:
قال السَّفارينيُّ: (تَوحيدُ الصِّفاتِ أن يُوصَفَ اللهُ تعالى بما وَصَف به نَفْسَه، وبما وصَفَه به نبيُّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نفيًا وإثباتًا، فيُثبَتُ له ما أثبَتَه لنَفْسِه، ويُنفى عنه ما نفاه عن نَفْسِه. وقد عُلِمَ أنَّ طريقةَ سَلَفِ الأُمَّةِ وأئمَّتِها إثباتُ ما أثبَتَه من الصِّفاتِ، مِن غيرِ تكييفٍ ولا تمثيلٍ، ومن غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، وكذلك يَنْفُون عنه ما نفاه عن نَفْسِه، مع ما أثبَتَه مِنَ الصِّفاتِ مِن غَيرِ إلحادٍ في الأسماءِ ولا في الآياتِ) .
وقال السَّعْديُّ: (توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ: هو اعتقادُ انفِرادِ الرَّبِّ جَلَّ جلالُه بالكَمالِ المُطلَقِ مِن جميعِ الوُجوهِ بنُعوتِ العَظَمةِ والجَلالةِ والجَمالِ التي لا يشارِكُهُ فيها مُشارِكٌ بوَجهٍ مِنَ الوُجوهِ، وذلك بإثباتِ ما أثبَتَه اللهُ لنَفْسِه، أو أثبَتَه له رَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ من جميعِ الأسماءِ والصِّفاتِ ومعانيها وأحكامِها الوارِدةِ في الكِتابِ والسُّنَّةِ، على الوَجهِ اللَّائِقِ بعَظَمتِه وجَلالِه، من غيرِ نَفيٍ لشَيءٍ منها، ولا تعطيلٍ ولا تحريفٍ ولا تمثيلٍ ، ونَفيِ ما نفاه عن نَفْسِه أو نفاه عنه رَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من النَّقائِصِ والعُيوبِ، وعن كُلِّ ما ينافي كمالَه) .
أولاً : العِلمُ بأسْماءِ اللهِ وصِفاتِه أشرَفُ العُلُومِ :
إنَّ العِلمَ باللهِ وأسمائِه وصِفاتِه أشرَفُ العُلُومِ وأجَلُّها على الإطلاقِ؛ لأنَّ شَرَفَ العِلمِ بشَرَفِ المَعْلُوم، والمَعْلُومُ في هذا العِلمِ هو اللهُ سُبحانَه وتعالى بأسمائِه وصِفاتِه وأفعالِه، فالاشتِغالُ بفَهْمِه والبَحثِ التَّامِّ عنه اشتِغالٌ بأعلى المطالِبِ، وحُصولُه للعَبدِ مِن أشرَفِ المواهِبِ .
قال اللَّالَكائيُّ: (أوجَبُ ما على المرءِ: مَعرفةُ اعتقادِ الدِّينِ، وما كَلَّف اللهُ به عبادَه مِن فَهمِ توحيدِه وصِفاتِه، وتصديقِ رُسُلِه بالدَّلائِلِ واليَقينِ، والتَّوصُّلِ إلى طُرُقِها والاستِدلالِ عليها بالحُجَج والبَراهينِ) .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (معرفةُ هذا أصلُ الدِّينِ، وأساسُ الهِدايةِ، وأفضَلُ وأوجَبُ ما اكتسَبَتْه القُلوبُ، وحصَّلَتْه النُّفوسُ، وأدركَتْه العُقولُ) .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (كَمالُ النَّفسِ المطلوبُ ما تضَمَّنَ أمرَينِ؛ أحَدُهما: أن يَصيرَ هَيئةً راسِخةً وصِفةً لازِمةً له. الثَّاني: أن يكونَ صِفةَ كَمالٍ في نَفْسِه، فإذا لم يكُنْ كذلك لم يكُنْ كَمالًا، فلا يَليقُ بمن يسعى في كَمالِ نَفْسِه المنافَسةُ عليه، ولا الأسَفُ على فَوتِه، وذلك ليس إلَّا معرفةَ بارئِها وفاطِرِها ومَعبودِها وإلهِها الحَقِّ، الذي لا صلاحَ لها ولا نعيمَ ولا لَذَّةَ إلَّا بمعرفتِه، وإرادةِ وَجْهِه، وسُلوكِ الطَّريقِ الموصِلةِ إليه وإلى رِضاه وكَرامتِه، وأن تعتادَ ذلك فيصيرَ لها هيئةً راسِخةً لازِمةً، وما عدا ذلك من العُلُومِ والإراداتِ والأعمالِ فهي بين ما لا يَنفَعُها ولا يُكَمِّلُها، وما يعودُ بضَرَرِها ونَقْصِها وألَمِها، ولا سِيَّما إذا صار هيئةً راسِخةً لها؛ فإنَّها تُعَذَّبُ وتتألَّمُ به بحَسَبِ لُزومِه لها) .
