، وقد عُلِمَ بالاضطرارِ أنَّ المحدَثَ لا بدَّ له من محدِثٍ، والممكِنَ لا بدَّ له من واجبٍ، كما قال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور: 35]، فإذا لم يكونوا خُلِقوا من غيرِ خالِقٍ، ولا هم الخالِقون لأنفُسِهم، تعيَّنَ أنَّ لهم خالقًا خلقَهم) .
وقال ابنُ كثيرٍ في تفسيرِه لهذه الآيةِ الكريمةِ: (هذا المقامُ في إثباتِ الرُّبوبيَّةِ وتوحيدِ الأُلوهيَّةِ... أي: أَوُجِدُوا من غير مُوجِدٍ؟! أم هم أوجَدوا أنفُسَهم؟! أي: لا هذا ولا هذا، بل اللهُ هو الذي خلَقَهم وأنشَأَهم بعد أن لم يكونوا شيئًا مَذكورًا!) .
وقال الكمالُ بنُ الهمامِ بعد أن ذَكَر جُملةً من الآياتِ في خَلْقِ الأرَضينَ والسَّمَاواتِ والإنسانِ والنَّباتِ: (فمن أدار نَظَرَه في عجائِبِ تلك المذكوراتِ اضطرَّه إلى الحُكمِ بأنَّ هذه الأمورَ مع هذا الترتيبِ المحكَمِ الغريبِ، لا يستغني كلٌّ عن صانعٍ أوجَدَه، وحكيمٍ رَتَّبه، وعلى هذا درَجَت كُلُّ العُقلاءِ إلَّا من لا عِبرةَ بمكابَرتِهم) .
وكونُ الخالِقِ والمَخلوقِ يَشتَرِكانِ في صِفةِ الوُجودِ لا يعني أنَّ صِفةَ وُجودِهما واحِدةٌ.
وجودُ الخالقِ غيرُ وجودِ المخلوقِ، فلكُلٍّ منهما ما يناسِبُه ويختَصُّ به، ومن ذلك أنَّ وجودَ اللهِ تعالى لم يسبِقْه عَدَمٌ، ولا يَلحَقُه زوالٌ، بخلافِ جمَيعِ المخلوقاتِ، فهي حادثةٌ بعد أن كانت عدَمًا، ثمَّ مَصيرُها في الدُّنيا إلى فَناءٍ.
قال اللهُ تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد: 3] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: أتت فاطمةُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تسألُه خادِمًا، فقال لها: ((قُولي: اللهمَّ رَبَّ السَّمَواتِ، وربَّ الأرضِ، ورَبَّ العَرْشِ العَظيمِ، ربَّنا ورَبَّ كُلِّ شَيءٍ، فالِقَ الحَبِّ والنَّوى، ومُنزِلَ التَّوراةِ والإنجيلِ والفُرقانِ، أعوذُ بك من شَرِّ كلِّ شَيءٍ أنت آخِذٌ بناصيتِه، اللهمَّ أنت الأوَّلُ فليس قَبْلَك شيءٌ، وأنت الآخِرُ فليس بَعْدَك شيءٌ، وأنت الظَّاهِرُ فليس فوقَك شيءٌ، وأنت الباطِنُ فليس دُونَك شيءٌ؛ اقْضِ عنَّا الدَّينَ، وأغنِنا مِنَ الفَقرِ )) .
