آل راشد



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

آل راشد

آل راشد

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
آل راشد

ثقافى-اجتماعى

*** - اللَّهُمَّ اَنَكَ عَفْوٍ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعِفُو عَنَّا - *** - اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك . *** - اللَّهُمَّ اُرْزُقْنَا تَوْبَةً نَصُوحًا قَبْلَ الْمَوْتِ وَ ارْزُقْنَا حُسْنَ الْخَاتِمَةِ . *** -

إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا شَابَتْ عَبِيدَهُمْ.. .. فِي رِقِّهِمْ عَتَقُوهُمْ عِتْقَ أَبْرَارٍ .. .. وَأَنْتَ يَا خَالِقِيُّ أوْلَى بِذَا كَرَمًا.. .. قَدْ شُبْتُ فِي الرِّقِّ فَأَعْتَقَنِي مِنَ النَّارِ .

المواضيع الأخيرة

» *لا إله إلا الله الحليم الكريم*
الإيمانُ باللهِ: (توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، والأُلُوهيَّةِ، والأسماءِ والصِّفاتِ)   الإيمانِ بوُجودِ اللهِ تعالى وأقسامِ التَّوحيدِ -   توحيدُ الرُّبوبيَّةِ  - توحيدُ الأُلوهيَّةِ  -   توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ                     Ooou110اليوم في 7:59 am من طرف صادق النور

» دعاء ان قراته تؤجر وعندما تقراه يرجف قلبك لاعادة قراتها
الإيمانُ باللهِ: (توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، والأُلُوهيَّةِ، والأسماءِ والصِّفاتِ)   الإيمانِ بوُجودِ اللهِ تعالى وأقسامِ التَّوحيدِ -   توحيدُ الرُّبوبيَّةِ  - توحيدُ الأُلوهيَّةِ  -   توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ                     Ooou110اليوم في 7:56 am من طرف صادق النور

»  كيف تحافظ على الصلاة ؟
الإيمانُ باللهِ: (توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، والأُلُوهيَّةِ، والأسماءِ والصِّفاتِ)   الإيمانِ بوُجودِ اللهِ تعالى وأقسامِ التَّوحيدِ -   توحيدُ الرُّبوبيَّةِ  - توحيدُ الأُلوهيَّةِ  -   توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ                     Ooou110اليوم في 7:23 am من طرف صادق النور

» ألأخلاق في ألإسلام ...ألأخلاق المحموده.. الجزء ألأول
الإيمانُ باللهِ: (توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، والأُلُوهيَّةِ، والأسماءِ والصِّفاتِ)   الإيمانِ بوُجودِ اللهِ تعالى وأقسامِ التَّوحيدِ -   توحيدُ الرُّبوبيَّةِ  - توحيدُ الأُلوهيَّةِ  -   توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ                     Ooou110اليوم في 6:47 am من طرف صادق النور

» ألأخلاق في ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني
الإيمانُ باللهِ: (توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، والأُلُوهيَّةِ، والأسماءِ والصِّفاتِ)   الإيمانِ بوُجودِ اللهِ تعالى وأقسامِ التَّوحيدِ -   توحيدُ الرُّبوبيَّةِ  - توحيدُ الأُلوهيَّةِ  -   توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ                     Ooou110اليوم في 6:41 am من طرف صادق النور

» ألأخلاق في ألإسلام .. . ألأخلاق المحموده .. الجزء الثالث
الإيمانُ باللهِ: (توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، والأُلُوهيَّةِ، والأسماءِ والصِّفاتِ)   الإيمانِ بوُجودِ اللهِ تعالى وأقسامِ التَّوحيدِ -   توحيدُ الرُّبوبيَّةِ  - توحيدُ الأُلوهيَّةِ  -   توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ                     Ooou110اليوم في 6:38 am من طرف صادق النور

» ألأخلاق في ألإسلام .( الجزء الرابع ) ألأخلاق المذمومه
الإيمانُ باللهِ: (توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، والأُلُوهيَّةِ، والأسماءِ والصِّفاتِ)   الإيمانِ بوُجودِ اللهِ تعالى وأقسامِ التَّوحيدِ -   توحيدُ الرُّبوبيَّةِ  - توحيدُ الأُلوهيَّةِ  -   توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ                     Ooou110اليوم في 6:31 am من طرف صادق النور

» أقوال العلماء في الاستغاثة بغير الله
الإيمانُ باللهِ: (توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، والأُلُوهيَّةِ، والأسماءِ والصِّفاتِ)   الإيمانِ بوُجودِ اللهِ تعالى وأقسامِ التَّوحيدِ -   توحيدُ الرُّبوبيَّةِ  - توحيدُ الأُلوهيَّةِ  -   توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ                     Ooou110أمس في 5:16 pm من طرف عبدالله الآحد

» تعليم الصبيان التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
الإيمانُ باللهِ: (توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، والأُلُوهيَّةِ، والأسماءِ والصِّفاتِ)   الإيمانِ بوُجودِ اللهِ تعالى وأقسامِ التَّوحيدِ -   توحيدُ الرُّبوبيَّةِ  - توحيدُ الأُلوهيَّةِ  -   توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ                     Ooou110الثلاثاء أبريل 30, 2024 10:00 pm من طرف عبدالله الآحد

» عقيدة السلف الصالح للشيخ المحدث محمد الطيب بن إسحاق الأنصاري المدني
الإيمانُ باللهِ: (توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، والأُلُوهيَّةِ، والأسماءِ والصِّفاتِ)   الإيمانِ بوُجودِ اللهِ تعالى وأقسامِ التَّوحيدِ -   توحيدُ الرُّبوبيَّةِ  - توحيدُ الأُلوهيَّةِ  -   توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ                     Ooou110الإثنين أبريل 29, 2024 4:19 pm من طرف عبدالله الآحد

اهلا بكم

الثلاثاء نوفمبر 08, 2011 2:32 am من طرف mohamed yousef

الإيمانُ باللهِ: (توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، والأُلُوهيَّةِ، والأسماءِ والصِّفاتِ)   الإيمانِ بوُجودِ اللهِ تعالى وأقسامِ التَّوحيدِ -   توحيدُ الرُّبوبيَّةِ  - توحيدُ الأُلوهيَّةِ  -   توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ                     Ooousu10

المتواجدون الآن ؟

ككل هناك 25 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 25 زائر :: 1 روبوت الفهرسة في محركات البحث

لا أحد


أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 624 بتاريخ الأربعاء سبتمبر 15, 2021 4:26 am

احصائيات

أعضاؤنا قدموا 9651 مساهمة في هذا المنتدى في 3195 موضوع

هذا المنتدى يتوفر على 286 عُضو.

آخر عُضو مُسجل هو عبدالرحمن فمرحباً به.

دخول

لقد نسيت كلمة السر

أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى

أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع


    الإيمانُ باللهِ: (توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، والأُلُوهيَّةِ، والأسماءِ والصِّفاتِ) الإيمانِ بوُجودِ اللهِ تعالى وأقسامِ التَّوحيدِ - توحيدُ الرُّبوبيَّةِ - توحيدُ الأُلوهيَّةِ - توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5198
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    الإيمانُ باللهِ: (توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، والأُلُوهيَّةِ، والأسماءِ والصِّفاتِ)   الإيمانِ بوُجودِ اللهِ تعالى وأقسامِ التَّوحيدِ -   توحيدُ الرُّبوبيَّةِ  - توحيدُ الأُلوهيَّةِ  -   توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ                     Empty الإيمانُ باللهِ: (توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، والأُلُوهيَّةِ، والأسماءِ والصِّفاتِ) الإيمانِ بوُجودِ اللهِ تعالى وأقسامِ التَّوحيدِ - توحيدُ الرُّبوبيَّةِ - توحيدُ الأُلوهيَّةِ - توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ

    مُساهمة من طرف صادق النور الثلاثاء نوفمبر 28, 2023 9:36 pm

    [color:9f27=#003300]الإيمانُ باللهِ: (توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، والأُلُوهيَّةِ، والأسماءِ والصِّفاتِ)
    الإيمانِ بوُجودِ اللهِ تعالى وأقسامِ التَّوحيدِ -
    توحيدُ الرُّبوبيَّةِ - توحيدُ الأُلوهيَّةِ - توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ


    أولاً : مَعرِفةُ اللهِ


    إنَّ أوَّلَ ما يَجِبُ على الإنسانِ مَعرِفتُه هو أن يعرِفَ اللهَ عزَّ وجلَّ.

    قال اللهُ تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد: 19] .

    قال البُخاريُّ في (بابِ العِلمِ قَبْلَ القَولِ والعَمَلِ) من صحيحِه: (فبدأَ بالعِلْمِ) .

    وقال ابنُ القيِّمِ مُعَلِّقًا على هذه الآيةِ الكريمةِ: (فالعِلمُ بوحدانيَّتِه تعالى وأنَّه لا إلهَ إلَّا هو: مطلوبٌ لذاتِه، وإن كان لا يُكتفى به وَحْدَه، بل لا بُدَّ معه من عبادتِه وَحْدَه لا شريكَ له، فهما أمرانِ مَطلوبان لأنفُسِهما؛ أن يُعرَفَ الرَّبُّ تعالى بأسمائِه وصِفاتِه وأفعالِه وأحكامِه، وأن يُعبَدَ بموجِبِها ومقتضاها، فكما أنَّ عِبادتَه مَطلوبةٌ مرادةٌ لذاتِها، فكذلك العِلمُ به ومَعرِفتُه) .

    وعن عثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((من مات وهو يَعلَمُ أنَّه لا إله إلَّا اللهُ، دَخَل الجنَّةَ )) .
    في هذا الحديثِ يوضِّحُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَضْلَ العِلمِ بكَلِمةِ التَّوحيدِ، والموتِ على ذلك، وضِدُّ العِلمِ: الجَهلُ، وهو الذي أوقع أهلَ الضَّلالِ مِن هذه الأُمَّةِ في مُخالفةِ معناها، وتَرْكِ العَمَلِ بمُقتضاها .

    وعن عليِّ بنِ الحَسَنِ بنِ شقيقٍ قال: سألتُ عبدَ اللهِ بنَ المبارَكِ: كيف ينبغي لنا أن نعرِفَ ربَّنا عزَّ وجلَّ؟ قال: (على السَّماءِ السَّابعةِ على عَرْشِه، ولا نقولُ كما تقولُ الجَهْميَّةُ: إنَّه هاهنا في الأرضِ) .

    وقال أبو الحَسَنِ الأشعَرِيُّ: (أجمَعوا على أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دعا جميعَ الخَلْقِ إلى مَعرِفة اللهِ) .

    وقال الخَطَّابي: (القولُ فيما يجِبُ من مَعرِفةِ اللهِ سُبحانَه وتعالى:
    أوَّلُ ما يجِبُ على من يلزمُه الخِطابُ: أن يعلَمَ أنَّ للعالَمِ بأسِره صانِعًا، وأنَّه هو اللهُ الواحِدُ لا شريكَ له
    ) .

    وقال ابنُ مَنْدَه: (ذِكرُ الدَّليلِ على أنَّ المجتهِدَ المُخطئَ في مَعرِفةِ الله عزَّ وجلَّ ووحدانيَّتِه كالمعانِدِ:
    قال الله تعالى مخبرًا عن ضلالتِهم ومُعاندتِهم
    : قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف: 103-104] ،

    وقال عليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه لَمَّا سُئِلَ عن الأخسَرِينَ أعمالًا، فقال: (كَفَرةُ أهلِ الكِتابِ، كان أوائِلُهم على حقٍّ، فأشركوا برَبِّهم عزَّ وجلَّ، وابتَدَعوا في دِينِهم، وأحدَثوا على أنفُسِهم، فهم يجتَمِعون في الضَّلالةِ، ويَحسَبون أنَّهم على هدًى، ويجتَهِدون في الباطِلِ، ويَحسَبون أنَّهم على حقٍّ، ضَلَّ سعيُهم في الحياةِ الدُّنيا، وهم يَحسَبونَ أنَّهم يُحسِنون صُنعًا!) .
    وقال أبو بكرٍ الخوارزميُّ: (بيانُ أنَّ مَعرِفةَ اللهِ تعالى واجبةٌ بالآياتِ الدَّالَّةِ عليها، وإجماعِ الأمَّةِ؛ فأمَّا الآياتُ
    فقَولُه تعالى
    : فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد: 19] ، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ [الأنفال: 40] ، قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [يونس: 101] ، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [البقرة: 164]
    حتى قال العُلَماءُ: نزلت ثلاثُمائةِ آيةٍ في الحثِّ على النَّظَرِ والمَعرِفةِ، والإجماعُ مُنعَقِدٌ على ذلك) .

    وقال الحليميُّ: (لا شيءَ أعوَدُ على العاقِلِ مِن مَعرِفةِ اللهِ تعالى بصفاتِه، ومَعرِفةِ ما يُرضيه عنه؛ ليأتيَه) .

    وقال اللَّالَكائيُّ: (إنَّ أوجَبَ ما على المرءِ: مَعرِفةُ اعتقادِ الدِّينِ، وما كَلَّف اللهُ به عبادَه؛ مِن فَهمِ توحيدِه وصفاتِه، وتَصديقِ رُسُلِه بالدَّلائِلِ واليقينِ) .
    وقال السِّجزيُّ: (اتَّفَق السَّلَفُ على أنَّ مَعرِفةَ اللهِ مِن طَريقِ العَقلِ مُمكِنةٌ غيرُ واجبةٍ، وأنَّ الوُجوبَ من طريقِ السَّمعِ؛ لأنَّ الوعيدَ مقترِنٌ بذلك؛ قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] ) .
    وقال البَيهقيُّ: (فَصلٌ في مَعرِفةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ومَعرِفةِ صفاتِه وأسمائِه. حقيقةُ المَعرِفة أنْ نعَرفَه موجودًا قديمًا، لم يَزَلْ ولا يَفنى، أحدًا صَمَدًا شَيئًا واحِدًا) .

    وقال الغزاليُّ: (العِلمُ الأشرَفُ ما معلومُه أشرَفُ، وأشرَفُ المعلوماتِ هو اللهُ تعالى؛ فلذلك كانت مَعرِفةُ اللهِ تعالى أفضَلَ المعارِفِ، بل مَعرِفةُ سائِرِ الأشياءِ أيضًا إنَّما تَشرُفُ؛ لأنَّها مَعرِفةٌ لأفعالِ اللهِ عزَّ وجلَّ أو مَعرِفةٌ للطَّريقِ الذي يقرِّبُ العبدَ من اللهِ عزَّ وجلَّ، أو الأمرِ الذي يَسهُلُ به الوصولُ إلى مَعرِفةِ اللهِ تعالى والقُرْبِ منه، وكلُّ مَعرِفةٍ خارجةٍ عن ذلك فليس فيها كثيرُ شَرَفٍ) .

    وقال أبو القاسمِ الأصبَهانيُّ: (قال عُلَماءُ السَّلَفِ: أوَّلُ ما افتَرَض اللهُ على عبادِه الإخلاصُ، وهو مَعرِفةُ اللهِ والإقرارُ به، وطاعتُه بما أمَرَ ونهى، وأوَّلُ الفَرْضِ شهادةُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَه لا شريكَ له، وأنَّ محمدًا عبدُه ورَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) .

    وقال ابنُ أبي الخير العِمرانيُّ: (أمَرَ اللهُ نبيَّه أن يسألَه زيادةَ علمٍ، فقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه: 114] ، وأجَلُّ المعارفِ المَعرِفةُ باللهِ) .
    وقال ابنُ تيميَّةَ: (مَن عَرَف أسماءَ اللهِ ومَعانيَها وآمَنَ بها، كان إيمانُه أكمَلَ ممَّن لم يَعرِفْ تلك الأسماءَ، بل آمَنَ بها إيمانًا مجمَلًا، أو عَرَف بعضَها، وكلَّما ازداد الإنسانُ مَعرِفةً بأسماءِ اللهِ وصِفاتِه وآياتِه، كان إيمانُه به أكمَلَ) .
    وقال أيضًا: (كان أهلُ المَعرِفةِ بالله متَّفِقينَ على أنَّه لا يَتمُّ مَعرِفةُ عبدٍ برَبِّه، ويَتِمُّ قَصدُه له وتوجُّهه إليه ودُعاه له إلَّا بإقرارِه بأنَّه فَوقَ العالَمِ، وأنَّه بإقرارِه بذلك تَثبتُ الإلهيَّةُ في قَلْبِه، ويصيرُ له ربٌّ يَعبُدُه ويَقصِده، وبدون ذلك لا يبقى قَلْبُه مُستَقِرًّا مُطمَئِنًّا إلى إلهٍ يَعبُدُه ويَقصِدُه، بل يبقى عِندَه مِنَ الرَّيبِ والاضطرابِ ما يَجِدُه من جَرَّب قَلْبَه في هذه الأسبابِ، كما قال الشَّيخُ أبو جَعفرٍ الهمذانيُّ: ما قال عارفٌ قطُّ: يا اللهُ، إلَّا وَجَد في قلبِه ضرورةً تَطلُبُ العُلُوَّ، ولا تلتفِتُ يَمنةً ولا يَسْرةً) .
    وقال أيضًا مبيِّنًا بَعضَ الطُّرُقِ التي تُنالُ بها مَعرِفةُ الله تعالى: (يجِبُ على من أراد أن يَعرِفَ اللهَ تعالى المَعرِفةَ التامَّةَ أن يفحَصَ عن منافِعِ جَميعِ الموجوداتِ، وأمَّا دلالةُ الاختراعِ فيَدخُلُ فيها وجودُ الحيوانِ كلِّه، ووجودُ النَّباتِ، ووجودُ السَّمواتِ، وهذه الطَّريقةُ تنبني على أصلينِ موجودينِ بالقوَّةِ في جميعِ فِطَرِ النَّاسِ:
    أحَدُهما: أنَّ هذه الموجوداتِ مُختَرَعةٌ، وهذا معروفٌ بنَفْسِه في الحيوانِ والنَّباتِ،
    كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج: 73] الآية؛ فإنَّا نرى أجسامًا جماديَّةً، ثمَّ تحدُثُ فيها الحياةُ، فنعلَمُ قَطعًا أنَّ هاهنا مُوجِدًا للحياةِ ومُنعِمًا بها، وهو اللهُ تبارك وتعالى، وأمَّا السَّمواتُ فنَعلمُ مِن قِبَلِ حَرَكاتِها التي لا تَفتُرُ أنَّها مأمورةٌ بالعنايةِ بما هاهنا، ومُسَخَّرةٌ لنا، والمسخَّرُ المأمورُ، مخترَعٌ مِن قِبَل غَيرِه ضرورةً.
    وأمَّا الأصلُ الثَّاني: فهو أنَّ كلَّ مخترَعٍ فله مُخترِعٌ.
    فيصحُّ من هذين الأصلَينِ أنَّ للموجودِ فاعِلًا مُخترِعًا له، وفي هذا الجِنسِ دلائِلُ كثيرةٌ على عَدَدِ المختَرَعاتِ؛ ولذلك كان واجبًا على من أراد أن يَعرِفَ اللهَ حَقَّ مَعرِفتِه أن يَعرِفَ جواهِرَ الأشياءِ؛ ليَقِفَ على الاختراعِ الحقيقيِّ في جميعِ الموجوداتِ؛ لأنَّ مَن لم يعرِفْ حقيقةَ الشَّيءِ لم يَعرِفْ حقيقةَ الاختراعِ؛
    ولهذا أشار تعالى وتقدَّس بقَولِه
    : أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ [الأعراف: 185] ،
    وكذلك أيضًا مَن تتبَّعَ معنى الحِكمةِ في موجودٍ موجودٍ -أعني: مَعرِفةَ السَّبَبِ الذي من أجْلِه خُلِقَ، والغايةِ المقصودةِ به- كان وقوفُه على دليلِ العنايةِ أتمَّ، فهذان الدَّليلانِ هما دليلا الشَّرعِ.
    وأمَّا أنَّ الآياتِ المنبِّهةَ على الأدِلَّةِ المُفضِيةِ إلى وُجودِ الصَّانعِ سُبحانَه في الكِتابِ العزيزِ هي مُنحَصِرةٌ في هذينِ الجِنْسينِ من الأدلَّةِ، فهذا بيِّنٌ لمن تأمَّل الآياتِ الواردةَ في الكِتابِ العزيزِ في هذا المعنى، وذلك أنَّ الآياتِ في الكِتابِ العزيزِ في هذا المعنى إذا تُصُفِّحَت
    وُجِدَت على ثلاثةِ أنواعٍ:
    - إمَّا آياتٌ تتضمَّنُ التَّنبيهَ على دَلالةِ العنايةِ.
    - وإمَّا آياتٌ تتضَمَّنُ التَّنبيهَ على دَلالةِ الاختراعِ.
    - وإمَّا آياتٌ تَجمَعُ الأمرينِ مِن الدَّلالةِ جَميعًا) .


    وقال ابنُ جماعةَ: (عِلمُ التَّوحيدِ عِلمٌ يُعنى بمَعرِفةِ اللهِ تعالى والإيمانِ به، ومَعرِفةِ ما يجِبُ له سُبحانَه وما يستحيلُ عليه، وما يجوزُ، وسائرِ ما هو من أركانِ الإيمانِ الستَّةِ، ويَلحَقُ بها، وهو أشرَفُ العُلومِ وأكرمُها على اللهِ تعالى؛ لأنَّ شَرَفَ العلمِ يَتْبَع شَرَفَ المعلومِ، لكِنْ بشَرطِ ألَّا يَخرُجَ عن مدلولِ الكِتابِ والسُّنَّةِ الصَّحيحةِ، وإجماعِ العُدولِ، وفَهْمِ العُقولِ السَّليمةِ في حُدودِ القَواعدِ الشَّرعيَّةِ، وقواعدِ اللُّغةِ العربيَّةِ الأصيلةِ) .

    وقال ابنُ القَيِّمِ: (لا يَستَقِرُّ للعَبدِ قَدَمٌ في المَعرِفة، بل ولا في الإيمانِ، حتى يؤمِنَ بصفاتِ الرَّبِّ جلَّ جلالُه، ويَعرِفَها مَعرِفةً تُخرِجُه عن حدِّ الجَهلِ برَبِّه، فالإيمانُ بالصِّفاتِ وتعَرُّفُها: هو أساسُ الإسلامِ، وقاعِدةُ الإيمان، وثَمَرةُ شَجرةِ الإحسانِ؛ فمن جَحَد الصِّفاتِ فقد هَدَم أساسَ الإسلامِ والإيمانِ، وثَمَرةَ شَجَرةِ الإحسانِ، فضلًا عن أن يكونَ من أهلِ العِرْفانِ) .

    وقال ابنُ رَجَبٍ: (لا صلاحَ للقُلوبِ حتى يستقِرَّ فيها مَعرِفةُ اللهِ وعَظَمتُه ومَحبَّتُه وخَشيتُه ومَهابتُه ورَجاؤُه والتوَكُّلُ عليه، وتمتَلِئَ من ذلك، وهذا هو حقيقةُ التَّوحيدِ، وهو معنى قَولِ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، فلا صلاحَ للقُلوبِ حتى يكونَ إلهُها الذي تألَهُه وتَعرِفُه وتُحبُّه وتخشاه هو اللهَ وَحْدَه لا شريكَ له) .
    وقال ابنُ رَجَبٍ أيضًا: (العِلمُ النَّافِعُ يدلُّ على أمرَينِ:
    أحَدُهما: على مَعرِفةِ اللهِ، وما يَستَحِقُّه من الأسماءِ الحُسنى، والصِّفاتِ العُلا، والأفعالِ الباهِرةِ، وذلك يَستلزِمُ إجلالَه وإعظامَه، وخَشْيتَه ومهابتَه، ومحبَّته ورجاءَه، والتوكُّلَ عليه، والرِّضا بقَضائهِ، والصَّبرَ على بلائِه.
    والأمرُ الثَّاني: المَعرِفةُ بما يحبُّه ويرضاه، وما يَكرَهُه ويَسخَطُه من الاعتِقاداتِ والأعمالِ الظَّاهرةِ والباطِنةِ والأقوالِ، فيُوجِبُ ذلك لِمَن عَلِمَه المسارَعةَ إلى ما فيه محبَّةُ اللهِ ورِضاه، والتَّباعُدَ عما يَكرَهُه ويَسخَطُه، فإذا أثمَرَ العِلمُ لصاحِبِه هذا فهو عِلمٌ نافِعٌ، فمتى كان العِلمُ نافعًا، ووقَرَ في القَلبِ؛ فقد خَشَع القلبُ لله، وانكسَرَ له، وذَلَّ هيبةً وإجلالًا وخَشيةً ومحبَّةً وتعظيمًا، ومتى خَشَع القلبُ لله وذَلَّ وانكسَرَ له قَنَعت النَّفسُ بيسيرِ الحَلالِ مِن الدُّنيا، وشَبِعت به؛ فأوجب لها ذلك القناعةَ والزُّهدَ في الدُّنيا) .
    وقال ابنُ الوَزيرِ: (مَعرِفةُ اللهِ جَليَّةٌ في الفِطرةِ، سابقةٌ للشَّكِّ، كما قال تعالى: قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [إبراهيم: 10] ؛ ولذلك قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((كلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفِطرةِ ))... الحديث) .
    وقال محمَّدُ بنُ عبدِ الوَهَّابِ: (اعلمْ -رَحِمَك الله- أنَّه يجِبُ علينا تعلُّمُ أربعِ مَسائِلَ.
    الأُولى: العِلمُ: وهو مَعرِفةُ اللهِ، ومَعرِفةُ نبيِّه، ومَعرِفةُ دينِ الإسلامِ بالأدلَّةِ.
    الثَّانيةُ: العَمَلُ به.
    الثَّالِثةُ: الدَّعوةُ إليه.
    الرَّابِعةُ: الصَّبرُ على الأذى فيه) .

    وقال عبدُ اللهِ أبا بطين: (أفرَضُ العُلومِ: مَعرِفةُ اللهِ سُبحانَه بأسمائِه وصِفاتِه، ومَعرِفةُ حَقِّه على عِبادِه، الذي خَلَق الجِنَّ والإنسَ لأجْلِه، وهو توحيدُ الأُلوهيَّةِ الذي أرسَلَ به جميعَ الرُّسُلِ، وأنزل به جميعَ الكُتُبِ، قال سُبحانَه: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد: 19] ، وقال: فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [هود: 14] أي: واعلَموا أنْ لا إلهَ إلَّا هو، وقال: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ [إبراهيم: 52] ؛ فبَيَّن سُبحانَه أنَّ من الحكمةِ في إنزالِ القُرآنِ لِيعلَمَ النَّاسُ بما فيه من الحُجَجِ والبَراهينِ أنَّه هو المستَحِقُّ للأُلُوهيَّةِ وَحْدَه، ففَرَض على عبادِه العِلمَ بأنَّه الإلهُ وَحْدَه، وأخبَرَ أنَّه ضَمَّن كتابَه من الأدِلَّةِ والبراهينِ ما يَدُلُّ على ذلك، فتعيَّنَ على كلِّ مُكَلَّفٍ مَعرِفةُ لا إلهَ إلَّا اللهُ، الذي هو أصلُ الأُصولِ، وأوجَبُ العُلومِ) .

    وقال ابنُ عُثيمين: (مَعرِفةُ اللهِ سُبحانَه وتعالى نوعانِ:...
    - مَعرِفةُ وجودٍ ومَعانٍ.
    - ومَعرِفةُ كُنْهٍ وحقيقةٍ.
    أما مَعرِفةُ الوُجودِ والمعاني فهذا هو المطلوبُ مِنَّا.
    وأما مَعرِفةُ الكُنْهِ والحقيقةِ فهذا غيرُ مَطلوبٍ مِنَّا، فلا أحدَ يَعرِفُ حقيقةَ ذاتِ اللهِ سُبحانَه وتعالى، ولا حقيقةَ صِفاتِه، والوصولُ إلى ذلك مُستحيلٌ)
    .

    ثانياً : وجودُ اللهِ


    إنَّ وجودَ الله عزَّ وجلَّ أمرٌ فِطْريٌّ، مغروزٌ في النَّفسِ البَشَريَّةِ.
    - قال اللهُ تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا... [الأعراف: 172] .
    أي: اذكُرْ -يا مُحمَّدُ- حين استخرجَ ربُّك ذريَّةَ بني آدَمَ؛ بَعضَهم من ظهورِ بَعضٍ، وأخرَجَ جميعَ ذلك من صُلبِ آدَمَ؛ ليأخُذَ عليهم العَهدَ فقرَّرَهم على توحيدِه، فقال لهم: ألسْتُ أنا خالِقَكم ومَعبُودَكم؟ فقالوا: قد أقرَرْنا بذلك .

    وعن أبي هُريرةَ رَضِي اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لَمَّا خلَقَ اللهُ آدمَ مَسحَ ظَهرَه، فسقَطَ مِن ظَهرِه كُلُّ نَسَمةٍ هو خالِقُها مِن ذُرِّيَّتِه إلى يومِ القيامةِ )) .

    وعن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يقولُ اللهُ تعالى لأهوَنِ أهلِ النَّارِ عَذابًا يومَ القيامةِ: لو أنَّ لك ما في الأرضِ مِن شَيءٍ، أكنتَ تَفتَدِي به؟ فيقولُ: نعم، فيقولُ: أردتُ منك أهوَنَ من هذا وأنت في صُلبِ آدَمَ: ألَّا تُشرِكَ بي شيئًا، فأبيتَ إلَّا أن تُشرِكَ بي )) .

    وقال ابنُ عاشور في تفسيرِ قَولِه تعالى: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ [الرعد: 20] : (المرادُ به الإيمانُ الذي أخذه اللهُ على الخَلْقِ، المشارُ إليه بقَولِه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ...، فذلك عَهْدُهم ربَّهم. وأيضًا بقَولِه: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي [يس: 60-61] ،
    وذلك عَهدُ اللهِ لهم بأن يعبُدوه ولا يعبُدوا غيره، فحصل العهدُ باعتبارِ إضافتِه إلى مفعولِه وإلى فاعِلِه. وذلك أمرٌ أودَعَه اللهُ في فِطرةِ البَشَرِ، فنشأ عليه أصلُهم وتقَلَّده ذُرِّيَّتُه، واستمَرَّ اعترافُهم لله بأنَّه خالقُهم. وذلك من آثارِ عَهدِ اللهِ. وطرأ عليهم بعد ذلك تحريفُ عَهدِهم، فأخذوا يتناسَون وتشتَبِهُ الأمورُ على بعضِهم، فطرأ عليهم الإشراكُ لتفريطِهم النَّظَرَ في دلائِلِ التوحيدِ، ولأنَّه بذلك العَهدِ قد أودع اللهُ في فطرةِ العُقولِ السَّليمةِ دلائِلَ الوحدانيَّةِ لِمن تأمَّل وأسلم للدَّليل،ِ ولكِنَّ المُشرِكين أعرضوا وكابروا ذلك العهدَ القائِمَ في الفطرةِ؛ فلا جَرَمَ أنْ كان الإشراكُ إبطالًا للعَهدِ ونقضًا له؛ ولذلك عُطِفت جملةُ: وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ على جملةِ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ) .
    - وقال اللهُ سُبحانَه: قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [إبراهيم: 10] .

    قال ابنُ كثيرٍ: (هذا يحتَمِلُ شيئينِ: أحدُهما: أفي وجودِه شَكٌّ؟! فإنَّ الفِطَرَ شاهدةٌ بوُجودِه، ومجبولةٌ على الإقرارِ به؛ فإنَّ الاعترافَ به ضروريٌّ في الفِطَرِ السَّليمةِ... والمعنى الثَّاني: في قَولِهم: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ، أي: أفي إلهيَّتِه وتفرُّدِه بوُجوبِ العِبادةِ له شكٌّ؟! وهو الخالِقُ لجَميعِ الموجوداتِ، ولا يستحِقُّ العبادةَ إلَّا هو وَحدَه لا شَريكَ له؛ فإنَّ غالبَ الأمَم كانت مُقِرَّةً بالصَّانِعِ، ولكِنْ تعبُدُ معه غيرَه من الوَسائطِ التي يظنُّونها تنفَعُهم أو تقَرِّبُهم مِن اللهِ زُلفى) .

