فقه التخاطب في القرآن والسنه -- آداب ولغه
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه .
كما أن للصلاة فقهًا، وكما أن للزكاة فقهًا، وكما أن للحج فقهًا، وكما أن لسائر العبادات فقهًا؛ فكذلك للتخاطب مع الناس وللحديث معهم فقه. بث في كتاب الله وبث في سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
والتخاطب حاجة ضرورية للمرء في يومه وليلته لا بد له منه، ولذا كان على العاقل أن يتعلم من أدب التخاطب وفنونه ما يصل به إلى قلوب الناس مراعيًا فقه الكلمة، وخطورة اللفظ، وحفظ المنطق، وكم من صداقات قامت بسبب حسن الأدب في التخاطب، وبالمقابل كم من عداوات قامت بسبب سوء الأدب في التخاطب.
قال ابن القيم: كان –النبي صلى الله عليه وسلم- يتخير في خطابه ويختار لأمته أحسن الألفاظ وأجملها، وألطفها، وأبعدها من ألفاظ أهل الجفاء والغلظة والفحش .
فإذا كان لا بد من الكلام فليكن القول حسنًا جميلًا، فهذا هو الأصل في التخاطب بين الناس، فالكلمة الطيبة الحسنة شعار ودليل على طيب قائلها؛ كما أنها تحيل العدو إلى صديق، وتقلب الضغائن التي في القلوب إلى محبة ومودة وولاء، هكذا علمنا الإسلام وأوصانا بالكلمة الطيبة التي تقطع على شياطين الإنس والجن وشاياتهم ووساوسهم وسعيهم في الأرض فسادًا.
وعن ابن عباس، أن ضمادًا، قدم مكة وكان من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الريح، فسمع سفهاء من أهل مكة، يقولون: إن محمدًا مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي، قال فلقيه،
فقال: يا محمد إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء، فهل لك؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد»،
قال: فقال: أعد علي كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثلاث مرات،
قال: فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر،
قال: فقال: هات يدك أبايعك على الإسلام، قال: فبايعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وعلى قومك»، قال: وعلى قومي .
قال الإمام الزاهد يحيى بن معاذ: القلوب كالقدور في الصدور تغلي بما فيها، ومغارفها ألسنتها؛ فانتظر الرجل حتى يتكلم فإن لسانه يغترف لك ما في قلبه؛ من بين حلو وحامض، وعذب وأجاج، يخبرك عن طعم قلبه اغتراف لسانه .
والتخاطب حاجة ضرورية للمرء في يومه وليلته لا بد له منه، ولذا كان على العاقل أن يتعلم من أدب التخاطب وفنونه ما يصل به إلى قلوب الناس مراعيًا فقه الكلمة، وخطورة اللفظ، وحفظ المنطق، وكم من صداقات قامت بسبب حسن الأدب في التخاطب، وبالمقابل كم من عداوات قامت بسبب سوء الأدب في التخاطب.
ولذلك كان من أدب التخاطب ما يلي:
بدء المخاطبة والكلام بالسلام:
من تأمل في السنة النبوية رأى أن هناك عناية خاصة بموضوع السلام والحث على إفشائه، ومن هنا عني أئمة الحديث بهذا الأدب فعقدوا كتبًا وأبوابًا عديدة لبيان الأحاديث الواردة في السلام؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم» .
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: «تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» .
إن السلام من محاسن الإسلام؛ فإن كل واحد من المتلاقيين يدعو للآخر بالسلامة من الآفات والشرور، وبالرحمة والبركة الجالبة لكل خير، ويتبع ذلك من البشاشة وألفاظ التحية المناسبة ما يوجب التآلف والمحبة ويزيل الوحشة والتقاطع .
لفت النظر بتكرار الكلمات:
عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» ثلاثًا، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين -وجلس وكان متكئًا فقال- ألا وقول الزور»، قال: فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت .
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلًا منهم، فلما غشيناه، قال: لا إله إلا الله فكف الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا أسامة، أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله» قلت: كان متعوذًا، فما زال يكررها، حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم .
ولا شك أن الناس يتفاوتون في الفهم، وعلى المعلم أن يلاحظ أوساط الناس، فلا يكتفي بذكر الكلمة مرة واحدة اكتفاءً بفهم النابهين، ولا يكرر كذلك عشرات المرات لكي يفهم أغبى الناس، بل يتوسط، وتكرارها ثلاثًا فيه توسط، وهذا هديه عليه الصلاة والسلام.
إثارة كوامن الخير عند الناس
وعليك إذا خاطبت الناس أن تثير الكامن فيهم من خير، وهذا باب قد تقدمت مباحثه مرارًا،
فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء:3] أي: يا ذرية الصالحين المؤمنين المحمولين مع نوح في الفلك؛ لأن المحمولين مع نوح كانوا مؤمنين، فكونوا صالحين مؤمنين كآبائكم،
ونحو ذلك قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة:40] أي: يا أولاد النبي الصالح والنبي الكريم إسرائيل كونوا صالحين كأبيكم إسرائيل صلى الله عليه وسلم،
ونحوه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:104] أي: يا من آمنتم بي، وصدقتم رسلي، فهذه أساليب تحيي خصال الخير في القلوب،
فتذهب إلى رجل فتقول له: يا ابن الشجاع! الذي بارز الأبطال، أبوك كان شجاعًا وأخوك كان مغوارًا، وجدك قتل في سبيل الله، فتقدم وبارز الأبطال، وأحيي مجد آبائك وأجدادك، فيقبل على القتال مندفعًا إليه.
تذهب إلى آخر وتقول: يا ابن العلماء! أبوك كان عالمًا، وجدك كان فقيهًا، وأخوك كان قارئًا لكتاب الله، فأقبل على العلم، فحينئذٍ يقبل إحياء لمجد آبائه، وإحياء لمجد أعمامه وإخوانه
تذهب إلى ثالث فتقول: يا ابن المحسنين! تصدق، أبوك أنشأ مسجدًا، وعمك أنشأ مدرسةً، وخالك أنشأ مستشفى، فأقبل وتصدق إن الله يجزي المتصدقين، فيقبل حينئذٍ ويتصدق.وشتان ما بين مثل هذا القول، وآخر مسموم محموم يقول: يا ابن الجهلاء! ويا ابن الأغبياء! ويا ابن البخلاء! فماذا عساك أن تجني من رجل قلت له: يا ابن البخلاء! من صدقة؟!
ماذا عساك أن تجني من رجل قلت له: يا ابن الأغبياء! أقبل وتعلم؟! أكيد أنه سينفر عنك وسيفر منك، فعليك حينئذ أن تهيّج مشاعر الناس لفعل الخير، وأن تذكرهم دائمًا بفعل الخير.
وعليك كذلك أن تستعمل عبارات تلفت أنظار الناس إليك، إذا كان ثَمّ أمر تريد بثه في عموم الناس،
قال النبي صلى الله عليه وسلم لـجرير بن عبد الله في حجة الوداع: «يا جرير! استنصت الناس -أي: أسكتهم- ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم رافعاً صوته: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» (صحيح البخاري).
لك أن تذكر الناس أيضًا مع رفع الصوت وتضمِّن المسألة شيئين: رفع الصوت، مع التذكير بالخير،
كما قال العباس للأنصار يوم حنين: يا أصحاب سورة البقرة! بأعلى صوته، يا من بايعتم تحت الشجرة!. فيذكرهم بالمناقب التي لهم خاصة،
فسورة البقرة نزلت على رسول الله في المدينة، فاختص بها الأنصار، واختصوا بالبيعة أيضًا مع غيرهم، أي: كان لأغلبهم فضل في البيعة تحت الشجرة، فخاطبهم العباس بذلك: يا أصحاب رسول الله! يا أصحاب سورة البقرة! يا من بايعتم تحت الشجرة! بصوت مرتفع غاية الارتفاع، وقد كان العباس مشهورًا بالصوت المرتفع،
حتى قالوا: لقد زجر أبو عروة الأسد بصوته المرتفع رضي الله تعالى عنه، لك أن ترفع الصوت أحيانًا،
وإن كان الأصل هو التوسط في الصوت، لا ترفع الصوت ولا تخفض إلا إذا دعت الضرورات لذلك،
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة من الغزوات، ورأى الناس يتوضئون ولا يحسنون الوضوء، فيتركون الأعقاب بلا غسل، فنادى بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار، ويل للأعقاب من النار، ويل للأعقاب من النار» (صحيح البخاري).