قال ابنُ الوزيرِ اليماني عن صِفةِ الوُجودِ والحياةِ: (يُطلَقانِ على اللهِ تعالى على صِفةِ الكَمالِ الذي لا يَستلزِمُ صِفةَ نَقص،ٍ وعلى عِبادِه على وُجوهٍ تَستَلزِمُ جوازَ الفَناءِ والموتِ والمرَضِ، واعتراضَ الآفاتِ والعِلَلِ) .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (إذا كان من المعلومِ بالضَّرورةِ أنَّ في الوُجودِ ما هو قديمٌ واجبٌ بنَفْسِه، وما هو مُحدَثٌ مُمكِنٌ، يَقبلُ الوجودَ والعَدَمَ، فمعلومٌ أن هذا موجودٌ، وهذا موجودٌ، ولا يلزمُ من اتفاقِهما في مسمَّى «الوجودِ» أن يكونَ وجودُ هذا مِثلَ وُجودِ هذا، بل وجودُ هذا يخصُّه، ووجودُ هذا يخصُّه، واتفاقُهما في اسمٍ عامٍّ لا يقتضي تماثُلَهما في مُسَمَّى ذلك الاسمِ عند الإضافةِ والتَّقييدِ والتَّخصيصِ، ولا في غيرِه) .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (كلُّ من نفى صفةً من صِفاتِ اللهِ تعالى؛ لامتِناعِ مسمَّى ذلك في المخلوقِ؛ فإنَّه لا بدَّ أن يُثبِتَ شَيئًا لله تعالى على خِلافِ ما يَعهَدُه حتى في صفةِ الوُجودِ؛ فإنَّ وجودَ العَبدِ كما يليقُ به، ووجودَ الباري تعالى كما يليقُ به، فوجودُه تعالى يَستحيلُ عليه العَدَمُ، ووجودُ المخلوقِ لا يستحيلُ عليه العدَمُ، وما سمَّى به الرَّبُّ نَفْسَه وسمَّى به مخلوقاتِه، مِثلُ الحَيِّ والعَليمِ والقَديرِ، أو سمَّى به بَعضَ صِفاتِه، كالغَضَبِ والرِّضا، وسمَّى به بَعضَ صفاتِ عِبادِه؛ فنحن نعقِلُ بقُلوبِنا معانيَ هذه الأسماءِ في حقِّ اللهِ تعالى، وأنَّه حقٌّ ثابتٌ موجودٌ، ونعقِلُ أيضًا معانيَ هذه الأسماءِ في حقِّ المخلوقِ، ونَعقِلُ أنَّ بيْن المعنيينِ قَدْرًا مُشتَركًا) .
وجاء في فتاوى اللَّجنةِ الدَّائِمةِ: (وجودُ الله معلومٌ من الدِّينِ بالضَّرورةِ، وهو صفةٌ للهِ بإجماعِ المسلِمينَ، بل صفةٌ لله عند جميعِ العُقَلاءِ حتى المشركينَ، لا ينازعُ في ذلك إلَّا ملحِدٌ دَهْريٌّ، ولا يَلزمُ من إثباتِ الوُجودِ صِفةً لله أن يكونَ له مُوجِدٌ؛ لأنَّ الوجودَ نَوعانِ:
الأوَّلُ: وجودٌ ذاتيٌّ، وهو ما كان وجودُه ثابتًا له في نَفْسِه، لا مكسوبًا له من غيرِه، وهذا هو وجودُ الله سُبحانَه وصفاتِه؛ فإنَّ وجودَه لم يسبِقْه عدَمٌ، ولا يلحَقُه عدَمٌ، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد: 3] .
الثَّاني: وجودٌ حادثٍ، وهو ما كان حادِثًا بعد عَدَمٍ، فهذا الذي لا بدَّ له من مُوجِدٍ يُوجِدُه، وخالِقٍ يُحدِثُه، وهو اللهُ سُبحانَه، قال تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [الزمر: 62، 63]،
وقال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ [الطور: 35، 36]، وعلى هذا يوصَفُ اللهُ تعالى بأنَّه موجودٌ، ويُخبَرُ عنه بذلك في الكلامِ، فيقال: اللهُ موجودٌ، وليس الوجودُ اسمًا بل صِفةٌ) .
