آل راشد



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

آل راشد

آل راشد

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
آل راشد

ثقافى-اجتماعى

*** - اللَّهُمَّ اَنَكَ عَفْوٍ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعِفُو عَنَّا - *** - اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك . *** - اللَّهُمَّ اُرْزُقْنَا تَوْبَةً نَصُوحًا قَبْلَ الْمَوْتِ وَ ارْزُقْنَا حُسْنَ الْخَاتِمَةِ . *** -

إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا شَابَتْ عَبِيدَهُمْ.. .. فِي رِقِّهِمْ عَتَقُوهُمْ عِتْقَ أَبْرَارٍ .. .. وَأَنْتَ يَا خَالِقِيُّ أوْلَى بِذَا كَرَمًا.. .. قَدْ شُبْتُ فِي الرِّقِّ فَأَعْتَقَنِي مِنَ النَّارِ .

المواضيع الأخيرة

» وجوب الدعوة إلى توحيد الله سبحانه
 توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ، ومَنزِلتُه وأحكامُه :-أحكامُ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ :-معنى الصِّفةِ والوَصْفِ والنَّعْتِ والاسمِ Ooou110اليوم في 3:00 pm من طرف عبدالله الآحد

» كتاب الترجيح في مسائل الطهارة والصلاة
 توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ، ومَنزِلتُه وأحكامُه :-أحكامُ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ :-معنى الصِّفةِ والوَصْفِ والنَّعْتِ والاسمِ Ooou110أمس في 9:31 pm من طرف عبدالله الآحد

» وجوب التوكل على الله وخده لا شريك له
 توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ، ومَنزِلتُه وأحكامُه :-أحكامُ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ :-معنى الصِّفةِ والوَصْفِ والنَّعْتِ والاسمِ Ooou110أمس في 3:26 pm من طرف عبدالله الآحد

» أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها
 توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ، ومَنزِلتُه وأحكامُه :-أحكامُ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ :-معنى الصِّفةِ والوَصْفِ والنَّعْتِ والاسمِ Ooou110الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 5:24 pm من طرف عبدالله الآحد

» العبادة وأركانها
 توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ، ومَنزِلتُه وأحكامُه :-أحكامُ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ :-معنى الصِّفةِ والوَصْفِ والنَّعْتِ والاسمِ Ooou110الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 2:55 pm من طرف عبدالله الآحد

» الراجح من أقوال العلماء أن جلسة الاستراحة سنة في الصلاة
 توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ، ومَنزِلتُه وأحكامُه :-أحكامُ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ :-معنى الصِّفةِ والوَصْفِ والنَّعْتِ والاسمِ Ooou110الإثنين نوفمبر 18, 2024 2:31 pm من طرف عبدالله الآحد

» -(( 3 -))- خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
 توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ، ومَنزِلتُه وأحكامُه :-أحكامُ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ :-معنى الصِّفةِ والوَصْفِ والنَّعْتِ والاسمِ Ooou110الأحد نوفمبر 17, 2024 10:15 pm من طرف صادق النور

» لا يعلم الغيب إلا الله وحده لا شريك له
 توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ، ومَنزِلتُه وأحكامُه :-أحكامُ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ :-معنى الصِّفةِ والوَصْفِ والنَّعْتِ والاسمِ Ooou110الأحد نوفمبر 17, 2024 3:12 pm من طرف عبدالله الآحد

» تابع زبدة التوحيد لنعمان بن عبد الكريم الوتر
 توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ، ومَنزِلتُه وأحكامُه :-أحكامُ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ :-معنى الصِّفةِ والوَصْفِ والنَّعْتِ والاسمِ Ooou110السبت نوفمبر 16, 2024 2:15 pm من طرف عبدالله الآحد

» هيئات السجود المسنونة
 توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ، ومَنزِلتُه وأحكامُه :-أحكامُ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ :-معنى الصِّفةِ والوَصْفِ والنَّعْتِ والاسمِ Ooou110الخميس نوفمبر 14, 2024 3:24 pm من طرف عبدالله الآحد

اهلا بكم

الثلاثاء نوفمبر 08, 2011 2:32 am من طرف mohamed yousef

 توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ، ومَنزِلتُه وأحكامُه :-أحكامُ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ :-معنى الصِّفةِ والوَصْفِ والنَّعْتِ والاسمِ Ooousu10

المتواجدون الآن ؟

ككل هناك 33 عُضو متصل حالياً :: 1 أعضاء, 0 عُضو مُختفي و 32 زائر :: 3 عناكب الفهرسة في محركات البحث

عبدالله الآحد


أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 624 بتاريخ الأربعاء سبتمبر 15, 2021 4:26 am

احصائيات

أعضاؤنا قدموا 10129 مساهمة في هذا المنتدى في 3406 موضوع

هذا المنتدى يتوفر على 311 عُضو.

آخر عُضو مُسجل هو Pathways فمرحباً به.

دخول

لقد نسيت كلمة السر

أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى

أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع


    توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ، ومَنزِلتُه وأحكامُه :-أحكامُ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ :-معنى الصِّفةِ والوَصْفِ والنَّعْتِ والاسمِ

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5385
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

     توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ، ومَنزِلتُه وأحكامُه :-أحكامُ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ :-معنى الصِّفةِ والوَصْفِ والنَّعْتِ والاسمِ Empty توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ، ومَنزِلتُه وأحكامُه :-أحكامُ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ :-معنى الصِّفةِ والوَصْفِ والنَّعْتِ والاسمِ

    مُساهمة من طرف صادق النور الأحد ديسمبر 24, 2023 10:20 am

    توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ، ومَنزِلتُه وأحكامُه

    :
    تعريفُ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ
    :


    قال السَّفارينيُّ: (تَوحيدُ الصِّفاتِ أن يُوصَفَ اللهُ تعالى بما وَصَف به نَفْسَه، وبما وصَفَه به نبيُّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نفيًا وإثباتًا، فيُثبَتُ له ما أثبَتَه لنَفْسِه، ويُنفى عنه ما نفاه عن نَفْسِه. وقد عُلِمَ أنَّ طريقةَ سَلَفِ الأُمَّةِ وأئمَّتِها إثباتُ ما أثبَتَه من الصِّفاتِ، مِن غيرِ تكييفٍ ولا تمثيلٍ، ومن غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، وكذلك يَنْفُون عنه ما نفاه عن نَفْسِه، مع ما أثبَتَه مِنَ الصِّفاتِ مِن غَيرِ إلحادٍ في الأسماءِ ولا في الآياتِ) .

    وقال السَّعْديُّ: (توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ: هو اعتقادُ انفِرادِ الرَّبِّ جَلَّ جلالُه بالكَمالِ المُطلَقِ مِن جميعِ الوُجوهِ بنُعوتِ العَظَمةِ والجَلالةِ والجَمالِ التي لا يشارِكُهُ فيها مُشارِكٌ بوَجهٍ مِنَ الوُجوهِ، وذلك بإثباتِ ما أثبَتَه اللهُ لنَفْسِه، أو أثبَتَه له رَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ من جميعِ الأسماءِ والصِّفاتِ ومعانيها وأحكامِها الوارِدةِ في الكِتابِ والسُّنَّةِ، على الوَجهِ اللَّائِقِ بعَظَمتِه وجَلالِه، من غيرِ نَفيٍ لشَيءٍ منها، ولا تعطيلٍ ولا تحريفٍ ولا تمثيلٍ ، ونَفيِ ما نفاه عن نَفْسِه أو نفاه عنه رَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من النَّقائِصِ والعُيوبِ، وعن كُلِّ ما ينافي كمالَه) .

    أولاً : العِلمُ بأسْماءِ اللهِ وصِفاتِه أشرَفُ العُلُومِ :
    إنَّ العِلمَ باللهِ وأسمائِه وصِفاتِه أشرَفُ العُلُومِ وأجَلُّها على الإطلاقِ؛ لأنَّ شَرَفَ العِلمِ بشَرَفِ المَعْلُوم، والمَعْلُومُ في هذا العِلمِ هو اللهُ سُبحانَه وتعالى بأسمائِه وصِفاتِه وأفعالِه، فالاشتِغالُ بفَهْمِه والبَحثِ التَّامِّ عنه اشتِغالٌ بأعلى المطالِبِ، وحُصولُه للعَبدِ مِن أشرَفِ المواهِبِ .
    قال اللَّالَكائيُّ: (أوجَبُ ما على المرءِ: مَعرفةُ اعتقادِ الدِّينِ، وما كَلَّف اللهُ به عبادَه مِن فَهمِ توحيدِه وصِفاتِه، وتصديقِ رُسُلِه بالدَّلائِلِ واليَقينِ، والتَّوصُّلِ إلى طُرُقِها والاستِدلالِ عليها بالحُجَج والبَراهينِ) .
    وقال ابنُ تَيميَّةَ: (معرفةُ هذا أصلُ الدِّينِ، وأساسُ الهِدايةِ، وأفضَلُ وأوجَبُ ما اكتسَبَتْه القُلوبُ، وحصَّلَتْه النُّفوسُ، وأدركَتْه العُقولُ) .
    وقال ابنُ القَيِّمِ: (كَمالُ النَّفسِ المطلوبُ ما تضَمَّنَ أمرَينِ؛ أحَدُهما: أن يَصيرَ هَيئةً راسِخةً وصِفةً لازِمةً له. الثَّاني: أن يكونَ صِفةَ كَمالٍ في نَفْسِه، فإذا لم يكُنْ كذلك لم يكُنْ كَمالًا، فلا يَليقُ بمن يسعى في كَمالِ نَفْسِه المنافَسةُ عليه، ولا الأسَفُ على فَوتِه، وذلك ليس إلَّا معرفةَ بارئِها وفاطِرِها ومَعبودِها وإلهِها الحَقِّ، الذي لا صلاحَ لها ولا نعيمَ ولا لَذَّةَ إلَّا بمعرفتِه، وإرادةِ وَجْهِه، وسُلوكِ الطَّريقِ الموصِلةِ إليه وإلى رِضاه وكَرامتِه، وأن تعتادَ ذلك فيصيرَ لها هيئةً راسِخةً لازِمةً، وما عدا ذلك من العُلُومِ والإراداتِ والأعمالِ فهي بين ما لا يَنفَعُها ولا يُكَمِّلُها، وما يعودُ بضَرَرِها ونَقْصِها وألَمِها، ولا سِيَّما إذا صار هيئةً راسِخةً لها؛ فإنَّها تُعَذَّبُ وتتألَّمُ به بحَسَبِ لُزومِه لها) .
    وقال ابنُ عُثَيمين: (العِلمُ النَّافِعُ يتضَمَّنُ كُلَّ عِلمٍ يكونُ للأمَّةِ فيه خيرٌ وصلاحٌ في مَعاشِها ومَعادِها، وأوَّلُ ما يَدخُلُ في ذلك العِلمُ بأسْماءِ اللهِ وصِفاتِه وأفعالِه؛ فإنَّ العِلمَ بذلك أنفَعُ العُلُومِ، وهو زُبدةُ الرِّسالةِ الإلهِيَّةِ، وخُلاصةُ الدَّعوةِ النَّبَويَّةِ، وبه قِوامُ الدِّينِ قَولًا وعَمَلًا واعتِقادًا) .

    ثانياً : : العِلْمُ بأسْماءِ اللهِ وصِفاتِه أصلٌ للعِلمِ بكُلِّ ما سِواه :

    إحصاءُ الأسماءِ الحُسنى والعِلْمُ بها: أصلٌ للعِلْمِ بكُلِّ مَعْلُومٍ؛ فإنَّ المَعْلُوماتِ سِوى اللهِ تعالى إمَّا أن تكونَ خَلًقا له تعالى، أو أمرًا، فهي إمَّا عِلمٌ بما كوَّنَه، أو عِلمٌ بما شَرَعَه، ومَصدَرُ الخَلْقِ والأمرِ هو أسماؤُه الحُسنى، فمن أحصى أسماءَه كما ينبغي أحصى جميعَ العُلُومِ؛ لأنَّ كُلَّ المَعْلُوماتِ هي مِن مُقتَضاها، ومُرتَبِطةٌ بها .
    قال ابنُ تَيميَّةَ: (فإنَّ كُلَّ ما يُعلَمُ ويُقالُ يدخُلُ في معرفةِ اللهِ؛ إذْ لا موجودَ إلَّا وهو خَلْقُه، وكُلُّ ما في المخلوقاتِ مِن الصِّفاتِ والأسماءِ والأقدارِ والأفعالِ فإنَّها شواهِدُ ودلائِلُ على ما للهِ سُبحانَه من الأسماءِ الحُسْنى والصِّفاتِ العُلا؛ إذ كُلُّ كمالٍ في المخلوقاتِ فمِن أَثَرِ كَمالِه، وكُلُّ كَمالٍ ثَبَت لمخلوقٍ فالخالِقُ أحَقُّ به، وكُلُّ نَقصٍ تنَزَّه عنه مخلوقٌ فالخالِقُ أحَقُّ بتنزيهِه عنه) .
    وقال ابنُ القَيِّمِ: (العِلْمُ به تعالى أصلٌ للعِلْمِ بكُلِّ ما سِواه، فالعِلْمُ بأسمائِه وإحصاؤُها أصلٌ لسائِرِ العُلُومِ، فمن أحصى أسماءَه كما ينبغي للمَخلوقِ أحصى جميعَ العُلُومِ؛ إذ إحصاءُ أسمائِه أصلٌ لإحصاءِ كُلِّ مَعْلُومٍ؛ لأنَّ المَعْلُوماتِ هي مِن مُقتَضاها ومُرتَبِطةٌ بها) .
    وقال ابنُ القَيِّمِ: (لا حياةَ للقُلوبِ ولا نَعيمَ ولا لَذَّةَ ولا سُرورَ ولا أمانَ ولا طُمَأنينةَ إلَّا بأن تَعرِفَ ربَّها ومَعبودَها وفاطِرَها بأسمائِه وصِفاتِه وأفعالِه، ويكونَ أحَبَّ إليها مِمَّا سِواه، ويكونَ سَعْيُها فيما يُقَرِّبُها إليه ويُدْنيها من مَرْضاتِه، ومِن المُحالِ أن تَستَقِلَّ العُقولُ البَشَريَّةُ بمعرفةِ ذلك وإدراكِه على التَّفصيلِ؛ فاقتَضَت رحمةُ العزيزِ الرَّحيمِ أنْ بَعَث الرُّسُلَ به مُعَرِّفينَ، وإليه داعِينَ، ولِمن أجابهم مُبَشِّرينَ، ومَن خالَفَهم مُنذِرينَ، وجَعَل مِفتاحَ دَعوتِهم وزُبدةَ رِسالتِهم مَعرِفةَ المعبودِ سُبحانَه بأسمائِه وصِفاتِه وأفعالِه؛ إذ على هذه المعرفةِ تَنبني مَطالِبُ الرِّسالةِ جميعُها) .

    ثالثاً : : العِلْمُ بأسْماءِ اللهِ وصِفاتِه هو الطَّريقُ إلى مَعرفةِ اللهِ عزَّ وجَلَّ :

    لا سَبيلَ إلى مَعرفةِ اللهِ إلَّا بمعرفةِ أسمائِه وصِفاتِه، والتفَقُّهِ في فَهمِ مَعانيها. وقد اشتَمَل القُرآنُ من ذلك على ما لم يَشتَمِلْ عليه غيرُه، من تفاصيلِ ذلك، وتوضيحِها والتعَرُّفِ بها إلى عبادِه، وتعريفِهم لنَفْسِه؛ كي يَعرِفوه، فقد خَلَق اللهُ الخَلْقَ لِيَعبُدوه ويَعرِفوه، فهذا هو الغايةُ المطلوبةُ منهم، فالاشتغالُ بذلك اشتِغالٌ بما خُلِقَ له العَبدُ، وتَرْكُه وتضييعُه إهمالٌ لِما خُلِقَ له .
    قال العِزُّ بنُ عبدِ السَّلامِ: (فَهْمُ معاني أسْماءِ اللهِ تعالى وسيلةٌ إلى مُعامَلتِه بثَمَراتِها، مِن الخَوفِ والرَّجاءِ والمهابةِ والمحبَّةِ والتَّوكُّلِ، وغيرِ ذلك من ثمراتِ مَعرفةِ الصِّفاتِ) .
    وقال ابنُ تَيميَّةَ: (من عَرَف أسْماءَ اللهِ ومعانيَها وآمَنَ بها، كان إيمانُه أكمَلَ مِمَّن لم يعرِفْ تلك الأسماءَ، بل آمَنَ بها إيمانًا مجمَلًا، أو عرَفَ بَعْضَها، وكُلَّما ازداد الإنسانُ مَعرفةً بأسْماءِ اللهِ وصِفاتِه وآياتِه، كان إيمانُه به أكمَلَ) .
    وقال ابنُ القَيِّمِ: (أساسُ دَعوةِ الرُّسُلِ صَلَواتُ اللهِ وسَلامُه عليهم: مَعرِفةُ اللهِ سُبحانَه بأسمائِه وصِفاتِه وأفعالِه، ثمَّ يَتْبَعُ ذلك أصلانِ عَظيمانِ:
    أحَدُهما: تعريفُ الطَّريقِ الموصِلةِ إليه، وهي شريعتُه المتضَمِّنةُ لأمْرِه ونَهْيِه.
    الثَّاني: تعريفُ السَّالكينَ ما لهم بعد الوُصولِ إليه؛ مِنَ النَّعيمِ الذي لا يَنفَدُ، وقُرَّةِ العَينِ التي لا تنقَطِعُ.
    وهذان الأصلانِ تابعانِ للأصلِ الأوَّلِ ومَبنيَّانِ عليه؛ فأعرَفُ النَّاسِ باللهِ أتبَعُهم للطَّريقِ الموصِلِ إليه، وأعرَفُهم بحالِ السَّالِكينَ عندَ القُدومِ عليه) .
    وقال السَّعْديُّ: (أصلُ التَّوحيدِ: إثباتُ ما أثبَتَه اللهُ لنَفْسِه أو أثبَتَه له رَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من الأسماءِ الحُسنى، ومَعرفةُ ما احتوت عليه من المعاني الجليلةِ، والمعارفِ الجَميلةِ، والتعَبُّدُ لله بها، ودعاؤُه بها. فكُلُّ مَطلَبٍ يَطلُبُه العَبدُ مِن رَبِّه مِن أمورِ دينِه ودُنياه، فلْيتوسَّلْ إليه باسمٍ مُناسِبٍ له من أسْماءِ اللهِ الحُسنى؛ فمَن دعاه لحُصوِل رِزقٍ فلْيَسأَلْه باسمِه الرَّزَّاقِ، ولحُصولِ رَحمةٍ ومَغفرةٍ فباسمِه الرَّحيمِ الرَّحمنِ البَرِّ الكريمِ العَفُوِّ الغَفُورِ التَّوابِ، ونحوِ ذلك. وأفضَلُ مِن ذلك أن يَدعوَه بأسمائِه وصِفاتِه دُعاءَ العِبادةِ، وذلك باستِحضارِ معاني الأسماءِ الحُسْنى، وتحصيلِها في القُلوبِ؛ حتى تتأثَّرَ القُلوبُ بآثارِها ومُقتَضياتهاِ، وتمتَلِئَ بأجَلِّ المعارِفِ.
    فمَثَلًا: أسماءُ العَظَمةِ والكِبرياءِ والمجْدِ والجَلالِ والهَيبةِ؛ تَملأُ القَلْبَ تَعظيمًا لله وإجلالًا له.
    وأسماءُ الجَمالِ والبِرِّ والإحسانِ والرَّحمةِ والجُودِ؛ تملأُ القَلبَ محبَّةً لله وشَوقًا له، وحمدًا له وشُكرًا.
    وأسماءُ العِزِّ والحِكمةِ والعِلْمِ والقُدرةِ؛ تملأُ القَلْبَ خُضوعًا لله وخُشوعًا وانكسارًا بين يَدَيه.
    وأسماءُ العِلْمِ والخِبرةِ والإحاطةِ والمراقَبةِ والمشاهَدةِ؛ تملأُ القَلبَ مُراقبةً لله في الحَركاتِ والسَّكَناتِ، وحِراسةً للخواطِرِ عن الأفكارِ الرَّدِيَّةِ والإراداتِ الفاسِدةِ.
    وأسماءُ الغِنى واللُّطفِ؛ تملأ القَلبَ افتقارًا واضطرارًا إليه، والتفاتًا إليه في كُلِّ وقتٍ وفي كُلِّ حالٍ.
    فهذه المعارِفُ التي تحصُلُ للقُلوبِ بسَبَبِ مَعرفةِ العَبدِ بأسمائِه وصِفاتِه وتعَبُّدِه بها لله؛ لا يُحصِّلُ العبدُ في الدُّنيا أجَلَّ ولا أفضَلَ ولا أكمَلَ منها، وهي أفضَلُ العطايا مِنَ اللهِ لعَبْدِه، وهي رُوحُ التَّوحيدِ ورَوحُه، ومَن انفَتَح له هذا البابُ انفَتَح له بابُ التَّوحيدِ الخالِصِ، والإيمانِ الكامِلِ، الذي لا يَحصُلُ إلَّا للكُمَّلِ مِن الموَحِّدينَ)

    رابعاً : العِلْمُ بأسْماءِ اللهِ وصِفاتِه مِن أسبابِ زيادةِ الإيمانِ :