وقال ابنُ عُثَيمين: (العِلمُ النَّافِعُ يتضَمَّنُ كُلَّ عِلمٍ يكونُ للأمَّةِ فيه خيرٌ وصلاحٌ في مَعاشِها ومَعادِها، وأوَّلُ ما يَدخُلُ في ذلك العِلمُ بأسْماءِ اللهِ وصِفاتِه وأفعالِه؛ فإنَّ العِلمَ بذلك أنفَعُ العُلُومِ، وهو زُبدةُ الرِّسالةِ الإلهِيَّةِ، وخُلاصةُ الدَّعوةِ النَّبَويَّةِ، وبه قِوامُ الدِّينِ قَولًا وعَمَلًا واعتِقادًا) .
ثانياً : : العِلْمُ بأسْماءِ اللهِ وصِفاتِه أصلٌ للعِلمِ بكُلِّ ما سِواه :
إحصاءُ الأسماءِ الحُسنى والعِلْمُ بها: أصلٌ للعِلْمِ بكُلِّ مَعْلُومٍ؛ فإنَّ المَعْلُوماتِ سِوى اللهِ تعالى إمَّا أن تكونَ خَلًقا له تعالى، أو أمرًا، فهي إمَّا عِلمٌ بما كوَّنَه، أو عِلمٌ بما شَرَعَه، ومَصدَرُ الخَلْقِ والأمرِ هو أسماؤُه الحُسنى، فمن أحصى أسماءَه كما ينبغي أحصى جميعَ العُلُومِ؛ لأنَّ كُلَّ المَعْلُوماتِ هي مِن مُقتَضاها، ومُرتَبِطةٌ بها .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (فإنَّ كُلَّ ما يُعلَمُ ويُقالُ يدخُلُ في معرفةِ اللهِ؛ إذْ لا موجودَ إلَّا وهو خَلْقُه، وكُلُّ ما في المخلوقاتِ مِن الصِّفاتِ والأسماءِ والأقدارِ والأفعالِ فإنَّها شواهِدُ ودلائِلُ على ما للهِ سُبحانَه من الأسماءِ الحُسْنى والصِّفاتِ العُلا؛ إذ كُلُّ كمالٍ في المخلوقاتِ فمِن أَثَرِ كَمالِه، وكُلُّ كَمالٍ ثَبَت لمخلوقٍ فالخالِقُ أحَقُّ به، وكُلُّ نَقصٍ تنَزَّه عنه مخلوقٌ فالخالِقُ أحَقُّ بتنزيهِه عنه) .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (العِلْمُ به تعالى أصلٌ للعِلْمِ بكُلِّ ما سِواه، فالعِلْمُ بأسمائِه وإحصاؤُها أصلٌ لسائِرِ العُلُومِ، فمن أحصى أسماءَه كما ينبغي للمَخلوقِ أحصى جميعَ العُلُومِ؛ إذ إحصاءُ أسمائِه أصلٌ لإحصاءِ كُلِّ مَعْلُومٍ؛ لأنَّ المَعْلُوماتِ هي مِن مُقتَضاها ومُرتَبِطةٌ بها) .