هذه سلسله ألأخلاق المحموده في ألأسلام كي يتحصل الفائده نرجوا المتابعه من الجزء ألأول ثم الجزء الثاني
الصبر
معنى الصبر لغةً:
الصَّبْـرُ نقيض الجَزَع، صَبَرَ يَصْبِرُ صَبْـرًا فهو صابِرٌ وصَبَّار وصَبِيرٌ وصَبُور والأُنثى صَبُور أَيضًا بغير هاء وجمعه صُبُـرٌ.
وأَصل الصَّبْر الحَبْس وكل من حَبَس شيئًا فقد صَبَرَه، والصبر: حبس النفس عن الجزع
معنى الصبر اصطلاحًا:
(الصبر هو حبس النفس عن محارم الله، وحبسها على فرائضه، وحبسها عن التسخط والشكاية لأقداره)
وقيل هو ..ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله لا إلى الله)
وقيل الصبر: (حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع، أو عما يقتضيان حبسها عنه)
الفرق بين الصبر، والتصبر، والاصطبار، والمصابرة، والاحتمال
(الفرق بين هذه الأسماء بحسب حال العبد في نفسه وحاله مع غيره:
- فإن حبس نفسه ومنعها عن إجابة داعي ما لا يحسن؛ إن كان خلقًا له وملكة سمي صبرًا.
- وإن كان بتكلف وتمرن وتجرع لمرارته سمي تصبرًا.
كما يدل عليه هذا البناء لغةً، فإنه موضوع للتكلف كالتحلم والتشجع والتكرم والتحمل ونحوها، وإذا تكلفه العبد واستدعاه صار سجية له.
كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ومن يتصبر يصبره الله )) وكذلك العبد يتكلف التعفف حتى يصير التعفف له سجية، كذلك سائر الأخلاق...
- وأما الاصطبار فهو أبلغ من التصبر:
فإنه افتعال للصبر بمنزلة الاكتساب، فالتصبر مبدأ الاصطبار، كما أنَّ التكسب مقدمة الاكتساب، فلا يزال التصبر يتكرر حتى يصير اصطبارًا.
- وأما المصابرة فهي مقاومة الخصم في ميدان الصبر:
فإنها مفاعلة تستدعي وقوعها بين اثنين كالمشاتمة والمضاربة، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: 200]
فأمرهم بالصبر، وهو حال الصابر في نفسه، والمصابرة وهي حالة في الصبر مع خصمه والمرابطة، وهي الثبات واللزوم والإقامة على الصبر والمصابرة، فقد يصبر العبد ولا يصابر، وقد يصابر ولا يرابط، وقد يصبر ويصابر ويرابط من غير تعبد بالتقوى، فأخبر سبحانه أن ملاك ذلك كله التقوى،
وأن الفلاح موقوف عليها فقال: وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: 200] فالمرابطة كما أنها لزوم الثغر الذي يخاف هجوم العدو منه في الظاهر؛ فهي لزوم ثغر القلب؛ لئلا يدخل منه الهوى والشيطان فيزيله عن مملكته)
الفرق بين الاحتمال والصبر
(أنَّ الاحتمال للشيء يفيد كظم الغيظ فيه، والصبر على الشدة يفيد حبس النفس عن المقابلة عليه بالقول والفعل،
والصبر عن الشيء يفيد حبس النفس عن فعله، وصبرت على خطوب الدهر، أي: حبست النفس عن الجزع عندها،
ولا يستعمل الاحتمال في ذلك؛ لأنك لا تغتاظ منه)
لماذا سمي الصبر صبرًا؟
حكى أبو بكر بن الأنباري عن بعض العلماء أنه قال ..إنما سمي الصبر صبرًا؛ لأن تمرره في القلب وإزعاجه للنفس كتمرر الصبر
في الفم)
أولًا: الترغيب في الصبر في القرآن الكريم
الصبر من أكثر الأخلاق التي اعتنى بها دين الإسلام؛ لذا تكرر ذكره في القرآن في مواضع كثيرة.
قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل: (ذكر الله سبحانه الصبر في القرآن في تسعين موضعًا)
وقد سيق الصبر في القرآن في عدة أنواع ذكرها ابن القيم في كتابه (عدة الصابرين) ونحن نذكر بعضها:
- أحدها: الأمر به، كقوله: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ [النحل: 127] وقال: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الطور: 48]
- الثاني: النهي عما يضاده، كقوله تعالى: وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ [الأحقاف: 35] وقوله: وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم: 48]
- الثالث: تعليق الفلاح به، كقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: 200] فعلق الفلاح بمجموع هذه الأمور.
