بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام علي سيد ألأنام سيدنا محمد وعلي ىله وصحبه وسلم
الرسول صل الله عليه وسلم سياسياً
هناك عشرات الشواهد اشتركت في الدلالة على معنى واحد
وهو: أن نبوته صلى الله عليه وسلم تؤسس له الاستحقاق في الإمامة على الدولة وتحقق له الشرعية
التي يمارس بها ذلك الحق, وتدل أن الإيمان به صلى الله عليه وسلم ومبايعته على ذلك متضمنة للإقرار بأنه صلى الله عليه وسلم رئيس للدولة وحاكم عليها, وأن الإيمان به يكفي في تأسيس المشروعية السياسية له صلى الله عليه وسلم, ولا أنه لا يحتاج إلى مبايعة أو عقد آخر يؤسس له المشروعية.
الشواهد التاريخية الدالة على هذا الرأي, يمكن تصنيفها وتقسيمها إلى أنواع بحسب دلالاتها , وهي كالتالي:
النوع الأول :
الشواهد التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخاطب الرؤساء ويعدهم بأنهم إذا آمنوا به يجعل لهم ما تحت أيديهم ويوليهم عليه .
ومن ذلك ما جاء في كتابه صلى الله عليه وسلم إلى هوذة بن علي- شيخ اليمامة -
وفيه: "سلام على من اتبع الهدى , واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر , فأسلم تسلم وأجعل لك ما تحت يديك"
, ومن ذلك أيضا: ما جاء في كتابه صلى الله عليه وسلم إلى ملكي عمان
وفيه: "إنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما , وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن ملككما زائل"
,ومن ذلك: كتابه صلى الله عليه وسلم إلى همدان , وفيه: "إنكم إذا شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله , وأقمتم الصلاة وأتيتم الزكاة , فإن لكم ذمة الله وذمة رسوله على دمائكم وأموالكم , وأرض البور التي أسلمتم عليها, سهلها وجبلها وعيونها وفروعها , غير مظلومين ولا مضيق عليكم"
, وهذا الحكم السياسي تكرر من النبي صلى الله عليه وسلم في عدد من كتبه التي أرسل بها إلى القبائل العربية,
ككتابه إلى معد يكرب من خولان, وخالد بن ضماد من أزد وأبي طبيان الأزدي من غامد, وبني عامر بن الأسود من طيء.
ووجه الشاهد من هذا النوع: هو أن النبي صلى الله عليه وسلم مارس الحكم السياسي وعلق ذلك على مجرد الإيمان به وبدينه , ولو كان لا يملك الشرعية السياسية بذلك لما فعله, ولو كانت شرعيته السياسية متوقفة على مبايعة خاصة غير مبايعة الإيمان به لتوقف عن إصدار ذلك الحكم.
النوع الثاني :
الشواهد التي فيها أنه صلى الله عليه وسلم كان يعين نواباً عنه على القرى والقبائل التي أعلت إيمانها به, وهذا النوع تدخل تحته شواهد كثيرة:
ومن ذلك: تعيينه لقيس الهمداني على قومه ,
فقد جاء في كتابه إليه : "فإني استعملتك على قومك غربهم وأحمرهم ومواليهم "
, ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لزياد بن الحارث لما جاء بخبر إسلام قومه :
" ألا أمرك عليهم , , فقال : بلا يا رسول الله ", فكتب له كتابا,
ومن كذلك : تعيينه لوائل بن حجر رئيسا على قومه
, وكذلك ولى الرسول صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد نائبا عنه في مكة وعثمان ابن أبي العاص في الطائف .
ووجه الشاهد من هذا النوع : هو أنه صلى الله عليه وسلم حكم بأحكام سياسية اعتمادا على مبايعته على الإيمان به , ولم يرد أنه طلب منهم أن يبايعوه على أن يكون حاكما على الدولة حتى يمارس الحكم السياسي
وهذا يدل على أن مجرد الإيمان به قدر كاف في تأسيس الشرعية السياسية له لأنها متضمنة فيها .
النوع الثالث :
الشواهد الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان يصدر بعض الأحكام السياسية على البلاد التي آمن أهلها خارج المدينة.
ومن ذلك كتابه إلى قبيلة بارقة , وفيه : "هذا كتاب من محمد رسول الله لبارق: أن لا تجذ ثمارهم , وأن لا ترعى بلادهم في مربع ولا مصيف إلا بمسألة من بارق "
, ومن ذلك كتابه لربيعة بن ذي المرحب من حضرموت , وفيه: "أن لهم أموالهم ونخلهم ورقيقهم وآبارهم وشجرهم"([7]) , ومن ذلك كتابه لعوسجة بن حرملة الجهني وفيه : "هذا ما أعطى الرسول عوسجة بن حرملة الجهني من ذي الرمة أعطاه ما بين بلكثة إلى المصنعة إلى الجفلات إلى الجد جبل القبلة"
.
ووجه الشاهد من هذا النوع : أنه صلى الله عليه وسلم حكم بحكم سياسي ونقذ حكمه في القوم الذين لم يذكر عنهم إلا أنهم بايعوه على الإيمان به واتباع دينه, وهذا يدل على أن الإيمان به متضمن للإقرار بكون حاكماً ورئيساً سياسياً.
النوع الرابع
: الشواهد التي فيها أنه صلى الله عليه وسلم أقر القبائل التي ربطت بين الإيمان به وبين شرعيته السياسية.
