بسم اله الرحمن الرحيم
والصلاة الدائمه الكامله التام علي خاتم رسل الله سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم
كتاب أحكام القرآن
المؤلف: القاضي محمد بن عبد الله أبو بكر بن العربي المعافري الاشبيلي المالكي (المتوفى: 543هـ)
:::::::::::::::::
[سُورَةُ الْفَاتِحَةِ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ]
[الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم]ٍ
الْآيَةُ الْأُولَى [قَوْله تَعَالَى]:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1]
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1]
.اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهَا فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ،
فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَتْ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ بِآيَةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ اسْتِفْتَاحٌ لِيُعْلَمَ بِهَا مُبْتَدَؤُهَا
.وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيَ آيَةٌ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ، قَوْلًا وَاحِدًا؛ وَهَلْ تَكُونُ آيَةً فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ؟
اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ؛ فَأَمَّا الْقَدْرُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْخِلَافِ مِنْ قِسْمِ التَّوْحِيدِ وَالنَّظَرِ فِي الْقُرْآنِ وَطَرِيقِ إثْبَاتِهِ قُرْآنًا،
وَوَجْهُ اخْتِلَافِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْهُ، فَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَأَشَرْنَا إلَى بَيَانِهِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ،
وَوَدِدْنَا أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ لَهُ فَفِيهَا إشْكَالٌ عَظِيمٌ.وَنَرْجُو أَنَّ النَّاظِرَ فِي كَلَامِنَا فِيهَا سَيَمْحِي عَنْ قَلْبِهِ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ سَدَلَ مِنْ إشْكَالٍ بِهِ.
فائدة الخلاف : وفائدة الخلاف في ذلك الذي يتعلق بالأحكام أن قراءة الفاتحة شرط في صحة الصلاة عندنا ، وعند الشافعي ، خلافا لأبي حنيفة حيث يقول : إنها مستحبة ، فتدخل { بسم الله الرحمن الرحيم } في الوجوب عند من يراه ، أو في الاستحباب [ كذلك ] .
ويكفيك أنها ليست بقرآن للاختلاف فيها ، والقرآن لا يختلف فيه ، فإن إنكار القرآن كفر .
فإن قيل : ولو لم تكن قرآنا لكان مدخلها في القرآن كافرا ; قلنا : الاختلاف فيها يمنع من أن تكون آية ، ويمنع من تكفير من يعدها من القرآن ; فإن الكفر لا يكون إلا بمخالفة النص والإجماع في أبواب العقائد .
فإن قيل : فهل تجب قراءتها في الصلاة ؟ قلنا : لا تجب ، فإن أنس بن مالك رضي الله عنه روى { أنه صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ، فلم يكن أحد منهم يقرأ : { بسم الله الرحمن الرحيم } ونحوه عن عبد الله بن مغفل } .
فإن قيل : الصحيح من حديث أنس : فكانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين ، وقد قال الشافعي : معناه أنهم كانوا لا يقرءون شيئا قبل الفاتحة .
قلنا : وهذا يكون تأويلا لا يليق بالشافعي لعظيم فقهه ، وأنس وابن مغفل إنما قالا هذا ردا على من يرى قراءة : { بسم الله الرحمن الرحيم } فإن قيل : فقد روى جماعة قراءتها ، وقد تولى الدارقطني جميع ذلك في جزء صححه .
قلنا : لسنا ننكر الرواية ، لكن مذهبنا يترجح بأن أحاديثنا ; وإن كانت أقل فإنها أصح ، وبوجه عظيم وهو المعقول في مسائل كثيرة من الشريعة ، وذلك أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 7 ] بالمدينة انقضت عليه العصور ، ومرت عليه الأزمنة من لدن زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمان مالك ، ولم يقرأ أحد [ قط ]
فيه { بسم الله الرحمن الرحيم } اتباعا للسنة .
بيد أن أصحابنا استحبوا قراءتها في النفل ، وعليه تحمل الآثار الواردة في قراءتها .
المسألة الثانية : ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { قال الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل يقول العبد :
الحمد لله رب العالمين يقول الله تعالى : حمدني عبدي يقول العبد :
الرحمن الرحيم يقول الله تعالى : أثنى علي عبدي يقول العبد :
مالك يوم الدين يقول تعالى : مجدني عبدي يقول العبد :
إياك نعبد وإياك نستعين يقول الله تعالى فهذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل
يقول العبد : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين يقول الله : فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل . }
فقد تولى سبحانه قسمة القرآن بينه وبين العبد بهذه الصفة ، فلا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ، وهذا دليل قوي ، مع أنه ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب } .
