اعرف تاريخ اسلافك الذين أتخذوا من شهر رمضان شهراً للنصر والعمل وليس للنوم والكسل
فتح الأندلس في رمضان
لم يمض القرن الإسلامي الأول حتى كان فتح عظيم من فتوحات شهر رمضان الكريم، وهو فتح عظيم في التاريخ الإسلامي يكاد يلي في أهميته الفتح الإسلامي لمصر أرض الكنانة بلد الإسلام، إنه فتح الأندلس على يد المقاتل البارع والقائد الفذ طارق بن زياد.
في عهد الدولة الأموية استطاع القائد المسلم موسى بن نصير فتح بلاد المغرب العربي، وبذلك دخل البربر في دين الله وعمل موسى بن نصير على تعليم الناس أمور دينهم وتفقيههم فيه، وعمل على تدعيم الوجود الإسلامي ببلاد المغرب العربي، فكان له ذلك بخبرته وحنكته والتزامه بشرع الله، فصار البربر من جند الله المجاهدين.
لكن بقيت إحدى مدن المغرب عصية على الفتح الإسلامي وتسمى سبتة، وحاكمها يسمى يوليان وكان من حلفاء ملك الأندلس غيطشة، وكان يأتيه المدد عبر البحر من الأندلس، ثم مات غيطشة وخلفه في ملك الأندلس لذريق، وحدث أن اغتصب لذريق هذا ابنة يوليان حيث كان قد أرسلها إلى القصر لتتعلم وتتأدب بأدب الملوك، فأقسم يوليان على أن يزيل ملك لذريق، وحاول محاولات عدة لكنه لم يجد غير التحالف مع المسلمين سبيلاً، ورأى موسى بن نصير أن الفرصة سانحة لفتح الأندلس ونشر الإسلام فيها وهي في هذه الحالة من الضعف والفوضى.
وبعث موسى بن نصير إلى الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك يستأذنه في فتح هذه البلاد وواصفًا له مكانتها من المسلمين، مبينًا سهولة دخولها بناء على ما أوضحه له يوليان، فأمره الوليد بن عبد الملك بإرسال سرية صغيرة تختبر تلك البلاد؛ كي لا يقع المسلمون في مأزق في تلك البلاد، فأرسل موسى بن نصير أحد قادة جنده ويسمى طريف بن ملوك، فعبر إلى الأندلس في خمسمائة جندي وكان ذلك في رمضان سنة إحدى وتسعين للهجرة، ونزلوا في بلدة سميت باسم القائد طريف، وشن المسلمون غارات على الساحل غنموا فيها مغانم كثيرة، ثم رجعوا إلى موسى بن نصير بما حصلوا عليه في تلك المعارك.
بعدما رأى موسى بن نصير نتيجة السرية التي قام بها طريف بن ملوك، أخذ يجهز جيشًا كبيرًا وندب على رأسه رجلاً بربريًّا شجاعًا يسمى طارق بن زياد، وأرسله إلى الأندلس على رأس سبعة آلاف مقاتل مسلم، جُلّهم من البربر الذين حسن إسلامهم والبربر كانوا يتصفون بالقوة والشجاعة والإقدام، وبدأ عبور المسلمين إلى الأندلس ولم يكن لديهم سوى أربع سفن، فتم العبور على دفعات واختبأ الذين عبروا أولاً حتى عبر الجيش كله، وتجمعوا عند جبل سمِّي بجبل طارق تيمنًا باسم القائد الفاتح طارق بن زياد، واستولى المسلمون على الجزيرة الخضراء قبالة جبل طارق، فصارت مواصلات الجيش مع إفريقيا حيث المسلمون كلها آمنة.