التأدب مع الكبار:
كن ورعًا وكن متخلقًا بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فللكبير حق وله سابقة في الخير، وعليك أن توقر وأن تحترم الكبير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لم يعرف حق كبيرنا» ، وفي رواية: «ليس منا من لم يوقر كبيرنا»
عن سهل بن أبي حثمة، قال: انطلق عبد الله بن سهل، ومحيصة بن مسعود بن زيد، إلى خيبر وهي يومئذ صلح، فتفرقا فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشمط في دمه قتيلًا، فدفنه ثم قدم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل، ومحيصة، وحويصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال: «كبر كبر» وهو أحدث القوم، فسكت فتكلما
، يريد ليتكلم الأكبر، وهذا من باب أدب الإسلام.
وقال المهلب: تقديم ذي السن أولى في كل شيء ما لم يترتب القوم في الجلوس، فإذا ترتبوا فالسنة تقديم الأيمن فالأيمن من الرئيس أو العالم، على ما جاء في حديث شرب اللبن .
وذكر ابن بطال ضابط لهذا الأمر فقال: إنما ذلك إذا استوت حال القوم في شيء واحد، فحينئذ يبتدأ بالأكبر، وأما إذا كان لبعضهم على بعض فضل في شيء فصاحب الفضل أولى بالتقدمة .
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه سؤالًا، فقال لهم: «إن من الشجر شجرة، مثلها كمثل المسلم»، فأردت أن أقول: هي النخلة، فإذا أنا أصغر القوم، فسكت،
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «هي النخلة» .
فللكبير حق ينبغي أن يؤدى إليه، إذا أردت أن تتكلم فاستأذنه بأسلوب مؤدب وبأسلوب مهذب، كما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يفعلون.
انتقاء الألفاظ الحسنة:
انتق الألفاظ التي تتحدث بها، فانتقاء الألفاظ فضل ومنة من الله يمن بها عليك، قال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، أي قول هو حسن في نفسه لإفراط حسنه .
قال ابن عاشور: القول الحسن يزيل ما في نفس القائل من الكدر، ويرى للمقول له الصفاء فلا يعامله إلا بالصفاء (18).
وقال السعدي: ومن القول الحسن أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتعليمهم العلم، وبذل السلام، والبشاشة وغير ذلك من كل كلام طيب.
ولما كان الإنسان لا يسع الناس بماله، أمر بأمر يقدر به على الإحسان إلى كل مخلوق، وهو الإحسان بالقول، فيكون في ضمن ذلك النهي عن الكلام القبيح للناس حتى للكفار، ولهذا قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46].
ومن أدب الإنسان الذي أدب الله به عباده، أن يكون الإنسان نزيها في أقواله وأفعاله، غير فاحش ولا بذيء، ولا شاتم، ولا مخاصم، بل يكون حسن الخلق، واسع الحلم، مجاملا لكل أحد، صبورًا على ما يناله من أذى الخلق، امتثالًا لأمر الله، ورجاء لثوابه .
فالغرض الذي يمكن أن يؤدى بكلمة طيبة فلا تعدل عنها إلى كلمة شديدة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه» ، وقد وردت للسلف في هذا جملة هائلة من الأقوال.