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (لا حياةَ للقُلوبِ ولا نَعيمَ ولا لَذَّةَ ولا سُرورَ ولا أمانَ ولا طُمَأنينةَ إلَّا بأن تَعرِفَ ربَّها ومَعبودَها وفاطِرَها بأسمائِه وصِفاتِه وأفعالِه، ويكونَ أحَبَّ إليها مِمَّا سِواه، ويكونَ سَعْيُها فيما يُقَرِّبُها إليه ويُدْنيها من مَرْضاتِه، ومِن المُحالِ أن تَستَقِلَّ العُقولُ البَشَريَّةُ بمعرفةِ ذلك وإدراكِه على التَّفصيلِ؛ فاقتَضَت رحمةُ العزيزِ الرَّحيمِ أنْ بَعَث الرُّسُلَ به مُعَرِّفينَ، وإليه داعِينَ، ولِمن أجابهم مُبَشِّرينَ، ومَن خالَفَهم مُنذِرينَ، وجَعَل مِفتاحَ دَعوتِهم وزُبدةَ رِسالتِهم مَعرِفةَ المعبودِ سُبحانَه بأسمائِه وصِفاتِه وأفعالِه؛ إذ على هذه المعرفةِ تَنبني مَطالِبُ الرِّسالةِ جميعُها) .
ثالثاً : : العِلْمُ بأسْماءِ اللهِ وصِفاتِه هو الطَّريقُ إلى مَعرفةِ اللهِ عزَّ وجَلَّ :
لا سَبيلَ إلى مَعرفةِ اللهِ إلَّا بمعرفةِ أسمائِه وصِفاتِه، والتفَقُّهِ في فَهمِ مَعانيها. وقد اشتَمَل القُرآنُ من ذلك على ما لم يَشتَمِلْ عليه غيرُه، من تفاصيلِ ذلك، وتوضيحِها والتعَرُّفِ بها إلى عبادِه، وتعريفِهم لنَفْسِه؛ كي يَعرِفوه، فقد خَلَق اللهُ الخَلْقَ لِيَعبُدوه ويَعرِفوه، فهذا هو الغايةُ المطلوبةُ منهم، فالاشتغالُ بذلك اشتِغالٌ بما خُلِقَ له العَبدُ، وتَرْكُه وتضييعُه إهمالٌ لِما خُلِقَ له .
قال العِزُّ بنُ عبدِ السَّلامِ: (فَهْمُ معاني أسْماءِ اللهِ تعالى وسيلةٌ إلى مُعامَلتِه بثَمَراتِها، مِن الخَوفِ والرَّجاءِ والمهابةِ والمحبَّةِ والتَّوكُّلِ، وغيرِ ذلك من ثمراتِ مَعرفةِ الصِّفاتِ) .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (من عَرَف أسْماءَ اللهِ ومعانيَها وآمَنَ بها، كان إيمانُه أكمَلَ مِمَّن لم يعرِفْ تلك الأسماءَ، بل آمَنَ بها إيمانًا مجمَلًا، أو عرَفَ بَعْضَها، وكُلَّما ازداد الإنسانُ مَعرفةً بأسْماءِ اللهِ وصِفاتِه وآياتِه، كان إيمانُه به أكمَلَ) .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (أساسُ دَعوةِ الرُّسُلِ صَلَواتُ اللهِ وسَلامُه عليهم: مَعرِفةُ اللهِ سُبحانَه بأسمائِه وصِفاتِه وأفعالِه، ثمَّ يَتْبَعُ ذلك أصلانِ عَظيمانِ:
أحَدُهما: تعريفُ الطَّريقِ الموصِلةِ إليه، وهي شريعتُه المتضَمِّنةُ لأمْرِه ونَهْيِه.
