آل راشد



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

آل راشد

آل راشد

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
آل راشد

ثقافى-اجتماعى

*** - اللَّهُمَّ اَنَكَ عَفْوٍ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعِفُو عَنَّا - *** - اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك . *** - اللَّهُمَّ اُرْزُقْنَا تَوْبَةً نَصُوحًا قَبْلَ الْمَوْتِ وَ ارْزُقْنَا حُسْنَ الْخَاتِمَةِ . *** -

إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا شَابَتْ عَبِيدَهُمْ.. .. فِي رِقِّهِمْ عَتَقُوهُمْ عِتْقَ أَبْرَارٍ .. .. وَأَنْتَ يَا خَالِقِيُّ أوْلَى بِذَا كَرَمًا.. .. قَدْ شُبْتُ فِي الرِّقِّ فَأَعْتَقَنِي مِنَ النَّارِ .

المواضيع الأخيرة

» كتاب الترجيح في مسائل الطهارة والصلاة
إخوان الصفا وخلان الوفا  Ooou110أمس في 9:31 pm من طرف عبدالله الآحد

» وجوب التوكل على الله وخده لا شريك له
إخوان الصفا وخلان الوفا  Ooou110أمس في 3:26 pm من طرف عبدالله الآحد

» أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها
إخوان الصفا وخلان الوفا  Ooou110الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 5:24 pm من طرف عبدالله الآحد

» العبادة وأركانها
إخوان الصفا وخلان الوفا  Ooou110الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 2:55 pm من طرف عبدالله الآحد

» الراجح من أقوال العلماء أن جلسة الاستراحة سنة في الصلاة
إخوان الصفا وخلان الوفا  Ooou110الإثنين نوفمبر 18, 2024 2:31 pm من طرف عبدالله الآحد

» -(( 3 -))- خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
إخوان الصفا وخلان الوفا  Ooou110الأحد نوفمبر 17, 2024 10:15 pm من طرف صادق النور

» لا يعلم الغيب إلا الله وحده لا شريك له
إخوان الصفا وخلان الوفا  Ooou110الأحد نوفمبر 17, 2024 3:12 pm من طرف عبدالله الآحد

» تابع زبدة التوحيد لنعمان بن عبد الكريم الوتر
إخوان الصفا وخلان الوفا  Ooou110السبت نوفمبر 16, 2024 2:15 pm من طرف عبدالله الآحد

» هيئات السجود المسنونة
إخوان الصفا وخلان الوفا  Ooou110الخميس نوفمبر 14, 2024 3:24 pm من طرف عبدالله الآحد

» (( - 2 -)) خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
إخوان الصفا وخلان الوفا  Ooou110الأربعاء نوفمبر 13, 2024 11:28 pm من طرف صادق النور

اهلا بكم

الثلاثاء نوفمبر 08, 2011 2:32 am من طرف mohamed yousef

إخوان الصفا وخلان الوفا  Ooousu10

المتواجدون الآن ؟

ككل هناك 47 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 47 زائر :: 3 عناكب الفهرسة في محركات البحث

لا أحد


أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 624 بتاريخ الأربعاء سبتمبر 15, 2021 4:26 am

احصائيات

أعضاؤنا قدموا 10128 مساهمة في هذا المنتدى في 3405 موضوع

هذا المنتدى يتوفر على 311 عُضو.

آخر عُضو مُسجل هو Pathways فمرحباً به.

دخول

لقد نسيت كلمة السر

أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى

أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع


    إخوان الصفا وخلان الوفا

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5385
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود إخوان الصفا وخلان الوفا

    مُساهمة من طرف صادق النور السبت أغسطس 21, 2021 9:54 pm



    طائفه إخوان الصفا وخلان الوفا

    إخوان الصفا وخلان الوفا هم جماعة من فلاسفة المسلمين من أهل القرن الثالث الهجري والعاشر الميلادي بالبصرة اتحدوا على أن يوفقوا بين العقائد الإسلامية والحقائق الفلسفية المعروفة في ذلك العهد فكتبوا في ذلك خمسين مقالة سموها"تحف إخوان الصفا".وهنالك كتاب آخر ألفه الحكيم المجريطي القرطبي المتوفى سنة 395هـ وضعه على نمط تحفة إخوان الصفا وسماه "رسائل إخوان الصفا".

    أثّر فكر الإخوان في مذهب الإسماعيلي في البصرة في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري. وكانت اهتمامات هذه الجماعة متنوعة وتمتد من العلم والرياضيات إلى الفلك السياسة وقاموا بكتابة فلسفتهم عن طريق 52 رسالة مشهورة ذاع صيتها حتى في الأندلس. ويعتبر البعض هذه الرسائل بمثابة موسوعة للعلوم الفلسفية. كان الهدف المعلن من هذه الحركة "التضافر للسعي إلى سعادة النفس عن طريق العلوم التي تطهر النفس". من الأسماء المشهورة في هذه الحركة كانت أبو سليمان محمد بن مشير البستي المشهور بالمقدسي، وأبو الحسن علي ابن هارون الزنجاني، ومحمد بن أحمد النهرجوري، والعوفي، وزيد بن رفاعة.

    فلسفتهم

    تأثر إخوان الصفا بالفلسفة اليونانية والفارسية والهندية وكانوا يأخذون من كل مذهب بطرف ولكنهم لم يتأثروا على الإطلاق بفكر الكندي واشتركوا مع فكر الفارابي والإسماعيليين في نقطة الأصل السماوي للأنفس وعودتها إلى الله وكان فكرتهم عن منشأ الكون يبدأ من الله ثم إلى العقل ثم إلى النفس ثم إلى المادة الأولى ثم الأجسام والأفلاك والعناصر والمعادن والنبات والحيوان. فكان نفس الإنسان - من وجهة نظرهم - جزءا من النفس الكلية التي بدورها سترجع إلى الله ثانية يوم المعاد. الموت عند إخوان الصفاء يسمى "البعث الأصغر"، بينما تسمى عودة النفس الكلية إلى الله "البعث الأكبر". وكان إخوان الصفا على قناعة إن الهدف المشترك بين الأديان والفلسفات المختلفة هو أن تتشبه النفس بالله بقدر ما يستطيعه الإنسان.

    كانت كتابات إخوان الصفا ولا تزال مصدر خلاف بين علماء الإسلام وشمل الجدل التساؤل حول الانتماء المذهبي للجماعة فالبعض اعتبرهم من أتباع المدرسة المعتزلية والبعض الآخر اعتبرهم من نتاج المدرسة الباطنية وذهب البعض الآخر إلى حد وصفهم بالإلحاد والزندقة ولكن إخوان الصفا أنفسهم قسموا العضوية في حركتهم إلى 4 مراتب:

    مَن يملكون صفاء جوهر نفوسهم وجودة القبول وسرعة التصور. ولا يقل عمر العضو فيها عن خمسة عشر عامًا؛ ويُسمَّوْن بالأبرار والرحماء، وينتمون إلى طبقة أرباب الصنائع.
    مَن يملكون الشفقة والرحمة على الأخوان. وأعضاؤها من عمر ثلاثين فما فوق؛ ويُسمَّوْن بالأخيار الفضلاء، وطبقتهم ذوو السياسات.
    مَن يملكون القدرة على دفع العناد والخلاف بالرفق واللطف المؤدِّي إلى إصلاحه. ويمثل هؤلاء القوة الناموسية الواردة بعد بلوغ الإنسان الأربعين من العمر، ويُسمَّوْن بالفضلاء الكرام، وهم الملوك والسلاطين.
    المرتبة الأعلى هي التسليم وقبول التأييد ومشاهدة الحق عيانًا. وهي قوة الملكية الواردة بعد بلوغ الخمسين من العمر، وهي الممهِّدة للصعود إلى ملكوت السماء؛ وإليها ينتمي الأنبياء.
    تاريخ ظهورهم
    اهتم العرب في عصر الراشدين والعصر الأموي بالغزوات، حتى حل العصر العباسي حيث بدأوا بترجمة الكتب اليونانية المترجمة من السريانية إلى العربية في الطب والفلسفة، فشغفت عناصر كثيرة بالفلسفة اليونانية شغفا عظيما. إذ رعى أبو جعفر المنصور طبقة من المترجمين الذين ساهموا في نقل الميراث الفكري الإغريقي، واستمرت هذه الحركة في عهد هارون الرشيد، وبلغت القمة في عهد المأمون حيث أنشئت دار الحكمة في بغداد. واثر هذا الانفتاح الفكري في شطر من العهد العباسي برز مفكرون مسلمون ساعون إلى التوفيق بين الدين الإسلامي والفلسفة اليونانية، أشهرهم الكندي والفارابي وابن سينا. وتطورت هذه الجهود في البحث الفلسفي لتصير حالاً جماعية تمثّلت في نشوء فرقة عُرفت باسم (إخوان الصفاء وخلاّن الوفاء)، اشتهرت بتصنيفها مجموعة من الرسائل في مختلف فروع الفلسفة والعلوم الإنسانية. وقد لاقت هذه الرسائل رواجا كبيرا في مختلف أنحاء العالم الإسلامي.

    الثابت أن إخوان الصفاء ظهروا كما يذكر ابن الطقطقي في كتابه (الفخري في الآداب السلطانية) حين (اضطربت أحوال الخلافة، ولم يبق لها رونق ولا وزارة. تملّك البويهيون، وصارت الوزارة من جهتهم والأعمال إليهم)، وكان البويهيون الذين سيطروا على العراق من الشيعة الذين اتبعوا مذهب الزيدية، وهي من أقرب الفرق إلى آراء مذهب السنّة، ذلك أنها لا ترى حصر الإمامة في سلالة الإمام الحسين بن علي، كما أنها لا تشارك غيرها من الفرق الشيعية في ذم الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان، أو القدح في الصحابة الذين لم يبايعوا الإمام علي بالخلافة بعد وفاة النبي. لهذا يمكن القول بأنهم من المتشيعة، وهم إما من الإسماعيليين أو الإثني عشرية والارجح من مذهب الزيدية لأن في رسائلهم مسح من الشيعية ولكنهم في ذات الوقت يخرجون عن حدود كافة الفرق الإسلامية في الفكر والمعتقد، إذ لهم فكرهم الانتقائي. وهم يجمعون بين الكثير من المعتقدات الدينية والمذاهب الفكرية، ويبتغي أصحابهم جمع حكمة كل الأمم والأديان. مذهبهم بحسب تعبيرهم في الرسالة 45 (يستغرق المذاهب كلها، ويجمع العلوم جميعها، وذلك أنه النظر في جميع الموجودات بأسرها، الحسية والعقلية، من أولها إلى آخرها، ظاهرها وباطنها، جليها وخفيها، بعين الحقيقة، من حيث هي كلها مبدأ واحد، وعلة واحدة، وعالم واحد). وتبرز هذه النظرة الانتقائية التوفيقية بشكل خاص في تحديد الإخوان لمزايا الإنسان الكامل، وقد وجدوه في (العالم الخبير الفاضل، الذكي المستبصر، الفارسي النسبة، العربي الدين، الحنفي المذهب، العراقي الآداب، العبراني المخبر، المسيحي المنهج، الشامي النسك، اليوناني العلوم، الهندي البصيرة، الصوفي السيرة كما في الرسالة 22).

    أهدافهم
    كانت غاية إخوان الصفا التقريب بين الدين والفلسفة، في عصر ساد فيه الاعتقاد أن الدين والفلسفة لايتفقان، لهذا فهم يعرفون الفيلسوف على أنه الحكيم، وأن الفلسفة هي التشبُّه بالإله على قدر الطاقة البشرية، وبالاستشهاد بأقوال الفلاسفة، كسقراط وأرسطوطاليس وأفلاطون وفيثاغوراس وغيرهم، التي تصبُّ في نهر الحكمة الواحد الدافق، بما يتوافق مع أقوال الأنبياء كافة، التي استهانت بأمر الجسد ودَعَتْ إلى خلاص النفس من أسْر الطبيعة وبحر الهيولى بالعلوم وأولها علم الإنسان بنفسه، ثم علمه بحقائق الأشياء. وقد أكدوا أن علومهم التي طرحوها في الرسائل هي مفاتيح للمعرفة، لا ينبغي التوقف عندها، بل الترقِّي في سلَّم الصعود إلى الحالة الأخيرة الملكية، وهذا ما يقولون (هل لك، يا أخي، أن تصنع ما عمل فيه القوم كي يُنفَخ فيك الروح، فيذهب عنك اللوم، حتى لا ترى إلا يسوع عن ميمنة عرش الربِّ قد قرَّب مثواه كما يُقرَّب ابن الأب، أو ترى مَن حوله من الناظرين. أو هل لك أن تخرج من ظلمة أهرمن حتى ترى اليزدان قد أشرق منه النور في فسحة أفريحون. أو هل لك أن تدخل إلى هيكل عاديمون حتى ترى الأفلاك يحيكها أفلاطون وإنما هي أفلاك روحانية، لا ما يشير إليه المنجِّمون) وذلك أن علم الله محيط بما يحوي العقل من المعقولات، والعقل محيط بما تحوي النفس من الصور، والنفس محيطة بما تحوي الطبيعة من الكائنات، والطبيعة محيطة بما تحوي الهيولى من المصنوعات، فإذا هي أفلاك روحانية محيطات بعضها ببعض.

    أسماؤهم

    إخوان الصفا عملوا في الخفاء، لعل ابن المقفع كان واحدا منهم ففي "كليلة ودمنة"، حيث يتوجه دبشليم الملك بالكلام لبيدبا الفيلسوف في مطلع قصة "الحمامة المطوقة" يقول له "...حدثني، إن رأيت، عن إخوان الصفاء كيف يبدأ تواصلهم ويستمع بعضهم ببعض". فيجيب الفيلسوف "إن العاقل لا يعدل بالإخوان شيئا، فالإخوان هم الأعوان على الخير كله، والمؤاسون عند ما ينوب من المكروه".