وثبت عنه أنه قال : { من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج ثلاثا غير تمام } .
الآية الثانية قوله تعالى : { الحمد لله رب العالمين }
اعلموا علمكم الله المشكلات أن البارئ تعالى حمد نفسه ، وافتتح بحمده كتابه ، ولم يأذن في ذلك لأحد من خلقه ،
بل نهاهم في محكم كتابه ، فقال : { فلا تزكوا أنفسكم } ومنع بعض الناس من أن يسمع مدح بعض له ، أو يركن إليه ،
وأمرهم برد ذلك ، وقال : { احثوا في وجوه المداحين التراب } رواه المقداد وغيره .
وكأن في مدح الله لنفسه وحمده لها وجوها منها ثلاث أمهات : الأول : أنه علمنا كيف نحمده ، وكلفنا حمده والثناء عليه ; إذ لم يكن لنا سبيل إليه إلا به .
الثاني : أنه قال بعض الناس معناه : قولوا : الحمد لله ، فيكون فائدة ذلك التكليف لنا ، وعلى هذا تخرج قراءة من قرأ بنصب الدال في الشاذ .
الثالث : أن مدح النفس إنما نهي عنه لما يدخل عليها من العجب بها ، والتكثر على الخلق من أجلها ، فاقتضى ذلك الاختصاص بمن يلحقه التغير ، ولا يجوز منه التكثر ، وهو المخلوق ، ووجب ذلك للخالق ; لأنه أهل الحمد .
وهذا هو الجواب الصحيح ، والفائدة المقصودة .
الآية الثالثة قوله تعالى : { إياك نعبد وإياك نستعين } فيها مسألتان :
المسألة الأولى :
يقول الله تعالى : فهذه الآية بيني وبين عبدي ، وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأسندنا لكم ،
{ أنه قال : قال الله تعالى : يا ابن آدم ، أنزلت عليك سبعا ، ثلاثا لي وثلاثا لك ، وواحدة بيني وبينك ;
فأما الثلاث التي لي : ف { الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين }
وأما الثلاث التي لك ف { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين }
وأما الواحدة التي بيني وبينك ف { إياك نعبد وإياك نستعين } } يعني : من العبد العبادة ، ومن الله سبحانه العون .
المسألة الثانية : أقوال العلماء في قراءة المأموم الفاتحة :
قال أصحاب الشافعي : هذا يدل على أن المأموم يقرؤها ، وإن لم يقرأها فليس له حظ في الصلاة لظاهر هذا الحديث .
ولعلمائنا في ذلك ثلاثة أقوال :
الأول : يقرؤها إذا أسر خاصة قاله ابن القاسم .
الثاني : قال ابن وهب وأشهب في كتاب محمد : لا يقرأ .
الثالث : قال محمد بن عبد الحكم : يقرؤها خلف الإمام ، فإن لم يفعل أجزأه ، كأنه رأى ذلك مستحبا ،
والمسألة عظيمة الخطر ، وقد أمضينا القول في مسائل الخلاف في دلائلها بما فيه غنية .
والصحيح عندي وجوب قراءتها فيما يسر وتحريمها فيما جهر إذا سمع قراءة الإمام ، لما عليه من فرض الإنصات له ،
والاستماع لقراءته ; فإن كان عنه في مقام بعيد فهو بمنزلة صلاة السر ;
لأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقراءتها عام في كل صلاة وحالة ، وخص من ذلك حالة الجهر بوجوب فرض الإنصات ، وبقي العموم في غير ذلك على ظاهره ، وهذه نهاية التحقيق في الباب ، والله أعلم .
الآية الرابعة والخامسة قوله تعالى :
{ اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين }
فيها سبع مسائل :
المسألة الأولى :
في عدد آياتها : لا خلاف أن الفاتحة سبع آيات ، فإذا عددت فيها { بسم الله الرحمن الرحيم } آية اطرد العدد ، وإذا أسقطتها تبين تفصيل العدد فيها .