الثَّاني: تعريفُ السَّالكينَ ما لهم بعد الوُصولِ إليه؛ مِنَ النَّعيمِ الذي لا يَنفَدُ، وقُرَّةِ العَينِ التي لا تنقَطِعُ.
وهذان الأصلانِ تابعانِ للأصلِ الأوَّلِ ومَبنيَّانِ عليه؛ فأعرَفُ النَّاسِ باللهِ أتبَعُهم للطَّريقِ الموصِلِ إليه، وأعرَفُهم بحالِ السَّالِكينَ عندَ القُدومِ عليه) .
وقال السَّعْديُّ: (أصلُ التَّوحيدِ: إثباتُ ما أثبَتَه اللهُ لنَفْسِه أو أثبَتَه له رَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من الأسماءِ الحُسنى، ومَعرفةُ ما احتوت عليه من المعاني الجليلةِ، والمعارفِ الجَميلةِ، والتعَبُّدُ لله بها، ودعاؤُه بها. فكُلُّ مَطلَبٍ يَطلُبُه العَبدُ مِن رَبِّه مِن أمورِ دينِه ودُنياه، فلْيتوسَّلْ إليه باسمٍ مُناسِبٍ له من أسْماءِ اللهِ الحُسنى؛ فمَن دعاه لحُصوِل رِزقٍ فلْيَسأَلْه باسمِه الرَّزَّاقِ، ولحُصولِ رَحمةٍ ومَغفرةٍ فباسمِه الرَّحيمِ الرَّحمنِ البَرِّ الكريمِ العَفُوِّ الغَفُورِ التَّوابِ، ونحوِ ذلك. وأفضَلُ مِن ذلك أن يَدعوَه بأسمائِه وصِفاتِه دُعاءَ العِبادةِ، وذلك باستِحضارِ معاني الأسماءِ الحُسْنى، وتحصيلِها في القُلوبِ؛ حتى تتأثَّرَ القُلوبُ بآثارِها ومُقتَضياتهاِ، وتمتَلِئَ بأجَلِّ المعارِفِ.
فمَثَلًا: أسماءُ العَظَمةِ والكِبرياءِ والمجْدِ والجَلالِ والهَيبةِ؛ تَملأُ القَلْبَ تَعظيمًا لله وإجلالًا له.
وأسماءُ الجَمالِ والبِرِّ والإحسانِ والرَّحمةِ والجُودِ؛ تملأُ القَلبَ محبَّةً لله وشَوقًا له، وحمدًا له وشُكرًا.
وأسماءُ العِزِّ والحِكمةِ والعِلْمِ والقُدرةِ؛ تملأُ القَلْبَ خُضوعًا لله وخُشوعًا وانكسارًا بين يَدَيه.
وأسماءُ العِلْمِ والخِبرةِ والإحاطةِ والمراقَبةِ والمشاهَدةِ؛ تملأُ القَلبَ مُراقبةً لله في الحَركاتِ والسَّكَناتِ، وحِراسةً للخواطِرِ عن الأفكارِ الرَّدِيَّةِ والإراداتِ الفاسِدةِ.
وأسماءُ الغِنى واللُّطفِ؛ تملأ القَلبَ افتقارًا واضطرارًا إليه، والتفاتًا إليه في كُلِّ وقتٍ وفي كُلِّ حالٍ.