    وعن عِياضٍ المُجاشِعيِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال فيما يرويه عن ربِّه: ((إنِّي خَلقتُ عبادي حُنَفاءَ كُلَّهم، وإنَّهم أتَتْهم الشيَّاطينُ فاجتالَتْهم عن دينِهم، وحَرَّمَت عليهم ما أحلَلْتُ لهم، وأمرَتْهم أن يُشرِكوا بي ما لم أُنَزِّلْ به سُلْطانًا )) .
    وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما من مولودٍ إلَّا يُولَدُ على الفِطرةِ، فأبواه يُهَوِّدانِه أو يُنَصِّرانِه أو يُمَجِّسانِه، كما تُنتَجُ البهيمةُ بهَيمةً جمعاءَ، هل تُحِسُّون فيها من جَدْعاءَ؟ ))
    ثمَّ يقولُ أبو هُريرةَ: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الروم: 30] .

    قال أبو الوليد الباجي: (الفِطرةُ في كلامِ العَرَبِ: الخِلْقةُ؛ يقال: فَطَر اللهُ الخَلْقَ، بمعنى: خلَقَهم، وهو في الشَّرعِ: الحالةُ التي خُلِقوا عليها من الإيمانِ والمعرفةِ والإقرارِ بالرُّبوبيَّةِ؛ فمعنى هذا الحديثِ: أنَّ كُلَّ مولودٍ يُولَدُ على الفِطرةِ التي خُلِقَ عليها من الإيمانِ) .

    وقال ابنُ الوزيرِ اليماني: (إنَّ اللهَ تعالى قد فَطَر الخَلْقَ على مَعرفتِه، كما قال تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الروم: 30] ، وأوضح ذلك رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وزاده بيانًا بقَولِه: ((كلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفِطرةِ))، واتَّفَق الكُلُّ على صحَّتِه، وهذه الفِطرةُ تقتضي الإيمانَ بنَفْسِها، وتُرجِّحُه على ما ينافيه... فمن قَبِلَها، ولم يُعارِضْها بما هو دُونهَا مِن شُبَهِ المُبطِلين، أثابه اللهُ الزِّيادةَ في إيمانِه، ومَن عصى بعِنادٍ أو تقليدٍ لأبَوَيه أو شُيوخِه، استحَقَّ العُقوبةَ، كما قال تعالى: كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام: 110] ) .

    وقال ابنُ أبي العِزِّ: (لا شَكَّ أنَّ الإقرارَ بالرُّبوبيَّةِ أمرٌ فِطْريٌّ، والشِّركَ حادِثٌ طارِئٌ، والأبناءُ تقَلَّدوه عن الآباءِ، فإذا احتجُّوا يومَ القيامةِ بأنَّ الآباءَ أشركوا ونحن جَرَينا على عادتِهم كما يجري النَّاسُ على عادةِ آبائِهم في المطاعِمِ والملابِسِ والمساكنِ،ِ يُقالُ لهم: أنتم كنتُم مُعترفينَ بالصَّانعِ، مُقِرِّين بأنَّ اللهَ رَبُّكم لا شَريكَ له، وقد شَهِدتُم بذلك على أنفُسِكم) .

    وقال ابنُ رجَبٍ: (العِبادُ وإن كانوا مَفطورينَ على مَعرِفةِ اللهِ ومحبَّته وتألُّهِه، فإنَّ كُلَّ مولودٍ يُولَدُ على الفِطرةِ، وهي سلامةُ القَلبِ، وقَبولُه وإرادتُه للحَقِّ الذي هو الإسلامُ، وتهيُّؤُه له، لكِنَّهم محتاجون أشدَّ الحاجةِ إلى ما يَحمِلُ به قوَّتَهم العِلْميَّةَ والعَمَليَّةَ، وهو العلِمُ النَّافِعُ والعَمَلُ الصَّالِحُ، وبذلك يَصيرون مُسلِمينَ بالفِعلِ، بعد أن كانوا مُسلِمينَ بالقوَّةِ؛ فلذلك أرسل اللهُ الرُّسُلَ، وأنزل معهم الكُتُبَ؛ ليُرشِدوا الخَلْقَ إلى ما فيه سَعادتُهم وفَلاحُهم في دُنياهم وآخِرتِهم) .

    وقال علي القاري: (في فِطرةِ الخَلْقِ إثباتُ وُجودِ الباري... ولهذا لم يُبعَثِ الأنبياءُ إلَّا للتوحيدِ أي: توحيدِ العِبادةِ، لا لإثباتِ وُجودِ الصَّانِعِ) .
    ووجودُ الله سُبحانَه ضَرورةٌ عقليَّةٌ، فلا يُمكِنُ لعَقلٍ سَليمٍ صَحيحٍ أن يُنكِرَ وُجودَه.
    قال اللهُ تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور: 35].

    قال أبو الحَسَنِ الأشعريُّ: (إنَّ القُطنَ لا يجوزُ أن يتحَوَّلَ غَزلًا مفتولًا، ثمَّ ثوبًا منسوجًا بغيرِ ناسجٍ ولا صانعٍ ولا مُدَبِّرٍ، ومن اتَّخَذ قطنًا ثم انتظر أن يصيرَ غزلًا مفتولًا، ثم ثوبًا منسوجًا بغير صانعٍ ولا ناسجٍ، كان عن المعقولِ خارجًا، وفي الجَهلِ والجًا، وكذلك من قصد إلى بَرِّيَّة لم يجد فيها قصرًا مبنيًّا، فانتظر أن يتحوَّلَ الطِّينُ إلى الآجُرِّ، وينتَضِدَ بعضُه على بعضٍ بغيرِ صانعٍ ولا بانٍ، كان جاهلًا، وإذا كان تحوُّلُ النُّطفةِ عَلَقةً، ثمَّ مُضغةً، ثمَّ لحمًا ودمًا وعظمًا؛ أعظَمَ في الأعجوبةِ- كان أَولى أن يدُلُّ على صانعٍ صَنَع النُّطفةَ، ونقَلَها من حالٍ إلى حالٍ، وقد قال اللهُ تعالى: أَفَرَءَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * ءَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَه أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ [الواقعة: 58-59] ، فما استطاعوا أن يقولوا بحُجَّةٍ: إنَّهم يَخُلقون ما يُمْنُون، مع تمنِّيهم الوَلَدَ فلا يكونُ، ومع كراهيتِهم له فيكونُ، وقد قال اللهُ تعالى منبِّهًا لخَلْقِه على وحدانيَّتِه: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21]، بَيَّن لهم عَجْزَهم وفَقْرَهم إلى صانِعٍ صَنَعَهم، ومُدَبِّرٍ دَبَّرَهم) .

    وقال ابنُ تيميَّةَ: (قد عُلِمَ بضَرورةِ العَقلِ أنَّه لا بُدَّ مِن موجودٍ قديمٍ غنيٍّ عمَّا سواه؛ إذ نحن نشاهِدُ حُدوثَ المحدَثاتِ، كالحيوانِ والمعدِنِ والنَّباتِ، والحادِثُ ممكنٌ ليس بواجِبٍ ولا ممتَنِعٍ، وقد عُلِمَ بالاضطرارِ أنَّ المحدَثَ لا بدَّ له من محدِثٍ، والممكِنَ لا بدَّ له من واجبٍ، كما قال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور: 35]، فإذا لم يكونوا خُلِقوا من غيرِ خالِقٍ، ولا هم الخالِقون لأنفُسِهم، تعيَّنَ أنَّ لهم خالقًا خلقَهم) .

    وقال ابنُ كثيرٍ في تفسيرِه لهذه الآيةِ الكريمةِ: (هذا المقامُ في إثباتِ الرُّبوبيَّةِ وتوحيدِ الأُلوهيَّةِ... أي: أَوُجِدُوا من غير مُوجِدٍ؟! أم هم أوجَدوا أنفُسَهم؟! أي: لا هذا ولا هذا، بل اللهُ هو الذي خلَقَهم وأنشَأَهم بعد أن لم يكونوا شيئًا مَذكورًا!) .
    وقال الكمالُ بنُ الهمامِ بعد أن ذَكَر جُملةً من الآياتِ في خَلْقِ الأرَضينَ والسَّمَاواتِ والإنسانِ والنَّباتِ: (فمن أدار نَظَرَه في عجائِبِ تلك المذكوراتِ اضطرَّه إلى الحُكمِ بأنَّ هذه الأمورَ مع هذا الترتيبِ المحكَمِ الغريبِ، لا يستغني كلٌّ عن صانعٍ أوجَدَه، وحكيمٍ رَتَّبه، وعلى هذا درَجَت كُلُّ العُقلاءِ إلَّا من لا عِبرةَ بمكابَرتِهم) .
    وكونُ الخالِقِ والمَخلوقِ يَشتَرِكانِ في صِفةِ الوُجودِ لا يعني أنَّ صِفةَ وُجودِهما واحِدةٌ.
    وجودُ الخالقِ غيرُ وجودِ المخلوقِ، فلكُلٍّ منهما ما يناسِبُه ويختَصُّ به، ومن ذلك أنَّ وجودَ اللهِ تعالى لم يسبِقْه عَدَمٌ، ولا يَلحَقُه زوالٌ، بخلافِ جمَيعِ المخلوقاتِ، فهي حادثةٌ بعد أن كانت عدَمًا، ثمَّ مَصيرُها في الدُّنيا إلى فَناءٍ.
    قال اللهُ تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد: 3] .

    وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: أتت فاطمةُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تسألُه خادِمًا، فقال لها: ((قُولي: اللهمَّ رَبَّ السَّمَواتِ، وربَّ الأرضِ، ورَبَّ العَرْشِ العَظيمِ، ربَّنا ورَبَّ كُلِّ شَيءٍ، فالِقَ الحَبِّ والنَّوى، ومُنزِلَ التَّوراةِ والإنجيلِ والفُرقانِ، أعوذُ بك من شَرِّ كلِّ شَيءٍ أنت آخِذٌ بناصيتِه، اللهمَّ أنت الأوَّلُ فليس قَبْلَك شيءٌ، وأنت الآخِرُ فليس بَعْدَك شيءٌ، وأنت الظَّاهِرُ فليس فوقَك شيءٌ، وأنت الباطِنُ فليس دُونَك شيءٌ؛ اقْضِ عنَّا الدَّينَ، وأغنِنا مِنَ الفَقرِ )) .
    قال ابنُ الوزيرِ اليماني عن صِفةِ الوُجودِ والحياةِ: (يُطلَقانِ على اللهِ تعالى على صِفةِ الكَمالِ الذي لا يَستلزِمُ صِفةَ نَقص،ٍ وعلى عِبادِه على وُجوهٍ تَستَلزِمُ جوازَ الفَناءِ والموتِ والمرَضِ، واعتراضَ الآفاتِ والعِلَلِ) .

    وقال ابنُ تيميَّةَ: (إذا كان من المعلومِ بالضَّرورةِ أنَّ في الوُجودِ ما هو قديمٌ واجبٌ بنَفْسِه، وما هو مُحدَثٌ مُمكِنٌ، يَقبلُ الوجودَ والعَدَمَ، فمعلومٌ أن هذا موجودٌ، وهذا موجودٌ، ولا يلزمُ من اتفاقِهما في مسمَّى «الوجودِ» أن يكونَ وجودُ هذا مِثلَ وُجودِ هذا، بل وجودُ هذا يخصُّه، ووجودُ هذا يخصُّه، واتفاقُهما في اسمٍ عامٍّ لا يقتضي تماثُلَهما في مُسَمَّى ذلك الاسمِ عند الإضافةِ والتَّقييدِ والتَّخصيصِ، ولا في غيرِه) .

    وقال ابنُ أبي العِزِّ: (كلُّ من نفى صفةً من صِفاتِ اللهِ تعالى؛ لامتِناعِ مسمَّى ذلك في المخلوقِ؛ فإنَّه لا بدَّ أن يُثبِتَ شَيئًا لله تعالى على خِلافِ ما يَعهَدُه حتى في صفةِ الوُجودِ؛ فإنَّ وجودَ العَبدِ كما يليقُ به، ووجودَ الباري تعالى كما يليقُ به، فوجودُه تعالى يَستحيلُ عليه العَدَمُ، ووجودُ المخلوقِ لا يستحيلُ عليه العدَمُ، وما سمَّى به الرَّبُّ نَفْسَه وسمَّى به مخلوقاتِه، مِثلُ الحَيِّ والعَليمِ والقَديرِ، أو سمَّى به بَعضَ صِفاتِه، كالغَضَبِ والرِّضا، وسمَّى به بَعضَ صفاتِ عِبادِه؛ فنحن نعقِلُ بقُلوبِنا معانيَ هذه الأسماءِ في حقِّ اللهِ تعالى، وأنَّه حقٌّ ثابتٌ موجودٌ، ونعقِلُ أيضًا معانيَ هذه الأسماءِ في حقِّ المخلوقِ، ونَعقِلُ أنَّ بيْن المعنيينِ قَدْرًا مُشتَركًا) .
    وجاء في فتاوى اللَّجنةِ الدَّائِمةِ: (وجودُ الله معلومٌ من الدِّينِ بالضَّرورةِ، وهو صفةٌ للهِ بإجماعِ المسلِمينَ، بل صفةٌ لله عند جميعِ العُقَلاءِ حتى المشركينَ، لا ينازعُ في ذلك إلَّا ملحِدٌ دَهْريٌّ، ولا يَلزمُ من إثباتِ الوُجودِ صِفةً لله أن يكونَ له مُوجِدٌ؛ لأنَّ الوجودَ نَوعانِ:
    الأوَّلُ: وجودٌ ذاتيٌّ، وهو ما كان وجودُه ثابتًا له في نَفْسِه، لا مكسوبًا له من غيرِه، وهذا هو وجودُ الله سُبحانَه وصفاتِه؛ فإنَّ وجودَه لم يسبِقْه عدَمٌ، ولا يلحَقُه عدَمٌ، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد: 3] .
    الثَّاني: وجودٌ حادثٍ، وهو ما كان حادِثًا بعد عَدَمٍ، فهذا الذي لا بدَّ له من مُوجِدٍ يُوجِدُه، وخالِقٍ يُحدِثُه، وهو اللهُ سُبحانَه، قال تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [الزمر: 62، 63]،
    وقال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ [الطور: 35، 36]، وعلى هذا يوصَفُ اللهُ تعالى بأنَّه موجودٌ، ويُخبَرُ عنه بذلك في الكلامِ، فيقال: اللهُ موجودٌ، وليس الوجودُ اسمًا بل صِفةٌ) .
    ولمْ يُعرَفْ التَّظاهُرُ بإنكارِ وُجودِ اللهِ تَعالى في تاريخِ الأُممِ إلَّا عن شِرذِمةٍ قليلةٍ مُكابِرةٍ

    قال الشهرستاني: (أمَّا تعطيلُ العالَمِ عن الصَّانِعِ العالِم القادِرِ الحَكيمِ، فلستُ أراها مَقالةً لأحدٍ، ولا أعرفُ عليها صاحِبَ مقالةٍ، إلَّا ما نُقِلَ عن شِرْذِمةٍ قليلةٍ مِن الدَّهريَّةِ أنَّهم قالوا: العالَمُ كان في الأزَلِ أجزاءً مَبثوثةً تتحَرَّكُ على غيرِ استقامةٍ، واصطكَّت اتِّفاقًا؛ فحصل العالَمُ بشَكْلِه الذي تراه عليه!!... ولستُ أرى صاحِبَ هذه المقالةِ مِمَّن يُنكِرُ الصَّانِعَ، بل هو مُعترِفٌ بالصَّانِعِ، لكِنَّه يُحيلُ سبَبَ وُجودِ العالَمِ على البَحثِ والاتِّفاقِ؛ احترازًا عن التَّعليلِ، فما عَدَدتُ هذه المسألةَ مِن النَّظَريَّاتِ التي يُقامُ عليها برهانٌ؛ فإنَّ الفِطَرَ السَّليمةَ الإنسانيَّةَ شَهِدَت بضَرورةِ فِطْرتِها وبَديهةِ فِكرتِها على صانعٍ حكيمٍ عالمٍ قَديرٍ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [إبراهيم: 10] ،
    وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف: 9] ،
    وإن هم غَفَلوا عن هذه الفِطْرةِ في حالِ السَّرَّاءِ فلا شَكَّ أنَّهم يلوذون إليه في حالِ الضَّرَّاءِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [يونس: 22] ... ولهذا لم يَرِدِ التَّكليفُ بمَعرِفةِ وُجودِ الصَّانعِ، وإنَّما ورد بمَعرِفةِ التَّوحيدِ، ونَفْيِ الشَّريكِ) .
    وقال ابنُ تيميَّةَ: (أشهرُ من عُرِفَ تجاهُلُه وتظاهُرُه بإنكارِ الصَّانِعِ فِرعَونُ، وقد كان مُستيقِنًا في الباطِنِ، كما قال له موسى: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء: 102] ... أظهر خلافَ ما في نَفْسِه، كما قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14] ) .
    وقد نشَأَت مُصطَلَحاتٌ وطُرُقٌ مُحدَثَةٌ في بابِ ثُبوتِ وُجودِ اللهِ تعالى أحدَثَتها بَعضُ الفِرَقِ المُبتَدِعةِ مِثْلُ الجَهْميَّةِ.

    فقد حكى أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ مُجادَلةَ جماعةٍ مِنَ السُّمَنيَّةِ (الذين ينكِرون مِن العِلمِ ما سوى الحِسِّيَّاتِ) للجَهْمِ بنِ صَفوانَ، في وجودِ اللهِ تعالى، فسألُوه إن كان قد عَرَف اللهَ تعالى بشَيءٍ من الحواسِّ الخَمسِ، فتحيَّرَ الجَهمُ فلم يَدْرِ مَن يَعبُدُ أربعينَ يَومًا، ثمَّ استدرك حُجَّة مِثلَ حُجَّةِ زنادقةِ النَّصارى الذين يَزعُمونَ أنَّ الرُّوحَ الذي في عيسى هو رُوحُ اللهِ من ذاتِ اللهِ، فإذا أراد أن يُحدِثَ أمرًا دَخَل في بَعضِ خَلْقِه، فتكلَّم على لِسانِ خَلْقِه، فيأمُرُ بما يشاءُ، وينهى عمَّا يَشاءُ، وهو رُوحٌ غائبةٌ عن الأبصارِ، وتأوَّل بَعضَ آياتِ القُرآنِ، وكذَّب بأحاديثِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وزعم أن َّمن وصف اللهَ بشَيءٍ ممَّا وصَفَ به نفسَه في كتابِه أو حدَّث عنه رسولُه،
    كان كافِرًا، وكان مِنَ المشَبِّهةِ، فأضلَّ بكلامِه بَشرًا كثيرًا .
    فهذه الموجاتُ الإلحاديَّةُ التي غَزَت العالَمَ الإسلاميَّ كانت من الأسبابِ التي فتحَت بابَ الجدَلِ في وُجودِ اللهِ تعالى، وفي أسمائِه وصِفاتِه، على الطَّريقةِ المُبتَدَعةِ المذمومةِ التي خالفَت مَنهَجَ الكِتابِ والسُّنَّةِ في تقريرِ هذه المسائِلِ بالطَّريقةِ الواضِحةِ الميسَّرةِ المقبولةِ.

    قال ابنُ تيميَّةَ مُفَنِّدًا قَولَ من اشتَرَط النَّظَر والاستِدلالَ بالأقيِسَةِ العَقليَّةِ؛ لحُصولِ العِلمِ بالصَّانِعِ: (ليس هذا قولَ أحدٍ من سَلَفِ الأمَّة ولا أئمَّتِها، ولا قاله أحدٌ من الأنبياءِ والمرسَلينَ، ولا هو قَولُ كُلِّ المتكلِّمين، ولا غالِبِهم، بل هذا قولٌ مُحدَثٌ في الإسلامِ، ابتدعه متكَلِّمو المعتَزِلةِ، ونحوُهم من المتكلِّمين الذين اتَّفَق سَلَفُ الأُمَّة وأئمَّتُها على ذَمِّهم، وقد نازعهم في ذلك طوائِفُ من المتكَلِّمين من المُرجِئة، والشِّيعةِ، وغَيرِهم،
    وقالوا: بل الإقرارُ بالصَّانِعِ فِطْريٌّ ضَروريٌّ بَديهيٌّ، لا يجِبُ أن يتوقَّفَ على النَّظَرِ والاستِدلالِ، بل قد يقولون: يمتَنِعُ أن يحصُلَ بالقياسِ والنَّظَرِ، وهذا قولُ جماهيِر الفُقَهاءِ والصُّوفيَّةِ وأهلِ الحديثِ والعامَّةِ وغَيرِهم، بل قد اتَّفق سلَفُ الأُمَّة وأئمَّتُها على أنَّ مَعرِفةَ اللهِ والإقرارَ به لا تَقِفُ على هذه الطُّرُقِ التي يذكُرُها أهلُ طريقةِ النَّظَرِ) .
    ------------------------------------------------------------------------------
    التالي : -
    -
    ثالثاً : أقسامُ التَّوحيدِ
    -
    تابعونا جزاكم الله خيرا

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5198
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    الإيمانُ باللهِ: (توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، والأُلُوهيَّةِ، والأسماءِ والصِّفاتِ)   الإيمانِ بوُجودِ اللهِ تعالى وأقسامِ التَّوحيدِ -   توحيدُ الرُّبوبيَّةِ  - توحيدُ الأُلوهيَّةِ  -   توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ                     Empty ثالثاً : أقسامُ التَّوحيدِ

    مُساهمة من طرف صادق النور الأربعاء نوفمبر 29, 2023 10:39 am

    يتبع ما قبله : -

    ثالثاً : أقسامُ التَّوحيدِ


    تمهيدٌ
    قال اللهُ تعالى: رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم: 65] .
    اشتمَلَت هذه الآيةُ الكريمةُ على أقسامِ التَّوحيدِ الثَّلاثةِ:
    توحيدُ الرُّبُوبيَّةِ في قَولِه: رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا.
    وتوحيدُ الأُلُوهيَّةِ في قَولِه: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ.
    وتوحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ في قَولِه: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا.
    وقد تنوَّعت عباراتُ أهلِ العِلمِ في التَّعبيرِ عن أقسامِ التَّوحيدِ، مع اتِّفاقِها في المضمونِ، وسَبَبُ ذلك أنَّ تقسيمَ التَّوحيدِ مأخوذٌ من استِقراءِ النُّصوصِ، ولم يُنصَّ عليه صراحةً مِن قِبَل الشَّارعِ.
    فمِنَ العُلَماءِ مَن قَسَّم التَّوحيدَ إلى الأقسامِ التَّاليةِ:
    1- توحيدُ الرُّبوبيَّةِ.
    2- توحيدُ الأُلُوهيَّةِ.
    3- توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ .
    وزاد بعضُ العُلَماءِ قِسمًا رابِعًا سَمَّاه: توحيدَ الاتِّباعِ أو المُتابعةِ، أو توحيدَ الطَّريقِ ، والمراد به إفرادُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالمتابَعةِ، وهذا القِسمُ يتعلَّقُ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو مُندَرِجٌ في توحيدِ الأُلُوهيَّةِ؛
    لأنَّ العِبادةَ لا تُقبَلُ شَرعًا إلَّا بشَرطَينِ:
    1- الإخلاصُ للهِ.
    2- المتابعةُ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .
    كما قال الله تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110] ،
    وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((من أحدَثَ في أمْرِنا هذا ما ليس منه، فهو رَدٌّ )) ، وفي روايةٍ لمُسلِمٍ: ((مَن عَمِلَ عَمَلًا ليس عليه أمرُنا، فهو رَدٌّ)) .
    ومِنَ العُلَماءِ مَن قسَّم التَّوحيدَ إلى قِسمَينِ، هما:
    1- توحيدُ الأُلُوهيَّةِ.
    2- توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ.
    وهذا هو الأغلَبُ في كلامِ أهلِ العِلمِ المتقدِّمينَ؛ لأنَّهم يجمَعونَ بين توحيدِ الرُّبوبيَّةِ وتوحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ؛ لأنَّهما يُشَكِّلانِ بمجموعِهما شيئًا واحدًا، وهو جانِبُ العِلمِ باللهِ ومَعرفتِه عزَّ وجلَّ، وتوحيدُ الأُلوهيَّةِ يشكِّلُ جانِبَ العَمَلِ لله.
    ثمَّ تنوَّعت تَسمياتُهما لهذينِ القِسمَين؛ فمِنهم من يقولُ هما:
    1- التَّوحيدُ العِلميُّ الخَبَريُّ.
    وهو توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، وتوحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ، وسُمِّي بالعِلْميِّ؛ لأنَّه يعتني بجانِبِ العِلمِ بالله، وسُمِّي بالخَبَريِّ؛ لأنَّه يتوقَّفُ على الخبَرِ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ.
    2- التَّوحيدُ الإراديُّ الطَّلَبيُّ.
    وهو توحيدُ الأُلوهيَّةِ، وسمِّيَ بالإراديِّ؛ لأنَّ العَبدَ له في العباداتِ إرادةٌ؛ فهو إمَّا أن يقومَ بتلك العبادةِ أو لا، وسمِّيَ بالطَّلَبي؛ لأنَّ العَبدَ يَطلُبُ بتلك العباداتِ وَجْهَ اللهِ ورِضوانَه .
    ومِنَ العُلَماءِ من يقولُ هما:
    1- توحيدُ المَعرِفةِ والإثباتِ.
    وهو توحيدُ الرُّبوبيَّةِ وتوحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ، وسمِّي بتوحيدِ المَعرِفة؛ لأنَّ مَعرِفةَ اللهِ عزَّ وجلَّ إنَّما تكونُ بمَعرِفة أسمائِه، وصفاتِه، وأفعالِه، وسمِّيَ بتوحيدِ الإثباتِ؛ لإثباتِه ما أثبَتَه اللهُ لنفسِه من الأسماءِ والصِّفاتِ والأفعالِ.
    2- توحيدُ الطَّلَبِ والقَصدِ.
    وهو توحيدُ الأُلوهيَّةِ، وسمِّيَ بتوحيدِ الطَّلَبِ والقَصدِ؛ لأنَّ العَبدَ يتوجَّهُ بقَلْبِه ولِسانِه وجوارِحِه بالعبادةِ للهِ وَحْدَه، ويَقصِدُ بذلك وَجْهَه، وابتِغاءَ مَرْضاتِه .
    ومِنَ العُلَماءِ من يقولُ هما:
    1- التَّوحيدُ القَوليُّ
    وهو توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، وتوحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ، وسمِّيَ بالقَوليِّ؛ لأنَّه في مقابِلِ توحيدِ الأُلوهيَّةِ الذي يشكِّلُ الجانبَ العَمَليَّ من التَّوحيدِ.
    2- التَّوحيدُ العَمَليُّ.
    وهو توحيدُ الأُلُوهيَّةِ، وسمِّيَ بالعَمَليِّ؛ لأنَّه يشمَلُ كُلًّا من عَمَلِ القَلبِ، وعَمَلِ اللِّسانِ، وعَمَلِ الجوارحِ؛ التي تُشكِّل بمجموعِها جانبَ العَمَلِ من التَّوحيدِ .
    ومن المعاصرين من يقولُ هما:
    1- توحيدُ السِّيادةِ.
    وهو توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، وتوحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ، وسمِّي بذلك؛ لأنَّ تفرُّدَ اللهِ بأفعالِه وأسمائِه وصفاتِه يُوجِبُ له السِّيادةَ المطلَقةَ، والتصَرُّفَ التَّامَّ في هذا الكونِ، فمِن واجِبِ الموحِّدِ أن يُفرِدَ اللهَ بذلك.
    2- توحيدُ العِبادةِ.
    وهو توحيدُ الأُلوهيَّةِ المتعَلِّقُ بجانبِ عِبادةِ اللهِ تعالى .
    والمُختارُ تَقسيمُ التَّوحيدِ إلى ثلاثةِ أقسامٍ، وهي:
    1- توحيدُ الرُّبوبيَّةِ.
    2- توحيدُ الأُلوهيَّةِ.
    3- توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ.
    وهذا التَّقسيمُ الثُّلاثيُّ وارِدٌ في مؤلَّفاتِ أهلِ العِلمِ مُنذُ بدايةِ التَّصنيفِ والتَّدوينِ لمَسائِلِ العَقيدةِ.

    قال ابنُ بَطَّةَ: (أصلُ الإيمانِ باللهِ، الذي يجِبُ على الخَلْقِ اعتقادُه في إثباتِ الإيمانِ به؛ ثلاثةُ أشياءَ:
    أحَدُها: أن يعتقِدَ العَبدُ ربانيَّتَه؛ ليكونَ بذلك مُبايِنًا لمذاهِبِ أهلِ التَّعطيلِ الذين لا يُثبِتونَ صانِعًا .
    والثَّاني: أن يعتَقِدَ وحدانيَّتَه؛ ليكون مبايِنًا بذلك مذاهِبَ أهلِ الشِّركِ الذين أقرُّوا بالصَّانِعِ وأشركوا معه في العبادةِ غَيرَه .
    والثَّالِثُ: أن يَعتَقِدَه موصوفًا بالصِّفاتِ التي لا يجوزُ إلَّا أن يكونَ موصوًفا بها من العِلمِ والقُدرةِ والحِكمةِ وسائِرِ ما وَصَف به نَفْسَه في كتابِه؛ إذ قد عَلِمْنا أنَّ كثيرًا ممَّن يُقِرُّ به ويوحِّدُه بالقَولِ المطلَقِ قد يُلحِدُ في صِفاتِه
    .
    وقال الجُرجانيُّ: (التَّوحيدُ ثلاثةُ أشياءَ: مَعرِفةُ الله تعالى بالرُّبوبيَّةِ، والإقرارُ بالوحدانيَّةِ، ونفيُ الأندادِ عنه جملةً) .

    وقال الشِّنقيطيُّ: (دلَّ استقراءُ القُرآنِ العَظيمِ على أنَّ توحيدَ اللهِ يَنقَسِمُ إلى ثلاثِة أقسامٍ:
    الأوَّلُ: توحيدُه في ربوبيَّته... الثَّاني: توحيدُه جلَّ وعلا في عبوديَّتِه... النَّوعُ الثَّالِثُ: توحيدُه جلَّ وعلا في أسمائِه وصِفاتِه) .

    وقال ابنُ باز: (هذا التَّقسيمُ مأخوذٌ مِن الاستقراءِ والتأمُّلِ؛ لأنَّ العُلَماءَ لَمَّا استَقرَؤوا ما جاءت به النُّصوصُ من كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ظَهَر لهم هذا، وزاد بعضُهم نوعًا رابعًا هو توحيدُ المتابعةِ، وهذا كُلُّه بالاستقراءِ.
    فلا شكَّ أنَّ من تدبَّر القرآنَ الكريمَ وَجَد فيه آياتٍ تأمرُ بإخلاصِ العِبادةِ للهِ وَحْدَه، وهذا هو توحيدُ الأُلوهيَّةِ.
    ووجَدَ آياتٍ تدُلُّ على أنَّ اللهَ هو الخلَّاقُ، وأنَّه الرزَّاقُ، وأنَّه مُدَبِّرُ الأمورِ، وهذا هو توحيدُ الرُّبوبيَّة ِالذي أقرَّ به المُشرِكونَ ولم يُدخِلْهم في الإسلامِ.
    كما يجِدُ آياتٍ أخرى تدُلُّ على أنَّ له الأسماءَ الحُسنى والصِّفاتِ العُلا، وأنَّه لا شَبيهَ له، ولا كُفُؤَ له، وهذا هو توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ الذي أنكَرَه المبتَدِعةُ مِنَ الجَهميَّةِ والمُعتَزِلةِ والمشبِّهةِ، ومَن سلَكَ سَبيلَهم.
    ويجِدُ آياتٍ تدُلُّ على وُجوبِ اتِّباعِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ورَفْضِ ما خالَفَ شَرْعَه، وهذا هو توحيدُ المتابَعةِ، فهذا التَّقسيمُ قد عُلِمَ بالاستقراءِ، وتتبُّعِ الآياتِ، ودراسةِ السُّنةِ، ومن ذلك
    :
    قَولُ اللهِ سُبحانَه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 4]
    وقَولُه عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21] .
    وقَولُه جَلَّ وتعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة: 163] .
    وقَولُه سُبحانَه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 56-57].
    وقَولُه سُبحانَه: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54] .
    وقال سُبحانَه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11] .
    وقال عزَّ وجلَّ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 1-4] .
    وقال جَلَّ شأنُه: قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران: 31] .
    وقال سُبحانَه: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [النور: 54] ، والآياتُ الدالَّة على ما ذُكِرَ مِنَ التَّقسيمِ كَثيرةٌ.