    احتار الباحثون في كل العصور في قضية من هم اخوان الصفا لهذا لجأوا إلى الحدس والتخمين في معرفة محرري تلك الرسائل المجهولة التوقيع. يكشف أبو حيان التوحيدي أسماء خمسة من مؤلفي هذه الرسائل في كتابه "الإمتاع والمؤانسة"، الكتاب الذي يضم مسامرات سبع وثلاثين ليلة أمضاها التوحيدي في منادمة الوزير أبي عبد الله العارض. ويأتي ذكر إخوان الصفا في الليلة السابعة عشرة حيث يسأل الوزير عن زيد بن رفاعة وعن مذهبه، ويجيب الكاتب

    "هناك ذكاءٌ غالبٌ، وذهنٌ وقادٌ، ويقظةٌ حاضرة، وسوانح متناصرة، ومتسعٌ في فنون النظم والنثر، مع الكتابة البارعة في الحساب والبلاغة، وحفظ أيام الناس، وسماعٍ للمقالات، وتبصرٍ في الآراء والديانات، وتصرفٍ في كل فنٍ... وقد أقام بالبصرة زماناً طويلاً، وصادف بها جماعةً لأصناف العلم وأنواع الصناعة؛ منهم أبو سليمان محمد بن معشر البيستي، ويعرف بالمقدسي، وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني، وأبو أحمد المهرجاني والعوفي وغيرهم، فصحبهم وخدمهم؛ وكانت هذه العصابة قد تآلفت بالعشرة، وتصافت بالصداقة، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة، فوضعوا بينهم مذهباً زعموا أنهم قربوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله والمصير إلى جنته، وذلك أنهم قالوا: الشريعة قد دنست بالجهالات، واختلطت بالضلالات؛ ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة، وذلك لأنها حاويةٌ للحكمة الاعتقادية، والمصلحة الاجتهادية".
    أسلوب عملهم
    اعتمد إخوان الصفاء التقية في تنظيمهم وهو المبدأ الذي يعتمده الشيعة في بعض حالات الخطر على النفس أي إظهار المرء غير ما يضمر في نفسه. وساعدت التقيَّة على رواج رسائلهم واستمرار فكرهم لقرون عديدة، وبقائه كمنهل ثرٍّي لكلِّ الفلاسفة الذين أتوا بعدهم، كابن سينا والفارابي السجستاني[؟] الكرماني[؟] وناصر خسرو ونصير الدين الطوسي وغيرهم. كان على المرشد أو الداعي ان يتحلِّى بمجموعة من الصفات مثل "أن يكون أبًا شفيقًا، وطبيبًا رفيقًا، لا نزقًا ولا خرقًا ولا منحرفًا ولا متجبرًا ولا متكبرًا ولا متغيرًا، ولا يحمِّل أحدًا فوق طاقته، ولا يكلِّفه فوق وسعه، يبرز لمريديه بروز النفس الكلِّية للنفس الجزئية، في جليل هيبته وجميل هيئته..الخ". يقول عبد الحميد الكاتب ان أغلب فكر (اخوان الصفا) مستمد من الفكر الصابئي لان الفكر الصابئي كان متداولا في العهد العباسي والأموي من خلال جهابذة العلم والأدب الصابئة من امثال ثابت بن قرة وأبو اسحاق الصابئي وغيرهم. فقد ذكر المؤرخون كما جاء في كتب الأفذاذ من علماء الصابئة الحرانيين عن ثابت بن قرة الصابئي الحراني المعروف بعلمه الوفير والذي تميز بعقليته الموسوعية في الفلسفة والرياضيات، فقد تخرج ثابت والذي كان قد برز من بين اقرانه، وأصبح من أخوان العهد والثبات (ابني قايما)، وصار له الحق في كشف الأسرار، وقد دعي (صديقيا) كما ورد عند ابن النديم، وهي تعني الحكماء الإلهيين، أو من كان حكيما كاملا في أجزاء علوم الحكمة. الكلمة محرفة أو من كلمة (ناصورائي زديقي) المندائية، والتي تعني المتبحر.

    حركة اخوان الصفا كانت انعطافا إنسانيا حدث على أرض العراق، إذ رغم الانكسارات التي حلت به فهو الأول في العالم في استنباط العجلة والقوانين والمدينة الحكومة ثم الكتابة المسمارية وهي أول كتابة لاصورية وبها بدأ تسجيل التاريخ. وفي بغداد كانت الثورة الأولى في العالم في الطب واما حركة اخوان الصفا فقد جائت اندفاعا للفلسفة اليونانية والفكر الحر، كانت إحدى دفعات العراق للتاريخ.

    رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء
    صدرت عدة طبعات من رسائل اخوان الصفاء وخلان الوفاء، أولها في العام 1812 في كلكاتا Calcutta (الهند) وتبعتها اصدارات هامة وضعت باللغة الألمانية من قبل المستشرق فريدريك ديتيريشي في الفترة الممتدة بين 1861 و1872. أما النسخة المحّققة والكاملة الأولى من رسائل اخوان الصفاء فقد طبعت في أربعة مجلدات (مطبعة نخبة الأخبار) من 1887 إلى 1889 في بومباي Bombay (الهند)، من تحقيق ولاية حسين. وبعد ذلك نشرت طبعة القاهرة في العام 1928 (المطبعة العربية بمصر)، وقد حققها خير الدين الزركلي وقدمها عميد الأدب العربي: طه حسين، بالإضافة لمقدمة من تأليف أحمد زكي باشا. أما الطبعة الأكثر تداولا بين أصحاب الاختصاص في دراسة ارث اخوان الصفاء تعود إلى نصوص الرسائل التي حققها بطرس بستاني ونشرتها دار صادر في بيروت في العام 1957. هنالك أيضا طبعة حققها عارف تامر وأصدرتها منشورات عويدات في بيروت في العام 1995. يجب الإشارة أيضا في هذا السياق بأن كل الطبعات المتوافرة حاليا (أي حتى أواخرالعام 2008) من رسائل اخوان الصفاء غير محققة بشكل نقدي من حيث أنها لا تبرز المخطوطات التي تمّ الاعتماد عليها في تقديم محتويات نصوص الرسائل وتعددية معانيها والاختلافات في صياغاتها. ونظرا إلى ذلك الحال قام الباحث نادر البزري ببلورة مشروع أكاديمي يضم فريق عمل من أساتذة متخصصين بالبحث في شؤون تاريخ العلوم والفلسفة عند العرب، وذلك لاصدار رسائل اخوان الصفاء في طبعة مححققة نقديا وعلميا، وتستند إلى مجموعة من المخطوطات القديمة ومعظمها محفوظ في مكتبات ومتاحف إسطنبول العريقة، وتضاف إليها الترجمة الإنجليزية التامة والأولى لهذا الإرث العلمي. هذا المشروع تبنّته دار النشر العريقة التابعة لجامعة أكسفورد (Oxford University Press) في بريطانيا بالتعاون مع معهد الدراسات الإسماعيلية في لندن من خلال سلسلة علمية (عنوانها Epistles of the Brethren of Purity)، وقد صدر المجلد الأول من هذه السلسلة في العام 2008 من تحقيق نادر البزري (عنوانه The Ikhwan al-Safa' and their Rasa'il).

    إخوان الصفا



    ليس من الغلو أن يعدَّ البحث في موضوع إخوان الصفا بحثاً عن لغز، بل عن كنز ثقافي عربي إنساني النزعة، تود فئات من المفكرين والعقائديين الاعتزاء له، إن لم يسعفها ادعاء انتمائه إليها، كما حاول أنصار فرق إسلامية شتى، وما يزالون.

    فإذا اتجه النظر إلى البيئتين التاريخية والجغرافية التي يُفترض ظهور حركة إخوان الصفا فيهما، وهما القرن الرابع الهجري في ظل الدولة العباسية، بدءاً من البصرة، وفي حدود سنة 373هـ، ظهر أن السيادة الدينية غالبة في التقويم السياسي والثقافي والاجتماعي. وقد عزف العباسيون عن العصبية العربية،واستعانوا بالفرس ثم بالترك. وما عتم أولو النفوذ من هذه الأقوام غير العربية أن أخذوا يستبدون بشؤون الملك، وباتت الخلافة البغدادية متهافتة يدب فيها الفساد والانحلال، ولاسيما عندما دخل أحمد بن بويه بغداد غازياً فاتحاً سنة 334هـ فقابله الخليفة المستكفي بالله، واحتفى به، وبايعه أحمد، وحلف كل منهما لصاحبه، هذا بالخلافة، وذاك بالسلطنة. وفي ذلك اليوم شرّف الخليفة بني بوية بالألقاب. وأضفى على أحمد لقب صاحب العمران، معز الدولة، وهو من الشيعة الزيدية فأضمر أن يزيل الخلافة لتولية خليفة من الشيعة العلوية.

    وقد كثرت في تلك الحقبة الثورات الانفصالية، وأسس العبيديون الدولة الفاطمية في مصر سنة 359هـ وازداد عبث القرمطية، وبلغت الحياة الاقتصادية والاجتماعية مبلغاً من السوء في العراق خاصة حتى أكل أهل بغداد الميتة والسنانير والكلاب. واشتد التفاوت الطبقي بين فئات الخاصة والعامة. وتميزت في صفوف الخاصة مراتب الخليفة وأهل الدولة وأرباب النفوذ من الأعيان وأتباع الخاصة من جندٍ وأعوانٍ وخدمٍ وطوائف العبيد والجواري والخصيان. كما تميزت من العامة فئات الأدباء والمثقفين الذين طمحوا إلى اللحاق بالخاصة وكذلك أرباب التجارات الثمينة والصناعات الراقية، وبقي بمعزل عن ذلك سواد سكان الريف وأهل المدن يعانون من الشطّار والعيارين.

    وقد واكب هذه الأوضاع صراع صريح اضطرم بين العرب المعتزين بمنزلتهم التليدة والشعوبية الداعية خاصة إلى المساواة الإسلامية.

    ولقيت حياة اللهو، بل المجون، مرتعاً خصباً إلى جانب ارتكاسات جد وتقشف،وزهد وتصوف. وانعكس ذلك كله في ازدهار خصومة «عقائدية» بين ملاحدة ومؤمنين،وزنادقة ومتكلمين وامتزجت في هذه المعارك ثقافات يونان وفارس والهند بالإبداع العربي الأصيل وبأطلال الثقافات الغابرة: زرادشتية وآشورية وثنوية ومجوسية.

    وبقول وجيز: «لم يعرف المسلمون عصراً كالقرن الرابع للهجرة تناقضت فيه حياتهم العامة أشد التناقض» كما يقول طه حسين. وما لبث جدل هذا التناقض أن تمخض عن حركة تعكس معطياته وترمي إلى تجاوزها نحو ما هو أليق بالحياة الإنسانية بوجه عام. وتلكم هي - بوجه من أوجه الاعتبار الأساسي - حركة إخوان الصفاء.

    إن نظرة أولى إلى أقدم إشارة علنية صحيحة وصلت عن هذه الحركة السرية، بل المكتومة تُشعر بالظرف الذي نشأت فيه، كما تُنبئ - بشيء كافٍ من الدقة - بالارتكاس الشديد الذي اكتنف ظهورها، وقابل دعوتها وإنتاجها الثقافي، وكان علامة تسويغ سريتها وكتمانها.

    نعت أبو حيان التوحيدي [ر] في كتابه «الإمتاع والمؤانسة» حياة الناس في زمنه بأنهم في «ظلمات البر والبحر، أعني الجهل وقلة الحياء». وأجاب في وصف زيد بن رفاعة بقوله:

    «هناك ذكاء غالب، وذهن وقاد، ويقظة حاضرة، وسوانح متناصرة، ومتسع في فنون النظم والنثر... وتبصر في الآراء والديانات، وتصرف في كل فن... وقد أقام بالبصرة زماناً طويلاً، وصادف بها جماعة جامعة لأصناف العلم، وأنواع الصناعة: منهم أبو سليمان محمد بن معشر البستي، ويعرف بالمقدسي، وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني، وأبو أحمد المهرجاني والعوفي، وغيرهم فصحبهم وخدمهم».

    وأضاف قائلاً: «وكانت هذه العصابة قد تآلفت بالعشرة،وتصافت بالصداقة، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة، فوضعوا بينهم مذهباً زعموا أنهم قرّبوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله،والمصير إلى جنته.وذلك أنهم قالوا: الشريعة قد دُنست بالجهالات،واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة. وذلك لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية،والمصلحة الاجتهادية. وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية، فقد حصل الكمال».

    ولما جهر أبو حيان بهذا التعريف «المعاصر العليم»، ثارت حفيظة سيد تلك الندوة الثقافية «المتحررة» نفسه، فأنكر محمد بن بهرام وهو أبو سليمان المنطقي السجستاني مسعى الإخوان قائلاً كما يذكر صاحب «الإمتاع والمؤانسة»: «إنهم ظنوا ما لا يكون، وما لا يمكن، ولا يستطاع. ظنوا أنهم يمكنهم أن يدسوا الفلسفة - التي هي علم النجوم والأفلاك والمجسطي والمقادير وآثار الطبيعة والموسيقى والمنطق...- في الشريعة، وأن يضموا الشريعة للفلسفة، وهذا مرام دونه حَدَد.. والله تعالى تمم الدين بنبيه، ولم يحوجه بعد البيان الوارد بالوحي إلى بيان موضوع بالرأي... وأين الشيء المأخوذ بالوحي النازل، من الشيء المأخوذ بالرأي الزائل.

    وبالجملة: النبي فوق الفيلسوف. والفيلسوف دون النبي..». وعندما أهاج الحريري غلام بن طرارة يوماً في الوراقين (المقدسي)، وهو من إخوان الصفاء، اندفع مفصحاً عن بعض رأيه قائلاً: «الشريعة طب المرضى، والفلسفة طب الأصحاء والأنبياء يطبون للمرضى حتى لا يتزايد مرضهم، وحتى يزول المرض بالعافية فقط.

    أما الفلاسفة فإنهم يحفظون الصحة على أصحابها حتى لا يعتريهم مرض أصلاً... وإنما جمعنا بين الفلسفة والشريعة، لأن الفلسفة معترفة بالشريعة، وإن كانت الشريعة جاحدة بها، وإنما جمعنا أيضاً بينهما لأن الشريعة عامة، والفلسفة خاصة، والعامة قوامها بالخاصة».

    فحركة إخوان الصفاء تود جمع الفلسفة والشريعة،ولكنها ترجح - كما سيأتي - جانب العقل الانتقادي على الإيمان الاتباعي. وقد ضمّ تنظيمها نخبة من «الجادين»، كما يقول ستانلي لين - بول، الذين أخذوا يجتمعون في أماكن خاصة،ومواعيد دورية معينة، على اختلاف رتبهم. وأطلقوا على أنفسهم اسم:

    «إخوان الصفاء، وخلاّن الوفاء، أهل العدل، وأبناء الحمد». وقد أصبحت العبارة الأولى كافية للدلالة عليهم، يضاف إليها في الغالب العبارة الثانية. ولكن جلّ الباحثين، على الأقل لم يفطنوا إلى دلالة العبارتين الأخيرتين. وسنبين مقصدهما في نظر الإخوان.

    كتم إخوان الصفاء أسماءهم، وأسرّوا عددهم، وامتنعوا عن البوح بأسرار جماعتهم، ولم يصل من آثارهم المباشرة إلا نوعان من رسائل تنسب إليهم. النوع الأول يضم خمسين بل إحدى وخمسين رسالة وهبوها للناس عامة، وبثّوها في الوراقين، ولا تكاد تجتمع كلها لدى شخص واحد - وقد نشرت في بومباي سنة 1305هـ، ثم أعيدت طباعتها في القاهرة سنة 1928م بتصحيح خير الدين الزركلي.

