: المسائِلُ المتعَلِّقةُ بالأسماءِ الحُسْنى :
: قواعِدُ في أسْماءِ اللهِ تعالى :
:أولاً : من قواعِدِ أسْماءِ اللهِ أنَّ أسماءَه كُلَّها حُسْنى :
قال اللهُ تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنى [الأعراف:180] .
أي: لله أحسَنُ الأسماءِ الدالَّةِ على صِفاتِ كمالِه سُبحانَه .
قال ابنُ القَيِّمِ: (أسماؤُه تعالى كُلُّها مَدحٌ وثَناءٌ وتمجيدٌ؛ ولذلك كانت حُسْنى، وصِفاتُه كُلُّها صِفاتُ كمالٍ) .
وقال أيضًا: (أطلَقَ اللهُ على نَفْسِه أفعالًا لم يتسَمَّ منها بأسماءِ الفاعِلِ، كأراد، وشاء، وأحدَثَ، ولم يُسَمَّ بالمُريدِ والشَّائي والمحْدِثِ، كما لم يُسَمِّ نَفْسَه بالصَّانعِ والفاعِلِ والمتْقِنِ وغيرِ ذلك من الأسماءِ التي أطلَقَ على نَفْسِه؛ فبابُ الأفعالِ أوسَعُ مِن بابِ الأسماءِ.
وقد أخطَأَ أقبَحَ خَطَأٍ مَن اشتَقَّ له من كُلِّ فِعلٍ اسمًا، وبَلَغ بأسمائِه زيادةً على الألْفِ، فسَمَّاه الماكِرَ، والمخادِعَ، والفاتِنَ، والكائِدَ، ونحوَ ذلك، وكذلك بابُ الإخبارِ عنه بالاسمِ أوسَعُ من تسميتِه به، فإنَّه يُخبَرُ عنه بأنَّه شَيءٌ، وموجودٌ، ومذكورٌ، ومَعْلُومٌ، ومرادٌ، ولا يُسَمَّى بذلك.
فأمَّا الواجِدُ فلم تَجئْ تَسميتُه به إلَّا في حديثِ تَعدادِ الأسماءِ الحُسْنى، والصَّحيحُ: أنَّه ليس مِن كلامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومعناه صحيحٌ؛ فإنَّه ذو الوُجْدِ والغِنى، فهو أَولى بأنَّ يُسَمَّى به مِن الموجودِ ومِن الموجِدِ؛ أمَّا الموجودُ فإنَّه مُنقَسِمٌ إلى كاملٍ وناقصٍ، وخَيرٍ وشَرٍّ. وما كان مسمَّاه مُنقَسِمًا لم يَدخُلْ اسمُه في الأسماءِ الحُسْنى، كالشَّيءِ، والمَعْلُومِ؛ ولذلك لم يُسَمَّ بالمُريدِ، ولا بالمتكَلِّمِ، وإن كان له الإرادةُ والكلامُ؛ لانقِسامِ مُسَمَّى المريدِ والمتكَلِّمِ، وأمَّا الموجِدُ فقد سَمَّى نَفْسَه بأكمَلِ أنواعِه، وهو الخالِقُ، البارِئُ، المصَوِّرُ، فالموجِدُ كالمحدِثِ والفاعِلِ والصَّانِعِ.
وهذا مِن دقيقِ فِقْهِ الأسماءِ الحُسْنى، فتأمَّلْه، وباللهِ التَّوفيقُ) .
وقال محمَّدُ بنُ إبراهيمَ الوزيرُ: (معنى الأسماءِ الحُسْنى ما يُفيدُ أحسَنَ المَدحِ الحَسَنِ، والوَصفِ الجَميلِ الحَميدِ اللَّائِقِ بالمَلِكِ المَجيدِ؛ لأنَّ الحُسْنى أحسَنُ الأسماءِ لا حَسَنُها) .
وقال أيضًا: (اعلَمْ أنَّ الحُسْنى في اللُّغةِ هو جَمعُ الأحسَنِ، لا جَمعُ الحَسَنِ؛ فإنَّ جَمعَه حِسانٌ وحَسَنةٌ، فأسْماءُ اللهِ التي لا تُحصى، كُلُّها حَسَنةٌ، أي: أحسَنُ الأسماءِ، وهو مِثلُ قَولِه تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [الروم: 27] أي: الكَمالُ الأعظَمُ في ذاتِه وأسمائِه ونُعوتِه؛ فلذلك وَجَب أن تكونَ أسماؤُه أحسَنَ الأسماءِ، لا أن تكونَ حَسَنةً وحِسانًا لا سِوى، وكم بين الحَسَنِ والأحسَنِ مِن التفاوُتِ العظيمِ عَقلًا وشَرعًا ولُغةً وعُرفًا!) .
وقال سُلَيمانُ بنُ عبدِ اللهِ آل الشَّيخِ: (يخبِرُ تعالى أنَّ له أسماءً وَصَفَها بكَونِها حُسْنى، أي: حِسَانٌ. وقد بلَغَت الغايةَ في الحُسْنِ، فلا أحسَنَ منها، كما يَدُلُّ عليه من صِفاتِ الكَمالِ، ونُعوتِ الجَلالِ، فأسماؤُه الدَّالَّةُ على صِفاتِه هي أحسَنُ الأسماءِ وأكمَلُها، فليس في الأسماءِ أحسَنُ منها، ولا يقومُ غَيرُها مَقامَها) .
وقال محمود الألوسي: (والحُسْنى تأنيثُ الأحسَنِ، أفعَلُ تفضيلٍ، ومعنى ذلك أنَّها أحسَنُ الأسماءِ وأجَلُّها؛ لإنبائِها عن أحسَنِ المعاني وأشرَفِها) .
وقال أيضًا: (وَصفُ الأسماءِ بالحُسنى؛ لدَلالتِها على ما هو جامِعٌ لجميعِ صِفاتِ الكَمالِ، بحيث لا يَشِذُّ منها شيءٌ، وما هو من صفاتِ الجَلالِ والجَمالِ والإكرامِ) .
وقال ابنُ عُثَيمين: (أسْماءُ اللهِ كُلُّها حُسْنى، أي: بالغةٌ في الحُسنِ غايتَه؛ لأنَّها متضَمِّنةٌ لصِفاتٍ كامِلةٍ لا نَقْصَ فيها بوَجهٍ مِنَ الوُجوهِ؛ قال اللهُ تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنى [الأعراف: 180] ) .
فمَثَلًا: (الحَيُّ) اسمٌ مِن أسْماءِ اللهِ تعالى، وهو متضَمِّنٌ لصفةِ الحياةِ الكامِلةِ التي لم تُسبَقْ بعَدَمٍ، ولا يَلحَقُها زَوالٌ، وهي حياةٌ مُستلزِمةٌ لكَمالِ الصِّفاتِ؛ مِنَ العِلْمِ، والقُدرةِ، والسَّمعِ، والبَصَرِ، وغَيرِها.
و(العَليمُ) اسمٌ من أسماءِ اللهِ، وهو متضَمِّنٌ للعِلْمِ الكامِلِ، الذي لم يُسبَقْ بجَهلٍ، ولا يَلحَقُه نِسيانٌ، وهو ذو عِلمٍ واسعٍ مُحيطٍ بكُلِّ شَيءٍ جملةً وتفصيلًا.
و(الرَّحمنُ) اسمٌ من أسْماء اللهِ تعالى، وهو مُتَضَمِّنٌ للرَّحمةِ الكامِلةِ.
والحُسُنُ في أسْماء اللهِ تعالى له اعتبارانِ:
1- باعتبارِ كُلِّ اسمٍ على انفِرادِه.
2- باعتبارِ جمعِه مع غَيرِه، فيَحصُلُ بجَمعِ الاسمِ إلى اسمٍ آخَرَ كمالٌ فوقَ كَمالٍ.
ومِثالُ ذلك: (العَزيزُ الحَكيمُ) فإنَّ اللهَ تعالى يجمَعُ بينهما في القُرآنِ كثيرًا، فيكونُ كُلٌّ منهما دالًّا على الكَمالِ الخاصِّ الذي يَقتَضيه، وهو العِزَّةُ في العزيزِ، والحُكْمُ والحِكمةُ في الحكيمِ، والجَمعُ بينهما دالٌّ على كَمالٍ آخَرَ، وهو أنَّ عِزَّتَه تعالى مقرونةٌ بالحِكمةِ، فعِزَّتُه لا تقتضي ظُلمًا وجَورًا وسُوءَ فِعلٍ، كما قد يكونُ مِن أعزَّاءِ المخلوقينَ؛ فإنَّ العزيزَ منهم قد تأخُذُه العِزَّةُ بالإثمِ، فيَظلِمُ ويَجورُ ويُسيءُ التصَرُّفَ، وكذلك حُكمُه تعالى وحِكمتُه مقرونانِ بالعِزِّ الكامِلِ بخلافِ حُكمِ المخلوقِ وحِكمتِه؛ فإنَّهما يَعتريهما الذُّلُّ .
وكلُّ اسمٍ لا يُفيدُ صِفةَ كَمالٍ وجَلالٍ فإنَّه لا يجوزُ إطلاقُه على اللهِ تعالى .
ومن ذلك اسمُ: (الدَّهْر) فهو اسمٌ جامِدٌ لا يتضَمَّنُ معنًى يُلحِقُه بالأسماءِ الحُسْنى، فهو اسمٌ للوَقتِ والزَّمَنِ، كما قال اللهُ تعالى عن مُنكِري البَعثِ: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [الجاثية:24] يريدونَ مُرورَ اللَّيالي والأيَّامِ،
فأمَّا قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: يؤذِيني ابنُ آدمَ؛ يَسُبُّ الدَّهرَ، وأنا الدَّهرُ، بيَدِي الأمرُ أُقَلِّبُ اللَّيلَ والنَّهارَ )) فلا يَدُلُّ على أنَّ الدَّهرَ مِن أسْماءِ اللهِ تعالى؛ وذلك أنَّ الذين يَسُبُّونَ الدَّهرَ إنَّما يُريدونَ الزَّمانَ الذي هو محَلُّ الحوادِثِ، فيكونُ معنى قَولِه: ((وأنا الدَّهرُ)) مُفَسَّرًا بقَولِه: ((بيَدِي الأمرُ أُقَلِّبُ اللَّيلَ والنَّهارَ ))، فهو سُبحانَه خالِقُ الدَّهرِ وما فيه، وقد بَيَّن أنَّه يُقَلِّبُ اللَّيلَ والنَّهارَ، وهما الدَّهرُ، ولا يمكِنُ أن يكونَ المُقلِّبُ -بكَسرِ اللَّامِ- هو المُقلَّبَ -بفَتحهِا- وبهذا تَبيَّنَ أنَّه يمتَنِعُ أن يكونَ الدَّهرُ في هذا الحديثِ مُرادًا به اللهُ تعالى .
وقال سُلَيمانُ بنُ عبدِ اللهِ آل الشَّيخِ: (قَولُه: ((وأنا الدَّهرُ))، قال الخَطَّابيُّ: معناه: أنا صاحِبُ الدَّهرِ، ومُدَبِّرُ الأمورِ التي يَنسُبونَها إلى الدَّهْرِ، فمن سَبَّ الدَّهْرَ مِن أجْلِ أنَّه فاعِلٌ هذه الأمورَ عادَ سَبُّه إلى رَبِّه الذي هو فاعِلُها، وإنَّما الدَّهْرُ زَمانٌ جُعِلَ ظَرفًا لمواقِعِ الأمورِ.
قلتُ: ولهذا قال في الحَديثِ: ((وأنا الدَّهْرُ بيَدِي الأمرُ أقَلِّبُ اللَّيلَ والنَّهارَ)) . وفي روايةٍ لأحمدَ: ((بيَدي اللَّيلُ والنَّهارُ أُجِدُّه وأُبليه، وأذهَبُ بالمُلوكِ)) . وفي روايةٍ: ((لا تَسُبُّوا الدَّهْرَ؛ فإنَّ اللهَ هو الدَّهْرُ، الأيامُ واللَّيالي أجَدِّدُها وأُبلِيها، وآتي بمُلوكٍ بعْدَ مُلوكٍ )) .
قال الحافِظُ: وسَنَدُه صحيحٌ. فقد تَبَيَّنَ بهذا خطَأُ ابنِ حَزمٍ في عَدِّه الدَّهْرَ مِن أسْماءِ اللهِ الحُسْنى، وهذا غَلَطٌ فاحِشٌ، ولو كان كذلك لكان الذين قالوا: وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] مُصيبِينَ) .
ثانياً : : مِن قواعِدِ أسْماءِ اللهِ أنَّ أسماءَه أعلامٌ وأوصافٌ :
فهي أعلامٌ باعتبارِ دَلالتِها على الذَّاتِ.
وهي أوصافٌ باعتبارِ دَلالتِها على المعاني.
وهي بالاعتبارِ الأوَّلِ مُترادِفةٌ؛ لدَلالتِها على مُسَمًّى واحدٍ، وهو اللهُ عزَّ وجَلَّ.
وهي بالاعتبارِ الثَّاني مُتبايِنةٌ؛ لِدَلالةِ كُلِّ واحدٍ منها على معناه الخاصِّ؛ فـ (الحَيُّ، العَليمُ، القَديرُ، السَّميعُ، البصيرُ، الرَّحمنُ، الرَّحيمُ، العزيزُ، الحكيمُ) كُلُّها أسماءٌ لِمُسمًّى واحدٍ، وهو اللهُ سُبحانَه وتعالى، لكِنْ معنى الحَيِّ غيرُ معنى العليمِ، ومعنى العليمِ غيرُ معنى القديرِ، وهكذا.