ومن ذلك إقراره لقبيلة مذحج, فإنهم حين وفدوا لمبايعته على الإيمان
قالوا: "إسلامنا على أن لنا من أرضنا ماؤها ومرعاها وهدالها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم بارك على مذحج وعلى أرض مذحج من حشد ورفد وزهر" , فكتب لهم رسول الله كتابا على ذلك
, ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم حين دعا بني عامر بن صعصعة قال له رجل منهم : "أريت إن بايعناك على أمرك, ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء" , فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ربطهم بين الإيمان به وبين الإقرار بكونه رئيساً للدولة, ولكنه أنكر عليهم طلبهم لتوريث الرياسة.
ووجه الشاهد من هذا النوع:
هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الربط بين الإيمان به وبين كونه رئيساً للدولة, فلو كان لا يملك الشرعية السياسية بمجرد الإيمان به لأنكر ذلك الربط ولصرح بنفيه.
فهذه الشواهد تواردت كلها على تأكيد معنى واحد وهو أن سيادة النبي صلى الله عليه وسلم السياسية تتحقق بمجرد الإيمان به, وأنه لا يحتاج في تأسيس شرعية حكمه السياسي إلى مبايعة أخرى تثبت رضا الناس المؤمنين بنبوته بكونه حاكما للدولة, لأن هناك ترابط ضمني بين الإقرار بالإيمان به وبكونه رسولاً وبين الإقرار والرضا بكونه يملك الشرعية السياسية التي يصدر من خلالها أحكاماً سياسية نافذة,
وهذا الترابط هو المنسجم مع طبيعة الإقرار بنبوته, فمن المستبعد عقلاً أن يقر الإنسان الكافر بكونه رسول الله وأنه معصوم ومؤيد من السماء ومشرع للأحكام ثم بعد ذلك لا يقر ولا يرضى بكونه حاكماً على الدولة ولا يثق في نزاهته السياسية أو عدله وسعة نظرته في إدارة شؤون البلاد.
إن الإقرار بالنبوة والتسليم بها قضية مركبة تتضمن أشياء عديدة تتعلق بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم,
إنه يعني الإقرار بصدقه وعدله ونزاهته وحنكته وتقواه وقوة عقله وقلبه وقوة بصيرته وشدة الحب له والتعظيم لشأنه والتوقير لشخصه والخضوع لأمره وتقديم رأيه والارتياح لمشورته والرغبة في الانقياد به والاتباع لما يريد وتحقيق ما يسعده ويفرحه,
فمن المستبعد أن يقر الإنسان المسلم بكل هذه الأمور ثم في النهاية لا يقر بكونه حاكماً على الدولة ولا يرضى له بالشرعية السياسية حتى يحتاج إلى أن يبايعه مبايعة أخرى يقرر فيها رضاه بحكمه السياسي, إن هذا الفصل يبدو مستبعداً جداً لا يكاد يتصوره الإنسان.
ومما يقوي التداخل والترابط بين الإيمان به وبين الرضا بإمامته للدولة في نفسية المسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سالم من جميع الموانع التي تمنع من الرضا بشرعية أي حاكم من البشر, فمن المعلوم أن الشعوب إنما تمتنع عن الرضا بالحاكم إما لعدم ثقتها في عدله أو علمه أو نزاهته أو أنها تعتقد أنه لا يستحق الشرعية لنقص في خُلقه أو جسده أو نسبه,
وكل هذه الأمور منتفية في حق النبي صلى الله عليه وسلم, بل بلغ الكمال في أوصاف المحامد كلها, وبالتالي فتصور الفصل بين الإيمان به وبين عدم الرضا بإمامته يبدو بعيداً ومستعصياً على التصور السليم.
ولهذا كان المسلمون يربطون بين مقتضى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وبين كونه حاكماً سياسياً يملك الشرعية في إصدار الأوامر السياسية,
فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان ضعيفاً من المسلمين في مكة بالهجرة إلى الحبشة, امتثل الصحابة ذلك, ولم يشيروا إلى الفرق بين مقتضى نبوته وبين أوامره السياسية مع ما في ذلك الأمر السياسي من الغربة والمشقة,
وكذلك الإلزام بوجوب الهجرة قبل فتح مكة, فهذا الأمر السياسي كان ممتثلا من الصحابة, ومن يخالفه يعد داخلا في دائرة الذم.
ولو قُدر أن قبيلة آمنت بالنبي صلى الله عليه وسلم وحين أمرها بأمر سياسي جازم لم يمتثلوا أمره ولم يكن لهم مبرر إلا التفريق بين مقتضى النبوة بين شرعيته السياسية لكان فعلهم ذلك محلاً للإنكار,
فلو اقترضنا أنها قالت: ما على هذا كانت المبايعة, هل سيرضى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ويقبل به؟!! وهل سيعد ذلك أمراً مقبولاً لأنه لم يتم الاتفاق عليه في مبايعة الإيمان؟!!
أم سيكون صنيعهم ذلك محلاً للإنكار والذم الشديد؛ ومثله في الحال لو قُدر أن المزارعين الذين أشار عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بترك تأبير النخل قالوا: أمرك هذا غير ملزم لنا لأنالم نبايعك إلا على الإيمان, هل سيكون صنيعهم هذا مقبولاً, أم سيكون محلا للذم والإنكار؟!!
ولا بد من التأكيد هنا على أنه ليس معنى الكلام السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم أصبح رئيساً للدولة بالجبر ومن غير رضا الناس بذلك, وإنما معناه أن رضا الناس بولايته السياسية تحقق تلقائياً بمجرد الإيمان به, وأنهم لم يفصلوا بين الأمرين المترابطين.