    والنوع الآخر هو «الرسالة الجامعة» - وقد طبعت بدمشق بتحقيق الدكتور جميل صليبا سنة 1948م - ويرى عارف تامر أنه نشر ما يسميه «جامعة الجامعة» في بيروت سنة 1959م.

    مؤلفو الرسائل

    كثرت النظريات التي تحاول فك لغز إخوان الصفاء، وتعارضت وتناقضت. وبعضها يذكر أسماء أعلام وضعوا الرسائل، فرادى أو مجتمعين، وبعضها الآخر يعزوها إلى فرق أو تيارات معروفة، معاصرة أو سابقة، وربما لاحقة.

    فمن قائل إن الرسائل من وضع مسلمة المجريطي، أو تلميذه أبي الحكم الكرماني. ولدى الرجوع إلى المخطوطة المحفوظة في المكتبة الوطنية بباريس برقم 2303، وهي أساس هذه النظرية، وُجد اسم المجريطي مكتوباً على حرفها جرياً على العادة القديمة بكتابة اسم مالك النسخة على جملة أوراقها فيقرأ الاسم عند جمع جوانب صفحات النسخة بإغلاقها. وبذا تبدد وهم القول بأن المجريطي مؤلف الرسائل، أو الرسالة الجامعة، وصح عدّه، أو تلميذه، أول من حمل الرسائل إلى بلاد الأندلس.

    والنظرية الثانية تنسب الرسائل إلى بعض أئمة الإسماعيلية، وهو تارة الإمام جعفر الصادق، وأخرى الإمام أحمد بن عبد الله، ثاني أئمة دور الستر. ولكن النسبتين غير صحيحتين، يرفضهما باحثون كثر، ويدحضهما النظر الانتقادي. وفي هذا المنحى يرى عبد اللطيف الطيباوي أن هناك من ينسب الرسائل إلى صحابي، أو إلى علي بن أبي طالب أو إلى معتزلي لم يذكر اسمه، أو إلى جابر بن حيان، أو إلى الحلاج، أو إلى الغزالي،على الرغم من تناقض فحوى الرسائل مع مذاهب جلّ هؤلاء الأعلام.

    والنظرية الثالثة تأخذ بما دار في ندوة أبي سليمان السجستاني وترى أن الرسائل من وضع خمسة من الأعلام المذكورين فيها. ويؤكد مصطفى غالب أنه عثر بعد محاولات كثيرة على أسماء بعض مؤلفي الرسائل من بعض المخطوطات الإسماعيلية السرية، وهم: 1ـ أبو سليمان محمد بن معشر البستي، ويعرف بالمقدسي، 2ـ أبو الحسن علي بن هارون الزنجاني، 3ـ أبو أحمد المهرجاني، 4ـ أبوالحسن العوفي، 5ـ أبو حيان التوحيدي، 6ـ زيد بن رفاعة، 7ـ محمد أبو الفرج، 8ـ أبو سليمان محمد بن طاهر السجستاني، 9ـ أبو زكريا العامري، 10ـ عبد السلام بن الحسن البصري، 11ـ أبو سفيان، 12ـ الحلواني، وقد أشير إلى إنكار السجستاني وغيره من أعضاء الندوة آراء الإخوان.

    أما الذين يعزون تأليف الرسائل إلى فرق معينة فإنهم ينسبون جماعة الإخوان إلى القرمطية أو النصيرية أو الدرزية أو الإسماعيلية.

    من ذلك أن ماسينيون يعد إخوان الصفاء من القرامطة. ولكن نص الرسائل ينكر فعال القرامطة واقتلاعهم الحجر الأسود، ويتهم مزدك الخرَّمي الذي ترتبط به القرمطية بالتمويه والتزوير على قلوب العامة والجهال.

    وإذ يكتفي الغزالي [ر] في «المنقذ» بفضح إخوان الصفاء لاستدراجهم قلوب الحمقى إلى باطلهم، يقرر ابن تيمية في «فتاويه» تماثل مذهب الإخوان والعقيدة النصيرية. ولكن نصوص الرسائل لا تنمّ عن هذا الالتقاء إلا إذا قصد ابن تيمية تأثر النصيرية بالرسائل لقوله: إن أصحاب الرسائل من أئمتهم. وفي الرسائل ذكر لمحمد r على أنه مدينة العلم، وأن علياً بابها، لكن لا يذكر اسم سلمان الفارسي إلا مرة واحدة، وعلى أنه من الصحابة وحسب.

    وفي مجال آخر يرى مكدونالد أن انتقائية الإخوان هي المذهب الحقيقي للفاطميين والحشاشين والقرامطة والدروز. ولكن من الثابت أن الرسائل سبقت ظهور المذهب الدرزي المتصل باختفاء الحاكم بأمر الله سنة 411هـ ويؤكد عمر فروخ صلة الرسائل بالمذهب الدرزي، ولكن على أساس تأثره بها، ولا عكس.

    وتبقى النظرية الإسماعيلية الشهيرة التي قال بها كثيرون من الإسماعيليين خاصة، وقد أفادوا - عقائدياً وسياسياً - من غموض أسلوب الرسائل فنسبوها كما فعل الداعي إدريس عماد الدين إلى الأمام المستور أحمد بن عبد الله أو نسبوها إلى الدعوة الطيبية اليمنية كما فعل حسين همداني. والأرجح أن أول ذكرِ للرسائل في المؤلفات الإسماعيلية يرجع إلى سنة 557هـ، وهذا يعني أن صلة الإسماعيلية بالرسائل هي صلة استفادة جرت في اتجاه واحد لاحق بالزمن المرجح لوضع الرسائل. وقد حكم برنارد لويس بأن الرسائل ليست إسماعيلية، بل قريبة منها.

    والثابت أن هذا القرب هو متح الإسماعيلية (وفرقها الفرعية، ومنها ما في قلعة ألموت) من الرسائل، وذيوعها بينهم، وإجلالهم إياها.

    ويكفي أن نلمح إلى أن مذهب الإخوان، وهو إنساني عقلي انتقادي، ينكر الاتّباع والطاعة العمياء، ويرى أن الديانات كلها - وليس الإسلام وحده - تقع على صعيد واحد، يبذّه صعيد الفلسفات وما يكتشفه الباحثون في الكون وفي أنفسهم، أما الإسماعيلية فهي موقف ديني، وهي تُلزم «بآداب اتباع الأئمة» وطاعتهم دوماً، بالدرجة الأولى.

    وفي إثر هذه النظريات المتنوعة «المرفوضة» يعتقد أن معطيات الرسائل تبرهن على استقلال حركة إخوان الصفاء عن جميع الحركات المذكورة وتثبت مباينة غرضهم لأغراضها كافة.

    ومن الراجح القول بأن جماعة إخوان الصفا يمثلون مرحلة متقدمة من مراحل تطور الفكر الاعتزالي المتأخر، وأن مذهبهم مذهب أخلاقي إنساني وتعاوني اشتراكي مثالي: فاسم جماعة إخوان الصفا الكامل يشير هو ذاته في عبارتيه الأخيرتين إلى أنهم «أهل العدل، وأبناء الحمد».

    ولا يخفى أن «أهل العدل» من تسميات المعتزلة، وأن مبدأ العدل ركن أساسي من أركان الاعتزال، وأهله العقلانيون هم المحمودون في نظر الإخوان، لأن الناظم العقلي هو الرباط الإنساني الوحيد الذي يجعل إخوان الصفاء يتجاوزون كلامية المعتزلة السابقين إلى الشمولية الإنسانية للمعتزلة العقلانيين.

    مضمون الرسائل

    تصدت نصوص الرسائل والرسالة الجامعة لجميع فروع المعرفة والعمل، وألمت بالمعطيات العلمية والفلسفية والدينية الذائعة في عصر أصحابها، فبدت جملتها في إهاب موسوعة شاملة تضم فنون الأدب وغرائب العلوم وطرائف الحكم وقد جعلها المؤلفون في أربعة أقسام:

    القسم الأول يشتمل على الرسائل الرياضية التعليمية. وهي تتناول موضوعات العدد، والهندسة، والنجوم، والجغرافية، والموسيقى، والنسب العددية والصنائع العلمية النظرية، والصنائع العملية والأخلاق، كما تبحث موضوعات منطقية مثل ايساغوجي، والمقولات، والعبارة والقياس والبرهان.

    والقسم الثاني يشتمل على الرسائل الجسمانية الطبيعية. ويعالج موضوعات الهيولى والمادة، والسماء والعالم، والكون والفساد، والآثار العلوية، وتكوين المعادن، وأجناس النبات، وتكوين الحيوانات وأصنافها، وماهية الطبيعة، وتركيب الجسد، والحاس والمحسوس، ومسقط النطفة، وأن الإنسان عالم صغير، ونشوء الأنفس الجزئية، وطاقة الإنسان في المعارف، وحكمة الموت والحياة، وخاصية اللذات، وعلل اختلاف اللغات، ورسوم الخطوط والعبارات.

    والقسم الثالث يشتمل على الرسائل النفسانية العقلية. ويبحث في المبادئ العقلية على رأي الفيثاغوريين، والمبادئ العقلية على رأي إخوان الصفاء، ومعنى قول الحكماء أن العالم إنسان كبير، والعقل والمعقول، والأكوار والأدوار، وماهية العشق، وماهية العبث، وكمية أجناس الحركات، والعلل والمعلولات، والحدود والرسوم.

    والقسم الرابع يشتمل على الرسائل الناموسية الإلهية. وهي تتناول الآراء والمذاهب، وماهية الطريق إلى الله، وبيان اعتقاد إخوان الصفاء، وكيفية عشرتهم، وماهية الإيمان وخصال المؤمنين المحققين، وماهية الناموس الإلهي والوضع الشرعي، وكيفية الدعوة إلى الله، وكيفية أفعال الروحانيين، وكمية أنواع السياسات، وكيفية نضد العالم بأسره، وماهية السحر والعزائم.

    ولعل من أبرز ما ينبغي التنبه له هو أن ضروب المعارف المصوغة في الرسائل لا تقرر عَرْضاً موضوعياً لحقائق يؤمن بها الإخوان، بل هي سلاح دعاوة تحث القارئ والسامع، على الانضمام إلى الجماعة «ليرى كل واحد منهم، ويعلم، أنه لا يتم له ما يريد من صلاح معيشة الدنيا، ونيل الفوز والنجاة في الآخرة، إلا بمعاونة كل واحد منهم لصاحبه. وأما السبب الذي يحفظهم على تلك الحال فهو المحبة، والرحمة، والشفقة، والرفق من كل واحد منهم، والمساواة فيما يريد ويحب ويبغض ويكره لنفسه. وهذه الشرائط تتم وتدوم إذا علم كل واحد منهم أن أنفسهم نفس واحدة، وإن كانت أجسادهم متفرقة». ولذا توجد في كل منعطف رسالة، أو فصل، أو فقرة أحياناً، دعوة حارة لتلبية النداء، وحسن اختيار الأخ الجديد، ولا سيما من «الشباب السالمي الصدور، الراغبين في الآداب، المبتدئين بالنظر في العلوم، المريدين طريق الحق والدار الآخرة، التاركين الهوى والجدل، غير المتعصبين على المذاهب».

    وهذا النداء يخاطب الناس كافة لأن للجماعة «إخواناً وأصدقاء من كرام الناس وفضلائهم، متفرقين في البلاد: فمنم طائفة من أولاد الملوك والأمراء والوزراء والعمال والكتّاب، ومنهم طائفة من أولاد الأشراف والدهاقين والتجار والتُّنّاء. ومنهم طائفة من أولاد العلماء والأدباء والفقهاء وحملة الدين. ومنهم طائفة من أولاد الصناع والمتصرفين وأمناء الناس».

    وطبيعي أن يوجب هذا التنوع في النداء تنوعاً في أسلوب الرسائل من حيث استخدام الرمز والتأويل ،والتبسيط والتعقيد، والاقتباس والتضمين، والإيجاز والإسهاب، أي مختلف سبل الترغيب خاصة، كل ذلك ينوس بين وضوح المعطيات العلمية والتعمية الهادفة في النصوص المذهبية، وبذا تختلف مخاطبة المتفلسفين الشاكين في أمر الشريعة، الغافلين عن أسرار الكتب النبوية، عن خطاب الشاكين في أمر النفس، المتحيرين في اختلاف أقاويل العلماء فيها، اختلافها عن مخاطبة العمال والكتّاب، ومخاطبة الملوك والسلاطين، ومخاطبة أهل العلم الغافلين عن أمر النفس، والمعرضين عن معرفة جوهرها، وكذلك عن مخاطبة المتشيعين. وإلى هؤلاء يقول مؤلفو الرسائل: «ومما يجمعنا وإياك أيها الأخ البار الرحيم محبة نبينا عليه السلام وأهل بيت نبيه [كذا] الطاهرين، وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.. وحرمة الأدب والخروج من جملة العوام.. وقد أنفذنا إليك أخاً من إخواننا قد ارتضيناه في بصيرته.. فإذا سمعت أقاويلنا وفهمت معانيها.. أجبتنا بصدق القول..».

    وعلى هذا المنوال يتجه إخوان الصفاء إلى أصحاب العقائد والآراء، حتى إلى الشيعة،وهم ليسوا منهم، لحثهم على اعتناق مذهبهم الذي يجاوز سائر الآراء السائدة، ويتخطى الانحياز «الانعزالي» فيبرأ من التعصب لأي مذهب آخر علمي أو فلسفي أو ديني، فمذهبهم يضم المذاهب كلها، والحقيقة حقيقتهم. يقولون:

    «إن الحق هو ما اجتمعنا عليه الآن». ولذا فإن حقيقتهم لا تصدر عن سواهم، ولا تؤخذ تعليماً عن غيرهم، ولو كان إماماً. وإنما مصدرها رباعي، وطريقة نوالها عقلية. فهم يذكرون أن علومهم مأخوذة من كتب أربعة: أحدها الكتب المصنفة على ألسنة الحكماء والفلاسفة من الرياضيات والطبيعيات، والآخر الكتب المنزلة التي جاء بها الأنبياء عليهم السلام مثل التوراة والإنجيل والفرقان وغيرها، والثالث الكتب الطبيعية، وهي صور أشكال الموجودات بما هي عليه الآن من تركيب الأفلاك وأقسام البروج... وفنون الكائنات من المعادن والحيوان والنبات وأصناف المصنوعات على أيدي البشر، والرابع الكتب الإلهية التي لا يمسها إلا المطهرون الملائكة التي هي بأيدي سفرة كرام بررة، وهي جواهر النفوس وأجناسها وأنواعها.