وإنَّما هي أعلامٌ وأوصافٌ؛ لدَلالةِ القُرآنِ على ذلك، كما في قَولِه تعالى: وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس:107] ، وقَولِه: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ [الكهف:58] ؛
فإنَّ الآيةَ الثَّانيةَ دَلَّت على أنَّ الرَّحيمَ هو المتَّصِفُ بالرَّحمةِ، وأيضًا لإجماعِ أهلِ اللُّغةِ والعُرفِ
على أنَّه لا يقالُ: عليمٌ إلَّا لِمن له عِلمٌ، ولا سميعٌ إلَّا لِمن له سمعٌ، ولا بصيرٌ إلَّا لِمن له بصرٌ، وهذا أمرٌ أبيَنُ مِن أن يحتاجَ إلى دليلٍ، وبهذا يُعلَمُ ضَلالُ مَن سَلَبوا أسْماءَ اللهِ تعالى معانيَها؛ مِن أهلِ التَّعطيلِ،
وقالوا: إنَّ اللهَ تعالى سميعٌ بلا سمعٍ، وبصيرٌ بلا بَصَرٍ، وعزيزٌ بلا عِزَّةٍ، وهكذا!
وعَلَّلوا ذلك بأنَّ ثُبوتَ الصِّفاتِ يَستلزِمُ تعَدُّدَ القُدَماءِ، وهي عِلَّةٌ باطِلةٌ؛ فاللهُ تعالى وَصَفَ نَفْسَه بأوصافٍ كثيرةٍ، مع أنَّه الواحِدُ الأحَدُ، فقال تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [البروج:12-16] ، وقال تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى [الأعلى:1-5] ففي هذه الآياتِ الكريمةِ أوصافٌ كثيرةٌ لِموصوفٍ واحدٍ، ولم يلزَمْ مِن ثُبوتِها تعَدُّدُ القُدَماءِ، وأمَّا العَقلُ؛ فلأنَّ الصِّفاتِ ليست ذواتٍ بائنةً مِن الموصوفِ، حتَّى يَلزَمَ مِن ثُبوتِها التعَدُّدُ! وإنَّما هي مِن صِفاتِ مَن اتَّصَف بها، فهي قائِمةٌ به، فكُلُّ موجودٍ لا بدَّ له من تعَدُّدِ صِفاتِه .
قال نورُ الدين الصَّابوني الحنفي: (لَمَّا اتصف اللهُ تعالى بكَونِه حَيًّا سميعًا، بصيرًا قديرًا... وهذه أسماءٌ مُشتَقَّةٌ من معاني مخصوصةٍ عند أربابِ اللِّسانِ، فإذا أُطلِقَت هذه الأسامي على ذاتٍ، يرادُ إثباتُ مأخَذِ الاشتقاقِ، لا مجَرَّدُ تعريفِ الذَّاتِ) .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (أسْماءُ اللهِ كُلُّها تدُلُّ على مُسَمًّى واحدٍ، فليس دعاؤُه باسمٍ مِن أسمائِه الحُسْنى مضادًّا لدُعائِه باسمٍ آخَرَ، بل الأمرُ، كما قال تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء: 110] ، وكُلُّ اسمٍ مِن أسمائِه يَدُلُّ على الذَّاتِ المُسَمَّاةِ وعلى الصِّفةِ التي تضَمَّنَها الاسمُ؛ كالعليمِ: يَدُلُّ على الذَّاتِ والعِلْمِ، والقديرِ: يَدُلُّ على الذَّاتِ والقُدرةِ، والرَّحيمِ: يَدُلُّ على الذَّاتِ والرَّحمةِ) .
وقال ابنُ حَجَرٍ: (الأسماءُ المذكورةُ فيها بلُغةِ العَرَبِ صِفاتٌ؛ ففي إثباتِ أسمائِه إثباتُ صِفاتِه؛ لأنَّه إذا ثَبَت أنَّه حَيٌّ مَثَلًا فقد وُصِفَ بصِفةٍ زائدةٍ على الذَّاتِ، وهي صِفةُ الحياةِ، ولولا ذلك لوَجَب الاقتصارُ على ما يُنْبِئُ عن وجودِ الذَّاتِ فقط) .
وقال الزَّركشيُّ: (أسْماءُ اللهِ كُلُّها صِفاتٌ له) .
وقال ابنُ حَجَرٍ في شَرحِ الحَديثِ الواردِ في سورةِ الإخلاصِ: (قَولُه: «لأنَّها صِفةُ الرَّحمنِ» . قال ابنُ التِّين: إنَّما قال: إنَّها صِفةُ الرَّحمنِ؛ لأنَّ فيها أسماءَه وصفاتِه، وأسماؤُه مُشتقَّةٌ من صفاتِه) .
وقال محمَّد طاهر الفتني الحنفي: (وأسماءُ اللهِ تعالى أوصافُه، وأوصافُه مدائِحُ له، فأَمَر أن يُدعى بأوصافِه؛ ليكونَ الدَّاعي صادِقًا مادِحًا) .
وقال السَّفارينيُّ: (أسْماءُ اللهِ تعالى كُلُّها اتَّفَقت في دَلالتِها على ذاتِ اللهِ مع تنوُّعِ مَعانيها؛ فهي مُتَّفِقةٌ مُتواطِئةٌ مِن حيثُ الذَّاتُ، مُتباينةٌ مِن جِهةِ الصِّفاتِ، فهي مترادِفةٌ بحَسَبِ الذَّاتِ، مُتبايِنةٌ بحَسَبِ الصِّفاتِ) .
وقال ابنُ باز: (كُلُّ أسْماءِ اللهِ سُبحانَه مُشتَمِلةٌ على صِفاتٍ له سُبحانَه تليقُ به وتُناسِبُ كَمالَه، ولا يُشبِهُه فيها شيءٌ؛ فأسماؤه سُبحانَه أعلامٌ عليه ونعوتٌ له عزَّ وجَلَّ، ومنها: الرَّحمنُ، الرَّحيمُ، العزيزُ، الحكيمُ، المَلِكُ، القُدُّوسُ، السَّلامُ، المؤمِنُ، المُهَيمِنُ، إلى غيرِ ذلك من أسمائِه سُبحانَه الواردةِ في كتابِه الكريمِ، وفي سُنَّةِ رَسولِه الأمينِ؛ فالواجِبُ إثباتُها له سُبحانَه على الوَجهِ اللَّائِقِ بجَلالِه مِن غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غيرِ تكييفٍ ولا تمثيلٍ، وهذا هو معنى قَولِ أئمَّةِ السَّلَفِ؛ كمالكٍ، والثَّوريِّ، والأوزاعيِّ، وغيرِهم: أَمِرُّوها كما جاءت بلا كيفٍ. والمعنى: أنَّ الواجِبَ إثباتُها لله سُبحانَه على الوَجهِ اللَّائِقِ به سُبحانَه، أمَّا كيفيَّتُها فلا يَعلَمُها إلَّا اللهُ سُبحانَه) .
وقال ابنُ عُثَيمين: (كُلُّ اسمٍ مِن أسْماءِ اللهِ يَدُلُّ على صِفةٍ مِن صِفاتِه، بل على صِفَتينِ أحيانًا أو أكثَرَ -ما يلزَمُ مِن إثباتِ الصِّفةِ التي يَدُلُّ عليها الاسمُ-، مِثالُ ذلك: «الخالِق» دَلَّ على صِفةِ الخَلقِ، وصِفةُ الخَلقِ تَستلزِمُ ثُبوتَ صِفةِ العِلْمِ والقُدرةِ، وقد يَدُلُّ الاسمُ على الأثَرِ إذا كان ذلك الاسمُ متعَدِّيًا، مِثالُه: السَّمِيعُ يَدُلُّ على صِفةِ السَّمعِ، ويدُلُّ على أنَّ اللهَ يَسمَعُ كُلَّ صوتٍ يَحدُثُ) .
ثالثاً : : مِن قواعِدِ أسْماءِ اللهِ أنَّ أسماءَه إن دَلَّت على وَصفٍ متعَدٍّ، تضَمَّنَت ثلاثةَ أمورٍ :
أوَّلًا: ثُبوتُ ذلك الاسمِ لله عزَّ وجَلَّ.
ثانيًا: ثُبوتُ الصِّفةِ التي تضَمَّنَها للهِ تعالى.
ثالثا: ثبوتُ حُكمِها ومُقتَضاها.
مثالُ ذلك: (السَّميعُ) يتضَمَّنُ إثباتَ السَّميعِ اسمًا لله تعالى، وإثباتَ السَّمعِ صِفةً له، وإثباتَ حُكمِ ذلك ومُقتَضاه، وهو أنَّه يَسمَعُ السِّرَّ والنَّجوى، كما قال تعالى: وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة:1] .
ومِمَّا يَدخُلُ في إثباتِ حُكمِها ومُقتَضاها استِدلالُ أهْلِ العِلْمِ على سُقوطِ الحَدِّ عن قُطَّاعِ الطَّريقِ بالتَّوبةِ،
بقَولِه تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة:34] ؛ وذلك لأنَّ مُقتَضى هذينِ الاسمَينِ (الغَفور) و(الرَّحيم) أن يكونَ اللهُ تعالى قد غَفَر لهم ذُنوبَهم، ورَحِمَهم بإسقاطِ الحَدِّ عنهم.
وإنْ دَلَّت أسْماءُ اللهِ تعالى على وَصفٍ غيرِ متعَدٍّ؛ فإنَّها تتضَمَّنُ أمرَينِ:
أولًا: ثبوتُ ذلك الاسمِ للهِ عزَّ وجَلَّ.
ثانيًا: ثُبوتُ الصِّفةِ التي تضَمَّنَها للهِ تعالى.
ومِثالُ ذلك: (الحَيُّ) فهو يتضَمَّنُ إثباتَ الحَيِّ اسمًا لله عزَّ وجَلَّ، ويتضَمَّنُ إثباتَ الحياةِ صِفةً له سُبحانَه .
قال ابنُ القَيِّمِ: (أسماءُ الرَّبِّ تبارك وتعالى دالَّةٌ على صِفاتِ كَمالِه، فهي مُشتَقَّةٌ مِن الصِّفاتِ، فهي أسماءٌ، وهي أوصافٌ، وبذلك كانت حُسْنى؛ إذ لو كانت ألفاظًا لا معانيَ فيها لم تكُنْ حُسْنى، ولا كانت دالَّةً على مَدحٍ ولا كمالٍ، ولساغ وقوعُ أسماءِ الانتقامِ والغَضَبِ في مَقامِ الرَّحمةِ والإحسانِ، وبالعكس، فيقال: اللَّهُمَّ إني ظَلَمْتُ نَفْسي، فاغفِرْ لي؛ إنك أنت المنتَقِمُ! واللَّهُمَّ أعطِني؛ فإنَّك أنت الضَّارُّ المانِعُ! ونحو ذلك... لو لم تكن أسماؤُه مُشتَمِلةً على معانٍ وصِفاتٍ لم يَسُغْ أن يُخبَرَ عنه بأفعالِها، فلا يقالُ: يَسمَعُ ويرى، ويَعلَمُ ويَقدِرُ ويُريدُ؛ فإنَّ ثُبوتَ أحكامِ الصِّفاتِ فَرْعُ ثُبوتِها، فإذا انتفى أصلُ الصِّفةِ استحال ثُبوتُ حُكمِها) .
وقال ابنُ باز: (الاسمُ هو اللَّفظُ المشتَمِلُ على الذَّاتِ والمعنى، يقال له: اسمٌ. أمَّا المعنى فقط يقالُ له: وَصفٌ. الرَّحمنُ: هذا يُسَمَّى عَلَمًا اسمًا؛ لأنَّه دالٌّ على الذَّاتِ وعلى الصِّفةِ، وهي الرَّحمةُ.
العَليمُ: اسمٌ؛ لأنَّه دالٌّ على الذَّاتِ وعلى العِلْم، السَّميعُ: اسمٌ؛ لأنَّه دالٌّ على الذَّاتِ وعلى السَّمعِ، البَصيرُ: اسمٌ دالٌّ على الذَّاتِ والبَصَرِ. هذه يقالُ لها: أسماءٌ. أمَّا الصِّفاتُ فالعِلْمُ صِفةٌ، والرَّحمةُ صِفةٌ، والقُدرةُ صِفةٌ، السَّمعُ صِفةٌ.
وهكذا يَجِبُ إمرارُ الجَميعِ كما جاءت، وإثباتُها لله، كما قال أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ، على الوَجهِ اللَّائِقِ بالله سُبحانَه، من غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ. صِفاتُ اللهِ تليقُ به، لا يُشابِهُ خَلْقَه في شيءٍ مِن صِفاتِه جَلَّ وعلا،
كما قال سُبحانَه: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 4] ، وقال: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [النحل: 74] . وقال سُبحانَه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] ) .
وقال ابنُ عُثَيمين: (كُلُّ اسمٍ مِن أسْماءِ اللهِ فإنَّه يَدُلُّ على ذاتِ اللهِ، وعلى الصِّفةِ التي تضَمَّنَها، وعلى الأثَرِ المترَتِّبِ عليه إن كان متعَدِّيًا، ولا يَتِمُّ الإيمانُ بالاسمِ إلَّا بإثباتِ ذلك كُلِّه.
مِثالُ ذلك في غيرِ المتعَدِّي: «العَظيمُ» فلا يَتِمُّ الإيمانُ به حتى نؤمِنَ بإثباتِه اسمًا مِن أسْماءِ اللهِ دالًّا على ذاتِه تعالى، وعلى ما تضَمَّنَه من الصِّفةِ، وهي العَظَمةُ.
ومثالُ ذلك في المتعَدِّي: «الرَّحمنُ» فلا يَتِمُّ الإيمانُ به حتى نؤمِنَ بإثباتِه اسمًا مِن أسْماءِ اللهِ دالًّا على ذاتِه تعالى، وعلى ما تضَمَّنَه من الصِّفةِ، وهي الرَّحمةُ، وعلى ما ترَتَّبَ عليه من أثَرٍ، وهو أنَّه يَرحَمُ مَن يشاءُ) .