    ومن الأحاديثِ: قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حديثِ مُعاذٍ رَضِي اللهُ عنه المتَّفَقِ على صِحَّتِه: ((حقُّ اللهِ على العِبادِ أن يَعبُدوه، ولا يُشرِكوا به شيئًا )) .
    وقَولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((من مات وهو يدعو من دونِ اللهِ ندًّا، دخل النَّارَ )) .
    وقولُه لجِبريلَ عليه السَّلامُ لَمَّا سأله عن الإسلامِ، قال: ((أن تعبُدَ اللهَ ولا تُشرِكَ به شَيئًا، وتقيمَ الصَّلاةَ المكتوبةَ، وتؤدِّيَ الزَّكاةَ المفروضةَ ... )) الحديث .
    وقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((من أطاعني فقد أطاع اللهَ، ومن عصاني فقد عصى اللهَ )) .
    وقَولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((كلُّ أُمَّتي يَدخُلونَ الجنَّةَ إلَّا من أبى)) قيل: يا رَسولَ اللهِ ومن يأبى؟! قال: ((من أطاعني دَخَل الجنَّةَ، ومن عَصاني فقد أبى )) ، والأحاديثُ في هذا البابِ كثيرةٌ) .

    وقال بكر أبو زيد: (هذا التَّقسيمُ الاستِقرائيُّ لدى متقدِّمي عُلَماءِ السَّلَفِ أشار إليه ابنُ مَنْدَهْ، وابنُ جَريرٍ الطَّبَريُّ وغَيرُهما، وقرَّره شيخا الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ وابنُ القَيِّمِ، وقرَّره الزَّبيديُّ في (تاج العروس)، وشَيخُنا الشنقيطيُّ في (أضواء البيان) وآخرينَ، رحم اللهُ الجميعَ، وهو استقراءٌ تامٌّ لنُصوصِ الشَّرعِ، وهو مطَّرِدٌ لدى أهلِ كُلِّ فَنٍّ، كما في استقراءِ النُّحاةِ كَلامَ العَرَبِ إلى: اسمٍ وفِعلٍ وحَرفٍ، والعَرَبُ لم تَفُهْ بهذا، ولم يَعتِبْ على النُّحاةِ في ذلك عاتبٌ) .
    والعَلاقةُ بين هذه الأقسامِ الثَّلاثةِ للتَّوحيدِ عَلاقةُ تلازُمٍ وتَضَمُّنٍ وشُمولٍ، فهي تُكوِّنُ بمَجموعِها أركانَ التَّوحيدِ الواجِبِ، ولا يَكمُلُ التَّوحيدُ إلَّا باجتِماعِ أقسامِه الثَّلاثةِ، ولا يمكِنُ الاستغناءُ ببَعْضِها عن بعضٍ، فالخَلَلُ والانحرافُ في أيِّ نوعٍ منها هو خللٌ في التَّوحيدِ كُلِّه.
    فتوحيدُ الرُّبوبيَّةِ مُستَلزِمٌ لتَوحيدِ الأُلوهيَّةِ.
    وتوحيدُ الأُلوهيَّةِ متضَمِّنٌ لتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ.
    وتوحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ شامِلٌ للنَّوعَينِ معًا.
    فمن أقرَّ بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ، وعَلِمَ أنَّ الله سُبحانَه هو الرَّبُّ وَحْدَه لا شَريكَ له في رُبوبيَّتِه، لَزِمَه من ذلك الإقرارُ بوجوبِ إفرادِ اللهِ بالعبادةِ وَحْدَه؛ لأنَّه لا يستحِقُّ العبادةَ إلَّا من كان ربًّا خالقًا مالِكًا مُدَبِّرًا، فما دام أنَّ ذلك كُلَّه لله وَحْدَه وَجَب أن يكونَ هو المعبودَ وَحْدَه.
    ويَكثُرُ في القُرآنِ الكريمِ سَوقُ آياتِ الرُّبوبيَّةِ مَقرونةً بآياتِ الدَّعوةِ إلى توحيدِ الأُلوهيَّةِ، كقَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 21] .
    وأمَّا توحيدُ الأُلوهيَّةِ فهو متضَمِّنٌ لتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ؛ لأنَّ مَن عَبَد اللهَ ولم يُشرِكْ به شَيئًا، يَستَلزِمُ إيمانُه بأنَّ اللهَ هو ربُّه ومالِكُه الذي لا ربَّ غَيرُه.
    وأمَّا توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ فهو شامِلٌ للنَّوعَينِ معًا؛ لأنَّه يقومُ على إفرادِ اللهِ تعالى بكلِّ ما له من الأسماءِ الحُسنى، والصِّفاتِ العُلا التي لا تنبغي إلَّا له سُبحانَه وتعالى، والتي من جُملتِها: الرَّبُّ - الخالِقُ - الرَّازِقُ - المَلِكُ، وهذا هو توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، ومن جملتِها: اللهُ - الغفورُ - الرَّحيمُ - التَّوَّابُ، وهذا هو توحيدُ الأُلوهيَّةِ .

    أولاً : : معنى كَلِمةِ الرَّبِّ لُغةً


    قال ابنُ الأنباريِّ: (الرَّبُّ: ينقسِمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
    يكونُ الرَّبُّ: المالِكَ.
    ويكون الرَّبُّ: السَّيِّدَ المطاعَ؛ قال اللهُ عزَّ وجلَّ: فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا [يوسف: 41] ، معناه: فيَسقي سَيِّدَه...
    ويكونُ الرَّبُّ: المصلِحَ، من قولهِم: قد رَبَّ الرَّجُلُ الشَّيءَ يرُبُّه رَبًّا،
    والشَّيءُ مربوبٌ: إذا أصلَحَه) .
    وقال ابنُ فارس: (الرَّاءُ والباءُ يدُلُّ على أُصولٍ.
    فالأوَّلُ: إصلاحُ الشَّيءِ والقيامُ عليه. فالرَّبُّ: المالِكُ، والخالِقُ، والصَّاحِبُ. والرَّبُّ: المصلِحُ للشَّيءِ... واللهُ جَلَّ ثناؤه الرَّبُّ؛ لأنَّه مُصلِحٌ أحوالَ خَلْقِه...) .

    وقال الرَّاغبُ: (الرَّبُّ في الأصلِ: التَّربيةُ، وهو إنشاءُ الشَّيءِ حالًا فحالًا إلى حَدِّ التَّمامِ) .

    وقال البيضاويُّ: (الرَّبُّ في الأصلِ: مَصدَرٌ بمعنى التَّربيةِ، وهي تبليغُ الشَّيءِ إلى كَمالِه شيئًا فشيئًا... ثمَّ سمِّيَ به المالِكُ؛ لأنَّه يحفَظُ ما يملِكُه ويُرَبِّيه) .

    وقال أبو حيَّان: (الرَّبُّ: السَّيِّدُ، والمالِكُ، والثَّابتُ، والمعبودُ، والمصلِحُ، وزاد بعضُهم: بمعنى الصَّاحِبِ... وبَعضُهم: بمعنى الخالِقِ) .

    ثانياً : : معنى كَلِمةِ الرَّبِّ من حيثُ هي اسمٌ للهِ تعالى

    قال ابنُ جَريرٍ: (فربُّنا جَلَّ ثناؤه: السَّيِّدُ الذي لا شِبْهَ له، ولا مِثْلَ في سُؤدُدِه، والمصلِحُ أمرَ خَلْقِه بما أسبَغَ عليهم مِنْ نِعَمِه، والمالِكُ الذي له الخَلْقُ والأمرُ) .
    وقال الزَّجَّاجيُّ: (الرَّبُّ: المصلِحُ للشَّيءِ... وربُّ الشَّيءِ: مالِكُه، فاللهُ عزَّ وجلَّ مالِكُ العِبادِ ومُصلِحُهم، ومُصلِحُ شُؤونِهم، ومَصدَرُ الرَّبِّ: الرُّبوبيَّةِ) .
    وقال الثَّعلبيُّ في تفسيرِ قَولِه تعالى: رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة: 2] : (أي: خالِقِ الخَلْقِ أجمعينَ، ومُبدِئِهم، ومالِكِهم، والقائِمِ بأُمورِهم) .

    وقال ابنُ القَيِّمِ: (الرَّبُّ هو السَّيِّدُ والمالِكُ والمُنعِمُ والمُرَبِّي والمصلِحُ، واللهُ تعالى هو الرَّبُّ بهذه الاعتِباراتِ كُلِّها) .

    وقال ابنُ عُثَيمين: (معاني الرُّبوبيَّةِ كَثيرةٌ؛ لأنَّ الرَّبَّ هو الخالِقُ المالِكُ المدبِّرُ، وهذه تَحمِلُ معانيَ كثيرةً جِدًّا) .
    ولا تُستَعمَلُ كَلِمةُ (الرَّبِّ) في حقِّ المخلوقِ إلَّا مضافةً، فيقالُ: ربُّ الدَّارِ، وربُّ المالِ.


    قال ابنُ قُتَيبةَ: (لا يُقالُ لمخلوقٍ: هذا (الرَّبُّ) معرَّفًا بالألفِ واللَّامِ، كما يقالُ للهِ، إنَّما يقالُ: هذا رَبُّ كذا، فيُعرَّفُ بالإضافةِ؛ لأنَّ اللهَ مالِكُ كُلِّ شَيءٍ، فإذا قيل: (الرَّبُّ) دَلَّت الألفُ واللَّامُ على معنى العُمومِ، وإذا قيل لمخلوقٍ: ربُّ كذا ورَبُّ كذا، نُسِبَ إلى شَيءٍ خاصٍّ؛ لأنَّه لا يملِكُ شَيئًا غَيرَه) .
    وقال ابنُ الأثيرِ: (لا يُطلَقُ غَيرَ مضافٍ إلَّا على اللهِ تعالى، وإذا أُطلِقَ على غيرِه أضيفَ، فيُقالُ: رَبُّ كذا) .

    وقال الرَّاغِبُ الأصفهانيُّ: (لا يُقالُ الرَّبُّ مُطلقًا إلَّا للهِ تعالى المتكفِّلِ بمصلحةِ الموجوداتِ، نحوُ قَولِه: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ: 15] ) .
    فكَلِمةُ (ربٍّ) بالإضافةِ تُقالُ للهِ ولغَيرِه بحَسَبِ الإضافةِ.
    فمِثالُ الأوَّلِ: ما جاء في قَولِه تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
    ومِثالُ الثَّاني: ما حكاه اللهُ تعالى عن يوسُفَ عليه السَّلامُ؛ حيث قال لأحَدِ صاحِبَيه في السِّجنِ: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [يوسف: 42] .
    أي: قال يوسُفُ للذي ظنَّ أنَّه سينجو من القَتلِ، ويخرُجُ مِن السِّجنِ: اذكُرني عند سيِّدِك الملِكِ، وأخبِرْه بأنِّي مَسجونٌ بلا ذَنبٍ .

    ---------------------------------------------------------------------------------------------
    التالي :
    -
    : تَعريفُ توحيدِ الرُّبوبيَّةِ شَرعًا
    -
    تابعونا جزاكم الله خيرا

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5198
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    الإيمانُ باللهِ: (توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، والأُلُوهيَّةِ، والأسماءِ والصِّفاتِ)   الإيمانِ بوُجودِ اللهِ تعالى وأقسامِ التَّوحيدِ -   توحيدُ الرُّبوبيَّةِ  - توحيدُ الأُلوهيَّةِ  -   توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ                     Empty : تَعريفُ توحيدِ الرُّبوبيَّةِ شَرعًا

    مُساهمة من طرف صادق النور الأربعاء نوفمبر 29, 2023 9:04 pm

    يتبع ما قبله :

    : تَعريفُ توحيدِ الرُّبوبيَّةِ شَرعًا


    توحيدُ الرُّبوبيَّةِ هو الإقرارُ الجازِمُ بأنَّ اللهَ تعالى رَبُّ كلِّ شيءٍ ومَليكُه، وخالِقُه، ومُدَبِّره، والمتصَرِّفُ فيه، ليس له شَريكٌ في مُلْكِه، ولا مُنازِعٌ له في شيءٍ من معاني رُبوبيَّتِه .

    قال ابنُ القَيِّمِ: (فيَشهَدُ صاحِبُه قيوميَّةَ الربِّ تعالى فوقَ عَرشِه، يدبِّرُ أمرَ عبادِه وَحْدَه، فلا خالِقَ ولا رازِقَ، ولا مُعطيَ ولا مانِعَ، ولا مُميتَ ولا مُحْييَ، ولا مُدَبِّرَ لأمرِ المملَكةِ ظاهِرًا وباطِنًا غيرُه، فما شاء كان، وما لم يشَأْ لم يكُنْ، لا تتحَرَّكُ ذَرَّةٌ إلَّا بإذنِه، ولا يجري حادثٌ إلَّا بمشيئتهِ، ولا تَسقُطُ وَرقةٌ إلَّا بعِلْمِه، ولا يَعزُبُ عنه مِثقالُ ذَرَّةٍ في السَّمَواتِ ولا في الأرضِ ولا أصغَرُ من ذلك ولا أكبَرُ إلَّا أحصاها عِلْمُه، وأحاطت بها قُدرتُه، ونفَذَت بها مَشيئتُه، واقتضَتْها حِكمَتُه، فهذا جَمعُ توحيدِ الرُّبوبيَّةِ) .

    وقال ابنُ أبي العِزِّ: (توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، كالإقرارِ بأنَّه خالِقُ كُلِّ شَيءٍ، وأنَّه ليس للعالَمِ صانعانِ متكافئانِ في الصِّفاتِ والأفعالِ، وهذا التَّوحيدُ حَقٌّ لا رَيبَ فيه) .

    وقال الصَّنعاني: (توحيدُ الرُّبوبيَّةِ والخالقيَّةِ والرَّازقيَّةِ ونَحوِها، ومَعناه: أنَّ اللهَ وَحْدَه هو الخالِقُ للعالَمِ، وهو الرَّبُّ لهم، والرَّازِقُ لهم، وهذا لا يُنكِرُه المُشرِكونَ، ولا يَجعَلونَ لله فيه شَريكًا، بل هم مُقِرُّون به) .

    : مَنزِلةُ توحيدِ الرُّبوبيَّةِ

    - توحيدُ الرُّبوبيَّةِ فيه إقرارٌ بعَظَمةِ اللهِ، وتفرُّدِه بالخَلْقِ والمِلْكِ والتَّدبيرِ.
    قال اللهُ تعالى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ [الأنعام: 102] .

    وقال اللهُ سُبحانَه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [يونس: 31-32]
    وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سألتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّ الذَّنبِ أعظَمُ عندَ اللهِ؟ قال: ((أن تجعَلَ للهِ نِدًّا وهو خلَقَك )) .

    قال أبو عَمرٍو الدَّاني مبينًا عقيدةَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ: (ومن قَولِهم: إنَّ اللهَ سُبحانَه مُقَدِّرٌ أرزاقَ الخَلْقِ، ومؤقِّتٌ لآجالهم، وخالقٌ لأفعالهم، وقادرٌ على مقدوراتهم، وأنَّه إلهٌ وربٌّ لنا، لا خالِقَ غَيرُه، ولا رَبَّ سِواه،
    على ما أخبَرَ به جلَّ ثناؤه في قَولِه
    : اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [الروم: 40] ، وقال: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 58]،
    وقال: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: 34] ،
    وقال: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [فاطر: 3] ، وقال: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النحل: 20] ، وقال: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: 2] ) .
    - توحيدُ الرُّبوبيَّةِ يؤدِّي إلى الإقرارِ بتوحيدِ الإلهيَّةِ، أي: إفرادِ اللهِ عزَّ وجلَّ بالعبادةِ وَحْدَه لا شَريكَ له.

    قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 21، 22].

    قال ابنُ أبي الرَّبيعِ الإشبيليُّ السبتيُّ في تفسيرِ هذه الآياتِ: (الرَّبُّ هو: المالِكُ، والرَّبُّ أيضًا هو: المصلِحُ، وهو سُبحانَه مالِكٌ للخَلْقِ، ومُصلِحٌ لأمورِهم، فهو الرَّبُّ على الحقيقةِ، وقال تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة: 31]، وكانوا يُسمُّون أصنامَهم التي يعبدونها أربابًا،

    فقال سُبحانَه: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة: 21] ، أي: انظُروا من الذي خلَقَكم فاعبُدوه، والأحبارُ لم يَخْلُقوا، ولا العبادُ خَلَقوا، بل خُلِقوا، ولا الأصنامُ، بل عُمِلَت؛ فالذي يستحِقُّ العبادةَ الرَّبُّ الذي خلق الخَلْقَ،
    ولم يستعِنْ على خَلْقِهم بشَيءٍ، بل قال: كُنْ فكانوا، هذا هو الذي يستحِقُّ أن يُعبَدَ) .

    ثمَّ قال في قَولِه تعالى: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 22] : (أتى بالجَمعِ على جِهةِ الاستبعادِ لقَولِهم؛ لأنَّ جعْلَهم للهِ أندادًا من سَخفِ عُقولِهم وضَعْفِها؛ لأنَّه سُبحانَه لا نِدَّ له ولا مِثْلَ، فإذا لم يكُنْ له نِدٌّ واحِدٌ فكيف تكون له أندادٌ؟ وهذه القاعِدةُ أنَّه سُبحانَه لا نِدَّ له مُسَلَّمةٌ عند العُقَلاءِ كُلِّهم؛ لأنَّه الخالِقُ والرَّازِقُ والنَّافِعُ والضَّارُّ، وليس غيرُه يَخلُقُ ولا يَرزُقُ ولا يَضُرُّ ولا ينفَعُ، فكيف يكونُ نِدًّا؟) .

    وقال ابنُ كثيرٍ: (شَرَع تبارك وتعالى في بيانِ وَحدانيَّةِ أُلُوهيتِه، بأنَّه تعالى هو المنعِمُ على عَبيدِه بإخراجِهم من العَدَمِ إلى الوُجودِ، وإسباغِه عليهم النِّعَمَ الظَّاهِرةَ والباطِنةَ... ومَضمونُه: أنَّه الخالِقُ الرَّازِقُ، مالِكُ الدَّارِ وساكِنيها، ورازقُهم، فبهذا يَستَحِقُّ أن يُعبَدَ وَحْدَه ولا يُشرَكَ به غيرُه؛ ولهذا قال: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 22] ) .

    قال ابنُ القَيِّمِ: (إذا تيقَّن أنَّ الضُّرَّ والنَّفعَ، والعَطاءَ والمَنعَ، والهُدى والضَّلالَ، والسَّعادةَ والشَّقاءَ؛ كُلُّ ذلك بيَدِ اللهِ لا بيَدِ غَيرِه، وأنَّه الذي يقلِّبُ القُلوبَ، ويُصَرِّفها كيف يشاءُ، وأنَّه لا مُوَفِّقَ إلَّا من وفَّقه وأعانه، ولا مَخذولَ إلَّا من خذَلَه وأهانه وتخَلَّى عنه، وأنَّ أصَحَّ القُلوبِ، وأسلَمَها وأقوَمَها، وأرقَّها وأصفاها، وأشَدَّها وأليَنَها؛ من اتخَذَه وَحْدَه إلهًا ومعبودًا، فكان أحبَّ إليه من كُلِّ ما سِواه، وأخوفَ عنده مِن كُلِّ ما سِواه، وأرجى له من كُلِّ ما سِواه، فتتقدَّمُ محبَّتُه في قَلْبِه جميعَ المحابِّ، فتَنْساقُ المحابُّ تبعًا لها كما يَنساقُ الجيَشُ تَبَعًا للسُّلطانِ، ويتقدَّمُ خَوفُه في قَلْبِه جميعَ المخُوفاتِ، فتَنْساقُ المخاوِفُ كُلُّها تَبَعًا لخَوفِه، ويتقدَّمُ رجاؤُه في قَلْبِه جميعَ الرَّجاءِ، فينساقُ كُلُّ رجاءٍ تَبَعًا لرَجائِه. فهذا علامةُ توحيدِ الإلهيَّةِ في هذا القَلْبِ، والبابُ الذي دَخَل إليه منه توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، أي: بابُ توحيدِ الإلهيَّةِ هو توحيدُ الرُّبوبيَّةِ؛ فإنَّ أوَّلَ ما يتعلَّقُ القَلبُ يتعلَّقُ بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ، ثمَّ يرتقي إلى توحيدِ الإلهيَّةِ، كما يدعو اللهُ سُبحانَه عبادَه في كِتابِه بهذا النَّوعِ مِنَ التَّوحيدِ إلى النَّوعِ الآخَرِ، ويحتَجُّ عليهم به، ويُقرِّرُهم به، ثمَّ يخبِرُ أنَّهم يَنقُضونَه بشِركِهم به في الإلهيَّةِ) .

    وقال عبدُ اللَّطيفِ بنُ عبدِ الرَّحمنِ آل الشَّيخ: (توحيدُ الرُّبوبيَّةِ يَستَلزِمُ توحيدَ الأُلوهيَّةِ؛ لأنَّ توحيدَ الرُّبوبيَّةِ دَليلٌ على توحيدِ الإلهيَّةِ والعِبادةِ والقَصْدِ، ووَسيلةٌ له) .
    وقال الشِّنقيطيُّ: (يَكثُر في القُرآنِ العَظيمِ الاستِدلالُ على الكُفَّارِ باعتِرافِهم برُبوبيَّتِه جلَّ وعلا على وُجوبِ توحيدِه في عِبادتِه) .

    الإقرارُ بالرُّبوبيَّةِ

    أولاً : : فطريَّةُ الإقرارِ برُبوبيَّةِ اللهِ

    إنَّ الإقرارَ برُبوبيَّةِ اللهِ أمرٌ فِطْريٌّ، وهو من أعظَمِ الأُمورِ الضَّروريَّةِ التي تَشهَدُ بها عُقولُ جميعِ النَّاسِ.

    قال اللهُ تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف: 172] .
    قال الكلبي: (أخَذَ مِيثاقَهم أنَّه ربُّهم، فأعَطَوه ذلك، ولا يُسألُ أحدٌ -كافِرٌ ولا غيرُه-: مَن ربُّك؟ إلَّا قال: اللهُ) .

    وقال السُّدِّيُّ: (ليس في الأرضِ أحدٌ مِن وَلَدِ آدَمَ إلَّا وهو يَعرِفُ أنَّ رَبَّه اللهُ) .
    ولم ينازِعْ في ذلك المشرِكونَ الذين دعاهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى عِبادةِ اللهِ وَحْدَه؛ فقد كانوا مُعتَرِفينَ باللهِ، مُقِرِّينَ بأنَّه ربُّهم وخالِقُهم ورازِقُهم، وأنَّه ربُّ السَّمَواتِ والأرضِ
    .
    قال اللهُ تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [العنكبوت: 61] .

    وقال اللهُ سُبحانَه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [العنكبوت: 63] .
    وقال اللهُ عزَّ وجلَّ: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [يونس: 22] .
    وعن مجاهِدٍ في قَولِه تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: 106] قال: (إيمانُهم قَولُهم: اللهُ خالِقُنا ويَرزُقُنا ويُميتُنا) .

    وعن قَتادةَ في قَولِه سُبحانَه: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت: 65] قال: (فالخَلقُ كُلُّهم يُقِرُّونَ لله أنَّه رَبُّهم، ثمَّ يُشرِكونَ بَعْدَ ذلك) .
    وقال الرَّاغِبُ الأصفهانيُّ: (مَعرِفةُ اللهِ تعالى العامِّيَّةُ مَركوزةٌ في النَّفسِ، وهي مَعرِفةُ كُلِّ أحدٍ أنَّه مَفعولٌ، وأنَّ له فاعِلًا فعَلَه ونقَلَه في الأحوالِ المختَلِفةِ... فهذا القَدْرُ من المَعرِفةِ في نَفْسِ كُلِّ أحدٍ، ويتنَبَّهُ الغافِلُ عنه إذا نُبِّه عليه، فيَعرِفُه) .

    وقال الشهرستانيُّ: (إنَّ الفِطَرَ السَّليمةَ الإنسانيَّةَ شَهِدَت بضرورةِ فِطْرَتِها وبديهةِ فِكرتِها على صانعٍ حكيمٍ عالمٍ قديرٍ
    : أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [إبراهيم: 10] ،
    وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف: 9] ،

    وإن هم غفلوا عن هذه الفطرة في حال السَّرَّاءِ فلا شَكَّ أنَّهم يلوذون إليه في حالِ الضَّرَّاءِ، دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [يونس: 22] ، وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 67] ؛
    ولهذا لم يَرِدِ التكليفُ بمعرفةِ وُجودِ الصَّانعِ، وإنَّما ورد بمعرفةِ التوحيدِ ونَفْيِ الشَّريكِ: ((أُمِرْتُ أن أقاتِلَ النَّاسَ حتى يقولوا: لا إلهَ إلَّا اللهُ )) ؛ ولهذا جَعَل محَلَّ النِّزاعِ بين الرُّسُلِ وبين الخَلقِ في التوحيدِ
    ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا [غافر: 12] ) .

    وقال ابنُ تيميَّةَ: (لَمَّا كان الإقرارُ بالصَّانِعِ فِطْريًّا، فإنَّ الفِطرةَ تتضَمَّنُ الإقرارَ باللهِ والإنابةَ إليه، وهو معنى لا إلهَ إلَّا اللهُ، فإنَّ الإلهَ هو الذي يُعرَفُ ويُعبَدُ، ولم يَذكُرِ اللهُ جُحودَ الصَّانِعِ إلَّا عن فِرعَونِ موسى؛ فإنَّ جُحودَ الصَّانِعِ لم يكُنْ دِينًا غالِبًا على أمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ قَطُّ، وإنَّما كان دِينُ الكُفَّارِ الخارِجينَ عن الرِّسالةِ هو الإشراكَ) .

    وقال ابنُ عاشور في تفسيرِ قَولِه تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ... [الأنبياء: 22] : (هذه الآيةُ استدِلالٌ على استِحالةِ وُجودِ آلهةٍ غيرِ اللهِ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَواتِ والأرضِ؛ لأنَّ المُشرِكين لم يكونوا يُنكِرون أنَّ اللهَ هو خالِقُ السَّمَواتِ والأرضِ؛ قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزمر: 38] ،
    وقال تعالى:وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ في سورة [الزخرف: 9] ؛ فهي مَسوقةٌ لإثباتِ الوَحدانيَّةِ لا لإثباتِ وُجودِ الصَّانِعِ؛ إذ لا نزاعَ فيه عند المخاطَبينَ، ولا لإثباتِ انفرادِه بالخَلْقِ؛ إذ لا نزاعَ فيه كذلك) .

    ثانياً : : عدمُ كفايةِ الإقرارِ بالرُّبوبيَّةِ للسَّلامةِ مِنَ الشِّركِ والنَّجاةِ مِنَ النَّارِ

    توحيدُ الرُّبوبيَّةِ هو أحدُ أنواعِ التَّوحيدِ الثَّلاثةِ، فلا يكفي وَحْدَه للنَّجاةِ مِن عذابِ اللهِ؛ فقد كان المُشرِكونَ زَمَنَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُقَرِّين باللهِ خالِقًا ورازِقًا ومُدَبِّرًا، لكِنَّهم أشرَكوا به في عبادتِه، فاستحقُّوا بذلك عذابَ اللهِ ولم ينفَعْهم مُجَرَّدُ إقرارِهم برُبوبيَّةِ الله .
    قال اللهُ تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [الزخرف: 87] .

    وقال اللهُ سُبحانَه: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون: 84- 89] .
    وقال اللهُ عزَّ وجلَّ: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: 106] .

    قال الشِّنقيطيُّ: (قال ابنُ عبَّاسٍ، والحَسَنُ، ومجاهِدٌ، وعامِرٌ الشَّعبيُّ، وأكثَرُ المفسِّرينَ: إنَّ معنى هذه الآيةِ أنَّ أكثَرَ النَّاسِ -وهم الكفَّارُ- ما كانوا يؤمِنونَ باللهِ بتَوحيدِهم له في رُبوبيَّتِه إلَّا وهم مُشرِكونَ به غيَره في عبادتِه، فالمرادُ بإيمانِهم اعترافُهم بأنَّه ربُّهم الذي هو خالِقُهم، ومُدَبِّرُ شُؤونِهم، والمرادُ بشِرْكِهم عِبادتُهم غيَره معه) .

    قال عِكْرِمةُ: (تَسْأُلُهم: من خلَقَهم، ومن خَلَق السَّمواتِ والأرضَ؟ فيقولونَ: اللهُ، فذلك إيمانُهم باللهِ، وهم يَعبُدونَ غَيْرَه!) .

    وقال عبدُ الرَّحمنِ بنُ زَيدِ بنِ أسلَمَ: (ليس أحدٌ يَعبُدُ مع اللهِ غَيْرَه إلَّا وهو مؤمِنٌ باللهِ، ويَعرِفُ أنَّ اللهَ رَبُّه، وأنَّ اللهَ خالِقُه ورازِقُه، وهو يُشرِكُ به، ألا ترى كيف قال إبراهيمُ: قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ؟ [الشعراء: 75- 77] قد عَرَف أنَّهم يَعبُدونَ رَبَّ العالَمينَ مع ما يَعبُدونَ، فليس أحدٌ يُشرِكُ به إلَّا وهو مؤمِنٌ به، ألا ترى كيف كانت العَرَبُ تلبِّي؛ تقولُ: لبَّيك اللَّهُمَّ لبَّيك، لَبَّيكَ لا شَريكَ لك، إلَّا شريكٌ هو لك، تملِكُه وما مَلَك؟ المشرِكونَ كانوا يقولون هذا) .

    فلم يكُنِ المُشرِكونَ يَعتَقِدونَ أنَّ الأصنامَ هي التي تُنزِلُ الغَيثَ، وتَرزُقُ العالَمَ، وتُدَبِّرُ شُؤونَه، بل كانوا يَعتَقِدونَ أنَّ ذلك من خصائِصِ الرَّبِّ سُبحانَه، ويُقِرُّون أنَّ أوثانَهم التي يدْعونَ مِن دُونِ اللهِ مَخلوقةٌ لا تَملِكُ لأنفُسِها ولا لعابِدِيها ضَرًّا ولا نَفعًا استِقلالًا، ولا مَوتًا ولا حياةً ولا نُشورًا، ولا تَسمَعُ ولا تُبصِرُ، ويقِرُّون أنَّ اللهَ هو المتفَرِّدُ بذلك لا شَريكَ له، ليس إليهم ولا إلى أوثانِهم شَيءٌ من ذلك، وأنَّه سُبحانَه الخالِقُ، وما عداه مخلوقٌ، والرَّبُّ، وما عَداه مربوبٌ، غَيرَ أنَّهم جَعَلوا له مِن خَلْقِه شُرَكاءَ يَشفَعونَ لهم بزَعْمِهم عند اللهِ، ويُقَرِّبونهم إليه زُلفى،
    كما قال اللهُ تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3] ، ومع هذا الإقرارِ العامِّ من المُشرِكينَ للهِ بالرُّبوبيَّةِ فإنَّه لم يُدخِلْهم في الإسلامِ، بل حَكَم اللهُ فيهم بأنَّهم مُشرِكون كافِرونَ، وتوعَّدهم بالنَّارِ والخُلودِ فيها، واستباحَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دماءَهم وأموالَهم؛ لكَونِهم لم يحقِّقوا لازمَ توحيدِ الرُّبوبيَّةِ، وهو توحيدُ اللهِ في العِبادةِ.
    وبهذا يتبيَّنُ أنَّ الإقرارَ بتَوحيدِ الرُّبوبيَّةِ وَحْدَه دونَ الإتيانِ بلازمِه، وهو توحيدُ الأُلوهيَّةِ، لا يكفي ولا ينجِّي مِن عَذابِ اللهِ، بل هو حُجَّةٌ بالِغةٌ على الإنسانِ تَقتضي إخلاصَ الدِّينِ لله وَحْدَه، وتَستلزِمُ إفرادَ اللهِ بالعِبادةِ .