    وبقول آخر،يجمع مفكرو الإخوان إلى معطيات الثقافة العلمية والفلسفية والدينية المتنوعة معاناة التجربة الكونية والنفسية ليصنعوا من ذلك كله، بأنفسهم، حقيقتهم الإنسانية التي تجعل مذهبهم يستغرق كل المذاهب، وأداتهم الوحيدة هي العقل السليم المعافى البريء من الآفات العارضة كالهوى الغالب نحو شيء ما، والعجب المفرط من المرء برأي نفسه، والكبر المانع عن قبول الحق، والحسد الدائم للأقران وأبناء الجنس، والحرص الشديد على طلب الشهوات، والعجلة وقلة التثبت في الأمور، والبغض والعداوة عند الحكومة والخصومات، وحب الرياسة من غير استحقاق.

    وبهذه الأداة «النوعية» المتميزة يعالج إخوان الصفاء كل ما تتناوله بحوثهم فيحكمون بصواب الآراء أو خلطها ولا يحجمون عن كشف النقاب عن مساوئها وأضرارها وفساد منتحلها. وهذا هو الجانب الانتقادي الذي حمل إخوان الصفاء على اعتماد التنظيم السري، وتمويه عرض ما يعرضون من جوانب مذهبهم كما فعلوا في كلامهم عن خصومة العجماوات وثورتها على البشر، إذ نجد المؤلفين يعبرون، بما لا يحبون الإفصاح عنه، بكلام صريح، ونقد مباشر يفضح آراء معاصريهم وسلوكهم سواء بسواء.

    فمن الآراء الفاسدة المؤلمة لنفوس أصحابها، مثلاً، اعتقاد من يرى أن روح القدس الذي قتلته اليهود، وصلبت ناسوته، ذهب لاهوته لما رأى ما نزل بناسوته من العذاب فتركه مخذولاً. ومنها من يعتقد أن الإمام الفاضل المنتظر الهادي مختف لا يظهر من خوف المخالفين.. فيبقى طوال عمره منتظراً لخروج إمامه، ثم يمضي عمره ويموت حسرة وغصة، لا يعرف إمامه، ولا شخصه. وإنما مسألة الإمامة من أمهات مسائل الخلاف التي كثر فيها القيل والقال، وبدت بين الخائضين فيها العداوة والبغضاء، وجرت بين طالبيها الحروب والقتال.. وهي باقية إلى يومنا هذا.

    إن نفوس الجهال كلها موتى بالقياس إلى نفوس العلماء... وإن حياة النفوس ويقظتها هي المعارف والعلوم. انظر يا أخي بعقلك، وميز ببصيرتك، واختر لنفسك، فالسبيل إلى الشفاء من الجهل والخطأ ماثل في أن «الله جعل في جبلّة الإنسان وطبيعته ألا يأتمر أحد من العقلاء لغيره، ولا يطيعه إلا رغبة أو رهبة». وإن أسوأ الناس مذهباً. وأشنعهم رأياً من يعتقد أمراً ويكون عقله منكراً عليه، ونفسه مرتابة.

    ومما ذهب إليه إخوان الصفاء مما لا يقره الفكر الديني المعاصر لهم عامة، وما يسوّغ لجوء الإخوان إلى الرمز والحكاية على ألسن العجماوات قول (زعيم الطيور) منتقداً: « إعلم أيها الإنسي أن الأنبياء عليهم السلام هم أطباء النفوس ومنجموها. ولا يحتاج إلى الطبيب إلا المرضى وصاحب العلة المزمنة، ولا يحتاج إلى المنجّم إلا المنحوسون الأشقياء والضالون عن نجم الهدى... ثم اعلم أن الغسل والطهارة إنما فُرضت عليكم من أجل ما يعرض لكم عند النكاح وشدة الشبق وشهوة الزنا.. وأما الصوم والصلاة فإنما فرضت عليكم ليكفر عنكم سيئاتكم من الغيبة والنميمة والقبح من الكلام واللعب واللهو والهذيان.. وأما الصدقات والزكاة فإنما فرضت عليكم من أجل أنكم تجمعون من فضول الأموال الحلال والحرام والغصب والسرقة واللصوصية، من البخس في الكيل والموازين وكثرة الجمع والذخائر والإمساك عن النفقة في الواجبات فضلاً عن المسنونات، والبخل والشح والاحتكار ومنع الحقوق». وأما (الببغاء) فيقول: «خذ الآن أيها الإنسي إزاء كل ما ذكرت وافتخرت به بقولك قولاً آخر معكوساً، وبدل كل حسن نسبت أصنافاً أخر قبيحة: وذلك أن عندكم الفراعنة، والنماردة، والجبابرة، والفسقة، والمشركين، والمنافقين، والملحدين، والمارقين، والناكثين، والخوارج، وقطاع الطرق، واللصوص، والعيارين، والطرارين. ومنكم أيضاً الدجالون، والباغون، والطاغون، والمرتابون.

    ومنكم أيضاً القوادون، والمخانيث، والمؤاجرون، واللواطة، والسحاقات، والبغايا. ومنكم أيضاً الغمازون،والكذابون،والنباشون. ومنكم أيضاً السفهاء، والجهال، والأغبياء، والناقصون، وما شاكل هذه الأوصاف والأصناف والطبقات المذمومة أخلاق أهلها، الردية طباعهم، القبيحة سيرتهم وأفعالهم، السيئة سيرهم وأعمالهم»... يستوي في هذا النقد الشعراء، والخطباء، والمتكلمون، والمنجمون، والراقون، والأطباء، والمهندسون، والتجار، والرؤساء، والدهاقين، والكتّاب، والعمال، والقرّاء والعبّاد، والفقهاء، والعلماء، والقضاة، والعدول، حتى الخلفاء «الذين تزعمون أنهم ورثة الأنبياء... الذين يسمون باسم الخلافة، ويسيرون بسيرة الجبابرة، وينهون عن منكرات الأمور، ويرتكبون هم منها كل محظور... اتخذوا عباد الله خولاً، وأيامهم دولاً، وأموالهم مغنماً، فبدّلوا نعمة الله كفراً، واستطالوا على الناس افتخاراً... إذا ولي أحد منهم ابتدأ أولاً بالقبض على من تقدمت له حرمة لآبائه وأسلافه وأزال نعمته، وربما قتل أعمامه وإخوانه وأبناء عمه وأقرباءه وربما كحلهم، أو حبسهم، ونفاهم، وتبرأ منهم..».

    أما مذهب إخوان الصفاء فإنه «ملذ لنفوس معتقديه، مفرح لقلوبهم، مبشر لأرواحهم. فهو سفينة النجاة، الموصلة للمدينة الفاضلة الروحانية» وهي مأوى الأرواح، وينبغي بعد الاجتماع على الشرائط من صفوة الإخوان التعاون لبنائها في مملكة صاحب الناموس الأكبر، فإذا دخلت أيها الأخ «مدينتنا الروحانية، وسرت بسيرتنا المَلَكية، وعملت بسنتنا الزكية، وتفقهت في شريعتنا العقلية فلعلك تؤيد بروح الحياة لتنظر إلى الملأ الأعلى، وتعيش عيش السعداء، فرحاناً مسروراً، ملتذاً مخلداً أبداً بنفسك الباقية الشريفة النيرة الخفية الشفافة لا بجثتك الدنية المظلمة الثقيلة المتغيرة المستحيلة الفاسدة الهالكة».

    وأصحاب هذا المذهب، أولياء الله، يتطلعون في الدنيا إلى تعاونية اشتراكية إنسانية متآخية. أفلا يتفاوت الناس في العلم والمال؟ إذن ينبغي على من رزق المال والعلم جميعاً أن يؤدي شكر ما أنعم الله عليه به بأن يضم إليه أخاً من إخوانه ممن قد حرمها جميعاً، ويواسيه من فضل ما آتاه الله تعالى من المال ليقيم به حياة جسده في دار الدنيا، ويرفده ويعلمه من علمه لتحيا به نفسه للبقاء في دار الآخرة...

    ولا يمنّ عليه بما ينفق عليه من المال، ولا يستحقره، ويعلم أن الذي حرم أخاه هو الذي أعطاه.

    ولكن المعاونة «بقوة الأجسام على أمور الدنيا من أبلغ ما يكون لأبناء الدنيا فيما يريدون، وأسهلها عليهم فيما يقصدون». أما المعاونة بين الإخوان بالعلوم والمعارف فهي أبلغ ما يقصدون؛ لأن أحداً لا يمكن أن يدخل مدينتهم متى لم يكن علمه مساوياً لعلمهم.



    ***************************
    ما زلنا


    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5385
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: إخوان الصفا وخلان الوفا

    مُساهمة من طرف صادق النور السبت أغسطس 21, 2021 9:55 pm

    ولقوة نفوس الإخوان في هذا الأمر أربع مراتب:

    أولها: صفاء جواهر نفوسهم، وجودة القبول، وسرعة التصور،وهي مرتبة أرباب الصنائع في مدينتهم. ويسمون في الرسائل: الإخوان الأبرار الرحماء. وفوق هذه المرتبة مرتبة الرؤساء ذوي السياسة وهي مراعاة الإخوان، وسخاء النفس، وإعطاء الفيض بالشفقة والرحمة والتحنن على الإخوان.. ويسمون في الرسائل: الإخوان الأخيار الفضلاء. والمرتبة الثالثة فوق هذه وهي مرتبة الملوك ذوي السلطان والأمر والنهي، والنصر والقيام بدفع العناد والخلاف، ويسمون في الرسائل: الإخوان الفضلاء الكرام. والرابعة فوق هذه وهي التي يدعى إليها الإخوان كافة في أي مرتبة كانوا، وهي مرتبة التسليم، وقبول التأييد، ومشاهدة الحق عياناً،وعليها ترد قوة المعراج، وبها تصعد إلى ملكوت السماء، وإلى هذه المرتبة أشار الله تعالى بقوله: )يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية(. وإليها أشار إبراهيم ويوسف والمسيح ومحمد وسقراط وفيثاغورس وبلوهر.وإليها يدعو الإخوان إخوانهم جميعاً،ويطلبون إليهم الإقرار باللسان،والتصور لهذا الأمر بضروب الأمثال للوضوح والبيان، والتصديق له بالضمير والاعتقاد له بالاجتهاد في الأعمال.

    ويعلن الإخوان أنهم بذلوا مجهودهم في هداية الضالين،وإرشاد التائهين، وتنبيه الغافلين، وخاطبوا كل قوم وصنف منهم بما هو أصلح أن يخاطبوهم به في رسائلهم. وفي الرسالة الخمسين فصل جامع يقولون فيه: «ونحن نأمرك أيها الأخ السعيد أن تتبع ما أمرناك به فإنك تنال السعادة العظمى ديناً ودنيا إن شاء الله تعالى،وإنما سميناه الفصل الجامع لأنه جمع أصل سعادات المنافع. واعلم أن منفعة الإنسان تكون من وجهتين لا ثالث لهما: دنيوية وأخروية، جسمانية ونفسانية. وإذا كملت للإنسان هاتان السياستان استحق اسم الإنسانية، وتهيأت نفسه لقبول الصور الملكية، والانتقال إلى مرتبة السماوية عند مفارقة الجسد بالحال التي تسمى الموت النازل عليه،والاضمحلال الواصل إليه».

    السياسة الجسمانية مطلب عافية ودفع سقم وأذى. «إنك إذا لم تحمل على جسمك من المآكل والمشارب والباءة والحركة إلا معتدلاً لازمتك العافية، وعدمت الأسقام». والسياسة النفسانية أن تكون «أخلاقك رضية، وعاداتك جميلة، وأفعالك مستقيمة، تؤدي الأمانة إلى أهلها، كائناً من كان، من ولي وعدو، .. وأن تعوّد نفسك عمل الخير لأنه خير، لا تريد بفعلك عوضاً، ولا يحملك على فعله خوف.

    فمتى فعلت لطلب المكافأة لم يكن خيراً، وإن لم تطلب المكافأة، وإن أردت الذكر والاسم كن أيضاً منافقاً،والمنافق لا يستأهل أن يكون في جوار الروحانيين. وأما سياسة الأصحاب فلا تكون إلا بعد المعرفة بهم،والاطلاع عليهم، ومعرفة أحوالهم: أن لا يخفى عليك من أمرهم صغيرة ولا كبيرة لتسوس كل واحد منهم السياسة التي تليق به دنيا وديناً.. فيجب أن تظهر لهم القرب بالبعد، واللين بالغلظة، والأنس بالوحشة والكرم بالشح، والموعظة بإلقاء العلم إليهم بمقدار ما يحتملونه، وبحسب ما يستوجبونه.. ولا تخص أصحاب النسب الجسداني بما لا تبديه لأهل النسب الروحاني».

    «إن كل صداقة تكون لسبب ما. فإذا انقطع ذلك السبب بطلت تلك الصداقة إلا صداقة إخوان الصفاء، فإن صداقتهم قرابة رحم، ورحمهم أن يعيش بعضهم لبعض، ويرث بعضهم بعضاً، وذلك أنهم يرون ويعتقدون أنهم نفس واحدة في أجساد متفرقة» ويلحق بهذه القرابة قرابة الولادة الروحانية بطريق التعليم. «اعلم أن المعلم والأستاذ أب لنفسك وسبب لنشوئها، وعلة حياتها، كما أن والدك أب لجسدك وكان سبباً لوجوده. وذلك أن المعلم يغذي نفسك بالعلوم، ويربيها بالمعارف، ويهديها طريق النعيم، واللذة، والسرور، والأبدية، والراحة السرمدية».

    وقوام هذه العلوم والمعارف في نظر الإخوان بناؤها على أصل واحد، وقياس واحد، وهو صورة الإنسان، «لأن صورة الإنسان أكبر حجة لله على خلقه، ولأنها أقرب إليهم، ودلائلها أوضح، وبراهينها أصح. وهي الكتاب الذي كتبه بيده وهي الهيكل الذي بناه بحكمته، وهي الميزان الذي وضعه بين خلقه، وهي المكيال الذي يكيل لهم به يوم الدين ما يستحقونه من الثواب والجزاء، وهي المجموع فيها صور العالمين جميعاً». وقد لخص إخوان الصفا بأنفسهم المثل الأعلى لمذهبهم الذي يستغرق المذاهب كافة، وهو يعكس في الوقت ذاته حال المعارف والعلوم في زمنهم وبيئتهم، ويمثل مفهومهم عن الإنسان بقولهم إنه «العالم، الخبير، الفاضل، الذكي، المستبصر: الفارسي النسبة، العربي الدين، الحنفي المذهب، العراقي الآداب، العبراني المخبر، المسيحي المنهج، الشامي النسك، اليوناني العلوم، الهندي البصيرة، الصوفي السيرة، الملكي الأخلاق، الرباني الرأي، الإلهي المعارف،الصمداني».