لما علم ملك القوط لذريق بخبر المسلمين، أرسل فرقة من جيشه لتهاجم المسلمين لكنها هُزمت وقتل كل جنودها إلا رجل واحد عاد فأخبر لذريق بما رآه من المسلمين في قتالهم، فسار لذريق جنوبًا واستولى على قرطبة وعسكر في سهل البرباط، وكان تعداد جيشه مائة ألف مقاتل تقريبًا، وسار طارق بن زياد بجيشه متوجها إلى قرطبة وتوقف عند نهر البرباط، وتحسس أخبار لذريق فعرف مكانه وعدد جيشه، فأرسل إلى موسى بن نصير طالبًا المدد، فأرسل له موسى مددًا تعداده خمسة آلاف مقاتل جُلّهم من العرب، فسار تحت قيادة طارق بن زياد حوالي اثني عشر ألفًا من المسلمين.
أما لذريق فلم يكن من بيت الملك في بلاد الأندلس، لكنه لما هلك غيطشة ملك الأندلس ترك أولادًا لم يرضهم أهل الأندلس واضطرب الأمر هناك، فتراضوا على لذريق هذا وكان من قوادهم وفرسانهم فولوه ملكهم، لكنه خالف تقاليد الملك وفعل أشياء شنيعة؛ لذا لما تلاقى الجيشان كان أبناء ملك الأندلس قد اتفقوا على أن ينهزموا بجنودهم، وقد ظنوا أن المسلمين إنما جاءوا طلبًا للغنائم فقط، ونشبت المعركة وأبلى المسلمون بلاء حسنًا، على الرغم من أن غالب المسلمين كانوا رجَّالة بلا خيول بينما جنود القوط من الفرسان، واستمرت المعركة ثمانية أيام، وانضم عدد من جيش لذريق إلى المسلمين بغضًا له وتشفيًا فيه، وحدث اضطراب في جيشه، ففرَّ لذريق وفرَّ بقية جيشه وسيوف المسلمين تحصدهم..
ولم يعثر على أي أثر للذريق بعد هذه المعركة حيًّا أو ميتًا، وقد استشهد في هذه المعركة ثلاثة آلاف مسلم، وكانت هذه المعركة العظيمة التي انتصر فيها المسلمون انتصارًا عظيمًا في شهر رمضان في العام الثاني والتسعين للهجرة النبوية المباركة.
إن هذه معركة انتصر فيها المسلمون انتصارًا عظيمًا على الكفر وأهله، رغم فارق كبير جدًّا في العدد والعتاد، ولكن الإيمان الصادق والرجال المخلصين والقيادة الواعية المدركة بمآل الأمور والفهم الواضح لهذا الدين العظيم إذا اجتمعوا في جيش، فهذا الجيش لا بد منتصر، هذا رغم اختلاف الأعراق فكان الجيش مكونًا من العرب والبربر وكان لكل منهم لغة ولكل منهم عادات وتقاليد، لكن جمعهم الإيمان بالله والأخوة في الله والرغبة الصادقة في نشر الإسلام في كل بلاد الأرض؛ لكي لا يدَّعِي المدعون والذين ينادون بالقومية والوطنية أن الدين لا ينفع أن يكون جامعًا للناس تحت لوائه، بل يقصرون ذلك على اللغة والعرق فقط.
بعد هذه المعركة توجه طارق بن زياد بجيشه إلى مدينة شذونة فحاصرها حتى فتحها (ويقال إن الذي فتح شذونة هو موسى بن نصير)، ثم توجه طارق إلى مدينة استجة وفيها فلول جيش لذريق فقاتلهم قتالاً شديدًا حتى فتح الله على المسلمين بالنصر وأسر طارق حاكمها وصالحهم على الجزية. بعد ذلك رأى طارق أن جيشه قد كثر عدده؛ بسبب عبور كثير من أهل المغرب وانضمامهم للجيش، فعمل على تقسيم الجيش إلى فرق عدة، وكلف كل فرقة بفتح مدينة من المدن الأندلسية، فبعث مغيثًا الرومي مولى الوليد بن عبد الملك إلى قرطبة في سبعمائة فارس ليس معهم راجلٌ واحد، حيث لم يبق من المسلمين راجلٌ إلا ركب من كثرة غنائم المسلمين، وبعث فرقًا أخرى إلى مدن رية ومالقة وغرناطة، أما هو فقد توجه بالجزء الأكبر من الجيش إلى مدينة طليطلة.