ربما يعترض معترض على التقرير السابق بما حدث في مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار في العقبة,
فمن المعلوم أنه بايعهم مبايعتين, كانت الأولى على الإيمان به, وكانت الثانية على السمع والطاعة في المنشط والمكره,
فقد يستنتج البعض بأن النبي صلى الله عليه وسلم مع استحقاقه لأن يكون إماماً على الدولة في زمنه إلا أنه لم يصبح حاكماً على المدينة يجب له حق السمع والطاعة -أي أنه يمتلك الشرعية السياسية- إلا بعد أظهر الأنصار رضاهم بذلك وأعطوه الإذن بحكمهم, ولو لم يعطوه لما ملك النبي صلى الله عليه وسلم الشرعية السياسية عليهم, وسيصبح مجرد نبي مبلغ عن الله تعالى دينه فقط.
ولكن الاستناد إلى هذه الحاثة في تأسيس الفصل بين الإقرار بالإيمان به صلى الله عليه وسلم وبين الرضا بإمامته السياسية غير صحيح, فهذا هذا الاستدلال مبني أولاً على اختزال شديد للشواهد التاريخية , فهو لم يتعمد إلا على شاهد واحد وأغلف عشرات الشواهد التي تدل على نقيض ما فهمه من قضية مبايعة الأنصار .
وهو ثانياً مبني على فهم غير دقيق لحادثة بيعة العقبة, فلو رجعنا إلى تلك الحادثة وقمنا بتحليلها وتفسيرها وفق المجريات في تلك المرحلة وراعينا الحالة التي كان يعيشها النبي صلى الله عليه وسلم ويعيشها الأنصار المبايعين سنكتشف بأنها لا تدل على الفصل بين الإيمان بالنبي وبين الإقرار بإمامته السياسية بحال, وأنه لا علاقة لها بذلك.
وحتى تتبين صورة القصة بوضوح علينا أن نعرض أهم فقراتها, فالقصة باختصار تقول: هناك عدد قليل جداً من يثرب قابلوا النبي صلى الله عليه وسلم حين قدموا للحج وآمنوا به , وبايعوه كما يبايعه سائر الناس على بيعة الإيمان
وهي قال عبادة رضي الله عنه: "قال لنا رسول الله: "تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب شيئاً فستره الله فأمره إلى الله، إن شاء عاقبه وإن شاء الله عفا عنه"
.
ورجع ذلك العدد إلى يثرب وآمن بسببهم وبدعوة مصعب بن عمير عدد كبير من أهلهم ولم يبق دار من دور المدينة إلا وفيها رجال ونساء مسلمون, وتكونت بهم جماعة لها قوة ومنعة, وفي موسم الحج المقبل ذهبوا إلى مكة وأخذ الأنصار يتساءلون فيها بينهم إلى متى يتركون رسول الله يطوف ويطرد في جبال مكة وهو خائف على نفسه,
فجرت بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم اتصالات سرية أدت إلى الاتفاق على تحديد مكان وزمان اللقاء بينهم, فلما اجتمعوا, تحدث العباس -وقد كان مع النبي صلى الله عليه وسلم-, فقال: "يا معشر الخزرج -وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج،خزرجها وأوسها - إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عزة من قومه ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده" .
ومن خطاب العباس يظهر أن موضوع الاتفاق ليس هو البحث عن الشرعية السياسية للنبي وإنما عن توفير الحماية والأمن له ولدينه من أعدائه.
فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم,
فأخذ البراء بن معرور بيده, وقال: نعم، فوالذى بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب ورثناها كابراً عن كابر".
فاعترض القول، والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها، يعنى اليهود، فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟
قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم"
.
فلما أبدى الأنصار استعداهم لانتقال النبي صلى الله عليه وسلم إليهم في المدنية ووعْدُهم بحمايته ووعد النبي لهم بعدم تركهم طلب منهم أن يُخرجوا له اثني عشر نقيباً ليبايعوا على ذلك, فتمت المبايعة, وهي كما قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: "بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله" .
فهذه هي القصة باختصار ومن خلال تحليلها يظهر للقارئ بأن موضوع الاجتماع الثاني لم يكن في البحث عن الشرعية السياسية للنبي صلى الله عليه وسلم, ولم يكن في البحث عن الآلية التي يكون بها رئيساً على الدولة ولا حاكما عليها, وإنما كان الاجتماع في بحث قضية واحدة وهي تحديد الضمانات التي يحمي بها الأنصار النبي من أعدائه والمتربصين به من العرب.
فلم يكن هدف النبي صلى الله عليه وسلم في المبايعة الثانية التأكد من رضا الأنصار برياسته للدولة ولا التحقق من رغبتهم في ذلك, ولم يكن هدف الأنصار منها إظهار رضاهم بإمامة النبي صلى الله عليه وسلم ولا الكشف عن محبتهم لسياسته لحياتهم ودولتهم، فهم قد أظهروا ذلك في إعلان إيمانهم به, وإنما كان الهدف من الطرفين الاتفاق على الحماية وتوفير الأمن للنبي ولدينه, ولهذا سميت هذه البيعة بيعة القتال .
ومن الطبيعي جداً أن يكون موضوع ذلك الاجتماع البحث في ضمانات الحماية, ومن الطبيعي أن يبحث الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك ؛ لأنه سينتقل إلى المدينة ويبتعد عن أهله وأقاربه الذين كانوا يحمونه من أعدائه, وليس من المعقول أن يفعل ذلك من دون أن يقدم له الأنصار الضمانات الكافية.