    تأثير إخوان الصفاء

    لا يخفى أن حركة إخوان الصفاء، وقد كانت تشكو دولة الشر، لم تحقق سياسياً وتاريخياً دولة الخير، بالمعنى المادي. ولكن تأثيرها الفكري والثقافي ظل نامياً باطراد لدى أفراد وجماعات. فقد ذكر حاجي خليفة في «كشف الظنون» أن رجلاً من الخراسانيين انتخب كتاباً أسماه «مجمل الحكمة» ألفه بالفارسية، بحذف الحشو وإيضاح الرموز من رسائل إخوان الصفاء. وذهب آ. برييه A.périer إلى أن الفيلسوف يحيى بن عدي كان على علاقة بإخوان الصفاء. ومن المتفق عليه كما يؤكد طه حسين في «ذكرى أبو العلاء» أن المعري قد لقي إخوان الصفاء في بغداد، أو فرعاً من فروع منظمتهم. وقد أشير إلى نقد الغزالي منهجية الإخوان على الرغم من أنه لم يلصق بهم سمة الباطنية. وأشار ابن سبعين إلى تأثر الغزالي برسائل الإخوان. وصرح ابن الهيثم كما ذكر ابن أبي أصيبعة في «عيون الأنباء» بأنه قرأ عدداً من الرسائل أطلعه عليها أحد سكان البصرة. وألمع المحبي في «خلاصة الأثر» إلى تساؤل المفكرين عن تحريم قراءة الرسائل. وعني ابن بشكوال وابن حجر المكي بموضوع الرسائل.

    واقتبس السيد محمد العيناتي وهو من أعلام القرن الحادي عشر الهجري فصولاً كثيرة من رسائل إخوان الصفاء ضمنها كتابه «آداب النفس» المنشور في طهران (1380هـ). ولم تخل «لُمع» الطوسي قديماً من إيراد صفحات من الرسائل.

    أما في الأندلس، فقد عنيت مدرسة المجريطي الكرماني بالرسائل كما ذكرنا. ويرى جرجي زيدان أن ذلك كان منطلق الحركة الفلسفية الإسلامية في بلاد المغرب. وقد اقتبس ابن عربي عبارة الإخوان الشهيرة: «أيدنا الله وإياك بروح منه»، ولاسيما في «الفتوحات المكية». وبرهن آسين بالاسيوس A. Palacios على تأثير الرسائل في القسيس انسلمو تورماداA.Turmeda الذي أسلم في تونس وعمل للسلطان عبد العباس أحمد الحفصي وابنه عبد العزيز. ويذكر عبد اللطيف الطيباوي أن يوسف بن صادق نقل إلى العبرية كتاباً باسم: إخوان الصفاء. وترجم كالونيموس بن كالونيموس Kalonymos fils De Kalonymos إحدى الرسائل في القرن الثالث عشر للميلاد. وأثبت دي ساسيDe Sacy تأثير الرسائل في اليهودي باهيا بن باكودا Bahya Iben Bakuda الذي عاش في القرن الحادي عشر.

    وقد سبقت الإشارة إلى تأثير حركة الإخوان ورسائلهم في فرق إسلامية كثيرة، ولكنه كان بوجه الدقة تأثيراً باتجاه واحد، ولا سيما في الإسماعيلية، وفي ماتفرع عنها، وخاصة الدرزية، وهذا التأثير يعكس آراء إخوان الصفا المصبوغة بالأفلاطونية - الجديدة. ويحكم كازانوفا Casamova.P بأن «مذهب الإخوان الشديد النقاء والسمو قد غدا بين يدي متعصبي الحشاشين الطموحين ينبوع فعال شنيعة». أما اهتمام العلماء الدارسين بموضوع إخوان الصفا ورسائلهم فما برح في الغرب ثم في الشرق آخذاً الاطراد منذ قرنين تقريباً. ولعل هذا الاهتمام الموصول يسوّغ قول مصطفى غالب في كتاب «فلاسفة من الشرق والغرب» إن هذا الموضوع «ملأ الدنيا، وشغل العلماء والمؤرخين، ولا يزال حتى الآن مثاراً للجدل والتخمين».

    ما زلنا
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5385
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: إخوان الصفا وخلان الوفا

    مُساهمة من طرف صادق النور السبت أغسطس 21, 2021 9:57 pm

    من رسائل أخوان اصفا


    اعلم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الوجود متقدم على البقاء، والبقاء متقدم على التمام، والتمام متقدم على الكمال؛ لأن كل كامل تام، وكل تام باقٍ، وكل باقٍ موجود، ولكن ليس كل موجود باقيًا، ولا كل باقٍ تامًّا، ولا كل تامٍّ كاملًا؛ وذلك أن الباري — جلت أسماؤه — الذي هو علة الموجودات ومبدعها ومبقيها ومتمها ومكملها، أول فيض فاض منه الوجود، ثم البقاء ثم التمام ثم الكمال، وقد بيَّنا في الرسالة التي ذكرنا فيها خواص العدد الفرق بين التمام والكمال، فاعرفه من هناك إن شاء الله.


    إنه ينبغي لمن يريد النظر في مبادئ الموجودات ليعرفها على حقائقها أن يقدم أولًا النظر في مبادئ الأمور المحسوسة؛ ليروض بها عقله ويقوي بها فهمه على النظر في مبادئ الأمور المعقولة؛ لأن معرفة الأمور المحسوسة أقرب من فهم المبتدئين وأسهل على المتعلمين، فنقول:

    إن الجسم أحد الموجودات المحسوسة، وهو جوهر مركَّب من جوهرين بسيطين معقولين: أحدهما يقال له الهيولى، والآخر يقال له الصورة؛ فالهيولى هو جوهر قابل للصورة، والصورة هي التي بها الشيء ما هو. مثال ذلك: الحديد هيولى لكل ما يعمل منه كالسكين والسيف والمنشار وغير ذلك؛ فالسكين إنما هي اسم للصورة، وكذلك السيف والفأس؛ لأن الحديد في كلها واحد والصورة مختلفة، واختلاف الأسماء بحسب اختلاف الصور. وكذلك أيضًا الخشب فإنه هيولى لكل ما يعمل منه كالباب والسرير والكرسي.

    وليس كل هيولى تقبل كل صورة؛ لأن الخشب لا يقبل صورة القميص، ولا الشقة تقبل صورة الكرسي، ولا الهيولى تقبل أي صورة تقدمت؛ لأن القطن لا يقبل صورة الشقة، ولا الغزل يقبل صورة القميص. لكن القطن أول ما يقبل صورة الغزل، وبتوسط صورة الغزل يقبل صورة الشقة ثم صورة القميص. وهكذا الطعام أول ما يقبل صورة الدقيق، ثم صورة العجين، ثم صورة الخبز.

    وعلى هذا المثال يكون قبول الهيولى للصور المختلفة، الأول فالأول على الترتيب؛ وذلك أن الهيولى الأولى أول ما قبلت صورة الجسم الذي هو الطول والعرض والعمق، ثم بتوسط الجسم تقبل سائر الصور من التدوير والتثليث والتربيع وما شاكل ذلك. والهيولى يقال على أربع جهات: فأقربها إلى الحس هيولى الصناعة مثل الخشب والحديد والقطن بحسب ما بينا، فإن كل صانع لا بُدَّ له من هيولى يعمل فيه ومنه صناعته. والثاني هيولى الطبيعة وهي النار والهواء والماء والأرض؛ وذلك أن كل شيء تعمله الطبيعة التي تحت فلك القمر من الموجودات، فإن هذه الأركان الأربعة هيولى لها. والثالث هيولى الكل؛ أعني الجسم المطلق الذي يعم الأفلاك والكائنات أجمع. والرابع الهيولى الأولى وهو جوهر قابل للصورة، فأول صورة قبلُ هي الطول والعرض والعمق، وكان بذلك جسمًا مطلقًا، وهذه الهيولى من المبادئ الأولى المعقولة.

    وذلك أن هذه الهيولى أول معلول النفس، والنفس أول معلول العقل، والعقل أول معلول الباري تعالى، وأن الباري تعالى علة كل موجود ومبدعه ومتقنه ومتممه ومكمله على النظام والترتيب الأشرف فالأشرف، وترتيب الموجودات عنه كترتيب العدد عن الواحد الذي قبل الاثنين، كما بيَّنا في الرسالة التي ذكرنا فيها خواص العدد؛ فالعقل هو أول موجود أوجده الباري تعالى وأبدعه من غير واسطة، ثم أوجد النفس بواسطة العقل، ثم أوجد الهيولى؛ وذلك أن العقل جوهر روحاني فاض من الباري عز وجل وهو باقٍ تام كامل، والنفس جوهرة روحانية فاضت من العقل وهي باقية تامة غير كاملة، والهيولى الأولى جوهر روحاني فاض من النفس وهو باقٍ غير تام ولا كامل.


    اعلم أن علة وجود العقل هو وجود الباري عز وجل وفيضه الذي فاض منه، وعلة بقاء العقل هو إمداد الباري عز وجل له بالوجود والفيض الذي فاض أولًا، وعلة تمامية العقل هي قبول ذلك الفيض والفضائل واستمداده من الباري تعالى، وعلة كمال العقل هي إفاضة ذلك الفيض والفضائل على النفس بما استفاده من الباري عز وجل؛ فبقاء العقل إذَنْ علةٌ لوجود النفس، وتمامية العقل علة لبقاء النفس، وكماله علة لتمامية النفس، وبقاء النفس علة لوجود الهيولى، وتمامية النفس علة لبقاء الهيولى؛ فمتى كملت النفس تمت الهيولى، وهذا هو الغرض الأقصى في رباط النفس بالهيولى. ومن أجل هذا دوران الفلك وتكوين الكائنات لتكمل النفس بإظهار فضائلها في الهيولى، وتتم الهيولى بقبول ذلك، ولو لم يكن هذا هكذا لكان دوران الفلك عبثًا.

    واعلم يا أخي أن العقل إنما قبل فيض الباري تعالى وفضائله التي هي البقاء والتمام والكمال دفعة واحدة، بلا زمان ولا حركة ولا نصب؛ لقربه من الباري عز وجل وشدة روحانيته. فأما النفس فإنه لما كان وجودها من الباري جل ثناؤه بتوسط العقل، صارت رتبتها دون العقل، وصارت ناقصة في قبول الفضائل، ولأنها أيضًا تارة تتوجه نحو العقل لتستمد منه الخير والفضائل، وتارة تُقبل على الهيولى لتمدها بذلك الخير والفضائل، فإذا هي توجهت نحو العقل لتستمد منه الخير اشتغلت عن إفادتها الهيولى ذلك الخير، وإذا هي أقبلت على الهيولى لتمدها بذلك الفيض اشتغلت عن العقل وقبول فضائله.

    ولما كانت الهيولى ناقصة الرتبة عن تمام فضائل النفس وغير راغبة في فيضها، احتاجت النفس إلى أن تُقبل عليها إقبالًا شديدًا، وتُعنى بإصلاحها عناية تامة، فتتعب ويلحقها العناء والشقاء في ذلك.

    ولولا أن الباري عز وجل بفضله ورحمته أيَّدها بالعقل وأعانها على تخليصها، لهلكت النفس في بحر الهيولى، كما قال الله تعالى: وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا، وأما العقل فليس يناله في تأييدِه النفسَ وفيضِه عليها فضائلَه تعبٌ ولا نصبٌ؛ لأن النفس جوهرة روحانية سهلة القبول، تطلب فضائل العقل وترغب في خيراته وهي حية بالذات علامة بالقوة فعالة بالطبع قادرة صانعة بالعرض.

    وأما الهيولى فلِبعدها من الباري — تعالى ذكره — صارت ناقصة المرتبة، عادمة الفضائل، غير طالبة لفيض النفس ولا راغبة في فضائلها، ولا علامة ولا مفيدة ولا حية، بل قابلة حسب، فمن أجل هذا يلحق النفس التعب والعناء والجهد والشقاء في تدبيرها الهيولى وتتميمها لها، ولا راحة للنفس إلا إذا توجهت نحو العقل وتعلقت به واتحدت معه، وسنشرح كيف يكون هذا فيما بعد إن شاء الله.


    ما زلنا
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5385
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: إخوان الصفا وخلان الوفا

    مُساهمة من طرف صادق النور السبت أغسطس 21, 2021 9:59 pm


    كيف سريان الوجود في الموجودات – كيف سريان البقاء في الباقيات – كيف سريان الدوام في الدائمات – كيف سريان التمام في التامات – كيف سريان الكمال في الكاملات – كيف سريان الحياة في الأحياء – كيف سريان العلم في ذوي العلم – كيف سريان القدرة في ذوي القدرة – كيف سريان الرياسة في ذوي الرياسة – كيف سريان الربوبية في ذوي الأرباب – كيف سريان الكثرة من الوحدة المحضة؟

    وقال بعضهم، ولَنعم ما قيل:

    يا منير العالم الحسي بالعقل المنير أنت مُبدي الكل ما زلتَ على مرِّ الدهور
    لم يزل في علمك العالم من قبل الظهور متقن الصنعة كالصورة في وهم الضمير
    ثم أظهرْت إلى الوجدان إظهار البصير جملة أبدعتَها إبداع خلَّاق قدير


    اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن أول شيء اخترعه الله جل ثناؤه وأوجده جوهرٌ بسيط روحاني في غاية التمام والكمال والفضل، فيه صور جميع الأشياء؛ يسمى العقل الفعال، وأن من ذلك الجوهر فاض جوهر آخر دونه في الرتبة يسمى «الرتبة الكلية»، وانبجس من النفس جوهر آخر يسمى الهيولى الأولى، وأن الهيولى الأولى قبل المقدار الذي هو الطول والعرض والعمق، فصارت بذلك جسمًا مطلقًا؛ وهو الهيولى الثانية.

    ثم أن الجسم قبل الشكل الكري — الذي هو أفضل الأشكال — فكان من ذلك عالم الأفلاك والكواكب ما صفا منه ولطف، الأول فالأول من لدن الفلك المحيط إلى منتهى فلك القمر، وهي تسع أكر بعضها في جوف بعض، فأدناها إلى المركز فلك القمر، وأبعدها وأعلاها الفلك المحيط، ويسمى أيضًا الفلك الحامل للكل، الذي هو ألطف الأفلاك جوهرًا وأبسطها جسمًا، ثم دونه فلك الكواكب الثابتة، ثم دونه فلك زحل، ثم دونه فلك المشتري، ثم دونه فلك المريخ، ثم دونه فلك الشمس، ثم دونه فلك الزهرة، ثم دونه فلك عطارد، ثم دونه فلك القمر، ثم دون فلك القمر الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض؛ فالأرض هي المركز وهي أغلظ الأجسام جوهرًا وأكثفها جرمًا.