أما مغيث فقد فتح الله عليه قرطبة وملكها وفر منها مقاتلو القوط، وكذلك الجيش الذي توجه إلى رية فتح الله عليه وانتصر على أهلها من القوط، ثم فتحت غرناطة وكذلك فتحوا أوريولة بصلح بين المسلمين وقائد القوط فيها وكان اسمه تدمير فسميت المدينة باسمه. وهكذا توالت الفتوحات في بلاد الأندلس، ثم عبر موسى بن نصير ففتح مدنًا كثيرة أيضًا، كان من أشهرها مدينة إشبيلية وهي آخر المدن الأندلسية التي خرج منها الإسلام.
هكذا فتحت الأندلس في القرن الأول الميلادي، فتحت بدماء الشهداء الأبرار، ونقل المسلمون بلاد الأندلس من التخلف والجهل إلى نور العلم وحضارة الإسلام، فصارت الأندلس رمزًا لحضارة الإسلام وللمكانة التي وصل إليها المسلمون من العلم والتقدم، في ذات الوقت الذي كانت مدن أوربا في ظلام دامس من تخلف وجهل.
ونحن إذ نتحدث عن الأندلس يجب أن نذكر أمتنا أن الإسلام بقي في الأندلس بضع قرون حتى وهن المسلمون وضعفوا وتشتتت مدنهم وصار لكل مدينة حاكما، فقام الفرنجة الصليبيون بقتالهم وتوالت هزائم المسلمين حتى كانت آخر المعارك هي معركة أشبيلية وهزم المسلمون فيها شر هزيمة، وهكذا خرج الإسلام من الأندلس، وصارت الأندلس اليوم حليفا مهما لأقوى البغي والطغيان الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وشاركت في تدمير بلاد إسلامية كثيرة أهمها العراق وأفغانستان، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
**********************************************************
وسرقوسة في الجغرافية العربية القديمة: "أكبر مدينة بجزيرة صقلية" على ما يقدره ياقوت الحموي في معجم البلدان (3/214)، وقد رصد لها الجغرافيون القدامى ما يعكس تقدمها وعمرانها.
ومن المهم أن نذكر أن فتح سرقوسة كان مرحلة شبه مستقلة من حركة الحروب التي استهدفت فتح جزيرة صقلية كلها.
وفي هذا السياق ينبغي أن نتأمل مجموعةً من العلامات الدالة على خط حركة الفتوحات الإسلامية وما قدمته للإنسانية في النقاط التالية:
أولاً: برهن المسلمون عن وعيهم بعالمية رسالتهم في الأقطار كافة، وهو ما نلمحه من خلال معرفتنا بأن الذي تم له فتح سرقوسة كان هم الأغالبة، بمعنى أن حركة الفتوحات الإسلامية لم تكن حكرًا على مسمى المشرق الإسلامي في يومٍ من الأيام، كما يحلو لبعض الدارسين أن يتصوروا أن حركة الفتوحات كانت حركة عربية قومية، على ما يشيع في كثير من كتابات المؤرخين المعاصرين الذين تشكلت أفكارهم في أثناء المد القومي!
ثانيًا: اعتراف مؤرخي الحضارات بالأثر الجبار الذي خلَّفه المسلمون في المدينة برمتها، وفي مدة وجيزة جدًّا على ما يقرره مثلاً كارل بروكلمان في "تاريخ الشعوب الإسلامية"؛ حيث يقرر ص249: "وفي الحق أن سنوات السلام التي قُدِّر العرب أن ينعموا بها في صقلية (سرقوسة) منذ ذلك الحين كانت كافيةً لنشر حضارتهم، والتمكين لها في ربوع الجزيرة إلى درجة بعيدة، حملت النورمانديين الذين (خلفوا العرب في حكم هذه البلاد) على أن يأخذوا عن العرب نظامهم الإداري ويقتبسوا العناصر الأساسية للثقافة الإسلامية في حياتهم الفكرية والعينية أيضًا". ففي هذه الشهادة التي يشهد بها واحد من أساطين الاستشراق الغربي كافية في هذا السياق لإعادة التمكين لجلال الفكرة الإسلامية التي حركت الفتوحات بدافع ديني وحضاري معًا يستهدف الخير للبشرية.