- الرابع: الإخبار عن مضاعفة أجر الصابرين على غيره، كقوله: أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا [القصص: 54]
وقوله: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]
- الخامس: تعليق الإمامة في الدين، به وباليقين،
قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24]
ثانيًا: الترغيب في الصبر في السنة النبوية
- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ((أن ناسًا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده، فقال: ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر ))
(قوله صلى الله عليه وسلم: ((ومن يتصبر)): أي يطلب توفيق الصبر من الله؛
لأنه قال تعالى: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ [النحل: 127] أي يأمر نفسه بالصبر ويتكلف في التحمل عن مشاقه، وهو تعميم بعد تخصيص؛ لأن الصبر يشتمل على صبر الطاعة والمعصية والبلية
أو من يتصبر عن السؤال والتطلع إلى ما في أيدي الناس بأن يتجرع مرارة ذلك ولا يشكو حاله لغير ربه. ((يصبِّره الله)): بالتشديد أي: يسهل عليه الصبر، فتكون الجمل مؤكدات. ويؤيد إرادة معنى العموم قوله: ((وما أعطي أحد من عطاء)): أي معطى أو شيئًا، ((أوسع)): أي أشرح للصدر، ((من الصبر)): وذلك لأن مقام الصبر أعلى المقامات؛ لأنه جامع لمكارم الصفات والحالات)
- وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنَّ الصبر عند الصدمة الأولى، فعن أنس رضي الله عنه قال: ((مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر، فقال: اتقي الله واصبري. قالت: إليك عني؛ فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوَّابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى ))
قال ابن القيم: (فإنَّ مفاجئات المصيبة بغتة لها روعة تزعزع القلب، وتزعجه بصدمها، فإن صبر الصدمة الأولى انكسر حدها، وضعفت قوتها، فهان عليه استدامة الصبر، وأيضًا فإنَّ المصيبة ترد على القلب وهو غير موطن لها فتزعجه، وهى الصدمة الأولى، وأما إذا وردت عليه بعد ذلك توطَّن لها، وعلم أنَّه لا بد له منها فيصير صبره شبيه الاضطرار،
وهذه المرأة لما علمت أنَّ جزعها لا يجدي عليها شيئًا؛ جاءت تعتذر إلى النبي كأنها تقول له قد صبرت، فأخبرها أنَّ الصبر إنما هو عند الصدمة الأُولى)
- وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أنه قال لعطاء: ألا أُريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: إني أصرع وإني أتكشف، فادع الله لي. قال: إن شئت صبرت؛ ولك الجنة. وإن شئت دعوت الله أن يعافيك. قالت: أصبر. قالت: فإني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها ))
- وبيَّن صلى الله عليه وسلم أنَّ من صبر على فقد عينيه عوضه الله الجنة، فعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ الله- عز وجل- قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه، فصبر عوضته منهما الجنة- يريد عينيه ))
قال ابن بطال: (في هذا الحديث حجة في أنَّ الصبر على البلاء ثوابه الجنة، ونعمة البصر على العبد، وإن كانت من أجلِّ نعم الله تعالى فعوض الله عليها الجنة أفضل من نعمتها في الدنيا؛ لنفاد مدة الالتذاذ بالبصر في الدنيا، وبقاء مدة الالتذاذ به في الجنة)
- وعن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجبًا لأمر المؤمن إنَّ أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له ))
(قوله: ((عجبًا لأمر المؤمن إنَّ أمره كله له خير)) أي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام أظهر العجب على وجه الاستحسان لأمر المؤمن، أي: لشأنه، فإنَّ شأنه كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن.
ثم فصل الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الأمر الخير فقال: ((إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له )) هذه حال المؤمن وكل إنسان، فإنه في قضاء الله وقدره بين أمرين: إما سراء وإما ضراء، والناس في هذه الإصابة ينقسمون إلى قسمين: مؤمن وغير مؤمن، فالمؤمن على كل حال ما قدر الله له فهو خير له، إن أصابته الضراء صبر على أقدار الله، وانتظر الفرج من الله، واحتسب الأجر على الله فكان خيرًا له، فنال بهذا أجر الصابرين.
وإن أصابته سراء من نعمة دينية كالعلم والعمل الصالح، ونعمة دنيوية كالمال والبنين والأهل شكر الله، وذلك بالقيام بطاعة الله عز وجل.
فيشكر الله فيكون خيرًا له، ويكون عليه نعمتان: نعمة الدين ونعمة الدنيا، نعمة الدنيا بالسراء، ونعمة الدين بالشكر هذه حال المؤمن.
وأما الكافر فهو على شرٍّ -والعياذ بالله- إن أصابته الضراء لم يصبر بل يضجر، ودعا بالويل والثبور، وسبَّ الدهر، وسبَّ الزمن...
والحديث فيه الحث على الصبر على الضراء، وأن ذلك من خصال المؤمنين، فإذا رأيت نفسك عند إصابة الضراء صابرًا محتسبًا، تنتظر الفرج من الله سبحانه وتعالى، وتحتسب الأجر على الله فذلك عنوان الإيمان، وإن رأيت بالعكس فلُمْ نفسك، وعدِّل مسيرك، وتُبْ إلى الله)
أقوال السلف والعلماء في الصبر
- قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنَّ أفضل عيش أدركناه بالصبر، ولو أنَّ الصبر كان من الرجال كان كريمًا)
- وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ألا إنَّ الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس باد الجسد، ثم رفع صوته فقال: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له)
وقال: (الصبر مطية لا تكبو، والقناعة سيف لا ينبو
- وقال عمر بن عبد العزيز وهو على المنبر: (ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه، فعاضه مكان ما انتزع منه الصبر، إلا كان ما عوَّضه خيرًا مما انتزع منه،
ثم قرأ: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر :10] )
- (وجاء رجل إلى يونس بن عبيد فشكا إليه ضيقًا من حاله ومعاشه، واغتمامًا بذلك،
فقال: (أيسرك ببصرك مئة ألف؟ قال: لا. قال: فبسمعك؟ قال: لا. قال: فبلسانك؟ قال: لا. قال: فبعقلك؟ قال: لا... في خلال. وذكَّره نعم الله عليه، ثم قال يونس: أرى لك مئين ألوفًا وأنت تشكو الحاجة؟!)