فهذه المعارِفُ التي تحصُلُ للقُلوبِ بسَبَبِ مَعرفةِ العَبدِ بأسمائِه وصِفاتِه وتعَبُّدِه بها لله؛ لا يُحصِّلُ العبدُ في الدُّنيا أجَلَّ ولا أفضَلَ ولا أكمَلَ منها، وهي أفضَلُ العطايا مِنَ اللهِ لعَبْدِه، وهي رُوحُ التَّوحيدِ ورَوحُه، ومَن انفَتَح له هذا البابُ انفَتَح له بابُ التَّوحيدِ الخالِصِ، والإيمانِ الكامِلِ، الذي لا يَحصُلُ إلَّا للكُمَّلِ مِن الموَحِّدينَ)
رابعاً : العِلْمُ بأسْماءِ اللهِ وصِفاتِه مِن أسبابِ زيادةِ الإيمانِ :
حقيقةُ الإيمانِ أن يَعرِفَ العَبدُ الربَّ الذي يُؤمِنُ به، ويَبذُلُ جُهدَه في معرفةِ أسمائِه وصِفاتِه؛ حتى يبلُغَ دَرَجةَ اليَقينِ، وبحَسَبِ مَعرفتِه برَبِّه يكونُ إيمانُه؛ فكُلَّما ازداد معرفةً برَبِّه ازداد إيمانُه، وكُلَّما نَقَصَ نَقَصَ، وأقرَبُ طريقٍ يُوصِلُ إلى ذلك تدَبُّرُ أسمائِه وصِفاتِه مِنَ القُرآنِ، والطَّريقُ في ذلك إذا مَرَّ به اسمٌ مِن أسماءِ اللهِ أثبت له ذلك المعنى وكمالَه وعُمومَه، ونزَّهَه عما يُضادُّ ذلك .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (من عَرَف أسْماءَ اللهِ ومعانيَها فآمَنَ بها، كان إيمانُه أكمَلَ مِمَّن لم يَعرِفْ تلك الأسماءَ، بل آمَنَ بها إيمانًا مُجمَلًا أو عَرَفَ بَعْضَها، وكُلَّما ازداد الإنسانُ معرفةً بأسْماءِ اللهِ وصِفاتِه وآياتِه، كان إيمانُه به أكمَلَ) .
وقال ابنُ رجب: (قال المَرْوَذِيُّ: قُلتُ لأحمَدَ في: مَعرفةِ اللهِ بالقَلْبِ تتفاضَلُ فيه؟ قال: نعم، قلتُ: ويزيدُ؟ قال: نعم.
ذكَرَه الخَلَّالُ عنه... وتُفَسَّرُ زيادةُ المعرفةِ بمعنيَينِ:
أحَدُهما: زيادةُ المعرِفةِ بتفاصيلِ أسْماءِ اللهِ وصِفاتِه وأفعالِه، وأسماءِ الملائِكةِ والنَّبيِّينَ والكُتُبِ المنَزَّلةِ عليهم، وتفاصيلِ اليَومِ الآخِرِ. وهذا ظاهِرٌ لا يَقبَلُ نِزاعًا.
والثَّاني: زيادةُ المعرفةِ بالوَحدانيَّةِ بزيادةِ مَعرفةِ أدِلَّتِها؛ فإنَّ أدِلَّتَها لا تُحصَرُ؛ إذ كُلُّ ذَرَّةٍ مِنَ الكَونِ فيها دَلالةٌ على وُجودِ الخالِقِ ووَحْدانيَّتِه، فمَن كَثُرَت مَعرِفتُه بهذه الأدِلَّةِ زادت مَعْرِفتُه على من ليس كذلك، وكذلك المعرِفةُ بالنبُوَّاتِ واليَومِ الآخِرِ والقَدَرِ، وغيرِ ذلك مِنَ الغَيبِ الذي يجِبُ الإيمانُ به) .
وقال السَّعْديُّ: (اللهُ تعالى قد جَعَل لكُلِّ مَطلوبٍ سَببًا وطريقًا يوصِلُ إليه، والإيمانُ أعظَمُ المطالِبِ وأهمُّها وأعمُّها، وقد جَعَل اللهُ له موادَّ كبيرةً تَجلِبُه وتُقَوِّيه، كما كان له أسبابٌ تُضعِفُه وتُوهِيه.