رابعاً : : من قواعِدِ أسْماءِ اللهِ أنَّ دَلالةَ أسمائِه على ذاتِه وصِفاتِه تكونُ بالمُطابَقةِ وبالتضَمُّنِ وبالالتِزامِ :
مِثالُ ذلك: اسمُ (الخالق) فهو اسمٌ يَدُلُّ على ذاتِ اللهِ وعلى صِفةِ الخَلْقِ بالمطابَقةِ، ويدُلُّ على الذَّاتِ وَحْدَها، وعلى صِفةِ الخَلقِ وَحْدَها بالتضَمُّنِ، ويدُلُّ على صِفَتَيِ العِلْم والقُدرةِ بالالتزامِ؛ ولهذا لَمَّا ذكَرَ اللهُ خَلْقَ السَّمَواتِ والأرضِ قال: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12] .
واللَّازِمُ مِن قَولِ اللهِ تعالى وقَولِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إذا صَحَّ أن يكونَ لازِمًا، فهو حَقٌّ؛ فكلامُ اللهِ ورَسولِه حَقٌّ، ولازِمُ الحَقِّ حَقٌّ، ولأنَّ اللهَ تعالى عالمٌ بما يكونُ لازمًا مِن كلامِه وكلامِ رَسولِه؛ فيكونُ مُرادًا .
وأسْماءُ اللهِ تعالى دالَّةٌ على المسَمَّى، وهي غيرُ مخلوقةٍ، خِلافًا للجَهْميَّةِ الذين يَقولونَ: أسْماءُ اللهِ مخلوقةٌ، قالوا: لأنَّ الاسمَ غيرُ المسَمَّى، فأسْماءُ اللهِ غيرُه، وما كان غيرُه فهو مخلوقٌ .
وبوَّب البُخاريُّ في كتابِ التَّوحيدِ: بابُ السُّؤالِ بأسْماءِ اللهِ تعالى والاستِعاذةِ بها.
قال ابنُ بطَّالٍ: (غَرَضُه في هذا البابِ أن يُثبِتَ أنَّ الاسمَ هو المسَمَّى في اللهِ، على ما ذَهَب إليه أهلُ السُّنَّةِ... وممَّا يَدُلُّ على أنَّ اسمَ اللهِ هو هو: قَولُه سُبحانَه: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة: 74] أي: سَبِّحْ رَبَّك العظيمَ، ونَزِّهْه بأسمائِه الحُسْنى، ولو كان اسمُه غيرَه لكان اللهُ أمَرَ نبيَّه بتنزيهِ معنًى هو غيرُ اللهِ، وهذا مُستحيلٌ) .
وقال الشَّافعيُّ: (من حَلَف باسمٍ مِن أسْماءِ اللهِ فحَنَثَ، فعليه الكَفَّارةُ؛ لأنَّ اسمَ اللهِ غيرُ مخلوقٍ، ومن حَلَف بالكَعبةِ أو بالصَّفا والمروةِ، فليس عليه الكَفَّارةُ؛ لأنَّه مخلوقٌ، وذلك غيرُ مخلوقٍ) .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (كُلُّ اسمٍ مِن أسْماءِ اللهِ فإنَّه يَستلزِمُ معنى الآخَرِ؛ فإنَّه يَدُلُّ على الذَّاتِ، والذَّاتُ تستلزِمُ معنى الاسمِ الآخَرِ، لكِنْ هذا باللُّزومِ، وأمَّا دَلالةُ كُلِّ اسمٍ على خاصيَّتِه وعلى الذَّاتِ بمَجموعِهما فبالمُطابقةِ، ودَلالتُها على أحَدِهما بالتضَمُّنِ) .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (الاسمُ مِن أسمائِه له دَلالاتٌ؛ دلالةٌ على الذَّاتِ والصِّفةِ بالمطابقِة، ودَلالةٌ على أحَدِهما بالتضَمُّنِ، ودلالةٌ على الصِّفةِ الأُخرى باللُّزومِ) .
وقال أيضًا: (الاسمُ مِن أسمائِه تبارك وتعالى كما يَدُلُّ على الذَّاتِ والصِّفةِ التي اشتُقَّ منها بالمطابقةِ، فإنَّه يَدُلُّ عليه دَلالَتيِن أُخرَيَينِ بالتضَمُّنِ واللُّزومِ، فيدُلُّ على الصِّفةِ بمُفرَدِها بالتضَمُّنِ، وكذلك على الذَّاتِ المجَرَّدةِ عن الصِّفةِ، ويدُلُّ على الصِّفةِ الأخرى باللُّزومِ، فإنَّ اسمَ السَّميعِ يَدُلُّ على ذات الرَّبِّ وسَمْعِه بالمطابقةِ، وعلى الذَّاتِ وَحْدَها وعلى السَّمعِ وَحْدَه بالتضَمُّنِ، ويدُلُّ على اسمِ الحَيِّ وصِفةِ الحياةِ بالالتزامِ، وكذلك سائِرُ أسمائِه وصِفاتِه) .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (الاسمُ يُرادُ به المسَمَّى تارةً، ويرادُ به اللَّفظُ الدَّالُّ عليه أخرى؛ فإذا قُلتَ: قال اللهُ كذا، أو سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِده، ونحو ذلك، فهذا المرادُ به المسَمَّى نَفْسُه. وإذا قُلتَ: اللهُ اسمٌ عربيٌّ، والرحمنُ اسمٌ عربيٌّ، والرَّحيمُ مِن أسْماءِ اللهِ تعالى، ونحو ذلك، فالاسمُ هاهنا هو المرادُ لا المسمَّى، ولا يقالُ غَيرُه؛ لِما في لفظِ الغيرِ مِن الإجمالِ، فإن أُريدَ بالمغايَرةِ أنَّ اللَّفظَ غيرُ المعنى فحَقٌّ، وإن أريدَ أنَّ اللهَ سُبحانَه كان ولا اسمَ له، حتى خَلَق لنَفْسِه أسماءً، أو حتى سَمَّاه خَلْقُه بأسماءٍ مِن صُنْعِهم، فهذا من أعظَمِ الضَّلالِ والإلحادِ في أسْماءِ اللهِ تعالى) .
وقال ابنُ عُثَيمين: (كُلُّ اسمٍ مِن أسْماءِ اللهِ فهو مُتَضَمِّنٌ للصِّفةِ، فإذا كان متعَدِّيًا فهو يتضَمَّنُ الحُكمَ، وإن كان غيرَ متعَدٍّ لم يتضَمَّنْه، وربما يَدُلُّ على أكثَرَ مِن صفةٍ بدَلالةِ الالتزامِ؛ لأنَّ أنواعَ الدَّلالةِ ثلاثةٌ: مُطابَقةٌ، وتضَمُّنٌ، والتزامٌ؛ فـ «المطابَقة»: دلالةُ اللَّفظِ على جميعِ معناه. و«التضَمُّن»: دلالتُه على بعضِ معناه.
و«الالتزام» دلالتُه على لازمٍ خارجٍ، مثلُ «الخالق» من أسماءِ اللهِ؛ دَلالتُه على الذَّاتِ والخَلْقِ: مُطابَقةٌ، ودلالتُه على الذَّاتِ وَحْدَها، أو على الخَلْقِ وَحْدَه: تضَمُّنٌ، ودَلالتُه على العِلْمِ والقُدرةِ: التِزامٌ، فلا يمكِنُ أن يكونَ خالِقًا إلَّا أن يكونَ عالِمًا قادِرًا؛ لأنَّه لا يَخلُقُ مَن لا يَقدِرُ، ولا يَخلُقُ من لا يَعلَمُ؛ فلا بُدَّ أن يكونَ عالِمًا قادِرًا؛
ولهذا قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق: 12] فذَكَر العِلْمَ والقُدرةَ بعد أن ذَكَر أنَّه خَلَق، ولا يمكِنُ أن يكونَ هناك خَلقٌ إلَّا أن يَعلَم كيف يَخلُقُ، ويَقدِرُ على ذلك) .
وقال أيضًا: (كُلُّ اسمٍ مِن أسْماءِ اللهِ فإنَّه يَدُلُّ على ذاتِ اللهِ، وعلى الصِّفةِ التي تضَمَّنَها، وعلى الأثَرِ المترَتِّبِ عليه إن كان متعَدِّيًا، ولا يَتِمُّ الإيمانُ بالاسمِ إلَّا بإثباتِ ذلك كُلِّه.
مثالُ ذلك في غير المتعَدِّي: العظيمُ، فلا يَتِمُّ الإيمانُ به حتَّى تؤمِنَ بإثباتِه اسمًا مِن أسْماءِ اللهِ دالًّا على ذاتِه تعالى وعلى ما تضَمَّنَه مِن الصِّفةِ، وهي العَظَمةُ.
ومِثالُ ذلك في المتعَدِّي: الرَّحمنُ ، فلا يَتِمُّ الإيمانُ به حتَّى تؤمِنَ بإثباتِه اسمًا مِن أسْماءِ اللهِ دالًّا على ذاتِه تعالى وعلى ما تضَمَّنَه مِن الصِّفةِ، وهي الرَّحمةُ، وعلى ما ترَتَّبَ عليه من أثَرٍ وهو أنَّه يَرحَمُ من يشاءُ) .
ohlshW : من قواعِدِ أسْماءِ اللهِ أنَّ أسْماء اللهِ الحُسْنى توقيفيَّةٌ :
يجِبُ الوقوفُ في أسْماءِ اللهِ الحُسْنى على ما جاء به الكِتابُ والسُّنَّةُ، فلا يُزادُ فيها ولا يُنقَصُ؛ لأنَّ العَقْلَ لا يُمكِنُه إدراكُ ما يَستَحِقُّه تعالى من الأسماءِ، فوَجَب الوقوفُ في ذلك على النَّصِّ؛
لِقَولِه تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا [الإسراء:36] ،
وقَولِه: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33] ، ولأنَّ تَسميتَه تعالى بما لم يُسَمِّ به نَفْسَه،
أو إنكارَ ما سَمَّى به نَفْسَه: جنايةٌ في حَقِّه سُبحانَه، فوَجَب سُلوكُ الأدَبِ في ذلك، والاقتِصارُ على ما جاء به النَّصُّ .
قال ابنُ أبي زمنين: (اعلَمْ أنَّ أهلَ العِلمِ باللهِ وبما جاءت به أنبياؤُه ورُسُلُه يَرَونَ الجَهلَ بما لم يخبِرْ به تبارك وتعالى عن نَفْسِه عِلمًا، والعَجْزَ عمَّا لم يَدْعُ إيمانًا، وأنَّهم إنما ينتهون من وَصْفِه بصفاتِه وأسمائِه إلى حيثُ انتهى في كتابِه، وعلى لسانِ نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) .
وقال أبو منصورٍ البغداديُّ: (إنَّ مأخَذَ أسماءِ اللهِ تعالى التوقيفُ عليها؛ إمَّا بالقُرآنِ، وإمَّا بالسُّنَّةِ الصَّحيحةِ، وإمَّا بإجماعِ الأمَّةِ عليه، ولا يجوزُ إطلاقُ اسمٍ عليه من طريقِ القياسِ) .
وقال ابنُ حَزمٍ: (لا يجوزُ أن يُسَمَّى اللهُ تعالى ولا أن يُخبَرَ عنه إلَّا بما سَمَّى به نَفْسَه، أو أخبَرَ به عن نَفْسِه في كتابِه، أو على لِسانِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو صَحَّ به إجماعُ جميعِ أهلِ الإسلامِ المتيقَّنُ، ولا مزيدَ، وحتى وإن كان المعنى صحيحًا فلا يجوزُ أن يُطلَقَ عليه تعالى اللَّفظُ، وقد عَلِمْنا يقينًا أنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ بَنى السَّماءَ،
قال تعالى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [الذاريات: 47]، ولا يجوزُ أن يُسَمَّى "بَنَّاءً"، وأنَّه تعالى خَلَق أصباغَ النَّباتِ والحيوانِ، وأنه تعالى قال: صِبْغَةَ اللَّهِ [البقرة: 138] ، ولا يجوزُ أن يُسَمَّى "صَبَّاغًا"، وهكذا كُلُّ شيءٍ لم يُسَمِّ به نَفْسَه) .
وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: (لا نُسَمِّيه ولا نَصِفُه ولا نُطلِقُ عليه إلَّا ما سَّمى به نَفْسَه، على ما تقَدَّم ذِكْرُنا له من وَصْفِه لنَفْسِه لا شريكَ له، ولا ندفَعُ ما وصف به نَفْسَه؛ لأنَّه دَفعٌ للقُرآنِ) .
وقال البزدوي الحنفي: (أسامي اللهِ تعالى عند أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ توقيفيَّةٌ؛ لأنَّه ليس لأحَدٍ أن يُسَمِّيَ اللهَ تعالى باسمٍ إلَّا أن يأذَنَ اللهُ تعالى له) .
وقال البَغَوي في تفسيرِ قَولِه تعالى وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف: 180] : (قال أهلُ المعاني: الإلحادُ في أسماءِ اللهِ تسميتُه بما لم يتسَمَّ به ولم ينطِقْ به كتابُ اللهِ ولا سُنَّةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وجملتُه أنَّ أسماءَ اللهِ تعالى على التوقيفِ؛ فإنَّه يُسَمَّى جَوادًا ولا يُسَمَّى سَخِيًّا، وإن كان في معنى الجَوادِ،... ويُسَمَّى عالِمًا ولا يُسَمَّى عاقلًا.