    حقيقةُ الإيمانِ أن يَعرِفَ العَبدُ الربَّ الذي يُؤمِنُ به، ويَبذُلُ جُهدَه في معرفةِ أسمائِه وصِفاتِه؛ حتى يبلُغَ دَرَجةَ اليَقينِ، وبحَسَبِ مَعرفتِه برَبِّه يكونُ إيمانُه؛ فكُلَّما ازداد معرفةً برَبِّه ازداد إيمانُه، وكُلَّما نَقَصَ نَقَصَ، وأقرَبُ طريقٍ يُوصِلُ إلى ذلك تدَبُّرُ أسمائِه وصِفاتِه مِنَ القُرآنِ، والطَّريقُ في ذلك إذا مَرَّ به اسمٌ مِن أسماءِ اللهِ أثبت له ذلك المعنى وكمالَه وعُمومَه، ونزَّهَه عما يُضادُّ ذلك .
    قال ابنُ تَيميَّةَ: (من عَرَف أسْماءَ اللهِ ومعانيَها فآمَنَ بها، كان إيمانُه أكمَلَ مِمَّن لم يَعرِفْ تلك الأسماءَ، بل آمَنَ بها إيمانًا مُجمَلًا أو عَرَفَ بَعْضَها، وكُلَّما ازداد الإنسانُ معرفةً بأسْماءِ اللهِ وصِفاتِه وآياتِه، كان إيمانُه به أكمَلَ) .
    وقال ابنُ رجب: (قال المَرْوَذِيُّ: قُلتُ لأحمَدَ في: مَعرفةِ اللهِ بالقَلْبِ تتفاضَلُ فيه؟ قال: نعم، قلتُ: ويزيدُ؟ قال: نعم.
    ذكَرَه الخَلَّالُ عنه... وتُفَسَّرُ زيادةُ المعرفةِ بمعنيَينِ:
    أحَدُهما: زيادةُ المعرِفةِ بتفاصيلِ أسْماءِ اللهِ وصِفاتِه وأفعالِه، وأسماءِ الملائِكةِ والنَّبيِّينَ والكُتُبِ المنَزَّلةِ عليهم، وتفاصيلِ اليَومِ الآخِرِ. وهذا ظاهِرٌ لا يَقبَلُ نِزاعًا.
    والثَّاني: زيادةُ المعرفةِ بالوَحدانيَّةِ بزيادةِ مَعرفةِ أدِلَّتِها؛ فإنَّ أدِلَّتَها لا تُحصَرُ؛ إذ كُلُّ ذَرَّةٍ مِنَ الكَونِ فيها دَلالةٌ على وُجودِ الخالِقِ ووَحْدانيَّتِه، فمَن كَثُرَت مَعرِفتُه بهذه الأدِلَّةِ زادت مَعْرِفتُه على من ليس كذلك، وكذلك المعرِفةُ بالنبُوَّاتِ واليَومِ الآخِرِ والقَدَرِ، وغيرِ ذلك مِنَ الغَيبِ الذي يجِبُ الإيمانُ به) .
    وقال السَّعْديُّ: (اللهُ تعالى قد جَعَل لكُلِّ مَطلوبٍ سَببًا وطريقًا يوصِلُ إليه، والإيمانُ أعظَمُ المطالِبِ وأهمُّها وأعمُّها، وقد جَعَل اللهُ له موادَّ كبيرةً تَجلِبُه وتُقَوِّيه، كما كان له أسبابٌ تُضعِفُه وتُوهِيه.
    وموادُّه التي تجلِبُه وتُقَوِّيه أمرانِ: مجمَلٌ ومُفَصَّلٌ.
    أمَّا المُجمَلُ فهو التدبُّرُ لآياتِ اللهِ المتلُوَّةِ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ، والتأمُّلُ لآياتِه الكَونيَّةِ على اختِلافِ أنواعِها، والحِرصُ على مَعرِفةِ الحَقِّ الذي خُلِقَ له العَبدُ، والعَمَلُ بالحَقِّ؛ فجَميعُ الأسبابِ مَرجِعُها إلى الأصلِ العَظيمِ.
    وأمَّا التَّفصيلُ، فالإيمانُ يَحصُلُ ويَقْوى بأمورٍ كثيرةٍ.
    1 - منها، بل أعظَمُها: مَعرِفةُ أسْماءِ اللهِ الحُسْنى الواردةِ في الكِتابِ والسُّنَّةِ، والحِرصُ على فَهْمِ مَعانيها، والتعَبُّدُ لله فيها.
    فقد ثَبَت في الصَّحيحَينِ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((إنَّ للهِ تِسعةً وتِسعينَ اسمًا -مائةً إلَّا واحِدًا- من أحصاها دخَلَ الجنَّةَ )) أي: مَن حَفِظَها وفَهِمَ مَعانيَها، واعتَقَدَها، وتعَبَّدَ لله بها؛ دَخَل الجنَّةَ. والجَنَّةُ لا يَدخُلُها إلَّا المؤمنونَ.
    فعُلِمَ أنَّ ذلك أعظَمُ يَنبُوعٍ ومادَّةٍ لحُصولِ الإيمانِ وقُوَّتِه وثَباتِه، ومَعرفةُ الأسماءِ الحُسْنى هي أصلُ الإيمانِ، والإيمانُ يَرجِعُ إليها.
    ومَعْرِفتُها تتضَمَّنُ أنواعَ التَّوحيدِ الثَّلاثةِ: توحيدِ الرُّبوبيَّةِ، وتوحيدِ الإلهِيَّةِ، وتوحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ. وهذه الأنواعُ هي رُوحُ الإيمانِ ورَوْحُه، وأصلُه وغايتُه. فكُلَّما ازداد العَبدُ معرفةً بأسْماءِ اللهِ وصِفاتِه، ازداد إيمانُه، وقَوِيَ يقينُه؛ فينبغي للمُؤمِنِ أن يَبذُلَ مَقدورَه ومُستطاعَه في مَعرفةِ الأسماءِ والصِّفاتِ، وتكونَ مَعْرِفتُه سالِمةً مِن داءِ التَّعطيلِ ومِن داءِ التَّمثيلِ اللَّذينِ ابتُلِيَ بهما كثيرٌ مِن أهلِ البِدَعِ المخالِفةِ لِما جاء به الرَّسولُ، بل تكونُ المعرِفةُ مُتلَقَّاةً مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ،
    وما رُوِيَ عن الصَّحابةِ والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ، فهذه المعرِفةُ النَّافِعةُ التي لا يزالُ صاحِبُها في زيادةٍ في إيمانِه وقُوَّةِ يقينِه، وطُمَأنينةٍ في أحوالِه) .
    وقال ابنُ عُثَيمين: (لزيادةِ الإيمانِ أسبابٌ؛ منها: مَعرِفةُ أسْماءِ اللهِ وصِفاتِه، فإنَّ العَبدَ كُلَّما ازداد معرفةً بها وبمُقتَضياتِها وآثارِها، ازداد إيمانًا برَبِّه، وحُبًّا له وتعظيمًا) .

    خامساً : عِظَمُ ثوابِ مَن أحصى أسماءَ اللهِ سُبحانَه وتعالى :
    قال الله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف: 180] .
    وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لله تِسعةٌ وتِسعونَ اسمًا؛ مائةٌ إلَّا واحِدًا، لا يَحفَظُها أحَدٌ إلَّا دَخَل الجنَّةَ، وهو وِتْرٌ يُحِبُّ الوِتْرَ )) . وفي روايةٍ: ((مَن أحصاها دَخَل الجَنَّةَ )) .
    قال ابنُ تَيميَّةَ: (الصَّوابُ الذي عليه جُمهورُ العُلَماءِ أنَّ قَولَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ للهِ تِسعةً وتِسعينَ أسمًا من أحصاها دَخَل الجَنَّةَ )) معناه أنَّ من أحصى التِّسعةَ والتِّسعينَ مِن أسمائِه دَخَل الجنَّةَ، ليس مرادُه أنَّه ليس له إلَّا تسعةٌ وتِسعونَ اسمًا) .
    وقال أيضًا: (إنَّ التِّسعةَ والتِّسعينَ اسمًا لم يَرِدْ في تعيينِها حديثٌ صَحيحٌ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأشهَرُ ما عندَ النَّاسِ فيها حديثُ التِّرمذيِّ الذي رواه الوَليدُ بنُ مُسلمٍ عن شُعَيبٍ عن أبي حمزةَ ، وحُفَّاظُ أهلِ الحديثِ يقولونَ: هذه الزِّيادةُ مِمَّا جمَعَه الوَليدُ بنُ مُسلِمٍ عن شُيوخِه مِن أهلِ الحَديثِ. وفيها حديثٌ ثانٍ أضعَفُ من هذا، رواه ابنُ ماجَهْ) .
    وقال ابنُ كثيرٍ: (الذي عوَّل عليه جماعةٌ مِن الحُفَّاظِ أنَّ سَرْدَ الأسماءِ في هذا الحديثِ مُدرَجٌ فيه، وإنَّما ذلك كما رواه الوَليدُ بنُ مُسلمٍ وعبدُ المَلِكِ بنُ محمَّدٍ الصَّنعانيُّ، عن زُهيرِ بنِ محمَّدٍ: أنَّه بَلَغَه عن غيرِ واحدٍ مِن أهلِ العِلْم أنَّهم قالوا ذلك، أي: أنَّهم جَمَعوها مِن القُرآنِ، كما ورد عن جَعفرِ بنِ محمَّدٍ وسُفيانَ بنِ عُيَينةَ وأبي زَيدٍ اللُّغَويِّ. واللهُ أعلَمُ. ثمَّ ليُعلَمْ أنَّ الأسماءَ الحُسْنى ليست مُنحَصِرةً في التِّسعةِ والتِّسعينَ) .
    وقد اختَلَف أهلُ العِلْم في المرادِ بإحصائِها.
    قال الخَطَّابيُّ: (الإحصاءُ في هذا يحتَمِلُ وُجوهًا؛ أظهَرُها العَدُّ لها حتى يستوفِيَها، يريدُ أنَّه لا يَقتَصِرُ على بَعْضِها، لكِنْ يدعو اللهَ بها كُلِّها، ويُثني على اللهِ بجَميعِها، فيَستوجِبُ بذلك الموعودَ عليها من الثَّوابِ) .
    وقال عِياضٌ: (قَولُه: (من أحصاها): قيل: مَن حَفِظَها، وقد جاء مُفَسَّرًا في حديثٍ (مَن حَفِظَها) . وقيل: من عَدَّها ليدعوَ بها، كقَولِه: وَأَحْصَى كُلَّ شَىْءٍ عَدَدًا
    وقيل: (من أحصاها): من وَحَّد اللهَ بها ودعا بها، يريدُ توحيدَه وتعظيمَه والإخلاصَ له. وقيل: (أحصاها) بمعنى: أطاقها. كقَولِه: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ أي: تُطيقُوه، وإطاقتُها: حُسنُ المراعاةِ لها، والمحافَظةُ لحُدودِها، والتَّصديقُ بمعانيها، والعِلْمُ بها، ومُقتَضى كُلِّ اسمٍ وصِفةٍ يُستفادُ منها، وتحقيقُها.
    وقيل: إحصاؤُها: العَمَلُ بها، والتعَبُّدُ للهِ بمعنى كُلِّ اسمٍ منها، والإيمانُ بها لا يَقتَضي تعَبُّدًا ولا عَمَلًا. وقيل: معنى ذلك خَتْمُ القُرآنِ وتِلاوتُه كُلِّه؛ لأنَّه مُستَوفٍ لهذه الأسماءِ) .

    وقال النَّوويُّ: (قال البُخاريُّ وغَيرُه مِن المحَقِّقينَ: معناه: حِفْظُها، وهذا هو الأظهَرُ؛ لأنَّه جاء مُفَسَّرًا في الرِّوايةِ الأُخرى: (مَن حَفِظَها).
    وقيل: أحصاها: عَدَّها في الدُّعاءِ بها.
    وقيل: أطاقَها، أي: أحسَنَ المراعاةَ لها والمحافَظةَ على ما تَقتَضيه، وصَدَّقَ بمعانيها.
    وقيل: معناه: العَمَلُ بها والطَّاعةُ بكُلِّ اسمِها، والإيمانُ بها لا يقتَضي عَمَلًا.
    وقال بَعضُهم: المرادُ: حِفْظُ القُرآنِ وتِلاوتُه كُلِّه؛ لأنَّه مُستَوفٍ لها. وهو ضعيفٌ، والصَّحيحُ الأوَّلُ) .
    وقال ابنُ عُثَيمين: (إحصاءُ أسْماءِ اللهِ معناه:
    1- الإحاطةُ بها لفظًا ومعنًى.
    2- دُعاءُ اللهِ بها؛ لِقَولِه تعالى: فَادْعُوهُ بِهَا، وذلك بأن تجعَلَها وَسيلةً لك عند الدُّعاءِ،
    فتَقولَ: يا ذا الجَلالِ والإكرامِ، يا حَيُّ يا قَيُّومُ، وما أشبَهَ ذلك.
    3- أن تتعبَّدَ لله بمُقتَضاها، فإذا عَلِمْتَ أنَّه رحيمٌ، تتعَرَّضُ لرَحمتِه، وإذا عَلِمتَ أنَّه غفورٌ، تتعَرَّضُ لمغفرتِه، وإذا عَلِمتَ أنَّه سميعٌ، اتَّقَيتَ القَولَ الذي يُغضِبُه، وإذا عَلِمتَ أنَّه بصيرٌ، اجتَنبْتَ الفِعلَ الذي لا يرضاه)
    ----------------------------------------------------------------------------------------
    التالي : -
    أ:: أحكامُ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ ::
    -
    وما زلنا أحبابنا تابعونا جزاكم الله خيرا

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5385
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

     توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ، ومَنزِلتُه وأحكامُه :-أحكامُ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ :-معنى الصِّفةِ والوَصْفِ والنَّعْتِ والاسمِ Empty أحكامُ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ ::

    مُساهمة من طرف صادق النور الإثنين ديسمبر 25, 2023 3:59 pm

    يتبع ما قبله : -

    :: أحكامُ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ ::


    أولاً : وُجوبُ الإيمانِ والتَّسليمِ بجَميعِ ما جاء في الكِتابِ والسُّنَّةِ مِن أسْماءِ اللهِ وصِفاتِه :


    اتَّفَق السَّلَفُ على أنَّه يَجِبُ الإيمانُ بجَميعِ الأسماءِ الحُسْنى، وما دلَّت عليه من الصِّفاتِ، وما يَنشأُ عنها من الأفعالِ.
    فمثلًا يجِبُ الإيمانُ بأنَّه سُبحانَه هو القَديرُ، والإيمانُ بكَمالِ قُدرتِه، والإيمانُ بأنَّ قُدرتَه نشَأَت عنها جميعُ الكائناتِ .
    عن محمَّدِ بنِ الحَسَنِ الشَّيبانيِّ قال: (اتَّفَق الفُقَهاءُ كُلُّهم من المشرِقِ إلى المغرِبِ على الإيمانِ بالقُرآنِ، والأحاديثِ التي جاء بها الثِّقاتُ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في صِفةِ الرَّبِّ عزَّ وجَلَّ، من غيرِ تغييرٍ ولا وَصفٍ ولا تشبيهٍ، فمن فَسَّر اليومَ شيئًا من ذلك فقد خَرَج مِمَّا كان عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفارَقَ الجَماعةَ؛ فإنَّهم لم يَصِفوا ولم يُفَسِّروا، ولكِنْ أفْتَوا بما في الكِتابِ والسُّنَّةِ، ثمَّ سَكَتوا، فمَن قال بقَولِ جَهمٍ فقد فارقَ الجَماعةَ؛ لأنَّه قد وَصَفه بصِفة لا شَيءٍ!) .

    قال الشَّافعي: (نُثبِتُ هذه الصِّفاتِ التي جاء بها القرآنُ ووردت بها السُّنَّةُ، وننفي التشبيهَ عنه كما نفى عن نَفْسِه، فقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] ) .

    وعن العَبَّاسِ بنِ محمَّدٍ الدُّوريِّ قال: سَمِعتُ أبا عُبَيدٍ القاسِمَ بنَ سَلامٍ، وذكَرَ البابَ الذي يُروى فيه حديثُ الرُّؤيةِ والكُرسيِّ ومَوضِعِ القدَمينِ، وضَحِكِ رَبِّنا مِن قُنوطِ عِبادِه وقُربِ غِيَرِه، وأين كان رَبُّنا قبل أن يَخلُقَ السَّماءَ، وأنَّ جَهنَّمَ لا تمتلِئُ حتى يضَعَ رَبُّك عزَّ وجَلَّ قَدَمَه فيها، فتقولُ: قَطْ قَطْ، وأشباهُ هذه الأحاديثِ، فقال: (هذه الأحاديثُ صِحَاحٌ، حمَلَها أصحابُ الحَديثِ والفُقَهاءُ بعضُهم عن بعضٍ، وهي عندنا حَقٌّ لا نَشُكُّ فيها،
    ولكِنْ إذا قيل: كيف وَضَعَ قَدَمَه؟ وكيف ضَحِكَ؟ قُلْنا: لا يُفَسَّرُ هذا، ولا سَمِعْنا أحَدًا يُفَسِّرُه) .
    وقال أحمدُ بن حنبل: (الإيمانُ بالقَدَرِ خَيرِه وشَرِّه، والتصديقُ بالأحاديثِ فيه، والإيمانُ بها، لا يقالُ: (لم)، ولا (كيف)، إنما هو التصديقُ والإيمانُ بها، ومن لم يَعرِفْ تفسيرَ الحديثِ، ويَبلُغْه عَقلُه، فقد كُفِيَ ذلك وأُحكِمَ له، فعليه الإيمانُ به والتسليمُ له، مِثلُ حديث الصَّادِقُ والمصدوقُ، ومِثلُ ما كان مِثلُه في القَدَرِ، ومِثلُ أحاديثِ الرُّؤيةِ كُلِّها،
    وإن نَبَتْ عن الأسماع، واستوحش منها المستَمِعُ، وإنما عليه الإيمانُ بها، وألَّا يَرُدَّ منها حرفًا واحدًا، وغيرها من الأحاديثِ المأثوراتِ عن الثِّقاتِ، وأن لا يخاصِمَ أحدًا، ولا يناظِرَه، ولا يتعَلَّمَ الجدالَ؛ فإنَّ الكلامَ في القَدَرِ والرُّؤيةِ والقرآنِ وغَيرِها من السُّنَنِ مكروهٌ، ومَنهيٌّ عنه) .
    وروى التِّرمِذيُّ حَديثَ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إِنَّ اللَّهَ يَقبَلُ الصَّدَقةَ ويَأخُذُها بيَمينِه فيُرَبِّيها لأحَدِكم كما يُرَبِّي أَحَدُكم مُهْرَه، حتى إنَّ اللُّقمةَ لتَصيرُ مِثْلَ أُحُدٍ )) ،
    ثمَّ قال: (قال غيرُ واحدٍ مِن أهلِ العِلْمِ في هذا الحَديثِ وما يُشبِهُ هذا مِنَ الرِّواياتِ مِن الصِّفاتِ: ونُزولُ الرَّبِّ تبارك وتعالى كُلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيا، قالوا: قد تَثبُت الرِّواياتُ في هذا ويُؤمَنُ بها ولا يُتوَهَّمُ، ولا يُقالُ: كيف؟ هكذا رُوِيَ عن مالكٍ، وسُفيانَ بنِ عُيَينةَ، وعبدِ اللهِ بنِ المبارَكِ أنَّهم قالوا في هذه الأحاديثِ: "أَمِرُّوها بلا كَيفٍ"، وهكذا قَولُ أهلِ العِلْمِ مِن أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ،
    وأمَّا الجَهميَّةُ فأنكَرَت هذه الرِّواياتِ، وقالوا: هذا تشبيهٌ. وقد ذكَرَ اللهُ عزَّ وجَلَّ في غيرِ موضِعٍ مِن كِتابِه اليَدَ والسَّمعَ والبَصَرَ، فتأوَّلَتِ الجَهميَّةُ هذه الآياتِ، ففَسَّروها على غيرِ ما فَسَّر أهْلُ العِلْمِ، وقالوا: إنَّ اللهَ لم يَخلُقْ آدَمَ بيَدِه، وقالوا: إنَّ معنى اليَدِ هاهنا القُوَّةُ، وقال إسحاقُ بنُ إبراهيمَ: إنَّما يكونُ التَّشبيهُ إذا قال: يَدٌ كَيَدٍ، أو مِثلُ يَدٍ، أو سَمْعٌ كسَمْعٍ، أو مِثلُ سَمعٍ، فإذا قال: سَمْعٌ كسَمْعٍ، أو مِثلُ سَمعٍ، فهذا التَّشبيهُ، وأمَّا إذا قال كما قال اللهُ تعالى: يدٌ، وسَمعٌ، وبَصرٌ، ولا يقولُ: كيف؟ ولا يَقولُ: مِثلُ سَمعٍ، ولا كسَمْعٍ، فهذا لا يكونُ تشبيهًا، وهو كما قال اللهُ تعالى في كتابه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] ) .

    وقال البَرْبهاريُّ: (كُلَّما سَمِعْتَ مِنَ الآثارِ شَيئًا مِمَّا لم يَبلُغْه عَقْلُك، نحوُ قَولِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((قُلوبُ العِبادِ بيْن إصبَعينِ مِن أصابِعِ الرَّحمنِ )) .، وقَولِه: ((إنَّ اللهَ تبارك وتعالى يَنزِلُ إلى سماءِ الدُّنيا)) ، ...، وأشباهِ هذه الأحاديثِ- فعليك بالتَّسليمِ والتَّصديقِ والتَّفويضِ والرِّضا، ولا تُفَسِّرْ شيئًا مِن هذه بهواكَ؛ فإنَّ الإيمانَ بهذا واجِبٌ، فمَن فَسَّر شَيئًا مِن هذا بهواه أو رَدَّه، فهو جَهْميٌّ) .

    وقال ابنُ بَطَّةَ العُكبَريُّ: (بابٌ جامِعٌ مِن أحاديثِ الصِّفاتِ، رواها الأئِمَّةُ والشُّيوخُ الثِّقاتُ، الإيمانُ بها من تمامِ السُّنَّةِ، وكَمالِ الدِّيانةِ، لا يُنكِرُها إلَّا جَهميٌّ خَبيثٌ.
    حدَّثَني أبو بَكرٍ عبدُ العَزيزِ بنُ جَعفَرٍ، ثنا عبدُ اللهِ بنُ أحمَدَ بنِ غِياثٍ، ثنا حَنْبَلٌ، قال: سَمِعتُ أبا عبدِ اللهِ يعني أحمَدَ بنَ حَنْبَلٍ يقولُ: نَعبُدُ اللهَ بصِفاتِه كما وَصَف به نَفْسَه، قد أجَملَ الصِّفةَ لنَفْسِه،
    ولا نتعَدَّى القُرآنَ والحَديثَ، فنقولُ كما قال، ونَصِفُه كما وَصَف نَفْسَه، ولا نتعَدَّى ذلك، نؤمِنُ بالقُرآنِ كُلِّه؛ مُحكَمِه ومُتَشابِهِه،
    ولا نُزيلُ عنه -تعالى ذِكْرُه- صِفةً مِن صِفاتِه لشَناعةٍ شُنِّعَت، ولا نُزيلُ ما وَصَف به نَفْسَه مِن كلامٍ، ونُزولٍ، وخُلُوِّه بعَبْدِه يومَ القيامةِ، ووَضْعِ كَنَفِه عليه، هذا كُلُّه يدُلُّ على أنَّ اللهَ يُرى في الآخِرةِ،
    والتَّحديدُ في هذا بِدعةٌ، والتَّسليمُ للهِ بأمْرِه، ولم يَزَلِ اللهُ مُتكَلِّمًا عالِمًا، غَفورًا، عالِمَ الغَيبِ والشَّهادةِ، عالمَ الغُيوبِ، فهذه صِفاتُ اللهِ وَصَف بها نَفْسَه، لا تُدفَعُ ولا تُرَدُّ، وقال: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: 255] آية الكُرْسيِّ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر: 23] ، هذه صِفاتُ اللهِ وأسماؤُه، وهو على العَرشِ بلا حَدٍّ، وقال: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54] كيف شاء، المشيئةُ إليه والاستِطاعةُ. و لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] ، كما وَصَفَ نَفْسَه سَميٌع بصيرٌ بلا حَدٍّ ولا تقديرٍ، قُلتُ لأبي عبدِ اللهِ: والمُشَبِّهةُ ما يقولونَ؟ قال: بَصَرٌ كبَصَري، ويَدٌ كيَدِي، وقَدَمٌ كقَدَمي، فقد شَبَّه اللهَ بخَلْقِه، وهذا كلامُ سُوءٍ، والكلامُ في هذا لا أُحِبُّه، وأسماؤُه وصِفاتُه غيرُ مخلوقةٍ، نعوذُ باللهِ مِنَ الزَّلَلِ، والارتيابِ والشَّكِّ؛ إنَّه على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ) .