    قال ابنُ القَيِّمِ: (توحيدُ الأُلوهيَّةِ هو المنجِّي من الشِّركِ دونَ توحيدِ الرُّبوبيَّةِ بمجَرَّدِه؛ فإنَّ عُبَّادَ الأصنامِ كانوا مُقِرِّين بأنَّ اللهَ وَحْدَه خالِقُ كُلِّ شَيءٍ ورَبُّه ومَلِيكُه، ولكِنْ لَمَّا لم يأتُوا بتوحيدِ الأُلوهيَّةِ -وهو عِبادتُه وَحْدَه لا شَريكَ له- لم ينفَعْهم توحيدُ رُبوبيَّتِه) .

    وقال المقريزيُّ: (لا وَلِيَّ ولا حَكَمَ ولا رَبَّ إلَّا اللهُ الذي مَن عَدَلَ به غيرَه فقد أشرك في ألوهِيَّتِه، ولو وحَّد رُبوبيَّتَه؛ فتوحيدُ الرُّبوبيَّةِ هو الذي اجتمَعَت فيه الخلائِقُ مُؤمِنُها وكافِرُها، وتوحيدُ الإلهيَّةِ مَفْرِقُ الطُّرُقِ بين المؤمِنينَ والمُشرِكين؛ ولهذا كانت كَلِمةُ الإسلامِ: لا إلهُ إلَّا اللهُ، ولو قال: لا رَبَّ إلَّا اللهُ، لَمَا أجزأه عند المحَقِّقين، فتوحيدُ الألوهيَّةِ هو المطلوبُ من العِبادِ) .
    وقال سُلَيمانُ بنُ عبدِ اللهِ آل الشَّيخ: (وهذا التَّوحيدُ -أي: توحيدُ الرُّبوبيَّةِ- لا يَكفي العبدَ في حُصولِ الإسلامِ، بل لا بدَّ أن يأتيَ مع ذلك بلازِمِه من توحيدِ الأُلوهيَّةِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى حكى عن المُشرِكينَ أنَّهم مُقِرُّون بهذا التَّوحيدِ للهِ وَحْدَه ... الكُفَّارُ يَعرِفونَ اللهَ ويَعرِفونَ رُبوبيَّتَه ومُلكَه وقَهْرَه، وكانوا مع ذلك يَعبُدونَه ويُخلِصون له أنواعًا من العِباداتِ؛ كالحَجِّ، والصَّدَقةِ، والذَّبحِ، والنَّذْرِ، والدُّعاءِ وَقْتَ الاضطرارِ، ونحوِ ذلك، ويدَّعونَ أنَّهم على ملَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ...
    وبَعضُهم يؤمِنُ بالبَعْثِ والحِسابِ، وبَعْضُهم يؤمِنُ بالقَدَرِ... فوجَبَ على كُلِّ من عَقَل عن اللهِ تعالى أن ينظُرَ ويَبحَثَ عن السَّبَبِ الذي أوجَبَ سَفْكَ دمائِهم، وسَبْيَ نِسائِهم، وإباحةَ أموالِهم، مع هذا الإقرارِ والمَعرِفةِ، وما ذاك إلَّا لإشراكِهم في توحيدِ العِبادةِ الذي هو معنى
    لا إلهَ إلَّا اللهُ) .
    وقال الشَّوكانيُّ: (اعلَمْ أنَّ اللهَ لم يبعَثْ رُسُلَه، ويُنزِلْ كُتُبَه لتعريفِ خَلْقِه بأنَّه الخالِقُ لهم، والرَّازِقُ، ونحوُ ذلك؛ فإنَّ هذا يُقِرُّ به كُلُّ مُشرِكٍ قَبلَ بَعثةِ الرُّسُلِ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ... [الزخرف: 87] ولهذا تجِدُ كلَّ ما ورد في الكتابِ العزيزِ في شأنِ خالِقِ الخَلْقِ ونحوِه في مخاطبةِ الكُفَّارِ مُعَنْونًا باستفهامِ التقريرِ: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر: 3] أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ... [إبراهيم: 10] بل بعَثَ اللهُ رُسُلَه، وأنزل كُتُبَه لإخلاصِ توحيدِه، وإفرادِه بالعِبادةِ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِهِ [هود: 84] ) .

    وقال عبدُ الرَّحمنِ بنُ حَسَن آل الشَّيخِ: (فليس كلُّ من أقرَّ بأنَّ اللهَ تعالى ربُّ كلِّ شيءٍ وخالِقُه يكونُ عابِدًا له دونَ ما سِواه، داعيًا له دونَ ما سِواه، راجيًا له خائِفًا منه دونَ ما سِواه، يوالي فيه، ويعادي فيه، ويُطيعُ رُسُلَه، ويأمُرُ بما أمَرَ به، وينهى عمَّا نهى عنه، وعامَّةُ المُشرِكينَ أقرُّوا بأنَّ اللهَ خالِقُ كُلِّ شَيءٍ، وأثبَتوا الشُّفعاءَ الذين يُشرِكونَهم به، وجَعَلوا له أندادًا ... ولهذا كان مِنْ أتباعِ هؤلاء من يَسجُدُ للشَّمسِ والقَمَرِ والكواكِبِ ويَدْعوها ويَصومُ ويَنسُكُ لها ويتقرَّبُ إليها، ثمَّ يَقولُ: إنَّ هذا ليس بشِركٍ، إنَّما الشِّرْكُ إذا اعتقَدْتُ أنَّها المدَبِّرةُ لي، فإذا جعَلْتُها سببًا وواسطةً لم أكنْ مُشرِكًا! ومن المعلومِ بالاضطرارِ مِن دينِ الإسلامِ أنَّ هذا شِرْكٌ) .

    وقال محمود شكري الألوسي في دفاعِه عن محمَّدِ بنِ عبدِ الوهَّابِ: (أبدى رحمه الله تعالى من التقاريرِ المفيدةِ، والأبحاث ِالفَريدةِ على كَلِمةِ الإخلاصِ والتوحيدِ -شهادة أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ- ما دَلَّ عليه الكتابُ المصَدَّقُ، والإجماعُ المُستبين المحقَّق، من نَفْيِ استحقاقِ العبادةِ والإلهيَّةِ عَمَّا سِوى اللهِ، وإثباتِ ذلك لله سبحانَه على وَجهِ الكَمالِ المُنافي لكُلِّيَّاتِ الشِّركِ وجُزئيَّاتِه، وأنَّ هذا هو معناها وَضْعًا ومُطابقةً، خِلافًا لِمن زعم غيرَ ذلك من المتكَلِّمين، كمن يُفَسِّرُ ذلك بالقُدرةِ على الاختراعِ، أو بأنَّه تعالى غَنِيٌّ عمَّا سِواه، مُفتقِرٌ إليه ما عداه؛ فإنَّ هذا لازمُ المعنى؛
    إذ الإلهُ الحَقُّ لا يكونُ إلَّا قادرًا غنيًّا عِمَّا سِواه، وأمَّا كونُ هذا هو المعنى المقصودَ بالوَضْعِ، فليس كذلك، والمتكَلِّمون خَفِيَ عليهم هذا، وظنُّوا أنَّ تحقيقَ توحيدِ الرُّبوبيَّةِ والقُدرة هو الغايةُ المقصودةُ، والفناءُ فيه هو تحقيقُ التوحيدِ، وليس الأمرُ كذلك، بل هذا لا يكفي في الإيمانِ وأصلِ الإسلامِ إلَّا إذا أضيفَ إليه واقتَرَن به توحيدُ الإلهيَّةِ، وإفرادُ اللهِ بالعبادةِ والحُبِّ، والخُضوعِ والتعظيمِ، والإنابةِ والتوكُّلِ، والخَوفِ والرَّجاءِ، وطاعةِ اللهِ وطاعةِ رَسولِه، هذا أصلُ الإسلامِ وقاعِدتُه
    ) .

    وقال المعصومي الخُجَندي: (اعلَمْ أنَّ «لا إله إلَّا اللهُ» هي الكَلِمةُ الفارقةُ بين الكُفرِ والإسلامِ، فمن قالها عالِمًا بمعناها ومعتقدًا إيَّاها، فقد دخل في الإسلامِ، وصار من أهلِ دارِ السَّلامِ: الجنَّةِ،
    وأمَّا من قال: لا خالِقَ إلَّا اللهُ، أو لا رازِقَ إلَّا اللهُ، أو لا رَبَّ إلَّا اللهُ... أو نحوَ ذلك، فلا يكونُ مُسلِمًا، ولا يكونُ من أهلِ دارِ السَّلامِ، وهذه الكَلِماتُ وإن كانت كَلِماتٍ حَقَّةً، ولكِنْ يشتَرِكُ في القولِ بها سائِرُ النَّاسِ من المُشرِكين والمجوسِ والنَّصارى واليَهودِ وغَيرِهم... كما يَشهَدُ القُرآنُ بذلك) .

    ثالثاً : : مُقتَضَياتُ الإقرارِ للهِ تعالى بالرُّبوبيَّةِ

    إذا أقرَّ العَبدُ لله تعالى بالرُّبوبيَّةِ فإنَّ إقرارَه هذا يقتضي أُمورًا لا بدَّ منها، وهي:
    أوَّلًا: أن يعتَقِدَ أنَّ اللهَ سُبحانَه هو المتفرِّدُ بالنَّفعِ والضُّرِّ، والإعطاءِ والمَنْعِ، والإحياءِ والإماتةِ، والتَّدبيرِ للكَونِ بما فيه، ولا يَشرَكُه في ذلك أحدٌ، ويَدخُلُ في هذا الإيمانُ بالقَضاءِ والقَدَرِ.
    قال اللهُ تعالى: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [آل عمران: 154] .
    وقال اللهُ سُبحانَه: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [الأعراف: 188] .
    وقال اللهُ عزَّ وجلَّ: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [يونس: 107] .
    وقال اللهُ تبارك وتعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا [الفرقان: 3] .
    وقال اللهُ جلَّ شأنُه: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا [الفتح: 11] .
    ثانيًا: إثباتُ رَبٍّ مُبايِنٍ للعالَمِ

    قال اللهُ تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 54] .
    وقال سُبحانَه: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام: 18] .

    قال ابنُ القَيِّمِ: (إنَّ الرُّبوبيَّةَ المحضةَ تَقتَضي مُبايَنةَ الرَّبِّ للعالَمِ بالذَّاتِ، كما بايَنَهم بالرُّبوبيَّةِ وبالصِّفاتِ والأفعالِ، فمَن لم يُثبِتْ ربًّا مُبايِنًا للعالَمِ فما أثبتَ ربًّا) .

    ثالثًا: أن يكونَ الإقرارُ بالرُّبوبيَّةِ مُوصِلًا للعَبدِ إلى الإقرارِ بالأُلوهيَّةِ، كما تقَدَّم ذِكْرُه، فلا يَصرِفُ أيَّ نوعٍ من أنواعِ العباداتِ لغَيرِ اللهِ.
    قال اللهُ تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [يونس: 3] .

    --------------------------------------------------------------------------
    التالي : -
    -
    : الأدِلَّةُ الدَّالَّةُ على إثباتِ الرُّبوبيَّةِ :

    -
    تابعونا جزاكم الله خيرا

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5198
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    الإيمانُ باللهِ: (توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، والأُلُوهيَّةِ، والأسماءِ والصِّفاتِ)   الإيمانِ بوُجودِ اللهِ تعالى وأقسامِ التَّوحيدِ -   توحيدُ الرُّبوبيَّةِ  - توحيدُ الأُلوهيَّةِ  -   توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ                     Empty : الأدِلَّةُ الدَّالَّةُ على إثباتِ الرُّبوبيَّةِ :

    مُساهمة من طرف صادق النور الأربعاء نوفمبر 29, 2023 9:45 pm

    يتبع ما قبله :-

    : الأدِلَّةُ الدَّالَّةُ على إثباتِ الرُّبوبيَّةِ :

    حَفَل القرآنُ الكريمُ بالأدِلَّةِ على ربوبيَّةِ اللهِ، التي تبيِّنُ عَظَمتَه، وتفَرُّدَه بالخَلْقِ والمُلْكِ والتَّدبيرِ.
    والأدِلَّةُ على ذلك تعَزِّزُ الفِطْرةَ، وتَزيدُها يَقينًا واستِقامةً، كما يحتاجُ إليها أيضًا من تعرَّضت فِطرتُه لأحوالٍ مِنَ الشِّركِ والكُفرِ، فتأتي هذه الأدِلَّةُ لتَنبيهِ الفِطرةِ، وتقويمِ اعوِجاجِها.
    قال ابنُ تَيميَّةَ: (الإقرارُ بالخالقِ وكَمالِه كما يكونُ فِطْريًّا ضروريًّا في حَقِّ من سَلِمَت فِطْرتُه، وإن كان مع ذلك تَقومُ عليه الأدِلَّةُ الكثيرةُ، وقد يحتاجُ إلى الأدلَّةِ عليه كثيرٌ مِنَ النَّاسِ، عند تغيُّرِ الفِطرةِ، وأحوالٍ تَعرِضُ لها) .

    وممَّا يُبَيِّنُ مدى أثَرِ القُرآنِ في إحياءِ الِفطرةِ ومُعالجتِها من ظُلُماتِ الشِّركِ والكُفرِ: حديثُ جُبَيرِ بنِ مُطعِمٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقرَأُ في المغرِبِ بالطُّورِ، فلمَّا بلغ هذه الآيةَ: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ [الطور:35-37]، كاد قلبي أن يطيرَ) . وفي روايةٍ: (وذلك أوَّلَ ما وَقَر الإيمانُ في قَلْبي) .
    وقد دلَّ على ربوبيَّتِهِ سُبْحانَه: الفِطرةُ، والشَّرعُ، والحِسُّ، والعَقْلُ.

    أولاً : : دَلالةُ الفِطرةِ


    قال الخليلُ: (الفِطرةُ: التي طُبِعَت عليها الخليقةُ من الدِّينِ، فطَرَهم اللهُ على معرفتِه برُبوبيَّتِه) .

    وقال السَّعديُّ: (الفِطرةُ هي الخِلْقةُ التي خَلَق اللهُ عبادَه عليها، وجعَلَهم مفطورينَ عليها؛ على محبَّةِ الخَيرِ وإيثارِه، وكراهةِ الشَّرِّ ودَفْعِه، وفَطَرهم حُنَفاءَ مستعدِّين لقَبولِ الخَيرِ والإخلاصِ لله، والتقَرُّبِ إليه، وجَعَل تعالى شرائعَ الفِطرةِ نَوعَينِ:
    أحَدُهما: يُطَهِّرُ القَلْبَ والرُّوحَ، وهو الإيمانُ باللهِ، وتوابِعُه مِن خَوْفِه ورَجائِه، ومحبَّتِه والإنابةِ إليه؛
    قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الروم:30-31] ، فهذه تزكِّي النَّفسَ، وتطَهِّرُ القَلبَ وتنَمِّيه، وتُذهِبُ عنه الآفاتِ الرَّذيلةَ، وتحَلِّيه بالأخلاقِ الجَميلةِ، وهي كلُّها تَرجِعُ إلى أُصولِ الإيمانِ وأعمالِ القُلوبِ.
    والنَّوعُ الثَّاني: ما يعودُ إلى تطهيرِ الظَّاهِرِ ونَظافتِه، ودَفْعِ الأوساخِ والأقذارِ عنه) .
    ودليلُ الفِطْرةِ راسِخٌ في نُفوسِ البَشَرِ بما قد لا يَحتاجُ الإنسانُ معه إلى استِدلالٍ آخَرَ، ومِمَّا يدُلُّ على ذلك
    :

    1- لُجوءُ الإنسانِ وفَزَعُه إلى خالِقِه سُبحانَه عِندَ الشِّدَّةِ والحاجةِ، سَواءٌ كان هذا الإنسانُ مُوحِّدًا أو مُشرِكًا.
    فإنَّ بني آدمَ جميعًا يَشعُرونَ بحاجتِهم وفَقْرِهم، وهذا الشُّعورُ أمرٌ ضَروريٌّ فِطريٌّ، فالفَقْرُ وَصفٌ ذاتيٌّ لهم، فإذا ألَمَّت بالإنسانِ حتى المُشرِكِ مصيبةٌ قد تؤدِّي به إلى الهلاكِ، فَزِع إلى خالِقِه سُبحانَه، والتجأ إليه وَحْدَه دونَ ما سِواه، وشُعورُ هذا الإنسانِ بحاجتِه وفَقْرِه إلى رَبِّه تابعٌ لشُعورِه بوُجودِه وإقرارِه بذلك
    .
    قال اللهُ تعالى: وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا [يونس: 12] .
    وقال اللهُ سُبحانَه: وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 67] .
    2- ورودُ التَّكليفِ بتوحيدِ العبادةِ أوَّلًا
    قال اللهُ تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] .
    فلو لم يَكُنِ الإقرارُ باللهِ تعالى وبرُبوبيَّتِه فِطْريًّا لَدَعاهم إليه أوَّلًا؛ إذ الأمرُ بتَوحيدِه في عِبادتِه فَرعٌ عن الإقرارِ به وبرُبوبيَّتِه.
    ولو لم يكُنِ الإقرارُ باللهِ تعالى وبرُبوبيَّتِه فِطْريًّا، لساغ لمعارِضي الرُّسُلِ عند أمْرِهم بعبادةِ اللهِ وَحْدَه أن يقولوا: نحن لم نَعرِفْه أصلًا فكيف يأمُرُنا؟! فعدَمُ حُدوثِ ذلك دليلٌ على أنَّ المَعرِفةَ برُبوبيَّةِ اللهِ كانت مُستقِرَّةً في فِطَرِهم
    .
    3- إلزامُ المُشرِكينَ بتَوحيدِ الرُّبوبيَّةِ ليُقِرُّوا بتوحيدِ الأُلوهيَّةِ
    فإنَّ المُشرِكينَ لو كانوا غيرَ مقِرِّين برُبوبيَّةِ الله تعالى، لَما ألزَمَهم اللهُ بها؛ كي يُثبِتَ لهم وجوبَ الإقرارِ بإفرادِه في العبادةِ،
    وقد قال الرُّسُلُ لقَومِهم
    : أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى [إبراهيم: 10] .

    قال ابنُ تَيميَّةَ: (فدَلَّ ذلك على أنَّه ليس في اللهِ شَكٌّ عند الخَلْقِ المخاطَبينَ، وهذا يبيِّنُ أنَّهم مفطورون على الإقرارِ) .

    وقال الكمالُ بنُ الهمامِ -بعد أن ذكَرَ كُفْرَ أهلِ الدِّياناتِ الباطِلةِ-: (اعترف الكُلُّ بأنَّ خَلْقَ السَّمَواتِ والأرضِ، والألوهيَّةَ الأصليَّةَ للهِ تعالى،
    قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25] ،
    فهذا كان في فِطرتِهم؛ ولذا كان المسموعُ من الأنبياءِ دَعوةَ الخَلْقِ إلى التوحيدِ شَهادةِ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، دون أن يَشهَدوا أنَّ للخَلْقِ إلهًا) .
    4- التَّصريحُ بأنَّ الفِطْرةَ مُقتضيَةٌ للإقرار ِبالرَّبِّ وتوحيدِه وحُبِّه
    قال اللهُ تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الروم: 30] .
    وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما من مولودٍ إلَّا يُولَدُ على الفِطرةِ، فأبواه يُهَوِّدانِه أو يُنَصِّرانِه أو يمَجِّسانِه )) .
    فقد فَطَر اللهُ كُلَّ إنسانٍ على توحيدِه، بحيث يكونُ ذلك أصلًا يُولَدُ عليه كلُّ مَولودٍ؛ فالفِطْرةُ هي الإسلامُ الذي أصلُه توحيدُ اللهِ بالإرادةِ والمحبَّةِ، وأمَّا الأديانُ الباطِلةُ فهي مخالِفةٌ للفِطرةِ، وانحرافٌ عن الأصلِ الذي هو الإسلامُ .

    قال ابنُ تَيميَّةَ: (أكثَرُ النَّاسِ على أنَّ الإقرارَ بالصَّانِعِ ضَروريٌّ فِطريٌّ، وذلك أنَّ اضطرارَ النُّفوسِ إلى ذلك أعظَمُ من اضطِرارِها إلى ما لا تتعلَّقُ به حاجتُها، ألَا ترى أنَّ النَّاسَ يَعرِفونَ مِن أحوالِ مَن تتعلَّقُ به مَنافِعُهم ومضارُّهم؛ كوُلاةِ أُمورِهم، ومماليكِهم، وأصدقائِهم، وأعدائِهم: ما لا يَعلَمونَه من أحوالِ من لا يَرجُونَه ولا يَخافُونَه؟ ولا شَيءَ أحوَجُ إلى شيءٍ من المخلوقِ إلى خالِقِه، فهم يحتاجُونَ إليه من جِهةِ رُبوبيَّتِه؛ إذ كان هو الذي خلَقَهم، وهو الذي يأتيهم بالمنافعِ، ويدفَعُ عنهم المضارَّ .
    وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل: 53] ) .

    ثانياً : : دَلالةُ الحِسِّ

    إنَّ الإنسانَ حينَ يدعو اللهَ عزَّ وجلَّ فيَستجيبُ دُعاءَه، فهذه دَلالةٌ حِسِّيَّةٌ تَشهَدُ على وُجودِ اللهِ، وانفرادِه بتَدبيرِ الكَونِ.
    قال اللهُ تعالى: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ [إبراهيم: 34] .
    وقال اللهُ سُبحانَه: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ [الأنعام: 41] .
    وقال اللهُ عزَّ وجلَّ: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل: 62] .
    وقال اللهُ تبارك وتعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ * وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء: 83 - 90] .

    وعن أَنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَجُلًا دَخَلَ يَومَ الجُمُعَةِ مِن بَابٍ كانَ وِجَاهَ المِنْبَرِ، ورَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَائِمًا، فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ: هَلَكَتِ المَوَاشِي، وانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُغِيثُنا،
    قالَ: فَرَفَعَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدَيْهِ، فَقالَ: ((اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا )) قالَ أنَسُ: ولَا واللَّهِ ما نَرَى في السَّمَاءِ مِن سَحَابٍ ولَا قَزَعَةً ولَا شيئًا، وما بيْنَنَا وبيْنَ سَلْعٍ مِن بَيْتٍ ولَا دَارٍ، فَطَلَعَتْ مِن ورَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أمْطَرَتْ، قالَ: واللَّهِ ما رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتًّا... .
    فهذا أمرٌ واقِعٌ يدُلُّ على الخالِقِ دَلالةً حِسَّيَّةً .

    ثالثاً : دَلالةُ الشَّرعِ

    قال ابنُ القَيِّمِ: (هذه الطَّريقُ من أقوى الطُّرُقِ وأصَحِّها وأدَلِّها على الصَّانِعِ وصِفاتِه وأفعالِه، وارتِباطُ أدلَّةِ هذه الطَّريقِ بمدلولاتِها أقوى مِن ارتِباطِ الأدِلَّةِ العَقليَّةِ الصَّريحةِ بمَدلولاتِها؛ فإنَّها جمَعَت بيْن دَلالةِ الحِسِّ والعَقلِ، ودَلالتُها ضروريةٌ بنَفْسِها؛ ولهذا يسَمِّيها اللهُ سُبحانَه آياتٍ بَيِّناتٍ، وليس في طُرُقِ الأدِلَّةِ أوثَقُ ولا أقوى منها) .
    وبيانُ هذه الطَّريقِ مِن وَجهَينِ:
    الوَجهُ الأوَّلُ: المُعجِزاتُ:
    فقد أرسَلَ اللهُ تعالى رُسُلَه بالوَحيِ، وأيَّدهم بالمُعجِزاتِ تَصديقًا لهم، وإذا جاء الرَّسولُ بآيةٍ تدُلُّ على صِدْقِه فقد ثبَتَت الرِّسالةُ، وتَثبُت الرُّبوبيَّةُ بذلك ضِمْنًا؛ لأنَّها حَدَثٌ من جِنسٍ لا يَقدِرُ على مِثْلِه البَشَرُ.
    قال اللهُ تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ [الحديد: 25] .
    وقال اللهُ سُبحانَه عن آيتَيِ العَصا واليَدِ اللَّتَينِ أُرسِلَ بهما موسى عليه السَّلامُ: فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ [القصص: 32] .
    فقد دعا موسى عليه السَّلامُ فِرعَونَ بهذينِ البُرهانَينِ العََظيمينِ، فقال له: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ [الشعراء: 30] .
    وقال اللهُ عزَّ وجلَّ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ [هود: 13-14] ،

    وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما من الأنبياءِ مِن نبيٍّ إلَّا قد أُعطِيَ مِنَ الآياتِ ما مِثلُه آمَنَ عليه البَشَرُ، وإنَّما كان الذي أُوتيتُ وحيًا أوحاه اللهُ إليَّ، فأرجو أن أكونَ أكثَرَهم تابعًا يومَ القيامةِ )) .
    فبمُعجِزةِ القُرآنِ تَثبُتُ وتتقَرَّرُ الرِّسالةُ والوَحْدانيَّةُ، ومعلومٌ أنَّ توحيدَ الأُلوهيَّةِ مُتضَمِّنٌ لتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ، فإذا ثَبَت الأوَّلُ ثَبَت الثَّاني ضِمنًا .
    الوَجهُ الثَّاني: العُلومُ والأحكامُ المُتضَمِّنةُ لمصالِحِ الخَلْقِ:
    أوَّلًا: العُلومُ:
    اتَّفَق الرُّسُلُ جميعًا على الإخبارِ بأشياءَ مُعَيَّنةٍ، ومِن ذلك: دَعوتُهم جميعًا إلى عبادةِ إلهٍ واحِدٍ، وكذلك بِشارةُ موسى وعيسى برِسالةِ رَسولِنا محمَّدٍ، عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ، مِن غيرِ تَواطُؤٍ منهم على الاتِّفاقِ على ذلك، مع بُعدِ الأزمِنةِ والأمكِنةِ، وقد قَصَّ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبارَ الأُمَمِ الماضِينَ مع القَطْعِ بأنَّه كان يَعيشُ في أمَّةٍ أمِّيَّةٍ، وأخبَرَ في القُرآنِ والسُّنَّةِ بأُمورٍ تَقَعُ في المُستَقبَلِ، فوقَعَت كما أخبَرَ.
    فممَّا ورد في القُرآنِ قولُه تعالى: الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم: 1-4] فكان كما أخبَرَ اللهُ عزَّ وجلَّ.
    وممَّا ورد في السُّنَّةِ ما جاء عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا هَلَك كِسْرى فلا كِسْرى بَعْدَه )) ، فكان الأمرُ كما أخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
    والأخبارُ في هذا كثيرةٌ يَحصُلُ بمَجموعِها العِلمُ الضَّروريُّ اليَقينيُّ، وهي تدُلُّ دَلالةً واضِحةً على صِدْقِ نُبُوَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعلى وُجودِ الخالِقِ سُبحانَه؛ لأنَّه هو الذي أطلَعَه على ذلك، فلا يُعقَلُ أن يخبِرَ بأشياءَ يَصدُقُ فيها دائمًا إلَّا إذا كان نَبيًّا، وكان الذي أوحى إليه هو من بيَدِه كُلُّ شَيءٍ، وتتطابَقُ أخبارُه مع أقدارِه .

    ثانيًا: الأحكامُ المتضَمِّنةُ لمصالحِ الخَلْقِ:
    فقد تضَمَّنت الشَّريعةُ الإسلاميَّةُ حِكَمًا ومَصالِحَ عظيمةً يَقطَعُ الإنسانُ أنَّها لا يمكِنُ أن تكونَ إلَّا من خالقٍ عليمٍ حكيمٍ؛ فالشَّريعةُ جاءت لتَحصيلِ المصالِحِ وتَكميلِها، ودَرْءِ المفاسِدِ وتَقليلِها .

    رابعاً : : دَلالةُ العَقلِ

    إنَّ النَّظَرَ في آياتِ اللهِ للاستِدلالِ بها على رُبوبيَّتِه من النَّاحيةِ العَقْليَّةِ يُمكِنُ تَقسيمُه إلى نوعَينِ:
    النَّوعُ الأوَّلُ: النَّظَرُ في آياتِ اللهِ في خَلْقِ النَّفسِ البَشَريَّةِ
    قال اللهُ تعالى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21].
    وهذا ما يُعرَفُ بـدَلالةِ الأنفُسِ؛ فالنَّفسُ آيةٌ من آياتِ اللهِ العَظيمةِ الدَّالَّةِ على تفرُّدِ اللهِ وَحْدَه بالرُّبوبيَّةِ لا شَريكَ له، فإذا تفكَّر الإنسانُ في نَفْسِه وما فيها مِن عَجائِبَ، أيقَنَ أنَّ له ربًّا خالِقًا حَكيمًا خَبيرًا قَديرًا رَحيمًا.

    النَّوعُ الثَّاني
    : النَّظَرُ في آياتِ اللهِ في خَلقِ الكَونِ
    قال اللهُ تعالى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الأعراف: 185] .
    وهذا ما يُعرَفُ بـدَلالةِ الآفاقِ.
    فكلُّ مخلوقٍ كَبيرٍ أو صغيرٍ هو آيةٌ من آياتِ اللهِ العظيمةِ الدَّالَّةِ على رُبوبيَّتِه.
    وقال اللهُ سُبحانَه: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [يونس: 101] .
    أي: قُلْ -يا مُحَمَّدُ- للمُشرِكينَ الذين يسألونَك الآياتِ: انظُروا ماذا في السَّمواتِ مِن الشَّمسِ والقَمَرِ والنُّجومِ والسَّحابِ، وفي الأرضِ مِن الجِبالِ والبِحارِ، والأنهارِ والأشجارِ، والثِّمارِ والدوابِّ وغيرِ ذلك من المخلوقاتِ الصَّغيرةِ والكبيرةِ، فتفَكَّروا فيها واعتَبِروا؛ فإنَّها دالَّةٌ على وحدانيَّةِ اللهِ في ربوبيَّتِه وأُلُوهيَّتِه، وعلى كمالِ قُدرتِه وعظيمِ صِفاتِه، فتُغنيكم عن طلَبِ الآياتِ .

    وقال اللهُ عزَّ وجلَّ: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53] .
    فمن تأمَّل الآفاقَ وما في هذا الكونِ من عجائِبَ، دَلَّه ذلك على أنَّ هناك خالقًا لهذا الكَونِ، ومُدَبِّرًا لشُؤونِه .

    قال ابنُ كثيرٍ في تفسيرِ قَولِ اللهِ تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [العنكبوت: 19] : (أرشَدَهم إلى الاعتبارِ بما في الآفاقِ مِن الآياتِ المشاهَدةِ مِن خَلْقِ اللهِ الأشياءَ: السَّمَواتِ وما فيها من الكواكِبِ النَّيِّرةِ الثَّوابتِ والسَّيَّاراتِ، والأرَضِين وما فيها من مِهادٍ وجبالٍ، وأوديةٍ وبِرارٍ وقِفارٍ، وأشجارٍ وأنهارٍ، وثمارٍ وبحارٍ، كُلُّ ذلك دالٌّ على حُدوثِها في أنفُسِها، وعلى وجودِ صانِعِها الفاعِلِ المختارِ، الذي يقولُ للشَّيءِ: كُنْ، فيكونُ) .