وقال تعالى: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء: 142] ، وقال عزَّ وجَلَّ من قائلٍ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران: 54] ، ولا يقالُ في الدُّعاءِ: يا مخادِعُ يا مكَّارُ، بل يُدعى بأسمائِه التي ورد بها التوقيفُ على وَجهِ التعظيمِ، فيُقالُ: يا اللهُ، يا رَحمَنُ يا رَحيمُ، يا عزيزُ يا كريمُ، ونحو ذلك) .
وقال ابن حجر الهيتمي: (أسماءُ اللهِ تعالى توقيفيَّةٌ على الأصَحِّ، فلا يجوزُ اختراعُ اسمٍ أو وصفٍ له تعالى إلَّا بقُرآنٍ، أو خبرٍ صحيحٍ وإن لم يتواتَرْ) .
وقال صنعُ اللهِ الحلبي الحنفي: (أسماؤُه تعالى توقيفيَّةٌ، أي: لا يجوزُ إطلاقُ اسمٍ عليه تعالى، ما لم يَرِدْ شَرْعًا أنَّه من أسمائِه تعالى) .
وقال السَّفارينيُّ: («لكِنَّها» أي: الأسماءُ الحُسْنى «في» القَولِ «الحَقِّ» المعتَمَدِ عند أهلِ الحَقِّ «توقيفيَّةٌ» بنَصِّ الشَّرعِ ووُرودِ السَّمعِ بها. وممَّا يجِبُ أن يُعلَمَ أنَّ عُلَماءَ السُّنَّةِ اتَّفَقوا على جوازِ إطلاقِ الأسماءِ الحُسْنى والصِّفاتِ العُلا على الباري جَلَّ وعلا إذا ورد بها الإذنُ مِن الشَّارعِ، وعلى امتناعِه على ما وَرد المنعُ عنه) .
وقال حافِظٌ الحَكَميُّ: (أسْماءُ اللهِ تعالى كُلُّها توقيفيَّةٌ، لا يُسَمَّى إلَّا بما سَمَّى به نَفْسَه في كِتابِه، أو أطلَقَه عليه رَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكُلُّ فِعلٍ أطلَقَه اللهُ تعالى على نَفْسِه فهو فيما أُطلِقَ فيه مَدحٌ وكَمالٌ، ولكِنْ ليس كُلُّها وَصَف اللهُ به نَفْسَه مُطلَقًا، ولا كُلُّها يُشتَقُّ منها أسماءٌ، بل منها ما وَصَف به نَفْسَه مُطلقًا،
كقَولِه تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [الروم: 40] ، وسَمَّى نَفْسَه الخالِقَ الرَّازِقَ المُحييَ المُميتَ المدَبِّرَ، ومنها أفعالٌ أطلقَها اللهُ تعالى على نَفْسِه على سَبيلِ الجَزاءِ والمُقابَلةِ، وهي فيما سِيقَت له مَدحٌ وكَمالٌ، كقَولِه تعالى: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء: 142] ، وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران: 54] ، نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التَّوبة: 67] ، ولكِنْ لا يجوزُ إطلاقُها على اللهِ في غيرِ ما سيقَت فيه مِن الآياتِ؛ فلا يقالُ: إنَّه تعالى يَمكُرُ ويخادِعُ ويَستَهزِئُ، ونحوُ ذلك، وكذلك لا يُقالُ: ماكِرٌ، مخادِعٌ، مُستَهزِئٌ، ولا يَقولُه مُسلِمٌ ولا عاقِلٌ؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ لم يَصِفْ نَفْسَه بالمكرِ والكيدِ والخِداعِ إلَّا على وَجهِ الجَزاءِ لِمن فَعَل ذلك بغيرِ حَقٍّ، وقد عُلِمَ أنَّ المجازاةَ على ذلك بالعَدلِ حَسَنةٌ مِن المخلوقِ، فكيف مِنَ الخَلَّاقِ العَليمِ العَدْلِ الحَكيمِ؟!) .
وقال ابنُ عُثَيمين: (لا يجوزُ تسميةُ اللهِ تعالى أو وَصْفُه بما لم يأتِ في الكِتابِ والسُّنَّةِ؛ لأنَّ ذلك قَولٌ على اللهِ تعالى بلا عِلمٍ، وقد قال اللهُ تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33] ، وقال: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء: 36] ) .
سابعاً :: مِن قواعِدِ أسْماءِ اللهِ عَدَمُ الإلحادِ فيها :
قال اللهُ تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف: 180] .
قال القُرطبي: (فيه مسألتان: الأولى: قَولُه تعالى: يُلْحِدُونَ... والإلحادُ يكونُ بثلاثةِ أوجُهٍ: أحَدُها: بالتغييرِ فيها، كما فعله المشركون، وذلك أنهم عدَلوا بها عمَّا هي عليه، فسَمَّوا بها أوثانَهم، فاشتَقُّوا اللَّاتَ مِنَ اللهِ، والعُزَّى من العزيزِ، ومناةَ مِنَ المنَّانِ. قاله ابنُ عَبَّاسٍ وقتادةُ.
الثاني: بالزيادةِ فيها. الثالثُ: بالنُّقصانِ منها، كما يفعله الجُهَّالُ الذين يخترعون أدعيةً يُسَمُّون فيها اللهَ تعالى بغيرِ أسمائِه، ويَذكُرون بغيرِ ما يُذكَرُ من أفعالِه، إلى غيرِ ذلك ممَّا لا يليقُ به... الثانية: معنى الزِّيادةِ في الأسماءِ التشبيهُ، والنُّقصانُ التعطيلُ) .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (فالأصلُ في هذا البابِ أن يُوصَفَ اللهُ بما وَصَف به نَفْسَه، وبما وصَفَتْه به رُسُلُه نفيًا وإثباتًا؛ فيُثبِتُ للهِ ما أثبَتَه لنَفْسِه، وينفي عنه ما نفاه عن نَفْسِه. وقد عُلِمَ أنَّ طَريقةَ سَلَفِ الأُمَّةِ وأئمَّتِها إثباتُ ما أثبَتَه من الصِّفاتِ، مِن غيرِ تكييفٍ ولا تمثيلٍ، ومِن غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، وكذلك يَنْفونَ عنه ما نفاه عن نَفْسِه، مع إثباتِ ما أثبَتَه من الصِّفاتِ، مِن غيرِ إلحادٍ لا في أسمائِه ولا في آياتِه؛ فإنَّ اللهَ تعالى ذمَّ الذين يُلحِدونَ في أسمائِه وآياتِه،
كما قال تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف: 180] ،
وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت: 40] الآية. فطريقتُهم تتضَمَّنُ إثباتَ الأسماءِ والصِّفاتِ مع نَفْيِ مماثَلةِ المخلوقاتِ؛ إثباتًا بلا تشبيهٍ، وتنزيهًا بلا تعطيلٍ، كما قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] . ففي قَولِه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ردٌّ للتَّشبيهِ والتَّمثيلِ، وقَولِه: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ردٌّ للإلحادِ والتعطيلِ) .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (الإلحادُ في أسمائِه هو العدولُ بها وبحقائِقِها ومعانيها عن الحَقِّ الثَّابِتِ لها، وهو مأخوذٌ مِن المَيلِ) .
وقال أيضًا: (نَفْيُ معاني أسمائِه الحُسْنى من أعظَمِ الإلحادِ فيها؛
قال تعالى: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف: 180] ، ولأنَّها لو لم تَدُلَّ على معانٍ وأوصافٍ لم يَجُزْ أن يُخبَرَ عنها بمصادِرِها ويُوصَفَ بها، لكِنَّ اللهَ أخبَرَ عن نَفْسِه بمصادِرِها، وأثبَتَها لنَفْسِه، وأثبَتَها له رَسولُه،
كقَولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 58]، فعُلِمَ أنَّ القَوِيَّ مِن أسمائِه، ومعناه: الموصوفُ بالقُوَّةِ، وكذلك قَولُه: فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [فاطر: 10] ، فالعزيزُ من له العِزَّةُ، فلولا ثُبوتُ القُوَّةِ والعِزَّةِ له لم يُسَمَّ قَوِيًّا ولا عزيزًا،
وكذلك قَولُه: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء: 166] ، فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ [هود: 14] ، وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [البقرة: 255] .
وفي الصَّحيحِ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ لا ينامُ، ولا ينبغي له أن ينامَ، يَخفِضُ القِسْطَ ويَرفَعُه، يُرفَعُ إليه عَمَلُ اللَّيلِ قَبلَ النَّهارِ، وعَمَلُ النَّهارِ قبل اللَّيلِ، حِجابُه النُّورُ، لو كَشَفَه لأحرَقَت سُبُحاتُ وَجْهِه ما انتهى إليه بَصَرُه مِنْ خَلْقِه )) ؛ فأثبت المصدَرَ الذي اشتُقَّ منه اسمُه البصيرُ) .
وقال أبو السُّعودِ في تفسيرِ قَولِه تعالى: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف: 180] : (أي: يَميلون في شَأنِها عن الحَقِّ إلى الباطِلِ، إمَّا بأن يُسَمُّوه تعالى بما لا توقيفَ فيه،
أو بما يوهِمُ معنًى فاسدًا، كما في قَولِ أهلِ البَدْوِ: يا أبا المكارِمِ، يا أبيضَ الوَجهِ... وإمَّا بأن يَعدِلوا عن تسميتِه تعالى ببعضِ أسمائِه الكريمةِ، كما قالوا: وما الرَّحمنُ؟ ما نَعرِفُ سِوى رحمانِ اليمامةِ... وإمَّا بأن يُطلِقوها على غيرِه تعالى كما سَمَّوا أصنامَهم آلهةً، وإمَّا بأن يَشتَقُّوا من بعضِها أسماءَ أصنامِهم، كما اشتقُّوا اللَّاتَ مِنَ اللهِ، والعُزَّى من العزيزِ) .
وقال سُلَيمانُ بنُ عبدِ اللهِ آل الشَّيخِ: (قَولُه: يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف:180] يُشرِكونَ، أي: يُشرِكونَ غَيرَه في أسمائِه، كتَسميتِهم الصَّنَمَ إلهًا، ويحتَمِلُ أنَّ المرادَ الشِّرْكُ في العبادةِ؛ لأنَّ أسماءَه تعالى تدُلُّ على التَّوحيدِ، فالإشراكُ بغيرِه إلحادٌ في معاني أسمائِه سُبحانَه وتعالى، لا سِيَّما مع الإقرارِ بها، كما كانوا يُقِرُّونَ باللهِ ويَعبُدونَ غَيرَه، فهذا الاسمُ وَحْدَه أعظَمُ الأدِلَّةِ على التَّوحيدِ، فمَن عَبَد غَيرَه فقد ألحَدَ في هذا الاسمِ، وعلى هذا بقيَّةُ الأسماءِ) .
والإلحادُ في أسْماءِ اللهِ أنواعٌ:
1- أن يُسَمَّى الأصنامُ بها، كتَسميتِهم اللَّاتَ مِنَ الإلهِ، والعُزَّى مِنَ العَزيزِ.
2- تَسميتُه بما لا يليقُ بجَلالِه، كتَسميةِ النَّصارى له أبًا، وتسميةِ الفلاسِفةِ له مُوجِبًا بذاتِه، أو عِلَّةً فاعِلةً بالطَّبعِ، ونحوِ ذلك.
3- وَصْفُه بما يتعالى عنه ويتقَدَّسُ مِن النَّقائِصِ؛ كقَولِ اليَهودِ: إنَّه فقيرٌ، وقَولِهم: إنَّه استراحَ بعد أنْ خَلَق خَلْقَه، وقَولِهم: يَدُ اللهِ مَغلولةٌ.
4- تعطيلُ الأسماءِ عن معانيها وجَحْدُ حقائِقِها، كقَولِ من يَقولُ مِنَ الجَهْميَّةِ وأتباعِهم: إنَّها ألفاظٌ مُجَرَّدةٌ لا تتضَمَّنُ صِفاتٍ ولا معانيَ، فيُطلِقونَ عليه اسمَ السَّميعِ، والبَصيرِ، والحَيِّ، والرَّحيمِ، والمتكَلِّمِ، والمريدِ، ويَقولون: لا حياةَ له، ولا سَمْعَ، ولا بَصَرَ، ولا كلامَ، ولا إرادةَ تقومُ به. وهذا من أعظَمِ الإلحادِ فيها عَقلًا وشَرعًا ولُغةً وفِطرةً!
وهو يُقابِلُ إلحادَ المُشرِكينَ؛ فإنَّ أولئك أعطَوا أسماءَه وصِفاتِه لآلهتِهم، وهؤلاء سَلَبوه صِفاتِ كَمالِه وجَحَدوها وعَطَّلوها؛ فكِلاهما مُلحِدٌ في أسمائِه.
5- تَشبيهُ صِفاتِه بصِفاتِ خَلْقِه، تعالى اللهُ عمَّا يَقولُ المُشَبِّهونَ عُلُوًّا كبيرًا .
--------------------------------------------------------------------------
التالي : -
-
: المسائِلُ المتعَلِّقةُ بالأسماءِ الحُسْنى :
-
: أسْماءُ اللهِ الحُسْنى :
-
تابعونا جزاكم الله خيرا ولا تنسونا من صالح دعائكم
: قواعِدُ في أسْماءِ اللهِ تعالى :
:أولاً : من قواعِدِ أسْماءِ اللهِ أنَّ أسماءَه كُلَّها حُسْنى :
قال اللهُ تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنى [الأعراف:180] .
أي: لله أحسَنُ الأسماءِ الدالَّةِ على صِفاتِ كمالِه سُبحانَه .
قال ابنُ القَيِّمِ: (أسماؤُه تعالى كُلُّها مَدحٌ وثَناءٌ وتمجيدٌ؛ ولذلك كانت حُسْنى، وصِفاتُه كُلُّها صِفاتُ كمالٍ) .