قلنا : إنما الاختلاف بين أهل العدد في قوله : { أنعمت عليهم } هل هو خاتمة آية أو نصف آية ؟ ويركب هذا الخلاف في عد { بسم الله الرحمن الرحيم }
والصحيح أن قوله : { أنعمت عليهم } خاتمة آية ; لأنه كلام تام مستوفى ، فإن قيل : فليس بمقفى على نحو الآيات [ قبله ]
قلنا : هذا غير لازم في تعداد الآي ، واعتبره بجميع سور القرآن وآياته تجده صحيحا إن شاء الله تعالى كما قلنا
المسألة الثانية :
التأمين خلف الإمام : ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إذا قال الإمام : { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } فقولوا : آمين ; فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر الله له ما تقدم من ذنبه } .
وثبت عنه أنه قال : { إذا أمن الإمام فأمنوا ، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه } .
فترتيب المغفرة للذنب على أربع مقدمات ذكر منها ثلاثا ، وأمسك عن واحدة ; لأن ما بعدها يدل عليها :
المقدمة الأولى : تأمين الإمام .
الثانية : تأمين من خلفه .
الثالثة : تأمين الملائكة .
الرابعة : موافقة التأمين .
فعلى هذه المقدمات الأربع تترتب المغفرة .
وإنما أمسك عن الثالثة
اختصارا لاقتضاء الرابعة لها فصاحة ; وذلك يكون في البيان للاسترشاد والإرشاد ، ولا يصح ذلك مع جدل أهل العناد ، وقد بيناه في أصول الفقه .
المسألة الثالثة :
اختلف في قوله : ( آمين ) ، فقيل : هو على وزن فاعيل ، كقوله : يا مين ، وقيل فيه : أمين على وزن يمين ;
الأولى ممدودة ، والثانية مقصورة ، وكلاهما لغة ، والقصر أفصح وأخصر ، وعليها من الخلق الأكثر .
المسألة الرابعة :
معنى لفظ آمين : في تفسير هذه اللفظة :
وفي ذلك ثلاثة أقوال : قيل : إنها اسم من أسماء الله تعالى ، ولا يصح نقله ولا ثبت قوله .
الثاني : قيل معناه اللهم استجب ، وضعت موضع الدعاء اختصارا .
الثالث : قيل معناه كذلك يكون ، والأوسط أصح وأوسط .
المسألة الخامسة :
هذه كلمة لم تكن لمن قبلنا ، خصنا الله سبحانه بها ، في الأثر عن ابن عباس ، أنه قال : " ما حسدكم أهل الكتاب على شيء كما حسدوكم على قولكم : آمين " .
المسألة السادسة : تأمين المصلي :
في تأمين المصلي ، ولا يخلو أن يكون إماما أو مأموما أو منفردا ، فأما المنفرد فإنه يؤمن اتفاقا .
وأما المأموم فإنه يؤمن في صلاة السر لنفسه إذا أكمل قراءته ، وفي صلاة الجهر إذا أكمل القراءة إمامه يؤمن .
وأما الإمام فقال مالك : لا يؤمن ، ومعنى قوله عنده إذا أمن الإمام : إذا بلغ مكان التأمين ، كقولهم : أنجد الرجل إذا بلغ نجدا ، وقال ابن حبيب : يؤمن .
قال ابن بكير : هو بالخيار ، فإذا أمن الإمام فإن الشافعي قال : يؤمن المأموم جهرا ، وأبو حنيفة وابن حبيب يقولان : يؤمن سرا .
والصحيح عندي تأمين الإمام جهرا ; فإن ابن شهاب قال : { وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول آمين } ، خرجه البخاري ومسلم وغيرهما .
وفي البخاري : { حتى إن للمسجد للجة من قول الناس آمين } .
وفي كتاب الترمذي : { وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول آمين ، حتى يسمع من الصف } ، وكذلك رواه أبو داود .
وروي عن وائل بن الأوزاعي : { أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قراءة الفاتحة قال : آمين ، يرفع بها صوته } .
المسألة السابعة : فضل الفاتحة :
ليس في أم القرآن حديث يدل على فضلها إلا حديثان : أحدهما : حديث : { قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين . }
الثاني : حديث أبي بن كعب : { لأعلمنك سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها } .
وليس في القرآن حديث صحيح في فضل سورة إلا قليل سنشير إليه ، وباقيها لا ينبغي لأحد منكم أن يلتفت إليها .