- وعن إبراهيم التيمي، قال: (ما من عبد وهب الله له صبرًا على الأذى، وصبرًا على البلاء، وصبرًا على المصائب، إلا وقد أُوتي أفضل ما أوتيه أحد، بعد الإيمان بالله)
- وعن الشعبي، قال شريح: (إني لأصاب بالمصيبة، فأحمد الله عليها أربع مرات، أحمد إذ لم يكن أعظم منها، وأحمد إذ رزقني الصبر عليها، وأحمد إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو من الثواب، وأحمد إذ لم يجعلها في ديني)
- وقال ميمون بن مهران: (الصبر صبران: الصبر على المصيبة حسن، وأفضل من ذلك الصبر عن المعاصي)
- وعن أبي ميمون ، قال: (إن للصبر شروطًا، قلت -الراوي-: ما هي يا أبا ميمون؟
قال: إن من شروط الصبر أن تعرف كيف تصبر؟ ولمن تصبر؟ وما تريد بصبرك؟ وتحتسب في ذلك وتحسن النية فيه،
لعلك أن يخلص لك صبرك، وإلا فإنما أنت بمنزلة البهيمة نزل بها البلاء فاضطربت لذلك، ثم هدأ فهدأت،
فلا هي عقلت ما نزل بها فاحتسبت وصبرت، ولا هي صبرت، ولا هي عرفت النعمة حين هدأ ما بها، فحمدت الله على ذلك وشكرت)
- وقال أبو حاتم: (الصبر على ضروب ثلاثة: فالصبر عن المعاصي، والصبر على الطاعات، والصبر عند الشدائد المصيبات، فأفضلها الصبر عن المعاصي، فالعاقل يدبر أحواله بالتثبت عند الأحوال الثلاثة التي ذكرناها بلزوم الصبر على المراتب التي وصفناها قبل، حتى يرتقي بها إلى درجة الرضا عن الله جل وعلا في حال العسر واليسر معًا)
- وقال زياد بن عمرو: (كلنا نكره الموت وألم الجراح، ولكنا نتفاضل بالصبر)
- وقال زهير بن نعيم: (إنَّ هذا الأمر لا يتمُّ إلا بشيئين: الصبر واليقين، فإن كان يقين ولم يكن معه صبر لم يتمَّ، وإن كان صبر ولم يكن معه يقين لم يتمَّ، وقد ضرب لهما أبو الدرداء مثلًا فقال: مثل اليقين والصبر مثل فَدادين يحفران الأرض، فإذا جلس واحد جلس الآخر)
- وقال أبو عبد الرحمن المغازلي: (دخلت على رجل مبتلى بالحجاز، فقلت: كيف تجدك؟ قال: أجد عافيته أكثر مما ابتلاني به، وأجد نِعَمه عليَّ أكثر من أن أحصيها، قلت: أتجد لما أنت فيه ألـمًا شديدًا؟
فبكى ثم قال: سلا بنفسي عن ألم ما بي ما وعد عليه سيدي أهل الصبر من كمال الأجور في شدة يوم عسير،
قال: ثم غشي عليه فمكث مليًّا،ثم أفاق، فقال: إني لأحسب أنَّ لأهل الصبر غدًا في القيامة مقامًا شريفًا لا يتقدمه من ثواب الأعمال شيء، إلا ما كان من الرضا عن الله تعالى)
- وعن عمرو بن قيس الملائيفَ صَبْرٌ جَمِيلٌ قال: (الرضا بالمصيبة، والتسليم)
- وعن ميمون بن مهران قال (ما نال عبد شيئًا من جسم الخير من نبي أو غيره إلا بالصبر)
- وعن الحسن قال: (سبَّ رجل رجلًا من الصدر الأول، فقام الرجل وهو يمسح العرق عن وجهه، وهو يتلو: وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى: 43] قال الحسن: عقلها والله وفهمها إذ ضيعها الجاهلون)
- وقال يحيى بن معاذ: (حُفَّت الجنة بالمكاره وأنت تكرهها، وحفت النار بالشهوات وأنت تطلبها، فما أنت إلا كالمريض الشديد الداء إن صبر نفسه على مضض الدواء اكتسب بالصبر عافية، وإن جزعت نفسه مما يلقى طالت به علة الضنا)
- وقال أبو حاتم: (الصبر جماع الأمر، ونظام الحزم، ودعامة العقل، وبذر الخير، وحيلة من لا حيلة له، وأول درجته الاهتمام، ثم التيقظ، ثم التثبت، ثم التصبر، ثم الصبر، ثم الرضا، وهو النهاية في الحالات)
- وقال عمر بن ذر: (من أجمع على الصبر في الأمور فقد حوى الخير، والتمس معاقل البر وكمال الأجور)
فوائد الصبر
من فوائد الصبر أنه
:
1- دليل على كمال الإيمان وحسن الإسلام.
2- يورث الهداية في القلب.
3- يثمر محبة الله ومحبة الناس.
4- سبب للتمكين في الأرض.
5- الفوز بالجنة والنجاة من النار.
6- معية الله للصابرين.
7- الأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة.
8- مظهر من مظاهر الرجولة الحقة.
9- صلاة الله ورحمته وبركاته على الصابرين.
أقسام الصبر
ينقسم الصبر بعدة اعتبارات:
- فباعتبار محله ينقسم إلى ضربين:
(ضرب بدني وضرب نفساني،
وكل منهما نوعان:
اختياري واضطراري، فهذه أربعة أقسام:
الأول: البدني الاختياري: كتعاطي الأعمال الشاقة على البدن اختيارًا وإرادة.
الثاني: البدني الاضطراري: كالصبر على ألم الضرب والمرض والجراحات، والبرد والحر وغير ذلك.
الثالث: النفساني الاختياري: كصبر النفس عن فعل ما لا يحسن فعله شرعًا ولا عقلًا.
الرابع: النفساني الاضطراري: كصبر النفس عن محبوبها قهرًا إذا حيل بينها وبينه.