ومبايعة الأنصار على السمع والطاعة ليس معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن له الشرعية السياسية إلا بعد تلك المبايعة, وليس معناه أنه لا يحق له ممارسة العمل السياسي إلا بعد أن أبدى له الأنصار الرضا بذلك في مبايعة خاصة غير مبايعة الإيمان, وفي المقابل ليس معناه أن الأنصار لم يبدو له الرضا بإمامته السياسية إلا في تلك البيعة, كل هذه المعاني ليست داخلة ضمن بيعة العقبة الثانية, وإنما معنى التنصيص على السمع والطاعة التأكيد على نفوذ حكمه صلى الله عليه وسلم لا لتأسيس الشرعية السياسية له, ولهذا كانت تسمى بيعة العقبة الثانية بيعة الأمراء, وسميت بذلك -كما قال أبو العباس القرطبي- لأن المقصود منها تأكيد السمع والطاعة على الأمراء.
ويدل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يبايع الصحابة عند كل حادثة كبيرة كما فعل في الحديبية في بيعة الرضوان
, ويقول ابن عمر رضي الله عنهما : "كنا إذا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة يقول لنا فيما استطعت" (البخاري),
فتلك المبايعة لم تكن لتأسيس الرضا بحكم النبي لأن الصحابة قد رضوا بذلك بلا شك, وإنما لتأكيد رضاهم.
رسول الله صلى الله عليه وسلم سياسيًّا وحاكمًا
إرساء مبدأ الشورى
كان من عادته صلى الله عليه وسلم قبل اتخاذ أي قرار هام يتعلق بالدولة وبمصير الجيش، أن يجمع كبار الصحابة وقادة الجيوش وكذلك الشباب للمشاورة في الأمر، بل هذا ما أمره به ربه في كتابه فقال تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين) [آل عمران:159].
كما حدث في غزوة أُحد إذ عقد صلى الله عليه وسلم مجلسًا استشاريًا عسكريًا جمع فيه كبار الصحابة من المهاجرين وزعماء الأوس والخزرج، تبادل معهم فيه الرأي لاختيار الموقف.
وكان رأيه صلى الله عليه وسلم أن يتحصنوا بالمدينة ولا يخرجوا منها، لكن بعض فضلاء الصحابة ممن فاتهم الخروج يوم بدر أشاروا على الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج، وألَحُّوا عليه في ذلك، وكان حمزة رضي الله عنه على رأس ذلك الفريق
فتنازل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رأيه -مع أنه كان الأصوب- أمام رأي الأغلبية، واستقر الرأي على الخروج من المدينة ولقاء العدو في ساحة المعركة.
وفي ساحة القضاء رسّخ رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدة عادلة للفصل بين الخصوم وهي: (البَيِّنَةُ على من ادعى، واليمينُ على من أنكر)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لادَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قَوْمٍ وَدِمَاءَهُمْ، وَلَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» (رواه البيهقي).
ومن شدة حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على العدل وإيصال كل حق إلى مستحقه حذر النبيُّ صلى الله عليه وسلم من استخدام فصاحة اللسان والحجج الباطلة وسيلة للاستيلاء على حقوق الآخرين، وأنه لو حكم بشيء خلاف العدل فلا يحل للمحكوم
له، فقال: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ. وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ. فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّار»
وكان عدله صلى الله عليه وسلم على الجميع بمساواة وبلا أي تمييز؛ فقد سرقت امرأة شريفة النسب، وأراد كبراء قريش ألا ينفذ عليها الحكم وأن يحابيها صلى الله عليه وسلم، لكنهم يعرفون جيدًا نظام العدل عنده صلى الله عليه وسلم
فبحثوا عمن يتشفع عند رسول الله، فذهبوا إلى أسامة بن زيد ليكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لكيلا يقيم عليها الحد بقطع اليد لشرف نسبها
فَكَلَّمَ أسامة رسول الله صلى الله عليه وسلم فِيهَا، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غضبًا، وَقَالَ: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟!»
فَقَالَ لَهُ أُسَامَةُ: «اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ»
فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ، قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاخْتَطَبَ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ،
ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ: أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَإِنِّي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا». ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقُطِعَتْ يَدُهَا» (رواه مسلم). فأي عظمة وعدالة ومساواة عرفها الواقع أو التاريخ مثل هذه؟!
فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ،
وَكَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَانْطَلَقَ نَاسٌ قِبَل الصَّوْتِ، فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَاجِعًا
وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عَرِيٌّ، فِي عُنُقِهِ السَّيْفُ وَهُوَ يَقُولُ: لَمْ تُرَاعُوا، لَمْ تُرَاعُوا» (رواه البخاري).
فسبقهم إلى ما يُخيفهم لحمايتهم، ثم سكَّنَ خوفهم بكلمة رقيقة رفيقة.
اتصاف حكمه صلى الله عليه وسلم بالحزم والثبات على المنهج
عُرِف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الثبات على المبدأ، وعدم تقديم أية تنازلات على عكس ما عُرِف عن السياسيين أنهم يدورون في فلك مصالحهم الشخصية ويتلونون حسب رغبة الحكام وأهوائهم.
ولذلك نجد مثلًا موقفه واضحًا من الأعرابي الذي قدم إليه ليبايعه (ابن الخصاصية رضي الله عنه)
قال: «أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لأبايعه على الإسلام، فاشترط علي: «تشهدُ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وتُصلِّي الخَمْسَ، وتصومُ رمضانَ، وتُؤدِّي الزكاةَ، وتحُجُّ البيتَ، وتجاهدُ في سَبِيلِ الله»،
قال: قلتُ: يا رسول الله، أما اثنتان فلا أطيقهما: أما الزكاة فما لي إلا عشر ذودٍ (أي: من الإبل) هن رُسل أهلي وحمولتهم، وأما الجهاد فيزعمون أنه من تولّى فقد باء بغضب من الله؛ فأخاف إذا حضرني قتال كرهت الموت وخشعت نفسي،
قال: فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ثم حركها، ثم قال: «لَا صَدَقَةَ وَلَا جِهَادَ؟ فَبِمَ تَدْخُلُ الجَنَّةَ؟!» قال: ثم قلتُ: يا رسول الله، أُبايِعُكَ. فَبَايَعَنِي عَلَيْهِنَّ كُلِّهِنَّ». (رواه الحاكم والبيهقي).