وقال أيضًا: (أطلَقَ اللهُ على نَفْسِه أفعالًا لم يتسَمَّ منها بأسماءِ الفاعِلِ، كأراد، وشاء، وأحدَثَ، ولم يُسَمَّ بالمُريدِ والشَّائي والمحْدِثِ، كما لم يُسَمِّ نَفْسَه بالصَّانعِ والفاعِلِ والمتْقِنِ وغيرِ ذلك من الأسماءِ التي أطلَقَ على نَفْسِه؛ فبابُ الأفعالِ أوسَعُ مِن بابِ الأسماءِ.
وقد أخطَأَ أقبَحَ خَطَأٍ مَن اشتَقَّ له من كُلِّ فِعلٍ اسمًا، وبَلَغ بأسمائِه زيادةً على الألْفِ، فسَمَّاه الماكِرَ، والمخادِعَ، والفاتِنَ، والكائِدَ، ونحوَ ذلك، وكذلك بابُ الإخبارِ عنه بالاسمِ أوسَعُ من تسميتِه به، فإنَّه يُخبَرُ عنه بأنَّه شَيءٌ، وموجودٌ، ومذكورٌ، ومَعْلُومٌ، ومرادٌ، ولا يُسَمَّى بذلك.
فأمَّا الواجِدُ فلم تَجئْ تَسميتُه به إلَّا في حديثِ تَعدادِ الأسماءِ الحُسْنى، والصَّحيحُ: أنَّه ليس مِن كلامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومعناه صحيحٌ؛ فإنَّه ذو الوُجْدِ والغِنى، فهو أَولى بأنَّ يُسَمَّى به مِن الموجودِ ومِن الموجِدِ؛ أمَّا الموجودُ فإنَّه مُنقَسِمٌ إلى كاملٍ وناقصٍ، وخَيرٍ وشَرٍّ. وما كان مسمَّاه مُنقَسِمًا لم يَدخُلْ اسمُه في الأسماءِ الحُسْنى، كالشَّيءِ، والمَعْلُومِ؛ ولذلك لم يُسَمَّ بالمُريدِ، ولا بالمتكَلِّمِ، وإن كان له الإرادةُ والكلامُ؛ لانقِسامِ مُسَمَّى المريدِ والمتكَلِّمِ، وأمَّا الموجِدُ فقد سَمَّى نَفْسَه بأكمَلِ أنواعِه، وهو الخالِقُ، البارِئُ، المصَوِّرُ، فالموجِدُ كالمحدِثِ والفاعِلِ والصَّانِعِ.
وهذا مِن دقيقِ فِقْهِ الأسماءِ الحُسْنى، فتأمَّلْه، وباللهِ التَّوفيقُ) .
وقال محمَّدُ بنُ إبراهيمَ الوزيرُ: (معنى الأسماءِ الحُسْنى ما يُفيدُ أحسَنَ المَدحِ الحَسَنِ، والوَصفِ الجَميلِ الحَميدِ اللَّائِقِ بالمَلِكِ المَجيدِ؛ لأنَّ الحُسْنى أحسَنُ الأسماءِ لا حَسَنُها) .
وقال أيضًا: (اعلَمْ أنَّ الحُسْنى في اللُّغةِ هو جَمعُ الأحسَنِ، لا جَمعُ الحَسَنِ؛ فإنَّ جَمعَه حِسانٌ وحَسَنةٌ، فأسْماءُ اللهِ التي لا تُحصى، كُلُّها حَسَنةٌ، أي: أحسَنُ الأسماءِ، وهو مِثلُ قَولِه تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [الروم: 27] أي: الكَمالُ الأعظَمُ في ذاتِه وأسمائِه ونُعوتِه؛ فلذلك وَجَب أن تكونَ أسماؤُه أحسَنَ الأسماءِ، لا أن تكونَ حَسَنةً وحِسانًا لا سِوى، وكم بين الحَسَنِ والأحسَنِ مِن التفاوُتِ العظيمِ عَقلًا وشَرعًا ولُغةً وعُرفًا!) .
وقال سُلَيمانُ بنُ عبدِ اللهِ آل الشَّيخِ: (يخبِرُ تعالى أنَّ له أسماءً وَصَفَها بكَونِها حُسْنى، أي: حِسَانٌ. وقد بلَغَت الغايةَ في الحُسْنِ، فلا أحسَنَ منها، كما يَدُلُّ عليه من صِفاتِ الكَمالِ، ونُعوتِ الجَلالِ، فأسماؤُه الدَّالَّةُ على صِفاتِه هي أحسَنُ الأسماءِ وأكمَلُها، فليس في الأسماءِ أحسَنُ منها، ولا يقومُ غَيرُها مَقامَها) .
وقال محمود الألوسي: (والحُسْنى تأنيثُ الأحسَنِ، أفعَلُ تفضيلٍ، ومعنى ذلك أنَّها أحسَنُ الأسماءِ وأجَلُّها؛ لإنبائِها عن أحسَنِ المعاني وأشرَفِها) .
وقال أيضًا: (وَصفُ الأسماءِ بالحُسنى؛ لدَلالتِها على ما هو جامِعٌ لجميعِ صِفاتِ الكَمالِ، بحيث لا يَشِذُّ منها شيءٌ، وما هو من صفاتِ الجَلالِ والجَمالِ والإكرامِ) .
وقال ابنُ عُثَيمين: (أسْماءُ اللهِ كُلُّها حُسْنى، أي: بالغةٌ في الحُسنِ غايتَه؛ لأنَّها متضَمِّنةٌ لصِفاتٍ كامِلةٍ لا نَقْصَ فيها بوَجهٍ مِنَ الوُجوهِ؛ قال اللهُ تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنى [الأعراف: 180] ) .
فمَثَلًا: (الحَيُّ) اسمٌ مِن أسْماءِ اللهِ تعالى، وهو متضَمِّنٌ لصفةِ الحياةِ الكامِلةِ التي لم تُسبَقْ بعَدَمٍ، ولا يَلحَقُها زَوالٌ، وهي حياةٌ مُستلزِمةٌ لكَمالِ الصِّفاتِ؛ مِنَ العِلْمِ، والقُدرةِ، والسَّمعِ، والبَصَرِ، وغَيرِها.
و(العَليمُ) اسمٌ من أسماءِ اللهِ، وهو متضَمِّنٌ للعِلْمِ الكامِلِ، الذي لم يُسبَقْ بجَهلٍ، ولا يَلحَقُه نِسيانٌ، وهو ذو عِلمٍ واسعٍ مُحيطٍ بكُلِّ شَيءٍ جملةً وتفصيلًا.
و(الرَّحمنُ) اسمٌ من أسْماء اللهِ تعالى، وهو مُتَضَمِّنٌ للرَّحمةِ الكامِلةِ.
والحُسُنُ في أسْماء اللهِ تعالى له اعتبارانِ:
1- باعتبارِ كُلِّ اسمٍ على انفِرادِه.
2- باعتبارِ جمعِه مع غَيرِه، فيَحصُلُ بجَمعِ الاسمِ إلى اسمٍ آخَرَ كمالٌ فوقَ كَمالٍ.
ومِثالُ ذلك: (العَزيزُ الحَكيمُ) فإنَّ اللهَ تعالى يجمَعُ بينهما في القُرآنِ كثيرًا، فيكونُ كُلٌّ منهما دالًّا على الكَمالِ الخاصِّ الذي يَقتَضيه، وهو العِزَّةُ في العزيزِ، والحُكْمُ والحِكمةُ في الحكيمِ، والجَمعُ بينهما دالٌّ على كَمالٍ آخَرَ، وهو أنَّ عِزَّتَه تعالى مقرونةٌ بالحِكمةِ، فعِزَّتُه لا تقتضي ظُلمًا وجَورًا وسُوءَ فِعلٍ، كما قد يكونُ مِن أعزَّاءِ المخلوقينَ؛ فإنَّ العزيزَ منهم قد تأخُذُه العِزَّةُ بالإثمِ، فيَظلِمُ ويَجورُ ويُسيءُ التصَرُّفَ، وكذلك حُكمُه تعالى وحِكمتُه مقرونانِ بالعِزِّ الكامِلِ بخلافِ حُكمِ المخلوقِ وحِكمتِه؛ فإنَّهما يَعتريهما الذُّلُّ .
وكلُّ اسمٍ لا يُفيدُ صِفةَ كَمالٍ وجَلالٍ فإنَّه لا يجوزُ إطلاقُه على اللهِ تعالى .
ومن ذلك اسمُ: (الدَّهْر) فهو اسمٌ جامِدٌ لا يتضَمَّنُ معنًى يُلحِقُه بالأسماءِ الحُسْنى، فهو اسمٌ للوَقتِ والزَّمَنِ، كما قال اللهُ تعالى عن مُنكِري البَعثِ: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [الجاثية:24] يريدونَ مُرورَ اللَّيالي والأيَّامِ،
فأمَّا قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: يؤذِيني ابنُ آدمَ؛ يَسُبُّ الدَّهرَ، وأنا الدَّهرُ، بيَدِي الأمرُ أُقَلِّبُ اللَّيلَ والنَّهارَ )) فلا يَدُلُّ على أنَّ الدَّهرَ مِن أسْماءِ اللهِ تعالى؛ وذلك أنَّ الذين يَسُبُّونَ الدَّهرَ إنَّما يُريدونَ الزَّمانَ الذي هو محَلُّ الحوادِثِ، فيكونُ معنى قَولِه: ((وأنا الدَّهرُ)) مُفَسَّرًا بقَولِه: ((بيَدِي الأمرُ أُقَلِّبُ اللَّيلَ والنَّهارَ ))، فهو سُبحانَه خالِقُ الدَّهرِ وما فيه، وقد بَيَّن أنَّه يُقَلِّبُ اللَّيلَ والنَّهارَ، وهما الدَّهرُ، ولا يمكِنُ أن يكونَ المُقلِّبُ -بكَسرِ اللَّامِ- هو المُقلَّبَ -بفَتحهِا- وبهذا تَبيَّنَ أنَّه يمتَنِعُ أن يكونَ الدَّهرُ في هذا الحديثِ مُرادًا به اللهُ تعالى .
وقال سُلَيمانُ بنُ عبدِ اللهِ آل الشَّيخِ: (قَولُه: ((وأنا الدَّهرُ))، قال الخَطَّابيُّ: معناه: أنا صاحِبُ الدَّهرِ، ومُدَبِّرُ الأمورِ التي يَنسُبونَها إلى الدَّهْرِ، فمن سَبَّ الدَّهْرَ مِن أجْلِ أنَّه فاعِلٌ هذه الأمورَ عادَ سَبُّه إلى رَبِّه الذي هو فاعِلُها، وإنَّما الدَّهْرُ زَمانٌ جُعِلَ ظَرفًا لمواقِعِ الأمورِ.
قلتُ: ولهذا قال في الحَديثِ: ((وأنا الدَّهْرُ بيَدِي الأمرُ أقَلِّبُ اللَّيلَ والنَّهارَ)) . وفي روايةٍ لأحمدَ: ((بيَدي اللَّيلُ والنَّهارُ أُجِدُّه وأُبليه، وأذهَبُ بالمُلوكِ)) . وفي روايةٍ: ((لا تَسُبُّوا الدَّهْرَ؛ فإنَّ اللهَ هو الدَّهْرُ، الأيامُ واللَّيالي أجَدِّدُها وأُبلِيها، وآتي بمُلوكٍ بعْدَ مُلوكٍ )) .
قال الحافِظُ: وسَنَدُه صحيحٌ. فقد تَبَيَّنَ بهذا خطَأُ ابنِ حَزمٍ في عَدِّه الدَّهْرَ مِن أسْماءِ اللهِ الحُسْنى، وهذا غَلَطٌ فاحِشٌ، ولو كان كذلك لكان الذين قالوا: وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] مُصيبِينَ) .
ثانياً : : مِن قواعِدِ أسْماءِ اللهِ أنَّ أسماءَه أعلامٌ وأوصافٌ :
فهي أعلامٌ باعتبارِ دَلالتِها على الذَّاتِ.
وهي أوصافٌ باعتبارِ دَلالتِها على المعاني.
وهي بالاعتبارِ الأوَّلِ مُترادِفةٌ؛ لدَلالتِها على مُسَمًّى واحدٍ، وهو اللهُ عزَّ وجَلَّ.
وهي بالاعتبارِ الثَّاني مُتبايِنةٌ؛ لِدَلالةِ كُلِّ واحدٍ منها على معناه الخاصِّ؛ فـ (الحَيُّ، العَليمُ، القَديرُ، السَّميعُ، البصيرُ، الرَّحمنُ، الرَّحيمُ، العزيزُ، الحكيمُ) كُلُّها أسماءٌ لِمُسمًّى واحدٍ، وهو اللهُ سُبحانَه وتعالى، لكِنْ معنى الحَيِّ غيرُ معنى العليمِ، ومعنى العليمِ غيرُ معنى القديرِ، وهكذا.
وإنَّما هي أعلامٌ وأوصافٌ؛ لدَلالةِ القُرآنِ على ذلك، كما في قَولِه تعالى: وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس:107] ، وقَولِه: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ [الكهف:58] ؛
فإنَّ الآيةَ الثَّانيةَ دَلَّت على أنَّ الرَّحيمَ هو المتَّصِفُ بالرَّحمةِ، وأيضًا لإجماعِ أهلِ اللُّغةِ والعُرفِ
على أنَّه لا يقالُ: عليمٌ إلَّا لِمن له عِلمٌ، ولا سميعٌ إلَّا لِمن له سمعٌ، ولا بصيرٌ إلَّا لِمن له بصرٌ، وهذا أمرٌ أبيَنُ مِن أن يحتاجَ إلى دليلٍ، وبهذا يُعلَمُ ضَلالُ مَن سَلَبوا أسْماءَ اللهِ تعالى معانيَها؛ مِن أهلِ التَّعطيلِ،
وقالوا: إنَّ اللهَ تعالى سميعٌ بلا سمعٍ، وبصيرٌ بلا بَصَرٍ، وعزيزٌ بلا عِزَّةٍ، وهكذا!