فإذا عرفت هذه الأقسام فهي مختصة بنوع الإنسان دون البهائم، ومشاركة للبهائم في نوعين منها،
وهما: صبر البدن والنفس الاضطراريين، وقد يكون بعضها أقوى صبرًا من الإنسان، وإنما يتميز الإنسان عنها بالنوعين الاختياريين، وكثير من الناس تكون قوة صبره في النوع الذي يشارك فيه البهائم، لا في النوع الذي يخص الإنسان فيعد صابرًا وليس من الصابرين... فالإنسان منا إذا غلب صبره باعث الهوى والشهوة التحق بالملائكة،
وإن غلب باعث الهوى والشهوة صبره التحق بالشياطين، وإن غلب باعث طبعه من الأكل والشرب والجماع صبره التحق بالبهائم،
قال قتادة: خلق الله سبحانه الملائكة عقولًا بلا شهوات، وخلق البهائم شهوات بلا عقول، وخلق الإنسان وجعل له عقلًا وشهوة،
فمن غلب عقله شهوته فهو من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو كالبهائم، ولما خلق الإنسان في ابتداء أمره ناقصًا، لم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليه، فصبره في هذه الحال بمنزلة صبر البهائم، وليس له قبل تمييزه قوة الاختيار،
فإذا ظهرت فيه شهوة اللعب، استعد لقوة الصبر الاختياري على ضعفها فيه، فإذا تعلقت به شهوة النكاح، ظهرت فيه قوة الصبر، وإذا تحرك سلطان العقل وقوي، استعان بجيش الصبر)
- وباعتبار متعَلَّقه ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
(صبر على الأوامر والطاعات حتى يؤديها، وصبر عن المناهي والمخالفات حتى لا يقع فيها، وصبر على الأقدار والأقضية حتى لا يتسخطها...
فأما الذي من جهة الرب فهو أنَّ الله تعالى له على عبده حكمان: حكم شرعي ديني، وحكم كوني قدري، فالشرعي متعلِّق بأمره، والكوني متعلِّق بخلقه، وهو سبحانه له الخلق والأمر،
وحكمه الديني الطلبي نوعان: بحسب المطلوب، فإنَّ المطلوب إن كان محبوبًا له فالمطلوب فعله إما واجبًا وإما مستحبًّا، ولا يتم ذلك إلا بالصبر، وإن كان مبغوضًا له فالمطلوب تركه إما تحريمًا وإما كراهة، وذلك أيضًا موقوف على الصبر، فهذا حكمه الديني الشرعي، وأما حكمه الكوني فهو ما يقضيه ويقدره على العبد من المصائب التي لا صنع له فيها، ففرضه الصبر عليها، وفي وجوب الرضا بها قولان للعلماء، وهما وجهان في مذهب أحمد، أصحهما أنه مستحب،
فمرجع الدين كله إلى هذه القواعد الثلاث: فعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور،
وأما الذي من جهة العبد فإنه لا ينفك عن هذه الثلاث ما دام مكلفًا، ولا تسقط عنه هذه الثلاث حتى يسقط عنه التكليف،
فقيام عبودية الأمر والنهي والقدر على ساق الصبر، ولا تستوي إلا عليه كما لا تستوي السنبلة إلا على ساقها، فالصبر متعلق بالأمور والمحظور والمقدور بالخلق والأمر)
- وباعتبار تعلق الأحكام الخمسة به ينقسم إلى خمسة أقسام:
(إلى واجب ومندوب ومحظور ومكروه ومباح.
فالصبر الواجب ثلاثة أنواع:
أحدها: الصبر عن المحرمات.
والثاني: الصبر على أداء الواجبات.
والثالث الصبر على المصائب التي لا صنع للعبد فيها، كالأمراض والفقر وغيرها.
وأما الصبر المندوب: فهو الصبر عن المكروهات، والصبر على المستحبات، والصبر على مقابلة الجاني بمثل فعله.
وأما المحظور فأنواع: أحدها الصبر عن الطعام والشراب حتى يموت، وكذلك الصبر عن الميتة والدم ولحم الخنزير عند المخمصة حرام، إذا خاف بتركه الموت، قال طاوس وبعده أحمد: من اضطر إلى أكل الميتة والدم فلم يأكل فمات دخل النار...
ومن الصبر المحظور: صبر الإنسان على ما يقصد هلاكه من سبع أو حيات أو حريق أو ماء أو كافر يريد قتله، بخلاف استسلامه وصبره في الفتنة وقتال المسلمين، فإنه مباح له، بل يستحب، كما دلت عليه النصوص الكثيرة.
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه المسألة بعينها فقال: ((كن كخير ابني آدم )) وفي لفظ: ((كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل ))..
وأما الصبر المكروه فله أمثلة:
أحدها: أن يصبر عن الطعام والشراب واللبس وجماع أهله حتى يتضرر بذلك بدنه.
الثاني: صبره عن جماع زوجته إذا احتاجت إلى ذلك ولم يتضرر به.
الثالث: صبره على المكروه.
الرابع: صبره عن فعل المستحب.
وأما الصبر المباح: فهو الصبر عن كل فعل مستوى الطرفين، خُيِّر بين فعله وتركه والصبر عليه.
وبالجملة فالصبر على الواجب واجب وعن الواجب حرام، والصبر عن الحرام واجب وعليه حرام. والصبر على المستحب مستحب وعنه مكروه، والصبر عن المكروه مستحب وعليه مكروه، والصبر عن المباح مباح)
الصبر المحمود وأقسامه
قسم العلماء الصبر المحمود إلى أقسام عدة، وذكر له ابن القيم ثلاثة أنواع: (صبر بالله، وصبر لله، وصبر مع الله:
فالأول: الاستعانة به ورؤيته أنه هو المصبر، وأنَّ صبر العبد بربه لا بنفسه،
كما قال تعالى: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ [النحل: 127] يعني إن لم يصبرك هو لم تصبر.