    قال ابنُ رَجَبٍ: (أخبَرَ سُبحانَه أنَّه إنَّما خَلَق السَّمواتِ والأرضَ، ونزَّل الأمرَ؛ لنعلَمَ بذلك قُدرتَه وعِلْمَه، فيكونَ دليلًا على مَعرِفتِه، ومَعرِفةِ صِفاتِه) .
    وقد حكى اللهُ تعالى استِدلالَ موسى عليه السَّلامُ بالآياتِ المشهودةِ في الأنفُسِ والآفاقِ للرَّدِّ على فِرعَونَ الذي كان يَقولُ لِقَومِه:
    مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38] ، فتابعه قومُه على ذلك،
    كما قال تعالى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ [الزخرف: 54] ، فسأل فرعونُ موسى فقال له: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 23] أي: مَن هذا الذي تزعُمُ أنَّه رَبُّ العالَمينَ غَيري؟ -
    كما قال تعالى: قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى [طه: 49] -
    فأجابه موسى عليه السَّلامُ: قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا [الشعراء: 24] أي: خالِقُ جميعِ ذلك ومالكُه والمتصَرِّفُ فيه، وهو الذي خَلَق الأشياءَ كُلَّها؛ العالَمَ العُلْويَّ وما فيه من الكواكِبِ، والعالَمَ السُّفْليَّ وما فيه من عجائِبِ المخلوقاتِ، كالجِبالِ والبِحارِ والأشجارِ، وهذا الردُّ على فِرعَونَ واضِحٌ؛ لأنَّه لا يمكِنُ أن يدَّعيَ مُلْكَه لكُلِّ هذه الأشياءِ، وإنَّما كان له نوعُ مُلكٍ، وهو محدودٌ على مِصْرٍ،
    فعندما سَمِعَ هذه الحُجَّةَ التفت إلى من حولَه من الملأِ قائلًا: أَلَا تَسْتَمِعُونَ [الشعراء: 25] ؟! على سَبيلِ التهَكُّمِ! ثمَّ زاد موسى عليه السَّلامُ الحُجَجَ فقال: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: 26]
    أي: خالِقُكم وخالِقُ آبائِكم الأوَّلينَ الذين كانوا قبل فِرعَونَ وزمانِه، فكيف تَصِحُّ منه دعوى الرُّبوبيَّةِ إذَن؟ فما كان من فِرعَونَ إلَّا أنْ وَصَف موسى بالجُنونِ، فقال: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء: 27] إمعانًا في تضليلِ قَومِه، فأجاب موسى بقَولِه: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [الشعراء: 28] أي: هو الذي جَعَل المشرِقَ مَشرِقًا تَطلُعُ منه الشَّمسُ والكواكِبُ، والمغرِبَ تَغرُبُ فيه الشَّمسُ والكواكِبُ بنِظامٍ دَقيقٍ لا يتغيَّرُ على حَسَبِ تقديره. وتقريرُ الحُجَّةِ: إن كان فِرعَونُ صادِقًا في دعواه الرُّبوبيَّةَ فليعكِسْ الأمرَ، فغُلِبَ وانقَطَع وعَدَل إلى استِعمالِ قُوَّتِه .
    وتلك الآياتُ -سواءٌ المتعلِّقةُ منها بالنَّفسِ البَشَريَّةِ أو غَيِرها مِنَ الكائِناتِ المخلوقةِ في الكَونِ- يمكِنُ الاستِدلالُ بها عَقْلًا على رُبوبيَّةِ اللهِ تعالى بعِدَّةِ طُرُقٍ؛ منها:

    أولًا: الاستِدلالُ باستحالةِ صُدورِ الوُجودِ مِن عَدَمٍ

    قال اللهُ تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ [الطور: 35-36].
    فإمَّا أنَّهم خَلَقوا أنفُسَهم، وهذا باطِلٌ؛ لأنَّه يَستلزِمُ وُجودَهم قَبْلَ الخَلْقِ؛ إذ لا يَصدُرُ الوُجودُ مِنَ العَدَمِ.
    وإمَّا أنَّه لا خالِقَ لهم أصلًا، فيكونُ العدمُ هو الذي أوجَدَهم، وهذا باطِلٌ أيضًا.
    وإما أنَّ لهم خالِقًا، وهو اللهُ سُبحانَه وتعالى .

    ثانيًا: الاستدلالُ بما في العالَمِ من التغيُّرِ المانِعِ مِن قِدَمِه

    وُقوعُ التغيُّرِ الطَّارِئِ على المخلوقاتِ دالٌّ على حُدوثِهم ونُشوئِهم.
    قال اللهُ تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر: 11] .
    وقال اللهُ سُبحانَه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ [النور: 43-44] .
    وقال اللهُ عزَّ وجلَّ: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 75 - 79] .

    ثالثًا: أنَّ الكونَ مُمكِنُ الوُجودِ وما كان كذلك فهو مَخلوقٌ

    إمكانُ العَدَمِ والوُجودِ على الكَونِ يَنفي وُجوبَ حُدوثِه بنَفْسِه.
    قال اللهُ تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [إبراهيم: 19] .
    وقال اللهُ سُبحانَه: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [الإنسان: 1، 2].

    رابعًا: أنَّ الكَونَ وُجِدَ على سَبيلِ الإتقانِ مِمَّا يَمنَعُ كَونَه وُجِدَ مِن غَيرِ مُوجِدٍ

    قال اللهُ تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ *الملك: 3-4*.
    وقال سُبحانَه: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل: 88].

    خامِسًا: استِحالةُ وُجودِ مُشارِكٍ للهِ في رُبوبيَّتِه

    قال اللهُ تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [المؤمنون: 19] .

    قال ابنُ أبي العِزِّ: (فتأمَّلْ هذا البُرهانَ الباهِرَ بهذا اللَّفظِ الوَجيزِ الظَّاهِرِ؛ فإنَّ الإلهَ الحقَّ لا بدَّ أن يكونَ خالِقًا فاعِلًا، يُوصِلُ إلى عابِدِه النَّفعَ، ويَدفَعُ عنه الضُّرَّ، فلو كان معه سُبحانَه إلهٌ آخَرُ يَشرَكُه في مُلكِه، لكان له خَلقٌ وفِعلٌ، وحينَئذٍ فلا يرضى تلك الشَّرِكةَ، بل إنْ قَدَر على قَهرِ ذلك الشَّريكِ وتفَرُّدِه بالمُلْك والإلهيَّةِ دُونَه، فَعَل، وإن لم يقدِرْ على ذلك انفَرَد بخَلْقِه وذَهَب بذلك الخَلْقِ، كما ينفَرِدُ ملوكُ الدُّنيا بعضُهم عن بعضٍ بممالِكِه، إذا لم يَقدِرِ المنفَرِدُ منهم على قَهرِ الآخَرِ والعُلُوِّ عليه، فلا بدَّ من أحَدِ ثلاثةِ أُمورٍ:
    - إمَّا أن يَذهَبَ كُلُّ إلهٍ بخَلْقِه وسُلطانِه.
    - وإمَّا أن يَعْلوَ بَعضُهم على بَعضٍ.
    - وإمَّا أن يكونوا تحتَ قَهرِ مَلِكٍ واحدٍ، يتصَرَّفُ فيهم كيف يَشاءُ، ولا يتصرَّفون فيه، بل يكونُ وَحْدَه هو الإلهَ، وهم العبيدُ المربوبونَ المقهورونَ مِن كلِّ وَجهٍ.
    وانتِظامُ أمرِ العالَمِ كُلِّه وإحكامُ أمرِه: مِن أدَلِّ دليلٍ على أنَّ مُدَبِّرَه إلهٌ واحِدٌ، ومَلِكٌ واحِدٌ، ورَبٌّ واحِدٌ، لا إلهَ للخَلقِ غيرُه، ولا ربَّ لهم سِواه... فالعِلمُ بأنَّ وجودَ العالَمِ عن صانِعَينِ مُتماثِلَينِ ممتَنِعٌ لِذاتِه، مُستقِرٌّ في الفِطَر، معلومٌ بصَريحِ العَقلِ بُطلانُه) .

    ---------------------------------------------------------------------------------------------التالي : -
    -
    : الضَّلالاتُ الواقِعةُ في توحيدِ الرُّبوبيَّةِ :
    -
    تابعونا جزاكم الله خيرا

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5198
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    الإيمانُ باللهِ: (توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، والأُلُوهيَّةِ، والأسماءِ والصِّفاتِ)   الإيمانِ بوُجودِ اللهِ تعالى وأقسامِ التَّوحيدِ -   توحيدُ الرُّبوبيَّةِ  - توحيدُ الأُلوهيَّةِ  -   توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ                     Empty : الضَّلالاتُ الواقِعةُ في توحيدِ الرُّبوبيَّةِ :

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس نوفمبر 30, 2023 9:41 am

    يتبع ما قبله :-

    : الضَّلالاتُ الواقِعةُ في توحيدِ الرُّبوبيَّةِ :


    : أولاً : من أنواعِ الضَّلالاتِ الواقِعةِ في توحيدِ الرُّبوبيَّةِ: الإتيانُ بما يُضادُّه :

    ممَّا يُضادُّ توحيدَ الرُّبوبيَّةِ: اعتقادُ متصَرِّفٍ مع اللهِ عزَّ وجلَّ في أيِّ شيءٍ يَتعَلَّقُ بتدبيرِ الكَونِ؛ من إيجادٍ أو إعدامٍ، أو إحياءٍ أو إماتةٍ، أو جَلْبِ خَيرٍ أو دَفْعِ شَرٍّ، أو غيرِ ذلك مِن معاني الرُّبوبيَّةِ.
    ويضادُّ توحيدَ الرُّبوبيَّةِ أيضًا: اعتِقادُ منازِعٍ له في شَيءٍ من مُقَتَضياتِ أسمائِه وصِفاتِه؛ كعِلمِ الغَيبِ، أو كالعَظَمةِ، والكِبرياءِ، وغيرِ ذلك.
    ويُضادُّه كذلك: اعتقادُ مُشَرِّعٍ مع اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّه هو الرَّبُّ وَحْدَه، ورُبوبيَّتُه شامِلةٌ لأمْرِه الكَونيِّ والشَّرعيِّ

    ثانياً : : مِن أنواعِ الضَّلالاتِ الواقعةِ في توحيدِ الرُّبوبيَّةِ : إنكارُه :

    لم يُنكِرْ توحيدَ الرُّبوبيَّةِ أحدٌ من البَشَرِ إلَّا طائِفةٌ شاذَّةٌ من المكابِرينَ المعانِدينَ، المنكِرينَ لِما هو مُتقرِّرٌ في فِطَرِهم؛ فإنكارُهم إنَّما هو بألسِنَتِهم مع اعترافِهم بالحَقِّ في قَرارةِ أنفُسِهم،
    كما قال تعالى عن فِرعَونَ وقَومِه: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [النمل: 14] .
    وفِرعَونُ هو أشهَرُ من عُرِفَ عنه إنكارُ رُبوبيَّةِ اللهِ سُبحانَه، كما أخبَرَ اللهُ أنَّه قال لقَومِه: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات: 24] ،
    وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38] ، وكلامُه هذا مجرَّدُ دعوى لم يُقِمْ عليها بَيِّنةً، بل كان هو نفسُه غيرَ مؤمِنٍ بما يقولُ،
    كما قال تعالى حاكيًا قولَ موسى عليه السَّلامُ: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء: 102] .
    وممَّن أنكر ذلك أيضًا في عصرِنا الحاضرِ الشُّيوعيُّونَ وبَعضُ المشتَغِلينَ بالفَلسَفةِ والعُلومِ الطَّبيعيَّةِ مِن فيزياءَ وغَيرِها، فأنكَروا رُبوبيَّةَ اللهِ ووُجودَه سُبحانَه، بناءً على عقيدتِهم الباطِلةِ التي تقومُ على الكُفرِ بالغَيبِ، والإيمانِ بالمادَّةِ وَحْدَها

    : توحيدُ الرُّبوبيَّةِ :

    : الجَهلُ بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ :


    لتَحديدِ مَناطِ قيامِ الحُجَّةِ على النَّاسِ في توحيدِ الرُّبوبيَّةِ يَجِبُ اعتِبارُ بديهيَّتِه، وأنَّه أمرٌ فِطريٌّ متقَرِّرٌ في نفوسِ جميعِ البَشَرِ كما تقَدَّم ذِكْرُه؛ ولذلك جاءت الأدِلَّةُ الشَّرعيَّةُ للتَّذكيرِ بهذه العَقيدةِ الفِطريَّةِ،
    كما قال اللهُ تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف: 172] .

    قال ابنُ القَيِّمِ: (لَمَّا كانت هذه آيةُ الأعرافِ في سورةٍ مَكِّيَّةٍ، ذكرَ فيها الميثاقَ والإشهادَ العامَّ لجَميعِ المكلَّفِينَ ممَّن أقَرَّ برُبوبيَّتِه ووَحدانيَّتِه وبُطلانِ الشِّرك، وهو ميثاقٌ وإشهادٌ تقومُ به عليهم الحُجَّةُ، وينقَطِعُ به العُذرُ، وتَحِلُّ به العُقوبةُ، ويَستحِقُّ بمخالفتِه الإهلاكَ، فلا بدَّ أن يكونوا ذاكِرينَ له، عارِفينَ به، وذلك ما فَطَرهم عليه مِنَ الإقرارِ برُبوبيَّتِه، وأنَّ فاطِرَهم رَبُّهم، وأنَّهم مَخلوقونَ مَربوبونَ، ثمَّ أرسَلَ إليهم رُسُلَه يذكِّرونهم بما في فِطَرِهم وعُقولِهم، ويُعَرِّفونَهم حَقَّه عليهم، وأمْرَه ونَهْيَه، ووَعْدَه ووعيدَه) .

    وقال حافظ الحَكَميُّ مُبيِّنًا أنواعَ المواثيقِ التي أخَذَها اللهُ عزَّ وجلَّ على بني آدَمَ: (هذه المواثيقُ كُلُّها ثابتةٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ:
    الأوَّلُ: الميثاقُ الذي أخَذَه اللهُ تعالى عليهم حين أخرَجَهم من ظَهرِ أبيهم آدَمَ عليه السَّلامُ، وأشهَدَهم على أنفُسِهم: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى [الأعراف: 172] الآيات،
    وهو الذي قاله جمهورُ المفَسِّرينَ رَحِمَهم اللهُ في هذه الآياتِ، وهو نصُّ الأحاديثِ الثَّابِتةِ في الصَّحيحَينِ وغَيرِهما.
    الميثاقُ الثَّاني: مِيثاقُ الفِطرةِ، وهو أنَّه تبارك وتعالى فَطَرَهم شاهِدينَ بما أخَذَه عليهم في الميثاقِ الأوَّلِ، كما قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم: 30] الآية...
    الميثاقُ الثَّالِثُ: هو ما جاءت به الرُّسُلُ، وأُنزِلَت به الكتُبُ؛ تجديدًا للميثاقِ الأوَّلِ، وتذكيرًا به رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 165] .
    فمن أدرك هذا الميثاقَ، وهو باقٍ على فِطرتِه التي هي شاهِدةٌ بما ثَبَت في الميثاقِ الأوَّلِ، فإنَّه يَقبَلُ ذلك من أوَّلِ مرَّةٍ ولا يَتوقَّفُ؛ لأنَّه جاء مُوافِقًا لِما في فِطْرتِه، وما جبَلَه اللهُ عليه، فيزدادُ بذلك يقينُه، ويَقْوى إيمانُه، فلا يتلعثَمُ ولا يتردَّدُ، ومن أدركه وقد تغَيَّرَت فطرتُه عمَّا جبَلَه اللهُ عليه من الإقرارِ بما ثَبَت في الميثاقِ الأوَّلِ، بأن كان قد اجتالَتْه الشَّياطينُ عن دينِه، وهوَّده أبواه أو نصَّراه أو مَجَّساه؛ فهذا إن تدارَكَه اللهُ تعالى برَحمتِه فرجَعَ إلى فِطرتِه وصدَّق بما جاءت به الرُّسُلُ، ونزَلَت به الكُتُبُ؛ نَفَعه الميثاقُ الأوَّلُ والثَّاني، وإن كذَّب بهذا الميثاقِ كان مُكَذِّبًا بالأوَّلِ، فلم ينفَعْه إقرارُه به يومَ أَخَذَه اللهُ عليه؛ حيث قال: (بلى) جوابًا لقَولِه تعالى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] ، وقامت عليه حُجَّةُ الله، وغَلَبت عليه الشَّقاوةُ، وحَقَّ عليه العذابُ) .

    قال أبو حنيفةَ: (لا عُذْرَ لأحَدٍ مِنَ الخَلْقِ في جَهْلِه مَعرِفةَ خالِقِه؛ لأنَّ الواجِبَ على جميعِ الخَلْقِ مَعرِفةُ الرَّبِّ سُبحانَه وتعالى وتوحيدِه، لِما يرى من خَلْقِ السَّمَاواتِ والأرضِ، وخَلْقِ نفَسِه، وسائِرِ ما خَلَق اللهُ سُبحانَه وتعالى) .
    فتوحيدُ الرُّبوبيَّةِ قد قامت به الحُجَّةُ القاطِعةُ للعُذرِ، حتى إنَّ المشرِكينَ كانوا مُقِرِّين بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ، بل وببَعضِ تفاصيلِه، كما سبَقَ بَيانُه، فالأَولى بالمُنتَسِبينَ إلى الإسلامِ أن يكونوا مُؤمِنينَ بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ، فلا يُتوقَّعُ من مُسلمٍ أن يجهَلَ هذا التَّوحيدَ،
    أو أن تشتَبِهَ عليه بعضُ تفاصيلِه، فضلًا عن أن ينكِرَ شَيئًا من خصائِصِ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ، كالتفَرُّدِ بالوحدانيَّةِ والخَلْقِ والتَّدبيرِ،
    أو أن يَنسُبَه جلَّ وعلا إلى نَقصٍ؛ كأن ينسُبَ له الوَلَدَ أو الصَّاحِبةَ، أو اللُّغوبَ، أو غَيرَها من النَّقائِصِ، تعالى اللهُ عن ذلك عُلوًّا كبيرًا، فهذا كلُّه مما لا يُتصَوَّرُ ورودُ الجَهلِ فيه على أحَدٍ مِن المسلِمينَ، فإذا صَدَر من أحَدِهم شَيءٌ من تلك الكُفريَّاتِ، فإنَّه يقعُ في الكُفرِ لا محالةَ .

    : أشتِقاق اسمِ اللهِ، والفرقُ بين اسمَيِ : الرَّبِّ والإلهِ :

    أولاً: اشتِقاق لَفظِ الجَلالةِ ( اللهِ ) :

    اختَلَف أهْلُ العِلْمِ في اسمِ اللهِ سُبحانَه: هل هو مُشْتَقٌّ أو لا؟ على قولينِ:

    القَولُ الأوَّلُ: أنَّه اسمٌ عَلَمٌ خاصٌّ لله تعالى، لا اشتِقاقَ له، والألِفُ واللَّامُ فيه لازِمةٌ لا للتَّعريفِ، وقد ذهب إلى هذا جماعةٌ مِن أئمَّةِ اللُّغةِ والفِقْهِ؛ فنُسِبَ هذا القَولُ إلى الخليلِ وسِيبويهِ، ومحمَّدِ بنِ الحَسَنِ، والشَّافعيِّ، وهو قَولُ المازنيِّ، وابنِ كَيسانَ، والزَّجَّاجِ، والأشْعريِّ، والقَفَّالِ الشَّاشيِّ، والخطَّابيِّ، وإمامِ الحَرَمينِ، والغزاليِّ، والفَخرِ الرَّازيِّ، وأكثَرِ الأصوليِّينَ .
    قال ابنُ مالكٍ: (من الأعلامِ التي قارَنَ وَضْعَها وجودُ الألِفِ واللَّامِ: اللهُ تعالى المنفَرِدُ به، وليس أصلُه الإلهُ، كما زعم الأكثرونَ، بل هو عَلَمٌ دالٌّ على الإلهِ الحَقِّ دَلالًة جامِعةً لمعنى الأسماءِ الحُسنى كُلِّها، ما عُلِمَ منها وما لم يُعلَمْ؛ ولذلك يُقالُ: كُلُّ اسمٍ سِوى اللهِ مِنَ الأسماءِ الكريمةِ هو من أسماءِ اللهِ، ولا يَنعَكِسُ، ولو لم يُرَدَّ على من زَعَم أنَّ أصلَ اللهِ الإلهُ إلَّا بكوِنه مُدَّعِيًا ما لا دليلَ عليه، لكان ذلك كافيًا؛ لأنَّ اللهَ والإلهَ مختَلِفانِ في اللَّفظِ والمعنى) .

    وقال الخازِنُ: (اللهُ هو اسمٌ عَلَمٌ خاصٌّ لله تعالى، تفَرَّد به الباري سُبحانَه وتعالى، ليس بمُشْتَقٍّ، ولا يَشْرَكُه فيه أحَدٌ، وهو الصَّحيحُ المختارُ؛ دليلُه قَولُه تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم: 65] يعني: لا يُقالُ لغيرِه: اللهُ) .
    وقال أبو حيَّانَ: (اللهُ عَلَمٌ لا يُطلَقُ إلَّا على المعبودِ بحَقٍّ، مُرتَجَلٌ غيرُ مُشْتَقٍّ عندَ الأكثَرينَ) .

    وقال ابنُ القَيِّمِ: (جماهيرُ أهلِ الأرضِ يَعرِفونَ أنَّ اللهَ اسمٌ لِذاتِ الخالِقِ فاطِرِ السَّمَواتِ والأرضِ، ولا يَعرِفونَ تصريفَ الاسمِ واشتِقاقَه) .
    القَول الثَّاني: أنه مُشْتَقٌّ، وهو القَولُ المشهورُ عندَ كثيرٍ مِنَ النُّحاةِ والمفَسِّرينَ، ونُسِبَ أيضًا إلى سِيبويهِ، ثمَّ اختَلَفوا في اشتِقاقِه، فقيل: من أَلَهَ إِلَاهَةً، أي: عبَدَ عبادةً، وقيل: أصلُه إِلَهٌ،
    قال المبَرِّدُ: هو قَولُ العَرَبِ: أَلَهْتُ إلى فلانٍ، أي: سكَنْتُ إليه، فكأنَّ الخَلقَ يَسكُنونَ إليه ويَطمَئِنُّونَ بذِكْرِه،
    وقيل: أصلُ الإلهِ وِلَاهٌ، فأُبدِلَت الواوُ بالهمزةِ، مِثلُ: وِشَاحٍ وَإِشَاحٍ، اشتِقاقُه من الْوَلَهِ؛ لأنَّ العبادَ يَولَهونَ إليه، أي: يَفزَعونَ إليه في الشَّدائِدِ ويَلْجَؤونَ إليه في الحوائِجِ، كما يُولَهُ كُلُّ طفلٍ إلى أمِّه، وقيل: هو من الْوَلَهِ: وهو ذَهابُ العَقلِ؛ لفَقْدِ مَن يَعِزُّ عليك .

    قال حافِظٌ الحَكَميُّ: (اختَلَفوا في كونِه مُشْتَقًّا أو لا؛ ذَهَب الخَليلُ وسِيبويهِ وجماعةٌ من أئمَّةِ اللُّغةِ والشَّافعيُّ والخَطَّابيُّ وإمامُ الحرَمَينِ ومَن وافَقَهم إلى عَدَمِ اشتِقاقِه؛ لأنَّ الألِفَ واللَّامَ فيه لازِمةٌ، فتَقولُ: يا اللهُ، ولا تقولُ: يا الرَّحمنُ؛ فلولا أنَّه من أصلِ الكَلِمةِ لَمَا جاز إدخالُ حَرفِ النِّداءِ على الألِفِ واللَّامِ، وقال آخَرونَ: إنَّه مُشْتَقٌّ. واختَلَفوا في اشتِقاقِه إلى أقوالٍ؛ أَقواها: أنَّه مُشْتَقٌّ من أَلَهَ يَألَهُ إِلَاهَةً، فأصلُ الاسمِ: الإِلَهُ، فحُذِفَت الهَمزةُ، وأُدغِمَت اللَّامُ الأُولى في الثَّانيةِ وُجوبًا، فقيل: اللهُ، ومِن أقوى الأدِلَّةِ عليه قَولُه تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام: 3] مع قَولِه عزَّ وجَلَّ: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف: 84] ، ومعناه ذو الأُلوهيَّةِ التي لا تنبغي إلَّا له، ومعنى أَلَهَ يَألَهُ إِلَهَةً: عَبَد يَعبُد عِبادةً، فاللهُ المألوهُ، أي: المعبودُ) .

    وقال محمَّد خليل هرَّاس: (اسمُ الجلالةِ؛ قيل: إنَّه اسمٌ جامِدٌ غيرُ مُشْتَقٍّ؛ لأنَّ الاشتِقاقَ يَستلزِمُ مادَّةً يُشْتَقُّ منها، واسمُه تعالى قديمٌ، والقديمُ لا مادَّةَ له، فهو كسائِرِ الأعلامِ المَحْضَةِ التي لا تتضمَّن صِفاتٍ تقومُ بمسمَّياتِها. والصَّحيحُ أنَّه مُشْتَقٌّ، واختُلِفَ في مبدأِ اشتِقاقِه، فقيل: من أَلَهَ يَألَهُ أُلوهَةً وإِلهَةً وأُلوهيَّةً، بمعنى: عبدَ عِبَادةً.
    وقيل: من أَلِهَ -بكَسرِ اللَّامِ- يَألَهُ -بفَتحِها- أَلَهًا: إذا تحيَّرَ. والصَّحيحُ الأوَّلُ، فهو إلهٌ بمعنى مألوهٍ، أي: معبود... وعلى القَولِ بالاشتِقاقِ يكونُ وَصفًا في الأصلِ، ولكِنْ غَلَبَتْ عليه العَلَمِيَّةُ، فتجري عليه بقيَّةُ الأسماءِ أخبارًا وأوصافًا؛ يُقالُ: اللهُ رحمنٌ رحيمٌ، سميعٌ عليمٌ، كما يُقالُ: اللهُ الرَّحمنُ الرَّحيمُ… إلخ) .

    ثانياً : : الفَرقُ بيْن اسمَيِ: الرَّبِّ والإلهِ :

    أوَّلًا:
    - اسمُ الإلهِ يتضمَّنُ غايةَ العَبدِ ومُنتهاه وما خُلِقَ له وما فيه صلاحُه وكمالُه، وهو عبادةُ اللهِ.
    - واسمُ الرَّبِّ: يتضمَّنُ خَلْقَ العبدِ ومُبتداه، وهو أنَّه يُرَبِّيه ويتوَلَّاه .
    قال ابنُ عثيمين: (نؤمِنُ برُبوبيَّةِ اللهِ تعالى، أي: بأنَّه الرَّبُّ الخالِقُ المالِكُ المدَبِّرُ لجميعِ الأمورِ. ونؤمِنُ بأُلوهيَّةِ اللهِ تعالى، أي: بأنَّه الإلهُ الحَقُّ، وكُلُّ معبودٍ سِواه باطِلٌ) .
    ثانيًا:
    - اسمُ اللهِ أدَلُّ على مقصودِ العبادةِ التي لها خُلِقَ الخَلقُ؛ ففاتِحةُ دَعوةِ الرُّسُلِ الأمرُ بالعِبادةِ.
    قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21] .
    وعن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أُمِرتُ أن أقاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَشهَدوا أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ مُحمَّدًا رَسولُ اللهِ )) .
    وذلك يَتَضمَّنُ الإقرارَ به وعبادتَه وَحْدَه؛ فإنَّ الإلهَ هو المعبودُ، ولم يقُلْ: حتَّى يَشهَدوا أنْ لا رَبَّ إلَّا اللهُ؛ فإنَّ اسمَ اللهِ أَدَلُّ على مقصودِ العِبادةِ له، التي لها خُلِقَ الخَلقُ، وبها أُمِروا .

    - واسمُ الرَّبِّ أحَقُّ بحالِ الاستِعانةِ والمسألةِ.
    فالرَّبُّ هو المُرَبِّي الخالِقُ الرَّازِقُ النَّاصِرُ الهادي.
    ولهذا جاء قَولُ نوحٍ عليه السَّلامُ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ [نوح: 28] ، وقَولُ آدَمَ وزَوجِه عليهما السَّلامُ: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23] ، وقَولُ موسى عليه السَّلامُ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص: 16] .
    والأمثِلةُ على ذلك كَثيرةٌ، فعامَّةُ المسألةِ والاستعانةِ المشروعةِ تكونُ باسمِ الرَّبِّ .

    ثالثًا: إقرارُ الخَلقِ باللهِ مِن جِهةِ رُبوبِيَّتِه أسبَقُ مِن إقرارِهم به مِن جِهةِ أُلوهيَّتِه.
    فلمَّا كان علمُ النُّفوسِ بحاجتِهم وفَقْرِهم إلى الرَّبِّ قبلَ عِلْمِهم بحاجتِهم وفَقْرِهم إلى الإلهِ المعبودِ، وقَصْدُهم لدَفعِ حاجاتِهم العاجِلةِ قَبلَ الآجِلةِ؛ كان إقرارُهم باللهِ مِن جِهةِ رُبوبِيَّته أسبَقَ من إقرارِهم به من جِهةِ أُلوهِيَّتِه، وكان الدُّعاءُ له والاستِعانةُ به والتوكُّلُ عليه فيهم أكثَرَ مِن العِبادةِ له والإنابةِ إليه؛ ولهذا إنَّما بَعَث الرُّسُلَ يَدعونَهم إلى عِبادةِ اللهِ وَحْدَه لا شَريكَ له، الذي هو المقصودُ المستَلزِمُ للإقرارِ بالرُّبوبيَّةِ .
    قال ابنُ تَيميَّةَ: (كثيرٌ مِن المتكَلِّمينَ إنَّما يُقَرِّرونَ الوَحْدانيَّةَ مِن جِهةِ الرُّبوبيَّةِ، وأمَّا الرُّسُلُ فهم دعَوا إليها من جِهةِ الأُلوهيَّةِ،
    وكذلك كثيرٌ مِن المتصَوِّفةِ المتعَبِّدةِ وأربابِ الأحوالِ إنَّما توجُّهُهم إلى اللهِ مِن جهةِ رُبوبِيَّتِه؛ لِما يُمِدُّهم به في الباطِنِ مِن الأحوالِ التي بها يتصَرَّفون، وهؤلاء مِن جِنسِ الملوكِ، وقد ذَمَّ اللهُ عزَّ وجَلَّ في القُرآنِ هذا الصِّنفَ كثيرًا، فتدَبَّرْ هذا؛ فإنَّه تنكَشِفُ به أحوالُ قَومٍ يتكَلَّمونَ في الحقائِقِ ويَعمَلونَ عليها، وهم -لَعَمْري- في نوعٍ مِن الحقائِقِ الكونيَّةِ القَدَريَّةِ الرُّبوبيَّةِ لا في الحقائِقِ الدِّينيَّةِ الشَّرعيَّةِ الإلهيَّةِ، وقد تكَلَّمْتُ على هذا المعنى في مواضِعَ متعَدِّدةٍ، وهو أصلٌ عظيمٌ يجِبُ الاعتناءُ به. واللهُ سُبحانَه أعلَمُ
    ) .

    ----------------------------------------------------------------
    التالي :-
    -
    : تعريفُ توحيدِ الأُلوهيَّةِ ومَنزِلتُه وأنواعُ أدِلَّته :

    أولاً: تعريفُ توحيدِ الأُلوهيَّةِ :

    -
    تابعونا جزاكم الله خيرا

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5198
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    الإيمانُ باللهِ: (توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، والأُلُوهيَّةِ، والأسماءِ والصِّفاتِ)   الإيمانِ بوُجودِ اللهِ تعالى وأقسامِ التَّوحيدِ -   توحيدُ الرُّبوبيَّةِ  - توحيدُ الأُلوهيَّةِ  -   توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ                     Empty : تعريفُ توحيدِ الأُلوهيَّةِ ومَنزِلتُه وأنواعُ أدِلَّته : أولاً: تعريفُ توحيدِ الأُلوهيَّةِ :

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس نوفمبر 30, 2023 10:27 am

    يتبع ما قبله :-


    : تعريفُ توحيدِ الأُلوهيَّةِ ومَنزِلتُه وأنواعُ أدِلَّته :

    أولاً: تعريفُ توحيدِ الأُلوهيَّةِ :

    توحيدُ الأُلوهيَّةِ هو: إفرادُ اللهِ عزَّ وجَلَّ بالعِبادةِ في جميعِ أنواعِها .
    قال اللهُ تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة: 163] .
    وقال اللهُ سُبحانَه: وَقال اللهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [النحل: 51] .
    وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِل [لقمان: 30] .