وهاك مثال آخر: جاءت سادات قريش إلى أبي طالب، فقالوا له: يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا..
وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه، وإنا والله لا نصبر على هذا، من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحدّ الفريقين
عظم على أبي طالب هذا الوعيد والتهديد الشديد، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يا ابن أخي إن قومك قد جاؤوني، فقالوا لي كذا وكذا، فأبق عليّ وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق، فظن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن عمه خاذله، وأنه ضعف عن نصرته
فقال:صلى الله عليه وسلم« يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر- حتى يظهره الله أو أهلك فيه- ما تركته، ثم استعبر وبكى، وقام » فلما ولى ناداه أبو طالب فلما أقبل قال له: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا
ويتضح من ذلك الموقف وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرضى بالحلول الوسطية بين الحق والباطل، أو الالتقاء في منتصف الطريق بينهما، وذلك نابع من طبيعة الهدف الذي بُعث لأجله؛ أنه رسول من الله تعالى إلى الناس جميعًا، ومهمته هي تبليغ الإسلام إلى الناس، فليس في يده أن يقبل مناهج مقترحة أو أفكارًا بديلة عن الشرع الإلهي، وذلك أمر في غاية الوضوح.
يعتبر صلح الحديبية واحدًا من المواقف التي بيَّنت براعة وحنكة الحبيب محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله السياسية والدبلوماسية، فنقرأ في عهد الحديبية كما وصفه العقاد في عبقريته: "بدأ النبي بالدعوة للحج ولم يقصره في تلك السنة على المسلمين، بل شمل كل من أراد الحج من أبناء القبائل العربية فجعل له وللعرب أجمعين قضية واحدة في وجه قريش فأفسد على قريش ما تعودته من إثارة العرب وتوجيههم لمناوأة سيدنا محمد والرسالة الإسلامية".
وكانت البداية عندما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم برحلة الحديبية حاجاً لا غازياً، وأثبت نية السلم للمشركين بدخوله وأصحابه متجردين من السلاح تمامًا حينما شكوا في نيته مهاجمتهم.
ولما اتفق المسلمون وقريش على التعاهد ظهرت براعة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدبلوماسية، فدعا بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقال "بسم الله الرحمن الرحيم"، فقال سهيل بن عمرو مندوب قريش: "أمسك!! لا أعرف الرحمن الرحيم، بل اكتب باسمك اللهم"، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "اكتب باسمك اللهم"؛ ثم قال النبي: "هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو"، فقال سهيل: "امسك! لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك"، وروى أن الإمام علي تردد وقال ما كان لي أن أمسح اسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمسح النبي صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله ما كتب الإمام علي بيده، وأمره أن يكتب "محمد بن عبد الله في موضع محمد رسول الله"؛ ثم تعاهدوا على أن من أتى سيدنا محمداً عليه الصلاة والسلام من قريش رده عليهم ومن جاء قريشاً من رجال سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يردوه.
وكان عهد الحديبية عهد مهادنة، فلو أن النبى صلَّى الله عليه وآله وسلم شرط على قريش أن ترد إليه من يقصدها من رجاله لنقض بذلك دعوة الهداية الإسلامية فإن المسلم الذي يترك النبي باختياره ليلحق قريشاً ليس بمسلم، ولكنه مشرك يشبه قريشاً في دينها وهي أولى به من نبي الإسلام صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله.
لقد شاء خالق الأكوان أن يكون ذلك اليتيم القادم من وادٍ غير ذي زرع أعظم عظماء الدنيا بأسرها، وأن يتمكن أتباعه من قلب موازين القوى والأحداث في الخارطة العالمية، ويصدق العقاد حينما يذهب إلى أن التاريخ كله متصل ومرهون بعمل محمد صلى الله عليه و آله و سلم
فالرسول القائد صلى الله عليه و آله و سلم لعب دوراً محورياً في التغيير العام للبشرية من خلال الدعوة التي اختاره الله لها، وبالرغم من كل المهام الصعبة التي أوكلت إليه فهو لم يفكر يوماً بالتخلي عن أداء واجبه، ولم يدر في خلده أبداً الهروب من المواجهة، بل على العكس كان قائداً حكيماً يجيد فن التوقيت كما يجيد فن الصبر والاحتمال وسياسة النفس الطويل، وفوق ذلك كله فهو السياسي المحنك، والقيادي الفذ الذي تدين له البشرية جمعاء.
وفي الكتاب الذي ألفه المفكر والمؤرخ الأمريكي (ميتشل هارت) وترجم فيه لأعظم الشخصيات في التاريخ
وضع الرسول محمداً صل الله عليه و آله و سلم الأول في ترتيب العظماء، وحجته في ذلك أنه الوحيد الذي نجح نجاحاً لا نظير له على المستوى الديني والدنيوي، وأنه نشأ في محيط بسيط، بعيد عن الفنون والعلوم، واستطاع في زمن قصير أن يستقطب جميع القبائل العربية في جزيرة العرب، ويجعلها بحكمته وسياسته تدخل في الإسلام عن قناعة وايمان مستعيناً في ذلك ببلاغة القرآن.