والثاني: الصبر لله، وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبة الله، وإرادة وجهه والتقرب إليه، لا لإظهار قوة النفس والاستحماد إلى الخلق وغير ذلك من الأعراض.
والثالث: الصبر مع الله، وهو دوران العبد مع مراد الله الديني منه، ومع أحكامه الدينية صابرًا نفسه معها، سائرًا بسيرها مقيمًا بإقامتها، يتوجه معها أين توجهت ركائبها، وينزل معها أين استقلت مضاربها، فهذا معنى كونه صابرًا مع الله، أي قد جعل نفسه وقفًا على أوامره ومحابِّه، وهو أشد أنواع الصبر وأصعبها، وهو صبر الصديقين)
وقسَّمه الماوردي إلى ستة أقسام فقال:
(فأول أقسامه وأولاها: الصبر على امتثال ما أمر الله تعالى به، والانتهاء عما نهى الله عنه؛ لأن به تخلص الطاعة،
وبها يصحُّ الدين، وتؤدَّى الفروض، ويُستحقُّ الثواب، كما قال في محكم الكتاب: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10]. وليس لمن قلَّ صبره على طاعة حظٌّ من برٍّ ولا نصيب من صلاح...
وهذا النوع من الصبر إنما يكون لفرط الجزع وشدة الخوف، فإنَّ من خاف الله عزَّ وجلَّ صبر على طاعته، ومن جزع من عقابه وقف عند أوامره.
الثاني: الصبر على ما تقتضيه أوقاته من رزية قد أجهده الحزن عليها، أو حادثة قد كدَّه الهمُّ بها، فإنَّ الصبر عليها يعقبه الراحة منها، ويكسبه المثوبة عنها. فإن صبر طائعًا وإلا احتمل همًّا لازمًا، وصبر كارهًا آثمًا.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه للأشعث بن قيس: إنك إن صبرت جرى عليك القلم وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القلم وأنت مأزور...
الثالث: الصبر على ما فات إدراكه من رغبة مرجوة، وأعوز نيله من مسرة مأمولة، فإن الصبر عنها يعقب السلو منها، والأسف بعد اليأس خرق.
...وقال بعض الحكماء: اجعل ما طلبته من الدنيا فلم تنله، مثل ما لا يخطر ببالك فلم تقله.
الرابع: الصبر فيما يخشى حدوثه من رهبة يخافها، أو يحذر حلوله من نكبة يخشاها، فلا يتعجل هم ما لم يأت، فإنَّ أكثر الهموم كاذبة، وإنَّ الأغلب من الخوف مدفوع...
وقال الحسن البصري رحمه الله: لا تحملنَّ على يومك همَّ غدك، فحسب كلِّ يوم همُّه.
الخامس: الصبر فيما يتوقعه من رغبة يرجوها، وينتظر من نعمة يأملها، فإنه إن أدهشه التوقع لها، وأذهله التطلع إليها انسدت عليه سبل المطالب، واستفزه تسويل المطامع، فكان أبعد لرجائه، وأعظم لبلائه.
وإذا كان مع الرغبة وقورًا، وعند الطلب صبورًا، انجلت عنه عماية الدهش، وانجابت عنه حيرة الوله، فأبصر رشده وعرف قصده. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الصبر ضياء )) يعني - والله أعلم - أنه يكشف ظلم الحيرة، ويوضح حقائق الأمور.
السادس: الصبر على ما نزل من مكروه، أو حلَّ من أمر مخوف.
فبالصبر في هذا تنفتح وجوه الآراء، وتستدفع مكائد الأعداء، فإنَّ من قلَّ صبره عزب رأيه، واشتد جزعه، فصار صريع همومه، وفريسة غمومه. وقد قال الله تعالى: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان: 17].. واعلم أنَّ النصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، واليسر مع العسر)
مراتب الصبر
ذكر ابن القيم أربعة مراتب للصبر:
(إحداها: مرتبة الكمال، وهي مرتبة أولي العزائم، وهي الصبر لله وبالله.
فيكون في صبره مبتغيًا وجه الله صابرًا به، متبرئًا من حوله وقوته، فهذا أقوى المراتب وأرفعها وأفضلها.
الثانية: أن لا يكون فيه لا هذا ولا هذا، فهو أخس المراتب وأردأ الخلق، وهو جدير بكل خذلان وبكل حرمان.
الثالثة: مرتبة من فيه صبر بالله، وهو مستعين متوكل على حوله وقوته، متبرئ من حوله هو وقوته، ولكن صبره ليس لله؛ إذ ليس صبره فيما هو مراد الله الديني منه، فهذا ينال مطلوبه ويظفر به، ولكن لا عاقبة له، وربما كانت عاقبته شرَّ العواقب، وفي هذا المقام خفراء الكفار وأرباب الأحوال الشيطانية، فإنَّ صبرهم بالله لا لله ولا في الله...
الرابع: من فيه صبر لله، لكنه ضعيف النصيب من الصبر به والتوكل عليه والثقة به والاعتماد عليه، فهذا له عاقبة حميدة، ولكنه ضعيف عاجز مخذول في كثير من مطالبه؛ لضعف نصيبه من إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] فنصيبه من الله أقوى من نصيبه بالله، فهذا حال المؤمن الضعيف.
وصابر بالله لا لله: حال الفاجر القوي، وصابر لله وبالله: حال المؤمن القوي، والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.