    قال ابنُ عثيمين: (توحيدُ الأُلوهيَّةِ: ويُقالُ له: توحيدُ العِبادةِ باعتبارَينِ: فباعتبارِ إضافتِه إلى اللهِ يُسَمَّى توحيدَ الأُلوهيَّةِ، وباعتبارِ إضافتِه إلى الخَلْقِ يُسَمَّى توحيدَ العِبادةِ، وهو إفراد الله عزَّ وجَلَّ بالعِبادةِ، فالمستحِقُّ للعِبادةِ هو اللهُ تعالى؛ قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ [لقمان: 30] ) .
    والعِبادةُ لها شَرْطانِ:
    1- الإخلاصُ لله تعالى فيها.
    2- المتابَعةُ فيها، أي: أن تكونَ وَفْقَ ما جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.

    قال محمَّدُ بنُ إبراهيمَ آل الشَّيخ: (أوجَبُ الواجِباتِ إخلاصُ العَمَلِ للهِ وَحْدَه، وتجريدُ المتابعةِ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنكَرُ المنكَراتِ الشِّرْكُ باللهِ، والابتِداعُ في الدِّينِ بشَرعِ ما لم يأذَنْ به اللهُ) .

    وقال ابنُ باز: (الأعمالُ لا تُقبَلُ إلَّا بالأمرَينِ: الإخلاصُ لله، والمتابَعةُ لرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) .

    وقال ابنُ عثيمين: (لا يكونُ العَمَلُ صالِحًا إلَّا بأمرَينِ: الإخلاصُ لله عزَّ وجَلَّ، والمُتابعةُ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والدَّليلُ على ذلك قَولُ الله تعالى في الحديثِ القُدُسيِّ: ((أنا أغنى الشُّرَكاءِ عن الشِّرْكِ، مَن عَمِلَ عَمَلًا أشرَكَ فيه معيَ غيري، تركْتُه وشِرْكَه ))
    . وهذا فُقِدَ فيه الإخلاصُ، وقَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((من عَمِلَ عمَلًا ليس عليه أمْرُنا فهو رَدٌّ))) .
    وقال أيضًا: (شهادةُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ تستلزِمُ الإخلاصَ، وشهادةُ أنَّ مُحمَّدًا رَسولُ اللهِ تَستلزِمُ الاتِّباعَ، وكُلُّ عمَل ٍيُتقَرَّبُ به إلى اللهِ لا يُقبَلُ إلَّا بهذينِ الشَّرْطينِ: الإخلاصُ للهِ، والمتابَعةُ لرَسولِ اللهِ) .
    وهذا هو معنى شَهادةِ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وتمامُ تحقيقِها بشَهادةِ أنَّ مُحمَّدًا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .
    وهذا التَّوحيدُ يُسَمَّى باعتبارِ إضافتِه إلى اللهِ تعالى بـ (توحيدِ الأُلوهيَّةِ).
    ويُسَمَّى باعتبارِ إضافتِه إلى الخَلْقِ بـ (توحيدِ العِبادةِ)، و(توحيدِ العَمَلِ)، و(توحيدِ القَصْدِ)، و(توحيدِ الإرادةِ والطَّلَبِ) .

    قال الزَّجَّاجي: (معنى الإلهِ في الحقيقةِ: هو ذو الأُلوهيَّةِ، أي: المستحِقُّ للأُلوهيَّةِ والعِبادةِ) .

    وقال الطُّرْطُوشِي: (فإذا قُلتَ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، نَفَيتَ ما لا يجوزُ في صِفَتِه من شَريكٍ في عبادتِه، مع الإقرارِ بأنَّه الإلهُ وَحْدَه) .

    وقال العِزُّ بنُ عبد السَّلامِ: (الأُلوهيَّةُ ترجِعُ إلى استِحقاقِ العُبوديَّةِ... وإنَّما استحَقَّ العُبوديَّةَ؛ لِما وَجَب له من أوصافِ الجَلالِ ونُعوتِ الكَمالِ) .
    وقال ابنُ تَيميَّةَ: (توحيدُ الأُلوهيَّةِ أن يَعبُدَ اللهَ ولا يُشرِكَ به شَيئًا، فيُطيعَه ويُطيعَ رسُلَه، ويَفعَلَ ما يُحِبُّه ويَرضاه) .

    وقال السَّفاريني: (توحيدُ الإلَهيَّةِ: إفرادُه -تقَدَّس وتعالى- بالعِبادةِ والتَّأَلُّه له، والخُضوعِ والذُّلِّ، والحُبِّ والافتقارِ، والإقبالِ والتوَجُّهِ إليه تعالى) .
    وقال الصَّنعاني: (توحيدُ العِبادةِ، ومعناه: إفرادُ اللهِ وَحْدَه بجَميعِ أنواعِ العِباداتِ) .

    وقال محمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ: (هو توحيدُ اللهِ تعالى بأفعالِ العِبادِ؛ كالدُّعاءِ، والنَّذرِ والنَّحرِ، والرَّجاء والخَوفِ والتَّوكُّل، والرَّغْبة والرَّهبةِ والإنابةِ) .
    وقال سُلَيمانُ بنُ عبدِ اللهِ آل الشَّيخ: (توحيدُ الإلَهيَّةِ المبنيُّ على إخلاصِ التَّأَلُّهُ لله تعالى، من المحبَّةِ والخَوفِ، والرَّجاءِ والتَّوكُّلِ، والرَّغْبة والرَّهبةِ، والدُّعاءِ للهِ وَحْدَه، وينبني على ذلك إخلاصُ العِباداتِ كُلِّها -ظاهِرِها وباطِنِها- للهِ وَحْدَه لا شَريكَ له، لا يَجعَلُ فيها شيئًا لغَيرِه، لا لمَلَكٍ مُقَرَّبٍ، ولا لنبيٍّ مُرسَلٍ، فضلًا عن غَيرِهما... ويُسَمَّى هذا النَّوعُ: توحيدَ الإلَهيَّةِ؛ لأنَّه مبنيٌّ على إخلاصِ التَّأَلُّهِ، وهو أشَدُّ المَحَبَّةِ لله وَحْدَه، وذلك يستلزِمُ إخلاصَ العِبادةِ. وتوحيدَ العِبادةِ لذلك. وتوحيدَ الإرادةِ؛ لأنَّه مبنيٌّ على إرادةِ وَجهِ اللهِ بالأعمالِ. وتوحيدَ القَصْدِ؛ لأنَّه مبنيٌّ على إخلاصِ القَصْدِ المُستَلزمِ لإخلاصِ العِبادةِ لله وَحْدَه. وتوحيدَ العَمَلِ؛ لأنَّه مبنيٌّ على إخلاصِ العَمَلِ للهِ وَحْدَه) .
    وقال محمود شكري الألوسي: (توحيدُ الرُّبوبيَّةِ هو الذي أقرَّت به الكُفَّارُ جميعُهم ولم يخالِفْ منهم أحَدٌ في هذا الأصلِ إلَّا الثَّنَويَّةُ وبعضُ المجوسِ، وأمَّا غيرُهما من سائِرِ فِرَقِ الكُفرِ والشِّركِ فقد اتَّفَقوا على أنَّ خالِقَ العالَمِ ورازِقَهم ومُدَبِّرَ أمْرِهم ونافِعَهم وضارَّهم ومُجيرَهم واحِدٌ...
    كما قال سُبحانَه وتعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25] ، قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّه [المؤمنون: 84، 85]،
    قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ [يونس: 31]،
    وأمَّا توحيدُ الألوهيَّةِ فهو إفرادُ العبادةِ لله الواحِدِ الصَّمَدِ؛ لأنَّ الإلهَ مَن يُقصَد للعبادةِ... إذا عَلِمْتَ هذا تبيَّن لك أنَّ المعركةَ بين أهلِ التوحيدِ والمُشرِكين في الألوهيَّةِ فقط) .

    :ثانياً : مَنزِلةُ توحيدِ الأُلوهيَّةِ :

    1- توحيدُ الأُلوهيَّةِ هو تحقيقٌ لشَهادةِ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وشَهادةِ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وأوَّلُ واجبٍ هو الشَّهادتانِ.
    قال أبو الحارِثِ الصَّائغُ: (سألتُ أبا عبدِ اللهِ أحمدَ بنَ محمَّدِ بنِ حَنبلٍ، قلتُ: إذا قال الرَّجُلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، فهو مؤمِنٌ؟ قال: كذا كان بدءُ الإيمانِ، ثمَّ نزلت الفرائِضُ؛ الصَّلاةُ، والزَّكاةُ، وصَومُ رَمَضانَ، وحَجُّ البيتِ) .
    وقال العَيني: (قال شيخُنا زينُ الدين رحمه الله:... لَمَّا كان إرسالُ مُعاذٍ إلى من يُقِرُّ بالإلهِ والنبُوَّاتِ، وهم أهلُ الكتابِ، أمَرَه بأوَّلِ ما يدعوهم إلى توحيدِ الإلهِ والإقرارِ بنبُوَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإنَّهم وإن كانوا يعترفون بإلهيَّةِ اللهِ تعالى، ولكِنْ يجعلون له شَريكًا؛ لدعوةِ النَّصارى أنَّ المسيحَ ابنُ اللهِ تعالى، ودعوةِ اليهودِ أنَّ عُزَيرًا ابنُ اللهِ -سبحانَه عمَّا يَصِفون- وأنَّ محمَّدًا ليس برَسولِ اللهِ أصلًا، أو أنَّه ليس برسولٍ إليهم، على اختلافِ آرائِهم في الضَّلالةِ؛ فكان هذا أوَّلَ واجِبٍ يُدْعَونَ إليه) .
    وقال ابنُ تَيميَّةَ: (السَّلَفُ والأئمَّةُ متَّفِقونَ على أنَّ أوَّلَ ما يُؤمَرُ به العبادُ الشَّهادتانِ) .
    وقال أيضًا: (أصلُ الإسلامِ: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ مُحمَّدًا رَسولُ اللهِ، فمن طلَبَ بعباداتِه الرِّياءَ والسُّمعةَ فلم يحقِّقْ شَهادةَ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، ومَن خرَجَ عمَّا أمَرَه به الرَّسولُ مِن الشَّريعةِ، وتعَبَّد بالبِدْعةِ فلم يحَقِّقْ شَهادةَ أنَّ مُحمَّدًا رَسولُ اللهِ، وإنَّما يُحَقِّقُ هذينِ الأصلَينِ مَن لم يَعبُدْ إلَّا اللهَ، ولم يخرُجْ عن شريعةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم التي بلَّغَها عن اللهِ) .

    وقال ابنُ باز: (المقصودُ أنَّ رَسولَنا ونبيَّنا محمَّدًا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ دعا إلى ما دَعَت إليه الرُّسُلُ قَبْلَه مِن نوحٍ ومَن بَعْدَه، إلى توحيدِ اللهِ والإخلاصِ له، وتَرْكِ عِبادةِ ما سِواه، هذه أوَّلُ دَعوتِه، وهذه زُبدَتُها، وهي أهَمُّ واجِبٍ وأوَّلُ واجِبٍ، وأعظَمُ واجِبٍ) .

    وقال ابنُ عثيمين: (أوَّلُ واجبٍ على الخَلقِ هو أوَّلُ ما يُدعى الخَلْقُ إليه، وقد بَيَّنَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمُعاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنه حين بعَثَه لليَمَنِ، فقال له: ((إنَّك تأتي قومًا أهلَ كِتابٍ، فلْيَكُنْ أوَّلَ ما تَدعُوهُم إليه شَهادةُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ مُحمَّدًا رَسولُ اللهِ )) . فهذا أوَّلُ واجِبٍ على العبادِ أن يوحِّدوا اللهَ عزَّ وجَلَّ، وأن يَشهَدوا لرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالرِّسالةِ. وبتوحيدِ اللهِ عزَّ وجَلَّ والشَّهادةِ لِرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتحَقَّقُ الإخلاصُ والمتابعةُ اللَّذانِ هما شَرْطٌ لِقَبولِ كُلِّ عِبادةٍ) .
    2- توحيدُ الأُلوهيَّةِ يُحَقِّقُ الغايةَ مِن خَلْقِ الإنسانِ، وهي عِبادةُ اللهِ وَحْدَه.
    قال اللهُ تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56].
    وعنِ عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: (إلَّا ليُقِرُّوا بالعُبوديَّةِ طَوعًا وكَرْهًا) .
    وعن أبي العَاليةِ قال: (أُسِّسَ الدِّينُ على الإخلاصِ لله وَحْدَه لا شَريكَ له) .
    وقال ابنُ عطيةَ: (معنى قَولِه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] أي: لآمُرَهم بالعِبادةِ، وأُوجِبَها عليهم، فعَبَّرَ عن ذلك بثَمَرةِ الأمرِ ومُقتَضاه) .

    وقال ابنُ تَيميَّةَ: (التَّوحيدُ الذي هو أصلُ الإسلامِ، وهو دينُ اللهِ الذي بعَث به جميعَ رُسُلِه، وله خَلَقَ الخَلْقَ، وهو حَقُّه على عِبادِه: أن يَعبُدوه، ولا يُشرِكوا به شَيئًا) .
    وقال مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ الوَهَّابِ: (اعلَمْ -أرشَدَك اللهُ لطاعتِه- أنَّ الحنيفيَّةَ مِلَّةَ إبراهيمَ: أن تَعبُدَ اللهَ وَحْدَه مخلِصًا له الدِّينَ، وبذلك أمَرَ اللهُ جميعَ النَّاسِ، وخلَقَهم لها، كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] ومعنى يَعْبُدون: يُوَحِّدون. وأعظَمُ ما أمَرَ اللهُ به التَّوحيدُ، وهو إفرادُ اللهِ بالعِبادةِ، وأعظَمُ ما نهى عنه الشِّرْكُ، وهو دَعوةُ غَيرِه معه، والدَّليلُ قَولُه تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء: 36] ) .

    وقال ابنُ باز: (إنَّ اللهَ جَلَّ وعلا خلَقَ الخَلْقَ لِيَعبُدوه، وأرْسلَ الرُّسُلَ وأنزَلَ الكُتُبَ لهذه الحِكمةِ العَظيمةِ؛ لدَعوةِ النَّاسِ إلى عِبادةِ اللهِ، وبَيانِها لهم، وإيضاحِها لهم؛ قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 56 - 58]، وقال سُبحانَه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21] ، وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] ) .

    وقال ابنُ عثيمين: (الله سُبحانَه وتعالى خَلَق الجِنَّ والإنسَ لحِكمةٍ عَظيمةٍ وغايةٍ حَميدةٍ، وهي عبادتُه تبارك وتعالى كما قال سُبحانَه وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]، وقال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115] ، وقال تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة: 36] ،
    إلى غيرِ ذلك من الآياتِ الدَّالَّةِ على أنَّ لله تعالى حِكمةً بالِغةً مِن خَلقِ الجِنِّ والإنسِ، وهي عبادتُه، والعِبادةُ هي: "التذَلُّلُ لله عزَّ وجَلَّ مَحَبَّةً وتعظيمًا بفِعلِ أوامِرِه واجتِنابِ نواهيه على الوَجْهِ الذي جاءت به شَرائِعُه"، قال اللهُ تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة: 5] ) .

    3- جميعُ الرُّسُلِ دَعَوا إلى توحيدِ اللهِ جلَّ وعلا وإخلاصِ العِبادةِ له.
    قال اللهُ تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] .
    وقال اللهُ سُبحانَه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] .
    عن قتادة قال: (أُرسِلَت الرُّسُلُ بالإخلاصِ والتَّوحيدِ، لا يُقبَلُ منهم عَمَلٌ حتَّى يقولوه، ويُقِرُّوا به) .
    وعن قتادةَ في قَولِ اللهِ تعالى: أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ [النحل: 2] قال: (إنَّما بَعَث اللهُ المرسَلينَ أن يُوَحِّدوا اللهَ وَحْدَه، ويُطاعَ أمْرُه، ويُجتَنَبَ سَخَطُه) .

    وقال ابنُ أبي العِزِّ: (اعلَمْ أنَّ التَّوحيدَ أوَّلُ دَعوةِ الرُّسُلِ، وأوَّلُ مَنازِلِ الطَّريقِ، وأوَّلُ مَقامٍ يقومُ فيه السَّالِكُ إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ،
    قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 59] ،
    وقال هودٌ عليه السَّلامُ لقَومِه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 65] ،
    وقال صالحٌ عليه السَّلامُ لقَومِه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 73] ،
    وقال شُعَيبٌ عليه السَّلامُ لقَومِه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 85] ،
    وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] ، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] ،
    وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أُمرِتُ أن أقاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَشْهَدوا أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ مُحمَّدًا رَسولُ اللهِ ))؛ ولهذا كان الصَّحيحُ أنَّ أوَّلَ واجِبٍ يجِبُ على المكَلَّفِ شَهادةُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، لا النَّظَرُ، ولا القَصْدُ إلى النَّظَرِ، ولا الشَّكُّ، كما هي أقوالٌ لأربابِ الكلامِ المذمومِ، بل أئمَّةُ السَّلَفِ كُلُّهم مُتَّفِقونَ على أنَّ أوَّلَ ما يُؤمَرُ به العَبدُ الشَّهادتانِ... فالتَّوحيدُ أوَّلُ ما يَدخُلُ به في الإسلامِ، وآخِرُ ما يخرُجُ به من الدُّنيا، كما قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن كان آخِرَ كَلامِه: لا إلهَ إلَّا اللهُ، دَخَل الجنَّةَ ))، وهو أوَّلُ واجبٍ وآخِرُ واجِبٍ؛ فالتَّوحيدُ أوَّلُ الأمرِ وآخِرُه، أعني: توحيدُ الإلَهيَّةِ) .

    وقال علي القاري: (إنَّما جاء الأنبياءُ عليهم السَّلامُ لبيانِ التوحيدِ وتبيانِ التفريدِ؛ ولذا أطبقت كَلِمتُهم، وأجمعت حُجَّتُهم على كَلِمةِ «لا إلهَ إلَّا اللهُ»، ولم يؤمَروا بأن يأمروا أهلَ مِلَّتِهم بأن يقولوا: «اللهُ موجودٌ»، بل قَصَدوا إظهارَ أنَّ غَيرَه ليس بمعبودٍ، ردًّا لِما توهَّموا وتخَيَّلوا؛ حيث قالوا -كما حكى اللهُ عنهم-: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ، ومَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) .

    وقال الشَّوكاني: (لم يَبعَثِ اللهُ سُبحانَه رُسُلَه، ولا أنزَلَ عليهم كُتُبَه إلَّا لإخلاصِ تَوحيدِه، وإفرادِه بالعِبادةِ) .
    وقال مبارك الميلي الجزائري: (إنَّ القُرآنَ العظيمَ يَقُصُّ علينا في جَلاءٍ ووُضوحٍ أنَّ أوَّلَ ما يدعو إليه الأنبياءُ والمرسَلون -صَلَواتُ اللهِ عليهم أجمعين- هو توحيدُ اللهِ، وأوَّلُ ما يُنكِرونَه على قَوْمِهم الشِّركُ ومَظاهِرُه، وعلى حُكمِ هذه السُّنَّةِ الرَّشيدةِ جاءت بَعثةُ خاتمِ النبيِّينَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فعُنِيَت بالدَّعوةِ إلى التوحيدِ، والتحَرُّزِ مِنَ الشِّركِ، والتحذيرِ منه، وما ذلك إلا لشِدَّةِ الحاجةِ إلى معرفتِه، وإنَّك لتَجِدُ تلك العنايةَ ظاهِرةً في الكتابِ وأطوارِ البَعثةِ وأركانِ الدِّينِ) .

    وقال الشِّنقيطيُّ
    : (هذه الكَلِمةُ التي هي «لا إلهَ إلَّا اللهُ» هي التي قامت عليها السَّمَواتُ والأرضُ، وخُلِقَت لأجْلِ الحِسابِ عليها الجنَّةُ والنَّارُ، وأرسِلَ بها الرُّسُلُ، وهي محَلُّ المعارِكِ بيْن الرُّسُلِ وأُمَمِهم، وجميعُ الرُّسُلِ ما أُرسِلَ منهم نبيٌّ إلَّا بهذه الكَلِمةِ، وما تتضَمَّنُه مِنَ الشَّرائِعِ والأحكامِ، إذا نظَرْتَ في رسائِلِ الرُّسُلِ إجماعًا وتفصيلًا وجَدْتَ ذلك كما قُلْنا، وممَّا يدُلُّ عليه تفصيلًا أنَّ كُلَّ رَسولٍ إذا أُرسِلَ إلى قَومِه يبَيِّنُ القُرآنُ أنَّ أوَّلَ ما يقولُ لهم هو مضمونُ «لا إلهَ إلَّا اللهُ»، كقَولِه في قَصَصِهم في هذه السُّورةِ الكريمةِ: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ [الأعراف: 59] ماذا قال لهم؟ قال: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأعراف: 59] ، ثم قال: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا [الأعراف: 65] ، ماذا قال لهم؟ قال: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 65] ، ثمَّ قال: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 73] ، وكذلك قال في شُعَيبٍ: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 85] ،
    وهكذا. وكذلك بالإجمال قَولُه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] ، وفي القراءة الأخرى: إِلَّا يُوحَى إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ، وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [النحل: 36] ) .

    وقال ابنُ باز: (كُلُّ رَسولٍ يدعو أمَّتَه إلى توحيدِ اللهِ، وطاعتِه، وتَرْكِ الشِّرْكِ به ومَعصيتِه. قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] ، اعبُدوا الله، يعني: أطيعُوه ووَحِّدوه، واستقيموا على دينِه، واجتَنِبوا الطَّاغوتَ) .

    وقال ابنُ عثيمين: (أعظَمُ ما دعا إليه الرُّسُلُ مِن أوَّلِهم نُوحٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى آخرِهم مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم التَّوحيدُ، كما قال اللهُ تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] ، وقال عزَّ وجَلَّ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] ) .

    4- توحيدُ الأُلوهيَّةِ مُتضَمِّنٌ لتَوحيدِ الرُّبوبيَّةِ ولتَوحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ
    مَن عَبدَ اللهَ تعالى وَحْدَه، وآمَنَ بأنَّه المستَحِقُّ وَحْدَه للعِبادةِ، دَلَّ ذلك على أنَّه مُؤمِنٌ برُبوبِيَّتِه وبأسمائِه وصِفاتِه؛ لأنَّه لم يَفعَلْ ذلك إلَّا لأنَّه يَعتَقِدُ بأنَّ اللهَ تعالى وَحْدَه هو المتفَضِّلُ عليه وعلى جميعِ عِبادِه بالخَلْقِ والرِّزقِ، والتَّدبيرِ، وغَيرِ ذلك من خَصائِصِ الرُّبوبيَّةِ، وأنَّه تعالى له الأسماءُ الحُسنى والصِّفاتُ العُلا، التي تدُلُّ على أنَّه المستَحِقُّ للعِبادةِ وَحْدَه لا شَريكَ له.
    ومع أهميَّةِ هذا التَّوحيدِ فقد جَحَده أكثَرُ الخَلْقِ، فأنكَروا أن يكونَ اللهُ تعالى هو المستَحِقَّ للعِبادةِ وَحْدَه لا شَريكَ له، وعَبَدوا غَيرَه معه !
    قال محمَّدُ بنُ إبراهيمَ آل الشَّيخ: (توحيدُ الرُّبوبيَّةِ هو الأصلُ، وهو الدَّليلُ على توحيدِ الأُلوهيَّةِ، فإذا كان اللهُ تعالى هو المتفَرِّدَ بخَلْقِ السَّمَواتِ والأرضِ لم يُشرَكْ فيه مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولا نَبيٌّ مُرسَلٌ، فكونُه هو الخالِقَ وَحْدَه يقتضي أن يكونَ هو المعبودَ وَحْدَه؛ فإنَّه مِن أبعَدِ شَيءٍ أن يكونَ المخلوقُ مُساوِيًا للخالِقِ أو مُستَحِقًّا لِما يَستَحِقُّه الخالِقُ) .

    وقال ابنُ باز: (أوضَحَ أهْلُ العِلْمِ رحمهم اللهُ أنَّ توحيدَ الرُّبوبيَّةِ يستلزِمُ توحيدَ الأُلوهيَّةِ -وهو: إفرادُ اللهِ بالعِبادةِ- ويوجِبُ ذلك ويقتضيه؛ ولهذا احتَجَّ اللهُ عليهم بذلك.
    وهكذا توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ يَستَلزِمُ تَخصيصَ اللهِ بالعِبادةِ وإفرادَه بها؛ لأنَّه سُبحانَه هو الكامِلُ في ذاتِه وفي أسمائِه وصِفاتِه، وهو المنعِمُ على عبادِه، فهو المستَحِقُّ لأن يَعبُدوه ويُطيعوا أوامِرَه، ويَنتَهوا عن نواهيه) .

    وقال ابنُ عثيمين: (لا رَيبَ أنَّ كُلَّ إنسانٍ عاقِلٍ يُقِرُّ بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ؛ فإنَّ إقرارَه ذلك حُجَّةٌ عليه أن يُقِرَّ بتوحيدِ الأُلوهيَّةِ؛ لأنَّه إذا كان يُقِرُّ بأنَّ الخالِقَ هو اللهُ، المدَبِّرُ هو اللهُ، والمالِكُ هو اللهُ، فكيف يكونُ هناك معبودٌ مع اللهِ؟ ومِن ثَمَّ تَجِدونَ اللهَ عزَّ وجَلَّ يقَرِّرُ توحيدَ الأُلوهيَّةِ بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21] ؛ فجعل توحيدَ الرُّبوبيَّةِ دليلًا مُلزِمًا بتوحيدِ الأُلوهيَّةِ.
    اعْبُدُوا رَبَّكُمْ هذا هو توحيدُ الأُلوهيَّةِ؛ أُلوهيَّةٌ بالنِّسبةِ للهِ، وعُبوديَّةٌ بالنِّسبةِ للخَلْقِ، الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، هذا هو توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، فإذا كنتُم تُؤمِنونَ بذلك، فلماذا لا توَحِّدونَه بالعِبادةِ، لِماذا تَعبُدونَ الأصنامَ والأشجارَ معه؟! هذا دليلٌ عَقليٌّ لا يمكِنُ لأيِّ إنسانٍ عاقِلٍ أن يحيدَ عنه؛ ولهذا يَذكُرُ اللهُ ذلك مُلزِمًا لهؤلاء المشركين أن يقولوا بأنَّ اللهَ إلهٌ واحِدٌ، وصَدَق اللهُ عزَّ وجَلَّ
    ) .
    وقال أيضًا: (توحيدُ الرُّبوبيَّةِ يَستلزِمُ توحيدَ الأُلوهيَّةِ؛ والتَّوحيدانِ يَستلزِمانِ كمالَ الأسماءِ والصِّفاتِ؛ ولهذا قال إبراهيمُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأبيه: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [مريم: 42] ) .

    5- أنَّ تحقيقَه سَبَبٌ لدُخولِ الجَنَّةِ والنَّجاةِ مِنَ النَّارِ

    عن مُعاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال له: ((هل تَدْري ما حَقُّ اللهِ على عِبادِه؟)) قلتُ: اللهُ ورَسولُه أعلَمُ، قال: ((حَقُّ اللهِ على عِبادِه أن يَعبُدوه ولا يُشرِكوا به شيئًا ))، ثم قال: ((هل تدري ما حقُّ العبادِ على اللهِ إذا فَعَلوه؟)) قلتُ: اللهُ ورَسولُه أعلَمُ، قال: ((حَقُّ العِبادِ على اللهِ ألَّا يُعَذِّبَهم )) .
    وعن جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((من مات لا يُشرِكُ باللهِ شَيئًا دَخَل الجنَّةَ، ومن مات يُشرِكُ باللهِ شَيئًا دَخَل النَّارَ )) .

    قال المَنَاوِيُّ في شرحِ حديثِ ((سبعون ألفًا يدخُلون الجنَّةَ بغيرِ حِسابٍ ولا عذابٍ )) : (إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جعل الوَصْفَ الذي استحَقَّ به هؤلاء دُخولَها بغيِر حِسابٍ تحقيقَ التوحيدِ وتجريدَه، فلا يَسألون غيرَهم أن يَرْقِيَهم، «ولا يتطَيَّرون»؛ لأنَّ الطِّيَرةَ نوعٌ من الشِّركِ، «وعلى رَبِّهم يتوّكَّلون» قَدَّم الظَّرفَ ليفيدَ الاختصاصَ، أي: عليه لا على غيره) .

    وقال سُليمانُ بنُ عبدِ اللهِ آل الشيخِ في كلامِه على قَولِه تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 82] : (فدَلَّت على فَضْلِ التوحيدِ وتكفيرِه للذُّنوبِ؛ لأنَّ من أتى به تامًّا فله الأمنُ التَّامُّ والاهتداءُ التَّامُّ، ودخل الجنَّةَ بلا عذابٍ، ومن أتى به ناقصًا بالذُّنوبِ التي لم يَتُبْ منها، فإن كانت صغائِرَ كُفِّرت باجتنابِ الكبائِرِ؛... وإن كانت كبائِرَ فهو في حُكمِ المشيئةِ؛ إن شاء الله غَفَر له، وإن شاء عَذَّبه، ومآلُه إلى الجنَّةِ) .

    وقال ابنُ عاشور: (المعنى: الذين آمنوا باللهِ ولم يُشرِكوا به غَيْرَه في العِبادةِ... لَهُمُ الْأَمْنُ، والمراد: الأمنُ من عذابِ الدُّنيا بالاستئصالِ ونحوِه، وما عُذِّبَت به الأُمَمُ الجاحِدةُ، ومن عذابِ الآخرةِ؛ إذ لم يكُنْ مطلوبًا منهم حينئذٍ إلَّا التوحيدُ) .

    وقال ابنُ باز: (من مات على التَّوحيدِ لا يُشرِكُ باللهِ شَيئًا فإنَّه من أهلِ الجنَّةِ وإن زنى وإن سرق، وهكذا لو فَعَل معاصيَ أخرى، كالعُقوقِ والرِّبَا وشَهادةِ الزُّورِ، ونحوِ ذلك؛ فإنَّ العاصيَ تحت مَشيئةِ اللهِ؛ إن شاء رَبُّنا غفر له، وإن شاء عَذَّبَه على قَدْرِ معاصيه إذا مات غيرَ تائبٍ، ولو دَخَل النَّارَ وعُذِّبَ فيها فإنَّه لا يخَلَّدُ، بل سوف يخرُجُ منها إلى الجنَّةِ بعد التَّطهيرِ والتَّمحيصِ) .
    وقال أيضًا: (إنَّ ما جاء في فَضلِ التَّوحيدِ ومن مات عليه فهو من أهلِ الجنَّةِ: إنَّما يكونُ بالتزامِه أُمورَ الإسلامِ، ومِن ذلك أمرُ الصَّلاةِ، من التزَمَ بها حَصَل له ما وُعِد به المتَّقون، ومن أبى حصل عليه ما تُوُعِّدَ به غيرُ المتَّقينَ، ولو أنَّ إنسانًا قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ، ووَحَّد اللهَ ثم جَحَد وُجوبَ الصَّلاةِ، كفَرَ، ولا ينفَعُه قَولُه: لا إلهَ إلَّا اللهُ، أو توحيدُه لله مع جَحْدِه وجوبَ الصَّلاةِ، فهكذا مَن تَرَكها تساهُلًا وعَمْدًا وقِلَّةَ مُبالاةٍ: حُكمُه حُكمُ من جَحَد وجوبَها في الصَّحيحِ مِن قَولَيِ العُلَماءِ، ولا تنفَعُه شهادتُه بأنَّه لا إلهَ إلَّا اللهُ؛ لأنَّه تَرَك حَقَّها؛ لأنَّ مِن حَقِّها أن يؤدِّيَ المرءُ الصَّلاةَ، وهكذا لو وَحَّد اللهَ وأقَرَّ بأنَّه لا إلهَ إلَّا اللهُ، ولكِنَّه استهزأ بشَيءٍ مِن دينِ اللهِ؛ فإنَّه يَكفُرُ، كما قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: 65، 66]) .