فالألفاظ التي تخرج منك ويمكن أن تؤدى وتخرج في ثوب جميل، فأدها في ثوب جميل، والمنتبه لهذا من هداه الله، والموفق من وفقه الله، فإن الله سبحانه يقول: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج: 24]، فمن الذي هداهم؟ الذي هداهم يقينًا وقطعًا هو الله،
وبذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ربه ذلك فيقول: «اللهم اهدني لأحسن الأخلاق والأقوال والأعمال، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وقني سيء الأعمال وسيء الأخلاق لا يقني سيئها إلا أنت»
مراعاة مناسبات الحديث:
إن لكل أمرٍ أو فعلٍ أو كلام موضعًا لا يوضَعُ في غيره، وخير القول ما وافق الحال،
والعرب تقول: لكل مقام مقال، والخاصة تقول: خير الكلام ما وافق الحال، والعامة تقول: خير الغناء ما شاكل الزمان،
وفي القرآن: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ} [الأنعام: 67].
نعم لكل مقام مقال فما يجعل في موطن قد يقبح في موطن آخر، وما يجب في مقام قد يمتنع في مقام آخر، ولولا هذا لكان الوصول إلى الطرف الأعلى من البلاغة هينًا، ولأصبح كلام الناس لونًا واحدًا وطعمًا واحدًا،
ولكن الأمر يرجع إلى حسن الاختيار من هذه المتنوعات بحسب ما يناسب الأحوال والمقامات، فخطاب الأذكياء غير خطاب الأغبياء، وموضوع العقائد التي يتحمس لها الناس غير موضوع القصص، وميدان الجدل الصاخب غير مجلس التعليم الهادئ،
ولغة الوعد والتبشير غير لغة الوعيد والإنذار، إلى غير ذلك؛ مما يجعل اختيار المناسبات عسيرًا ضرورة لأن الإحاطة بجميع أحوال المخاطبين قد تكون متعسرة أو متعذرة، ومما يجعل اللفظ الواحد في موضع من المواضع كأنه نجمة وضاءة لامعة،
وفي موضع آخر كأنه نكتة سوداء مظلمة .
والرسول عليه الصلاة والسلام قال لعائشة -لما قدمت من عرس- يا عائشة: «يا عائشة، ما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو» .
فانتق مناسبات الحديث، والكلمات التي تصدر منك.
ضرورة اجتناب أهل الفحش والبذاءة والجهل ومداراتهم
ثم اتقِ أيضًا فحش الفاحش البذيء، فالناس ليسوا على شاكلة واحدة، فمنهم الصالحون ومنهم دون ذلك كانوا طرائق قددًا، منهم الذي يفهم وقد امتلأ ذكاء واستنارت بصيرته، ومنهم الجاهل الغبي الذي لا يفقه ولا يفهم، فجدير بك أن تتعامل مع هذا الجاهل بحذر،
وأن تتقيه قدر الاستطاعة،
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ائذنوا له بئس أخو العشيرة أو ابن العشيرة» فلما دخل ألان له الكلام، قلت: يا رسول الله! قلت الذي قلت ثم ألنت له الكلام؟! قال: « أي عائشة! إن شر الناس من تركه الناس أو ودعه الناس اتقاء فحشه» (صحيح البخاري)،
فلم يدخل رسولنا معه في ثرثرات أو مجادلات لا فائدة فيها. جاءه اليهود فقالوا: السام عليك يا محمد! -والرسول يعرف قولهم جيدًا، فهم يعنون: الموت لك-، فقال عليه الصلاة والسلام: وعليكم، فقالت عائشة رضي الله عنها: وعليكم السام واللعنة -وشق عليها ما ذكروه لرسول الله-
فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة إن الله لا يجب الفحش ولا التفحش» قالت: يا رسول الله! أو لم تسمع ما قالوا؟!، قال: «قد علمت وقد رددت عليهم، فيستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا»،
فالمداراة أصل، فبذيء الأخلاق يُتقى وينفرد عنه،
وقد قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، وهذه الآية لها مناسبة، فقد تلاها الحر بن قيس رضي الله تعالى عنه على أمير المؤمنين عمر لما جاءه عيينة بن حصن الفزاري -وكان من المؤلفة قلوبهم على عهد رسول الله- فجاء إلى ابن أخيه الحر بن قيس وهو من القراء الذين كان يدنيهم عمر منه، فكان عمر يقرب من مجلسه حملة كتاب الله، فيستشيرهم في مسائله، فكان الحر من هؤلاء الحملة لكتاب الله فقال: يا ابن أخي! إن لك وجهًا عند هذا الأمير -يعني: عمر- فاستأذن لي عليه، فاستأذن الحر بن قيس لعمه عيينة بن حصن الفزاري في الدخول على عمر، فأذن له عمر، فما هو إلا أن رأى عمر
فقال له: يا ابن الخطاب ! -بهذه اللهجة لهجة البدو الغلاظ الشداد- إنك لا تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فتعجب عمر من هذا الداخل بهذه الصورة الشديدة اللاذعة في الكلمات، فَهَمّ عمر أن يبطش به، فقال الحر بن قيس -وهذا من بركة كتاب الله وحمله-: يا أمير المؤمنين! إن الله يقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، وهذا من الجاهلين.