فصابر لله وبالله: عزيز حميد، ومن ليس لله ولا بالله: مذموم مخذول،
ومن هو بالله لا لله: قادر مذموم، ومن هو لله لا بالله: عاجز محمود)
صور الصبر
إن صور الصبر ومجالاته كثيرة في حياة الإنسان، فلا يستغني عنه أحد بحال من الأحوال،
يقول ابن القيم: (إن الإنسان لا يستغني عن الصبر في حال من الأحوال، فإنه بين أمر يجب عليه امتثاله وتنفيذه،
ونهي يجب عليه اجتنابه وتركه، وقدر يجري عليه اتفاقًا، ونعمة يجب عليه شكر المنعم عليها، وإذا كانت هذه الأحوال لا تفارقه فالصبر لازم له إلى الممات، وكل ما يلقى العبد في هذه الدار لا يخلو من نوعين: أحدهما: يوافق هواه ومراده، والآخر: يخالفه، وهو محتاج إلى الصبر في كلٍّ منهما)
ومن المجالات التي ينبغي للإنسان أن يضبط نفسه عندها ويصبر عليها:
1- ضبط النفس عن الضجر والجزع عند حلول المصائب ومس المكاره.
2- ضبط النفس عن السأم والملل لدى القيام بأعمال تتطلب الدأب والمثابرة خلال مدة مناسبة.
3- ضبط النفس عن العجلة والرعونة لدى تحقيق مطلب من المطالب المادية أو المعنوية.
4- ضبط النفس عن الغضب والطيش لدى مثيرات عوامل الغضب في النفس.
5- ضبط النفس عن الخوف لدى مثيرات الخوف في النفس.
6- ضبط النفس عن الطمع لدى مثيرات الطمع فيها.
7- ضبط النفس عن الاندفاع وراء أهوائها وشهواتها وغرائزها.
8- ضبط النفس لتحمل المتاعب والمشقات والآلام الجسدية والنفسية
موانع التحلي بالصبر
على المسلم الذي يريد أن يتحلى بالصبر أن يحذر من الموانع التي تعترض طريقه حتى لا تكون سدًّا منيعًا أمامه، ومن هذه الموانع
:
1- الاستعجال: فالنفس مولعة بحب العاجل؛ والإنسان عجول بطبعه، حتى جعل القرآن العجل كأنه المادة التي خلق الإنسان
منها: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء: 37] فإذا أبطأ على الإنسان ما يريده نفد صبره، وضاق صدره، ناسيًا أنَّ لله في خلقه سننًا لا تتبدل: وأنَّ لكل شيء أجلًا مسمًّى، وأنَّ الله لا يعجل بعجلة أحد من الناس، ولكل ثمرة أوان تنضج فيه، فيحسن عندئذ قطافها، والاستعجال لا ينضجها قبل وقتها، فهو لا يملك ذلك، وهي لا تملكه، ولا الشجرة التي تحملها، إنها خاضعة للقوانين الكونية التي تحكمها، وتجري عليها بحساب ومقدار...
2- الغضب: فقد يستفزُّ الغضب صاحب الدعوة، إذا ما رأى إعراض المدعوين عنه، ونفورهم من دعوته، فيدفعه الغضب إلى ما يليق به من اليأس منهم، أو النأي عنهم، مع أن الواجب على الداعية أن يصبر على من يدعوهم، ويعاود عرض دعوته عليهم مرة بعد مرة، وعسى أن يتفتح له قلب واحد يومًا، تشرق عليه أنوار الهداية، فيكون خيرًا له مما طلعت عليه الشمس وغربت.
وفي هذا يقول الله لرسوله: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [القلم: 48-50]
3- شدة الحزن والضيق مما يمكرون، فليس أشد على نفس المرء المخلص لدعوته من الإعراض عنه، والاستعصاء عليه.
فضلًا عن المكر به، والإيذاء له، والافتراء عليه، والافتنان في إعناته. وفي هذا يقول الله لرسوله: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ [النحل: 127]
ثم يؤنسه بأنه في معيته سبحانه ورعايته فيقول:إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [النحل: 128]
4- اليأس: فهو من أعظم عوائق الصبر، فإنَّ اليائس لا صبر له؛ لأنَّ الذي يدفع الزارع إلى معاناة مشقة الزرع وسقيه وتعهده، هو أمله في الحصاد، فإذا غلب اليأس على قلبه، وأطفأ شعاع أمله، لم يبق له صبر على استمرار العمل في أرضه وزرعه،
وهكذا كل عامل في ميدان عمله...
ولهذا حرص القرآن على أن يدفع الوهم عن أنفس المؤمنين، فبذر الأمل في صدورهم وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: 139-140] ،
ولما أمر موسى قومه بالصبر إزاء طغيان فرعون وتهديده، أضاء أمامهم شعلة الأمل،
فقال: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 128- 129]
الوسائل المعينة على الصبر
أ- الوسائل المعينة على الصبر عن المعصية والصبر على الطاعة
:
1- مما يعين على الصبر عن المعصية علم العبد بقبحها ورذالتها ودناءتها، وأن الله إنما حرمها ونهى عنها صيانة وحماية عن الدنايا والرذائل، كما يحمي الوالد الشفيق ولده عما يضره.
2- الحياء من الله سبحانه، فإن العبد متى علم بنظره إليه ومقامه عليه وأنه بمرأى منه ومسمع وكان حييًّا - استحيى من ربه أن يتعرض لمساخطه بترك طاعته أو ارتكاب معاصيه.
3- مراعاة نعمه عليك وإحسانه إليك، فإن الذنوب تزيل النعم ولا بد، فما أذنب عبد ذنبا إلا زالت عنه نعمه من الله بحسب ذلك الذنب، ومن أطاعه وشكره زاده من نعمه وآلائه.
4- خوف الله وخشية عقابه، ورجاء ثوابه ومغفرته، وهذا إنما يثبت بتصديقه في وعده ووعيده، والإيمان به وبكتابه وبرسوله.