    وقال ابنُ عثيمين: (تحقيقُ التَّوحيدِ: تخليصُه مِن الشِّرْكِ، ولا يكونُ إلَّا بأمورٍ ثلاثةٍ:
    الأوَّلُ: العِلمُ، فلا يمكِنُ أن تحَقِّقَ شَيئًا قَبلَ أن تَعلَمَه؛ قال اللهُ تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد: 19]
    الثَّاني: الاعتِقادُ، فإذا عَلِمْتَ ولم تعتَقِدْ واستكبَرْتَ، لم تحَقِّقِ التَّوحيدَ؛ قال اللهُ تعالى عن الكافِرينَ:أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص: 5] ، فما اعتَقَدوا انفرادَ اللهِ بالأُلوهيَّةِ.
    الثَّالث: الانقيادُ، فإذا عَلِمْتَ واعتقَدْتَ ولم تنْقَدْ، لم تحَقِّقِ التَّوحيدَ؛
    قال تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات: 35، 36]، فإذا حَصل هذا وحَقَّق التَّوحيدَ، فإنَّ الجنَّةَ مَضمونةٌ له بغيرِ حِسابٍ، ولا يحتاجُ أن نقولَ: إن شاء اللهُ؛ لأنَّ هذا حكايةُ حُكمٍ ثابتٍ شَرعًا، أمَّا بالنِّسبةِ للرَّجُلِ المعَيَّنِ، فإنَّنا نقولُ: إن شاء اللهُ) .
    -------------------------------------------------------------------------
    التالي : -
    -
    : :

    ثالثاً: أنواعُ الأدِلَّةِ الدَّالَّةِ على توحيدِ الأُلوهيَّةِ :


    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5198
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    الإيمانُ باللهِ: (توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، والأُلُوهيَّةِ، والأسماءِ والصِّفاتِ)   الإيمانِ بوُجودِ اللهِ تعالى وأقسامِ التَّوحيدِ -   توحيدُ الرُّبوبيَّةِ  - توحيدُ الأُلوهيَّةِ  -   توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ                     Empty ثالثاً: أنواعُ الأدِلَّةِ الدَّالَّةِ على توحيدِ الأُلوهيَّةِ :

    مُساهمة من طرف صادق النور الإثنين ديسمبر 04, 2023 10:01 pm

    يتبع ما قبله : -

    ثالثاً: أنواعُ الأدِلَّةِ الدَّالَّةِ على توحيدِ الأُلوهيَّةِ :

    وردت في القُرْآنِ الكريمِ أدِلَّةٌ تُقَرِّرُ توحيدَ الأُلوهيَّةِ بأحسَنِ تقريرٍ، وبأقوى حُجَّةٍ، ويمكِنُ حَصْرُها في خَمسةِ أنواعٍ:
    النَّوعُ الأوَّلُ: إلزامُ المُشرِكينَ باعترافِهم بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ؛ ليُقِرُّوا بتوحيدِ الأُلوهيَّةِ الذي يُنكِرونَه.
    النَّوعُ الثَّاني: بيانُ حالِ الآلهةِ التي تُعبَدُ دُونَ اللهِ في الدُّنيا والآخِرةِ بصِفةٍ تُقَرِّرُ عَدَمَ استِحقاقِها للعِبادةِ.
    النَّوعُ الثَّالث: تذكيرُ المُشرِكينَ بما يَكمُنُ في نُفوسِهم من التَّوحيدِ، وأنَّه لا برهانَ ولا حُجَّةَ لهم على شِرْكِهم.
    النَّوعُ الرَّابِعُ: بيانُ أنَّ الحكم لله وَحْدَه شرعًا وجزاءً.
    النَّوعُ الخامِسُ: إجماعُ الكُتُبِ السَّماويَّةِ على استِحقاقِ اللهِ للعِبادةِ وَحْدَه

    اولاً : - : من أدِلَّةِ تقريرِ توحيدِ الأُلوهيَّةِ: إلزامُ المُشرِكينَ باعتِرافِهم بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ؛ ليُقِرُّوا بتوحيدِ الأُلوهيَّةِ الذي يُنكِرونَه

    قال ابنُ باز: (قد أوضَحَ أهْلُ العِلْمِ رَحِمَهم اللهُ أنَّ توحيدَ الرُّبوبيَّةِ يَستلزِمُ توحيدَ الأُلوهيَّةِ -وهو: إفرادُ اللهِ بالعِبادةِ- ويوجِبُ ذلك ويقتضيه؛ ولهذا احتَجَّ اللهُ عليهم بذلك) .
    وهذا النَّوعُ من الأدِلَّةِ يكونُ في مسألتينِ:
    المَسْألةُ الأولى: العِلْمُ بأنَّ اللهَ هو المنفَرِدُ بالخَلْقِ والتَّدبيرِ.
    المَسْألةُ الثَّانيةُ: العِلْمُ بأنَّ اللهَ هو المنفَرِدُ بإعطاءِ النِّعَمِ الظَّاهِرةِ والباطِنةِ .
    ومِنَ الأدِلَّةِ على ذلك:
    - قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 21-22] .

    أي: اعبُدوا اللهَ تعالى أيُّها النَّاسُ؛ لأنَّه هو الذي أوجَدَكم أنتم ومَن قَبْلَكم من العَدَمِ؛ وذلك مِن أجْلِ أن تَصِلوا إلى مَرتَبةِ التَّقوى، واعبُدوه؛ لأنَّه هو الذي جعَل لكم الأرضَ مُمهَّدةً كالفِراشِ، مُوطأةً مُثبَّتةً يَستقِرُّ عليها الإنسانُ، وجعَل لكم السَّماءَ سَقْفًا، وهو الذي أَنزَلَ مِنَ السَّحابِ مَطَرًا؛ فأنبَتَ للنَّاسِ بسَبَبِه أنواعًا متعدِّدةً من الثِّمارِ؛ رزقًا لهم؛ فلا تتَّخِذوا له أمثالًا ونُظراءَ بزَعْمِكم، وهو الذي خلَقَكم ورزَقَكم؛ فهو المستَحِقُّ لأنْ تُخلِصوا له العِبادةَ وَحْدَه لا شريكَ له، وأنتم تَعلَمونَ أنَّه إلهٌ واحدٌ، لا نِدَّ له ولا شَريكَ له في الخَلْقِ والرَّزْقِ وغيرِ ذلك؛ فليس كمِثْلِه شَيءٌ سُبحانَه وتعالى .
    - وقال اللهُ سُبحانَه: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ [الأنعام: 14] .
    أي: قُلُ -يا محمَّدُ-: أأجْعَلُ غيرَ اللهِ تعالى مِن هذه المخلوقاتِ العاجزةِ وَليًّا يتولَّاني؛ فأَستنصِرَه وأستعينَ به؟ كَلَّا فلا أتَّخِذُ وليًّا غيرَ اللهِ تعالى؛ لأنَّه خالِقُ السَّمواتِ والأرضِ، ومُبدِعُهما على غيرِ مثالٍ سبَق، ولا أتَّخِذُ غيرَه سُبحانَه وليًّا؛ لأنَّه سُبحانَه الرَّزَّاقُ لجميعِ خَلْقِه، من غيرِ احتياجٍ إليهم، وقد أَمَرني ربِّي أنْ أكونَ أوَّلَ مَن يخضَعُ له سُبحانَه بالتَّوحيدِ، وينقادَ له بالطَّاعةِ من هذه الأُمَّة، ونُهيتُ عن أنْ أكونَ مِن المشْرِكين .
    - وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الأنعام: 101-102] .
    أي: إنَّ اللهَ تعالى-الذي جَعَلَ المُشركونَ الجِنَّ شُرَكاءَ له، وخَرَقوا له بنينَ وبناتٍ بغَيْرِ عِلمٍ- هو خالِقُ السَّمواتِ والأرضِ، ومُحْدِثُهما على غيرِ مثالٍ سَبَقَ، فكيفَ يكونُ له ولَدٌ، ولا زوجةَ له؟ فالولَدُ إنَّما يكونُ متولِّدًا عن شيئينِ متناسِبَينِ،
    واللهُ لا يناسِبُه ولا يشابِهُه مِن خَلْقِه شيءٌ، وهو سُبحانَه لا يحتاجُ إلى زوجةٍ، فهو الغنيُّ عن جميعِ مخلوقاتِه، وكلُّها فقيرةٌ إليه، وجميعُ الكائناتِ خَلْقُه وعَبيدُه، ولا يُمكِنُ أن يكونَ شَيءٌ مِن خَلْقِه ولَدًا أو زوجةً له بحالٍ، وهو سُبحانَه عالِمٌ بالموجوداتِ والمعدوماتِ، والجائزاتِ والمُسْتحيلاتِ، فمِنْ إحاطَةِ عِلْمِه عزَّ وجَلَّ أنَّه يَعلَمُ المعدومَ الذي سَبَق في عِلْمِه أنَّه لا يُوجَدُ،
    يعلَمُ أنْ لو كان كيف يكونُ؟ فمن أحاط عِلْمُه بكلِّ شيءٍ فكيف يكونُ جِنْسًا له -كالوَلَدِ- من لا يعلَمُ شيئًا إلَّا ما عَلَّمَه اللهُ؟
    وهو عالِمٌ أيضًا بأعمالِ أولئك الذين يزعُمونَ أنَّ للهِ شَريكًا أو ولدًا، وهو مُحْصيها عليهم فيُجازِيهم بها،
    وذلك الذي لا وَلَدَ له ولا صاحِبَةَ، وخَلَقَ كُلَّ شيءٍ، وهو بكلِّ شيءٍ عليمٌ، هو المألوهُ المعبودُ الذي يستحِقُّ نهايةَ الذُّلِّ ونهايةَ الحُبِّ، الرَّبُّ الذي ربَّى جميعَ خَلْقِه بنِعَمِه، فلا ينبغي أن تكونَ عبادَتُكم وعبادَةُ جميعِ الخَلْقِ إلَّا خالِصةً له وحْدَه؛ فحَقٌّ على المصنوعِ أن يُفْرِدَ جميعَ أنواعِ العبادَةِ لصانِعِه، ويَقْصِدَ بها وَجْهَه،
    فاعْبُدوه وحْدَه لا شَريكَ له، وأَقِرُّوا له بالوَحدانيَّةِ، فلا وَلَدَ له، ولا والِدَ، ولا صاحِبَةَ له، ولا نَظيرَ ولا شريكَ.
    واللهُ على جميعِ ما خَلَقَ رَقيبٌ وحَفيظٌ؛ فيقومُ بأرزاقِهم وأقواتِهم، وسياسَتِهم وتدبيرِ شُؤونِهم؛ بكمالِ عِلْمِه، وقُدْرَته ورَحْمَتِه، وعَدْلِه وحِكْمَتِه عزَّ وجَلَّ، وكلُّ شيءٍ بِيَدِه، وأمورُ كُلِّ شيءٍ تُفَوَّضُ إليه وَحْدَه، فيفعَلُ فيها ما يشاءُ سُبحانَه،
    فذلك -الذي هذه صفاتُه- هو الذي يَستَحِقُّ أن يُعبَدَ وَحْدَه لا شريكَ له .

    - وقال اللهُ تعالى: قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [يونس: 31-32] .
    أي: قُل -يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: مَن الذي يرزُقُكم من السَّماءِ مياهَ الأمطارِ، ويَرزُقُكم من الأرضِ أنواعًا من الحُبوبِ والثِّمارِ والبُقولِ والمعادِنِ؟ أم مَن الذي يملِكُ سَمعَكم وأبصارَكم، ولو شاء لسَلَبَكم إيَّاها؟ ومَنْ يُخرِجُ الشَّيءَ الحَيَّ مِن الشَّيءِ الميِّتِ بقُدرتِه العظيمةِ، فيُخرجُ الإنسانَ الحيَّ والأنعامَ والبهائمَ الأحياءَ من النُّطَفِ الميِّتةِ، ويُخرِجُ الزَّرعَ من الحَبَّةِ، والنَّخلةَ من النَّواةِ، والدَّجاجةَ مِن البيضةِ، والمؤمنَ من الكافِر، إلى غيرِ ذلك؟ ومَنْ يُقدِّر أمرَ جَميعِ الخلائِقِ، ويتصَرَّفُ في السَّماءِ والأرضِ بما يشاءُ؟
    فسيَقولُ المُشرِكونَ: اللهُ وَحدَه هو الذي يرزُقُنا مِنَ السَّماءِ والأرضِ، ويَملِكُ السَّمعَ والأبصارَ، ويُخرِجُ الحَيَّ من الميِّتِ، ويُخرِجُ الميِّتَ مِن الحيِّ، ويُدَبِّرُ الأمرَ.
    فقُل-يا مُحمَّدُ- لهؤلاءِ المُشرِكينَ: أفلا تتَّقونَ اللهَ، وتخافونَ عِقابَه على إصرارِكم على الشِّرْكِ، فتُخلِصونَ له العِبادةَ؟! فأنتم مُقِرُّونَ أنَّه خالِقُكم ورازِقُكم، ومُدَبِّرُ أمورِكم، فالذي يقومُ بتلك الأفعالِ، فَيرزُقُكم من السَّماءِ والأرضِ، ويَملِكُ السَّمعَ والأبصارَ، ويُخرِجُ الحَيَّ مِنَ الميِّتِ، ويُخرِجُ الميِّتَ مِن الحَيِّ، ويُدَبِّرُ الأمرَ؛ هو المستَحِقُّ للعِبادةِ وَحْدَه دونَ ما سِواه، وهو ربُّكم الحَقُّ الذي لا شَكَّ فيه. فأيُّ شَيءٍ غيرِ الحقِّ إلَّا الضَّلالُ؟! فلا واسِطةَ بين الحَقِّ والباطِلِ؛
    فمَن عبدَ غَيرَ اللهِ المستَحِقِّ وَحدَه للعِبادةِ، فقد ضلَّ. فكيف يَقَعُ صَرفُكم بعدَ وضوحِ الحقِّ، فتَعدِلونَ عن عِبادةِ اللهِ إلى عِبادةِ ما سِواه، وأنتم تعلمونَ أنَّ اللهَ وَحْدَه هو المتفرِّدُ بالخَلقِ والتَّدبيرِ ؟

    وقال الشِّنقيطيُّ: (قَولُه تعالى: إنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون [الجاثية: 3 - 5] .
    ذكَرَ جَلَّ وعلا في هذه الآياتِ الكريمةِ مِن أوَّلِ سُورةِ «الجاثيةِ» سِتَّةَ بَراهينَ مِن براهينِ التَّوحيدِ الدَّالَّةِ على عَظمتِه وجَلالِه،
    وكَمالِ قُدرتِه، وأنَّه المستَحِقُّ للعِبادةِ وَحْدَه تعالى.
    الأوَّلُ منها: خَلْقُه السَّمَواتِ والأرضَ. الثَّاني: خَلْقُه النَّاسَ. الثَّالِثُ: خَلْقُه الدَّوابَّ. الرَّابعُ: اختِلافُ اللَّيلِ والنَّهارِ.
    الخامِسُ: إنزالُ الماءِ مِن السَّماءِ وإحياءُ الأرضِ به. السَّادِسُ: تصريفُ الرِّياحِ.
    وذَكَر أنَّ هذه الآياتِ والبراهينَ إنَّما ينتَفِعُ بها المؤمِنونَ الموقِنونَ الذين يَعقِلونَ عن اللهِ حُجَجَه وآياتِه، فكأنَّهم هم المختَصُّونَ بها دونَ غَيرِهم.
    ولذا قال: لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ [الجاثية: 3] ، ثم قال: آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [الجاثية: 4] ، ثم قال: آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الجاثية: 5] .
    وهذه البراهينُ السِّتَّةُ المذكورةُ في أوَّلِ هذه السُّورةِ الكريمةِ جاءت مُوضَّحةً في آياتٍ كثيرةٍ جِدًّا، كما هو معلومٌ) .

    ثانياً :: مِن أدِلَّةِ تقريِر تَوحيدِ الأُلوهيَّةِ: بَيانُ حالِ الآلِهةِ التي تُعبَدُ دُونَ اللهِ في الدُّنيا والآخِرةِ بصِفةٍ تُقَرِّرُ عَدَمَ استِحقاقِها للعِبادةِ

    وهذا النَّوعُ من الأدِلَّةِ يكونُ في ثلاثِ مَسائِلَ:

    المَسْألةُ الأولى: مَعرِفةُ ما يُعبَدُ مِن دُونِ اللهِ مِن المخلوقاتِ، وبَيانُ نَقْصِها من جَميعِ الوُجوهِ.
    المَسْألةُ الثَّانيةُ: تعجيزُ المسؤولينَ مِن دونِ اللهِ.
    المَسْألةُ الثَّالِثةُ: الإخبارُ عن العداوةِ الواقِعةِ بَعْدَ البَعْثِ .

    المَسْألةُ الأولى: مَعرِفةُ ما يُعبَدُ مِن دونِ اللهِ مِنَ المَخلوقاتِ وبَيانُ نَقْصِها من جميعِ الوُجوهِ

    - قال اللهُ تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا [الفرقان: 3] .
    أي: واتَّخَذ المُشرِكونَ من دونِ اللهِ مَعبوداتٍ مِن الأصنامِ وغَيرِها لا تَستطيعُ أن تَخلُقَ شَيئًا، وهذه الآلِهةُ مَخلوقةٌ، بل منها ما هو مَصنوعٌ ومَنحوتٌ بأيدي المُشرِكينَ، ولا تَستطيعُ أن تدفَعَ عن نَفْسِها ضَرًّا، ولا أن تجلِبَ لنَفْسِها نَفْعًا، ولا تستطيعُ إماتةَ حَيٍّ ولا إحياءَ مَيِّتٍ ولا بَعْثَه .
    وقال الشِّنقيطي: (قَولُه تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا،)
    ذكَرَ جَلَّ وعلا في هذه الآيةِ الكريمةِ أنَّ الآلِهةَ التي يَعبُدُها المُشرِكونَ مِن دُونِه مُتَّصِفةٌ بسِتَّةِ أشياءَ، كُلُّ واحدٍ منها بُرهانٌ قاطِعٌ أنَّ عِبادتَها مع اللهِ لا وَجْهَ لها بحالٍ، بل هي ظُلمٌ مُتناهٍ، وجَهلٌ عظيمٌ، وشِرْكٌ يُخَلَّدُ به صاحِبُه في نارِ جَهنَّمَ، وهذا بَعْدَ أن أثنى على نَفْسِه جَلَّ وعلا بالأمورِ الخَمسةِ المذكورةِ في الآيةِ التي قَبْلَها التي هي براهينُ قاطِعةٌ على أنَّ المتَّصِفَ بها هو المعبودُ وَحْدَه، والأمورُ السِّتَّةُ التي هي مِن صِفاتِ المعبوداتِ مِن دُونِ اللهِ: الأوَّلُ منها: أنَّها لا تَخلُقُ شَيئًا، أي: لا تَقدِرُ على خَلْقِ شَيءٍ.
    والثَّاني منها: أنَّها مخلوقةٌ كُلُّها، أي: خَلَقَها خالِقُ كُلِّ شَيءٍ.
    والثَّالِثُ: أنَّها لا تَملِكُ لأنفُسِها ضَرًّا ولا نَفْعًا.
    الرَّابعُ والخامِسُ والسَّادِسُ: أنَّها لا تَملِكُ مَوتًا، ولا حياةً، ولا نُشورًا، أي: بَعثًا بعد الموتِ،

    وهذه الأمورُ السِّتَّةُ المذكورةُ في هذه الآيةِ الكريمةِ جاءت مُبَيَّنةً في مواضِعَ أُخَرَ مِن كِتابِ اللهِ تعالى.
    أمَّا الأوَّلُ منها: وهو كونُ الآلهةِ المعبودةِ مِن دُونِ اللهِ لا تَخلُقُ شَيئًا، فقد جاء مبَيَّنًا في آياتٍ كثيرةٍ؛ كقَولِه تعالى : إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ الآية [الحج: 73] ،
    وقَولِه تعالى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل: 20، 21]،
    وقَولِه تعالى في سورة «فاطر» قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا [فاطر: 40]،
    وقَولِه تعالى في سورةِ «لقمانَ» : هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [لقمان: 11] ،
    وقَولِه تعالى في «الأحقافِ»: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الأحقاف: 4] ،
    وقَولِه تعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا [الكهف: 51] ،
    وقد بَيَّن تعالى في آياتٍ مِن كِتابِه الفَرْقَ بين من يخلُقُ، ومن لا يخلُقُ؛ لأنَّ مَن يَخلُقُ هو المعبودُ، ومن لا يخلُقُ لا تصِحُّ عبادتُه؛ كقَولِه تعالى: يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ الآية [البقرة: 21] ،
    أي: وأمَّا مَن لم يخلُقْكم فليس برَبٍّ ولا بمعبودٍ لكم، كما لا يخفى،
    وقَولِه تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [النحل: 17] ،
    وقَولِه تعالى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الرعد: 16] ، أي: ومَن كان كذلك فهو المعبودُ وَحْدَه جَلَّ وعلا، وقَولِه تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الأعراف: 191] .
    وأمَّا الأمرُ الثَّاني منها: وهو كونُ الآلهةِ المعبودةِ مِن دُونِه مخلوقةً، فقد جاء مُبَيَّنًا في آياتٍ مِن كِتابِ اللهِ؛ كآيةِ «النَّحل»، و «الأعرافِ» المذكورتَينِ آنِفًا.
    أمَّا آيةُ «النحل» فهي قَولُه تعالى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النحل: 20]
    فقَولُه: وَهُمْ يُخْلَقُونَ صريحٌ في ذلك.
    وأمَّا آيةُ «الأعراف» فهي قَولُه تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الأعراف: 191] إلى غَيرِ ذلك مِنَ الآياتِ.

    وأمَّا الأمرُ الثَّالِثُ منها
    : وهو كَونُهم لا يَملِكونَ لأنفُسِهم نَفعًا ولا ضَرًّا، فقد جاء مُبَيَّنًا في مواضِعَ مِن كِتابِ اللهِ؛
    كقَولِه تعالى: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا [الرعد: 16] ،
    وكقَولِه تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ [الأعراف: 191، 192]، ومن لا يَنصُرُ نَفْسَه فهو لا يملِكُ لها ضَرًّا ولا نَفعًا،
    وقَولِه تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ [الأعراف: 197]،
    وقَولِه تعالى وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ * إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا الآية [الأعراف: 193 - 195] .
    وفيها الدَّلالةُ الواضِحةُ على أنَّهم لا يَملِكونَ لأنفُسِهم شَيئًا، وقَولِه تعالى: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ الآية [الحج: 73] ، إلى غَيرِ ذلك مِنَ الآياتِ.

    وأمَّا الرَّابِعُ والخامِسُ والسَّادِسُ مِن الأمورِ المذكورةِ -أعني: كَونَهم لا يَملِكونَ مَوتًا ولا حياةً ولا نُشورًا، فقد جاءت أيضًا مُبَيَّنةً في آياتٍ مِن كِتابِ اللهِ؛
    كقَولِه تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الروم: 40] ،
    فقَولُه تعالى في هذه الآيةِ الكريمةِ: هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ :
    يدُلُّ دَلالةً واضِحةً على أنَّ شُرَكاءَهم ليس واحِدٌ منهم يَقدِرُ أن يَفعَلَ شَيئًا من ذلك المذكورِ في الآيةِ، ومنه الحياةُ المعَبَّرُ عنها بـ: "خَلَقَكُمْ"، والموتُ المعَبَّرُ عنه بقَولِه: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ، والنُّشورُ المعَبَّرُ بقَولِه: ثُمَّ يُحْيِيكُمْ، وبَيَّن أَّنهم لا يملِكونَ نُشورًا بقَولِه: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ [الأنبياء: 21] ،
    وبَيَّن أنَّهم لا يَملِكونَ حَياةً ولا نُشُورًا، في قَولِه تعالى: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ :الآية [يونس: 34] ،
    وبَيَّن أنَّه وَحْدَه الذي بيَدِه الموتُ والحياةُ، في آياتٍ كثيرةٍ؛ كقَولِه تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا : [آل عمران: 145] ،
    وقَولِه تعالى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا الآية [المنافقون: 11] ، وقَولِه تعالى: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ الآية [نوح: 4] ، وقَولِه تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ :الآية [البقرة: 28] ،
    وقَولِه تعالى: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ : الآية [غافر: 11] ، إلى غَيرِ ذلك مِنَ الآياتِ. وهذا الذي ذكَرْنا مِن بيانِ هذه الآياتِ بَعضِها لبعضٍ: مَعلومٌ بالضَّرورةِ مِنَ الدِّينِ) .

    - وقال اللهُ سُبحانَه: قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ : [يونس: 34] .
    أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: هل من آلهَتِكم -التي زَعَمتُم أنَّها شُرَكاءُ لله في العِبادةِ- مَن يبتدِئُ خَلقَ أيِّ شَيءٍ مِن العَدَمِ، ثمَّ إذا مات يُعيدُه إلى الحياةِ مَرَّةً أُخرى؟ فقُلْ لهم: اللهُ وَحدَه هو الذي يَبتَدِئُ خَلقَ كُلِّ شَيءٍ مِن العدَمِ، ثمَّ يُعيدُه بعد مَوتِه متى شاء مِن غَيرِ مُعاوِنٍ ولا شَريكٍ، فكيف تُصرَفونَ وتُقلَبونَ عن اتِّباعِ الحَقِّ إلى الباطِلِ ؟
    - وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج: 73-74] .
    أي: يا أيُّها النَّاسُ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا للآلِهةِ التي يَعبُدُها المُشرِكونَ، فأنصِتُوا لهذا المَثَلِ، وتفهَّموا ما احتَوى عليه؛ إنَّ الذين تَعبُدونَ مِن دُونِ اللهِ مِنَ الأصنامِ وغَيرِها لن يَقدِروا على خَلقِ ذُبابةٍ واحِدةٍ، ولو تَعاونوا جميعًا على ذلك، وإنْ يَختَطِفِ الذُّبابُ ويَختَلِسْ مِنَ الأصنامِ شَيئًا ممَّا عليها مِن طِيبٍ أو ممَّا يُجعَلُ لها مِن طَعامٍ ونحوِه؛ لا تَستطِعِ الأصنامُ أن تَرُدَّ ما استَلَبَه الذُّبابُ، مع ضَعفِه وحَقارتِه. ضعُفَت الآلِهةُ المعبودةُ مِن دُونِ اللهِ -كالأصنامِ- وعَجَزت عن استِنقاذِ ما يَسلُبُه الذُّبابُ منها، وضعُفَ الذُّبابُ، وضَعُفَ العابِدُ لغير الله، فكيف يَعبُدُ المُشرِكونَ ما لا قُدرةَ له على خَلقِ ذُبابٍ، ولا على رَدِّ ما استَلَبَه منه ؟!

    - وقال اللهُ تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَاتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [النحل: 75-76] .
    أي: بيَّن اللهُ مَثَلًا لنَفسِه تعالى وللأصنامِ؛ كعَبدٍ مَملوكٍ عاجزٍ لا يَملِكُ شَيئًا، فلا يَقدِرُ على شيءٍ مِنَ المالِ، ولا مِن أمْرِ نَفْسِه، ورجُلٍ حُرٍّ غَنيٍّ آتاه اللهُ رِزقًا واسِعًا طيِّبًا، يَملِكُ التصرُّفَ فيه، فيُنفِقُ منه دائمًا في السِّرِّ والعَلانِيَةِ؛ إحسانًا منه إلى الآخَرينَ، فهل يستوي هذا العَبدُ والحُرُّ؟ فكذلك اللهُ الذي له المُلْكُ، وبِيَدِه الرِّزقُ، المتصَرِّفُ في مُلكِه كما يشاءُ؛ لا يستوي مع المَعبوداتِ العاجزةِ التي لا تَملِكُ شيئًا، ولا قُدرةَ لها على شَيءٍ، وأنتم تتَّخِذونَها شُرَكاءَ لله تعالى في عبادتِه، فكيف تُسَوُّونَ بينهم؟!