وموادُّه التي تجلِبُه وتُقَوِّيه أمرانِ: مجمَلٌ ومُفَصَّلٌ.
أمَّا المُجمَلُ فهو التدبُّرُ لآياتِ اللهِ المتلُوَّةِ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ، والتأمُّلُ لآياتِه الكَونيَّةِ على اختِلافِ أنواعِها، والحِرصُ على مَعرِفةِ الحَقِّ الذي خُلِقَ له العَبدُ، والعَمَلُ بالحَقِّ؛ فجَميعُ الأسبابِ مَرجِعُها إلى الأصلِ العَظيمِ.
وأمَّا التَّفصيلُ، فالإيمانُ يَحصُلُ ويَقْوى بأمورٍ كثيرةٍ.
1 - منها، بل أعظَمُها: مَعرِفةُ أسْماءِ اللهِ الحُسْنى الواردةِ في الكِتابِ والسُّنَّةِ، والحِرصُ على فَهْمِ مَعانيها، والتعَبُّدُ لله فيها.
فقد ثَبَت في الصَّحيحَينِ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((إنَّ للهِ تِسعةً وتِسعينَ اسمًا -مائةً إلَّا واحِدًا- من أحصاها دخَلَ الجنَّةَ )) أي: مَن حَفِظَها وفَهِمَ مَعانيَها، واعتَقَدَها، وتعَبَّدَ لله بها؛ دَخَل الجنَّةَ. والجَنَّةُ لا يَدخُلُها إلَّا المؤمنونَ.
فعُلِمَ أنَّ ذلك أعظَمُ يَنبُوعٍ ومادَّةٍ لحُصولِ الإيمانِ وقُوَّتِه وثَباتِه، ومَعرفةُ الأسماءِ الحُسْنى هي أصلُ الإيمانِ، والإيمانُ يَرجِعُ إليها.
ومَعْرِفتُها تتضَمَّنُ أنواعَ التَّوحيدِ الثَّلاثةِ: توحيدِ الرُّبوبيَّةِ، وتوحيدِ الإلهِيَّةِ، وتوحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ. وهذه الأنواعُ هي رُوحُ الإيمانِ ورَوْحُه، وأصلُه وغايتُه. فكُلَّما ازداد العَبدُ معرفةً بأسْماءِ اللهِ وصِفاتِه، ازداد إيمانُه، وقَوِيَ يقينُه؛ فينبغي للمُؤمِنِ أن يَبذُلَ مَقدورَه ومُستطاعَه في مَعرفةِ الأسماءِ والصِّفاتِ، وتكونَ مَعْرِفتُه سالِمةً مِن داءِ التَّعطيلِ ومِن داءِ التَّمثيلِ اللَّذينِ ابتُلِيَ بهما كثيرٌ مِن أهلِ البِدَعِ المخالِفةِ لِما جاء به الرَّسولُ، بل تكونُ المعرِفةُ مُتلَقَّاةً مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ،
وما رُوِيَ عن الصَّحابةِ والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ، فهذه المعرِفةُ النَّافِعةُ التي لا يزالُ صاحِبُها في زيادةٍ في إيمانِه وقُوَّةِ يقينِه، وطُمَأنينةٍ في أحوالِه) .
وقال ابنُ عُثَيمين: (لزيادةِ الإيمانِ أسبابٌ؛ منها: مَعرِفةُ أسْماءِ اللهِ وصِفاتِه، فإنَّ العَبدَ كُلَّما ازداد معرفةً بها وبمُقتَضياتِها وآثارِها، ازداد إيمانًا برَبِّه، وحُبًّا له وتعظيمًا) .