    ولما ترتبت هذه الأكر بعضها في جوف بعض، كما أراد باريها جل ثناؤه، وكما اقتضت حكمته، من لطيف نظامها وحسن ترتيبها، ودارت الأفلاك بأبراجها وكواكبها على الأركان الأربعة، وتعاقب عليها الليل والنهار، والشتاء والصيف، والحر والبرد، واختلط بعضها ببعض، فامتزج اللطيف منها بالكثيف، والثقيل بالخفيف، والحار بالبارد، والرطب باليابس؛ تركبت منها على طول الزمان أنواع التراكيب التي هي المعادن والنبات والحيوان.

    فالمعدن هو كل ما انعقد في باطن الأرض وقعر البحار وجوف الجبال من البخارات المتحللة والدخانات المتصاعدة والرطوبات المحتقنة في المغارات، والأهوية والترابية عليها أغلب.

    وأما النبات فهو كل ما نجم على وجه الأرض من العشب والكلأ والحشائش والبقول والزروع والأشجار، والمائية عليها أغلب.

    وأما الحيوان فهو كل جسم يتحرك ويحس وينتقل من مكان إلى مكان بجثته، والهوائية عليه أغلب.

    فالمعادن أشرف تركيبًا من الأركان، والنبات أشرف تركيبًا من المعادن، والحيوان أشرف تركيبًا من النبات، والإنسان أشرف تركيبًا من جميع الحيوان، والنارية عليه أغلب.

    وقد اجتمع في تركيب الإنسان جميع معاني الموجودات من البسائط والمركبات التي تَقدَّم ذكرها؛ لأن الإنسان مركب من جسد غليظ جسماني ومن نفس بسيطة روحانية.

    فمن أجل هذا سَمَّت الحكماءُ الإنسانَ عالمًا صغيرًا، والعالمَ إنسانًا كبيرًا؛ فالإنسان إذا ما هو عَرَفَ نفسه بالحقيقة من غرائب تركيب جسده ولطيف بنية هيكله وفنون تصاريف قوى النفس فيه وإظهار أفعالها به ومنه، من الصنائع المحكمة والمهن المتقنة؛ تهيأ له أن يقيس عليها جميع معاني المحسوسات ويستدل بها على جميع معاني المعقولات من العالمين جميعًا.

    فينبغي لنا أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه — إذا كنا عازمين على معرفة حقائق الموجودات — أن نبتدئ أولًا بمعرفة أنفسنا؛ إذ هي أقرب الأشياء إلينا، ثم بعد ذلك بمعرفة سائر الأشياء؛ لأنه قبيح بنا أن ندَّعي حقائق الأشياء ولا نعرف أنفسنا.


    اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن النفس الكلية إنما هي قوة روحانية فاضت من العقل بإذْن الباري جل ثناؤه، كما ذكرنا قبل، وأن لها قوتين اثنتين ساريتين في جميع الأجسام، من لدن فلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض، كسريان ضوء الشمس في جميع أجزاء الهواء؛ فإحدى قوتيها علامة، والأخرى فعالة، فهي بقوتها الفعالة تتمم الأجسام وتكملها بما تنقش فيها من الصور والأشكال والهيئات والزينة والجمال بألوان الأصباغ، وبالقوة العلامة تكمل ذاتها بما يظهر من فضائلها من حد القوة إلى حد الفعل من العلوم الحقيقية، والأخلاق الجميلة، والآراء الصحيحة، والأعمال الصالحة، والصنائع المحكمة، والمهن المتقنة، بحسب قبول شخص تأثيراتها بصفاء جوهره ولطافة جرمه.



    واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن النفس جوهرها لا يبيد وقواها لا تفنى وأفعالها لا تنقطع؛ لأن مادتها من العقل بالتأييد لها دائم وقبولها منه الفيض سرمدًا متصل.

    وهكذا تأييد الباري تعالى للعقل دائمًا وأبدًا وفيضه متصل وقبول العقل لذلك متصل دائم؛ لأن فضائل الباري تعالى لا تفنى وعطاياه لا تنقطع وفيضه لا يتناهى؛ لأنه ينبوع الخيرات، مبدأ البركات، ومعدن الجود وسبب كل موجود، فله الحمد والثناء، والشكر والعطاء.
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5385
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: إخوان الصفا وخلان الوفا

    مُساهمة من طرف صادق النور السبت أغسطس 21, 2021 10:01 pm


    واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن النفس الكلية رتبتها فوق الفلك المحيط، وقواها سارية في جميع أجزاء الفلك وأشخاصه بالتدبير والصنائع والحكم، وفي كل ما يحوي الفلك من سائر الأجسام، وأن لها في كل شخص من أشخاص الفلك قوة مختصة به مدبرة له مظهرة منه أفعالها، وأن تلك القوة تسمى نفسًا جزئية لذلك الشخص؛ مثال ذلك القوة المختصة بجرم زحل المدبرة له المظهرة منه وبه أفعالها يسمى نفس زحل.

    وهكذا القوة المختصة بجرم المشتري المدبرة له المظهرة به ومنه أفعالها يسمى نفس المشتري.

    وعلى هذا المثال والقياس سائر القوى المختصة بكوكب كوكب وجرم جرم من أجرام الفلك وأشخاصه المدبرة لها المظهرة بها ومنها أفعالها تسمى نفوسًا لها.

    وهذا هو حقيقة ما قد رمز إليه في الكتب الإلهية أنهم الملائكة والملأ الأعلى وجند الله الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

    وهذا هو حقيقة ما قالت الحكماء والفلاسفة في تفصيل النفوس الجزئية في عالم الأفلاك والأركان، المسمَّون الروحانيين الموكلين بحفظ العالم وتدبير الخلائق بإدارة الأفلاك، وجريان الكواكب، وتصاريف الدهور، وتغاير الأزمان، ومراعاة الأركان، وتربية النبات والحيوان وحفظهما.



    اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن للنفس الكلية التي هي فوق الفلك المحيط قوة مختصة سارية في جميع الأجسام التي دون فلك القمر، وهي مدبرة لها، متصرفة فيها، مظهرة بها.

    ومنها أفعالها، ويسميها الفلاسفة والأطباء طبيعة الكون والفساد، ويسميها الناموس ملكًا من الملائكة، وهي نفس واحدة ولها قوًى كثيرة منبثة في جميع أقسام الحيوان والنبات والمعادن والأركان الأربعة، من لدن فلك القمر إلى منتهى مركز الأرض.

    وما من جنس ولا نوع ولا شخص من هذه الموجودات إلا ولهذه النفس قوة مختصة به مدبرة له مظهرة به، ومنه أفعالها، وإن تلك القوة تسمى نفسًا جزئية لذلك الشخص


    اعلم أن أول قوة لهذه النفس في هذه الأركان التي هي النار والهواء والماء والأرض، هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة.

    وأن أول أفعال هذه القوى في هذه الأسطقسات هو التحريك والتسكين، والتبريد والتسخين، والتحليل والتجميد، والتصعيد والتقطير، والخلط والمزج، والتأليف والتركيب، والتصوير والتنقيش والتصبيغ وما شاكلها. وكل ذلك بفعل هذه القوى في هذه الأسطقسات بمعاونة قوى الأشخاص الفلكية لها بإذن الله تعالى. مثال ذلك تحريكها لركن النار لتسخين العالم بمعاونة قوة الشمس لها دائمًا، وتسكينها لركن الأرض بمعاونة قوة زحل لها دائمًا، وتحليلها لركن الماء بالسيلان بمعاونة قوة المشتري لها دائمًا، وتلطيفها لركن الهواء بمعاونة قوة المريخ لها دائمًا، وتقطيرها لركن البخار الرطب بمعاونة قوة الزهرة لها دائمًا، وتمزيجها لركن البخار اليابس بالبخار الرطب بمعاونة قوة عطارد لها دائمًا، وإمدادها للمولدات بركن العصارات بمعاونة ركن قوة القمر لها دائمًا.



    واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن أول فعل هذه القوى — أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة — في تكوين المعادن صنعة الزئبق والكبريت؛ وذلك أن الرطوبات المحتقنة في باطن الأجسام الأرضية والبخارات المحتبسة فيها، إذا تعاقب عليها حر الصيف وحرارة المعدن لطفت وخفت، وتصاعدت علوًّا إلى سقوف تلك الأهوية والمغارات، وتعلقت هناك زمانًا، فإذا تعاقب عليها برد الشتاء غلظت وجمدت وتقاطرت راجعةً إلى أسفل تلك الأهوية والمغارات، واختلطت بتربة تلك البقاع ومكثت هناك زمانًا طويلًا، وحرارة المعادن دائمًا تعمل في إنضاجها وطبخها وتصفيتها؛ فتصير تلك الرطوبة المائية بما يختلط بها من الأجزاء الترابية وما تأخذ من ثقلها وغلظها بطول الوقت وإنضاج الحرارة لها زئبقًا رطبًا ثقيلًا، وتصير تلك الأجزاء الترابية التي في أسفل المعادن بما يمازجها من الرطوبة الدهنية وإنضاج الحرارة لها كبريتًا محترقًا، فإذا اختلط الزئبق والكبريت مرة ثانية وتمازجا — والتدبير بحاله — تركب من امتزاجهما أجناس الجواهر المعدنية وأنواعها.

    مثال ذلك في تركيب الجواهر الذائبة أن الزئبق إذا كان صافيًا والكبريت إذا كان نقيًّا واختلطا جميعًا اختلاطًا سويًّا، وشرب الكبريت رطوبة الزئبق كما شرب التراب نداوة الماء، واتحدت أجزاؤهما على الاعتدال، وكان مقداراهما متناسبين، وحرارة المعدن تنضجهما على اعتدال، ولم يعرض لهما عارض من البرد واليبس، قبل إنضاجهما؛ انعقد من ذلك على طول الزمان الذهب الإبريز، فإن عرض لهما البرد قبل النضج انعقد فصار فضة بيضاء، فإن عرض لهما اليبس من فرط الحرارة صارا نحاسًا يابسًا، وإن عرض لهما البرد قبل أن تتحد أجزاء الكبريت بأجزاء الزئبق صارا من ذلك رصاصًا قلعيًّا، وإن عرض لهما البرد قبل النضج وكانت أجزاء الكبريت أكثر صارا حديدًا، وإن كان الزئبق أكثر والكبريت أقل والحرارة ضعيفة انعقد منهما الأسرب. وعلى هذا القياس تختلف سائر أجناس الجواهر المعدنية بسبب العوارض التي تعرض لها من كثرة الزئبق والكبريت وقلتهما أو فرط الحرارة والبرودة قبل وقت نضجهما والخروج عن الاعتدال وما شاكل ذلك.
    ****************
    ما زلنا
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5385
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: إخوان الصفا وخلان الوفا

    مُساهمة من طرف صادق النور السبت أغسطس 21, 2021 10:05 pm


    واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الباري جل ثناؤه قد أيد النفس النباتية بسبع قوًى فعالة؛ وهي: القوى الجاذبة، والقوة الماسكة، والقوة الهاضمة، والقوة الدافعة، والقوة الغاذية، والقوة المصورة، والقوة النامية. وأنها تفعل بكل قوة من هذه فعلًا خلاف ما تفعله بقوة أخرى؛ فأول فعلها في تكوين النبات هو جذبها عصارات الأركان الأربعة، التي هي الأرض والماء والهواء والنار، ومصها لطائفها وما فيها من الأجزاء المشاكلة لكل نوع من أنواع النبات، ثم إمساكها لها بالقوة الماسكة لئلا تسيل وتحلل وتنعكس راجعة، ثم تنضيجها لها بالقوة الهاضمة لتحيلها إلى ذاتها، ثم دفعها لها بالقوة الهاضمة لتحيلها إلى ذاتها، ثم دفعها لها بالقوة الدافعة إلى أقطارها، ثم تغذيتها بالقوة الغاذية، ثم النمو والزيادة فيها بالقوة النامية، ثم التصوير لها بأنواع الأشكال والأصباغ بالقوة المصورة.

    مثال ذلك أن القوة الجاذبة إذا امتصت نداوة التراب بعروق النبات وجذبتها كما يمص الحجام الدم بالحجمة، أو كما تمص النار الدهن بالفتيلة؛ انجذبت معها الأجزاء الترابية لشدة اتحادها بها، فإذا حصلت تلك المادة في عروق النبات أنضجتها القوة الهاضمة، وصيرتها مشاكِلة لجرم العروق، وتناولتها القوة الغاذية وألزقت بكل شكل من تلك الأعضاء والمفاصل ما يلائمه القوة المصورة، وزادت النامية في أقطارها طولًا وعرضًا وعمقًا، وما فضلت من تلك المادة ولطفت ورقت دفعتها القوة الدافعة إلى فوق في أصول النباتات وقضبانها وفروعها وأغصانها، وجذبتها الجاذبة إلى ما هناك، وأمسكتها الماسكة كي لا تسيل راجعة إلى أسفل، ثم إن القوة الهاضمة طبختها مرة ثانية وصيرتها مشاكِلة لجرم الأصول والفروع والأغصان، ومادة لها فزادت في أقطارها طولًا وعرضًا وعمقًا، وما ثقلت من تلك المادة ولطفت ورقت دفعتها الدافعة إلى أعلى الفروع والأغصان، وجذبتها الجاذبة إلى هناك، وأمسكتها الماسكة، ثم أن القوة الهاضمة طبختها مرة ثالثة وصيرتها مشاكلة لجرم الورق والنور والزهر وأكمام الحب والثمر وما شاكل ذلك، ومادة لها وزادت في أقطارها طولًا وعرضًا وعمقًا، وما لطفت من تلك المادة ورقت صيرتها مادة للحب والثمر وأمسكتها الماسكة هناك، ثم إن القوة الهاضمة طبختها مرة رابعة وأنضجتها ولطفتها وميزت منها اللطيف من الكثيف، والغليظ من الدقيق، وصيرت الغليظ والكثيف مادة لجرم القشر والنوى، وزادت في أقطارها طولًا وعرضًا وعمقًا، وصيرت اللطيف والرقيق مادة للب والحب والثمر، وهي الدقيق والشيرج والدهن والدبس والطعم واللون والرائحة.

    فإذا تناول الحيوان لب النبات ليتغذى به، وحصلت تلك المادة في المعدة، فأول فعل هذه القوى فيها فعل القوة الهاضمة بالحرارة الغريزية، ثم تصفيتها في المعى وجذب الكيموس إلى الكبد، ثم تنضيجها مرة أخرى، ثم تمييز الأخلاط بعضها من بعض، وهي الدم والبلغم والمُرَّتان، ثم دفعها إلى الأعضاء والأوعية المعدَّة لقبولها، ثم تقسيط الدم على الأعضاء والمفاصل بالأوراد، ثم تغذيته لكل عضو بما يشاكله من تلك المادة، ثم النمو والزيادة في أقطارها طولًا وعرضًا وعمقًا، ثم استخراج النطفة من جميع أجزاء بدن الفحل عند حركة الجماع، وهي زبدة الدم، ثم نقلها إلى رحم الأنثى بالآلات المعدَّة لذلك.