    وقال ابنُ بطة العُكبَريُّ: (... ثمَّ الإيمانُ والقَبولُ والتصديقُ بكُلِّ ما روته العُلَماءُ، ونقَلَتْه الثِّقاتُ أهلُ الآثارِ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتلقَّاها بالقَبولِ ولا تُرَدُّ بالمعاريضِ، ولا يقالُ: لم، وكيفَ؟ ولا تُحمَلُ على المعقولِ، ولا تُضرَبُ لها المقاييسُ، ولا يُعمَلُ لها التفاسيرُ إلَّا ما فسَّره رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو رجلٌ من عُلَماءِ الأمَّةِ ممَّن قَولُه شِفاءٌ وحُجَّةٌ، مثلُ أحاديثِ الصِّفاتِ والرُّؤيةِ، ومثلُ ما رُوِيَ أنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ يضَعُ السَّمَواتِ على إصبَعٍ، والأرَضينَ على إصبَعٍ، وأنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ يضَعُ قَدَمَه في النَّارِ فتقولُ: قَطْ قَطْ... وعدَّد جملةً من الصِّفاتِ ثمَّ قال: لا يقالُ لهذا كُلِّه: كيف ولا لم؟ بل تسليمًا للقُدرةِ، وإيمانًا بالغَيبِ، كُلَّما عَجَزت العُقولُ عن معرفتِه؛ فالعِلمُ به وعَينُ الهدايةِ فيه الإيمانُ به والتسليمُ له، وتصديقُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما قاله هو أصلُ العِلمِ، وعَينُ الهدايةِ، لا تُضرَبُ لهذه الأحاديثِ وما شاكلَها المقاييسُ، ولا تُعارَضُ بالأمثالِ والنَّظائِرِ) .
    وقال البَيهقيُّ: (بابُ إثباتِ أسْماءِ اللهِ تعالى ذِكْرُه بدَلالةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ الأُمَّةِ،
    قال اللهُ جَلَّ ثناؤُه: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف: 180] ،
    وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُو فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء: 110]
    وقال: وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ [المائدة: 4] ، وقال: لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنى [طه: 8] ) .

    وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: (أهلُ السُّنَّةِ مُجمِعونَ على الإقرارِ بالصِّفاتِ الوارِدةِ كُلِّها في القُرآنِ والسُّنَّةِ، والإيمانِ بها، وحَمْلِها على الحقيقةِ لا على المجازِ، إلَّا أنَّهم لا يُكَيِّفونَ شَيئًا مِن ذلك، ولا يَحُدُّونَ فيه صِفةً مَحصورةً،
    وأمَّا أهلُ البِدَعِ والجَهْميَّةُ والمعتَزِلةُ كُلُّها والخوارجُ، فكُلُّهم يُنكِرُها، ولا يَحمِلُ شيئًا منها على الحقيقةِ، ويَزعُمونَ أنَّ مَن أقَرَّ بها مُشَبِّهٌ، وهم عند مَن أثبَتَها نافونَ للمَعبودِ، والحَقُّ فيما قاله القائِلونَ بما نَطَق به كِتابُ اللهِ وسُنَّةُ رَسولِه، وهم أئمَّةُ الجَماعةِ، والحَمدُ لله) .

    وقال البَغَويُّ: (الإصبَعُ المذكورةُ في الحديثِ صِفةٌ مِن صِفاتِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، وكذلك كُلُّ ما جاء به الكِتابُ أو السُّنَّةُ مِن هذا القَبيلِ في صِفاتِ اللهِ سُبحانَه وتعالى، كالنَّفْسِ، والوَجهِ، والعَينِ، واليَدِ، والرِّجْلِ، والإتيانِ، والمجيءِ، والنُّزولِ إلى السَّماءِ الدُّنيا، والاستواءِ على العَرشِ، والضَّحِكِ، والفَرَحِ.
    قال اللهُ سُبحانَه وتعالى لِموسى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه: 41] ،
    وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه: 39] ،
    وقال اللهُ سُبحانَه وتعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] ، وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 27]، وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64] ،
    وقال: يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] ، وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] ، هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة: 210] ،
    وقال اللهُ سُبحانَه وتعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] ،
    وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] ،
    وقال اللهُ تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ [الفرقان: 59] .
    وقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يَنزِلُ رَبُّنا كُلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيا حينَ يبقى ثُلُثُ اللَّيلِ الآخِرُ )) .
    وروى أنَسٌ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا تَزالُ جَهنَّمُ يُلقى فيها، وتقولُ: هل مِن مَزيدٍ؟ حتَّى يَضَعَ رَبُّ العِزَّةِ فيها قَدَمَه )) .
    وفي حديث أبي هُرَيرةَ في آخِرِ مَن يَخرُجُ مِنَ النَّارِ: ((فيَضحَكُ اللهُ منه، ثمَّ يأذَنُ له في دُخولِ الجَنَّةِ)) .
    وفي حديثِ جابرٍ: ((فيتجَلَّى لهم يَضحَكُ)) .
    وفي حديثِ أَنَسٍ وغَيرِه: ((اللهُ أفرَحُ بتَوبةِ عَبدٍ مِن أحَدِكم يَسقُطُ على بَعيرِه وقد أضَلَّه في أرضٍ فَلاةٍ )) .
    فهذه ونَظائِرُها صِفاتٌ للهِ عزَّ وجَلَّ، وَرَد بها السَّمعُ، يَجِبُ الإيمانُ بها، وإمرارُها على ظاهِرِها مُعرِضًا فيها عن التأويلِ، مُجتَنِبًا عن التشبيهِ، مُعتَقِدًا أنَّ الباريَ سُبحانَه وتعالى لا يُشبِهُ شَيءٌ مِن صِفاتِه صِفاتِ الخَلْقِ، كما لا تُشبِهُ ذاتُه ذواتِ الخَلْقِ؛
    قال اللهُ سُبحانَه وتعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] .
    وعلى هذا مَضى سَلَفُ الأُمَّةِ، وعُلَماءُ السُّنَّةِ، تلَقَّوها جميعًا بالإيمانِ والقَبولِ، وتجَنَّبوا فيها عن التَّمثيلِ والتَّأويلِ، ووكَلوا العِلْمَ فيها إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ، كما أخبَرَ اللهُ سُبحانَه وتعالى عن الرَّاسِخينَ في العِلْمِ،
    فقال عزَّ وجَلَّ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران: 7] .

    قال سُفيانُ بنُ عُيَينةَ: كُلُّ ما وصف اللهُ تعالى به نَفْسَه في كتابِه، فتفسيرُه قِراءتُه، والسُّكوتُ عليه، ليس لأحدٍ أن يُفَسِّرَه إلَّا اللهُ عزَّ وجَلَّ ورُسُلُه....
    وقال الزُّهْريُّ: على اللهِ البَيانُ، وعلى الرَّسولِ البَلاغُ، وعلينا التَّسليم.
    وقال بَعضُ السَّلَفِ: قَدَمُ الإسلامِ لا تَثبُتُ إلَّا على قَنطَرةِ التَّسليمِ.
    قال أبو العاليةِ: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [البقرة: 29] ارتفع فسَوَّى خَلْقَهنَّ.
    وقال مجاهِدٌ: اسْتَوَى [البقرة: 29] : علا على العَرشِ) .
    وقال البَغَويُّ أيضًا في آخرِ كتابِه شَرحِ السُّنَّةِ: (القَدَمُ والرِّجلانِ المذكورانِ في هذا الحديثِ مِن صِفاتِ اللهِ سُبحانَه وتعالى، المنَزَّهِ عن التَّكييفِ والتَّشبيهِ، وكذلك كُلُّ ما جاء من هذا القَبيلِ في الكِتابِ أو السُّنَّةِ؛ كاليَدِ، والإصبَعِ، والعَينِ، والمجيءِ، والإتيانِ، فالإيمانُ بها فَرضٌ، والامتِناعُ عن الخَوضِ فيها واجِبٌ، فالمُهتَدي من سلَكَ فيها طريقَ التَّسليمِ، والخائِضُ فيها زائِغٌ، والمُنكِرُ مُعَطِّلٌ، والمكَيِّفُ مُشَبِّهٌ، تعالى اللهُ عمَّا يقولُ الظَّالِمونَ عُلُوًّا كبيرًا، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] ) .
    وقال ابنُ رجب: (اتَّفَق السَّلَفُ الصَّالحُ على إمرارِ هذه النُّصوصِ أي: نصوصِ الصِّفاتِ كما جاءت من غيرِ زيادةٍ ولا نقصٍ، وما أشكَلَ فَهْمُه منها، وقَصُرَ العَقلُ عن إدراكِه؛ وُكِلَ إلى عالِمِه) .

    وقال مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ الوَهَّابِ: (إنْ نظَرْتَ في كتابِ التَّوحيدِ في آخِرِ الصَّحيحِ، فتأمَّلْ تلك التَّراجِمَ، وقَرَأْتَ في كُتُبِ أهْلِ العِلْمِ من السَّلَفِ ومن أتباعِهم مِنَ الخَلَفِ، ونَقْلَهم الإجماعَ على وُجوبِ الإيمانِ بصِفاتِ اللهِ تعالى وتلَقِّيها بالقَبولِ، وأنَّ مَن جَحَد شيئًا منها أو تأوَّلَ شيئًا مِنَ النُّصوصِ فقد افترى على اللهِ، وخالفَ إجماعَ أهْلِ العِلْمِ، ونَقْلَهم الإجماعَ أنَّ عِلمَ الكَلامِ بِدعةٌ وضَلالةٌ) .
    وقال الشِّنقيطيُّ: (تحصَّل من جميعِ هذا البَحثِ أنَّ الصِّفاتِ مِن بابٍ واحدٍ، وأنَّ الحَقَّ فيها متركِّبٌ من أمرينِ:
    الأوَّلُ: تنزيهُ اللهِ جَلَّ وعلا عن مشابهةِ الخَلْقِ.
    والثَّاني: الإيمانُ بكُلِّ ما وصف به نَفْسَه، أو وصفه به رسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إثباتًا أو نفيًا، وهذا هو معنى قَولِه تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، والسَّلَفُ الصَّالحُ رَضِيَ الله عنهم ما كانوا يشكُّون في شيءٍ من ذلك، ولا كان يُشكِلُ عليهم، ألا ترى إلى قَولِ الفرزدق وهو شاعِرٌ فقط، وأمَّا من جهةِ العِلمِ، فهو عاميٌّ:
    وكيف أخاف النَّاسَ واللهُ قابِضٌ ... على النَّاسِ والسَّبعَينِ في راحةِ اليَدِ
    ومرادُه بالسَّبعَينِ: سَبعُ سماواتٍ، وسَبعُ أرَضَينَ. فمن عَلِمَ مِثلَ هذا من كونِ السَّمَواتِ والأرَضينَ في يدِه جلَّ وعلا أصغَرَ من حبَّةِ خَردَلٍ، فإنَّه عالمٌ بعَظَمةِ اللهِ وجلالِه، لا يَسبِقُ إلى ذِهْنِه مشابَهةُ صِفاتِه لصِفاتِ الخَلْقِ،
    ومن كان كذلك زال عنه كثيرٌ من الإشكالاتِ التي أشكَلَت على كثيرٍ من المتأخِّرين، وهذا الذي ذكَرْنا من تنزيهِ اللهِ جَلَّ وعلا عمَّا لا يليقُ به، والإيمانِ بما وصف به نَفْسَه، أو وصَفَه به رسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم،
    هو معنى قَولِ الإمامِ مالكٍ رحمه الله: الاستواءُ غيرُ مجهولٍ، والكَيفُ غيرُ معقولٍ، والسؤالُ عنه بِدعةٌ. ويُروى نحوُ قَولِ مالكٍ هذا عن شَيخِه ربيعةَ بنِ أبي عبدِ الرَّحمنِ، وأمِّ سَلَمةَ رَضِيَ الله عنها. والعِلمُ عند اللهِ تعالى) .

    وجاء في فتاوى اللَّجنةِ الدَّائِمةِ: (أسْماءُ اللهِ تعالى وصِفاتُه يجِبُ بَيانُها للنَّاسِ، وتعليمُهم إيَّاها؛ لأنَّها مُبَيَّنةٌ في الكِتابِ والسُّنَّةِ، مع وُجوبِ الإيمانِ بها وإثباتِ معانيها للهِ على الوَجهِ اللَّائِقِ بجَلالِه سُبحانَه، من غيرِ تحريفٍ ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ ولا تعطيلٍ؛ لقَولِ اللهِ سُبحانَه: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 14]، وقَولِه عزَّ وجَلَّ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ .

    وقال ابنُ عُثَيمين في بيانِ الفوائِدِ المُستفادةِ مِن قَولِه تعالى:فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: 209] :
    (ومنها: وجوبُ الإيمانِ بأسماءِ اللهِ، وما تضمَّنَتْه من صِفاتٍ؛
    لِقَولِه تعالى: فَاعْلَمُوا عِلمَ اعترافٍ وإقرارٍ، وقَبولٍ وإذعانٍ؛ فمُجَرَّدُ العِلْمِ لا يكفي؛
    ولهذا فإنَّ أبا طالِبٍ كان يَعلَمُ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على حَقٍّ، وأنَّه رَسولُ اللهِ، لكِنَّه لم يَقبَلْ ولم يُذعِنْ؛ فلهذا لم يَنفَعْه إقرارُه؛ فالإيمانُ ليس مُجَرَّدَ اعترافٍ بدونِ قَبولٍ وإذعانٍ) .

    ثانياً : مَسائِلُ الأسماءِ والصِّفاتِ تُؤخَذُ مِن أدِلَّةِ الشَّرعِ كُلِّها بلا تفريقٍ، فتؤخَذُ مِن القُرآنِ، ومِنَ الحَديثِ بقِسْمَيه المتواتِرِ والآحادِ، المتلَقَّاةِ بالقَبولِ :

    هذا أصلٌ يجِبُ التنَبُّهُ إليه، وهو أنَّ مَسائِلَ الاعتقادِ -ومنها مسائِلُ الأسماءِ والصِّفاتِ- تُؤخَذُ من أدِلَّةِ الشَّرعِ كُلِّها بلا تفريقٍ، فتُؤخَذُ مِنَ القُرآنِ، ومن الحَديثِ بقِسمَيه المتواتِرِ والآحادِ، المتلَقَّاةِ بالقَبولِ.
    وعلى هذا كان الصَّحابةُ والتَّابِعونَ ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ، فخَبَرُ الواحِدِ المتلقَّى بالقَبولِ يُفيدُ العِلْمَ والعَمَلَ، ومِمَّا يَدُلُّ على ذلك أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا بَعَثَ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنه إلى أهْلِ اليَمَنِ، قالَ له: ((إنَّكَ تَقْدَمُ علَى قَوْمٍ مِن أهْلِ الكِتاب، فَلْيَكُنْ أوَّلَ ما تَدْعُوهم إلى أنْ يُوَحِّدُوا اللهَ تعالى ... )) .
    وفي حديثِ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ أَهْلَ اليَمَنِ قَدِمُوا علَى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقالوا: ابْعَثْ معنا رَجُلًا يُعَلِّمْنَا السُّنَّةَ والإسلامَ، قال: فأخَذَ بيَدِ أبي عُبَيدةَ فقال: هذا أمِينُ هذه الأُمَّةِ)) .
    قال الشَّافِعيُّ: (لا يُبعَثُ بأمرِه إلَّا والحُجَّةُ للمَبعوثِ إليهم وعليهم قائِمةٌ بقَبولِ خَبَرِه عن رَسولِ اللهِ) .
    وقال أيضًا: (فإنْ قال قائِلٌ: اذكُرِ الحُجَّةَ في تثبيتِ خبَرِ الواحدِ بنَصِّ خَبَرٍ، أو دَلالةٍ فيه، أو إجماعٍ.
    فقُلتُ له: أخبَرَنا سُفيانُ عن عبدِ المَلِكِ بنِ عُمَيرٍ عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ عن أبيه أنَّ النَّبيَّ قال: ((نَضَّر اللهُ عبدًا سَمِعَ مَقالتي فحَفِظَها ووَعاها وأدَّاها، فرُبَّ حامِلِ فِقهٍ غَيرُ فقيهٍ، ورُبَّ حامِلِ فِقهٍ إلى مَن هو أفقَهُ منه )) ...
    فلمَّا نَدَب رَسولُ اللهِ إلى استِماعِ مَقالتِه وحِفْظِها وأدائِها امرَأً يُؤَدِّيها، والمرءُ واحِدٌ- دَلَّ على أنَّه لا يأمُرُ أن يُؤدَّى عنه إلَّا ما تقومُ به الحُجَّةُ على من أدَّى إليه؛ لأنَّه إنَّما يُؤدَّى عنه حلالٌ، وحرامٌ يُجتَنَبُ، وحَدٌّ يُقامُ، ومالٌ يُؤخَذُ ويُعطى، ونصيحةٌ في دِينٍ ودُنيا) .

    وقال الشَّافِعيُّ أيضًا: (لو جاز لأحَدٍ مِنَ النَّاسِ أن يقولَ في عِلمِ الخاصَّةِ: أجْمعَ المسلِمونَ قديمًا وحديثًا على تثبيتِ خبَرِ الواحِدِ، والانتهاءِ إليه، بأنَّه لم يُعلَمْ مِن فُقَهاءِ المسلمينَ أحَدٌ إلَّا وقد ثَبَّتَه- جاز لي. ولكن أقولُ: لم أحفَظْ عن فُقَهاءِ المسلِمينَ أنَّهم اختَلَفوا في تثبيتِ خَبَرِ الواحِدِ) .
    وعن العَبَّاسِ بنِ محمَّدٍ الدُّوريِّ قال: سَمِعتُ أبا عُبَيدٍ القاسِمَ بنَ سَلامٍ، وذكَرَ البابَ الذي يَروي فيه الرُّؤيةَ والكُرسيَّ ومَوضِعَ القدَمينِ، وضَحِكَ رَبِّنا مِن قُنوطِ عِبادِه وقُربِ غِيَرِه، وأين كان رَبُّنا قبل أن يَخلُقَ السَّماءَ،
    وأنَّ جَهنَّمَ لا تمتلِئُ حتى يضَعَ رَبُّك عزَّ وجَلَّ قَدَمَه فيها، فتقولُ: قَطْ قَطْ، وأشباهَ هذه الأحاديثِ، فقال: (هذه الأحاديثُ صِحَاحٌ، حمَلَها أصحابُ الحَديثِ والفُقَهاءُ بعضُهم عن بعضٍ، وهي عندنا حَقٌّ لا نَشُكُّ فيها، ولكِنْ إذا قيل: كيف وَضَعَ قَدَمَه؟ وكيف ضَحِكَ؟ قُلْنا: لا يُفَسَّرُ هذا، ولا سَمِعْنا أحَدًا يُفَسِّرُه) .

    وقال ابنُ خُزَيمةَ: (لا نَصِفُ مَعبودَنا إلَّا بما وصَفَ به نَفْسَه، إمَّا في كتابِ اللهِ، أو على لسانِ نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بنَقلِ العَدلِ عن العَدلِ موصولًا إليه، لا نحتجُّ بالمراسيلِ، ولا بالأخبارِ الواهيةِ، ولا نحتَجُّ أيضًا في صفاتِ مَعبودِنا بالآراءِ والمقاييسِ) .
    وقال الخَطَّابيُّ: (الأصلُ أنَّ كُلَّ صِفةٍ جاء بها الكِتابُ أو صَحَّت بأخبارِ التَّواتُرِ، أو رُوِيَت من طريقِ الآحادِ، وكان لها أصلٌ في الكِتابِ، أو خَرَجَت على بَعضِ معانيه؛ فإنَّا نَقولُ بها ونُجْريها على ظاهرِهِا مِن غيرِ تكييفٍ) .

    وقال أبو نَصرٍ السجزيُّ: (لا يجوزُ أن يُوصَفَ اللهُ سُبحانَه إلَّا بما وصف به نَفْسَه، أو وصفه به رسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وذلك إذا ثبت الحديثُ، ولم يَبْقَ شُبهةٌ في صِحَّتِه، فأمَّا ما عدا ذلك من الرِّواياتِ المعلولةِ، والطُّرُقِ الواهيةِ، فلا يجوزُ أن يُعتَقَدَ في ذاتِ اللهِ سُبحانَه ولا في صفاتِه ما يوجَدُ فيها، باتِّفاقِ العُلَماءِ للأثَرِ) .

    وقال الخطيبُ البغداديُّ: (على العَمَلِ بخَبَرِ الواحِدِ كان كافَّةُ التَّابعينَ ومَن بَعْدَهم مِنَ الفُقَهاءِ الخالِفينَ، في سائِرِ أمصارِ المُسلِمينَ إلى وَقْتِنا هذا، ولم يبلُغْنا عن أحَدٍ منهم إنكارٌ لذلك ولا اعتراضٌ عليه؛ فثَبَت أنَّ مِن دِينِ جَميعِهم وُجوبَه؛ إذ لو كان فيهم من كان لا يَرى العَمَلَ به لنُقِلَ إلينا الخَبَرُ عنه بمَذْهَبِه فيه) .
    وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: (كُلُّهم أي: أهلُ الفِقهِ والأثَرِ يَدِينُ بخَبَرِ الواحِدِ العَدْلِ في الاعتقاداتِ، ويُعادي ويوالي عليها، ويجعَلُها شَرْعًا ودينًا في مُعتَقَدِه، على ذلك جماعةُ أهلِ السُّنَّةِ) .
    وقال السَّمعانيُّ: (إنَّ الخَبَرَ إذا صَحَّ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ورواه الثِّقاتُ والأئِمَّةُ، وأسنَدَه خَلَفُهم عن سَلَفِهم إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتلَقَّتْه الأُمَّةُ بالقَبولِ؛ فإنَّه يُوجِبُ العِلْمَ فيما سَبيلُه العِلْمُ. هذا قَولُ عامَّةِ أهلِ الحَديثِ والمُتقِنينَ مِنَ القائِمينَ على السُّنَّةِ، وإنَّما هذا القَولُ الذي يذكرُ أنَّ خَبَرَ الواحِدِ لا يُفيدُ العِلْمَ بحالٍ، ولا بُدَّ مِن نَقْلِه بطَريقِ التَّواتُرِ؛ لوُقوعِ العِلْمِ به- شَيءٌ اختَرَعَته القَدَريَّةُ والمُعْتَزِلةُ، وكان قَصْدُهم منه رَدَّ الأخبارِ، وتَلَقَّفَه منهم بعضُ الفُقَهاءِ الذين لم يَكُنْ لهم في العِلْمِ قَدَمٌ ثابِتٌ، ولم يَقِفوا على مَقصودِهم من هذا القَولِ) .
    وقال ابنُ أبي الخيرِ العِمرانيُّ الشَّافعيُّ: (إذا جاز الاستِدلالُ بأخبارِ الآحادِ في جَلْدِ الإنسانِ، وضَرْبِ الرِّقابِ، وتحليلِ الفُروجِ وتحريمِها؛ جاز الاستدلالُ بها في الأُصولِ) .
    وقال ابنُ الموصِليِّ: (انعِقادُ الإجماعِ المَعْلُومُ المتيَقَّنُ على قَبولِ هذه الأحاديثِ، وإثباتِ صِفاتِ الرَّبِّ تعالى بها، فهذا لا يَشُكُّ فيه من له أقَلُّ خِبرةٍ بالمَنقولِ؛ فإنَّ الصَّحابةَ هم الذين رَوَوا هذه الأحاديثَ، وتلَقَّاها بَعضُهم عن بعضٍ بالقَبولِ، ولم يُنكِرْها أحَدٌ منهم على مَن رواها، ثمَّ تلَقَّاها عنهم جميعُ التَّابِعينَ مِن أوَّلِهم إلى آخِرِهم، ومَن سَمِعَها منهم تلقَّاها بالقَبولِ والتَّصديقِ لهم، ومَن لم يسمَعْها منهم تلَقَّاها عن التَّابعينَ كذلك، وكذلك تابِعُ التَّابعينَ مع التَّابعينَ.