قال ابن عباس : فوالله! ما تخطّاها عمر ولا تعداها، كان وقّافًا عند كتاب الله عز وجل، فوقف عمر عند الآية ولم يتجاوزها، ولم ينزل بالرجل عقوبة، وقد أحسن في ذلك الصنيع،
فالرسول صلى الله عليه وسلم قد سمع أكثر من ذلك من عيينة بن حصن ومن غير عيينة بن حصن، ولم يؤاخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما صدر منهم، وبما خرج من أفواههم من قبيح الحديث والكلام. جواز التغيير في الألفاظ المعتادة عند التعبير عما في النفس بما يؤدي الغرض عليك إذا أردت التعبير عما في نفسك أن تغير في الألفاظ تغييرا يؤدي الغرض، ولا يخدش كذلك،
قال النبي عليه الصلاة والسلام لعائشة «إني أعرف غضبكِ عليّ من رضاك» قالت: وكيف ذلك يا رسول الله؟!، قال: إ «إن كنت عليّ غضبى قلت: ورب إبراهيم، وإن كنت عني راضية، قلت: ورب محمد»، قالت: "أجل والله لا أهجر إلا اسمك يا رسول الله!" (متفق عليه)، فأم المؤمنين تريد أن تعبر عما في نفسها لرسول الله بأسلوب حكيم مؤدب ومهذب؛ لأن رب محمد هو رب إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، ولكن تخاطب سيد الأنبياء وسيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام، فيشعر بالتغيير في الألفاظ، فحينئذ يدرك أن هناك شيئًا ما قد حدث فيفتش في هذا الشيء،
وكان النبي عليه الصلاة والسلام لبيبًا فاهمًا، وهي رضي الله عنها كانت على قدر كبير من الفهم والذكاء؛ فكان الرسول يدخل عليها كل يوم يمازحها ويقرأ عليها السلام، ولكن لما كان حادثة الإفك كانت يدخل فيقول: "كيف تيكم؟"، فشعرت أن شيئًا ما قد حدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنها.
ضرورة انتقاء الألفاظ الحسنة عند التخاطب مع الناس
انتق الألفاظ التي تتحدث بها، فانتقاء الألفاظ فضل ومنة من الله يمن بها عليك، فالغرض الذي يمكن أن يؤدى بكلمة طيبة فلا تعدل عنها إلى كلمة شديدة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه» (صحيح مسلم)،
وقد وردت للسلف في هذا جملة هائلة من الأقوال.فمثلًا: رجل ضُرِبَ وجيء بك لتحقق، فإذا قلت: أين المضروب؟! وأين الضارب؟! نال منك المضروب مزيد من الإهانة بكلمتك: (أين المضروب) لكن إذا قلت: أين صاحب الحق؟!
فحينئذ ترجع للمضروب شيئًا مما فقد منه، والمؤدى واحد.