خامساً : عِظَمُ ثوابِ مَن أحصى أسماءَ اللهِ سُبحانَه وتعالى :
قال الله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف: 180] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لله تِسعةٌ وتِسعونَ اسمًا؛ مائةٌ إلَّا واحِدًا، لا يَحفَظُها أحَدٌ إلَّا دَخَل الجنَّةَ، وهو وِتْرٌ يُحِبُّ الوِتْرَ )) . وفي روايةٍ: ((مَن أحصاها دَخَل الجَنَّةَ )) .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (الصَّوابُ الذي عليه جُمهورُ العُلَماءِ أنَّ قَولَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ للهِ تِسعةً وتِسعينَ أسمًا من أحصاها دَخَل الجَنَّةَ )) معناه أنَّ من أحصى التِّسعةَ والتِّسعينَ مِن أسمائِه دَخَل الجنَّةَ، ليس مرادُه أنَّه ليس له إلَّا تسعةٌ وتِسعونَ اسمًا) .
وقال أيضًا: (إنَّ التِّسعةَ والتِّسعينَ اسمًا لم يَرِدْ في تعيينِها حديثٌ صَحيحٌ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأشهَرُ ما عندَ النَّاسِ فيها حديثُ التِّرمذيِّ الذي رواه الوَليدُ بنُ مُسلمٍ عن شُعَيبٍ عن أبي حمزةَ ، وحُفَّاظُ أهلِ الحديثِ يقولونَ: هذه الزِّيادةُ مِمَّا جمَعَه الوَليدُ بنُ مُسلِمٍ عن شُيوخِه مِن أهلِ الحَديثِ. وفيها حديثٌ ثانٍ أضعَفُ من هذا، رواه ابنُ ماجَهْ) .
وقال ابنُ كثيرٍ: (الذي عوَّل عليه جماعةٌ مِن الحُفَّاظِ أنَّ سَرْدَ الأسماءِ في هذا الحديثِ مُدرَجٌ فيه، وإنَّما ذلك كما رواه الوَليدُ بنُ مُسلمٍ وعبدُ المَلِكِ بنُ محمَّدٍ الصَّنعانيُّ، عن زُهيرِ بنِ محمَّدٍ: أنَّه بَلَغَه عن غيرِ واحدٍ مِن أهلِ العِلْم أنَّهم قالوا ذلك، أي: أنَّهم جَمَعوها مِن القُرآنِ، كما ورد عن جَعفرِ بنِ محمَّدٍ وسُفيانَ بنِ عُيَينةَ وأبي زَيدٍ اللُّغَويِّ. واللهُ أعلَمُ. ثمَّ ليُعلَمْ أنَّ الأسماءَ الحُسْنى ليست مُنحَصِرةً في التِّسعةِ والتِّسعينَ) .
وقد اختَلَف أهلُ العِلْم في المرادِ بإحصائِها.
قال الخَطَّابيُّ: (الإحصاءُ في هذا يحتَمِلُ وُجوهًا؛ أظهَرُها العَدُّ لها حتى يستوفِيَها، يريدُ أنَّه لا يَقتَصِرُ على بَعْضِها، لكِنْ يدعو اللهَ بها كُلِّها، ويُثني على اللهِ بجَميعِها، فيَستوجِبُ بذلك الموعودَ عليها من الثَّوابِ) .
وقال عِياضٌ: (قَولُه: (من أحصاها): قيل: مَن حَفِظَها، وقد جاء مُفَسَّرًا في حديثٍ (مَن حَفِظَها) . وقيل: من عَدَّها ليدعوَ بها، كقَولِه: وَأَحْصَى كُلَّ شَىْءٍ عَدَدًا
وقيل: (من أحصاها): من وَحَّد اللهَ بها ودعا بها، يريدُ توحيدَه وتعظيمَه والإخلاصَ له. وقيل: (أحصاها) بمعنى: أطاقها. كقَولِه: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ أي: تُطيقُوه، وإطاقتُها: حُسنُ المراعاةِ لها، والمحافَظةُ لحُدودِها، والتَّصديقُ بمعانيها، والعِلْمُ بها، ومُقتَضى كُلِّ اسمٍ وصِفةٍ يُستفادُ منها، وتحقيقُها.