    هذا أمرٌ يَعلَمُه ضَرورةً أهلُ الحديثِ، كما يَعلَمونَ عَدالةَ الصَّحابةِ وصِدْقَهم وأمانَتَهم ونَقْلَهم ذلك عن نَبيِّهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كنَقْلِهم الوُضوءَ والغُسلَ مِنَ الجَنابةِ، وأعدادَ الصَّلَواتِ وأوقاتَها، ونَقْلِ الأذانِ والتشَهُّدِ والجُمُعةِ والعِيدَينِ؛ فإنَّ الذين نَقَلوا هذا هم الذين نَقَلوا أحاديثَ الصِّفاتِ، فإن جاز عليهم الخَطَأُ والكَذِبُ في نَقْلِها، جاز عليهم ذلك في نَقْلِ غَيرِها مِمَّا ذكَرْنا، وحينَئذٍ فلا وُثوقَ لنا بشَيءٍ نُقِلَ لنا عن نَبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم البتَّةَ، وهذا انسِلاخٌ مِنَ الدِّينِ والعِلْمِ والعَقلِ! على أنَّ كثيرًا مِنَ القادِحينَ في دينِ الإسلامِ قد طَرَدوا وقالوا: لا وُثوقَ لنا بشَيءٍ مِن ذلك البتَّةَ!) .

    وقال ابنُ أبي العِزِّ: (خَبَرُ الواحِدِ إذا تلقَّتْه الأُمَّةُ بالقَبولِ عَمَلًا به وتَصديقًا له: يفيدُ العِلْمَ اليَقينيَّ عند جماهيرِ الأُمَّةِ، وهو أحَدُ قِسْمَيِ المتواتِرِ، ولم يكُنْ بيْن سَلَفِ الأُمَّةِ في ذلك نِزاعٌ... وكان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُرسِلُ رُسُلَه آحادًا، ويُرسِلُ كُتُبَه مع الآحادِ، ولم يكُنِ المُرسَلُ إليهم يقولونَ: لا نَقبَلُه لأنَّه خَبَرُ واحدٍ!
    وقد قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التَّوبة: 33] . فلا بُدَّ أن يَحفَظَ اللهُ حُجَجَه وبَيِّناتِه على خَلْقِه؛ لئلَّا تَبطُلَ حُجَجُه وبيِّناتُه؛ ولهذا فَضَح اللهُ مَن كَذَب على رَسولِه في حياتِه وبعد وَفاتِه، وبَيَّن حالَه للنَّاسِ؛ قال سُفيانُ بنُ عُيَينةَ: ما سَتَرَ اللهُ أحدًا يَكذِبُ في الحديثِ.
    وقال عبدُ اللهِ بنُ المبارَكِ: لو هَمَّ رَجُلٌ في البَحرِ أن يَكذِبَ في الحَديثِ، لأصبَحَ والنَّاسُ يقولون: فلانٌ كَذَّابٌ!
    وخبَرُ الواحدِ وإن كان يحتَمِلُ الصِّدقَ والكَذِبَ ولكِنَّ التَّفريقَ بين صَحيحِ الأخبارِ وسَقيمِها لا ينالُه أحَدٌ إلَّا بعد أن يكونَ مُعظَمَ أوقاتِه مُشتَغِلًا بالحديثِ، والبَحثِ عن سِيرةِ الرُّواةِ؛ لِيَقِفَ على أحوالِهم وأقوالِهم، وشِدَّةِ حَذَرِهم من الطُّغيانِ والزَّلَلِ، وكانوا بحيثُ لو قُتِلوا لم يسامِحوا أحَدًا في كَلِمةٍ يتقَوَّلُها على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا فَعَلوا هم بأنْفُسِهم ذلك. وقد نَقَلوا هذا الدِّين إلينا كما نُقِلَ إليهم، فهم يَزَكُ الإسلامِ وعِصابةُ الإيمانِ، وهم نُقَّادُ الأخبارِ، وصيارِفةُ الأحاديثِ، فإذا وَقَف المرءُ على هذا مِن شأنِهم، وعَرَف حالَهم، وخَبَرَ صِدْقَهم ووَرَعَهم وأمانَتَهم؛ ظهَرَ له العِلْمُ فيما نَقَلوه ورَوَوه.

    ومَن له عَقلٌ ومَعرفةٌ يَعلَمُ أنَّ أهلَ الحديثِ لهم من العِلْمِ بأحوالِ نبيِّهم وسِيرتِه وأخبارِه، ما ليس لغيرِهم به شعورٌ، فَضلًا أن يكونَ مَعْلُومًا لهم أو مظنونًا، كما أنَّ النُّحاةَ عِندَهم مِن أخبارِ سِيبوَيهِ والخَليلِ وأقوالِهما ما ليس عند غَيرِهم، وعند الأطِبَّاءِ مِن كَلامِ بقراطَ وجالينوسَ ما ليس عند غَيرِهم، وكُلُّ ذي صَنعةٍ هو أخبَرُ بها من غَيرِه، فلو سألْتَ البَقَّالَ عن أمرِ العِطْرِ، أو العَطَّارَ عن البَزِّ، ونحوِ ذلك، لعُدَّ ذلك جهلًا كثيرًا) .

    وقال الفتوحيُّ: (يُعمَلُ بآحادِ الأحاديثِ في أُصولِ الدِّياناتِ، وحكى ذلك ابنُ عبدِ البَرِّ إجماعًا. قال الإمامُ أحمَدُ رَضِيَ اللهُ عنه: لا نتعَدَّى القُرآنَ والحَديثَ) .
    وقال محمَّدُ بنُ إبراهيمَ آل الشَّيخِ: (الرَّاجِحُ أنَّ العِلْمَ قد يحصُلُ بغيرِ المتواترِ وبغيرِ الحواسِّ الخَمسِ وبغيرِ البديهيَّاتِ؛ فأخبارُ الآحادِ اذا حُفَّت بها القرائِنُ، أفادت العِلْمَ، ليس الظَّنَّ فقط، من ذلك بَعْثُ مُعاذٍ وقيامُ الحُجَّةِ به على مَن أخبَرَهم) .
    وقال الشِّنقيطيُّ مُبَيِّنًا أنَّ الأصلَ في هذا البابِ الإيمانُ بما في الكتابِ والسُّنَّة: (الثَّاني من هذه الأُسُسِ في بابِ الأسماءِ والصِّفاتِ: هو الإيمانُ بما وصف اللهُ به نَفْسَه؛ لأنَّه لا يَصِفُ اللهَ أعلَمُ باللهِ مِن اللهِ ءَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة: 140] ،
    والإيمانُ بما وصفه به رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الذي قال في حَقِّه: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3-4] ، فيلزمُ كُلَّ مُكَلَّفٍ أن يؤمِنَ بما وصف اللهُ به نَفْسَه، أو وصفه به رسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) .
    وقال أيضًا: (اعلَمْ أنَّ التحقيقَ الذي لا يجوزُ العُدولُ عنه أنَّ أخبارَ الآحادِ الصَّحيحةَ كما تُقبَلُ في الفروعِ تُقبَلُ في الأصولِ، فما ثبت عن النبيِّ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم بأسانيدَ صحيحةٍ من صِفاتِ اللهِ يجبُ إثباتُه واعتقادُه على الوَجهِ اللَّائقِ بكَمالِ اللهِ وجَلالِه، على نحو: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ،
    وبهذا تعلَمُ أنَّ ما أطبق عليه أهلُ الكلامِ ومن تَبِعَهم من أنَّ أخبارَ الآحادِ لا تُقبَلُ في العقائِدِ، ولا يَثبُتُ بها شيءٌ من صِفاتِ اللهِ، زاعمين أنَّ أخبارَ الآحادِ لا تفيدُ اليقينَ، وأنَّ العقائِدَ لا بدَّ فيها من اليقينِ: باطِلٌ لا يُعَوَّلُ عليه، ويكفي من ظهورِ بُطلانِه أنَّه يستلزمُ رَدَّ الرِّواياتِ الصَّحيحةِ الثَّابتةِ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمجَرَّدِ تحكيمِ العقلِ، والعقولُ تتضاءل أمامَ عَظَمةِ صِفاتِ اللهِ) .

    وقال ابنُ باز: (خَبَرُ الآحادِ حُجَّةٌ في العقيدةِ وغَيرِها، عند أهلِ السُّنَّةِ، إذا صَحَّ سَنَدُه) .
    وقال أيضًا: (لم يَزَلْ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَبعَثُ الواحِدَ والاثنينِ وأكثَرَ مِن ذلك دُعاةً ومُبَلِّغين للإسلامِ وأحكامِ الشَّريعةِ، ولو كان ذلك لا تقومُ به الحُجَّةُ لم يَفعَلْه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولم يَزَلْ أصحابُه رَضِيَ اللهُ عنهم يَعمَلونَ بخبَرِ الآحادِ ويحتَجُّونَ به في العقائِدِ والأحكامِ، ولا نَعلَمُ أنَّ أحدًا منهم أنكَرَ ذلك) .

    وقال ابنُ عُثَيمين: (جوابُنا على من يرى أنَّ أحاديثَ الآحادِ لا تَثبُتُ بها العقيدةُ؛ لأنَّها تُفيدُ الظَّنَّ، والظَّنُّ لا تُبنى عليه العقيدةُ: أن نقولَ:
    هذا رأيٌ غيرُ صوابٍ؛ لأنَّه مَبنيٌّ على غيرِ صوابٍ، وذلك من عِدَّةِ وُجوهٍ:
    1 - القَولُ بأنَّ حديثَ الآحادِ لا يُفيدُ إلَّا الظَّنَّ ليس على إطلاقِه، بل في أخبارِ الآحادِ ما يفيدُ اليَقينَ إذا دَلَّت القرائِنُ على صِدْقِه،
    كما إذا تلقَّتْه الأُمَّةُ بالقَبولِ، مِثلُ حَديثِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه «إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ»؛ فإنَّه خَبَرُ آحادٍ، ومع ذلك فإنَّنا نعلَمُ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قاله، وهذا ما حَقَّقه شَيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميَّةَ والحافِظُ ابنُ حَجَرٍ وغَيرُهما.
    2 - أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُرسِلُ الآحادَ بأصولِ العَقيدةِ: شَهادةِ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ محمَّدًا رَسولُ اللهِ. وإرسالُه حُجَّةٌ مُلزِمةٌ، كما بَعَث مُعاذًا إلى اليَمَنِ، واعتَبَرَ بَعْثَه حُجَّةً مُلزِمةً لأهلِ اليَمَنِ بقَبولِه.
    3 - إذا قُلْنا بأنَّ العقيدةَ لا تَثبُتُ بأخبارِ الآحادِ، أمكَنَ أن يُقالَ: والأحكامُ العَمَليَّةُ لا تَثبُتُ بأخبارِ الآحادِ؛ لأنَّ الأحكامَ العَمَليَّةَ يَصحَبُها عَقيدةٌ؛ أنَّ اللهَ تعالى أمَرَ بهذا أو نهى عن هذا، وإذا قُبِلَ هذا القَولُ تعطَّل كثيرٌ مِن أحكامِ الشَّريعةِ، وإذا رُدَّ هذا القَولُ فلْيُرَدَّ القولُ بأنَّ العقيدةَ لا تَثبُتُ بخبرِ الآحادِ؛ إذ لا فَرْقَ، كما بَيَّنَّا.
    4 - أنَّ اللهَ تعالى أمَرَ بالرُّجوعِ إلى قَولِ أهْلِ العِلْمِ لِمن كان جاهِلًا فيما هو مِن أعظَمِ مَسائِلِ العقيدةِ، وهي الرِّسالةُ،
    فقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ [النحل: 43، 44]، وهذا يَشمَلُ سُؤالَ الواحِدِ والمتعَدِّدِ.
    والحاصِلُ أنَّ خَبَرَ الآحادِ إذا دَلَّت القرائِنُ على صِدْقِه، أفاد العِلْمَ، وثبَتَت به الأحكامُ العَمَليَّةُ والعِلْميَّةُ، ولا دليلَ على التَّفريقِ بينهما، ومَن نَسَب إلى أحَدٍ مِنَ الأئِمَّةِ التَّفريقَ بينهما، فعليه إثباتُ ذلك بالسَّنَدِ الصَّحيحِ عنه، ثمَّ بيانُ دَليلِه المُستَنِدِ إليه) .
    --------------------------------------------------------------
    التالي : -
    ثالثاً :: الجَهلُ في بابِ الأسماءِ والصِّفاتِ ::
    -
    وما زلنا أحبابنا تابعونا جزاكم الله خيرا

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5385
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

     توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ، ومَنزِلتُه وأحكامُه :-أحكامُ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ :-معنى الصِّفةِ والوَصْفِ والنَّعْتِ والاسمِ Empty ثالثاً :: الجَهلُ في بابِ الأسماءِ والصِّفاتِ ::

    مُساهمة من طرف صادق النور الإثنين ديسمبر 25, 2023 4:48 pm

    يتبع ما قبله :

    ثالثاً :: الجَهلُ في بابِ الأسماءِ والصِّفاتِ ::

    يختَلِفُ حُكمُ الإلحادِ مِن شَخصٍ إلى آخَرَ، فحُكمُ مَن ألحَدَ في أسْماءِ اللهِ وصِفاتِه متعَمِّدًا وعِنادًا، ليس كمَن ألحَدَ فيها جَهلًا وتأوُّلًا.
    الأدِلَّةُ:
    أوَّلًا: مِنَ القُرآنِ:
    قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف: 138] .
    قال البَغَويُّ: (لم يكُنْ ذلك شكًّا من بني إسرائيلَ في وَحْدانيَّةِ اللهِ، وإنَّما معناه: اجعَلْ لنا شيئًا نُعَظِّمُه ونتقَرَّبُ بتعظيمِه إلى اللهِ، وظَنُّوا أنَّ ذلك لا يَضُرُّ الدِّيانةَ، وكان ذلك لشِدَّةِ جَهْلِهم. قال موسى: إنَّكم قَومٌ تَجهَلونَ عظَمةَ اللهِ) .
    وقال ابنُ كثير: (أي: تجهَلونَ عَظمةَ اللهِ وجَلالَه، وما يجِبُ أن يُنَزَّهَ عنه من الشَّريكِ والمثيلِ) .
    ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ:
    1- عن أبي واقِدٍ اللَّيثيِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا خرجَ إلى خَيبرَ مرَّ بشَجَرةٍ للمُشرِكينَ يقالُ لَها ذاتُ أنواطٍ، يعلِّقونَ عليْها أسلحِتَهم، فقالوا: يا رَسولَ اللهِ اجعَل لنا ذاتَ أنواطٍ كما لَهم ذاتُ أنواطٍ، فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((سُبحانَ اللهِ! هذا كما قالَ قومُ موسى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: 138] ، والَّذي نفسي بيدِهِ لترْكبُنَّ سُنَّةَ مَن كانَ قبلَكم)) وفي رواية: ((خرَجْنا مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى حُنَينٍ، ونحنُ حُدَثاءُ عَهدٍ بكُفرٍ)) .

    قال الملَّا علي القاري: («لَمَّا خرج إلى غَزوةِ حُنَينٍ» أي: بعد فَتحِ مكَّةَ ومعه بَعضُ من دخل في الإسلامِ حديثًا، ولم يتعلَّمْ من أدِلَّة الأحكامِ آيةً ولا حديثًا «مَرَّ بشَجَرةٍ للمُشرِكينَ كانوا يُعَلِّقونَ عليها أسلِحَتَهم» أي: ويَعكُفونَ حولَها، يُقالُ لها ذاتُ أنواطٍ: جَمعُ نَوطٍ، وهو مَصدَرُ ناطَه، أي: عَلَّقَه، «فقالوا» أي: بعضُهم ممَّن لم يَكمُلْ له مرتبةُ التَّوحيدِ، ولم يطَّلِعْ على حقيقةِ التفريدِ: «يا رَسولَ اللهِ، اجعَلْ لنا ذاتَ أنواطٍ كما لهم ذاتُ أنواطٍ» أي: شَجَرةً نحن أيضًا نعَلِّقُ عليها أسلِحَتَنا، وكأنَّهم أرادوا به الضِّدِّيَّةَ والمخالَفةَ العُرفيَّةَ، وغَفَلوا عن القاعِدةِ الشَّرعيَّةِ، «فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: سُبحانَ الله!» تنزيهًا وتعجُّبًا «هذا» أي: هذا القَولُ منكم «كما قال قومُ موسى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: 138] »، لكِنْ لا يخفى ما بيْنهما من التَّفاوُتِ المُستفادِ مِنَ التَّشبيهِ؛ حيث يكونُ المشَبَّهُ به أقوى) .

    2- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((كانَ رَجُلٌ يُسْرِفُ علَى نَفْسه، فَلَمَّا حَضَرَهُ المَوْتُ قالَ لِبَنِيه: إذا أنا مُتُّ فأحْرِقُونِي، ثُمَّ اطْحَنُونِي، ثُمَّ ذَرُّونِي في الرِّيحِ، فَواللهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبَنِّي عَذابًا ما عَذَّبَهُ أحَدًا، فَلَمَّا ماتَ فُعِلَ به ذلكَ، فأمَرَ اللهُ الأرْضَ فقالَ: اجْمَعِي ما فِيكِ منه، فَفَعَلَتْ، فإذا هو قائِمٌ، فقالَ: ما حَمَلَكَ علَى ما صَنَعْتَ؟ قال: يا رَبِّ، خَشْيَتُكَ، فَغَفَرَ له)) .

    قال الخَطَّابيُّ: (قد يُستشكَلُ هذا، فيُقالُ: كيف يَغفِرُ له وهو مُنكِرٌ للبَعثِ والقُدرةِ على إحياءِ الموتى؟! والجوابُ: أنَّه لم ينكِرِ البَعثَ، وإنَّما جَهِلَ فظَنَّ أنَّه إذا فعل به ذلك لا يُعادُ فلا يُعَذَّبُ، وقد ظَهَر إيمانُه باعترافِه بأنَّه إنَّما فعل ذلك مِن خَشيةِ اللهِ) .
    وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: (وأمَّا جَهلُ هذا الرَّجُلِ المذكورِ في هذا الحديثِ بصِفةٍ مِن صِفاتِ اللهِ في عِلْمِه وقَدَرِه، فليس ذلك بمُخرِجِه مِنَ الإيمانِ) .
    وقال ابنُ تَيميَّةَ: (فهذا رجُلٌ شكَّ في قُدرةِ اللهِ وفي إعادتِه إذا ذُرِيَ، بل اعتَقَد أنَّه لا يعادُ، وهذا كفرٌ باتِّفاقِ المسلِمينَ، لكِنْ كان جاهِلًا لا يَعلَمُ ذلك، وكان مؤمنًا يخافُ اللهَ أن يعاقِبَه، فغَفَر له بذلك، والمتأوِّلُ مِن أهلِ الاجتِهادِ، الحريصُ على متابعةِ الرَّسولِ: أَولى بالمَغفِرةِ مِن مِثلِ هذا) .
    وقال أيضًا: (فهذا الرَّجُلُ اعتَقَد أنَّ اللهَ لا يَقدِرُ على جَمْعِه إذا فَعَل ذلك، أو شَكَّ، وأنَّه لا يبعَثُه، وكُلُّ مِن هذينِ الاعتقادينِ كُفرٌ، يَكفُرُ من قامت عليه الحُجَّةُ، لكِنَّه كان يَجهَلُ ذلك، ولم يَبلُغْه العِلْمُ بما يَرُدُّه عن جَهْلِه، وكان عنده إيمانٌ باللهِ، وبأَمْرِه ونَهْيِه، ووَعْدِه ووَعيدِه، فخاف من عقابِه، فغَفَر اللهُ له بخَشْيتِه، فمن أخطأَ في بعضِ مَسائِلِ الاعتقادِ مِن أهلِ الإيمانِ باللهِ وبرَسولِه وباليَومِ الآخِرِ، والعَمَلِ الصَّالحِ؛ لم يكُنْ أسوَأَ حالًا مِن الرَّجُلِ) .

    وقال ابنُ القَيِّمِ: (أمَّا جَحْدُ ذلك جهلًا أو تأويلًا يُعذَرُ فيه صاحِبُه، فلا يَكفُرُ صاحِبُه به، كحديثِ الذي جَحَد قُدرةَ اللهِ عليه، وأمَرَ أهلَه أن يُحَرِّقوه ويَذُرُّوه في الرِّيحِ، ومع هذا فقد غَفَر اللهُ له، ورَحِمَه؛ لجَهْلِه؛ إذ كان ذلك الذي فعَلَه مَبلَغُ عِلْمِه، ولم يجحَدْ قُدرةَ اللهِ على إعادتِه عِنادًا أو تكذيبًا) .
    وقال ابنُ الوزير: (إنما أدركَتْه الرَّحمةُ؛ لجَهْلِه، وإيمانِه باللهِ والمعادِ؛ لذلك خاف العِقابَ، وأمَّا جَهْلُه بقُدرةِ اللهِ تعالى على ما ظَنَّه مُحالًا، فلا يكونُ كُفرًا إلَّا لو عَلِمَ أنَّ الأنبياءَ جاؤوا بذلك، وأنَّه مُمكِنٌ مقدورٌ، ثمَّ كَذَّبَهم أو أحدًا منهم؛ لِقَولِه تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] وهذا أرجى حديثٍ لأهلِ الخَطَأِ في التأويلِ) .

    وقال عبدُ اللهِ بنُ محمَّدِ بنِ عبدِ الوهَّابِ
    : (فهذا الرَّجُلُ اعتقد أنَّه إذا فُعِل به ذلك لا يَقدِرُ اللهُ على بَعْثِه، جَهلًا منه لا كُفرًا ولا عِنادًا، فشَكَّ في قُدرةِ اللهِ على بَعْثِه، ومع هذا غَفَر له ورَحِمَه، وكُلُّ مَن بَلَغه القُرآنُ فقد قامت عليه الحُجَّةُ بالرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولكِنَّ الجاهِلَ يحتاجُ إلى من يُعَرِّفُه بذلك من أهْلِ العِلْمِ. واللهُ أعلَمُ) .
    فالجَهلُ في هذه المسألةِ عُذرٌ مُعتَبَرٌ شَرعًا، وكذلك قيامُ الشُّبهةِ ووقوعُ التَّأويلِ.