    والحَمدُ الكامِلُ الخالِصُ لله المُنعِمِ المُستَحِقِّ لعِبادةِ خَلقِه وشُكرِهم، دونَ ما يُعبَدُ مِن دُونِه؛ إذ لا نِعمةَ لتلك المَعبوداتِ على أحدٍ حتَّى تُحمَدَ عليها، ولكنَّ أكثَرَ المُشرِكينَ لا يَعلَمونَ أنَّ اللهَ وَحْدَه هو المُستحِقُّ للعِبادةِ والشُّكرِ؛ فهم يَعبُدونَ ويَحمَدونَ غَيرَه؛ لجَهلِهم.
    وضرَبَ اللهُ لكم مثلًا آخَرَ لنَفسِه تعالى، وللأصنامِ التي تُعبَدُ مِن دونِه؛ كرَجُلَينِ أحَدُهما لا يَنطِقُ، ولا يَسمَعُ، ولا يَعقِلُ، عاجِزٌ لا يَقدِرُ على فِعلِ شَيءٍ؛ مِن جَلبِ نَفعٍ، أو دَفْعِ ضُرٍّ، -فكذلك الأصنامُ لا تَسمَعُ، ولا تَنطِقُ، ولا تَعقِلُ شَيئًا-
    وهو مع عدَمِ نُطقِه وعَجزِه ثَقيلٌ على مَن يلي أمْرَه ويَعولُه، -فكذلك الصَّنَمُ ذو كُلفةٍ ومَشَقَّةٍ على من يَعبُدُه؛ حيثُ يَقومُ بحَملِه، ووَضْعِه، وخِدْمتِه- أينما يُرسِلْه مَولاه في عمَلٍ لِيَعمَلَه، لا ينجَحْ فيه، فهو لا يأتي بخَيرٍ، ولا يَقضي حاجةً؛ لعَجزِه، وعدَمِ فَهمِه لِما يُقالُ له، وعَدَمِ قُدرتِه على التَّعبيرِ عمَّا يُريدُ؛ -فكذلك الصَّنَمُ لا يَعقِلُ ما يُقالُ له، ولا يَنطِقُ بشَيءٍ، فلا يَستطيعُ أن يأتيَ بخَيرٍ ويَقضِيَ حاجةً- فهل يَستوي هذا الأبكَمُ الكَلُّ على مَولاه الذي لا يأتي بخيرٍ حيثما توجَّهَ، ومَن هو ناطقٌ متكلِّمٌ قادِرٌ يأمُرُ بالحقِّ والقِسطِ، ويدعو إليه، وهو في نَفْسِه -مع ما ذُكِرَ مِن نَفعِه العامِّ- على طريقِ الحقِّ لا يَنحَرِفُ عنه، عامِلٌ بما يأمُرُ به، ويدعو إليه، ولا يتوجَّهُ إلى مطلَبٍ إلَّا ويبلُغُه بأقرَبِ سَعيٍ وأسهَلِه، فهو عادِلٌ في أقوالِه، مُستقيمٌ في أفعالِه؟! فإذا امتنَعَ التَّساوي بين هذينِ الصِّنفَينِ المَذكورَينِ، فكذلك يمتنِعُ التَّساوي بينَ اللهِ سُبحانَه العادِلِ الذي يأمُرُ بالعَدلِ، وهو قائِمٌ بالقِسطِ على صراطٍ مُستقيمٍ، وبينَ ما يَجعَلونَه شُرَكاءَ له .
    وقال الله سبحانه: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ [الأعراف: 191-192] .
    قال ابنُ عثيمين: (بَيَّن اللهُ عَجْزَ هذه الأصنامِ، وأنَّها لا تَصلُحُ أن تكونَ معبودةً، مِن أربعةِ وُجوهٍ، هي:
    1- أنَّها لا تَخلُقُ، ومن لا يَخلُقُ لا يستَحِقُّ أن يُعبَدَ.
    2- أنَّهم مخلوقونَ مِنَ العدَمِ، فهم مُفتَقِرونَ إلى غَيرِهم ابتداءً ودَوامًا.
    3- أنَّهم لا يستطيعونَ نَصْرَ الدَّاعينَ لهم، وقَولُه: ولا يَسْتَطِيعُونَ أبلَغُ من قولِه: "لا يَنصُرونَهم"؛ لأنَّه لو قال: "لا يَنصُرونَه"، فقد يقولُ قائِلٌ: لكِنَّهم يستطيعونَ، لكِنْ لِمَّا قال: وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا كان أبلَغَ لظُهورِ عَجْزِهم.
    4- أنَّهم لا يستطيعونَ نَصْرَ أنفُسِهم) .
    المَسْألةُ الثَّانيةُ: تعجيزُ المَسؤولينَ مِن دونِ اللهِ
    وهذه المَسْألةُ وإن كانت داخِلةً في عُمومِ المَسْألةِ التي قَبْلَها إلَّا أنَّه قد ورد إفرادُها بالذِّكرِ في القُرْآنِ الكريمِ، وتَرِدُ كذلك مُرتَبِطةً مع تلك المَسْألةِ.
    - قال اللهُ تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا [الإسراء: 56] .
    أي: قُلْ -يا مُحَمَّدُ- للمُشرِكينَ: ادعُوا الذينَ زَعَمتُم أنَّهم آلهةٌ مِن دُونِ اللهِ عندَ حُلولِ الشَّدائِدِ بكم، فانظُروا هل يَقدِرونَ على إزالةِ الضُّرِّ عنكم بالكُلِّيَّةِ، أو تحويلِه مِن حالٍ إلى حالٍ، فيُغيِّروا صِفتَه أو قَدْرَه، أو يُحَوِّلوه إلى غَيرِكم؟ فإنَّهم لا يَقدِرونَ على ذلك، وإنَّما يَقدِرُ عليه اللهُ وَحدَه، فإذا كانوا بهذه الصِّفةِ فلأيِّ شَيءٍ تَدعونَهم مِن دُونِ اللهِ ؟!
    وقد يقَعُ التَّعجيزُ في الآخِرةِ،
    كما قال اللهُ تعالى: وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا [الكهف: 52] .
    أي: اذكُرْ يومَ يقولُ اللهُ للمُشرِكينَ يومَ القيامةِ تَوبيخًا وتقريعًا لهم: نادُوا آلهَتَكم التي ادَّعيتُم في الدُّنيا كَذِبًا أنَّهم شُرَكائي في العِبادةِ؛ نادُوهم لِيَنصُروكم ويَمنَعوكم مِن عَذابي، فاستغاثَ المُشرِكونَ بآلهَتِهم التي كانوا يَعبُدونَها في الدُّنيا، فلم يُجيبوهم ولم يَنصُروهم، وجعَل اللهُ بين المُشرِكينَ وآلهَتِهم التي عَبَدوها حائِلًا مُهلِكًا يَفصِلُ بينهم؛ فليس لأحدِ الفريقَينِ مِن سَبيلٍ للوُصولِ إلى الآخَرِ، وعاينَ المُشرِكونَ النَّارَ فظنُّوا أنَّهم داخِلُوها وواقِعونَ فيها، ولم يجِدِ المُشرِكونَ عنها مَكانًا يَنصَرِفونَ إليه فيَصرِفُهم عن الوقوعِ فيها، أو طَريقًا يعدِلون عنها إليه، فلا بدَّ لهم إذَنْ منها .
    المَسْألةُ الثَّالثةُ: الإخبارُ عن العداوةِ الواقعةِ بَعْدَ البَعْثِ
    - قال اللهُ تعالى: وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: 81-82] .
    أي: اتَّخذَ المُشرِكونَ أوثانًا يَعبُدونَها مِن دونِ اللهِ؛ مِن أجلِ أن ينالوا بها العِزَّ، وتمنَعَهم مِن عذابِ اللهِ، وتُقرِّبَهم إليه، وتنصُرَهم، وتشفَعَ لهم. ولكن ليس الأمرُ كما ظنُّوا مِن أنَّ آلهتَهم تكونُ لهم عزًّا؛ فهي لا تستطيعُ أن تمنَعَهم من العذابِ، أو تنصُرَهم، أو تشفَعَ لهم، أو تقرِّبَهم إلى اللهِ، ولكن ستَكفُرُ تلك المعبوداتُ يومَ القيامةِ بعِبادةِ المُشرِكينَ لها، وتتبرَّأُ منهم، وتكونُ بخلافِ ما ظنُّوا فيهم، فتكونُ أعوانًا عليهم في خصومتِهم وتكذيبِهم والتبَرُّؤِ منهم، ويَؤولُ بهم ذلك إلى الذُّلِّ والهوانِ .
    - وقال اللهُ سُبحانَه: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: 94] .
    أي: يقولُ لهم اللهُ تعالى عند وُرودِهم عليه يومَ مَعادِهِم: لقد جِئتُمونا وُحْدانًا، بلا أهلٍ ولا أولادٍ، ولا جُنودٍ ولا أعوانٍ، ولا مالٍ
    ولا أثاثٍ، ولا رفيقٍ ولا صديقٍ، ولا شيءٍ من الدُّنيا معكم، فجِئْتُمونا حُفاةً عُراةً غُلْفًا غُرْلًا، وخلَّفْتُم- أيُّها القومُ- ما آتَيْناكم مِنَ النِّعَم التي اقتَنَيْتُموها في الدُّنيا وراءَكم، فلم تَحْمِلوها معكم إلى الآخِرَةِ، ولا نرَى معكم شُفعاءَكم الذين كُنتم في الدُّنيا تَدَّعونَ أنَّهم شُرَكاءُ لنا، فتَعبُدونَهم معنا، وتَزعُمونَ أنَّهم يَشفَعونَ لكم عِندَنا يومَ القيامةِ.
    لقدِ انقطَعَ اليومَ ما كانَ بينكم وبين شُرَكائِكم في الدُّنيا مِن تواصُلٍ وتَوادٍّ وتناصُرٍ وشَفاعةٍ، فاضمحَلَّ ذلك كلُّه في الآخِرَة؛ فلا أحَدَ منكم ينصُرُ صاحِبَه، ولا يُواصِلُه، وغاب عنكم ما كنتُم تَزعُمونَ أنَّهم شُركاءُ للهِ، وشفعاءُ لكم عِنْدَه، وذهَبَ ما ترجُونَ منهم مِن شَفاعةٍ تَجْلِبُ لكم -بزَعْمِكم- الأمنَ والسَّعادةَ، والنَّجاةَ يومَ القيامةِ .

    ثالثاً : : مِن أدِلَّة تقريرِ توحيدِ الأُلوهيَّةِ: تذكيرُ المُشرِكينَ بما يَكمُنُ في نُفوسِهم مِن التَّوحيدِ وقُبْحِ الشِّرْكِ، وأنَّه لا حُجَّةَ ولا بُرْهانَ لهم في شِرْكِهم

    وهذا النَّوعُ فيه مسألتانِ:

    المَسْألةُ الأولى: تذكيرُ المُشرِكينَ بما يَكمُنُ في نفوسِهم من التَّوحيدِ وقُبحِ الشِّرْكِ.
    المَسْألةُ الثَّانيةُ: بيانُ أنَّه لا حُجَّةَ للمُشرِكينَ ولا بُرهانَ لهم في شِرْكِهم .

    المَسْألةُ الأولى: تذكيرُ المُشرِكينَ بما يَكمُنُ في نفوسِهم من التَّوحيدِ وقُبحِ الشِّرْكِ.
    - قال اللهُ تعالى: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِّنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ [الأنعام: 63-64] .
    أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ مُلْزِمًا لهم بما أثبَتوه من توحيدِ الرُّبوبيَّةِ، على ما أنكَروا من توحيدِ الأُلوهيَّةِ: مَنِ الذي يُنجِّيكم في مَفاوزِ البَرِّيَّةِ البَعيدةِ الأطرافِ، إذا ضَلَلْتم فيها فتحيَّرتُم، وفي اللُّجَجِ البَحريَّةِ، إذا الرِّيحُ العاصِفةُ هاجتْكم، أو أخطَأتُم فيها طريقَكم، فتعَذَّر عليكم الخروجُ من تلك الشَّدائدِ، فتَدْعونَه مُظهرينَ التذلُّلَ والفَقْرَ والخُضوعَ،

    وتَدْعونَه سِرًّا قائِلينَ وأنتُم في تلك الحالِ: لئنْ أخرجْتَنا -يا ربُّ- مِن هذه الضَّائقةِ والشِّدةِ التي وقَعْنا فيها، لنكُونَنَّ ممَّن يَعتَرِفُ بنِعْمَتِك، ويوحِّدُك بالشُّكرِ، ويُخلِصُ لك العِبادةَ. فقلْ لهم -يا محمَّدُ-: اللهُ هو القادِرُ على تَفريجِ الكَرْبِ إذا وَقَع بكم، فيُنَجِّيكم من عَظيمِ ما حَلَّ بكم في البَرِّ والبَحرِ؛ مِن هَمِّ الضَّلالِ، وخَوْفِ الهَلاكِ، ومِن كُلِّ كَرْبٍ آخَرَ، وأمَّا آلِهَتُكم التي تُشْرِكونَ بها في عِبادتِه، وتَعبُدونَها مِن دُونِه فهي لا تَقدِرُ لكم على نَفْعٍ ولا ضُرٍّ، ثم أنتُم بعدَ تفضُّلِه عليكم بكَشْفِ كَرْبِكم تُشْرِكونَ به في حالِ الرَّخاءِ، فلا تَفُونَ لله تعالى بما قُلْتُم، وتنسَونَ نِعَمَه عليكم .
    - وقال اللهُ سُبحانَه: وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء: 67] .
    أي: وإذا أصابَتْكم الشِّدَّةُ في البَحرِ -كما لو أمسَكَت السَّفينةُ عن الجَريِ، أو اشتَدَّت عليكم الرِّيحُ، وهاجَت بكم الأمواجُ واضطَرَبت، وخَشِيتُم الغَرَقَ-
    غاب عن قُلوبِكم كلُّ مَن تَدعونَهم مِن دُونِ اللهِ، ولم تَستغيثوا إلَّا باللهِ وَحدَه؛ لعِلْمِكم بأنَّه لا يُنَجِّيكم أحدٌ سِواه، فلمَّا نجَّاكم اللهُ مِن الغَرَقِ، وأوصَلَكم إلى البَرِّ؛ أعرَضْتُم عن شُكرِه وتَوحيدِه، والإخلاصِ له سُبحانَه. وكان الإنسانُ مَطبوعًا على الجُحودِ لنِعَمِ اللهِ عليه؛ فهذه سَجِيَّتُه إلَّا مَن عَصَمَه اللهُ تعالى .
    عن سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: لَمَّا كان يومُ فَتحِ مَكَّةَ أمَّن رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم النَّاسَ إلَّا أربعةَ نَفَرٍ وامرأتينِ، وقال: ((اقتُلُوهُم، وإنْ وجَدْتُموهم متعَلِّقينَ بأستارِ الكَعبةِ: عِكْرِمةُ بنُ أبي جَهلٍ، وعبدُ اللهِ بْنُ خَطَلٍ، ومَقِيسُ بنُ صُبابةَ، وعبدُ اللهِ بنُ سَعدِ بنِ أبي السَّرْحِ ))...
    وأمَّا عِكرِمةُ فرَكِبَ البَحرَ، فأصابتهم عاصِفٌ، فقال أصحابُ السَّفينةِ: أخلِصوا؛ فإنَّ آلهتَكم لا تُغني عنكم شيئًا هاهنا.
    فقال عِكرِمةُ: واللهِ لَئِنْ لم يُنَجِّني مِنَ البَحرِ إلَّا الإخلاصُ لا يُنَجِّيني في البَرِّ غَيرُه، اللَّهُمَّ إنَّ لك عليَّ عَهدًا إنْ أنت عافيتَني ممَّا أنا فيه أنْ آتيَ مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى أضَعَ يَدي في يَدِه، فلأَجِدَنَّه عَفُوًّا كريمًا، فجاء فأسلَمَ .
    - وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ حكايةً عن قَولِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ لقَومِه: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 95-96] .
    أي: أتَعبُدونَ أشياءَ أنتم تَنحِتونَها بأيديكم، والحالُ أنَّ اللهَ خلَقَكم وخَلَق الذي تَعمَلونَه مِن أصنامِكم، فكيف تَعبُدونَها وهي مخلوقةٌ لا خالِقةٌ ؟!
    قال ابنُ تَيميَّةَ: (فهذا كُلُّه يُبَيِّنُ قُبحَ ما كانوا عليه قَبْلَ النَّهيِ، وقَبلَ إنكاره عليهم، فلولا أنَّ حُسْنَ التَّوحيدِ وعِبادةِ اللهِ تعالى وَحْدَه لا شَريكَ له، وقُبْحَ الشِّرْكِ: ثابِتٌ في نَفْسِ الأمرِ، مَعلومٌ بالعَقلِ، لم يُخاطِبْهم بهذا؛ إذ كانوا لم يفعلوا شيئًا يُذَمُّونَ عليه) .
    المَسْألةُ الثَّانيةُ: بيانُ أنَّه لا حُجَّةَ للمُشرِكينَ ولا بُرهانَ لهم في شِرْكِهم

    - قال اللهُ تعالى: أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاء إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [يونس: 66] .
    أي: إنَّ لله كلَّ مَن في السَّمواتِ وكُلَّ مَن في الأرضِ، فهم مِلكُه، يتصَرَّفُ فيهم كيف يشاءُ، وهو المستَحِقُّ وَحدَه للعِبادةِ، ولكِنَّ المشركينَ يتَّبِعونَ في دَعواهم الشُّرَكاءَ للهِ مُجَرَّدَ الظَّنِّ، فهم يتقوَّلونَ الكَذِبَ على اللهِ؛ ظنًّا بِلا عِلمٍ .
    - ومِمَّا قَصَّه اللهُ سُبحانَه عن أصحابِ الكَهْفِ قَولُهم: هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الكهف: 15] .
    أي :هؤلاءِ أهلُ عَصْرِنا وبَلَدِنا قد اتَّخَذوا مِن دُونِ اللهِ آلِهةً يَعبُدونَها، فهلَّا يأتي قَومُنا بحُجَّةٍ واضِحةٍ تدُلُّ على صَوابِ عِبادةِ تلك الآلهةِ التي يَتَّخِذونَها؟ فلا أحدَ أشَدُّ ظُلمًا ممَّن اختَلَقَ الكَذِبَ على اللهِ، فادَّعى أنَّ له شَريكًا يُعبَدُ .
    - وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَّصِيرٍ [الحج: 71] .
    أي: يَعبُدُ المُشرِكونَ مِن دونِ اللهِ أصنامًا لم يُنَزِّلِ اللهُ على رُسُلِه حُجَّةً على صِحَّةِ عبادتِها، وليس للمُشرِكينَ عِلمٌ يَقينيٌّ بجَوازِ وصِحَّةِ عِبادةِ تلك الأصنامِ، وإنَّما يَعبُدونَها تقليدًا لآبائِهم، وما لهم بسَبَبِ ظُلمِهم هذا مِن ناصرٍ يَنصُرُهم ويُنقِذُهم مِن عذابِ اللهِ، ويَدفَعُ عنهم عِقابَه حينَ يَحُلُّ بهم .
    وقال الشِّنقيطيُّ: (قَولُه تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون: 117] .
    البُرهانُ: الدَّليلُ الذي لا يَترُكُ في الحَقِّ لَبْسًا، وقَولُه: لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ كقَولِه: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا الآية [الحج: 71] ، والسُّلطانُ: هو الحُجَّةُ الواضِحةُ، وهو بمعنى: البُرهانِ، وقَولُه في هذه الآيةِ الكريمةِ: فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ قد بَيَّن أنَّ حِسابَه الذي عِندَ رَبِّه لا فَلاحَ له فيه، بقَولِه بَعْدَه: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ، وأعظَمُ الكافرينَ كُفرًا هو من يدعو مع اللهِ إلهًا آخَرَ لا بُرهانَ له به، ونَفْيُ الفلاحِ عنه يدُلُّ على هَلاكِه وأنَّه مِن أهلِ النَّارِ) .
    -----------------------------------------------------------------------
    التالي : -
    -
    : مِن أدِلَّةِ تَقريرِ توحيدِ الأُلوهيَّةِ : بيانُ أنَّ الحُكمَ للهِ وَحْدَه شَرعًا وجزاءً :
    -
    وما زلنا أحبابنا تابعونا

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5198
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    الإيمانُ باللهِ: (توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، والأُلُوهيَّةِ، والأسماءِ والصِّفاتِ)   الإيمانِ بوُجودِ اللهِ تعالى وأقسامِ التَّوحيدِ -   توحيدُ الرُّبوبيَّةِ  - توحيدُ الأُلوهيَّةِ  -   توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ                     Empty مِن أدِلَّةِ تَقريرِ توحيدِ الأُلوهيَّةِ : بيانُ أنَّ الحُكمَ للهِ وَحْدَه شَرعًا وجزاءً

    مُساهمة من طرف صادق النور الإثنين ديسمبر 04, 2023 10:04 pm

    يتبع ما قبله : -


    رابعاً : مِن أدِلَّةِ تَقريرِ توحيدِ الأُلوهيَّةِ: بيانُ أنَّ الحُكمَ للهِ وَحْدَه شَرعًا وجزاءً
    وهذا النَّوعُ شامِلٌ لمسائِلَ:
    المَسْألةُ الأولى: مِن حُكمِ اللهِ الشَّرعيِّ: الأمرُ بعِبادتِه وَحْدَه لا شَريكَ له، وتوجيهُ المُشرِكينَ إلى سُؤالِه وَحْدَه.
    المَسْألةُ الثَّانيةُ: مِن حُكمِه الشَّرعيِّ: حُكمُه ببُطلانِ عَمَلِ المُشرِكينَ، وصَلاحِ عَمَلِ الموَحِّدينَ.
    المَسْألةُ الثَّالِثةُ: مِن حُكْمِه الجزائيِّ: إثابتُه لأوليائِه الموَحِّدينَ، ونَصْرُهم في الدُّنيا والآخِرةِ، وحُكمُه بنَقيضِ ذلك على المُشرِكينَ .
    المَسْألةُ الأولى: مِن حُكمِ اللهِ الشَّرعيِّ: الأمرُ بعِبادتِه وَحْدَه لا شَريكَ له، وتوجيهُ المُشرِكينَ إلى سُؤالِه وَحْدَه.
    - قال اللهُ تعالى حِكايةً عن يُوسُفَ عليه السَّلامُ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [يوسف: 40] .
    أي: ما الحُكمُ إلَّا للهِ المُستحِقِّ للعِبادةِ دونَ ما سِواه؛ فهو وحدَه الحاكِمُ بين عبادِه، المشَرِّعُ لهم، وقد أمَرَكم اللهُ -أيُّها النَّاسُ- ألَّا تعبُدُوا إلَّا اللهَ وحدَه، ولا تُشرِكوا به شَيئًا، وذلك التَّوحيدُ وإخلاصُ العِبادةِ لله وحدَه هو الدِّينُ المُستقيمُ الذي أمرَ اللهُ به عِبادَه، ولكنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمونَ ذلك؛ فهم لجهلِهم يُشرِكونَ بالله .
    - وقال اللهُ سُبحانَه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 23] .
    أي: أمَرَ ربُّك -يا مُحمَّدُ- ووصَّى وأوجَبَ ألَّا تَعبُدوا -أنت وجميعُ الخَلقِ- إلَّا اللهَ وَحدَه .
    - وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف: 28-29] .
    أي: قُل -يا مُحمَّدُ- لهؤلاءِ الذين يَزعمونَ أنَّ اللهَ أمَرَهم بالفَحشاءِ: ما أمَرَ رَبِّي بما تَزعُمونَ، بل أمَرَ بالعَدلِ في العِباداتِ بتَوحيدِه، وفي المُعاملاتِ بأداءِ حُقوقِ عِبادِه، وتَوَجَّهوا في صلاتِكم إلى اللهِ وَحدَه، في أيِّ مَسجدٍ كُنتُم، واجتَهِدوا في إقامَةِ الصَّلاةِ ظاهِرًا وباطِنًا وَفْقَ ما شَرَعه اللهُ تعالى، وادْعُوا اللهَ، واعبُدُوه وَحدَه لا شَريكَ له، كما خَلَقَكم اللهُ أوَّلَ مَرَّةٍ، فجَعَلكم أحياءً بعد أنْ كُنتم عَدَمًا؛ فكذلك تَعودونَ إليه يومَ القِيامةِ، فيبعَثُكم مِن قُبُوركم أحياءً بعد مَوتِكم .
    المَسْألةُ الثَّانية: مِن حُكْمِه الشَّرعيِّ حُكمُه ببُطلانِ عَمَلِ المُشْرِكينَ وصَلاحِ عَمَلِ المُوَحِّدينَ
    - قال اللهُ تعالى: وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا [النساء: 116] .
    أي: ومَن يجعَلْ للهِ تعالى شريكًا، فقد سلَك غيرَ طريقِ الحقِّ، وانحرَف عن سواءِ السَّبيلِ، وبَعُدَ عن الصَّوابِ بُعدًا شديدًا .
    - وقال اللهُ سُبحانَه: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء: 125] .
    أي: لا أحدَ أصوبُ طريقًا وأصلحُ عملًا ممَّن أخلَص للهِ عزَّ وجَلَّ، وانْقادَ له بالطَّاعةِ، وهو مع هذا الإخلاصِ في العَمَلِ متَّبِعٌ شَرْعَ اللهِ تعالى فيه، واتَّبَع دِينَ وشرْعَ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، مائِلًا عن الشِّرْك، وعن التَّوجُّهِ للخَلْقِ، مُستقيمًا على التَّوحيدِ، مُقبِلًا بكُلِّيَّتِه على الخالِقِ جلَّ وعلا، وقد اتَّخَذ اللهُ إبراهيمَ وليًّا، فإنَّه وصَل إلى غايةِ ما يتقرَّبُ به العبادُ له، وانتهى إلى دَرَجةِ الخُلَّةِ الَّتي هي أرفعُ مَقاماتِ المحبَّةِ الخالِصةِ لله تعالى .
    المَسْألةُ الثَّالِثةُ: مِن حُكمِه الجَزائيِّ: إثابتُه لأوليائِه المُوَحِّدينَ ونَصْرُهم في الدُّنيا والآخِرةِ، وحُكمُه بنَقيضِ ذلك على المُشْرِكينَ
    * ففي الدُّنيا:
    - قال اللهُ تعالى حكايةً عن قَولِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ لِقَومِه: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 81-82] .
    أي: كيف أَرهَبُ آلهَتَكم التي أشركتُموها مع اللهِ، وهي عاجزةٌ لا تضرُّ ولا تنفَعُ، بينما أنتُم لا تخافونَ مِن اللهِ الذي خَلَقَكم ورَزَقَكم، والقادرِ على كلِّ شيءٍ؛ لا تَخافون منه في إشراكِكم به ما لم يُنزِّلْ به عليكم حُجَّةً ولا بُرهانًا؟ فأيُّ الطائفتينِ أجدَرُ بالأمْنِ والسَّلامةِ؛ الذي عبَدَ مَن بِيَدِه الضُّرُّ والنَّفْعُ، أو الذي عَبَد مَن لا يَضُرُّ ولا ينفَعُ بلا دَليلٍ؟ فإنْ كنتُم تَعلَمونَ صِدْقَ ما أقولُ لكم، وحقيقَةَ ما أحتَجُّ به عليكم، فأَجيبوني، وأخْبِروني: أيُّ الفريقينِ أحَقُّ بالأمْنِ؟
    فقال اللهُ تعالى جوابًا عن سؤالِ إبراهيمَ السَّابقِ، وفاصلًا بين الفريقينِ: الذين آمنوا حقًّا، ولم يَخلِطوا إيمانَهم بِشِرْكٍ: هم الآمنونَ من المخاوِفِ في الدَّارَينِ، السَّالِكونَ طريقَ الحَقِّ .
    - وقال اللهُ سُبحانَه: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 100-102] .
    أي: ذلك الذي قصَصْناه عليك -يا محمَّدُ- في هذه السُّورةِ مِن أخبارِ القُرى التي أهلَكْنا أهلَها نُخبِرُك به؛ لتُنذِرَ به النَّاسَ، ويكونَ آيةً على رسالتِك، وموعظةً وذِكرى للمُؤمنينَ. ومِن تلك القرى التي قَصَصْنا عليك قُرًى عامِرٌ بُنيانُها، ومنها خَرابٌ قد تهدَّمَ بُنيانُها. وما ظَلَمْنا أهلَ تلك القرَى حينَ أهلَكْناهم، ولكنْ ظَلَموا أنفُسَهم بالكُفرِ والمعاصي؛ فاستحَقُّوا العِقابَ، فما نفعَتْهم آلهتُهم التي كانوا يعبُدونَها من دونِ اللهِ، ولم تدفَعْ عنهم شيئًا لَمَّا أتاهم عذابُ الله، وما زادت هذه الآلهةُ عابِدِيها غيرَ تخسيرٍ وإهلاكٍ وتدميرٍ، عندَما جاءَ أمرُ اللهِ بعقابِهم. وكما أهلَك ربُّك- يا محمَّدُ- أهلَ القُرى التي قصَصْنا عليك، كذلك نُهلِكُ أمثالَهم مِن الظَّالمينَ لأنفُسِهم بالكُفرِ والمعاصي، إنَّ إهلاكَ اللهِ وعِقابَه للظَّالمينَ مُوجِعٌ، شديدُ الإيلامِ .
    وفي الآخِرةِ:
    - قال اللهُ تعالَى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110] .
    أي: فمَن كان يرجو رُؤيةَ اللهِ في الآخرةِ، وثوابَه، ويخشَى عِقابَه؛ فلْيَعمَلْ في الدُّنيا عَمَلًا صالِحًا خالِصًا لله، مُوافِقًا لِشَرعِه، ويَجعَل عبادتَه خالِصةً لله وَحدَه لا شَريكَ له .
    - وقال اللهُ سُبحانَه: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة: 72] .
    أي: إنَّ مَنْ يقَعْ في شَرَكِ الشِّرْكِ، فيَعبُدْ معَ اللهِ تعالى غيرَه، فحَرامٌ عليه دخولُ الجَنَّةِ في الآخِرَة، وإنَّما تكونُ النارُ مقامَه الذي يَستَحِقُّه، ودارَه التي يَأوِي إليها، ولَيس لِمَن ظلَمَ نفْسَه بشِركِه باللهِ تعالى، ولا لأيِّ ظالمٍ كان، أيُّ ناصرٍ يمنعُ عنه عذابَ اللهِ تعالى، أو يُنقِذُه منه .
    - وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا [الإسراء: *39*.]
    أي: ولا تجعَلْ مع اللهِ مَعبودًا غَيرَه، فتُرمَى في جهنَّمَ مَلومًا؛ تلومُك نَفسُك، ويَلومُك الخَلقُ، مُبعَدًا مَطرودًا مِن رَحمتِه سُبحانَه .

    :خامساً : من أدِلَّة تقريرِ توحيدِ الأُلوهيَّةِ: إجماعُ الكُتُبِ السَّماويَّةِ على استِحقاقِ اللهِ للعِبادةِ وَحْدَه

    - قال اللهُ تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] .
    أي: ولقد بعَثْنا في كلِّ طائفةٍ مِن النَّاسِ رَسولًا يأمُرُهم بعِبادةِ اللهِ وَحدَه، وتَرْكِ عِبادةِ كُلِّ مَن دونَه، كالشَّياطينِ والأصنامِ، فحُجَّتُه سُبحانَه قد قامَتْ على جميعِ الأُمَمِ .
    - وقال اللهُ سُبحانَه: أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 24-25] .
    أي: أمِ اتَّخَذ هؤلاء المُشرِكونَ مِن دونِ اللهِ مَعبوداتٍ يَزعُمونَ أنَّها تنفَعُ وتضُرُّ وتخلُقُ وتُحيي وتُميتُ؟ فقُلْ لهم -يا مُحمَّدُ: هاتوا دليلَكم على صِحَّةِ ما تَزعُمونَ أنَّ مع اللهِ آلِهةً أُخرى. وهذا القُرآنُ الذي أُنزِلَ علَيَّ، وهذه كتُبُ الأنبياءِ المتقَدِّمةُ -كالتَّوراةِ، والإنجيلِ- على خِلافِ ما تَزعُمونَ، فهل وجدْتُم في شَيءٍ منها اتخاذَ آلهةٍ مع اللهِ، أم كُلُّها ناطِقةٌ بالتَّوحيد آمِرةٌ به؟
    بل أكثَرُ هؤلاء المُشرِكينَ لا يَعلَمونَ الحَقَّ الذي أنزَلَه الله؛ فهم مُعرِضونَ عنه، فلا يتفَكَّرونَ فيه، ولا يُؤمِنونَ به ويتَّبِعونَه. وما أرسَلْنا مِن قَبْلِك -يا مُحمَّدُ- مِن رَسولٍ إلى أمَّةٍ مِن الأُمَمِ إلَّا نُوحي إليه أنَّه لا مَعبودَ بحَقٍّ إلَّا اللهُ؛ فوحِّدوه، وأخْلِصُوا العِبادةَ له .
    - وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الأحقاف: 4] .
    أي: قُلْ -يا محمَّدُ- للمُشرِكينَ مِن قَومِك: أرأيتُم الذين تَدعونَهم مِن دونِ اللهِ مِن معبوداتِكم، أروني ماذا خَلَقوا من الأرضِ فاستَحَقُّوا بذلك عِبادتَكم لهم، أم لتلك الآلهةِ المَزعومةِ نَصيبٌ مع اللهِ تعالى في السَّمَواتِ؛ خَلقًا أو مِلكًا أو تدبيرًا؛ فيكونَ لكم بذلك حُجَّةٌ على عبادتِكم لها؟! فأَحضِروا لي كِتابا ممَّا أنزَلَه اللهُ على الأنبياءِ مِن قَبلِ هذا القُرآنِ، يُخبِرُ بأنَّ آلهتَكم مُستحِقَّةٌ للعِبادةِ، أو هاتوا دَليلًا مِن بقيَّةِ عِلمٍ مأثورٍ عن السَّابِقينَ يدُلُّ على صِحَّةِ عِبادتِكم آلهتَكم، إنْ كنتُم صادِقينَ في دعواكم أنَّ لله تعالى شَريكًا .
    قال ابنُ القَيِّمِ: (فطالَبَهم بالدَّليلِ العَقليِّ والسَّمْعيِّ) .
    --------------------------------------------------------------------------
    التالي : -(توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، والأُلُوهيَّةِ، والأسماءِ والصِّفاتِ): توحيدُ الأُلوهيَّةِا: الشَّهادتانِ :
    -
    وما زلنا أحبابنا تابعونا جزاكم الله خير

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

      مواضيع مماثلة

      -
      » أحكامُ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ :: أحكامٌ مُتعَلِّقةٌ بالوَصفِ والتَّسميةِ والإخبارِ عن اللهِ :حُكمُ اشتقاقِ المصدَرِ والفِعلِ والإخبارِ بهما عن اللهِ.: حُكمُ اشتِقاقِ أسماءٍ وصِفاتٍ للهِ مِن أفعالِه المقيَّدةِ.
      »  توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ، ومَنزِلتُه وأحكامُه :-أحكامُ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ :-معنى الصِّفةِ والوَصْفِ والنَّعْتِ والاسمِ
      » المسائِلُ المتعَلِّقةُ بالأسماءِ الحُسْنى :قواعِدُ في أسْماءِ اللهِ تعالى :من قواعِدِ أسْماءِ اللهِ أنَّ أسماءَه كُلَّها حُسْنى : أسْماءُ اللهِ الحُسْنى : أدِلَّةُ تفاضُلِ أسْماءِ اللهِ :وجوهُ تفاضُلِ أسماءِ اللهِ :
      »  المسائِلُ المتعَلِّقةُ بالصِّفاتِ : قواعِدُ في صِفاتِ اللهِ تعالى : إثباتُ ما أثبَتَه اللهُ لنَفْسِه في كتابِه، أو أثبَتَه له رسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو أصحابُه رَضِيَ اللهُ عنهم
      » الشَّهادتانِ - شهادةُ لا إلهَ إلَّا اللهُ - شَهادةُ أنَّ مُحمَّدًا رَسولُ اللهِ - معنى الشَهادةِ -فَضائِلُ شَهادةِ لا إلهَ إلَّا اللهُ- شُروطِ لا إلهَ إلَّا الله مَراتِبُ شَهادةِ لا إلهَ إلَّا اللهُ -

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس مايو 02, 2024 9:44 pm