وعَلَّلوا ذلك بأنَّ ثُبوتَ الصِّفاتِ يَستلزِمُ تعَدُّدَ القُدَماءِ، وهي عِلَّةٌ باطِلةٌ؛ فاللهُ تعالى وَصَفَ نَفْسَه بأوصافٍ كثيرةٍ، مع أنَّه الواحِدُ الأحَدُ، فقال تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [البروج:12-16] ، وقال تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى [الأعلى:1-5] ففي هذه الآياتِ الكريمةِ أوصافٌ كثيرةٌ لِموصوفٍ واحدٍ، ولم يلزَمْ مِن ثُبوتِها تعَدُّدُ القُدَماءِ، وأمَّا العَقلُ؛ فلأنَّ الصِّفاتِ ليست ذواتٍ بائنةً مِن الموصوفِ، حتَّى يَلزَمَ مِن ثُبوتِها التعَدُّدُ! وإنَّما هي مِن صِفاتِ مَن اتَّصَف بها، فهي قائِمةٌ به، فكُلُّ موجودٍ لا بدَّ له من تعَدُّدِ صِفاتِه .
قال نورُ الدين الصَّابوني الحنفي: (لَمَّا اتصف اللهُ تعالى بكَونِه حَيًّا سميعًا، بصيرًا قديرًا... وهذه أسماءٌ مُشتَقَّةٌ من معاني مخصوصةٍ عند أربابِ اللِّسانِ، فإذا أُطلِقَت هذه الأسامي على ذاتٍ، يرادُ إثباتُ مأخَذِ الاشتقاقِ، لا مجَرَّدُ تعريفِ الذَّاتِ) .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (أسْماءُ اللهِ كُلُّها تدُلُّ على مُسَمًّى واحدٍ، فليس دعاؤُه باسمٍ مِن أسمائِه الحُسْنى مضادًّا لدُعائِه باسمٍ آخَرَ، بل الأمرُ، كما قال تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء: 110] ، وكُلُّ اسمٍ مِن أسمائِه يَدُلُّ على الذَّاتِ المُسَمَّاةِ وعلى الصِّفةِ التي تضَمَّنَها الاسمُ؛ كالعليمِ: يَدُلُّ على الذَّاتِ والعِلْمِ، والقديرِ: يَدُلُّ على الذَّاتِ والقُدرةِ، والرَّحيمِ: يَدُلُّ على الذَّاتِ والرَّحمةِ) .
وقال ابنُ حَجَرٍ: (الأسماءُ المذكورةُ فيها بلُغةِ العَرَبِ صِفاتٌ؛ ففي إثباتِ أسمائِه إثباتُ صِفاتِه؛ لأنَّه إذا ثَبَت أنَّه حَيٌّ مَثَلًا فقد وُصِفَ بصِفةٍ زائدةٍ على الذَّاتِ، وهي صِفةُ الحياةِ، ولولا ذلك لوَجَب الاقتصارُ على ما يُنْبِئُ عن وجودِ الذَّاتِ فقط) .
وقال الزَّركشيُّ: (أسْماءُ اللهِ كُلُّها صِفاتٌ له) .
وقال ابنُ حَجَرٍ في شَرحِ الحَديثِ الواردِ في سورةِ الإخلاصِ: (قَولُه: «لأنَّها صِفةُ الرَّحمنِ» . قال ابنُ التِّين: إنَّما قال: إنَّها صِفةُ الرَّحمنِ؛ لأنَّ فيها أسماءَه وصفاتِه، وأسماؤُه مُشتقَّةٌ من صفاتِه) .
وقال محمَّد طاهر الفتني الحنفي: (وأسماءُ اللهِ تعالى أوصافُه، وأوصافُه مدائِحُ له، فأَمَر أن يُدعى بأوصافِه؛ ليكونَ الدَّاعي صادِقًا مادِحًا) .
وقال السَّفارينيُّ: (أسْماءُ اللهِ تعالى كُلُّها اتَّفَقت في دَلالتِها على ذاتِ اللهِ مع تنوُّعِ مَعانيها؛ فهي مُتَّفِقةٌ مُتواطِئةٌ مِن حيثُ الذَّاتُ، مُتباينةٌ مِن جِهةِ الصِّفاتِ، فهي مترادِفةٌ بحَسَبِ الذَّاتِ، مُتبايِنةٌ بحَسَبِ الصِّفاتِ) .
وقال ابنُ باز: (كُلُّ أسْماءِ اللهِ سُبحانَه مُشتَمِلةٌ على صِفاتٍ له سُبحانَه تليقُ به وتُناسِبُ كَمالَه، ولا يُشبِهُه فيها شيءٌ؛ فأسماؤه سُبحانَه أعلامٌ عليه ونعوتٌ له عزَّ وجَلَّ، ومنها: الرَّحمنُ، الرَّحيمُ، العزيزُ، الحكيمُ، المَلِكُ، القُدُّوسُ، السَّلامُ، المؤمِنُ، المُهَيمِنُ، إلى غيرِ ذلك من أسمائِه سُبحانَه الواردةِ في كتابِه الكريمِ، وفي سُنَّةِ رَسولِه الأمينِ؛ فالواجِبُ إثباتُها له سُبحانَه على الوَجهِ اللَّائِقِ بجَلالِه مِن غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غيرِ تكييفٍ ولا تمثيلٍ، وهذا هو معنى قَولِ أئمَّةِ السَّلَفِ؛ كمالكٍ، والثَّوريِّ، والأوزاعيِّ، وغيرِهم: أَمِرُّوها كما جاءت بلا كيفٍ. والمعنى: أنَّ الواجِبَ إثباتُها لله سُبحانَه على الوَجهِ اللَّائِقِ به سُبحانَه، أمَّا كيفيَّتُها فلا يَعلَمُها إلَّا اللهُ سُبحانَه) .
وقال ابنُ عُثَيمين: (كُلُّ اسمٍ مِن أسْماءِ اللهِ يَدُلُّ على صِفةٍ مِن صِفاتِه، بل على صِفَتينِ أحيانًا أو أكثَرَ -ما يلزَمُ مِن إثباتِ الصِّفةِ التي يَدُلُّ عليها الاسمُ-، مِثالُ ذلك: «الخالِق» دَلَّ على صِفةِ الخَلقِ، وصِفةُ الخَلقِ تَستلزِمُ ثُبوتَ صِفةِ العِلْمِ والقُدرةِ، وقد يَدُلُّ الاسمُ على الأثَرِ إذا كان ذلك الاسمُ متعَدِّيًا، مِثالُه: السَّمِيعُ يَدُلُّ على صِفةِ السَّمعِ، ويدُلُّ على أنَّ اللهَ يَسمَعُ كُلَّ صوتٍ يَحدُثُ) .
ثالثاً : : مِن قواعِدِ أسْماءِ اللهِ أنَّ أسماءَه إن دَلَّت على وَصفٍ متعَدٍّ، تضَمَّنَت ثلاثةَ أمورٍ :
أوَّلًا: ثُبوتُ ذلك الاسمِ لله عزَّ وجَلَّ.
ثانيًا: ثُبوتُ الصِّفةِ التي تضَمَّنَها للهِ تعالى.
ثالثا: ثبوتُ حُكمِها ومُقتَضاها.
مثالُ ذلك: (السَّميعُ) يتضَمَّنُ إثباتَ السَّميعِ اسمًا لله تعالى، وإثباتَ السَّمعِ صِفةً له، وإثباتَ حُكمِ ذلك ومُقتَضاه، وهو أنَّه يَسمَعُ السِّرَّ والنَّجوى، كما قال تعالى: وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة:1] .
ومِمَّا يَدخُلُ في إثباتِ حُكمِها ومُقتَضاها استِدلالُ أهْلِ العِلْمِ على سُقوطِ الحَدِّ عن قُطَّاعِ الطَّريقِ بالتَّوبةِ،
بقَولِه تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة:34] ؛ وذلك لأنَّ مُقتَضى هذينِ الاسمَينِ (الغَفور) و(الرَّحيم) أن يكونَ اللهُ تعالى قد غَفَر لهم ذُنوبَهم، ورَحِمَهم بإسقاطِ الحَدِّ عنهم.
وإنْ دَلَّت أسْماءُ اللهِ تعالى على وَصفٍ غيرِ متعَدٍّ؛ فإنَّها تتضَمَّنُ أمرَينِ:
أولًا: ثبوتُ ذلك الاسمِ للهِ عزَّ وجَلَّ.
ثانيًا: ثُبوتُ الصِّفةِ التي تضَمَّنَها للهِ تعالى.
ومِثالُ ذلك: (الحَيُّ) فهو يتضَمَّنُ إثباتَ الحَيِّ اسمًا لله عزَّ وجَلَّ، ويتضَمَّنُ إثباتَ الحياةِ صِفةً له سُبحانَه .
قال ابنُ القَيِّمِ: (أسماءُ الرَّبِّ تبارك وتعالى دالَّةٌ على صِفاتِ كَمالِه، فهي مُشتَقَّةٌ مِن الصِّفاتِ، فهي أسماءٌ، وهي أوصافٌ، وبذلك كانت حُسْنى؛ إذ لو كانت ألفاظًا لا معانيَ فيها لم تكُنْ حُسْنى، ولا كانت دالَّةً على مَدحٍ ولا كمالٍ، ولساغ وقوعُ أسماءِ الانتقامِ والغَضَبِ في مَقامِ الرَّحمةِ والإحسانِ، وبالعكس، فيقال: اللَّهُمَّ إني ظَلَمْتُ نَفْسي، فاغفِرْ لي؛ إنك أنت المنتَقِمُ! واللَّهُمَّ أعطِني؛ فإنَّك أنت الضَّارُّ المانِعُ! ونحو ذلك... لو لم تكن أسماؤُه مُشتَمِلةً على معانٍ وصِفاتٍ لم يَسُغْ أن يُخبَرَ عنه بأفعالِها، فلا يقالُ: يَسمَعُ ويرى، ويَعلَمُ ويَقدِرُ ويُريدُ؛ فإنَّ ثُبوتَ أحكامِ الصِّفاتِ فَرْعُ ثُبوتِها، فإذا انتفى أصلُ الصِّفةِ استحال ثُبوتُ حُكمِها) .
وقال ابنُ باز: (الاسمُ هو اللَّفظُ المشتَمِلُ على الذَّاتِ والمعنى، يقال له: اسمٌ. أمَّا المعنى فقط يقالُ له: وَصفٌ. الرَّحمنُ: هذا يُسَمَّى عَلَمًا اسمًا؛ لأنَّه دالٌّ على الذَّاتِ وعلى الصِّفةِ، وهي الرَّحمةُ.
العَليمُ: اسمٌ؛ لأنَّه دالٌّ على الذَّاتِ وعلى العِلْم، السَّميعُ: اسمٌ؛ لأنَّه دالٌّ على الذَّاتِ وعلى السَّمعِ، البَصيرُ: اسمٌ دالٌّ على الذَّاتِ والبَصَرِ. هذه يقالُ لها: أسماءٌ. أمَّا الصِّفاتُ فالعِلْمُ صِفةٌ، والرَّحمةُ صِفةٌ، والقُدرةُ صِفةٌ، السَّمعُ صِفةٌ.
وهكذا يَجِبُ إمرارُ الجَميعِ كما جاءت، وإثباتُها لله، كما قال أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ، على الوَجهِ اللَّائِقِ بالله سُبحانَه، من غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ. صِفاتُ اللهِ تليقُ به، لا يُشابِهُ خَلْقَه في شيءٍ مِن صِفاتِه جَلَّ وعلا،
كما قال سُبحانَه: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 4] ، وقال: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [النحل: 74] . وقال سُبحانَه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] ) .
وقال ابنُ عُثَيمين: (كُلُّ اسمٍ مِن أسْماءِ اللهِ فإنَّه يَدُلُّ على ذاتِ اللهِ، وعلى الصِّفةِ التي تضَمَّنَها، وعلى الأثَرِ المترَتِّبِ عليه إن كان متعَدِّيًا، ولا يَتِمُّ الإيمانُ بالاسمِ إلَّا بإثباتِ ذلك كُلِّه.
مِثالُ ذلك في غيرِ المتعَدِّي: «العَظيمُ» فلا يَتِمُّ الإيمانُ به حتى نؤمِنَ بإثباتِه اسمًا مِن أسْماءِ اللهِ دالًّا على ذاتِه تعالى، وعلى ما تضَمَّنَه من الصِّفةِ، وهي العَظَمةُ.
ومثالُ ذلك في المتعَدِّي: «الرَّحمنُ» فلا يَتِمُّ الإيمانُ به حتى نؤمِنَ بإثباتِه اسمًا مِن أسْماءِ اللهِ دالًّا على ذاتِه تعالى، وعلى ما تضَمَّنَه من الصِّفةِ، وهي الرَّحمةُ، وعلى ما ترَتَّبَ عليه من أثَرٍ، وهو أنَّه يَرحَمُ مَن يشاءُ) .