    قال الشَّافعيُّ: (لله تعالى أسماءٌ وصِفاتٌ لا يَسَعُ أحدًا قامت عليه الحُجَّةُ رَدُّها. زاد في «المختَصَر»: فإن خالَفَ بعد ثُبوتِ الحُجَّةِ عليه، فهو كافِرٌ، فأمَّا قَبْلَ ثُبوتِ الحُجَّةِ عليه فمَعذورٌ بالجَهلِ؛ لأنَّ عِلْمَ ذلك لا يُدرَكُ بالعَقلِ، ولا بالرَّوِيَّةِ والفِكْرِ، ويُثبِت هذه الصِّفاتِ ويَنفي عنها التَّشبيهَ، كما نفى عن نَفْسِه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البصير [الشورى: 11] ) .
    وقال ابنُ جريرٍ: (للهِ تعالى ذِكْرُه أسماءٌ وصِفاتٌ جاء بها كتابُه، وأخبر بها نبيُّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَّتَه، لا يسَعُ أحدًا من خَلْقِ اللهِ قامت عليه الحُجَّةُ بأنَّ القُرآنَ نزل به، وصَحَّ عنده قَولُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما رُوِيَ عنه به الخَبَرُ منه، خلافُه؛ فإن خالف ذلك بعد ثبوتِ الحُجَّةِ عليه به من جهةِ الخَبَرِ على ما بَيَّنْتُ فيما لا سبيلَ إلى إدراكِ حقيقةِ عِلْمِه إلَّا حسًّا؛ فمعذورٌ بالجَهلِ به الجاهِلُ؛ لأنَّ عِلمَ ذلك لا يدرَكُ بالعقلِ، ولا بالرَّوِيَّةِ والفِكرةِ. وذلك نحوُ إخبارِ الله تعالى ذِكْرُه إيَّانا أنَّه سميعٌ بصيرٌ، وأنَّ له يدينِ... فإنَّ هذه المعانيَ التي وُصِفَت، ونظائِرَها، مِمَّا وصف اللهُ عزَّ وجَلَّ بها نَفْسَه، أو وصفه بها رسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ممَّا لا تُدرَكُ حقيقةُ عِلمِه بالفِكرِ والرَّوِيَّةِ. ولا نُكَفِّرُ بالجَهلِ بها أحدًا إلَّا بعد انتهائِها إليه) .

    وقال ابنُ تَيميَّةَ: (الصَّوابُ أنَّ الجَهلَ ببَعضِ أسْماءِ اللهِ وصِفاتِه لا يكونُ صاحِبُه كافِرًا إذا كان مُقِرًّا بما جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم يَبلُغْه ما يُوجِبُ العِلْمَ بما جَهِلَه، على وَجهٍ يَقتَضي كُفْرَه إذا لم يَعلَمْه) .
    وقال أيضًا: (تكفيرُ الجَهميَّةِ مَشهورٌ عن السَّلَفِ والأئِمَّةِ، لكِنْ ما كان أي: أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ يُكَفِّرُ أعيانَهم... فالذين كانوا من ولاةِ الأُمورِ يقولونَ بقَولِ الجَهميَّةِ: إنَّ القُرآنَ مخلوقٌ، وإنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ لا يُرى في الآخِرةِ، وغيرَ ذلك، ويَدْعُونَ النَّاسَ إلى ذلك، ويمتَحِنونَهم ويعاقِبونَهم إذا لم يُجيبوهم، ويُكَفِّرونَ من لم يُجِبْهم، حتَّى إنَّهم كانوا إذا افتَكُّوا الأسيرَ لا يُطلِقونَه حتى يُقِرَّ بقَولِ الجَهميَّةِ: إنَّ القُرآنَ مخلوقٌ، وغيرَ ذلك، ولا يُوَلُّونَ مُتوَلِّيًا،
    ولا يُعطُونَ رِزقًا من بيتِ المالِ، إلَّا لِمن يقول ذلك! ومع هذا فالإمامُ أحمدُ رَضِيَ اللهُ تعالى عنه، ترَحَّم عليهم، واستغفَرَ لهم؛ لعِلْمِه بأنَّهم لم يتبيَّنْ لهم أنَّهم مُكَذِّبونَ للرَّسولِ، ولا جاحِدونَ لِما جاء به، ولكِنْ تأوَّلوا فأخطَؤوا، وقَلَّدوا من قال ذلك لهم، وكذلك الشَّافِعيُّ لَمَّا قال لحَفصٍ الفردِ -حين قال: القُرآنُ مخلوقٌ-: كفَرْتَ باللهِ العظيمِ، بَيَّنَ له: أنَّ هذا القَولَ كُفرٌ، ولم يحكُمْ برِدَّةِ حَفصٍ بمجَرَّدِ ذلك؛ لأنَّه لم يتبيَّنْ له الحُجَّةُ التي يَكفُرُ بها، ولو اعتَقَد أنَّه مُرتَدٌّ لسعى في قَتْلِه، وقد صرَّح في كُتُبِه بقَبولِ شَهادةِ أهلِ الأهواءِ، والصَّلاةِ خَلْفَهم) .
    وقال أيضًا: (كُنتُ أقولُ للجَهْميَّةِ مِنَ الحُلوليَّةِ والنُّفاةِ الذين نَفَوا أن يكونَ اللهُ تعالى فوق العَرشِ، لَمَّا وَقَعَت مِحنَتُهم: أنْ لو وافقْتُكم كنتُ كافرًا؛ لأنِّي أعلَمُ أنَّ قَولَكم كُفرٌ، وأنتم عندي لا تَكفُرونَ؛ لأنَّكم جُهَّالٌ، وكان هذا خِطابًا لعُلَمائِهم وقُضاتِهم وشُيوخِهم وأُمَرائِهم! وأصلُ جَهْلِهم شُبُهاتٌ عَقليَّةٌ حَصَلَت لرُؤوسِهم في قُصورٍ مِن معرفةِ المنقولِ الصَّحيحِ، والمعقولِ الصَّريحِ الموافِقِ له؛ فكان هذا خِطابَنا) .

    وقال ابنُ تَيميَّةَ أيضًا: (أكثَرُ الطَّالِبينَ للعِلْمِ والدِّينِ ليس لهم قَصدٌ مِن غيرِ الحَقِّ المُبينِ، لكِنْ كَثُرَت في هذا البابِ الشُّبَهُ والمقالاتُ، واستولَتْ على القُلوبِ أنواعُ الضَّلالاتِ، حتى صار القَولُ الذي لا يَشُكُّ مَن أُوتِيَ العِلْمَ والإيمانَ أنَّه مخالِفٌ للقُرآنِ والبرهانِ، بل لا يَشُكُّ في أنَّه كُفرٌ بما جاء به الرَّسولُ مِن رَبِّ العالَمينَ؛ قد جَهِلَه كثيرٌ من أعيانِ الفُضَلاءِ، فظَنُّوا أنَّه مِن مَحضِ العِلْمِ والإيمانِ، بل لا يَشُكُّـونَ في أنَّه مُقتَضى صريحِ العَقلِ والعِيانِ، ولا يظُنُّونَ أنَّه مخالِفٌ لقواطِعِ البُرهانِ؛ ولهذا كنتُ أقولُ لأكابِرِهم: لو وافَقْتُكم على ما تقولونَه لكنتُ كافِرًا مَرِيدًا؛ لعِلْمي بأنَّ هذا كُفرٌ مُبِينٌ، وأنتم لا تَكفُرونَ؛ لأنَّكم من أهلِ الجَهلِ بحقائِقِ الدِّينِ؛ ولهذا كان السَّلَفُ والأئِمَّةُ يُكفِّرونَ الجَهْميَّةَ في الإطلاقِ والتَّعميمِ، وأمَّا المعَيَّنُ منهم فقد يَدْعُونَ له ويَستَغفِرونَ له؛ لكونِه غيرَ عالمٍ بالصِّراطِ المستقيمِ، وقد يكونُ العِلْمُ والإيمانُ ظاهِرًا لقَومٍ دونَ آخَرِينَ، وفي بعضِ الأمكِنَةِ والأزمِنَةِ دونَ بَعضٍ، بحَسَبِ ظُهورِ دِين ِالمرسَلينَ) .

    رابعاً : وجوبُ إجراءِ نُصوصِ القُرآنِ والسُّنَّةِ على ظاهِرِها دونَ تحريفٍ :

    المرادُ بالظَّاهِرِ: الظَّاهِرُ الشَّرعيُّ المتبادِرُ إلى الذِّهنِ، وذلك بإثباتِ الصِّفاتِ الواردةِ في الكِتابِ والسُّنَّةِ على حقيقةِ الإثباتِ، وتَنزيهِ الخالِقِ عن مُشابَهةِ الخَلْقِ له في تلك الصِّفاتِ، مع قَطْعِ الطَّمعِ عن إدراكِ الكيفيَّةِ؛ فنُصوصُ الصِّفاتِ مَفهومةٌ، وإدراكُ كيفيَّةِ الصِّفاتِ شَيءٌ مُمتَنِعٌ.
    وأمَّا تَرْكُ التَّحريفِ فالمرادُ به عَدَمُ التَّسلُّطِ على نُصوصِ الصِّفاتِ بصَرفِ مَعانيها المتبادِرةِ إلى الذِّهنِ إلى مَعانٍ أُخرى غيرِ مُتبادِرةٍ.
    قال اللهُ تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 193] .
    وقال اللهُ سُبحانَه: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف:2] .
    فهذا يَدُلُّ على وُجوبِ فَهْمِه على ما يَقتَضِيه ظاهِرُه باللِّسانِ العَرَبيِّ إلَّا أن يمنَعَ مِن ذلك دليلٌ شَرعيٌّ يَقتَضي صَرْفَ اللَّفظِ عن ظاهِرِه، فاللهُ المتكَلِّمُ بهذه النُّصوصِ أعلَمُ بمُرادِه مِن غَيرِه، وقد خاطَبَنا باللِّسانِ العَرَبيِّ المُبِينِ، فوجَبَ قَبولُ كَلامِه على ظاهِرِه، وإلَّا لاختَلَفَت الآراءُ، وتفَرَّقَت الأُمَّةُ بسَبَبِ التأويلِ الفاسِدِ.
    قال ابنُ جريرٍ: (الواجِبُ أن تكونَ معاني كتابِ اللهِ المنَزَّلِ على نبيِّنا محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمعاني كلامِ العَرَبِ مُوافِقةً، وظاهِرُه لظاهِرِ كلامِها مُلائِمًا، وإنْ بايَنَه كِتابُ اللهِ بالفَضيلةِ التي فَضَل بها سائِرَ الكلامِ والبَيانِ) .
    وقال أيضًا: (قَولُه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف: 2]
    يقولُ تعالى ذِكْرُه: إنَّا أنزَلْنا هذا الكِتابَ المُبِينَ قُرآنًا عربيًّا على العَرَبِ؛ لأنَّ لِسانَهم وكلامَهم عَرَبيٌّ، فأنزَلْنا هذا الكِتابَ بلِسانِهم؛ ليَعقِلوه ويَفقَهوا منه، وذلك قَولُه عزَّ وجَلَّ: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة: 73] ) .
    وقال البَغَويُّ: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ، يعني: الكِتابَ، قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، أي: أنزَلْناه بلُغَتِكم؛ لكي تَعلَموا معانيَه، وتَفهَموا ما فيه) .

    وقال ابنُ تَيميَّةَ: (اللُّغةُ التي خاطَبَ بها أتَمُّ اللُّغاتِ وأكمَلُها بيانًا، وقد امتَنَّ اللهُ عليهم بذلك، كما في قَولِه تعالى: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف: 1-2] ،
    وقال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف: 3] ،
    وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: 4] ،
    وقال تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 193 - 195] ،
    وقال تعالى: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل: 103] ، وأمثالِ ذلك.
    فإذا كان المخاطَبُ أعلَمَ الخَلقِ بما يُخبرُ به عنه، ويَصِفُه ويُخبِرُ به، وأحرَصَ الخَلْقِ على تَفهيمِ المخاطَبينَ وتَعريفِهم، وتعليمِهم وهُداهم، وأقدَرَ الخَلْقِ على البيانِ والتَّعريفِ لِما يَقصِدُه ويُريدُه؛ كان من المُمتَنِعِ بالضَّرورةِ ألَّا يكونَ كَلامُه مَبيِّنًا للعِلْمِ والهُدى والحَقِّ فيما خاطَبَ به وأخبَرَ عنه، وبَيَّنَه ووصَفَه، بل وَجَب أن يكونَ كَلامُه أحَقَّ الكلامِ بأن يكونَ دالًّا على العِلْمِ والحَقِّ والهُدى، وأن يكونَ ما ناقَضَ كلامَه مِنَ الكلامِ أحَقَّ الكَلامِ بأن يكونَ جَهلًا وكَذِبًا وباطِلًا) .

    وقال ابنُ تَيميَّةَ أيضًا: (ضلالُ بني آدَمَ مِن قِبَلِ التَّشابُهِ والقياسِ الفاسِدِ لا يَنضَبِطُ، كما قال الإمامُ أحمَدُ: أكثَرُ ما يخطِئُ النَّاسُ مِن جهةِ التَّأويلِ والقياسِ؛ فالتأويلُ: في الأدِلَّة السَّمعيَّةِ، والقياسُ: في الأدِلَّةِ العَقليَّةِ. وهو كما قال، والتَّأويلُ الخَطَأُ إنَّما يكونُ في الألفاظِ المتشابِهةِ، والقياسُ الخَطَأُ إنَّما يكونُ في المعاني المتشابِهةِ) .
    وقال عبدُ العزيزِ البُخاريُّ: (قال بعضُ المحَقِّقينَ: إنَّه لا يجوزُ أن يَثبُتَ بخِطابِ الشَّارعِ إلَّا ما يَقتَضِيه ظاهِرُه إنْ تجَرَّد عن قرينةٍ، وإن احتَمَل غيرَ ظاهِرِه أو ما يقتضيه مع قرينةٍ إن وُجدَت معه قرينةٌ؛ إذ لو جاز أن يَثبُتَ به غيرُ ما يَدُلُّ عليه ظاهِرُه، لَمَا حَصَل الوُثوقُ بخِطابِه؛ لجوازِ أن يكونَ المرادُ به غيرَ ظاهِرِه، مع أنَّه لم يُبَيِّنْه، وذلك يُفضي إلى اشتباهِ الأمرِ على النَّاسِ، ألا ترى أنَّا نَعلَمُ الشَّيءَ جائِزَ الوقوعِ قَطْعًا، ثمَّ نَقطَعُ بأنَّه لا يقَعُ؛ فإنَّه يجوزُ انقِلابُ ماءِ جَيحونَ دَمًا، وانقِلابُ الجُدرانِ ذَهَبًا، وظهورُ الإنسانِ الشَّيخِ لا من الأبوَينِ دَفعةً واحِدةً، ومع ذلك نقطَعُ بأنَّه لا يَقَعُ، فكذا هاهنا، وإن جَوَّزْنا من الله تعالى كُلَّ شَيءٍ، ولكِنَّه تعالى خَلَق فينا عِلمًا بَديهيًّا؛ فإنَّه لا يعني لهذه الألفاظِ إلَّا ظواهِرَها، فكذلك أَمِنَّا عن الالتِباسِ، وعَرَفْنا أنَّ الظَّواهِرَ قاطِعةٌ يجوزُ التمَسُّكُ بها في الأحكامِ القَطعيَّةِ) .

    وقال ابنُ القَيِّمِ: (مَقامُ أهلِ التَّخييلِ، قالوا: إنَّ الرُّسُلَ لَم يُمكِنهْم مخاطَبةُ الخَلقِ بِالحَقِّ في نَفسِ الأمرِ، فَخاطَبوهم بِما يُخَيَّلُ إلَيهم، وَضَرَبوا لَهم الأمثالَ، وَعَبَّروا عَنِ المَعاني المَعقولةِ بِالأُمورِ القَريبةِ مِنَ الحِسِّ، وَسَلَكوا ذَلِكَ في بابِ الإخبارِ عَنِ اللهِ وَأسمائِه وَصِفاتِه واليَومِ الآخِرِ، وَأقَرُّوا بابَ الطَّلَبِ على حَقيقَتِه، وَمِنهم مَن سَلَكَ هذه المَسلَكَ في الطَّلَبِ أيضًا، وَجَعَلَ الأمرَ والنَّهيَ إشاراتٍ وَأمثالًا...أهل التَّأويلِ، قالوا: لَم يُرَد مِنَّا اعتِقادُ حَقائِقِها، وإنَّما أُريدَ مِنَّا تَأويلُها بِما يُخرِجُها عَن ظاهرِها وَحَقائِقِها، فَتَكَلَّفوا لَها وُجوهَ التَّأويلاتِ المستَكرَهةِ، والمَجازاتِ المستَنكَرةِ الَّتي يَعلَم العُقَلاءُ أنَّها أبعَدُ شَيءٍ عَنِ احتِمالِ ألفاظِ النُّصوصِ لَها، وأنَّها بِالتَّحريفِ أشبَهُ مِنها بِالتَّفسيرِ.
    والطَّائِفَتانِ اتَّفَقَتا عَلَى أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَم يُبَيِّنِ الحَقَّ لِلأُمّةِ في خِطابِه لَهم وَلا أوضَحَه، بَل خاطَبَهم بِما ظاهِرُه باطِلٌ وَمحالٌ! ثُمَّ اختَلَفوا، فَقالَ أصحابُ التَّخييلِ: أرادَ مِنهم اعتِقادَ خِلافِ الحَقِّ والصَّوابِ، وَإن كانَ في ذَلِكَ مَفسَدةٌ فالمَصلَحةُ المتَرَتِّبةُ عَلَيه أعظَمُ مِنَ المَفسَدةِ الَّتي فيه، فَقالَ أصحابُ التَّأويلِ: بَل أرادَ مِنَّا أن نَعتَقِدَ خِلافَ ظاهرِه وَحَقيقَتِه، ولم يُبَيِّنْ لَنا المرادَ؛ تَعريضًا إلَى حُصولِ الثَّوابِ بِالِاجتِهادِ والبَحثِ والنَّظَرِ وإعمالِ الفِكرةِ في مَعرِفةِ الحَقِّ بِعُقولِنا، وَصَرَفَ تِلكَ الألفاظَ عَن حَقائِقِها وَظَواهرِها؛ لِنَنالَ ثَوابَ الاجتِهادِ والسَّعيِ في ذلك، فالطَّائِفَتانِ متَّفِقَتانِ على أنَّ ظاهرَ خِطابِ الرَّسولِ ضَلالٌ وكُفرٌ وباطِلٌ، وأنَّه لَم يُبَيِّنِ الحَقَّ، وَلا هَدَى إليه الخَلقَ) .
    وقال اللهُ تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتاب تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89] .
    وقال اللهُ سُبحانَه: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتاب إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل: 64] .
    فوَصَف اللهُ تعالى القُرآنَ بالبَيانِ والهُدى.
    قال ابنُ جريرٍ: (قَولُه: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] يقولُ: نَزَّل عليك -يا محمَّدُ- هذا القُرآنَ بيانًا لكُلِّ ما بالنَّاسِ إليه الحاجةُ مِن مَعرفةِ الحَلالِ والحرامِ، والثَّوابِ والعِقابِ، وَهُدًى مِنَ الضَّلالةِ وَرَحْمَةً لِمَن صَدَّق به، وعَمِل بما فيه من حُدودِ اللهِ وأمْرِه ونَهْيِه، فأحَلَّ حلالَه وحَرَّمَ حرامَه وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ يقولُ: وبِشارةً لِمن أطاع اللهَ، وخَضَع له بالتَّوحيدِ، وأذعَنَ له بالطَّاعةِ، يُبَشِّرُه بجَزيلِ ثوابِه في الآخِرةِ، وعَظيمِ كرامتِه) .
    وقال الشَّوكاني: (معنى كونِه تِبيانًا لكُلِّ شَيءٍ: أنَّ فيه البيانَ لكثيرٍ مِن الأحكامِ، والإحالةَ فيما بَقِيَ منها على السُّنَّةِ، وأمْرَهم باتِّباعِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما يأتي به مِن الأحكامِ، وطاعتِه، كما في الآياتِ القُرآنيةِ الدَّالَّةِ على ذلك) .
    وقال السَّعْديُّ: (قَولُه: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ في أُصولِ الدِّينِ وفُروعِه، وفي أحكامِ الدَّارَينِ وكُلِّ ما يَحتاجُ إليه العِبادُ، فهو مُبَيَّنٌ فيه أتَمَّ تبيينٍ بألفاظٍ واضِحةٍ ومَعانٍ جَليَّةٍ، حتَّى إنَّه تعالى يُثَنِّي فيه الأمورَ الكِبارَ التي يحتاجُ القَلبُ لِمُرورها عليه كُلَّ وَقتٍ، وإعادتِها في كُلِّ ساعةٍ، ويُعيدُها ويُبدِيها بألفاظٍ مُختَلِفةٍ وأدِلَّةٍ مُتنَوِّعةٍ؛ لتستَقِرَّ في القُلوبِ، فتُثمِرَ مِنَ الخَيرِ والبِرِّ بحَسَبِ ثُبوتِها في القَلْبِ، وحتَّى إنَّه تعالى يجمَعُ في اللَّفظِ القَليلِ الواضِحِ مَعانيَ كثيرةً يكونُ اللَّفظُ لها كالقاعِدةِ والأساسِ، واعتَبِرْ هذا بالآيةِ التي بعد هذه الآيةِ وما فيها من أنواعِ الأوامِرِ والنَّواهي التي لا تُحصى، فلمَّا كان هذا القُرآنُ تِبيانًا لكُلِّ شَيءٍ صار حُجَّةَ اللهِ على العِبادِ كُلِّهم) .
    وقال اللهُ تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:75] .
    وقال اللهُ سُبحانَه: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [النساء:46] .
    فقد ذَمَّ اللهُ تعالى اليهودَ على تحريفِهم، وبَيَّن أنَّهم بتَحريفِهم من أبعَدِ النَّاسِ عن الإيمانِ .
    قال ابنُ جرير: (قَولُه: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [النساء: 46] فإنَّه يقولُ: يُبَدِّلونَ معناها ويُغَيِّرونَها عن تأويلِه) .
    وقال ابنُ كثيرٍ: (قَولُه: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ أي: يتأوَّلون على غيرِ تأويلِه، ويُفَسِّرونَه بغيرِ مُرادِ اللهِ عزَّ وجَلَّ؛ قَصدًا منهم وافتراءً وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا أي: يقولون: سَمِعْنا ما قُلْتَه -يا محمَّدُ- ولا نُطيعُك فيه. هكذا فَسَّره مجاهِدٌ، وابنُ زَيدٍ. وهو المرادُ، وهذا أبلَغُ في عنادِهم وكُفرِهم، أنَّهم يتوَلَّونَ عن كِتابِ اللهِ بَعْدَما عَقَلوه، وهم يَعلَمون ما عليهم في ذلك من الإثمِ والعُقوبةِ) .