5- محبة الله وهي أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه، فإن المحب لمن يحب مطيع، وكلما قوي داعي المحبة في القلب كانت استجابته للطاعة بحسبه.
6- شرف النفس وزكاؤها وفضلها وأنفتها وحميتها أن تختار الأسباب التي تحطها وتضع من قدرها وتخفض منزلتها وتحقرها وتسوي بينها وبين السفلة.
7- قوة العلم بسوء عاقبة المعصية وقبح أثرها والضرر الناشئ منها؛ من سواد الوجه وظلمة القلب وضيقه وغمه وحزنه وألمه وانحصاره وشدة قلقه واضطرابه وتمزق شمله وضعفه عن مقاومة عدوه وتعريه من زينته والحيرة في أمره وتخلي وليه وناصره عنه وتولي عدوه المبين له، وقوة العلم بحسن عاقبة الطاعة وأثرها الطيب على النفس.
8- قصر الأمل وعلمه بسرعة انتقاله، وأنه كمسافر دخل قرية وهو مزمع على الخروج منها، أو كراكب قال في ظل شجرة ثم سار وتركها، فهو لعلمه بقلة مقامه وسرعة انتقاله حريص على ترك ما يثقله حمله ويضره ولا ينفعه حريص على الانتقال بخير ما بحضرته، فليس للعبد أنفع من قصر الأمل ولا أضر من التسويف وطول الأمل.
9- مجانبة الفضول في مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه واجتماعه بالناس.
10- ثبات شجرة الإيمان في القلب، فصبر العبد عن المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه، فكلما كان إيمانه أقوى كان صبره أتم، وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبر، وكلما قوي داعي الإيمان في القلب كانت استجابته للطاعة بحسبه، وهذا السبب جامع للأسباب كلها.
ب – الوسائل المعينة على الصبر على البلاء:
1- أن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختارها وقسمها، وأن العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سيده ومولاه.
2- أن يعلم أن هذه المصيبة هي دواء نافع، ساقه إليه الطبيب العليم بمصلحته الرحيم به، فليصبر على تجرعه ولا يتقيأه بتسخطه وشكواه فيذهب نفعه باطلا.
3- أن يعلم أن في عقبى هذا الدواء من الشفاء والعافية والصحة وزوال الألم مالم تحصل بدونه، فإذا طالعت نفسه كراهة هذا الداء ومرارته فلينظر إلى عاقبته وحسن تأثيره قال تعالى: وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة: 216]
وقال الله تعالى: فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء: 19]
4- أن يعلم أن الله يربي عبده على السراء والضراء والنعمة والبلاء فيستخرج من عبوديته في جميع الأحوال، فإن العبد على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال، وأما عبد السراء والعافية الذي يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته، فلا ريب أن الإيمان الذي يثبت على محل الابتلاء والعافية هو الإيمان النافع وقت الحاجة، وأما إيمان العافية فلا يكاد يصحب العبد ويبلغه منازل المؤمنين، وإنما يصحبه إيمان يثبت على البلاء والعافية، فالابتلاء كِير العبد ومحك إيمانه
5- أن يعلم أن ما أصابه مقدر من الله:
قال تعالى: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد: 22-23]
6- أن يتذكر أعظم المصائب التي حلت بالأمة الإسلامية؛ وهي موت الرسول صلى الله عليه وسلم:
قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها أعظم المصائب))
7- أن يتجنب الجزع فهو لا ينفعه بل يزيد من مصابه:
قال ابن القيم: (إن الجزع يشمت عدوه، ويسوء صديقه، ويغضب ربه، ويسر شيطانه، ويحبط أجره، ويضعف نفسه، وإذا صبر واحتسب أنضى شيطانه ورده خاسئًا، وأرضى ربه، وسر صديقه، وساء عدوه، وحمل عن إخوانه وعزاهم هو قبل أن يعزوه، فهذا هو الثبات والكمال الأعظم، لا لطم الخدود وشق الجيوب والدعاء بالويل والثبور والسخط على المقدور)
8- أن يتسلى المصاب بمن هم أشد منه مصيبة:
قال ابن القيم: (ومن علاجه أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب، وليعلم أنه في كل واد بنو سعد، ولينظر يمنة فهل يرى إلا محنة؟! ثم ليعطف يسرة فهل يرى إلا حسرة؟! وأنه لو فتش العالم لم ير فيهم إلا مبتلى إما بفوات محبوب أو حصول مكروه، وأن شرور الدنيا أحلام نوم أو كظل زائل؛ إن أضحكت قليلًا أبكت كثيرًا، وإن سرت يومًا ساءت دهرًا، وإن متعت قليلًا خيرة إلا ملأتها عبرة، ولا سرته بيوم سرور إلا خبأت له يوم شرور)
9- أن يتسلى المصاب بأنه لله، وأن مصيره إليه:
قال ابن القيم: (إذا تحقق العبد بأنه لله وأن مصيره إليه تسلى عن مصيبته، وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب وأنفعه له في عاجلته وآجلته، فإنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته: أحدهما: أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقة... الثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، ولا بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره، ويجيء ربه فردًا كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، ولكن بالحسنات والسيئات، فإذا كانت هذه بداية العبد وما خوله ونهايته، فكيف يفرح بموجود أو يأسى على مفقود؟!)