رابعاً : : من قواعِدِ أسْماءِ اللهِ أنَّ دَلالةَ أسمائِه على ذاتِه وصِفاتِه تكونُ بالمُطابَقةِ وبالتضَمُّنِ وبالالتِزامِ :
مِثالُ ذلك: اسمُ (الخالق) فهو اسمٌ يَدُلُّ على ذاتِ اللهِ وعلى صِفةِ الخَلْقِ بالمطابَقةِ، ويدُلُّ على الذَّاتِ وَحْدَها، وعلى صِفةِ الخَلقِ وَحْدَها بالتضَمُّنِ، ويدُلُّ على صِفَتَيِ العِلْم والقُدرةِ بالالتزامِ؛ ولهذا لَمَّا ذكَرَ اللهُ خَلْقَ السَّمَواتِ والأرضِ قال: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12] .
واللَّازِمُ مِن قَولِ اللهِ تعالى وقَولِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إذا صَحَّ أن يكونَ لازِمًا، فهو حَقٌّ؛ فكلامُ اللهِ ورَسولِه حَقٌّ، ولازِمُ الحَقِّ حَقٌّ، ولأنَّ اللهَ تعالى عالمٌ بما يكونُ لازمًا مِن كلامِه وكلامِ رَسولِه؛ فيكونُ مُرادًا .
وأسْماءُ اللهِ تعالى دالَّةٌ على المسَمَّى، وهي غيرُ مخلوقةٍ، خِلافًا للجَهْميَّةِ الذين يَقولونَ: أسْماءُ اللهِ مخلوقةٌ، قالوا: لأنَّ الاسمَ غيرُ المسَمَّى، فأسْماءُ اللهِ غيرُه، وما كان غيرُه فهو مخلوقٌ .
وبوَّب البُخاريُّ في كتابِ التَّوحيدِ: بابُ السُّؤالِ بأسْماءِ اللهِ تعالى والاستِعاذةِ بها.
قال ابنُ بطَّالٍ: (غَرَضُه في هذا البابِ أن يُثبِتَ أنَّ الاسمَ هو المسَمَّى في اللهِ، على ما ذَهَب إليه أهلُ السُّنَّةِ... وممَّا يَدُلُّ على أنَّ اسمَ اللهِ هو هو: قَولُه سُبحانَه: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة: 74] أي: سَبِّحْ رَبَّك العظيمَ، ونَزِّهْه بأسمائِه الحُسْنى، ولو كان اسمُه غيرَه لكان اللهُ أمَرَ نبيَّه بتنزيهِ معنًى هو غيرُ اللهِ، وهذا مُستحيلٌ) .
وقال الشَّافعيُّ: (من حَلَف باسمٍ مِن أسْماءِ اللهِ فحَنَثَ، فعليه الكَفَّارةُ؛ لأنَّ اسمَ اللهِ غيرُ مخلوقٍ، ومن حَلَف بالكَعبةِ أو بالصَّفا والمروةِ، فليس عليه الكَفَّارةُ؛ لأنَّه مخلوقٌ، وذلك غيرُ مخلوقٍ) .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (كُلُّ اسمٍ مِن أسْماءِ اللهِ فإنَّه يَستلزِمُ معنى الآخَرِ؛ فإنَّه يَدُلُّ على الذَّاتِ، والذَّاتُ تستلزِمُ معنى الاسمِ الآخَرِ، لكِنْ هذا باللُّزومِ، وأمَّا دَلالةُ كُلِّ اسمٍ على خاصيَّتِه وعلى الذَّاتِ بمَجموعِهما فبالمُطابقةِ، ودَلالتُها على أحَدِهما بالتضَمُّنِ) .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (الاسمُ مِن أسمائِه له دَلالاتٌ؛ دلالةٌ على الذَّاتِ والصِّفةِ بالمطابقِة، ودَلالةٌ على أحَدِهما بالتضَمُّنِ، ودلالةٌ على الصِّفةِ الأُخرى باللُّزومِ) .
وقال أيضًا: (الاسمُ مِن أسمائِه تبارك وتعالى كما يَدُلُّ على الذَّاتِ والصِّفةِ التي اشتُقَّ منها بالمطابقةِ، فإنَّه يَدُلُّ عليه دَلالَتيِن أُخرَيَينِ بالتضَمُّنِ واللُّزومِ، فيدُلُّ على الصِّفةِ بمُفرَدِها بالتضَمُّنِ، وكذلك على الذَّاتِ المجَرَّدةِ عن الصِّفةِ، ويدُلُّ على الصِّفةِ الأخرى باللُّزومِ، فإنَّ اسمَ السَّميعِ يَدُلُّ على ذات الرَّبِّ وسَمْعِه بالمطابقةِ، وعلى الذَّاتِ وَحْدَها وعلى السَّمعِ وَحْدَه بالتضَمُّنِ، ويدُلُّ على اسمِ الحَيِّ وصِفةِ الحياةِ بالالتزامِ، وكذلك سائِرُ أسمائِه وصِفاتِه) .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (الاسمُ يُرادُ به المسَمَّى تارةً، ويرادُ به اللَّفظُ الدَّالُّ عليه أخرى؛ فإذا قُلتَ: قال اللهُ كذا، أو سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِده، ونحو ذلك، فهذا المرادُ به المسَمَّى نَفْسُه. وإذا قُلتَ: اللهُ اسمٌ عربيٌّ، والرحمنُ اسمٌ عربيٌّ، والرَّحيمُ مِن أسْماءِ اللهِ تعالى، ونحو ذلك، فالاسمُ هاهنا هو المرادُ لا المسمَّى، ولا يقالُ غَيرُه؛ لِما في لفظِ الغيرِ مِن الإجمالِ، فإن أُريدَ بالمغايَرةِ أنَّ اللَّفظَ غيرُ المعنى فحَقٌّ، وإن أريدَ أنَّ اللهَ سُبحانَه كان ولا اسمَ له، حتى خَلَق لنَفْسِه أسماءً، أو حتى سَمَّاه خَلْقُه بأسماءٍ مِن صُنْعِهم، فهذا من أعظَمِ الضَّلالِ والإلحادِ في أسْماءِ اللهِ تعالى) .
وقال ابنُ عُثَيمين: (كُلُّ اسمٍ مِن أسْماءِ اللهِ فهو مُتَضَمِّنٌ للصِّفةِ، فإذا كان متعَدِّيًا فهو يتضَمَّنُ الحُكمَ، وإن كان غيرَ متعَدٍّ لم يتضَمَّنْه، وربما يَدُلُّ على أكثَرَ مِن صفةٍ بدَلالةِ الالتزامِ؛ لأنَّ أنواعَ الدَّلالةِ ثلاثةٌ: مُطابَقةٌ، وتضَمُّنٌ، والتزامٌ؛ فـ «المطابَقة»: دلالةُ اللَّفظِ على جميعِ معناه. و«التضَمُّن»: دلالتُه على بعضِ معناه.
و«الالتزام» دلالتُه على لازمٍ خارجٍ، مثلُ «الخالق» من أسماءِ اللهِ؛ دَلالتُه على الذَّاتِ والخَلْقِ: مُطابَقةٌ، ودلالتُه على الذَّاتِ وَحْدَها، أو على الخَلْقِ وَحْدَه: تضَمُّنٌ، ودَلالتُه على العِلْمِ والقُدرةِ: التِزامٌ، فلا يمكِنُ أن يكونَ خالِقًا إلَّا أن يكونَ عالِمًا قادِرًا؛ لأنَّه لا يَخلُقُ مَن لا يَقدِرُ، ولا يَخلُقُ من لا يَعلَمُ؛ فلا بُدَّ أن يكونَ عالِمًا قادِرًا؛
ولهذا قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق: 12] فذَكَر العِلْمَ والقُدرةَ بعد أن ذَكَر أنَّه خَلَق، ولا يمكِنُ أن يكونَ هناك خَلقٌ إلَّا أن يَعلَم كيف يَخلُقُ، ويَقدِرُ على ذلك) .
وقال أيضًا: (كُلُّ اسمٍ مِن أسْماءِ اللهِ فإنَّه يَدُلُّ على ذاتِ اللهِ، وعلى الصِّفةِ التي تضَمَّنَها، وعلى الأثَرِ المترَتِّبِ عليه إن كان متعَدِّيًا، ولا يَتِمُّ الإيمانُ بالاسمِ إلَّا بإثباتِ ذلك كُلِّه.
مثالُ ذلك في غير المتعَدِّي: العظيمُ، فلا يَتِمُّ الإيمانُ به حتَّى تؤمِنَ بإثباتِه اسمًا مِن أسْماءِ اللهِ دالًّا على ذاتِه تعالى وعلى ما تضَمَّنَه مِن الصِّفةِ، وهي العَظَمةُ.
ومِثالُ ذلك في المتعَدِّي: الرَّحمنُ ، فلا يَتِمُّ الإيمانُ به حتَّى تؤمِنَ بإثباتِه اسمًا مِن أسْماءِ اللهِ دالًّا على ذاتِه تعالى وعلى ما تضَمَّنَه مِن الصِّفةِ، وهي الرَّحمةُ، وعلى ما ترَتَّبَ عليه من أثَرٍ وهو أنَّه يَرحَمُ من يشاءُ) .
ohlshW : من قواعِدِ أسْماءِ اللهِ أنَّ أسْماء اللهِ الحُسْنى توقيفيَّةٌ :
يجِبُ الوقوفُ في أسْماءِ اللهِ الحُسْنى على ما جاء به الكِتابُ والسُّنَّةُ، فلا يُزادُ فيها ولا يُنقَصُ؛ لأنَّ العَقْلَ لا يُمكِنُه إدراكُ ما يَستَحِقُّه تعالى من الأسماءِ، فوَجَب الوقوفُ في ذلك على النَّصِّ؛
لِقَولِه تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا [الإسراء:36] ،
وقَولِه: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33] ، ولأنَّ تَسميتَه تعالى بما لم يُسَمِّ به نَفْسَه،
أو إنكارَ ما سَمَّى به نَفْسَه: جنايةٌ في حَقِّه سُبحانَه، فوَجَب سُلوكُ الأدَبِ في ذلك، والاقتِصارُ على ما جاء به النَّصُّ .
قال ابنُ أبي زمنين: (اعلَمْ أنَّ أهلَ العِلمِ باللهِ وبما جاءت به أنبياؤُه ورُسُلُه يَرَونَ الجَهلَ بما لم يخبِرْ به تبارك وتعالى عن نَفْسِه عِلمًا، والعَجْزَ عمَّا لم يَدْعُ إيمانًا، وأنَّهم إنما ينتهون من وَصْفِه بصفاتِه وأسمائِه إلى حيثُ انتهى في كتابِه، وعلى لسانِ نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) .
وقال أبو منصورٍ البغداديُّ: (إنَّ مأخَذَ أسماءِ اللهِ تعالى التوقيفُ عليها؛ إمَّا بالقُرآنِ، وإمَّا بالسُّنَّةِ الصَّحيحةِ، وإمَّا بإجماعِ الأمَّةِ عليه، ولا يجوزُ إطلاقُ اسمٍ عليه من طريقِ القياسِ) .
وقال ابنُ حَزمٍ: (لا يجوزُ أن يُسَمَّى اللهُ تعالى ولا أن يُخبَرَ عنه إلَّا بما سَمَّى به نَفْسَه، أو أخبَرَ به عن نَفْسِه في كتابِه، أو على لِسانِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو صَحَّ به إجماعُ جميعِ أهلِ الإسلامِ المتيقَّنُ، ولا مزيدَ، وحتى وإن كان المعنى صحيحًا فلا يجوزُ أن يُطلَقَ عليه تعالى اللَّفظُ، وقد عَلِمْنا يقينًا أنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ بَنى السَّماءَ،
قال تعالى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [الذاريات: 47]، ولا يجوزُ أن يُسَمَّى "بَنَّاءً"، وأنَّه تعالى خَلَق أصباغَ النَّباتِ والحيوانِ، وأنه تعالى قال: صِبْغَةَ اللَّهِ [البقرة: 138] ، ولا يجوزُ أن يُسَمَّى "صَبَّاغًا"، وهكذا كُلُّ شيءٍ لم يُسَمِّ به نَفْسَه) .
وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: (لا نُسَمِّيه ولا نَصِفُه ولا نُطلِقُ عليه إلَّا ما سَّمى به نَفْسَه، على ما تقَدَّم ذِكْرُنا له من وَصْفِه لنَفْسِه لا شريكَ له، ولا ندفَعُ ما وصف به نَفْسَه؛ لأنَّه دَفعٌ للقُرآنِ) .
وقال البزدوي الحنفي: (أسامي اللهِ تعالى عند أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ توقيفيَّةٌ؛ لأنَّه ليس لأحَدٍ أن يُسَمِّيَ اللهَ تعالى باسمٍ إلَّا أن يأذَنَ اللهُ تعالى له) .
وقال البَغَوي في تفسيرِ قَولِه تعالى وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف: 180] : (قال أهلُ المعاني: الإلحادُ في أسماءِ اللهِ تسميتُه بما لم يتسَمَّ به ولم ينطِقْ به كتابُ اللهِ ولا سُنَّةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وجملتُه أنَّ أسماءَ اللهِ تعالى على التوقيفِ؛ فإنَّه يُسَمَّى جَوادًا ولا يُسَمَّى سَخِيًّا، وإن كان في معنى الجَوادِ،... ويُسَمَّى عالِمًا ولا يُسَمَّى عاقلًا.
وقال تعالى: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء: 142] ، وقال عزَّ وجَلَّ من قائلٍ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران: 54] ، ولا يقالُ في الدُّعاءِ: يا مخادِعُ يا مكَّارُ، بل يُدعى بأسمائِه التي ورد بها التوقيفُ على وَجهِ التعظيمِ، فيُقالُ: يا اللهُ، يا رَحمَنُ يا رَحيمُ، يا عزيزُ يا كريمُ، ونحو ذلك) .