ويضيف هارت قائلاً: لأول مرة يتوحد العرب على يديه ليكونوا صفاً واحداً تحت كلمة الله، إنه أعظم سياسي وجد في العالم،
فقد وضع سياسة الفتوح التي سار عليها المسلمون وأنشأوا على أسسها امبراطورية واسعة تدين شعوبها بالإسلام وتتكلم لغة القرآن.
ثم ينتهي بقوله: إن الأحداث التاريخية يمكن أن تحدث دون قائد أو زعيم ولا يمكن القول أن العرب كان يمكنهم أن يقوموا بتلك الفتوحات دون وجود محمد الرسول .
هنا، محاولة سريعة لتسليط الضوء على نماذج من سياسة الرسولصلى الله عليه و آله و سلم الحكيمة عبر سياسته الداخلية والخارجية.
السياسة الخارجية
لابد لأي دولة في العالم من التعامل والتعاطي مع الدول المجاورة عبر سياسة خارجية متبناة من قبل القيادة في تلك الدولة، وتتنوع العلاقات الخارجية على التعاون وحسن الجوار وتبادل الزيارات وإبرام الإتفاقيات وتقريب وجهات النظر،
وقد تكون العلاقات بين دولة وأخرى تسودها القطيعة والجفاء أحياناً، وصولاً إلى الخصومة والحرب.
والرسول باعتباره صاحب الرسالة الإسلامية العالمية كان لزاماً عليه أن يحيط بما يجري حوله في الدول المجاورة، ومعرفة أخبارها وبالتالي دعوتها إلى الإسلام،
وفعلاً أثبت الرسول صلى الله عليه و آله و سلم مقدرته وبراعته في التحرك الخارجي عبر بُعد النظر وتشخيص الصالح من الطالح، والتقدير المناسب للأمور والقدرة الفائقة في عملية الكسب إلى الإسلام
اتصالات ودعوات
من الطبيعي أن يتبنى الأنبياء عملية الاتصالات الخارجية من أجل تبليغ الرسالة بالرغم من ضعف وسائل الاتصال آنذاك،
ولم تكن العملية يسيرة أبداً، حيث بادر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في بادئ الأمر إلى مخاطبة الملوك ورؤساء القبائل، عبر إرساله الموفدين والمندوبين من قبله وهم يحملون رسائله الشفوية والخطية التي كانت رائحة الإسلام تفوح من بين كلماتها.
ولعل أول تلك المراسلات الخارجية للرسولصلى الله عليه و آله و سلم كانت مع النجاشي، حيث جاء فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة، سلام عليك، أحمد الله الذي لا إله إلا هو الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته، ألقاها إلى مريم البتول، الطيبة، الحصينة، فحملت بعيسى، حملته من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده.... الخ.
وتلك المناغمة الحكيمة من قبل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم مهّدت الأرضية فيما بعد تماماً إلى اختيار الحبشة لهجرة المسلمين إليها بعد اشتداد الضغط عليهم، حيث أن موقف النجاشي معروف عند سرد أحداث هجرة المسلمين من مكة إلى الحبشة.
ولم تقتصر القائمة التي أعدها الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في التحرك على الصعيد الخارجي وإيصال الدعوة الإسلامية إلى أبعد نقطة على النجاشي فقط، حيث ضمت تلك القائمة هرقل عظيم الروم وأسقف الروم في القسطنطينية، أسقف إيله، وكاتب ملوك العرب والمقوقس عظيم القبط في مصر وكسرى ملك الفرس.
والمصاهرة هي إحدى المحاور التي تحرك عليها الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وهو في طريقه إلى الاتصال بالأقوام والقبائل الأخرى،
وقد استطاع الرسولصلى الله عليه و آله و سلم من خلال تلك العملية أن يختصر الكثير من الوقت وهو يهم بانتقال الدعوة الإسلامية من حيز أمة العرب إلى بقية القوميات والمذاهب الأخرى.
فزواجه من جويرية بنت الحارث (سيدة بني المصطلق)، كان نعمة عظيمة على قومها، حيث كانت النتائج المباشرة لذلك الزواج إطلاق سراح مئات الأسرى من أبناء تلك القبيلة التي وقعوا أسرى بيد المسلمين، كما انشدّوا إلى المسلمين برباط من الصداقة، فدخلوا الإسلام فيما بعد.
أما اليهود فلم ينس الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أن يكسبهم عن طريق البناء بامرأة من نبيلاتهم،
وذلك أعقاب فتح خيبر سنة 7هـ وهي صفية بنت حُييّ (عقيلة بني النضير) التي طالما افتخرت بزواجها من النبي صلى الله عليه و آله و سلم أمام اليهود عبر قولها زوجي محمد وأبي هارون وعمي موسى.
فيما وهب الأقباط في مصر إحدى نسائهم إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم ، فلم يردها الرسول إليهم وتزوجها،
وهكذا فتح الرسول صلى الله عليه و آله و سلم جسراً ممتداً من العلاقات ما بين مصر والجزيرة العربية حتى أن الرسول استوصى بهم حيث قال: استوصوا بالقبط خيراً فإن لهم ذمة ورحماً.
هذا وقد مارس الرسول صلى الله عليه و آله و سلم السياسة بمفاهيم مثالية قد لا يستوعبها الناس آنذاك،
مع أنه عاش الواقع ومارس فن الممكن فتحالف مع مشركين في حلفه مع خزاعة، وتعاقد مع يهود في الصحيفة،
فلم ينقض عهداً ولم يغدر بعدوٍ ولم يتخلّ عن صديق.