وقيل: إحصاؤُها: العَمَلُ بها، والتعَبُّدُ للهِ بمعنى كُلِّ اسمٍ منها، والإيمانُ بها لا يَقتَضي تعَبُّدًا ولا عَمَلًا. وقيل: معنى ذلك خَتْمُ القُرآنِ وتِلاوتُه كُلِّه؛ لأنَّه مُستَوفٍ لهذه الأسماءِ) .
وقال النَّوويُّ: (قال البُخاريُّ وغَيرُه مِن المحَقِّقينَ: معناه: حِفْظُها، وهذا هو الأظهَرُ؛ لأنَّه جاء مُفَسَّرًا في الرِّوايةِ الأُخرى: (مَن حَفِظَها).
وقيل: أحصاها: عَدَّها في الدُّعاءِ بها.
وقيل: أطاقَها، أي: أحسَنَ المراعاةَ لها والمحافَظةَ على ما تَقتَضيه، وصَدَّقَ بمعانيها.
وقيل: معناه: العَمَلُ بها والطَّاعةُ بكُلِّ اسمِها، والإيمانُ بها لا يقتَضي عَمَلًا.
وقال بَعضُهم: المرادُ: حِفْظُ القُرآنِ وتِلاوتُه كُلِّه؛ لأنَّه مُستَوفٍ لها. وهو ضعيفٌ، والصَّحيحُ الأوَّلُ) .
وقال ابنُ عُثَيمين: (إحصاءُ أسْماءِ اللهِ معناه:
1- الإحاطةُ بها لفظًا ومعنًى.
2- دُعاءُ اللهِ بها؛ لِقَولِه تعالى: فَادْعُوهُ بِهَا، وذلك بأن تجعَلَها وَسيلةً لك عند الدُّعاءِ،
فتَقولَ: يا ذا الجَلالِ والإكرامِ، يا حَيُّ يا قَيُّومُ، وما أشبَهَ ذلك.
3- أن تتعبَّدَ لله بمُقتَضاها، فإذا عَلِمْتَ أنَّه رحيمٌ، تتعَرَّضُ لرَحمتِه، وإذا عَلِمتَ أنَّه غفورٌ، تتعَرَّضُ لمغفرتِه، وإذا عَلِمتَ أنَّه سميعٌ، اتَّقَيتَ القَولَ الذي يُغضِبُه، وإذا عَلِمتَ أنَّه بصيرٌ، اجتَنبْتَ الفِعلَ الذي لا يرضاه)
----------------------------------------------------------------------------------------
التالي : -
أ:: أحكامُ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ ::
-
وما زلنا أحبابنا تابعونا جزاكم الله خيرا
اليوم في 3:00 pm من طرف عبدالله الآحد
» كتاب الترجيح في مسائل الطهارة والصلاة
أمس في 9:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» وجوب التوكل على الله وخده لا شريك له
أمس في 3:26 pm من طرف عبدالله الآحد
» أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 5:24 pm من طرف عبدالله الآحد
» العبادة وأركانها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 2:55 pm من طرف عبدالله الآحد
» الراجح من أقوال العلماء أن جلسة الاستراحة سنة في الصلاة
الإثنين نوفمبر 18, 2024 2:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» -(( 3 -))- خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
الأحد نوفمبر 17, 2024 10:15 pm من طرف صادق النور
» لا يعلم الغيب إلا الله وحده لا شريك له
الأحد نوفمبر 17, 2024 3:12 pm من طرف عبدالله الآحد
» تابع زبدة التوحيد لنعمان بن عبد الكريم الوتر
السبت نوفمبر 16, 2024 2:15 pm من طرف عبدالله الآحد
» هيئات السجود المسنونة
الخميس نوفمبر 14, 2024 3:24 pm من طرف عبدالله الآحد