وقال ابن حجر الهيتمي: (أسماءُ اللهِ تعالى توقيفيَّةٌ على الأصَحِّ، فلا يجوزُ اختراعُ اسمٍ أو وصفٍ له تعالى إلَّا بقُرآنٍ، أو خبرٍ صحيحٍ وإن لم يتواتَرْ) .
وقال صنعُ اللهِ الحلبي الحنفي: (أسماؤُه تعالى توقيفيَّةٌ، أي: لا يجوزُ إطلاقُ اسمٍ عليه تعالى، ما لم يَرِدْ شَرْعًا أنَّه من أسمائِه تعالى) .
وقال السَّفارينيُّ: («لكِنَّها» أي: الأسماءُ الحُسْنى «في» القَولِ «الحَقِّ» المعتَمَدِ عند أهلِ الحَقِّ «توقيفيَّةٌ» بنَصِّ الشَّرعِ ووُرودِ السَّمعِ بها. وممَّا يجِبُ أن يُعلَمَ أنَّ عُلَماءَ السُّنَّةِ اتَّفَقوا على جوازِ إطلاقِ الأسماءِ الحُسْنى والصِّفاتِ العُلا على الباري جَلَّ وعلا إذا ورد بها الإذنُ مِن الشَّارعِ، وعلى امتناعِه على ما وَرد المنعُ عنه) .
وقال حافِظٌ الحَكَميُّ: (أسْماءُ اللهِ تعالى كُلُّها توقيفيَّةٌ، لا يُسَمَّى إلَّا بما سَمَّى به نَفْسَه في كِتابِه، أو أطلَقَه عليه رَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكُلُّ فِعلٍ أطلَقَه اللهُ تعالى على نَفْسِه فهو فيما أُطلِقَ فيه مَدحٌ وكَمالٌ، ولكِنْ ليس كُلُّها وَصَف اللهُ به نَفْسَه مُطلَقًا، ولا كُلُّها يُشتَقُّ منها أسماءٌ، بل منها ما وَصَف به نَفْسَه مُطلقًا،
كقَولِه تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [الروم: 40] ، وسَمَّى نَفْسَه الخالِقَ الرَّازِقَ المُحييَ المُميتَ المدَبِّرَ، ومنها أفعالٌ أطلقَها اللهُ تعالى على نَفْسِه على سَبيلِ الجَزاءِ والمُقابَلةِ، وهي فيما سِيقَت له مَدحٌ وكَمالٌ، كقَولِه تعالى: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء: 142] ، وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران: 54] ، نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التَّوبة: 67] ، ولكِنْ لا يجوزُ إطلاقُها على اللهِ في غيرِ ما سيقَت فيه مِن الآياتِ؛ فلا يقالُ: إنَّه تعالى يَمكُرُ ويخادِعُ ويَستَهزِئُ، ونحوُ ذلك، وكذلك لا يُقالُ: ماكِرٌ، مخادِعٌ، مُستَهزِئٌ، ولا يَقولُه مُسلِمٌ ولا عاقِلٌ؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ لم يَصِفْ نَفْسَه بالمكرِ والكيدِ والخِداعِ إلَّا على وَجهِ الجَزاءِ لِمن فَعَل ذلك بغيرِ حَقٍّ، وقد عُلِمَ أنَّ المجازاةَ على ذلك بالعَدلِ حَسَنةٌ مِن المخلوقِ، فكيف مِنَ الخَلَّاقِ العَليمِ العَدْلِ الحَكيمِ؟!) .
وقال ابنُ عُثَيمين: (لا يجوزُ تسميةُ اللهِ تعالى أو وَصْفُه بما لم يأتِ في الكِتابِ والسُّنَّةِ؛ لأنَّ ذلك قَولٌ على اللهِ تعالى بلا عِلمٍ، وقد قال اللهُ تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33] ، وقال: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء: 36] ) .
سابعاً :: مِن قواعِدِ أسْماءِ اللهِ عَدَمُ الإلحادِ فيها :
قال اللهُ تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف: 180] .
قال القُرطبي: (فيه مسألتان: الأولى: قَولُه تعالى: يُلْحِدُونَ... والإلحادُ يكونُ بثلاثةِ أوجُهٍ: أحَدُها: بالتغييرِ فيها، كما فعله المشركون، وذلك أنهم عدَلوا بها عمَّا هي عليه، فسَمَّوا بها أوثانَهم، فاشتَقُّوا اللَّاتَ مِنَ اللهِ، والعُزَّى من العزيزِ، ومناةَ مِنَ المنَّانِ. قاله ابنُ عَبَّاسٍ وقتادةُ.
الثاني: بالزيادةِ فيها. الثالثُ: بالنُّقصانِ منها، كما يفعله الجُهَّالُ الذين يخترعون أدعيةً يُسَمُّون فيها اللهَ تعالى بغيرِ أسمائِه، ويَذكُرون بغيرِ ما يُذكَرُ من أفعالِه، إلى غيرِ ذلك ممَّا لا يليقُ به... الثانية: معنى الزِّيادةِ في الأسماءِ التشبيهُ، والنُّقصانُ التعطيلُ) .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (فالأصلُ في هذا البابِ أن يُوصَفَ اللهُ بما وَصَف به نَفْسَه، وبما وصَفَتْه به رُسُلُه نفيًا وإثباتًا؛ فيُثبِتُ للهِ ما أثبَتَه لنَفْسِه، وينفي عنه ما نفاه عن نَفْسِه. وقد عُلِمَ أنَّ طَريقةَ سَلَفِ الأُمَّةِ وأئمَّتِها إثباتُ ما أثبَتَه من الصِّفاتِ، مِن غيرِ تكييفٍ ولا تمثيلٍ، ومِن غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، وكذلك يَنْفونَ عنه ما نفاه عن نَفْسِه، مع إثباتِ ما أثبَتَه من الصِّفاتِ، مِن غيرِ إلحادٍ لا في أسمائِه ولا في آياتِه؛ فإنَّ اللهَ تعالى ذمَّ الذين يُلحِدونَ في أسمائِه وآياتِه،
كما قال تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف: 180] ،
وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت: 40] الآية. فطريقتُهم تتضَمَّنُ إثباتَ الأسماءِ والصِّفاتِ مع نَفْيِ مماثَلةِ المخلوقاتِ؛ إثباتًا بلا تشبيهٍ، وتنزيهًا بلا تعطيلٍ، كما قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] . ففي قَولِه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ردٌّ للتَّشبيهِ والتَّمثيلِ، وقَولِه: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ردٌّ للإلحادِ والتعطيلِ) .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (الإلحادُ في أسمائِه هو العدولُ بها وبحقائِقِها ومعانيها عن الحَقِّ الثَّابِتِ لها، وهو مأخوذٌ مِن المَيلِ) .
وقال أيضًا: (نَفْيُ معاني أسمائِه الحُسْنى من أعظَمِ الإلحادِ فيها؛
قال تعالى: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف: 180] ، ولأنَّها لو لم تَدُلَّ على معانٍ وأوصافٍ لم يَجُزْ أن يُخبَرَ عنها بمصادِرِها ويُوصَفَ بها، لكِنَّ اللهَ أخبَرَ عن نَفْسِه بمصادِرِها، وأثبَتَها لنَفْسِه، وأثبَتَها له رَسولُه،
كقَولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 58]، فعُلِمَ أنَّ القَوِيَّ مِن أسمائِه، ومعناه: الموصوفُ بالقُوَّةِ، وكذلك قَولُه: فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [فاطر: 10] ، فالعزيزُ من له العِزَّةُ، فلولا ثُبوتُ القُوَّةِ والعِزَّةِ له لم يُسَمَّ قَوِيًّا ولا عزيزًا،
وكذلك قَولُه: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء: 166] ، فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ [هود: 14] ، وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [البقرة: 255] .
وفي الصَّحيحِ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ لا ينامُ، ولا ينبغي له أن ينامَ، يَخفِضُ القِسْطَ ويَرفَعُه، يُرفَعُ إليه عَمَلُ اللَّيلِ قَبلَ النَّهارِ، وعَمَلُ النَّهارِ قبل اللَّيلِ، حِجابُه النُّورُ، لو كَشَفَه لأحرَقَت سُبُحاتُ وَجْهِه ما انتهى إليه بَصَرُه مِنْ خَلْقِه )) ؛ فأثبت المصدَرَ الذي اشتُقَّ منه اسمُه البصيرُ) .
وقال أبو السُّعودِ في تفسيرِ قَولِه تعالى: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف: 180] : (أي: يَميلون في شَأنِها عن الحَقِّ إلى الباطِلِ، إمَّا بأن يُسَمُّوه تعالى بما لا توقيفَ فيه،
أو بما يوهِمُ معنًى فاسدًا، كما في قَولِ أهلِ البَدْوِ: يا أبا المكارِمِ، يا أبيضَ الوَجهِ... وإمَّا بأن يَعدِلوا عن تسميتِه تعالى ببعضِ أسمائِه الكريمةِ، كما قالوا: وما الرَّحمنُ؟ ما نَعرِفُ سِوى رحمانِ اليمامةِ... وإمَّا بأن يُطلِقوها على غيرِه تعالى كما سَمَّوا أصنامَهم آلهةً، وإمَّا بأن يَشتَقُّوا من بعضِها أسماءَ أصنامِهم، كما اشتقُّوا اللَّاتَ مِنَ اللهِ، والعُزَّى من العزيزِ) .
وقال سُلَيمانُ بنُ عبدِ اللهِ آل الشَّيخِ: (قَولُه: يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف:180] يُشرِكونَ، أي: يُشرِكونَ غَيرَه في أسمائِه، كتَسميتِهم الصَّنَمَ إلهًا، ويحتَمِلُ أنَّ المرادَ الشِّرْكُ في العبادةِ؛ لأنَّ أسماءَه تعالى تدُلُّ على التَّوحيدِ، فالإشراكُ بغيرِه إلحادٌ في معاني أسمائِه سُبحانَه وتعالى، لا سِيَّما مع الإقرارِ بها، كما كانوا يُقِرُّونَ باللهِ ويَعبُدونَ غَيرَه، فهذا الاسمُ وَحْدَه أعظَمُ الأدِلَّةِ على التَّوحيدِ، فمَن عَبَد غَيرَه فقد ألحَدَ في هذا الاسمِ، وعلى هذا بقيَّةُ الأسماءِ) .
والإلحادُ في أسْماءِ اللهِ أنواعٌ:
1- أن يُسَمَّى الأصنامُ بها، كتَسميتِهم اللَّاتَ مِنَ الإلهِ، والعُزَّى مِنَ العَزيزِ.
2- تَسميتُه بما لا يليقُ بجَلالِه، كتَسميةِ النَّصارى له أبًا، وتسميةِ الفلاسِفةِ له مُوجِبًا بذاتِه، أو عِلَّةً فاعِلةً بالطَّبعِ، ونحوِ ذلك.
3- وَصْفُه بما يتعالى عنه ويتقَدَّسُ مِن النَّقائِصِ؛ كقَولِ اليَهودِ: إنَّه فقيرٌ، وقَولِهم: إنَّه استراحَ بعد أنْ خَلَق خَلْقَه، وقَولِهم: يَدُ اللهِ مَغلولةٌ.
4- تعطيلُ الأسماءِ عن معانيها وجَحْدُ حقائِقِها، كقَولِ من يَقولُ مِنَ الجَهْميَّةِ وأتباعِهم: إنَّها ألفاظٌ مُجَرَّدةٌ لا تتضَمَّنُ صِفاتٍ ولا معانيَ، فيُطلِقونَ عليه اسمَ السَّميعِ، والبَصيرِ، والحَيِّ، والرَّحيمِ، والمتكَلِّمِ، والمريدِ، ويَقولون: لا حياةَ له، ولا سَمْعَ، ولا بَصَرَ، ولا كلامَ، ولا إرادةَ تقومُ به. وهذا من أعظَمِ الإلحادِ فيها عَقلًا وشَرعًا ولُغةً وفِطرةً!
وهو يُقابِلُ إلحادَ المُشرِكينَ؛ فإنَّ أولئك أعطَوا أسماءَه وصِفاتِه لآلهتِهم، وهؤلاء سَلَبوه صِفاتِ كَمالِه وجَحَدوها وعَطَّلوها؛ فكِلاهما مُلحِدٌ في أسمائِه.
5- تَشبيهُ صِفاتِه بصِفاتِ خَلْقِه، تعالى اللهُ عمَّا يَقولُ المُشَبِّهونَ عُلُوًّا كبيرًا .
--------------------------------------------------------------------------
التالي : -
-
: المسائِلُ المتعَلِّقةُ بالأسماءِ الحُسْنى :
-
: أسْماءُ اللهِ الحُسْنى :
-
تابعونا جزاكم الله خيرا ولا تنسونا من صالح دعائكم
اليوم في 3:00 pm من طرف عبدالله الآحد
» كتاب الترجيح في مسائل الطهارة والصلاة
أمس في 9:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» وجوب التوكل على الله وخده لا شريك له
أمس في 3:26 pm من طرف عبدالله الآحد
» أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 5:24 pm من طرف عبدالله الآحد
» العبادة وأركانها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 2:55 pm من طرف عبدالله الآحد
» الراجح من أقوال العلماء أن جلسة الاستراحة سنة في الصلاة
الإثنين نوفمبر 18, 2024 2:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» -(( 3 -))- خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
الأحد نوفمبر 17, 2024 10:15 pm من طرف صادق النور
» لا يعلم الغيب إلا الله وحده لا شريك له
الأحد نوفمبر 17, 2024 3:12 pm من طرف عبدالله الآحد
» تابع زبدة التوحيد لنعمان بن عبد الكريم الوتر
السبت نوفمبر 16, 2024 2:15 pm من طرف عبدالله الآحد
» هيئات السجود المسنونة
الخميس نوفمبر 14, 2024 3:24 pm من طرف عبدالله الآحد