    وأما فعل هذه القوى في تركيب جسد الإنسان عند حصول النطفة في الرحم، وتدبيرها لها تسعة أشهر حالًا بعد حال، إلى أن تستتم بنْية الجسد وتستكمل هناك صورته؛ فقد شرحناها في رسالة أخرى غير هذه.

    فإذا تمت له المدة المقدَّرة التي قدرها الباري جل ثناؤه نقلته، قوة النفس الحيوانية الحساسة بإذن الله تعالى من ذلك المكان إلى فسحة هذه الدار استؤنف به تدبير آخر إلى تمام أربع سنين، ثم تُردُّ القوة الناطقة المعبرة لأسماء المحسوسات وتستأنف به تدبيرًا آخر إلى تمام خمس عشرة سنة، ثم ترد القوة العاقلة المميزة لمعاني المحسوسات وتستأنف به تدبيرًا آخر إلى تمام ثلاثين سنة، ثم ترد القوة الحكمية المستبصرة لمعاني المعقولات وتستأنف به تدبيرًا آخر تمام أربعين سنة، ثم ترد القوة الملكية المؤيدة وتستأنف به تدبيرًا آخر إلى تمام خمسين سنة، ثم ترد القوة الناموسية الممهدة للمعاد المفارقة للهيولى وتستأنف به تدبيرًا آخر إلى آخر العمر. فإن تكن النفس قد تمت واستكملت قبل مفارقة الجسد نزلت قوة المعراج فَرَقَتْ بها إلى الملأ الأعلى وتستأنف تدبيرًا آخر، وإن لم تكن النفس قد تمت واستكملت قبل مفارقة الجسد رُدت إلى أسفل سافلين، ثم استؤنف بها التدبير من الرأس كما ذكر الله تعالى فقال: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ، وقال تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ، وقال سبحانه: ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا.



    واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الله تعالى لما كان تام الوجود كامل الفضائل عالمًا بالكائنات قبل كونها قادرًا على إيجادها متى شاء، لم يكن من الحكمة أن يحبس تلك الفضائل في ذاته فلا يجود بها ولا يغيضها، فإذَنْ بواجب الحكمة أفاض الجود والفضائل منه كما يفيض من عين الشمس النور والضياء، ودام ذلك الفيض منه متصلًا متواترًا غير منقطع، فيسمى أول ذلك الفيض العقل الفعال، وهو جوهر بسيط روحاني نور محض في غاية التمام والكمال والفضائل، وفيه صور جميع الأشياء، كما تكون في فكر العالم صور المعلومات، وفاض من العقل الفعال فيض آخر دونه في الرتبة يسمى العقل المنفعل، وهي النفس الكلية، وهي جوهرة روحانية بسيطة قابلة للصور والفضائل من العقل الفعال على الترتيب والنظام، كما يقبل التلميذ من الأستاذ التعليم.

    وفاض من النفس أيضًا فيض آخر دونها في الرتبة يسمى الهيولى الأولى، وهي جوهرة بسيطة روحانية قابلة من النفس من الصور والأشكال بالزمان شيئًا بعد شيء، فأول صورة قبلت الهيولى الطول والعرض والعمق، فكانت بذلك جسمًا مطلقًا، وهو الهيولى الثانية، ووقف الفيض عند وجود الجسم ولم يَفِضْ منه جوهر آخر؛ لنقصان رتبته عن الجواهر الروحانية وغلظ جوهره وبُعده من العلة الأولى. ولما دام الفيض مِن الباري تعالى على العقل، ومِن العقل على النفس، عطفت النفس على الجسم، فصورت فيه الصور والأشكال والأصباغ لتتمه بالفضائل والمحاسن بحسب ما يمكن من قبول الجسم وصفاء جوهره.

    فأول صورة عملَتِ النفس في الجسم الشكل الكري الذي هو أفضل الأشكال كلها، وحركته بالحركة الدورية التي هي أفضل الحركات، ورُتبتْ بعضُها في جوف بعض من لدن الفلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض، وهي إحدى عشرة كرة، فصار الكل عالَمًا واحدًا منتظمًا نظامًا كليًّا واحدًا، وصارت الأرض أغلظَ الأجسام كلها وأشدَّها ظلمة لبُعدها من الفلك المحيط، وصار الفلك المحيط ألطفَ الأجسام كلها وأشدَّها روحانية وأشفَّها نورًا لقربها من الهيولى الأولى التي هي جوهر بسيط معقول، وصارت الهيولى أنقص رتبة من العقل والنفس لبُعدها من الباري جل وعز.

    وذلك أن الهيولى هي جوهرة بسيطة روحانية معقولة غير علامة ولا فعالة، بل قابلةٌ آثارَ النفس بالزمان، منفعلة لها. وأما النفس فإنها جوهرة بسيطة روحانية علامة بالقوة فعالة بالطبع، قابلةٌ فضائلَ العقل بلا زمان، فعالة في الهيولى بالتحريك لها بالزمان. وأما العقل فإنه جوهر بسيط روحاني، أبسط من النفس وأشرف منها، قابلٌ لتأييد الباري تعالى، علام بالفعل مؤيد للنفس بلا زمان. وأما الباري تعالى فهو مبدع الجميع وخالق الكل، فالمُبدِع لا يشبه المُبدَع، وكذلك الخالق لا يشبه المخلوق، والفاعل لا يشبه المفعول بوجه من الوجوه وسبب من الأسباب؛ فتبارك الله رب العالمين وأرحم الراحمين.

    فانتبهْ أيها الأخ من نوم الغفلة ورقدة الجهالة قبل أن يُنفخ في الصور وتقول يا حسرتى على ما فرطت، وينادي المنادي من الملأ الأعلى ألا قد سعد فلان وشقي فلان! واجتهِدْ أن تكون من السعداء الذين هم من أصحاب اليمين وتكون في سدر مخضود وطلح منضود، واجتهِدْ ألَّا تكون من الأشقياء الذين هم أصحاب الشمال في سموم وحميم وظِلٍّ من يحموم لا بارد ولا كريم، واعتصمْ بحبل الله المتين، واجتنبْ الشيطان الرجيم؛ عسى أن تصير من الذين أنعم الله عليهم، ولا تصير من المغضوب عليهم ولا الضآلين.


    اعلم يا أخي أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه قد بحث الفلاسفة والعلماء والحكماء في مبادئ الموجودات عن أصول الكائنات، فسنح لقومٍ منهم غير ما سنح للآخرين؛ وذلك أنه سنح لقوم من الثنوية الأمور المثنوية، ولقوم من النصارى الأمور الثلاثية، ولقوم من الطبيعيين الأمور الرباعية، ولقوم آخرين السداسية، ولقوم من الخرمية الأمور الخماسية، ولقوم آخرين الأمور السداسية، ولقوم آخرين الأمور السباعية، ولقوم آخرين من الموسيقيين الأمور الثُّمانية، ولقوم آخرين من الهند الأمور التُّساعية. وأطنبت كل طائفة في ذكرِ ما سنح لها وشغفت به وأغفلت ما سوى ذلك. فأما الحكماء الفيثاغوريون فأَعطَوا كل ذي حق حقه؛ إذ قالوا إن الموجودات بحسب طبيعة العدد كما سنبين طرفًا منه في هذه الرسالة، وهذا مذهب إخواننا — أيدهم الله — وبحسب رأيهم في وضع الأشياء مواضعها وترتيبهم حق مراتبها على المجرى الطبيعي والنظام الإلهي.


    اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الله جل ثناؤه لما أبدع الموجودات واخترع المخلوقات، نَظَمَها ورتبها في الوجود كمراتب الأعداد عن الواحد لتكون كثرتُها دالةً على وحدانيته، وترتيبُها ونظامُها دالَّيْن على إتقان حكمته في صنعها، ولتكون أيضًا نسبتها إلى الذي هو خالقها ومبدعها كنسبة الأعداد إلى الواحد الذي قبل الاثنين، الذي هو أصلها ومبدؤها ومنشؤها، كما بيَّنا في رسالة الأرثماطيقي، وذلك أن الباري جل ثناؤه لما كان واحدًا بالحقيقة من جميع الوجوه والمعاني لم يَجُزْ أن يكون المخلوقٌ المخترَع واحدًا بالحقيقة، بل وجب أن يكون واحدًا متكثرًا مثنويًّا مزدوجًا؛ وذلك أن الباري جل ثناؤه أول ما بدأ بفعل واحد مفعولًا واحدًا متحدًا بفعله الذي هو علة العلل، فلم يكن واحدًا بالحقيقة بل فيه مثنوية؛ فلذلك قالوا إنه أَوجَدَ واخترع أشياء مثنوية مزدوجة وجعلها قوانين الموجودات وأصول الكائنات.

    فمِن ذلك ما قالت الحكماءُ الفلاسفةُ الهيولى والصورة، ومنهم من قال النور والظلمة، ومنهم من قال الجوهر والعرض، ومنهم من قال الخير والشر، ومنهم من قال الإثبات والنفي، ومنهم من قال الإيجاب والسلب، ومنهم من قال الروحاني والجسماني، ومنهم من قال اللوح والقلم، ومنهم من قال الفيض والعقل، ومنهم من قال المحبة والغلبة، ومنهم من قال الحركة والسكون، ومنهم من قال الوجود والعدم، ومنهم من قال النفس والروح، ومنهم من قال الكون والفساد، ومنهم من قال الدنيا والآخرة، ومنهم من قال العلة والمعلول، ومنهم من قال المبدأ والمعاد، ومنهم من قال القبض والبسط.

    وعلى هذا القياس توجد أشياء كثيرة طبيعية مزدوجة أو متضادة كالمتحرك والساكن، والظاهر والباطن، والعالي والسافل، والخارج والداخل، واللطيف الكثيف، والحار والبارد، والرطب واليابس، والزائد والناقص، والجماد والنامي، والناطق والصامت، والذكر والأنثى من كل زوجين اثنين.

    وهكذا توجد تصاريف أحوال الموجودات من الحيوان والنبات؛ كالحياة والممات، والنوم واليقظة، والمرض والصحة، والألم واللذة، والبؤس والنعمة، والسرور والغمة، والحزن والفرح، والصلاح والفساد، والضر والنفع، والخير والشر، والسعادة والمنحسة، والإدبار والإقبال.

    وهكذا توجد أحكام الأمور الوضعية والشرعية؛ كالأمر والنهي، والوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، والطاعة والمعصية، والمدح والذم، والعقاب والثواب، والحلال والحرام، والحدود والأحكام، والصواب والخطأ، والحسن والقبيح، والصدق والكذب، والحق والباطل.

    وعلى هذه الأمور توجد الأمور المثنوية المزدوجة المتضادة، وبالجملة من كل زوجين اثنين.

    واعلم يا أخي أنه لمَّا لم يكن من الحكمة أن تكون الأمور الموجودة كلها مثنوية مزدوجة، جعل بعضها مثلثات وبعضها مربعات ومخمسات ومسدسات ومسبعات، وما زاد بالغًا ما بلغ كما سنذكر منها طرفًا بعد هذا الفصل إن شاء الله.

    واعلم يا أخي أن الموجودات كلها نوعان، لا أقل ولا أكثر، كليات وجزئيات حسْب؛ فالكليات تسع مراتب، محفوظ نظامها ثابتة أعيانها، وهي كتسعة آحادٍ أولُها البارئ الواحد الفرد جل ثناؤه، ثم العقل ذو القوتين، ثم النفس ذات الثلاثة الألقاب، ثم الهيولى الأولى ذات الأربع الإضافات، ثم الطبيعة ذات الخمسة الأسماء، ثم الجسم ذو الست الجهات، ثم الفلك ذو السبع المدبرات، ثم الأركان ذات الثَّمانية المزاجات، ثم المكونات ذات التسعة الأنواع.


    ********************
    ما زلنا
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5385
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: إخوان الصفا وخلان الوفا

    مُساهمة من طرف صادق النور السبت أغسطس 21, 2021 10:08 pm


    واعلم أن الباري جل ثناؤه هو أول الموجودات، كما أن الواحد هو قبل كل الأعداد؛ وكما أن الواحد هو نشوء الأعداد، كذلك الباري مُوجِد الموجودات؛ وكما أن الاثنين أول الأعداد والأعداد ترتبت عن الواحد، كذلك العقل أول موجود أبدعه الباري جل وعلا واخترعه، فمن غريزي ومكتسب دليل على رتبته في الموجودات؛ وكما أن الثلاثة ترتبت بعد الاثنين، كذلك النفس ترتبت في الوجود بعد العقل وصارت أنواعها ثلاثة؛ نباتية وحيوانية وناطقة، لتكون دالة على رتبتها في الموجودات له، ثم أوجَدَ الباري جل ثناؤه الهيولى كما ترتبت الأربعة بعد الثلاثة.

    ومن أجل هذا قيل إن الهيولى أربعة أنواع: هيولى الصناعة، وهيولى الطبيعة، وهيولى الكل، والهيولى الأولى؛ لتكون هذه الأربعة الأركان دالةً على مَرتبتها في الموجودات، ثم الطبيعة ترتبت بعد الهيولى كما أن الخمسة ترتبت بعد الأربعة.

    ومن أجل هذا قيل إن الطبائع خمس: إحداها طبيعة الفلك، وأربع تحت الفلك، ثم تَرتَّبَ الجسم بعد الطبيعة كما ترتبت الستة بعد الخمسة.

    ومن أجل هذا قيل إن الجسم له ست جهات، ثم تَركَّبَ الفلك من الجسم وترتب بعده كما ترتبت السبعة بعد الستة.

    ومن أجل هذا صار أمر الفلك يجري على سبعة كواكب مدبرات ليكون دلالة على رتبته في الموجودات، ثم ترتبت الأركان في جوف الفلك كما ترتبت الثمانية بعد السبعة.

    ومن أجل هذا قيل إنها ذات ثمانية مزاجات؛ فالأرض باردة يابسة، والماء بارد رطب، والهواء حار رطب، والنار حارة يابسة؛ لتكون هذه الثمانية الأوصاف دالةً على رتبتها في الموجودات، ثم تولدت المولدات الثلاثة الأجناس ذات التسعة الأنواع لتكون دالةً على مرتبتها في الموجودات الكليات وهي آخرها كلها، كما أن التسعة آخر مرتبة الآحاد وهي الكائنات المولدات من الأركان الأربعة التي هي الأمهات، وهي المعادن والنبات والحيوان، والمعادن ثلاثة أنواع: ترابية لا تذوب ولا تحترق كالزاجات والكحل، وحجر يذوب ولا يحترق كالذهب والفضة والنحاس وما شاكلها، ومائية تذوب وتحترق كالكبريت والقير وغيرهما. والحيوان ثلاثة أنواع: منه ما يلد ويضع، ومنه ما يبيض ويحضن، ومنه ما يتكون من العفونات. والنبات ثلاثة أنواع: منها ما يغرس كالأشجار، ومنها ما يزرع كالحبوب، ومنها ما ينبت كالحشائش والكلأ.