وهذا الوجه المضيء هو الوجه الذي ينبغي أن نواجه به أوربا والولايات المتحدة الأمريكية في مواجهاتها للعالم الإسلامي.
ثالثًا: إن القدرة الحربية المبكرة التي مكنت دولة الأغالبة (من المغرب العربي) من فتح هذه الجزيرة بما فيها سرقوسة بحصونها الطبيعية والصناعية تعيد فتح ملف التقدم العلمي في أواخر القرن الثالث الهجري، أي بعد ما يقرب من مائتي سنة فقط من عمر الدين الجديد باسم المعرفة الحديثة التي حازتها من فتح بلدان في عمق بحار عريقة جدًّا.
وهذه النقطة تعيينًا تفتح ملفًا مهمًّا ومهملاً معًا من جانب المعاصرين يتعلق بضرورة استثمار تخصص أصيل عُرِفَ في الأدبيات التاريخية والجغرافية باسم السفن الإسلامية، وهو تخصص له تاريخه ومصطلحاته للدرجة التي صنفت فيها كثير من المعاجم التي تعترف بما كان للعرب من تقدم هائل في مجال صناعة السفن والبحار.
هذه ثلاث نقاط فقط تبعث على التأمل والعمل معًا من أجل إيجاد آلية لدعم ما يُسمَّى به سقور الوحدة الثقافية بين أبناء العالم الإسلامية على امتداد بقاعه الجغرافية، وهو الأمر الذي كان موجودًا في ظل غياب ما هو قائم الآن من ثورة في الاتصالات غير مسبوقة، وهذه الوحدة قد تجلت أبعادها في أن حركة الفتوحات الإسلامية صنعها المسلمون جميعًا، من المشرق العربي ومن المغرب العربي، من المسلمين ذوي الأصول العربية ومن المسلمين ذوي الأصول غير العربية معًا.
باسم الإسلام وحضارته ووحدة شعوبه تقدم الفتح لينعم العالم تحت ظلاله، وفي أجواء رمضان الذي هو شهر الله تعالى تمت هذه الفصول البيضاء الرائعة.
**********************************************************
والقرم شبه جزيرة داخلة في نطاق جغرافية روسيا، وهو ما يلفت النظر إلى أن الإسلام امتدَّ سلطانه حتى يسيطر على عدد ضخم من مدن أوربا من جهة روسيا والمجر وبولندا، وهو ما ينبغي تفهمه في إطار صناعة العلاقات على الجمهوريات الروسية المختلفة، باعتبار أن الإسلام ظلَّ واحدًا من الروافد المهمة التي شكلت ثقافة هذه البلاد حتى مشارف العصر الحديث.
وقد شكلت القرم التي فُتحت في (رمضان 889هـ/ 1474م) بما عاش فيها من شعوب أسلمت على أثر فتحها جزءًا من العالم الإسلامي، ما يتضح من كتاب بروكلمان "تاريخ الشعوب الإسلامية".
ومن هذا الذي نذكره من فتح القرم وتحويل شعبها إلى الإسلام بأثر ما وجدوه من عظمة الدين نلاحظ ما يلي:
أولاً: حاجة العقل المعاصر فتح الملف المتعلق بتاريخ الدولة العثمانية، وتصحيح الصور الشائهة التي روَّج لها الغرب بعد صراعه الطويل معها، وخسارة الرهيبة من ضرباتها وفتوحها، فما تزال أوربا المسلمة -إن صح هذا التعبير- في ألبانيا وكوسوفا وروسيا وبولندا والمجر وغيرها بعضًا من منح الدولة العثمانية، وهو بعض المفهوم من كتاب المنح الرحمانية في الدولة العثمانية وذيله لمحمد بن أبي السرور البكري الصديقي.