    قال ابنُ سريجٍ وقد سُئل عن صفاتِ اللهِ عزَّ وجَلَّ وتوحيدِه: (حرامٌ على العُقولِ أن تمثِّلَ، وعلى الأوهامِ أن تحُدَّه، وعلى الظُّنونِ أن تَقطَعَ، وعلى الضَّمائِرِ أن تَعمَّقَ، وعلى النُّفوسِ أن تفكِّرَ، وعلى الأفكارِ أن تحيطَ، وعلى الألبابِ أن تَصِفَ، إلَّا ما وصف به نَفْسَه في كتابه، أو على لسانِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
    وقد صَحَّ وتقَرَّر واتَّضَح عند جميعِ أهلِ الدِّيانةِ والسُّنَّة والجماعة... إلى زمانِنا هذا: أنَّ جميعَ الآيِ الواردةِ عن اللهِ عزَّ وجَلَّ في ذاتِه وصِفاتِه، والأخبارِ الصَّادقةِ الصَّادرةِ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في اللهِ وصفاتِه التي صَحَّحها أهلُ النَّقلِ وقَبِلَها النقَّادُ الأثباتُ: يجبُ على المرءِ المسلمِ المؤمِنِ الموقِنِ الإيمانُ بكُلِّ واحدٍ منه كما ورد، وتسليمُ أمرِه إلى اللهِ تعالى كما أمر،
    وأنَّ السُّؤالَ عن معانيها بدعةٌ، والجوابَ عن السؤالِ كُفرٌ وزَنْدَقةٌ.
    وذلك مِثلُ قَولِه تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة: 210] ، وقَولِه: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] ،
    وقَولِه: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى،
    وقَولِه: وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] ، ونظائِرِها مما نطق به القرآنُ؛ كالفوقيَّةِ والنَّفسِ، واليَدَينِ والسَّمعِ والبَصَرِ، والكلامِ والعَينِ والنَّظَرِ، والإرادةِ والرِّضا والغَضَبِ، والمحبَّةِ والكراهيةِ، والعنايةِ والقُربِ والبُعدِ، والسَّخَطِ والغَيظِ... وغيرِ ذلك من صفاتِه المتعَلِّقةِ به، المذكورةِ في كتابِه المنَزَّلِ على نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
    وجميعُ ما لفَظ به المصطفى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من صفاتِه؛ كغَرْسِه جنَّةَ الفِردَوسِ بيَدِه... والأصابعِ، والضَّحِكِ، والتعَجُّبِ، ونزولِه كُلَّ ليلةٍ... وإثباتِ الكلامِ بالحَرفِ والصَّوتِ... وغيرِ هذا ممَّا صَحَّ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من الأخبارِ المتشابهةِ الواردةِ في صِفاتِ اللهِ سُبحانه وتعالى ما بلَغْناه مما صَحَّ عنه؛ اعتقادُنا فيه وفي الآيِ المتشابهةِ في القرآنِ: أنَّا نَقْبَلُها ولا نَرُدُّها، ولا نتأوَّلُها بتأويِل المخالفين، ولا نحمِلُها على تشبيهِ المشَبِّهين، لا نزيدُ عليها ولا نَنقُصُ منها، ولا نُفَسِّرُها ولا نُكَيِّفُها... ونفسِّرُ الذي فَسَّره النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه والتَّابعون والأئمَّةُ المرضِيُّون من السَّلَفِ المعروفين بالدِّينِ والأمانةِ.
    ونُجمِعُ على ما أجمعوا عليه ونمسِكُ عمَّا أمسكوا عنه، ونسَلِّمُ الخبَرَ لظاهِرِه، والآيةُ لظاهِرِ تنزيلِها، لا نقولُ بتأويلِ المعتزلةِ والأشعَرِيَّة والجَهميَّة والملْحِدة والمجسِّمة والمشَبِّهة والكَرَّامية والمكَيِّفة. بل نقبَلُها بلا تأويلٍ ونؤمِنُ بها بلا تمثيلٍ،
    ونقولُ: الآيةُ والخَبَرُ صحيحانِ، والإيمانُ بهما واجِبٌ، والقَولُ بهما سُنَّةٌ، وابتغاءُ تأويلِها بدعةٌ وزَندقةٌ) .

    وقال ابنُ خُزَيمة: (إنَّ الأخبارَ في صِفاتِ اللهِ مُوافِقةٌ لكتابِ اللهِ تعالى، نقَلَها الخَلَفُ عن السَّلَفِ قَرنًا بعد قرنٍ مِن لَدُنِ الصَّحابةِ والتابعين إلى عَصْرِنا هذا على سَبيلِ الصِّفاتِ لله تعالى والمعرفةِ والإيمانِ به والتسليمِ لِما أخبَرَ اللهُ تعالى في تنزيلِه، ونبيُّه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن كتابِه، مع اجتنابِ التأويلِ والجُحودِ، وتَرْكِ التمثيلِ والتكييفِ) .

    وقال الطَّحاوي بعد ذِكْرِ بعضِ الصِّفاتِ: (وتفسيرُه على ما أراده اللهُ تعالى وعَلِمَه، وكُلُّ ما جاء في ذلك من الحديثِ الصَّحيحِ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهو كما قال، ومعناه على ما أراد، لا ندخُلُ في ذلك متأوِّلين بآرائِنا، ولا متوهِّمين بأهوائِنا؛ فإنَّه ما سَلِمَ في دينِه إلَّا من سَلَّم للهِ عزَّ وجَلَّ ولرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) .

    وقال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (مِن حَقِّ الكلامِ أن يُحمَلَ على حقيقتِه حتَّى تتَّفِقَ الأُمَّةُ أنَّه أُريدَ به المجازُ؛ إذ لا سَبيلَ إلى اتِّباعِ ما أُنزِلَ إلينا مِن رَبِّنا إلَّا على ذلك، وإنَّما يُوَجَّهُ كَلامُ اللهِ عزَّ وجَلَّ إلى الأشهَرِ والأظهَرِ مِن وُجوهِه ما لم يَمنَعْ مِن ذلك ما يجِبُ له التَّسليمُ، ولو ساغ ادِّعاءُ المجازِ لكُلِّ مُدَّعٍ، ما ثبتَ شيءٌ مِن العباراتِ، وجَلَّ الله عزَّ وجَلَّ عن أن يخاطِبَ إلَّا بما تَفهَمُه العَرَبُ في معهودِ مُخاطباتِها مِمَّا يَصِحُّ معناه عند السَّامِعينَ. والاستواءُ مَعْلُومٌ في اللُّغةِ ومَفهومٌ، وهو العُلُوُّ والارتفاعُ على الشَّيءِ، والاستِقرارُ والتمَكُّنُ فيه؛ قال أبو عُبَيدةَ في قَولِه تعالى: اسْتَوَى قال: علا، قال: وتقولُ العَرَبُ: استَوَيتُ فَوقَ الدَّابَّةِ، واستَوَيتُ فَوقَ البَيتِ. وقال غَيرُه: استَوى، أي: انتهى شَبابَه، واستقَرَّ فلم يكُنْ في شَبابِه مزيدٌ... الاستواءُ: الاستِقرارُ في العُلُوِّ، وبهذا خاطَبَنا اللهُ عزَّ وجَلَّ) .
    وقال أيضًا: (ما جاء عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من نَقْلِ الثِّقاتِ، وجاء عن الصَّحابةِ، وصَحَّ عنهم، فهو علمٌ يُدانُ به، وما أُحدِثَ بعدهم ولم يكُنْ له أصلٌ فيما جاء عنهم فبِدعةٌ وضلالةٌ، وما جاء في أسماءِ اللهِ أو صفاتِه عنهم سُلِّمَ له، ولم يناظَرْ فيه كما لم يُناظَروا.
    رواها السَّلَفُ، وسَكَتوا عنها، وهم كانوا أعمَقَ النَّاسِ عِلمًا، وأوسَعَهم فهمًا، وأقلَّهم تكلُّفًا، ولم يكن سكوتُهم عن عِيٍّ، فمن لم يسَعْه ما وَسِعَهم قد خاب وخَسِر) .

    وقال ابنُ تَيميَّةَ: (مِنَ المَعْلُومِ أنَّ الرَّبَّ لَمَّا وَصَفَ نَفْسَه بأنَّه حَيٌّ عَليمٌ قَديرٌ، لم يَقُلِ المُسلِمون: إنَّ ظاهِرَ هذا غَيرُ مُرادٍ؛ لأنَّ مَفهومَ ذلك في حَقِّه مِثلُ مَفهومِه في حَقِّنا؛ فكذلك لَمَّا وَصَفَ نَفْسَه بأنَّه خَلَق آدَمَ بيَدَيه، لم يُوجِبْ ذلك أن يكونَ ظاهِرُه غيرَ مرادٍ؛ لأنَّ مفهومَ ذلك في حَقِّه كمَفهومِه في حَقِّنا، بل صِفةُ الموصوفِ تُناسِبُه، فإذا كانت نَفْسُه المقَدَّسةُ ليست مِثلَ ذواتِ المخلوقينَ، فصِفاتُه كذَاتِه ليسَت مِثلَ صِفاتِ المخلوقينَ) .

    وقال ابنُ القَيِّمِ: (حِفظُ حُرمةِ نُصوصِ الأسماءِ والصِّفاتِ بإجراءِ أخبارِها على ظواهِرِها.
    وهو اعتقادُ مفهومِها المتبادِرِ إلى أذهانِ العامَّةِ... عامَّةِ الأمَّةِ،
    كما قال مالكٌ رحمه الله وقد سُئِل عن قَولِه تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] كيف استوى؟ فأطرق مالكٌ حتى علاه الرُّحَضاءُ، ثم قال: الاستواءُ معلومٌ، والكيفُ غيرُ مَعقولٍ، والإيمانُ به واجبٌ، والسُّؤالُ عنه بدعةٌ.
    ففَرَّق بين المعنى المعلومِ من هذه اللَّفظةِ، وبين الكيفِ الذي لا يعقِلُه البَشَرُ. وهذا الجوابُ من مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه شافٍ عامٌّ في جميعِ مسائِلِ الصِّفاتِ.
    فمن سأل عن قَولِه: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46] كيف يسمعُ ويرى؟ أجيب بهذا الجوابِ بعَينِه. فقيل له: السَّمعُ والبَصَرُ معلومٌ. والكيفُ غيرُ مَعقولٍ.
    وكذلك من سأل عن العِلمِ، والحياةِ، والقُدرةِ، والإرادةِ، والنُّزولِ، والغَضَبِ، والرِّضا، والرَّحمةِ، والضَّحِكِ، وغَيرِ ذلك. فمعانيها كُلِّها مفهومةٌ، وأمَّا كيفيَّتُها فغيرُ معقولةٍ؛ إذ تعقُّل الكيفيَّةِ فرعُ العِلمِ بكيفيَّةِ الذَّاتِ وكُنْهِها. فإذا كان ذلك غيرَ مَعقولٍ للبشَرِ، فكيف يُعقَلُ لهم كيفيَّةُ الصِّفاتِ؟
    والعِصمةُ النَّافعةُ في هذا البابِ: أن يوصَفَ اللهُ بما وصف به نَفْسَه، وبما وصفه به رسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، من غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غيرِ تكييفٍ ولا تمثيلٍ، بل تُثبَتُ له الأسماءُ والصِّفاتُ، وتُنفى عنه مشابهةُ المخلوقاتِ. فيكونُ إثباتُك مُنَزَّهًا عن التشبيهِ، ونَفْيُك مُنَزَّهًا عن التعطيلِ، فمن نفى حقيقةَ الاستواءِ فهو مُعَطِّلٌ، ومن شَبَّهه باستواءِ المخلوقِ على المخلوقِ فهو ممَثِّلٌ، ومن قال: استواءٌ ليس كمِثْلِه شيءٌ، فهو الموحِّدُ المنَزِّهُ) .

    وقال علي القاري: (اعلَمْ أنَّ نبيَّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُوتيَ فواتِحَ الكَلِمِ وخواتمَه وجوامِعَه ولوامِعَه، فبُعِث بالعلومِ الكُلِّيَّة، والمعارفِ الأوَّلِيَّة والآخِريَّة، على أتمِّ الوجوهِ فيما يحتاجُ إليه السَّالكُ في الأمورِ الدِّينيَّة والدُّنيويَّة والأُخرويَّة، ولكِنْ كُلَّما ابتدع شَخصٌ بِدعةً اتَّسَعوا في جوابِها واضطَرَبوا في بيانِ خَطَئِها وصَوابِها، فالعِلمُ نقطةٌ كَثَّرها الجاهِلون؛ ولذلك صار كلامُ المتأخِّرين كثيرًا قليلَ البركةِ، بخِلافِ كلامِ السَّلَفِ؛ فإنَّه قليلٌ كثيرُ البركةِ والمنفعةِ، فالفَضلُ للمتقَدِّمين لا ما يقولُه جَهَلةُ المتكَلِّمين: إنَّ طريقةَ المتقَدِّمين أسلَمُ وطريقتَنا أحكَمُ وأعلَمُ! وكما يقولُ من لم يَقدُرْهم قَدْرَهم من المنتسبينَ إلى الفِقهِ أنَّهم لم يتفَرَّغوا لاستنباطِ وضَبطِ قواعِدِه وأحكامِه اشتغالًا منهم بغيرِه، والمتأخِّرون تفَرَّغوا لذلك؛ فهم أفقَهُ بما يتعلَّقُ هنالك!
    فكُلُّ هؤلاء محجوبون عن معرفةِ مقاديرِ السَّلَفِ وعن عُلومِهم وقِلَّةِ تكَلُّفِهم؛ فتاللهِ ما امتاز عنهم المتأخِّرون إلَّا بالتكَلُّفِ والاشتغالِ بالأطرافِ التي همَّةُ القومِ مُراعاةُ أُصولها ومعاهِدِها، وضَبطُ قواعِدِها، وشَدُّ معاقِدِها، وهمَمُهم مُشَمِّرة إلى المطالِبِ العاليةِ والمراتِبِ الغاليةِ، فالمتأخِّرون في شأنٍ والقَومُ في شأنٍ، وهو سُبحانَه وتعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29] وقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق: 3] ) .

    وقال الشِّنقيطيُّ: (اعلَمْ أنَّ أئِمَّةَ القائِلينَ بالتَّأويلِ رَجَعوا قبل موتِهم عنه؛ لأنَّه مَذهَبٌ غَيرُ مأمونِ العاقبةِ؛ لأنَّ مَبْناه على ادِّعاءِ أنَّ ظواهِرَ آياتِ الصِّفاتِ وأحاديثِها لا تليقُ باللهِ؛ لظُهورِها وتَبادُرِها في مُشابَهةِ صِفاتِ الخَلْقِ، ثمَّ نَفْيِ تلك الصِّفاتِ الواردةِ في الآياتِ والأحاديثِ لأجْلِ تلك الدَّعوى الكاذِبةِ المَشؤومةِ، ثمَّ تأويلِها بأشياءَ أُخَرَ دونَ مُستَنَدٍ مِن كتابٍ أو سُنَّةٍ، أو قَولِ صَحابيٍّ أو أحَدٍ مِنَ السَّلَفِ. وكلُّ مَذهَبٍ هذه حالُه فإنَّه جديرٌ بالعاقِلِ المفَكِّرِ أن يَرجِعَ عنه إلى مَذهَبِ السَّلَفِ) .
    وقال أيضًا: (يلزَمُ كُلَّ مُكَلَّفٍ أن يؤمِنَ بما وصف اللهُ به نَفْسَه، أو وصفه به رسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويُنَزِّهَ رَبَّه جَلَّ وعلا عن أن تُشبِهَ صِفتُه صفةَ المخلوقين. وحيث أخَلَّ بأحدِ هذين الأصلينِ وقع في هُوَّةِ ضلالٍ؛ لأنَّ من تنطَّع بين يدَيْ رَبِّ السَّمَواتِ والأرضِ، وتجَرَّأَ على اللهِ بهذه الجرأةِ العظيمةِ، ونفى عن رَبِّه وصفًا أثبته لنَفْسِه، فهذا مجنونٌ؛ فاللهُ جَلَّ وعلا يثبِتُ لنَفْسِه صفاتِ كَمالٍ وجلالٍ، فكيف يليقُ لمِسكينٍ جاهلٍ أن يتقدَّمَ بين يَدَيْ رَبِّ السَّمَواتِ والأرضِ، ويقولُ: هذا الذي وصَفْتَ به نَفْسَك لا يليقُ بك، ويلزَمُه من النَّقصِ كذا وكذا، فإني أؤَوِّلُه وأُلغِيه وآتي ببَدَلِه من تلقاءِ نفسي، من غيرِ استنادٍ إلى كتابٍ أو سُنَّةٍ. سبحانَك هذا بهتانٌ عظيمٌ!) .
    وقال أيضًا: (مقارنةٌ بين ما سَمَّوه مَذهَبَ السَّلَفِ ومَذهَبَ الخَلَفِ... وقولهم: إنَّ مَذهَبَ السَّلَفِ أسلَمُ، ومذهَبَ الخَلَفِ أحكَمُ وأعلَمُ، فنقولُ: وصفوا مَذهَبَ السَّلَفِ بأنَّه أسلَمُ، وهي صيغةُ تفضيلٍ من السَّلامة، وما كان يفوق غيرَه ويَفضُلُه في السَّلامةِ، فلا شَكَّ أنَّه أعلَمُ منه وأحكَمُ...
    وإيضاحُ المقارنةِ: أنَّ من كان على معتَقَدِ السَّلَفِ الصَّالحِ إذا سمع مثلًا قَولَه تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] ، امتلأ قَلْبُه من الإجلالِ والتعظيمِ والإكبارِ لصِفةِ رَبِّ العالَمين التي مدح بها نفسَه وأثنى عليه بها، فجزم بأنَّ تلك الصِّفةَ التي تمدَّحَ بها خالِقَ السَّمَواتِ والأرضِ بالغةٌ من غاياتِ الكَمالِ والجلالِ ما يقطَعُ علائِقَ أوهامِ المشابهةِ بينها وبين صِفاتِ الخَلْقِ...
    وبإجلالِ تلك الصِّفةِ وتعظيمِها وحَمْلِها على أشرفِ المعاني اللَّائقةِ بكَمالِ من وصف بها نَفْسَه وجلالِه، يَسهُلُ على ذلك المؤمِنِ السَّلَفيِّ أن يؤمِنَ بتلك الصِّفةِ، ويثبِتَها لله كما أثبتها اللهُ لنَفْسِه على أساسِ التنزيهِ، فيكون أولًا مُنزِّهًا سالِمًا من أقذار التشبيهِ، وثانيًا مُؤمِنًا بالصِّفاتِ، مُصَدِّقًا بها على أساسِ التنزيهِ، فيكونُ سالِمًا من أقذار التعطيل، فيَجمَعُ بين التنزيهِ والإيمانِ بالصِّفاتِ على نحوِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] ، فمُعتَقَدُه طريقُ سلامةٍ مُحَقَّقةٍ؛ لأنَّه مبنيٌّ على ما تضمَّنَتْه آيةُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ الآية، من التنزيهِ والإيمانِ بالصِّفاتِ، فهو تنزيهٌ من غيرِ تعطيلٍ، وإيمانٌ من غيرِ تشبيهٍ ولا تمثيلٍ، وكُلُّ هذا طريقُ سلامةٍ مُحَقَّقةٍ، وعَمَل بالقرآنِ، فهذا هو مذهَبُ السَّلَفِ) .
    ------------------------------------------------------------------------------------
    التالي : -
    خامساً : الخامِسُ: اعتِقادُ أنَّ ظاهِرَ النُّصوصِ مَعْلُومٌ لنا باعتبارٍ، ومجهولٌ لنا باعتبارٍ آخَرَ :
    -
    تابعونا جزاكم الله خيراً

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5385
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

     توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ، ومَنزِلتُه وأحكامُه :-أحكامُ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ :-معنى الصِّفةِ والوَصْفِ والنَّعْتِ والاسمِ Empty : اعتِقادُ أنَّ ظاهِرَ النُّصوصِ مَعْلُومٌ لنا باعتبارٍ، ومجهولٌ لنا باعتبارٍ آخَرَ :

    مُساهمة من طرف صادق النور الإثنين ديسمبر 25, 2023 5:20 pm

    يتبع ما قبله :

    خامساً : اعتِقادُ أنَّ ظاهِرَ النُّصوصِ مَعْلُومٌ لنا باعتبارٍ، ومجهولٌ لنا باعتبارٍ آخَرَ :


    فباعتبارِ المعنى هي نُصوصٌ مَعْلُومةٌ، وباعتبارِ الكَيفيَّةِ التي هي عليها: مجهولةٌ.
    قال اللهُ تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ *ص:29*.
    والتدَبُّرُ لا يكونُ إلَّا فيما يمكِنُ الوصولُ إلى فَهْمِه؛ ليتذكَّرَ الإنسانُ بما فَهِمَه منه.
    قال ابنُ جريرٍ: (لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص: 29] يقولُ: ليتدَبَّروا حُجَجَ اللهِ التي فيه، وما شَرَع فيه من شرائِعِه، فيتَّعِظوا ويَعمَلوا به) .
    وقال اللهُ سُبحانَه: وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكـُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف:2، 3].
    كونُ القُرآنِ عَربيًّا لِيَعقِلَه مَن يَفهَمُ العَربيَّةَ: يَدُلُّ على أنَّ معناه مَعْلُومٌ، وإلَّا لَمَا كان ثَمَّةَ فَرقٌ بين أن يكونَ باللُّغةِ العَربيَّةِ أو غَيرِها.
    قال ابنُ كثيرٍ: (وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ أي: البَيِّنِ الواضِحِ الجَلِيِّ المعاني والألفاظِ؛ لأنَّه نَزَل بلُغةِ العَرَبِ التي هي أفصَحُ اللُّغاتِ للتخاطُبِ بين النَّاسِ؛ ولهذا قال: إِنَّا جَعَلْنَاهُ أي: أنزَلْناه قُرْآنًا عَرَبِيًّا أي: بلغةِ العَرَبِ، فَصيحًا واضِحًا؛ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي: تَفهَمونَه وتتدَبَّرونَه، كما قال: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 195]) .
    وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:44] .
    وبيانُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم القُرآنَ للنَّاسِ شامِلٌ لبيانِ لَفْظِه وبَيانِ مَعناه.
    قال البَغَوي: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] أراد بالذِّكرِ الوَحْيَ، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُبَيِّنًا للوَحيِ، وبَيانُ الكِتابِ يُطلَبُ مِنَ السُّنَّةِ) .

    وقال السَّعْديُّ: (قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ أي: القُرآنَ الذي فيه ذِكرُ ما يَحتاجُ إليه العبادُ مِن أمورِ دِينِهم ودُنياهم الظَّاهِرةِ والباطِنةِ؛ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وهذا شامِلٌ لتَبيينِ ألفاظِه وتَبيينِ مَعانيه، وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فيه، فيَستخرِجونَ مِن كُنوزِه وعُلُومِه بحَسَبِ استِعدادِهم وإقبالِهم عليه) .