10- أن يعلم أن ابتلاء الله له هو امتحان لصبره:
يقول ابن قيم الجوزية في ذلك: (أن الذي ابتلاه بها أحكم الحاكمين أرحم الراحمين، وأنه سبحانه لم يرسل إليه البلاء ليهلكه به ولا ليعذبه به ولا ليجتاحه، وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه وليسمع تضرعه وابتهاله وليراه طريحًا ببابه لائذًا بجنابه مكسور القلب بين يديه رافعًا قصص الشكوى إليه)
11- أن يعلم أن مرارة الدنيا هي حلاوة الآخرة:
قال ابن القيم: (إن مرارة الدنيا هي بعينها حلاوة الآخرة، يقلبها الله سبحانه كذلك، وحلاوة الدنيا بعينها مرارة الآخرة، ولأن ينتقل من مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة خير له من عكس ذلك، فإن خفي عليك هذا فانظر إلى قول الصادق المصدوق: ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات )) وفي هذا المقام تفاوتت عقول الخلائق، وظهرت حقائق الرجال، فأكثرهم آثر الحلاوة المنقطعة على الحلاوة الدائمة التي لا تزول، ولم يحتمل مرارة ساعة لحلاوة الأبد، ولا ذل ساعة لعز الأبد، ولا محنة ساعة لعافية الأبد، فإن الحاضر عنده شهادة، والمنتظر غيب، والإيمان ضعيف، وسلطان الشهوة حاكم، فتولد من ذلك إيثار العاجلة ورفض الآخرة)
12- أن يشهد أن الله سبحانه وتعالى خالق أفعال العباد، حركاتهم وسكناتهم وإراداتهم، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يتحرك في العالم العلوي والسفلي ذرة إلا بإذنه ومشيئته، فالعباد آلة، فانظر إلى الذي سلطهم عليك، ولا تنظر إلى فعلهم بك، تسترح من الهم والغم.
13- أن يشهد ذنوبه، وأن الله إنما سلطهم عليه بذنبه، كما قال تعالىوَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [الشورى: 30]
14- أن يشهد العبد حسن الثواب الذي وعده الله لمن عفا وصبر، كما قال تعالى: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [الشورى:40]
15- أن يشهد أنه إذا عفا وأحسن أورثه ذلك من سلامة القلب لإخوانه، ونقائه من الغش والغل وطلب الانتقام وإرادة الشر، وحصل له من حلاوة العفو ما يزيد لذته ومنفعته عاجلًا وآجلًا.
16- أن يعلم أنه ما انتقم أحد قط لنفسه إلا أورثه ذلك ذلًّا يجده في نفسه، فإذا عفا أعزه الله تعالى، وهذا مما أخبر به الصادق المصدوق حيث يقول: ((ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا ))
17- أن يشهد أن الجزاء من جنس العمل، وأنه نفسه ظالم مذنب، وأن من عفا عن الناس عفا الله عنه، ومن غفر لهم غفر الله له.
18- أن يعلم أنه إذا اشتغلت نفسه بالانتقام وطلب المقابلة ضاع عليه زمانه، وتفرق عليه قلبه، وفاته من مصالحه مالا يمكن استدراكه.
19- إن أوذي على ما فعله لله، أو على ما أمر به من طاعته ونهى عنه من معصيته، وجب عليه الصبر، ولم يكن له الانتقام، فإنه قد أوذي في الله فأجره على الله.
20- أن يشهد معية الله معه إذا صبر، ومحبه الله له إذا صبر، ورضاه. ومن كان الله معه دفع عنه أنواع الأذى والمضرات مالا يدفعه عنه أحد من خلقه، قال تعالى: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 46] ،
وقال تعالى:وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 146]
21- أن يشهد أن صبره حكم منه على نفسه، وقهر لها وغلبة لها، فمتى كانت النفس مقهورة معه مغلوبة، لم تطمع في استرقاقه وأسره وإلقائه في المهالك، ومتى كان مطيعًا لها سامعًا منها مقهورًا معها، لم تزل به حتى تهلكه، أو تتداركه رحمة من ربه.
22- أن يعلم أنه إن صبر فالله ناصره ولابد، فالله وكيل من صبر، وأحال ظالمه على الله، ومن انتصر لنفسه وكله الله إلى نفسه، فكان هو الناصر لها.
23- أن صبره على من آذاه واحتماله له يوجب رجوع خصمه عن ظلمه، وندامته واعتذاره، ولوم الناس له، فيعود بعد إيذائه له مستحييًا منه نادمًا على ما فعله، بل يصير مواليًا لهفسهم)
------------------------------------------------------------
وما زلنا أحبابنا نرتع في بحور ألأخلاق المحموده في ديننا الحنيف
نفع الله بكم وجزاكم الله خيرا
ولا تنسونا من صالح دعائكم
عدل سابقا من قبل sadekalnour في الأحد يوليو 24, 2022 1:53 pm عدل 4 مرات
اليوم في 3:17 pm من طرف عبدالله الآحد
» -(( 3 -))- خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
اليوم في 12:53 pm من طرف صادق النور
» إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن الشرك سيظهر في هذه الأمة بعد إخفائه واندحاره
أمس في 2:19 pm من طرف عبدالله الآحد
» فضل توحيد الله سبحانه
الجمعة نوفمبر 22, 2024 3:20 pm من طرف عبدالله الآحد
» وجوب الدعوة إلى توحيد الله سبحانه
الخميس نوفمبر 21, 2024 3:00 pm من طرف عبدالله الآحد
» كتاب الترجيح في مسائل الطهارة والصلاة
الأربعاء نوفمبر 20, 2024 9:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» وجوب التوكل على الله وخده لا شريك له
الأربعاء نوفمبر 20, 2024 3:26 pm من طرف عبدالله الآحد
» أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 5:24 pm من طرف عبدالله الآحد
» العبادة وأركانها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 2:55 pm من طرف عبدالله الآحد
» الراجح من أقوال العلماء أن جلسة الاستراحة سنة في الصلاة
الإثنين نوفمبر 18, 2024 2:31 pm من طرف عبدالله الآحد