ثانيًا: ضرورة إعادة النظر في المناهج الدعوية والتربوية المتعاطية مع أعلام الإسلام العظام لتغذية الوجدان الإسلامي المعاصر، بعد أن اتضح أن منجز محمد الفاتح ليس مقصورًا على فتح القسطنطينية على جلال قدرها هذا الفتح، وإنما ينبغي أن تجاوزه إلى قراءة المنجز الحضاري والحربي الذي حققه للإسلام لما فتحه من بلدان روسيا وأوربا معًا، فقد رصد الدكتور سالم الرشيد -في كتابه المهم عن المهم عن محمد الفاتح (طبعة الحلبي 1956م)- له الفتوحات التالية: صربيا، والبوسنة والهرسك، فتح أثينا، والمورة، وغيرها.
ثالثًا: ضرورة تقديم نماذج بجوار النماذج الأولى محمد الفاتح وغيره من قيادات العالم الإسلامي المتأخرين لا يصح أن يغيبوا لمصلحة عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وغيرهم؛ لأن الإسلام صاحب حضارة ولود منتجة.
رابعًا: تأمل تفاصيل فتح القرم والتعامل مع ثقافة التتار المسلمين، وطبيعة الجغرافية والأرض المجاورة للدولة العثمانية، قائد إلى أمور مهمة جدًّا تصب في ضرورة إعادة فتح ملف التعليم في العالم العربي والإسلامي؛ لأن واحدًا من الأسباب التي عزاها المؤرخون للمقدرة والعبقرية الحربية التي أظهرها محمد الفاتح راجع إلى الثقافة الممتازة التي حصلها محمد الفاتح في نطاق نسق تعليمي متقدم جدًّا، وهو ما يؤكده الدكتور سالم الرشيدي عندما يقرر أن عناية محمد الفاتح بالعلم والعلماء هو السبب الخطير في تقدمه الحربي والحضاري.
خامسًا: برز الإسلام عاملاً مهمًّا في قيادة حركة الفتوحات التي قادها محمد الفاتح وهو الأمر الذي حاول ولم يزل بعض أنصار القومية التركية بعد مد أتاتورك العلماني أن يعزو التقدم العثماني بتفسير خصائص القومية التركية، وهو الأمر الذي يكذبه المؤرخون، يقول سالم الرشيدي ص280: "وإذا صح أن يقال: إن العرب إنما قامت دولتهم ومجدهم بفضل الإسلام، وأنهم ما كانوا ليكونوا شيئًا في التاريخ لولا هذا الدين، صح أن يقال: إن العثمانيين إنما قامت دولتهم ومجدهم بفضل الإسلام، وأنهم ما كانوا ليكونوا شيئًا في التاريخ لولا هذا الدين".
هذا الصوت الأخير هو الأمر المستقر في أدبيات الذين عرفوا تاريخ الدولة العثمانية من قبل محمد عنان، ونادية مصطفى، والصلابي، وعبد الرزاق بركات، ومحمد حرب، وغيرهم.
**************************************************************
لم تفرد الأدبيات التاريخية مساحة واسعة لفتح شذونة (رمضان 92هـ)، وهي من البلدان الحدودية المطلة على البحر المتوسط من جنوب الأندلس، كما حدث مع القادسية باب فارس في الجاهلية، وهو أول فارق في فلسفة الفتح يفاجئك في قراءة التعاطي مع بلدان الحدود في فتوحات جيل الدولة الراشدة وفتوحات جيل الدولة الأموية، وهو ما انعكس بدوره على تعامل الأدبيات التاريخية العربية مع كلا الفتحين.