    كما أنَّ العَقلَ يَدُلُّ على ذلك، فمِنَ المحالِ أن يُنزِلَ اللهُ تعالى كتابًا أو يتكَلَّمَ رَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بكَلامٍ لأجْلِ هدايةٍ للخَلْقِ،
    ثمَّ يبقى في أعظَمِ الأمورِ وأشَدِّها ضَرورةً مَجهوَل المعنى، فذلك من السَّفَهِ الذي تأباه حِكمةُ اللهِ تعالى!
    وبهذا يُعلَمُ بُطلانُ مَذهَبِ المفَوِّضةِ الذين يفوِّضون عِلمَ معاني نصوصِ الصِّفاتِ، ويدَّعون أنَّ هذا مَذهَبُ السَّلَفِ، وقد تواترت الأقوالُ عنهم بإثباتِ المعاني لهذه النُّصوصِ؛ تارةً إجمالًا، وتارةً تفصيلًا، مع تفويضِهم كيفيَّتَها إلى عِلمِ اللهِ عزَّ وجَلَّ .
    وعن سُفيانَ بنِ عُيَينةَ قال: سُئِلَ رَبيعةُ بنُ أبي عبدِ الرَّحمنِ عن قَولِه: اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54] : كيف استوى؟ قال: (الاستِواءُ غيرُ مَجهولٍ، والكَيفُ غيرُ مَعقولٍ، ومِنَ اللهِ الرِّسالةُ، وعلى الرَّسولِ البَلاغُ، وعلينا التَّصديقُ) .
    وعن يحيى بنِ يحيى قال: كُنَّا عند مالِكِ بنِ أنَسٍ، فجاء رجُلٌ فقال: يا أبا عبدِ اللهِ، الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] فكيف استوى؟
    قال: فأطرَقَ مالِكٌ برأسَه حتى علاه الرُّحَضاءُ، ثمَّ قال: (الاستِواءُ غيرُ مجهولٍ، والكَيفُ غيرُ مَعقولٍ، والإيمانُ به واجِبٌ، والسُّؤالُ عنه بِدعةٌ، وما أراك إلَّا مُبتَدِعًا، فأمَرَ به أن يُخرَجَ) .
    وقال ابنُ جرير: (فإنْ قال لنا قائِلٌ: فما الصَّوابُ من القَولِ في معاني هذه الصِّفاتِ التي ذُكِرَت، وجاء ببَعْضِها كتابُ اللهِ عزَّ وجَلَّ ووَحْيُه، وجاء ببعضِها رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قيل: الصوابُ من هذا القَولِ عندنا أن نُثبِتَ حقائِقَها على ما نَعرِفُ من جهةِ الإثباتِ ونَفيِ التشبيهِ، كما نفى ذلك عن نَفْسِه -جلَّ ثناؤه-
    فقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] ، فيقال: اللهُ سميعٌ بصيرٌ، له سمعٌ وبصرٌ؛ إذ لا يُعقَلُ مُسَمًّى سميعًا بصيرًا في لغةٍ ولا عَقلٍ في النُّشوءِ والعادةِ والمتعارَفِ إلَّا من له سمٌع وبصَرٌ.
    كما قُلْنا آنفًا: إنَّه لا يُعرَفُ مقولٌ فيه: «إنَّه» إلَّا مثبتٌ موجودٌ؛ فقلنا ومخالفونا فيه: «إنَّه» معناه الإثباتُ على ما يُعقَلُ من معنى الإثباتِ، لا على النَّفيِ، وكذلك سائرُ الأسماءِ والمعاني التي ذكَرْنا. وبعدُ، فإنَّ سميعًا اسمٌ مبنيٌّ من سَمِعَ، وبصيرٌ مِن أبصَرَ؛ فإن يكن جائزًا أن يقالَ: سَمِع وأبصَرَ مَن لا سَمْعَ له ولا بَصَر، إنَّه لجائزٌ أن يقال: تكلَّم من لا كلامَ له، ورَحِمَ مَن لا رحمةَ له، وعاقَبَ مَن لا عِقابَ له. وفي إحالةِ جميعِ الموافِقين والمخالِفين أن يقالَ: يتكَلَّمُ مَن لا كلامَ له، أو يرحَمُ من لا رحمةَ له، أو يعاقِبُ من لا عِقابَ له: أدلُّ دليلٍ على خطأِ قَولِ القائِلِ: يَسمَعُ مَن لا سَمْعَ له، ويُبصِرُ مَن لا بَصَرَ له.
    فنُثبِتُ كُلَّ هذه المعاني التي ذكَرْنا أنَّها جاءت بها الأخبارُ والكِتابُ والتنزيلُ على ما يُعقَلُ من حقيقةِ الإثباتِ، وننفي عنه التشبيهَ) .

    وقال أبو القاسِمِ الأصبهانيُّ: (قال أهْلُ العِلْمِ مِن أهلِ السُّنَّةِ: هذه الأحاديثُ مِمَّا لا يُدرَكُ حقيقةُ عِلمِه بالفِكرِ والرَّوِيَّةِ) .
    وقال السِّجزي بعد أن ذَكَر جُملةً من أحاديثِ الصِّفاتِ: (وقد نطق القرآنُ بأكثَرِها، وعند أهلِ الأثَرِ أنَّها صفاتُ ذاتِه، لا يُفَسَّرُ منها إلَّا ما فَسَّره النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو الصَّحابيُّ، بل نُمِرُّ هذه الأحاديثَ على ما جاءت، بعد قَبولِها والإيمانِ بها والاعتِقادِ بما فيها، بلا كيفيَّةٍ) .

    وقال ابنُ هُبَيرةَ: (الإجماعُ انعَقَد على جوازِ روايةِ هذه الأحاديثِ وإمرارِها كما جاءت، مع الإيمانِ بأنَّ اللهَ تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وأنَّه أحَدٌ صَمَدٌ، لم يَلِدْ ولم يُولَدْ، ولم يَكُنْ له كُفُوًا أحَدٌ، وينبغي لكُلِّ مُؤمِنٍ أن يكونَ مُثبِتًا للهِ سُبحانَه من الصِّفاتِ ما أثبَتَه له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ونافيًا عنه مِن مُشابَهةِ الأجسامِ ما نفاه القُرآنُ والسُّنَّةُ) .
    وقال ابنُ تَيميَّةَ: (أمَّا التَّفويضُ فإنَّ مِن المَعْلُومِ أنَّ اللهَ تعالى أمَرَنا أن نتدَبَّرَ القُرآنَ، وحَضَّنا على عَقْلِه وفَهْمِه، فكيف يجوزُ مع ذلك أن يرادَ منا الإعراضُ عن فَهْمِه ومَعْرِفتِه وعَقْلِه؟ ... وأمَّا على قَولِ أكابرِهم: إنَّ معانيَ هذه النُّصوصِ المُشكِلةِ المُتشابِهةِ لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ، وأنَّ معناها الذي أراده اللهُ بها هو ما يوجِبُ صَرْفَها عن ظواهِرِها، فعلى قَولِ هؤلاء يكونُ الأنبياءُ والمُرسَلونَ لا يَعلَمونَ معانيَ ما أنزَلَ اللهُ عليهم من هذه النُّصوصِ، ولا الملائِكةُ، ولا السَّابِقون الأوَّلون، وحينَئذٍ فيَكونُ ما وَصَف اللهُ به نَفْسَه في القُرآنِ، أو كثيرٌ مِمَّا وَصَف اللهُ به نَفْسَه؛ لا يَعلَمُ الأنبياءُ معناه، بل يقولون كلامًا لا يَعقِلونَ معناه...
    ومَعْلُومٌ أنَّ هذا قَدْحٌ في القُرآنِ والأنبياءِ؛ إذ كان اللهُ أنزل القُرآنَ، وأخبَرَ أنَّه جَعَله هُدًى وبيانًا للنَّاسِ، وأمَرَ الرَّسولَ أن يُبَلِّغَ البَلاغَ المُبِينَ، وأن يُبَيِّنَ للنَّاسِ ما نُزِّل إليهم، وأمَرَ بتدَبُّرِ القُرآنِ وعَقْلِه، ومع هذا فأشرَفُ ما فيه -وهو ما أخبَرَ به الرَّبُّ عن صِفاتِه،
    أو عن كَونِه خالِقًا لكُلِّ شَيءٍ، وهو بكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ، أو عن كَونِه أمَرَ ونَهى، ووَعَد وتوَعَّد، أو عَمَّا أخبَرَ به عن اليومِ الآخِرِ-
    لا يَعلَمُ أحَدٌ معناه، فلا يُعقَلُ ولا يُتدَبَّرُ، ولا يكونُ الرَّسولُ بَيَّن للنَّاسِ ما نُزِّل إليهم، ولا بَلَّغ البلاغَ المُبِينَ!
    وعلى هذا التَّقديرِ فيَقولُ كُلُّ مُلحِدٍ ومُبتَدِعٍ: الحَقُّ في نَفسِ الأمرِ ما عَلِمْتُه برأيي وعَقْلي، وليس في النُّصوصِ ما يُناقِضُ ذلك؛
    لأنَّ تلك النُّصوصَ مُشكِلةٌ مُتشابِهةٌ لا يَعلَمُ أحَدٌ معناها، وما لا يَعلَمُ أحدٌ معناه لا يجوزُ أن يُستَدَلَّ به.
    فيبقى هذا الكَلامُ سَدًّا لبابِ الهُدى والبيانِ مِن جِهةِ الأنبياءِ، وفتحًا لبابِ من يُعارِضُهم ويقولُ: إنَّ الهُدى والبيانَ في طريقِنا لا في طَريقِ الأنبياءِ، لأنَّا نحن نَعلَمُ ما نقولُ ونُبَيِّنُه بالأدِلَّةِ العَقليَّةِ، والأنبياءُ لم يَعلَموا ما يَقولونَ، فضلًا عن أن يُبَيِّنوا مُرادَهم. فتَبَيَّنَ أنَّ قَولَ أهلِ التَّفويضِ -الذين يَزعُمونَ أنَّهم مُتَّبِعونَ للسُّنَّةِ والسَّلَفِ- مِن شَرِّ أقوالِ أهلِ البِدَعِ والإلحادِ) .

    وقال ابنُ القَيِّمِ: (العَقلُ قد يَئِسَ مِن تعَرُّفِ كُنْهِ الصِّفةِ وكَيفيَّتِها؛ فإنَّه لا يَعلَمُ كيف اللهُ إلَّا اللهُ، وهذا معنى قَولِ السَّلَفِ: بلا كَيفٍ، أي: بلا كَيفٍ يَعقِلُه البَشَرُ، فإنَّ مَن لا تَعلَمُ حَقيقةَ ذاتِه وماهيَّتِه، كيف تَعرِفُ كيفيَّةَ نُعوتِه وصِفاتِه؟ ولا يَقدَحُ ذلك في الإيمانِ بها، ومَعرفةِ مَعانيها، فالكيفيَّةُ وراءَ ذلك، كما أنَّا نَعرِفُ معانيَ ما أخبَرَ اللهُ به من حقائِقِ ما في اليَومِ الآخِرِ، ولا نعرِفُ حقيقةَ كيفيَّتِه، مع قُربِ ما بين المخلوقِ والمخلوقِ، فعَجْزُنا عن معرفةِ كيفيَّةِ الخالِقِ وصِفاتِه أعظَمُ وأعظَمُ! فكيف يَطمَعُ العَقلُ المخلوقُ المحصورُ المحدودُ في مَعرفةِ كيفيَّةِ مَن له الكَمالُ كُلُّه، والجَمالُ كُلُّه، والعِلْمُ كُلُّه، والقُدرةُ كُلُّها، والعَظَمةُ كُلُّها، والكِبرياءُ كُلُّها؟!) .
    وقال ابنُ باز: (ليس الأسلَمُ تفويضَ الأمرِ في الصِّفاتِ إلى علامِ الغُيُوبِ؛ لأنَّه سُبحانَه بَيَّنَها لعبادِه وأوضحَها في كتابِه الكريمِ وعلى لِسانِ رَسولِه الأمينِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم يُبَيِّنْ كيفيَّتَها، فالواجِبُ تفويضُ عِلمِ الكيفيَّةِ لا عِلمُ المعاني، وليس التَّفويضُ مَذهَبَ السَّلَفِ، بل هو مَذهَبٌ مُبتَدَعٌ مُخالِفٌ لِما عليه السَّلَفُ الصَّالحُ.
    وقد أنكَرَ الإمامُ أحمَدُ رحمه الله وغَيرُه مِن أئِمَّةِ السَّلَفِ على أهلِ التَّفويضِ، وبَدَّعوهم؛ لأنَّ مُقتَضى مَذهَبِهم أنَّ اللهَ سُبحانَه خاطَبَ عِبادَه بما لا يَفهَمونَ معناه ولا يَعقِلونَ مُرادَه منه، واللهُ سُبحانَه وتعالى يتقَدَّسُ عن ذلك، وأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ يَعرِفونَ مُرادَه سُبحانَه بكَلامِه، ويَصِفونَه بمُقتَضى أسمائِه وصِفاتِه، ويُنَزِّهونَه عن كُلِّ ما لا يَليقُ به عزَّ وجَلَّ، وقد عَلِموا مِن كَلامِه سُبحانَه ومِن كَلامِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه سُبحانَه موصوفٌ بالكَمالِ المُطلَقِ في جميعِ ما أخبَرَ به عن نَفْسِه، أو أخبَرَ به عنه رَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) .

    وقال ابنُ عُثَيمين: (كُلُّ ما جاء في كتابِ اللهِ أو صَحَّ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من الأحاديثِ، فإنَّنا نُمِرُّه كما قد جاء، وهذا هو المرويُّ عن السَّلَفِ؛ أنَّهم يَقولونَ في آياتِ الصِّفاتِ وأحاديثِها: «أَمِرُّوها كما جاءت بلا كَيفٍ». فالواجِبُ علينا أن نُمِرَّها كما جاءت، وهذا الإمرارُ ليس إمرارًا لَفظيًّا فقط، بل هو إمرارٌ لَفظيٌّ مَعنويٌّ، أمَّا إمرارُها لَفظًا فقط فإنَّه مَذهَبٌ باطِلٌ، ويُسَمَّى مَذهَبَ أهلِ التَّفويضِ أو المفَوِّضةِ،
    وهو كما قال عنه شَيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميَّةَ رَحِمَه اللهُ: «مِن شَرِّ أقوالِ أهلِ البِدَعِ والإلحادِ»؛ لأنَّهم بهذا المذهَبِ ارتَكَبوا خَطَأً عَظيمًا، حيثُ جَعَلوا المُسلِمينَ يَجهَلونَ مَعانيَ آياتِ الصِّفاتِ وأحاديثِها، وهذا خَطَرٌ عَظيمٌ،
    إذا كُنَّا مُتعَبَّدينَ بألفاظِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ -كالصَّلاةِ، والوُضوءِ، والتيَمُّمِ، والزَّكاةِ، والحَجِّ- فكيف لا نتعَبَّدُ بآياتِ الصِّفاتِ حتى نَفهَمَ مَعناها؟!
    فالمُهِمُّ أنَّنا نُمِرُّه كما جاء، ومِنَ المَعْلُومِ أنَّه لَفظٌ جاء لِمَعنًى؛ فالواجِبُ إثباتُ هذا اللَّفظِ ومَعناه المرادِ به)
    --------------------------------------------------------------------------

    سادساً : اعتقادُ أنَّ ظاهِرَ النُّصوصِ هو ما يتبادَرُ منها إلى الذِّهنِ مِن المعاني، وهو يختَلِفُ بحَسَبِ السِّياقِ وما يُضافُ إليه :

    فالكَلِمةُ الواحِدةُ يكونُ لها معنًى في سياقٍ، ويكونُ لها معنًى آخَرُ في سياقٍ آخَرَ، كما أنَّ تركيبَ الكلامِ يُفيدُ معنًى على وَجهٍ، ويفيدُ معنًى آخَرَ على وجهٍ آخَرَ؛ فتقولُ مثَلًا: ما عندك إلَّا زيدٌ، وما زيدٌ إلَّا عندك، فالجُملةُ الثَّانيةُ تفيدُ معنًى غيرَ ما تفيدُه الجُملةُ الأُولى مع حُصولِ اتِّحادِ الكَلِماتِ، لكِنْ لاختِلافِ التركيبِ تغَيَّرَ المعنى به.
    وتقولُ: صنَعْتُ هذا بيَدي، فلا تكونُ اليَدُ هنا كاليَدِ في قَولِه تعالى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] ؛ لأنَّ اليَدَ في المِثالِ السَّابِقِ أُضيفَت إلى المخلوقِ فتكونُ مُناسِبةً له، وفي الآيةِ أُضيفَت إلى الخالِقِ فتكونُ لائِقةً به، فلا أحَدَ سَليمَ الفِطرةِ صَريحَ العَقلِ يَعتَقِدُ أنَّ يَدَ الخالِقِ كيَدِ المخلوقِ، أو بالعَكسِ.
    وقد انقَسَم النَّاسُ في ظاهِرِ النُّصوصِ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
    القِسمُ الأَوَّلُ: مَن جَعَلوا الظَّاهِرَ المتبادِرَ منها معنًى حَقًّا يَلِيقُ باللهِ عزَّ وجَلَّ، وأبقَوا دَلالتَها على ذلك، وهؤلاء هم السَّلَفُ الذين اجتَمَعوا على ما كان عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه، والذين لا يَصْدُقُ لَقَبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ إلَّا عليهم.
    القِسمُ الثَّاني: من جَعَلوا الظَّاهِرَ المتبادِرَ مِن نُصوصِ الصِّفاتِ معنًى باطِلًا لا يَليقُ باللهِ، وهو: التَّشبيهُ، وأَبقَوا دَلالتَها على ذلك، وهؤلاء هم المُشَبِّهةُ، ومَذهَبُهم باطِلٌ مُحرَّمٌ، وقد قال اللهُ تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] ، وكما أنَّ لله ذاتًا لا تُشبِهُ الذَّواتِ، فله صِفاتٌ لا تُشبِهُ الصِّفاتِ، وإذا كان هناك تبايُنٌ بين المخلوقاتِ في الحقيقةِ والكيفيَّةِ مع اتِّفاقِ الاسمِ -مِثلُ اليَدِ، فيَدُ الإنسانِ مَثَلًا ليست كيَدِ الحَيوانِ- فالتبايُنُ بين الخالِقِ والمخلوقِ أظهَرُ وأعظَمُ.
    القسم الثَّالِثُ: من جَعلوا المعنى المتبادِرَ مِن نُصوصِ الصِّفاتِ معنًى باطِلًا لا يَليقُ باللهِ، وهو التَّشبيهُ، ثمَّ إنَّهم مِن أجلِ ذلك أنكَروا ما دَلَّت عليه من المعنى اللَّائِقِ باللهِ، وهم أهلُ التَّعطيلِ، سواءٌ كان تعطيلُهم عامًّا في الأسماءِ والصِّفاتِ، أم خاصًّا فيهما، أو في أحَدِهما، فهؤلاء صَرَفوا النُّصوصَ عن ظاهِرِها إلى معانٍ عَيَّنوها بعُقولِهم، واضْطَربوا في تعيينِها اضطرابًا كثيرًا، وسَمَّوا ذلك تأويلًا، وهو في الحقيقةِ تحريفٌ، ومَذهَبُهم باطِلٌ، فهو جِنايةٌ على النُّصوصِ؛ حيث جَعَلوها دالَّةً على معنًى باطِلٍ غيرِ لائقٍ باللهِ، ولا مُرادٍ له.
    وهو صَرفٌ لكلامِ اللهِ تعالى وكلامِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ظاهِرِه، واللهُ تعالى خاطَبَ النَّاسَ بلِسانٍ عَربيٍّ مُبينٍ؛ لِيَعقِلوا الكلامَ ويَفهَموه على ما يَقتَضيه هذا اللِّسانُ العَرَبيُّ، وهو قَولٌ على اللهِ بلا عِلمٍ،
    وقد قال اللهُ تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]
    وقال سُبحانَه: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا [الإسراء:36] .
    قال ابنُ تَيميَّةَ: (إذا قال القائِلُ: ظاهِرُ النُّصوصِ مُرادٌ، أو ظاهِرُها ليس بمُرادٍ، فإنَّه يُقالُ: لَفظُ «الظَّاهِر» فيه إجمالٌ واشتراكٌ، فإن كان القائِلُ يَعتَقِدُ أنَّ ظاهِرَها التَّمثيلُ بصِفاتِ المخلوقينَ، أو ما هو من خصائِصِهم، فلا رَيبَ أنَّ هذا غيرُ مرادٍ، ولكِنَّ السَّلَفَ والأئِمَّةَ لم يكونوا يُسَمُّونَ هذا ظاهِرًا، ولا يَرتَضونَ أن يكونَ ظاهِرُ القُرآنِ والحديثِ كُفرًا وباطِلًا، واللهُ سُبحانَه وتعالى أعلَمُ وأحكَمُ من أن يكونَ كلامُه الذي وَصَف به نَفْسَه لا يَظهَرُ منه إلَّا ما هو كُفرٌ وضَلالٌ.
    والذين يَجعَلونَ ظاهِرَها ذلك يَغلَطونَ مِن وَجهَينِ:
    تارةً يَجعَلونَ المعنى الفاسِدَ ظاهِرَ اللَّفظِ، حتى يجعَلوه مُحتاجًا إلى تأويلٍ يخالِفُ الظَّاهِرَ، ولا يكونُ كذلك.
    وتارةً يَرُدُّونَ المعنى الحَقَّ الذي هو ظاهِرُ اللَّفظِ؛ لاعتقادِهم أنَّه باطِلٌ) .

    وقال عبدُ العزيزِ البُخاريُّ: (قال بعضُ المحَقِّقينَ: إنَّه لا يجوزُ أن يَثبُتَ بخِطابِ الشَّارعِ إلَّا ما يَقتَضِيه ظاهِرُه إنْ تجَرَّد عن قرينةٍ، وإن احتَمَل غيرَ ظاهِرِه أو ما يقتضيه مع قرينةٍ إن وُجدَت معه قرينةٌ؛ إذ لو جاز أن يَثبُتَ به غيرُ ما يَدُلُّ عليه ظاهِرُه، لَمَا حَصَل الوُثوقُ بخِطابِه؛ لجوازِ أن يكونَ المرادُ به غيرَ ظاهِرِه، مع أنَّه لم يُبَيِّنْه، وذلك يُفضي إلى اشتباهِ الأمرِ على النَّاسِ، ألا ترى أنَّا نَعلَمُ الشَّيءَ جائِزَ الوقوعِ قَطْعًا، ثمَّ نَقطَعُ بأنَّه لا يقَعُ؛ فإنَّه يجوزُ انقِلابُ ماءِ جَيحونَ دَمًا، وانقِلابُ الجُدرانِ ذَهَبًا، وظهورُ الإنسانِ الشَّيخِ لا من الأبوَينِ دَفعةً واحِدةً، ومع ذلك نقطَعُ بأنَّه لا يَقَعُ، فكذا هاهنا، وإن جَوَّزْنا من الله تعالى كُلَّ شَيءٍ، ولكِنَّه تعالى خَلَق فينا عِلمًا بَديهيًّا؛ فإنَّه لا يعني لهذه الألفاظِ إلَّا ظواهِرَها، فكذلك أَمِنَّا عن الالتِباسِ، وعَرَفْنا أنَّ الظَّواهِرَ قاطِعةٌ يجوزُ التمَسُّكُ بها في الأحكامِ القَطعيَّةِ) .