روي عن عمر رضي الله عنه: أنه مر بقوم في بيتهم نار، فلم ينادي: يا أصحاب النار! وإنما نادى: يا أهل الضوء! فالمؤدى واحد، ولكن الرفق والتفاؤل مطلوب، والكلمات التي تشعر بإزعاج يجب اجتنابها،
ففرق بين أن تقول: يا أهل النور! أو يا أصحاب الضوء! وبين قولك الآخر: يا أصحاب النار! أو يا أهل النار! مع أن المؤدي من هذا ومن ذاك واحد،
مثلًا: رجل متزوج بزوجة على زوجة فلا يستعمل لفظ: الزوجة القديمة والزوجة الجديدة، ولكن له أن يقول: الأولى أو الثانية،
أو أم فلان وأم فلان والمؤدي واحد. فالألفاظ التي تخرج منك ويمكن أن تؤدى وتخرج في ثوب جميل، فأدها في ثوب جميل، والمنتبه لهذا من هداه الله، والموفق من وفقه الله، فإن الله سبحانه يقول: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ}[الحج:24]، فمن الذي هداهم؟ الذي هداهم يقينًا وقطعًا هو الله، وبذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ربه ذلك فيقول: «اللهم اهدني لأحسن الأخلاق والأقوال والأعمال، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وقني سيء الأعمال وسيء الأخلاق لا يقني سيئها إلا أنت» (شرح ابن ماجه).
وأيضًا عليك أن تراعي مناسبات الحديث، فلكل مقام مقال كما قال الناس، بل وكما سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المسالك، فقد تجد من يذهبون إلى عرس ويذكرون الناس بالموت، ويستدل بعضهم بحديث «أكثر من ذكر هاذم اللذات» والحديث صحيح، لكن المناسبة لا تقتضيه،
والرسول عليه الصلاة والسلام قال لعائشة -لما قدمت من عرس- يا عائشة! : «ما كان معكم من اللهو، فإن الأنصار يعجبهم اللهو» (صحيح البخاري)،
فانتق مناسبات الحديث، والكلمات التي تصدر منك. علي رضي الله عنه يقول: "كنت رجلًا مذاءً -أي: كثير المذي- فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لمكان ابنته مني"
لأن سؤال المحارم عما يتعلق بالجماع يؤذي المحارم، ويخدش حياء المحارم، أنت متزوج بفتاة، فكونك تتحدث في الجماع أمام أخيها أو أمام أبيها، أو أمام أقاربها، هذا يخدش -بلا شك- حياء الأخ، ويخدش حياء الأب،
ولذلك قال علي: "كنت رجلًا مذاءً فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لمكان ابنته مني، فأمرت المقداد فسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «اغسل ذكرك وتوضأ»" (صحيح البخاري)، فللكلام مناسبة.
وانظر إلى فقه الأنصار وإلى ذكاء الأنصار رضي الله تعالى عنهم، لما وقع العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأسر، وجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيدًا، وأراد الأنصار أن يتركوا فداء العباس إكرامًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يقولوا: يا رسول الله! ائذن لنا أن نترك لعمك فداءه، فحينئذ إذا قالوا هذه المقالة، استشعر منها أنهم يمنون ويتفضلون على رسول الله؛ لأن لعمه الفداء، ولكن انظر إلى هذا الأدب الذي تأدبوا به، فقالوا: "يا رسول الله! ائذن لنا أن نترك لابن أختنا فداءه"، فالأنصار أخوال العباس ، فلم يقولوا: ائذن لنا أن نترك لعمك حتى تكون المنة منهم عليه،
ولكن قالوا: ائذن لنا أن نترك لابن اختنا فداءه؛ حتى يقلبوا المنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، فانتق هذه الألفاظ وتحدث بها بين الناس، والفاهم من فهمه الله سبحانه وتعالى.
ضرورة إمعان النظر في الكتاب والسنة للاستفادة من آدابهما
فأمعن النظر في كتاب الله واستفد هذه الآداب، أمعن النظر في كتاب الله، واستعمل الوسائل التي تربطك بالمخاطب،
إذا كان ثَمّ تكليف منك يصدر إليهم، أو طلب منك تطلبه منهم.فكما أسلفنا ينظر إلى أدب الطلب في قول موسى صلى الله عليه وسلم للخضر: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66]،
ورد الخضر معتذرًا لموسى أيضًا عليهما السلام: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:67]، ثم يلتمس له العذر، فيقول له: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف:68].