كانت آثار المعرفة الجغرافية والتاريخية ببلدان فارس وتقدير خطرها عاملاً حاسمًا في حماية مكاسب فتح فارس الذي تجلَّى في تمصير مدن عربية كاملة من العدم تكون عمقًا استراتيجيًّا يمنع من استرداد فارس لبلدان إمبراطوريتها الذاهبة.
كان قرب جيوش الفتح من عصر النبوة بما استقر في نفوسهم من فعل الهجرة ذا أثر حاسم في الهجرة إلى بلدان جديدة سلكها العرب في البصرة والكوفة في الطريق إلى القادسية وفارس، لقد كان مسكن القبائل العربية في الطريق إلى الأمم المفتوحة عاملاً حاسمًا في تغيير الخريطة الديمغرافية السكانية التي حمت مكتسبات الفتح الراشد؛ لأنها ذوبت العناصر الثقافية عن طريق الاحتواء السكاني، وهو ما لم يحدث في فتوحات دولة بني أمية للأندلس.
وربما كان البربر -وهم أغلبية في جيش فتح الأندلس- سببًا آخر في عدم استدامة الفتح وانهياره بعد ثمانية قرون!
هل فَتُرَت ثقافة الهجرة فغاب الأندلس؟!.. ربما!
أمر آخر نلمسه في قراءة أحداث فتح شذونة (أول ما يقابل من بلاد الأندلس من جهة البحر قادمًا من بلدان المغرب)؛ هو أن حركة الجيوش كان أبعد عمق لها هو القبائل المتأخرة لمضيق جيل طارق من بلاد المغرب، وهي مسافة بعيدة جدًّا عن مقر الحكم المركزي في الشام لدولة بني أمية؛ مما يوحي بغياب أو خفوت الصوت العربي من أبناء الصحابة والتابعين، وهو أمرٌ له أثار سلبية على توجيه حركة الإعمار الفكري في داخل الأندلس نفسها..
وهو ما ظهر في بقاء عدد ضخم من النصارى يعملون بما يسمى استرداد الأندلس، ولو أن العنصر العربي الإسلامي الذي ظهر في فتوحات أبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم- كان بارزًا في حركة فتوحات الأندلس بما يميزه من تقديرٍ لقيمة المَعْلم، وبما يميزه من القدرة على التغير باسم المعايشة، لربما تغير أمر الأندلس، ولربما لم تنجح حركة ما يسمى باستيرادها.
ثمة أمر آخر لا أحب أن أقف أمامه طويلاً، وهو: هل كان لحظ النفس أثر في البدايات انعكست على نهايات الوجود المسلم في الأندلس؟!
تقول الأدبيات التاريخية: إن طارق بن زياد بدأ فتح الأندلس وبدأ فتح شذونة، ثم حسده سيده موسى بن نصير فأسرع ليتم الفتح معه، وهو ما ظهر في غير مصدر تاريخي قديم وحديث في تعبيره!! وأتم موسى بن نصير فتح شذونة.
وأنا بطبيعة الحال أقلق من مثل هذه التفاسير مع إمكان وجودها، لكن المهم هو أن التعامل مع الأندلس في لحظة من اللحظات تمَّ على اعتبارها جزءًا معزولاً عن جسد الخلافة في المشرق، وربما دعم هذا قيام الدولة الأموية في الأندلس بعد سقوطها في المشرق، واستمرت إلى أوائل القرن الخامس الهجري (403هـ) على التعيين.
فتح شذونة (رمضان 92هـ) وما أثير حوله من كتابات قليلة يفتح الباب إلى أن نتعلم من أخطاء ما كان ينبغي أن تقع.
باسم الإسلام فُتحت الأندلس، وفُتحت أولى محطاتها في شذونة، وباسمه تم تعميرها زمانًا طويلاً، لكن الفتح لم يَدُمْ سوى ثمانية قرون، وهو أمر ندعو إلى قراءة أبعاده وتجلِّياته.