ولمْ يُعرَفْ التَّظاهُرُ بإنكارِ وُجودِ اللهِ تَعالى في تاريخِ الأُممِ إلَّا عن شِرذِمةٍ قليلةٍ مُكابِرةٍ
قال الشهرستاني: (أمَّا تعطيلُ العالَمِ عن الصَّانِعِ العالِم القادِرِ الحَكيمِ، فلستُ أراها مَقالةً لأحدٍ، ولا أعرفُ عليها صاحِبَ مقالةٍ، إلَّا ما نُقِلَ عن شِرْذِمةٍ قليلةٍ مِن الدَّهريَّةِ أنَّهم قالوا: العالَمُ كان في الأزَلِ أجزاءً مَبثوثةً تتحَرَّكُ على غيرِ استقامةٍ، واصطكَّت اتِّفاقًا؛ فحصل العالَمُ بشَكْلِه الذي تراه عليه!!... ولستُ أرى صاحِبَ هذه المقالةِ مِمَّن يُنكِرُ الصَّانِعَ، بل هو مُعترِفٌ بالصَّانِعِ، لكِنَّه يُحيلُ سبَبَ وُجودِ العالَمِ على البَحثِ والاتِّفاقِ؛ احترازًا عن التَّعليلِ، فما عَدَدتُ هذه المسألةَ مِن النَّظَريَّاتِ التي يُقامُ عليها برهانٌ؛ فإنَّ الفِطَرَ السَّليمةَ الإنسانيَّةَ شَهِدَت بضَرورةِ فِطْرتِها وبَديهةِ فِكرتِها على صانعٍ حكيمٍ عالمٍ قَديرٍ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [إبراهيم: 10] ،
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف: 9] ،
وإن هم غَفَلوا عن هذه الفِطْرةِ في حالِ السَّرَّاءِ فلا شَكَّ أنَّهم يلوذون إليه في حالِ الضَّرَّاءِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [يونس: 22] ... ولهذا لم يَرِدِ التَّكليفُ بمَعرِفةِ وُجودِ الصَّانعِ، وإنَّما ورد بمَعرِفةِ التَّوحيدِ، ونَفْيِ الشَّريكِ) .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (أشهرُ من عُرِفَ تجاهُلُه وتظاهُرُه بإنكارِ الصَّانِعِ فِرعَونُ، وقد كان مُستيقِنًا في الباطِنِ، كما قال له موسى: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء: 102] ... أظهر خلافَ ما في نَفْسِه، كما قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14] ) .
وقد نشَأَت مُصطَلَحاتٌ وطُرُقٌ مُحدَثَةٌ في بابِ ثُبوتِ وُجودِ اللهِ تعالى أحدَثَتها بَعضُ الفِرَقِ المُبتَدِعةِ مِثْلُ الجَهْميَّةِ.
فقد حكى أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ مُجادَلةَ جماعةٍ مِنَ السُّمَنيَّةِ (الذين ينكِرون مِن العِلمِ ما سوى الحِسِّيَّاتِ) للجَهْمِ بنِ صَفوانَ، في وجودِ اللهِ تعالى، فسألُوه إن كان قد عَرَف اللهَ تعالى بشَيءٍ من الحواسِّ الخَمسِ، فتحيَّرَ الجَهمُ فلم يَدْرِ مَن يَعبُدُ أربعينَ يَومًا، ثمَّ استدرك حُجَّة مِثلَ حُجَّةِ زنادقةِ النَّصارى الذين يَزعُمونَ أنَّ الرُّوحَ الذي في عيسى هو رُوحُ اللهِ من ذاتِ اللهِ، فإذا أراد أن يُحدِثَ أمرًا دَخَل في بَعضِ خَلْقِه، فتكلَّم على لِسانِ خَلْقِه، فيأمُرُ بما يشاءُ، وينهى عمَّا يَشاءُ، وهو رُوحٌ غائبةٌ عن الأبصارِ، وتأوَّل بَعضَ آياتِ القُرآنِ، وكذَّب بأحاديثِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وزعم أن َّمن وصف اللهَ بشَيءٍ ممَّا وصَفَ به نفسَه في كتابِه أو حدَّث عنه رسولُه،
كان كافِرًا، وكان مِنَ المشَبِّهةِ، فأضلَّ بكلامِه بَشرًا كثيرًا .