::::::::::: ************* :::::::::::::::: *********** ::::::::::::::::::
سورة البقرة وفيها تسعون آية
ا
سورة البقرة اعلموا وفقكم الله أن علماءنا قالوا : إن هذه السورة من أعظم سور القرآن
; سمعت بعض أشياخي يقول : فيها ألف أمر ، وألف نهي ، وألف حكم ، وألف خبر ،
ولعظيم فقهها أقام عبد الله بن عمر ثماني سنين في تعلمها ، وقد أوردنا ذلك عليكم مشروحا في الكتاب الكبير في أعوام ،
وليس في فضلها حديث صحيح إلا من طريق أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
{ لا تجعلوا بيوتكم مقابر وإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله شيطان } خرجه الترمذي .
وعدم الهدى وضعف القوى وكلب الزمان على الخلق بتعطيلهم وصرفهم عن الحق ،
والذي حضر الآن من أحكامها في هذا المجموع تسعون آية :
الآية الأولى :
قوله تعالى : { الذين يؤمنون بالغيب } فيها مسألتان :
المسألة الأولى : { يؤمنون } : قد بينا حقيقة الإيمان في كتب الأصول ،
ومنها تؤخذ المسألة الثانية : حقيقة الغيب واختلاف العلماء فيه : قوله : { بالغيب } .
وحقيقته ما غاب عن الحواس مما لا يوصل إليه إلا بالخبر دون النظر ، فافهموه .
وقد اختلف العلماء فيه على أربعة أقوال :
الأول : ما ذكرناه كوجوب البعث ، ووجود الجنة ونعيمها وعذابها والحساب .
الثاني : بالقدر .
الثالث : بالله تعالى .
الرابع : يؤمنون بقلوبهم الغائبة عن الخلق لا بألسنتهم التي يشاهدها الناس ، معناه : ليسوا بمنافقين ،
وكلها قوية إلا الثاني والثالث فإنه يدرك بصحيح النظر ، فلا يكون غيبا حقيقة ، وهذا الأوسط ، وإن كان عاما فإن مخرجه على الخصوص .
والأقوى هو الأول ; أنه الغيب الذي أخبر به الرسول عليه السلام مما لا تهتدي إليه العقول ،
والإيمان بالقلوب الغائبة عن الخلق ، ويكون موضع المجرور على هذا رفعا ، وعلى التقدير الأول يكون نصبا ،
كقولك : مررت بزيد ، ويجوز أن يكون الأول مقدرا نصبا ، كأنه يقول : جعلت قلبي محلا للإيمان ، وذلك الإيمان بالغيب عن الخلق .
وكل هذه المعاني صحيحة لا يحكم له بالإيمان ولا بحمى الذمار ، ولا يوجب له الاحترام ، إلا باجتماع هذه الثلاث ; فإن أخل بشيء منها لم يكن له حرمة ولا يستحق عصمة .
الآية الثانية قوله تعالى : { ويقيمون الصلاة } فيها مسألتان :
المسألة الأولى :
قال علماؤنا : في ذكر الصلاة في هذه الآية قولان :
أحدهما : أنها مجملة ، وأن الصلاة لم تكن معروفة عندهم حتى بينها النبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني : أنها عامة في متناول الصلاة حتى خصها النبي صلى الله عليه وسلم بفعله المعلوم في الشريعة .
وقد استوفينا القول في ذلك عند ذكر أصول الفقه ، والصحيح عندي أن كل لفظ عربي يرد مورد التكليف في كتاب الله عز وجل
مجمل موقوف بيانه على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون معناه محدودا لا يتطرق إليه اشتراك ;
فإن تطرق إليه اشتراك ، واستأثر الله عز وجل برسوله صلى الله عليه وسلم قبل بيانه ، فإنه يجب طلب ذلك في الشريعة على مجمله ، فلا بد أن يوجد ، ولو فرضنا عدمه لارتفع التكليف به ، وذلك تحقق في موضعه .
وقد قال عمر رضي الله عنه في دون هذا أو مثله : " ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيها عهدا ننتهي إليه : الجد ، والكلالة ، وأبواب من أبواب الربا " .
فتبين من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسري به ، وفرض عليه الصلاة ، ونزل سحرا جاءه جبريل عليه السلام
عند صلاة الظهر فصلى به وعلمه ، ثم وردت الآيات بالأمر بها والحث عليها ; فكانت واردة بمعلوم على معلوم ، وسقط ما ظنه هؤلاء من الموهوم .
المسألة الثانية { ويقيمون } :
فيه قولان : الأول : يديمون فعلها في أوقاتها ، من قولك : شيء قائم ، أي دائم .