    فقد تَبيَّنَ بما ذكرنا أن الموجودات الكليات هي هذه التسعة المراتب التي ذكرناها وشرحناها، وأما الأمور الجزئيات فداخلة في هذه الكليات التي تَقدَّم ذكرها. وأما الأمور الموجودات المثلثات، فإن من الموجودات الثلاثية الهيولى والصورة والمركب منهما، والجواهر والأعراض والمؤلف منهما، والروحاني والجسماني والمجموع منهما، ومثل المقادير الثلاثة التي هي الخطوط والسطوح والأجسام، ومثل الأبعاد الثلاثة التي هي الطول والعرض والعمق، والأزمان الثلاثة التي هي الماضي والحاضر والمستقبل، والحركات الثلاث من الوسط وإلى الوسط وعلى الوسط، والأعداد الثلاثة التام والزائد والناقص، والعناصر الثلاثة التي هي الممكن والواجب والممتنع، وتقاسيم الأوتاد والزوائل وما يلي الوتد، والمكونات الثلاثة: المعادن والنبات والحيوان، وبالجملة كل أمر ذي واسطة أو طرفين.

    ولما كانت الأربعة من الأعداد تالية للثلاثة، وَجَبَ أن تكون أشياء رباعية للمثلثات في الوجود، فجعل الباري جل ثناؤه أشياءَ مربعات تاليات لها في الوجود.

    فمنها الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، والطبائع الأربع وهي البرودة واليبوسة والرطوبة والحرارة، والأخلاط الأربعة الصفراء والسوداء والدم والبلغم، والرياح الأربع الصبا والدبور والجرميا والتيمن، والجهات الأربع المشرق والمغرب والشَّمال والجنوب، والأوتاد الأربعة الطالع والغارب والرابع والعاشر، والأزمان الأربعة الربيع والصيف والخريف والشتاء، وأيام العمر أربعة فصولٍ أيام الصبا وأيام الشباب وأيام الكهولة وأيام الشيخوخة، ومراتب الأعداد أربعٌ آحاد وعشرات ومئات وألوف.

    وعلى هذا القياس إذا تأمَّل وَجَدَ كثيرًا من مربعات ومخمسات ومسدسات ومسبعات ومثمنات ومتسعات ومعشرات، وما زاد بالغًا ما بلغ من المئات والألوف وعشرات الألوف ومئات الألوف وألوف الألوف.

    وبالجملة ما من عدد من الأعداد إلا وقد خلق الباري جل ثناؤه جنسًا من الموجودات مطابقًا لذلك العدد، قل أو كثر، ونريد أن نبين من ذلك طرفًا ليكون دليلًا على ما قلنا وحقيقة لما ذكرنا:

    أما المسدسات من الموجودات فأوَّلها في طبيعة الأفلاك وأقسام البروج وحالات الكواكب؛ وذلك أن البروج الاثني عشر: ستة منها ذكور وستة منها إناث، وستة نهارية وستة ليلية، وستة شمالية وستة جنوبية، وستة مستقيمة الطلوع وستة معوجة الطلوع، وستة من حيِّز الشمس وستة من حيِّز القمر، وستة تطلع بالنهار وستة تطلع بالليل، وستة ترى أنها فوق الأرض وستة لا تُرى فهي تحت الأرض.

    وأما الأحوال الست التي للكواكب فهي أن تكون في أوجاتها أو حضيضها، أو شرفها أو هبوطها، أو مع رأس جو زهرها أو مع الذنب فهي ست أحوال.

    وأما الست الأخرى، فهي أن يكنَّ مقترنات أو متقابلات أو مربعات أو مثلثات أو مسدسات أو سواقط لا ينظر بعضها إلى بعض.

    وأما المسدسات من الأمور التي تحت الفلك فهي الجهات الست التي تنسب إلى الأجسام، والستة الأخرى التي وضعت لمقادير الأوزان من الصنجات والأذرع والمكاييل والأرطال؛ كل ذلك بفعل الستة إذا كانت هي أول العدد التام.

    وأما السبعات من الأمور الموجودة فتَرَكْنا ذكرها؛ إذ كان قوم من أهل العلم قد شُغِفُوا بها وأطنبوا في ذكرها، وهي معروفة موجودة في أيدي أهل العلم.

    وأما المثمنات فقد ذكرنا طرفًا منها في رسالة الموسيقى لا يحتاج إلى إعادته.

    وأما المتسعات من الأمور فقد شغف بها أيضًا قوم من أهل الهند وأكثروا من ذكرها، وأيضًا رجل من أهل العلم يُعرف بالكيال قد شغف بها وأكثرَ مِن ذِكْرِها في كتبٍ له معروفة موجودة في أيدي أهل العلم.

    وقد ذكرنا أيضًا طرفًا منها في بعض رسائلنا وفي فصلٍ من هذه الرسالة مما تقدم، وقلنا إن الموجودات الكليات تسع مراتب فحسب، لا أقل ولا أكثر، مطابقة التسع الآحاد المتفق بين الأمم كلها على وضعها؛ لتكون الأمور الوضعية مطابقة مراتبها للأمور الطبيعية التي هي ليست من صنع البشر، بل صنعة خالقٍ حكيم سبحانه وبحمده.

    وأما الموجودات المخمسات فالكواكب الخمسة المتحيرة: زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد، وإنما سميت متحيرة لأن لها رجوعًا واستقامة، وليس للشمس ولا للقمر رجوع ولا استقامة.

    والأجسام الطبيعية الخمسة التي هي جسم الفلك والأربعة الأركان التي دونه من النار والهواء والأرض والماء.

    والخمسة الأجناس من الحيوان هي: الإنسان والطير والسائح، والمشَّاء ذو الرجلين وذو الأربع، والذي ينساب على بطنه.

    والحواس الخمس الموجودة في الحيوان التام الخلقة؛ وهي: السمع والبصر والشم والذوق واللمس.

    والخمسة الأجزاء الموجودة في النبات، وهي الأصل والعروق والورق والزهر والثمر.

    والخمسة الأشكال الفاضلة المذكورة في كتاب إقليدس وهي: الشكل الناري ذو الأربعة السطوح المثلثات، والشكل الأرضي ذو السطوح المربعات، والشكل المائي ذو الثمانية السطوح المثلثات، والشكل الهوائي ذو العشرين قاعدة مثلثات، والشكل الفلكي ذو الاثنتي عشرة قاعدة مخمسات.

    والخمس النسب الفاضلة الموسيقية؛ وهي: المثل والجزء، والمثل والأجزاء، والضعف، والضعف والجزء، والضعف والأجزاء.

    والخمسة أولو العزم من الرسل: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد — صلى الله عليه وآله وعليهم الصلاة والسلام.

    والخمسة الأيام الملقب أسماؤها بالعدد في جميع اللغات؛ وهي بالعربية: الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وبالفارسية مثلها: يك شنبه، دو شنبه، سه شنبه، جهار شنبه، بنج شنبه.

    والخمسة الأيام المشرفة من جملة أيام السنة الفارسية في آخر أيار ماه وأسماؤها بالفارسية: أهند كاه، اسهد كاه، اسفيد كاه، همشتر كاه، استورست كاه.

    ففي كون هذه الموجودات على هذه الأعداد المخصوصة دلالة لمن كان له عقل راجح وفهم دقيق، وفطنة بأن لله تعالى ملائكة هم صفوته من خلقه وخيرته من بريته، إليهم تقع الإشارة بهذه الموجودات المقدمات المخصوصات، خَلَقهم لحفظ عالمه، وجعلهم سكان سمواته ومدبِّري أفلاكه ومسيِّري كواكبه ومربِّي نبات أرضه ورعاة حيوانه، منهم السفراء بينه وبين أنبيائه من بني آدم، فمنهم يقع الوحي والنبوات، وهم ينزلون بالبركات من السموات، ويعرجون بأعمال بني آدم وبأرواحهم، وإليهم أشار في أكثر أحكام الشريعة ومفروضات سننها مثل: الصلوات الخمس، والزكاة الخمس، والطهارة الخمس، وشرائط الإيمان الخمس، وبُني الإسلام على خمس، والفضلاء من أهل بيت النبوة خمسة، ومراقي منبر النبوات خمس، وفرائض الحج خمس، والأيام المعدودات بمنى وعرفات خمسة، والحروف المستعملة في أوائل سور القرآن من واحد إلى خمسة.

    وكل هذه المخمسات إشارات ودلالات على خمسة من الملائكة، مع كل واحد منهم خمسة آلاف من الملائكة إلى خمسين ألفًا إلى خمسمائة ألف، وما زاد بالغًا ما بلغ، وإليهم أشار في عدة آيات من سور القرآن مثل قوله: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ، وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ، وقوله تعالى: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ وإلى الخمسة الفاضلة من الملائكة أشار النبي ﷺ بقوله: «حدثني جبريل عليه السلام عن ميكائيل عن إسرافيل عن اللوح عن القلم»، فقد تبين مما ذكرنا معنى قول الحكماء الفيثاغوريين إن الموجودات بحسب طبيعة العدد.


    اعلم أن الفلك المحيط كري الشكل مستدير مجوف، وسائر الأفلاك في جوفه مستديرات محيطٌ بعضها ببعض كحلقة البيض والبصل، وهي إحدى عشرة أكرة، والشمس هي في أوسط الأكر: خمس من فوق أكرتها وخمس من دون أكرتها، فالتي فوق أكرتها أكرة المريخ ثم أكرة المشتري ثم أكرة زحل ثم أكرة الكواكب الثابتة ثم أكرة المحيط، والتي دون أكرتها أكرة الزهرة ثم أكرة عطارد ثم أكرة القمر ثم أكرة الهواء ثم أكرة الأرض التي هي المركز، وهي ليست مجوفة ولكن متخلخلة لكثرة المغارات والكهوف والأهوية، وأما الكوكب فإنه أكريات مصمتات مستديرات كما بيَّن في المجسطي بقياس هندسي.

    واعلم يا أخي أن الباري جل ثناؤه جعل شكل العالم كريًّا؛ لأن هذا الشكل أفضل الأشكال الخمسة من المثلثات والمربعات والمخروطات وغيرها، وهو أيضًا أوسعها مساحة وأسرعها حركة وأبعدها من الآفات وأقطارُه متساوية ومركزه في وسطه، ويمكنه أن يدور في مكانه ولا يُماسُّ غيرَه إلا على نقطة وأجزاء متقاربة، ويمكنه أن يتحرك مستديرًا مستقيمًا، ولا يمكن أن توجد هذه الخصال والصفات في غيره، وقسم الفلك اثني عشر قسمًا؛ لأن هذا العدد زائدةٌ أجزاؤه أكثر من كله؛ فقد تبين مما ذكرنا أن هذا الشكل الأكري أفضل الأشكال، وأن الباري عز وجل يفعل الأحكم والأتقن، فنتج من هاتين المقدمتين أن شكل العالم مستدير، وإنما اقتضت الحكمة الإلهية والعناية الربانية أنْ جعل الباري جل ثناؤه شكل العالم كريًّا مستديرًا والأفلاك والكواكب كذلك لِمَا تَبيَّن من فضل هذا الشكل على سائر الأشكال الخمسة، وجعل أيضًا حركات الكواكب والأفلاك كُرِيَّة مستديرة، وذلك أن كل كوكب من السبعة يدور في فلك صغير يسمى أفلاك التداوير، وتلك الأفلاك الخارجة المراكز تدور في سطح فلك البروج المحيط بسائر الأفلاك، وهذا الفلك المحيط أيضًا يدور حول الأرض في كل أربع وعشرين ساعة دورة واحدة من المشرق إلى المغرب فوق الأرض، ومن المغرب إلى المشرق تحت الأرض مثل الدولاب.

    فلو لم تكن الأرض والفلك وكواكبه كريات مستديرات لَمَا استوى هذا الدوران ولَمَا استمرتْ حركات كواكبه على ما ذكرنا وبيَّنَّا في هذا الوصف. وإذ قد تبين مما ذكرنا أن العالم كري الشكل مستدير، فنريد أن نبين أيضًا أن تصاريف أموره الجزئيات أيضًا مستديرة؛ فمن ذلك أن الأرض بما عليها من البحار والجبال والبراري والأنهار والعمران والخراب أكرة واحدة، والهواء محيط بها من جميع جوانبها وفلك القمر محيط بالهواء، كذلك أن شكل الجبال على بسيط الأرض كل واحدة قطعة قوس من محيط الدائرة، وكذلك شكل الأنهار والأودية ومحيط الأقاليم كل واحد قطعة قوس من محيط الدائرة، وهكذا حكم جريان مياه الأنهار، فإنها تبتدئ من الأنهار في جريانها نحو البحار وتسقي القرى والسوادات، وينصبُّ الباقي إلى البحار ويختلط بمياهها المالحة، ثم يصير بخارًا ويرتفع في الهواء، ويتركب ويتكاثف ويصير غيومًا وسحابًا تسوقها الرياح إلى رءوس الجبال والبراري والقفار، فتمطر هناك وتسيل منها أودية وأنهار وتجري نحو البحار راجعة من الرأس، ويكون منها البخار والغيوم مثل ما كان عام أول دولاب يدور وذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وهكذا حكم النبات والحيوان والمعادن، فإنها تتكون من هذه الأركان، وتنشأ وتتم وتكمل ثم تفسد وتبلى وتصير ترابًا كما كانت بديًا، ثم إن الله تعالى ينشئ منها ما يشاء كما بدأ أولًا يعيده مرة أخرى دولابًا يدور، وكذلك إذا نظرتَ وتأملتَ واعتبرتَ وجدتَ أكثر ثمار الأشجار وحبوب النبات وبذورها وأوراقها مستديرات الأشكال أو كريات أو مخروطات قريبة من الاستدارة.

    وهكذا الثُّقَب التي في أبدان الحيوان إلى الاستدارة أقرب ما تكون، وهكذا أشكال أواني الناس وأدوات الصناع وأرحيتهم ودواليبهم وآبارهم والكيزان والغضائر والقدور والأقداح والقصاع والخواتم والقلانس والعمائم والحلي والتيجان أقرب إلى التدوير.

    فاعلم ذلك أيها الأخ وتَفكَّرْ فيه، أعانك الله على المعرفة بحقائق الأشياء بمَنِّه ولطفه، وصلى الله على النبي الخاتم وعلى الوصي القائم، وعلى أولاده وبنيه وعترته آباء الأئمة المهتدين وأمراء المؤمنين الموحدين وسلم تسليمًا، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

    ********************
    هذا بعض ما تحصلناه نظراً لطول الرسائل
    وعلي المهتم برسائل أهل الصفا مراجعه رسائلهم علي مواقع التواصل ألأجتماعي


    ____________________
    لا تنسونا من صالح دعائكم

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 12:07 pm