السياسة الداخلية
تسيير أمور البلاد ضمن حدودها، والقضاء على المشاكل الداخلية والعمل على إيجاد مشاريع مستمرة من أجل المصلحة الداخلية للبلاد ترافقها سياسة حكيمة وعقلية راجحة، هذه هي أبرز محاور السياسة الداخلية الناجحة. والسياسة الداخلية التي اتخذها الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في المدينة قادت إلى إيجاد دولة خضعت إلى التطور باستمرار حتى تفوقت على جميع الدول التي عاصرتها في جميع الميادين.
المؤاخاة
استطاع الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بعد استقراره في المدينة من تكوين نواة أمته من أبطال يسترخصون الحياة في سبيل الله والدين الجديد،
ولذلك كان أول ما قام به الرسول صلى الله عليه و آله و سلم هو تنظيم صفوف المهاجرين والأنصار عبر المؤاخاة.
إن أبرز الدوافع التي تقف وراء طرح الرسول لمشروع التآخي هو أن المسلمين كانوا –وقتها- يواجهون الكثير من المصاعب التي تتطلب التعاون والتعاضد لتذليلها وهكذا أراد النبي صلى الله عليه و آله و سلم بهذا المشروع أن يسمو بعلاقات هذا الإنسان عن المستوى المصلحي وجعلها علاقة إلهية تصل إلى درجة الأخوة، وقد كرس الرسول من خلال هذا المفهوم أيضاً الوحدة السياسية والمعنوية بين المسلمين، كما قوّى أسسها ودعائمها.
ومن الطبيعي أن يهتم الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بالواقع الشعبي لأمته آنذاك،
فالدولة –كما هو معلوم- لها ثلاثة أركان، وأحد أهم أركان هذه الدولة هو الشعب أما الركنان الآخران فهما الأرض والسلطة.
ولهذا بدأ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بالركن الأول وهو إعداد المسلمين عقائدياً ونفسياً وعسكرياً،
فأية دولة لا تقوم على قاعدة شعبية تجعل من المواطنين مجموعة من اللامبالين الذين يتراجعون بالدولة إلى الوراء..
وقد استمر مشروع التآخي الذي طرحه الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في المدينة حتى عزّ الإسلام، واجتمع الشمل بعد أن ذهبت آثار الغربة المملوءة بالوحشة.
الصحيفة نظام داخلي
كان من أكبر الانتصارات السياسية التي أحرزتها الحكومة الإسلامية الفتية بقيادة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم تلك الصحيفة التي أعدها الرسول صلى الله عليه و آله و سلم والمتضمنة معاهدة للتعايش والدفاع المشترك بين الأنصار والمهاجرين والتي وقع عليها يهود المدينة من الأوس والخزرج، أما يهود بني النضير وبني قينقاع وقريظة فقد عقد الرسول معهم معاهدة مستقلة.
وهذه الشمولية التي احتوتها الصحيفة كانت تعبر عن مدى بعد النظر الذي يتحلى به الرسول وهو يدوّن بنود الصحيفة التي تعتبر نظاماً داخلياً متكاملاً لحكومة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم آنذاك، فهو يرتب أحوال المهاجرين والأنصار ويستعرض احتمالات الغزو على المدينة وما يجب أن يحتمله المسلمون والقبائل الأخرى، وكذلك إنصافه ليهود المدينة في الحقوق والامتيازات والواجبات إلى غيرها من الأمور العامة التي تضمنتها الوثيقة.
وفضلاً عن هذا كله فإن الصحيفة تضمنت مبادئ عامة، درجت دساتير تلك الدول الحديثة على تبنيها
وفي طليعة هذه المبادئ تكوين الأمة وتعريفها وبيان الحقوق والواجبات المترتبة على الجميع، وهذا بالطبع -آنذاك- جديد كل الجدة في تاريخ الحياة السياسية في جزيرة العرب،
إذ نقل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم قومه من شعار القبيلة والتبعية إلى شعار الأمة التي تضم كل من اعتنق الدين الجديد، فقد قالت الصحيفة: إنهم أمة واحدة.
وفي تلك الصحيفة أيضاً استكمل الرسول)صلى الله عليه و آله و سلم أركان دولته، فقد اصبح لديه أناس مؤمنون برسالته، وأرض يقيم عليها أولئك الناس ويخضعون لسلطة سياسية واحدة هو رئيسها والمرجع الأعلى فيها.
----------------------------------------------------------------
اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه، عدد خلقك.. ورضا نفسك، وزِنَةَ عرشِكَ، ومدادَ كلماتِك، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه عدد ما خلقتَ، وعدد ما رزقتَ، وعدد ما أحييتَ، وعدد ما أَمتَّ.
اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه في كلِّ وقتٍ وحين، وفي كلِّ مِلَّةٍ ودين، وفي العالمين إلى يوم الدِّين .
اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه كلما ذَكركَ الذَّاكرون، وكلما غَفَلَ عن ذِكرِك الغافلون، و عدد من صلَّى عليه ، وعدد من لم يُصلِّ عليه، وعددَ أوراق الأشجار، وعدد مياهِ البحار، وعدد ما أظلمَ عليه الليل وما أضاء عليه النهار.
اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه صلاةً تكونُ لكَ رِضاءً، ولِحَقِّهِ أداءً، وأعطِهِ الوسيلة َوالفضيلةَ والمقامَ المحمودَ الذي يَغبِطُه عليه الأوَّلونَ والآخرون.
اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه كما تُحبُّ أن يُصَلَّى عليهِ، وكما ينبغي أن يُصَلَّى عليه، وكما أَمرتَ أن يُصلَّى عليه، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه صلاةً تُنجِينا من جميعِ الأهوالِ والآفاتِ، وتَقضِي لنا بها جميعَ الحاجات، وتُطهِّرنا بها من جميعِ السَّيئات، وتَرفَعنا بها إلى أعلى الدَّرجات، و تُحَلُّ بها العّقد، وتنفرِجُ بها الكرب، وتُقضى بها الحَوائِج، وتُنال بها الرَّغائِب وحُسن الخواتيم.
اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه صلاةً يَنفرِج بها كل ضيقٍ وتعسيرٍ، ونَنالُ بها كلَّ خيرٍ وتيسيرٍ، وتَشفينا من جميع الأوجاع والأسقام، وتحفظنا في اليقظة والمنام، وتَرُدُّ عنَّا نوائِب الدَّهر ومتاعبَ الأيام.
اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على النَّبي الأمِّي ، سَيِّدِنا محمد المختار، وعلى آلِهِ الأطهار، وأصحابه الأخيار .
اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على خاتمِ النَّبيين، وسيِّدِ المرسلين، و إمامِ المتقين، المبعوثِ رحمةً للعالمين، شفيعِ الأُمَّة، و كاشِف الغُمَّة، ومُجلِي الظُّلمة.
اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على النِّعمة المسداة، والرَّحمةِ المهداة، والسِّراجِ المنير، صاحبِ الشَّفاعةِ الكُبرى، والوَسيلةِ العُظمى، مَن نَصَحَ الأُمَّة، وجاهد في الله حقَّ جهادِهِ .
اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على صاحب الحوض المورود، والمقام المحمود، والمكان المشهود. اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على من بالصَّلاةِ عليهِ تُحطُّ الأوزار، وتُنال منازل الأبرار، ورحمة العزيز الغفار.
اللَّهمَّ إنا نسألُكَ من خيرِ ما سألكَ منه محمد نبيك ورسولك ، ونعوذ بك من شر ما استعاذ بك منه محمد نبيك ورسولك، اللَّهمَّ إنا نسألُك حبَّهُ.. وحُبَّ من يُحِبُّه، وحُبَّ كلِّ عملٍ يُقربُنا الى حُبِّه.
اللَّهمَّ أحينا على سُنَّتِهِ، وأمتنا على سُنَّتِهِ، واحشُرنا في زُمرَتِه، وارزُقنا شَفاعَتَه، وأورِدنا حَوضَه، واسقنا من كأسِه شربةً لا نَظمَأُ بَعدَها أبَداً، غير خزايا ولا نادمين، ولا فاتِنينَ ولا مَفتونِين، اللَّهمَّ متِّعنا برؤيةِ وجهِهِ الكريم في الدُّنيا والآخرة، وأكرِمنا بمُصاحبتِه وآله وصحبه في أعلى عِلِّيين. اللَّهمَّ اجزِهِ عنَّا أَفضل ما جازيتَ نبياً عن أُمَّتِهِ ، وصلِّ عليه وعلى جميع النبيين والمرسلين وسَلِّم تَسليماً كثيراً .
اللَّهمَّ بلِّغ نَبيكَ وحَبِيبكَ مِنَّا الآن أفضَلَ الصَّلاةِ و أَزكى السَّلامِ، اللَّهمَّ اشرح بالصلاةِ عليهِ صُدورَنا، ويَسِّر بها أُمورَنا، وفَرِّج بها همُومَنا ، واغفِر بها ذُنوبَنا، وثَبِّت بها أَقدامَنا، وبَيِّض بها وجوهَنا، واقضِ بها ديوننَا، وأصلح بها أحوالَنا، اللَّهمَّ تَقبَّل بها تَوبتَنا، واغسِل بها حوبَتَنا، وانصُر بها حُجَّتَناة، واغفِر بها ذلَّتَنا، اللَّهمَّ اجعلها نوراً من بين أيدِينا، ومِن خلفِنا، وعن أيمانِنا، وعن شمائِلنا، ومن فوقِنا، ومن تحتِنا، وفي حياتِنا، وفي مماتنِا .
اللَّهمَّ أَدِم بركَتَها علينا في الدُّنيا والآخرة، حتى نلقى حَبِيبَنا ( صلَّى الله عليه وسلم ) ونحن آمنون مُطمَئِنُّون، فَرِحون ومُستَبشِرون، اللَّهمَّ لا تُفَرِّق بيننا وبينَهُ حتى تُدخِلَنا مُدخَلَه
اللهم آآآمين
------------------------
جزاكم الله خيرا
:
لا تنسونا من صالح دعائكم
أمس في 9:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» وجوب التوكل على الله وخده لا شريك له
أمس في 3:26 pm من طرف عبدالله الآحد
» أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 5:24 pm من طرف عبدالله الآحد
» العبادة وأركانها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 2:55 pm من طرف عبدالله الآحد
» الراجح من أقوال العلماء أن جلسة الاستراحة سنة في الصلاة
الإثنين نوفمبر 18, 2024 2:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» -(( 3 -))- خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
الأحد نوفمبر 17, 2024 10:15 pm من طرف صادق النور
» لا يعلم الغيب إلا الله وحده لا شريك له
الأحد نوفمبر 17, 2024 3:12 pm من طرف عبدالله الآحد
» تابع زبدة التوحيد لنعمان بن عبد الكريم الوتر
السبت نوفمبر 16, 2024 2:15 pm من طرف عبدالله الآحد
» هيئات السجود المسنونة
الخميس نوفمبر 14, 2024 3:24 pm من طرف عبدالله الآحد
» (( - 2 -)) خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
الأربعاء نوفمبر 13, 2024 11:28 pm من طرف صادق النور