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن الخضر قال لموسى: «يا موسى! إنك على علم من الله علمك الله إياه لا أعلمه، وأنا على علم من الله علمني الله إياه لا تعلمه» (صحيح البخاري)،
فهذا فيه التماس للعذر لموسى صلى الله عليه وسلم في عدم قدرته على التحمل في قول الخضر له: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا } [الكهف:68]. فانظر إلى كتاب الله! وانظر إلى أساليب الخطاب التي سلكها الأنبياء مع الناس واقتبس منها! انظر إلى مقولة موسى لفرعون،
وكيف اشتدّ موسى أيضًا مع فرعون مع أنه أمر في أول الأمر أن يقول لفرعون قولًا لينًا؛ لعله يتذكر أو يخشى،
ولكن لما أبى فرعون هذا القول اللين، استعمل موسى طريقة أخرى في الخطاب يقتضيها المقام،
فقال له فرعون: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ . قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:23-24]،
قال فرعون لمن حوله: {أَلا تَسْتَمِعُونَ . قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ . قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ . قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:25-28].
قوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} يقابل الجنون الذي اتهم به موسى صلى الله عليه وسلم،
وإن كان لا يكافئه، وكذلك قول موسى عليه السلام لفرعون لما قال له فرعون: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا . قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:101-102] أي: هالكًا، فكانت كلمات الشدة أحيانًا تخرج على حسب ما يقتضيه المقام.
ضرورة التجاوز عن الزلات عند التخاطب مع الناس
خذ العفو من أخلاق الناس أثناء حديثك معهم، فإذا صدرت من بعضهم بذاءات في شأنك وحسنات، فخذ الحسنات وتجاوز عن الهفوات، وتجاوز عن الزلات، وأمعن النظر في كتاب الله سبحانه، وانظر إلى مقولات الأنبياء وأهل الفضل والصلاح إذ اتُهموا، فكيف دافعوا عن أنفسهم وقت الاتهام! وإذ ظلموا، كيف دافعوا عن أنفسهم أمام الظالمين!
فهود عليه السلام، قومه يقولون له: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} [الأعراف:66]،
فينفي ويقول: {لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ} [الأعراف:67]،
ونوح يقولون له: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأعراف:60]،
فيقول: {لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ} [الأعراف:61]، فنوح ينفي عن نفسه الضلال، وهود ينفي عن نفسه السفه، فهما لم يردا المقالة بمثلها، فهو لم يقل لهم: بل أنتم السفهاء،
ونوح لم يقل لهم: بل أنتم الضلال، لا يريدان أن يسعرا حربًا أخلاقية معهم، لا فائدة فيها ولا محصلة من ورائها، ولكن غاية ما صنعا أنهما نفيا عن أنفسهما السفاهة والضلال.
وانظر أيضًا إلى سائر قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع من عاداهم، ومع من ظلمهم، واستفد من كتاب الله هذه الأخلاق الحميدة.
يوسف صلى الله عليه وسلم هو النبي الذي اتهم من قبل امرأة العزيز، وقبل ذلك أُلقي في غيابة الجب إلى غير ذلك، وابيضت عينا أبيه من الحزن فهو كظيم لفقده، ويأتيه إخوته بعد ذلك فيقول لهم مقالة منبهة مذكرة: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ . قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ} [يوسف:89-90]،
بتواضع وخضوع، ولم يقل: أنا العزيز يوسف، أو أنا الملك يوسف، {أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90]، فقالوا حينئذ: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91]، فيقول لهم عليه الصلاة والسلام: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} [يوسف:92]. (لا تثريب) أي: لا تعيير ولا توبيخ ولا تأنيب، {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92]، ويوفي بما عاهدهم عليه،
فلما دخل عليه أبواه وإخوانه مصر قادمين من بلادهم قال: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف:100] ولم يقل: إذ أخرجني من غيابة الجب؛ حتى لا يُذَكِّرَ إخوانه بالذنب الذي صدر منهم، فقد وعدهم أنه لن يوبخهم ولم يؤنبهم، فلذلك قال: {إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف:100]، ثم حمّل الشيطان التهمة كلها بقوله: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:100].