والثاني : معناه يقيمونها بإتمام أركانها واستيفاء أقوالها وأفعالها ، وإلى هذا المعنى أشار عمر بقوله : " من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع " .
الآية الثالثة قوله تعالى : { ومما رزقناهم ينفقون }
فيها مسألتان : المسألة الأولى : في اشتقاق النفقة : وهي عبارة عن الإتلاف ، ولتأليف " نفق " في لسان العرب معان ،
أصحها الإتلاف ، وهو المراد هاهنا ، يقال نفق الزاد ينفق إذا فني ، وأنفقه صاحبه : أفناه ، وأنفق القوم : فني زادهم ، ومنه قوله تعالى : { إذا لأمسكتم خشية الإنفاق }
المسألة الثانية : في وجه هذا الإتلاف : وذلك يختلف ، إلا أنه لما اتصل بالمدح تخصص من إجماله جملة .
وبعد ذلك التخصيص اختلف العلماء فيه على خمسة أقوال : الأول : أنه الزكاة المفروضة ، عن ابن عباس .
الثاني : أنه نفقة الرجل على أهله قاله ابن مسعود .
الثالث : صدقة التطوع قاله الضحاك .
الرابع : أنه وفاء الحقوق الواجبة العارضة في المال باختلاف الأحوال ما عدا الزكاة .
الخامس : أن ذلك منسوخ بالزكاة .
التوجيه : أما وجه من قال : " إنه الزكاة " فنظر إلى أنه قرن بالصلاة ، والنفقة المقترنة [ في كتاب الله تعالى ] بالصلاة هي الزكاة .
وأما من قال : إنه النفقة على عياله فلأنه أفضل النفقة .
روي { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له رجل : عندي دينار : قال : أنفقه على نفسك قال : عندي آخر ، قال : أنفقه على أهلك } ، وذكر الحديث ، فبدأ بالأهل بعد النفس .
وفي الصحيح { أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الصدقة على القرابة صدقة وصلة }
وأما من قال : إنه صدقة التطوع فنظر إلى أن الزكاة لا تأتي إلا بلفظها المختص بها ، وهو الزكاة ، فإذا جاءت بلفظ الصدقة احتملت الفرض والتطوع ، وإذا جاءت بلفظ الإنفاق لم يكن إلا التطوع .
وأما من قال : إنه في الحقوق العارضة في الأموال ما عدا الزكاة فنظر إلى أن الله تعالى لما قرنه بالصلاة كان فرضا ،
ولما عدل عن لفظها كان فرضا سواها .
وأما من قال : إنه منسوخ فنظر إلى أنه لما كان بهذا الوجه فرضا سوى الزكاة ، وجاءت الزكاة المفروضة فنسخت كل صدقة جاءت في القرآن ، كما نسخ صوم رمضان كل صوم ، ونسخت الصلاة كل صلاة .
ونحو هذا جاء في الأثر التنقيح : إذا تأمل اللبيب المنصف هذه التوجيهات تحقق أن الصحيح المراد
بقوله : { يؤمنون بالغيب } : كل غيب أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كائن ،
وقوله : { ويقيمون الصلاة } : عام في كل صلاة فرضا كانت أو نفلا .
وقوله : { ومما رزقناهم ينفقون } عام في كل نفقة ، وليس في قوة هذا الكلام القضاء بفرضية ذلك كله ، وإنما علمنا الفرضية في الإيمان والصلاة والنفقة من دليل آخر ، وهذا القول بمطلقه يقتضي مدح ذلك كله خاصة كيفما كانت صفته .
الآية الرابعة قوله تعالى : { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } .
المراد بهذه الآية : المراد بهذه الآية وما بعدها المنافقون الذين أظهروا الإيمان ، وأسروا الكفر ، واعتقدوا أنهم يخدعون الله تعالى ، وهو منزه عن ذلك فإنه لا يخفى عليه شيء .
وهذا دليل على أنهم لم يعرفوه ، ولو عرفوه لعرفوا أنه لا يخدع ، وقد تكلمنا عليه في موضعه .
والحكم المستفاد هاهنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين مع علمه بهم وقيام الشهادة عليهم أو على أكثرهم .
اختلاف العلماء في سبب عدم قتل المنافقين : واختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال
: الأول : أنه لم يقتلهم ; لأنه لم يعلم حالهم سواه ، وقد اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن القاضي لا يقتل بعلمه ،
وإن اختلفوا في سائر الأحكام هل يحكم بعلمه أم لا ؟ .