    وقال السُّبكيُّ: (قاعِدةٌ: حَملُ اللَّفظِ إلى ما يتبادَرُ إلى الذِّهن ِأَولى. ومِن ثَمَّ يُحمَلُ على الحقيقةِ ما لم يترجَّحِ المجازُ بشُهرةٍ أو غَيرِها، كما لو قال: لا آكُلُ مِنَ الشَّجَرةِ، فإنَّه يُحمَلُ على ثَمَرِها، وإن كان خِلافَ الحقيقةِ؛ لترَجُّحِه) .
    وقال الشِّنقيطيُّ: (اعلَموا أنَّ هنا قاعِدةً أُصوليَّةً أطبَقَ عليها من يُعتَدُّ به من أهْلِ العِلْمِ، وهي أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يجوزُ في حَقِّه تأخيرُ البيانِ عن وَقتِ الحاجةِ، ولا سِيَّما لو مَشَينا على فَرْضِهم الباطِلِ؛ أنَّ ظاهِرَ آياتِ الصِّفاتِ الكُفْرُ؛ فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يُؤَوِّلِ الاستواءَ «بالاستيلاءِ»،
    ولم يُؤَوِّلْ شيئًا من هذه التأويلاتِ، ولو كان المرادُ بها هذه التَّأويلاتِ لبادَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى بيانِها؛ لأنَّه لا يجوزُ في حَقِّه تأخيرُ البيانِ عن وَقتِ الحاجةِ، فالحاصِلُ أنَّه يجِبُ على كُلِّ مُسلِمٍ أن يعتَقِدَ هذا الاعتِقادَ الذي يَحُلُّ جميعَ الشُّبَهِ ويُجيبُ عن جميعِ الأسئلةِ، وهو أنَّ الإنسانَ إذا سَمِعَ وَصفًا وَصَف به خالِقُ السَّمَواتِ والأرضِ نَفْسَه أو وَصَفَه به رَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، امتلأَ صَدرُه من التعظيمِ، فيَجزِمُ بأنَّ ذلك الوَصفَ بالِغٌ من غاياتِ الكَمالِ والشَّرَفِ والعُلُوِّ ما يَقطَعُ جميعَ علائِقِ أوهامِ المشابَهةِ بينه وبين صِفاتِ المخلوقينَ، فيكونُ القَلبُ مُنَزِّهًا مُعَظِّمًا له جَلَّ وعلا، غيرَ مُتنَجِّسٍ بأقذارِ التَّشبيهِ، فتكونُ أرضُ قَلْبِه قابِلةً للإيمانِ والتصديقِ بصِفاتِ اللهِ التي تمدَّحَ بها أو أثنى عليه بها نَبيُّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، على غِرارِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] ، والشَّرُّ كُلُّ الشَّرِّ في عَدَمِ تعظيمِ اللهِ، وأن يَسبِقَ في ذِهنِ الإنسانِ أنَّ صِفةَ الخالِقِ تُشبِهُ صِفةَ المخلوقِ، فيُضطرُّ المسكينُ أن ينفيَ صفةَ الخالِقِ بهذه الدَّعوى الكاذِبةِ) .

    وقال ابنُ عُثَيمين: (كُلُّ من قال: إنَّ ظاهِرَ نُصوصِ الصِّفاتِ التَّمثيلُ، فإنَّه كاذِبٌ، سواءٌ تعَمَّد الكَذِبَ أم لم يتعَمَّدْه؛ لأنَّه حتى الذي يَقولُ عن تأويلٍ خاطئٍ يُسَمَّى كاذِبًا، أليس الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قد «قال لأبي السَّنابِلِ لَمَّا أُخبِرَ بأنَّ أبا السَّنابِلِ قال لسُبَيعةَ الأسلَمِيَّةَ: لن تَنكِحي حتى يمضيَ عليكِ أربعةُ أشهُرٍ وعَشرٌ،
    قال الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: كَذَب أبو السَّنابِلِ» مع أنَّه ما تعَمَّد الكَذِبَ، لكِنَّه قال قولًا خاطِئًا، فنحن نقولُ: هذا كاذِبٌ، سواءٌ تعَمَّد أم لم يتعَمَّدْ؛ فليس في نُصوصِ الصِّفاتِ -ولله الحَمدُ- ما يقتضي التَّمثيلَ لا عَقلًا ولا سَمعًا، ثمَّ إنَّ لدينا آيةً مِن كتابِ اللهِ عزَّ وجَلَّ تمحو كُلَّ ما ادُّعِيَ أنَّ فيه تمثيلًا، وهي قَولُه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] . فأنت إذا جاءك نَصُّ إثباتِ فاقرِنْه بنَصِّ هذا النَّفيِ، ولا تؤمِنْ ببَعضِ الكِتابِ وتَكفُرْ ببَعضٍ، بل اقرِنْه به؛
    فمثلًا قَولُه تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 27] نقولُ: وليس كمِثْلِ وَجْهِ اللهِ شَيءٌ؛
    لأنَّ اللهَ يَقولُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] وعلى هذا فقِسْ، والأمرُ -ولله الحَمدُ- ظاهِرٌ جِدًّا، ولولا كثرةُ النَّاسِ الذين سَلَكوا هذا المسلَكَ -أعني: مَسلَكَ التأويلِ في قَولِهم، والتَّحريف فيما نرى- لولا كثْرَتُهم لكان الأمرُ غيرَ مُشكِلٍ على أحَدٍ إطلاقًا؛ لأنَّه واضِحٌ ليس فيه إشكالٌ) .
    -----------------------------------------------------------------------------------
    التالي : -
    -
    سابعاً : الاستِدلالُ بقياسِ الأَوْلى :
    -
    وما زلنا أحبابنا تابعونا جزاكم الله خيرا

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5385
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

     توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ، ومَنزِلتُه وأحكامُه :-أحكامُ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ :-معنى الصِّفةِ والوَصْفِ والنَّعْتِ والاسمِ Empty سابعاً : الاستِدلالُ بقياسِ الأَوْلى :

    مُساهمة من طرف صادق النور الثلاثاء ديسمبر 26, 2023 3:15 pm

    يتبع ما قبله : -

    : سابعاً : الاستِدلالُ بقياسِ الأَوْلى :

    قال اللهُ تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [النحل: 60] .

    قال ابنُ جرير: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى يَقولُ: ولله المثَلُ الأعلى، وهو الأفضَلُ والأطيَبُ، والأحسَنُ، والأجمَلُ، وذلك التَّوحيدُ والإذعانُ له بأنَّه لا إلهَ غَيرُه) .

    وقال السَّمعانيُّ: (قَولُه: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى أي: الصِّفةُ العُلْيا، وذلك مِثلُ قَولِهم: عالمٌ وقادِرٌ ورازِقٌ وحَيٌّ، وغيرَ هذا) .
    وقال البَغَويُّ: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى الصِّفةُ العُليا، وهي التَّوحيدُ، وأنَّه لا إلهَ إلَّا هو. وقيل: جميعُ صِفاتِ الجلالِ والكَمالِ؛ مِنَ العِلْمِ والقُدرةِ والبَقاءِ، وغَيرِها مِنَ الصِّفاتِ) .
    وقال ابنُ تَيميَّةَ: (العِلْمُ الإلهيُّ لا يجوزُ أن يُستَدَلَّ فيه بقياسٍ تمثيليٍّ يستوي فيه الأصلُ والفَرعُ، ولا بقياسٍ شُموليٍّ تَستوي فيه أفرادُه؛ فإنَّ الله سُبحانَه ليس كمِثْلِه شَيءٌ، فلا يجوزُ أن يُمَثَّلَ بغَيرِه، ولا يجوزُ أن يَدخُلَ تحتَ قَضيَّةٍ كُلِّيَّةٍ تستوي أفرادُها؛ ولهذا لَمَّا سَلَك طوائِفُ مِن المتفَلْسِفةِ والمتكَلِّمةِ مِثلَ هذه الأقيِسةِ في المطالِبِ الإلهيَّةِ، لم يَصِلوا بها إلى اليقينِ، بل تناقَضَت أدِلَّتُهم، وغَلَب عليهم بعد التَّناهي الحَيرةُ والاضطرابُ؛ لِما يَرَونَه مِن فَسادِ أدِلَّتِهم أو تكافُئِها، ولكِنْ يُستعمَلُ في ذلك قياسُ الأَوْلى) .
    وقياسُ الأَولى يُستعمَلُ في الإثباتِ وفي التَّنزيهِ.
    قال ابنُ تَيميَّةَ: (ذَكَر الوزيرُ أبو المظَفَّرِ بنُ هُبَيرةَ في كتابِ "الإيضاحِ في شَرحِ الصِّحاحِ" أنَّ أهلَ السُّنَّةِ يَحكُونَ أنَّ النُّطقَ بإثباتِ الصِّفاتِ وأحاديثِها يَشتَمِلُ على كَلِماتٍ مُتداوِلاتٍ بين الخالِقِ وخَلْقِه، وتحَرَّجوا من أن يَقولوا مُشتَرِكة؛ لأنَّ الله تعالى لا شَريكَ له،
    بل لله المَثَلُ الأعلى، وذلك هو قياسُ الأَولى والأَحرى؛ فكُلُّ ما ثبت للمخلوقِ مِن صِفاتِ الكَمالِ فالخالِقُ أحَقُّ به وأَولى وأَحرى به منه؛ لأنَّه أكمَلُ منه، ولأنَّه هو الذي أعطاه ذلك الكَمالَ، فالمُعطي الكَمالَ لِغَيرِه أَولى بأن يكونَ هو موصوفًا به... وكذلك ما كان منتفيًا عن المخلوقِ؛ لكَونِه نَقصًا وعيبًا، فالخالِقُ هو أحَقُّ بأن يُنَزَّه عن ذلك) .
    وقال أيضًا: (قياسُ الأَولى، وهو الذي جاء به الكِتابُ والسُّنَّةُ؛ فإنَّ اللهَ لا يُماثِلُ غَيرَه في شَيءٍ مِن الأشياءِ حتى يتساويا في حُكمِ القياسِ، بل هو سُبحانَه أحَقُّ بكُلِّ حمدٍ، وأبعَدُ عن كُلِّ ذَمٍّ، فما كان من صِفاتِ الكَمالِ المحضةِ التي لا نَقْصَ فيها بوَجهٍ مِنَ الوُجوهِ، فهو أحَقُّ به من كُلِّ ما سِواه، وما كان من صِفاتِ النَّقص ِفهو أحَقُّ بتنزيهِه عنه من كُلِّ ما سِواه) .

    وقال ابنُ القَيِّمِ: (الرَّبُّ تعالى لا يَدخُلُ مع خَلْقِه في قياسِ تمثيلٍ، ولا قياسِ شُمولٍ يستوي أفرادُه، فهذان النَّوعانِ مِن القياسِ يَستحيلُ ثُبوتُهما في حَقِّه، وأمَّا قياسُ الأَولى فهو غيرُ مُستحيلٍ في حَقِّه، بل هو واجِبٌ له، وهو مُستعمَلٌ في حَقِّه عَقلًا ونَقلًا؛ أمَّا العَقلُ فكاستِدلالِنا على أنَّ مُعطيَ الكَمالِ أحَقُّ بالكمالِ، فمَن جَعَل غَيرَه سَميعًا بصيرًا عالِمًا متكَلِّمًا حَيًّا حكيمًا قادِرًا مريدًا رحيمًا مُحسِنًا، فهو أَولى بذلك وأحَقُّ منه، ويَثبُتُ له من هذه الصِّفاتِ أكمَلُها وأتمُّها.

    وهذا مُقتَضى قَولِهم: «كمالُ المعلولِ مُستفادٌ مِن كمالِ عِلَّتِه»، ولكِنْ نحن نُنَزِّهُ اللهَ عزَّ وجَلَّ عن إطلاقِ هذه العبارةِ في حَقِّه، بل نقول: كُلُّ كمالٍ ثَبَت للمخلوقِ غيرِ مُستلزمٍ للنَّقصِ فخالِقُه ومُعطيه إيَّاه أحَقُّ بالاتِّصافِ به، وكُلُّ نَقصٍ في المخلوقِ فالخالِقُ أحَقُّ بالتنَزُّهِ عنه؛ كالكَذِبِ والظُّلمِ والسَّفَهِ والعَبَثِ، بل يجِبُ تنزيهُ الرَّبِّ تعالى عن النَّقائِصِ والعُيوبِ مُطلقًا، وإن لم يتنَزَّهْ عنها بعضُ المخلوقينَ.
    وكذلك إذا استدَلْلنا على حِكمتِه تعالى بهذه الطَّريقِ، نحوُ أن يقالَ: إذا كان الفاعِلُ الحكيمُ الذي لا يَفعَلُ فِعلًا إلَّا لحِكمةٍ وغايةٍ مطلوبةٍ له من فِعْلِه؛ أكمَلَ مِمَّن يَفعَلُ لا لغايٍة ولا لحكمةٍ ولا لأجْلِ عاقبةٍ محمودةٍ، وهي مطلوبةٌ مِن فِعْلِه في الشَّاهِدِ، ففي حَقِّه تعالى أَولى وأَحرى، فإذا كان الفِعلُ للحِكمةِ كَمالًا فينا، فالرَّبُّ تعالى أَولى به وأحَقُّ، وكذلك إذا كان التنَزُّهُ عن الظُّلمِ والكَذِبِ كَمالًا في حَقِّنا، فالرَّبُّ تعالى أَولى وأحَقُّ بالتنَزُّهِ عنه) .
    وقال السَّعْديُّ: (أهْلُ العِلْمِ يَستَعمِلونَ في حَقِّ الباري قياسَ الأَولى، فيَقولونَ: كُلُّ صِفةِ كَمالٍ في المخلوقاتِ، فخالِقُها أحَقُّ بالاتِّصافِ بها على وَجهٍ لا يُشارِكُه فيها أحدٌ، وكُلُّ نَقصٍ في المخلوقِ يُنَزَّهُ عنه، فتنزيهُ الخالِقِ عنه من بابِ أَولى وأَحْرى) .
    أوَّلًا: استِعمالُ قياسِ الأَولى في الإثباتِ
    كُلُّ كَمالٍ ثَبَت للمخلوقِ فالخالِقُ أَولى به منه . ولكِنْ يُشتَرَطُ في هذا الكَمالِ:
    1- ألَّا يكونَ فيه نَقصٌ بوَجهٍ مِنَ الوُجوهِ، فمَثَلًا القُدرةُ على إنجابِ الوَلَدِ كمالٌ في حَقِّ المخلوقِ، ولكِنْ ليست كمالًا مُطلَقًا؛ لأنَّ الوالِدَ مُحتاجٌ إلى وَلَدِه، ولا يستغني عنه، واللهُ تعالى غَنِيٌّ عن كُلِّ أحَدٍ، كما قال: قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ [يونس: 68] .
    2- ألَّا يكونَ مُستَلزِمًا للعَدَمِ، فهذا لا يوصَفُ اللهُ به، والواجِبُ وَصْفُه سُبحانَه بصِفاتٍ كامِلةٍ وُجوديَّةٍ، لا صِفاتٍ مُستَلزِمةٍ للعَدَمِ .
    ويُمكِنُ الاستِدلالُ لقاعدةِ استعمالِ قياسِ الأَولى في الإثباتِ بالآتي:
    1- قَولُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأصحابِه: ((أَتُرونَ هذه المرأةَ طارِحةً ولَدَها في النَّارِ؟ قُلْنا لا واللهِ، وهي تَقدِرُ على ألَّا تَطرَحَه، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: للهُ أرحَمُ بعبادِه مِن هذه بوَلَدِها )) .
    2- قَولُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأبي مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه لَمَّا ضَرَب مملوكَه: ((اعلَمْ أبا مَسعودٍ أنَّ اللهَ أقدَرُ عليكَ منك على هذا الغُلامِ )) .
    3- قَولُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((للهُ أفرَحُ بتوبةِ عَبدِه مِن أحَدِكم يَجِدُ ضالَّتَه بالفَلاةِ )) .
    ثانيًا: استِعمالُ قياسِ الأَولى في التَّنزيهِ
    كلُّ نَقصٍ وعَيبٍ يُنزَّه عنه المخلوقُ، فتَنزيهُ الخالِقِ عنه أَوْلى وأَحْرى .
    ومِثلُ ذلك قَولُ اللهِ تعالى: ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: 28] .
    وعن قتادةَ في قَولِه تعالى: ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّْن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ [الروم: 28] قال: (مَثَلٌ ضَرَبه اللهُ لِمن عَدَل به شيئًا مِن خَلْقِه، يَقولُ: أكان أحَدُكم مشارِكًا مملوكَه في فِراشِه وزَوجتِه، فكذلكم اللهُ لا يرضى أن يُعدَلَ به أحَدٌ مِن خَلْقِه) .

    قال ابنُ تَيميَّةَ: (يَقولُ تعالى: إذا كُنتُم أنتم لا تَرضَونَ بأنَّ المملوكَ يُشارِكُ مالِكَه؛ لِما في ذلك من النَّقصِ والظُّلمِ، فكيف تَرضَونَ ذلك لي وأنا أحَقُّ بالكَمالِ والغِنى منكم؟!... فكُلُّ كَمالٍ ثَبَت للمَخلوقِ فالخالِقُ أحَقُّ بثُبوتِه منه إذا كان مجرَّدًا عن النَّقصِ، وكُلُّ ما يُنَزَّهُ عنه المخلوقُ مِن نَقصٍ وعَيبٍ فالخالِقُ أَولى بتنزيهِه عنه) .

    وقال السَّعْديُّ: (هذا مَثَلٌ ضَرَبه اللهُ تعالى لقُبحِ الشِّرْكِ وتهجينِه مَثَلًا مِن أنفُسِكم لا يحتاجُ إلى حِلٍّ وتَرحالٍ وإعمالِ الجِمالِ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ أي: هل أحَدٌ مِن عَبيدِكم وإمائِكم الأرِقَّاءِ يُشارِكُكم في رِزْقِكم، وتَرَون أنَّكم وهم فيه على حَدٍّ سواءٍ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي: كالأحرارِ الشُّرَكاءِ في الحقيقةِ الذين يخافُ مِن قَسْمِه واختِصاصِ كُلِّ شَيءٍ بحالِه؟ ليس الأمرُ كذلك؛ فإنَّه ليس أحدٌ مِمَّا ملكت أيمانُكم شريكًا لكم فيما رَزَقَكم اللهُ تعالى. هذا، ولستُم الذين خلَقْتُموهم ورَزَقْتُموهم، وهم أيضًا مماليكُ مِثْلُكم، فكيف تَرضَونَ أن تَجعَلوا لله شَريكًا مِن خَلْقِه وتَجعَلونَه بمَنزلتِه، وعديلًا له في العبادِة، وأنتم لا تَرضَونَ مُساواةَ مماليكِكم لكم؟!
    هذا من أعجَبِ الأشياءِ، ومِن أدَلِّ شيءٍ على سَفَهِ مَن اتَّخَذ شريكًا مع اللهِ، وأنَّ ما اتخَذَه باطِلٌ مُضمَحِلٌّ ليس مساويًا لله، ولا له مِنَ العبادةِ شَيءٌ. كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ بتوضيحِها بأمثِلَتِها لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ الحقائِقَ ويَعرِفونَ، وأمَّا من لا يَعقِلُ فلو فَصَّلْتَ له الآياتِ وبَيَّنْتَ له البَيِّناتِ لم يكُنْ له عَقلٌ يُبصِرُ به ما تُبَيِّنُ، ولا لُبٌّ يَعقِلُ به ما تُوضِّحُ؛ فأهلُ العُقولِ والألبابِ هم الذين يُساقُ إليهم الكلامُ، ويُوَجَّهُ الخِطابُ) .
    وطريقةُ قياسِ الأَولى في التَّنزيهِ قد استخدَمَها عَدَدٌ من أهْل العِلْمِ؛ منهم أحمدُ بنُ حَنبلٍ، ومِن ذلك: قَولُه: (أخبَرَنا أنَّه في السَّماءِ، ووجَدْنا كُلَّ شَيءٍ أسفَلَ منه مذمومًا بقَولِ اللهِ جَلَّ ثناؤه: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145] ، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ [فصلت: 29] ) .

    قال ابنُ تَيميَّةَ مُعَلِّقًا على كلامِ أحمَدَ: (هذه الحُجَّةُ مِن بابِ قياسِ الأَولى، وهو أنَّ السُّفلَ مذمومٌ في المخلوقِ؛ حيث جَعَل اللهُ أعداءَهُ في أسفَلِ سافلينَ، وذلك مُستَقِرٌّ في فِطَرِ العِبادِ،
    حتى إنَّ أتباعَ المضِلِّينَ طَلَبوا أن يَجعَلوهم تحتَ أقدامِهم؛ لِيَكونوا من الأسفَلينَ، وإذا كان هذا مِمَّا يُنَزَّهُ عنه المخلوقُ، ويُوصَفُ به المذمومُ المَعِيبُ مِن المخلوقِ؛ فالربُّ تعالى أحَقُّ أن يُنَزَّهَ ويُقَدَّسَ عن أن يكونَ في السُّفلِ، أو يكونَ مَوصوفًا بالسُّفلِ هو أو شَيءٌ منه، أو يَدخُلَ ذلك في صِفاتِه بوَجهٍ مِنَ الوُجوهِ، بل هو العَلِيُّ الأعلى بكُلِّ وَجهٍ) .

    وقال أحمَدُ أيضًا: (ومِنَ الاعتبارِ في ذلك، لو أنَّ رَجُلًا كان في يَدَيه قَدحٌ مِن قواريرَ صافٍ، وفيه شَرابٌ صافٍ، كان بَصَرُ ابنِ آدمَ قد أحاط بالقَدَحِ مِن غيرِ أن يكونَ ابنُ آدَمَ في القَدَحِ، فاللهُ -وله المثَلُ الأعلى- قد أحاط بجَميعِ خَلْقِه، من غيرِ أن يكونَ في شَيءٍ مِن خَلْقِه) .
    قال ابنُ تَيميَّةَ مُعَلِّقًا على ذلك: (ذَكَر الإمامُ أحمَدُ حُجَّةً اعتباريَّةً عقليَّةً قياسيَّةً لإمكانِ ذلك، هي من بابِ الأَولى... فضَرَب أحمَدُ رحمه اللهُ مثلًا، وذكَرَ قياسًا، وهو أنَّ العَبدَ إذا أمكَنَه أن يُحيطَ بَصَرُه بما في يَدِه وقَبْضَتِه، مِن غيرِ أن يكونَ داخِلًا فيه ولا مُحايثًا له؛ فاللهُ سُبحانَه أَولى باستحقاقِ ذلك واتِّصافِه به، وأحَقُّ بألَّا يكونَ ذلك ممتَنِعًا في حَقِّه، وذِكْرُ أحمَدَ في ضِمنِ هذا القياسِ لِقَولِ اللهِ تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [الروم: 27] مُطابِقٌ لِما ذكَرْناه مِن أنَّ اللهَ له قياسُ الأَوْلى والأَحْرى بالمَثَلِ الأعلى؛ إذ القياسُ الأَولى والأَحرى هو مِنَ المثَلِ الأعلى، وأمَّا المثَلُ المساوي أو النَّاقِصُ فليس للهِ بحالٍ؛ ففي هذا الكلامِ الذي ذكَرَه واستِدلالِه بهذه الآيةِ: تحقيقٌ لِما قَدَّمْناه من أنَّ الأقيِسةَ في بابِ صِفاتِ اللهِ، وهي أقيِسةُ الأَولى، كما ذَكَرَه مِن هذا القياسِ؛ فإنَّ العَبدَ إذا كان هذا الكَمالُ ثابتًا له، فاللهُ الذي له المَثَلُ الأعلى أحَقُّ بذلك) .

    --------------------------------------------------------------
    التالي :
    -
    : أحكامُ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ :
    -
    : أحكامٌ مُتعَلِّقةٌ بالوَصفِ والتَّسميةِ والإخبارِ عن اللهِ :

    -
    تابعونا جزاكم الله خيرا ولا تنسونا من صالح دعائكم

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع


      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 3:56 pm