التواضع والطلاقة عند مخاطبة الناس:
وعليك عند خطابك للناس أن تكون متواضعًا مقبلًا عليهم بوجه طلق، لا تكلمهم وأنت مصعر الخد لهم،
فقد قال لقمان لولده: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18]، ووصف الله صنفًا من أهل النار بقوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [الحج: 9] فثناء العطف والإعراض بالوجه أثناء الحديث،
كل ذلك ينافي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أقبل عليهم بوجه طلق أثناء الحديث معهم؛ وذلك لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «لا تحقرن من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» (24).
وليشعر منك أخوك بالتواضع أثناء الحديث، فهذه رسالة سليمان عليه السلام إلى ملكة من الملوك: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)} [النمل: 30- 31]،
لم يسطرها: من الملك الأعظم ملك الإنس والجن والطير، لم يسطرها بالملك الذي يفهم لغة الطير وسخرت له الرياح،
ولكن قال مقالة رجل متواضع يشعر بعبوديته لله سبحانه: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} [النمل: 30]، وجرد كل المقدمات ليس من النبي سليمان، ولا من الملك سليمان، إنما بيسر وسهولة: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)} [النمل: 30- 31].
ونحو ذلك صدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم في رسالته إلى هرقل «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم»،
وفي أثناء الرسالة ما يشعر بالعبودية إذ فيها: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]،
وكذلك قول عموم الرسل لأقوامهم: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [إبراهيم: 11].
فهكذا عليك أن تشعر من أمامك بالتواضع له أثناء الحديث، وبخفض الجناح له أثناء الخطاب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وما زاد الله عبدا بعفو، إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» ، فمن تواضع لله سبحانه أعزه الله سبحانه وتعالى.
فبالكلمات الطيبة تذهب الشحناء وتزال من القلوب، وبالكلمات الطيبة تحل المشاكل بين العباد، وترفع الخصومات التي بينهم، وبالكلمات الطيبة تثبت المودة والمحبة في القلوب.
فكم من مشكلة حلت بسبب كلمة طيبة، وكم من جريمة دفعت بسبب كلمة طيبة، وكم من صلات قد قويت بين الأرحام بسبب كلمات طيبة.
وعلى العكس فكم من جريمة قد ارتكبت بسبب وشاية وبسبب كلمة خبيثة، وكم من نيران قد سعرت بسبب الوشايات من النمامين، وكلمات النمامين الخبيثة، بل حروب بين دول قد وقعت بسبب كلمات خبيثة وكلمات شريرة.
-------------------------------------
تابعونا جزاكم الله خيرا
ولا تنسونا من صالح دعائكم
أمس في 9:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» وجوب التوكل على الله وخده لا شريك له
أمس في 3:26 pm من طرف عبدالله الآحد
» أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 5:24 pm من طرف عبدالله الآحد
» العبادة وأركانها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 2:55 pm من طرف عبدالله الآحد
» الراجح من أقوال العلماء أن جلسة الاستراحة سنة في الصلاة
الإثنين نوفمبر 18, 2024 2:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» -(( 3 -))- خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
الأحد نوفمبر 17, 2024 10:15 pm من طرف صادق النور
» لا يعلم الغيب إلا الله وحده لا شريك له
الأحد نوفمبر 17, 2024 3:12 pm من طرف عبدالله الآحد
» تابع زبدة التوحيد لنعمان بن عبد الكريم الوتر
السبت نوفمبر 16, 2024 2:15 pm من طرف عبدالله الآحد
» هيئات السجود المسنونة
الخميس نوفمبر 14, 2024 3:24 pm من طرف عبدالله الآحد
» (( - 2 -)) خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
الأربعاء نوفمبر 13, 2024 11:28 pm من طرف صادق النور