الثاني : أنه لم يقتلهم لمصلحة وتألف القلوب عليه لئلا تنفر عنه .
وقد أشار هو صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى ، فقال : { أخاف أن يتحدث الناس أن محمدا صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه } .
الثالث : قال أصحاب الشافعي : إنما لم يقتلهم لأن الزنديق وهو الذي يسر الكفر ويظهر الإيمان يستتاب ولا يقتل .
وهذا وهم من علماء أصحابه ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستتبهم ، ولا يقول أحد : إن استتابة الزنديق غير واجبة .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم معرضا عنهم ، مع علمه بهم ، فهذا المتأخر من أصحاب الشافعي الذي قال : إن استتابة الزنديق جائزة قال ما لم يصح قولا واحدا .
وأما قول من قال : إنه لم يقتلهم ;
لأن الحاكم لا يقضي بعلمه في الحدود ، فقد قتل بالمجذر بن زياد بعلمه الحارث بن سويد بن الصامت ;
لأن المجذر قتل أباه سويدا يوم بعاث ، فأسلم الحارث ، وأغفله يوم أحد الحارث فقتله ،
فأخبر به جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقتله به ; لأن قتله كان غيلة ، وقتل الغيلة حد من حدود الله عز وجل .
القول الصحيح : والصحيح : أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أعرض عنهم تألفا ومخافة من سوء المقالة الموجبة للتنفير ،
كما سبق من قوله .
وهذا كما كان يعطي الصدقة للمؤلفة قلوبهم مع علمه بسوء اعتقادهم تألفا لهم ، أجرى الله سبحانه أحكامه على الفائدة التي سنها إمضاء لقضاياه بالسنة التي لا تبديل لها .
الآية الخامسة قوله تعالى : { الذي جعل لكم الأرض فراشا } .
قال أصحاب الشافعي : لو حلف رجل لا يبيت على فراش ، ولا يستسرج سراجا ، فبات على الأرض ، وجلس في الشمس
لم يحنث ; لأن اللفظ لا يرجع إليهما عرفا .
وأما علماؤنا فبنوه على أصلهم في الأيمان أنها محمولة على النية ، أو السبب ، أو البساط ، التي جرت عليه اليمين ،
فإن عدم ذلك فالعرف ، وبعد أن لم يكن ذلك على مطلق اللفظ في اللغة ، وذلك محقق في مسائل الخلاف .
والأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : { الأعمال بالنية ، ولكل امرئ ما نوى } .
وهذا عام في العبادات والمعاملات ، وهذا حديث غريب اجتمعت فيه فائدتان :
إحداهما : تأسيس القاعدة .
والثانية : عموم اللفظ ، في كل حكم منوي .
والذي يقول إنه إن حلف ألا يفترش فراشا وقصد بيمينه الاضطجاع ، أو حلف ألا يستصبح ، ونوى ألا ينضاف إلى نور عينيه نور يعضده ، فإنه يحنث بافتراش الأرض ، والتنور بالشمس ، وهذا حكم جار على الأصل .
#########################
تابعونا جزاكم الله خيرا
###
ولا تنسونا من صالح دعائكم
عدل سابقا من قبل sadekalnour في الأحد أبريل 17, 2022 5:16 pm عدل 1 مرات
أمس في 9:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» وجوب التوكل على الله وخده لا شريك له
أمس في 3:26 pm من طرف عبدالله الآحد
» أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 5:24 pm من طرف عبدالله الآحد
» العبادة وأركانها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 2:55 pm من طرف عبدالله الآحد
» الراجح من أقوال العلماء أن جلسة الاستراحة سنة في الصلاة
الإثنين نوفمبر 18, 2024 2:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» -(( 3 -))- خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
الأحد نوفمبر 17, 2024 10:15 pm من طرف صادق النور
» لا يعلم الغيب إلا الله وحده لا شريك له
الأحد نوفمبر 17, 2024 3:12 pm من طرف عبدالله الآحد
» تابع زبدة التوحيد لنعمان بن عبد الكريم الوتر
السبت نوفمبر 16, 2024 2:15 pm من طرف عبدالله الآحد
» هيئات السجود المسنونة
الخميس نوفمبر 14, 2024 3:24 pm من طرف عبدالله الآحد
» (( - 2 -)) خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
الأربعاء نوفمبر 13, 2024 11:28 pm من طرف صادق النور