فهذه الموجاتُ الإلحاديَّةُ التي غَزَت العالَمَ الإسلاميَّ كانت من الأسبابِ التي فتحَت بابَ الجدَلِ في وُجودِ اللهِ تعالى، وفي أسمائِه وصِفاتِه، على الطَّريقةِ المُبتَدَعةِ المذمومةِ التي خالفَت مَنهَجَ الكِتابِ والسُّنَّةِ في تقريرِ هذه المسائِلِ بالطَّريقةِ الواضِحةِ الميسَّرةِ المقبولةِ.
قال ابنُ تيميَّةَ مُفَنِّدًا قَولَ من اشتَرَط النَّظَر والاستِدلالَ بالأقيِسَةِ العَقليَّةِ؛ لحُصولِ العِلمِ بالصَّانِعِ: (ليس هذا قولَ أحدٍ من سَلَفِ الأمَّة ولا أئمَّتِها، ولا قاله أحدٌ من الأنبياءِ والمرسَلينَ، ولا هو قَولُ كُلِّ المتكلِّمين، ولا غالِبِهم، بل هذا قولٌ مُحدَثٌ في الإسلامِ، ابتدعه متكَلِّمو المعتَزِلةِ، ونحوُهم من المتكلِّمين الذين اتَّفَق سَلَفُ الأُمَّة وأئمَّتُها على ذَمِّهم، وقد نازعهم في ذلك طوائِفُ من المتكَلِّمين من المُرجِئة، والشِّيعةِ، وغَيرِهم،
وقالوا: بل الإقرارُ بالصَّانِعِ فِطْريٌّ ضَروريٌّ بَديهيٌّ، لا يجِبُ أن يتوقَّفَ على النَّظَرِ والاستِدلالِ، بل قد يقولون: يمتَنِعُ أن يحصُلَ بالقياسِ والنَّظَرِ، وهذا قولُ جماهيِر الفُقَهاءِ والصُّوفيَّةِ وأهلِ الحديثِ والعامَّةِ وغَيرِهم، بل قد اتَّفق سلَفُ الأُمَّة وأئمَّتُها على أنَّ مَعرِفةَ اللهِ والإقرارَ به لا تَقِفُ على هذه الطُّرُقِ التي يذكُرُها أهلُ طريقةِ النَّظَرِ) .
------------------------------------------------------------------------------
التالي : -
-
ثالثاً : أقسامُ التَّوحيدِ
-
تابعونا جزاكم الله خيرا
أمس في 9:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» وجوب التوكل على الله وخده لا شريك له
أمس في 3:26 pm من طرف عبدالله الآحد
» أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 5:24 pm من طرف عبدالله الآحد
» العبادة وأركانها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 2:55 pm من طرف عبدالله الآحد
» الراجح من أقوال العلماء أن جلسة الاستراحة سنة في الصلاة
الإثنين نوفمبر 18, 2024 2:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» -(( 3 -))- خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
الأحد نوفمبر 17, 2024 10:15 pm من طرف صادق النور
» لا يعلم الغيب إلا الله وحده لا شريك له
الأحد نوفمبر 17, 2024 3:12 pm من طرف عبدالله الآحد
» تابع زبدة التوحيد لنعمان بن عبد الكريم الوتر
السبت نوفمبر 16, 2024 2:15 pm من طرف عبدالله الآحد
» هيئات السجود المسنونة
الخميس نوفمبر 14, 2024 3:24 pm من طرف عبدالله الآحد
» (( - 2 -)) خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
الأربعاء نوفمبر 13, 2024 11:28 pm من طرف صادق النور