**********************************************************
من ضمن المعارك والفتوحات العظيمة التي حفل بها شهر رمضان المبارك معركة فتح النوبة التي حدثت في العام الحادي والثلاثين من الهجرة النبوية المباركة، والتي كان من أهم آثارها معاهدة القبط التي كانت فاتحة خير على المسلمين في البلاد الإفريقية.
لما قام عمرو بن العاص بفتح في مصر في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أرسل عمرو بن العاص حملة عسكرية بقيادة عقبة بن نافع لفتح بلاد النوبة التي تقع في جنوب مصر، لكن المسلمين فوجئوا في هذه المعركة بأن النوبيين يجيدون رمي السهام، فقد أصاب النوبيون من المسلمين عددًا كبيرًا بتلك السهام، وأصيب كثير من المسلمين في حدق عينهم من جرَّاء النبل، فسموا (رماة الحدق).
وكان من نتيجة هذه الحملة أن تم التوافق على هدنة بين المسلمين والنوبيين، واستمر الصلح حتى كان عصر خلافة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، وكان قد عزل عمرو بن العاص عن مصر وولّى مكانه عبد الله بن أبي سرح، فنقض النوبيون الصلح وهاجموا صعيد مصر، فما كان من ابن أبي سرح إلا أن خرج في جيش تعداده عشرون ألف مقاتل، وسار إلى دنقلة عاصمة النوبيين وحاصرها وضربها بالمنجنيق حتى استسلموا وطلبوا الصلح.
وتصالح المسلمون والنوبيون في شهر رمضان من العام الحادي والثلاثين بعد الهجرة على بنود من أهمها:
1- حفظ من نزل بلادهم من مسلم أو معاهد حتى يخرج منها.
2- رد من لجأ إليهم من مسلم محارب للمسلمين وإخراجه من ديارهم.
3- حفظ المسجد الذي بناه المسلمون في فناء المدينة وألاّ يمنعوا منه مسلمًا.
4- أن يدفعوا للمسلمين كل عام ثلاثمائة وستين رأسًا من أوسط رقيق بلادهم، وكان القوم مشهورين بكثرة الرقيق عندهم.
5- في مقابل ذلك لهم عند المسلمين أمان فلا يحاربونهم ولا يغزونهم.
وقد قيل إنه في مقابل الرقيق الذي يأخذه المسلمون منهم يعدونهم بدلاً منه قمحًا وعدسًا، هذا كان العهد الذي تم بين المسلمين وأهل النوبة، وقد رفع هذا الصلح إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه فأقره.
وإن هذا لعهد -إن أمعنَّا النظر فيه وتأملناه جيدًا- نرى في بنوده معالم للسياسة الشرعية في الإسلامية، ومعالم واضحة للعلاقات الخارجية للدولة الإسلامية.
فنرى أن رد النوبيين المسلم المحارب للمسلمين وإخراجه من ديارهم يعد أمرًا مهمًّا جدًّا، فهو يمنع من تكتل وتجمع الخارجين عن النظام الشرعي للدولة الإسلامية وعلى ولاة الأمر الذين يحكمون بما أنزل الله، وبالتالي لا تكون هذه الجهة مركزًا للاعتداء على الدولة الإسلامية من بعض الأفراد الخارجين على ولاة الأمر، وبالتالي حماية الدولة الإسلامية والتأكيد على وحدتها.
ونرى أن حفظهم للمسجد الذي بناه المسلمون في فناء المدينة هو الأثر الأهم والنتيجة العظمى لهذا الصلح الطيب؛ فوجود المسجد وعدم التعرض للمسلمين في المدينة يعني انتشار الإسلام بين الناس، ولأن المسجد في الإسلام مكانته عظيمة وهو منطلق الدعوة ومركزها، وكان أول شيء يقوم به المسلمون في أي مكان يدخلونه هو بناء المسجد؛ اقتداءً بنبيهم صلى الله عليه وسلم الذي بنى مسجدًا بالمدينة بمجرد وصوله إليها. ومع اشتراط حفظهم لمن يدخل بلادهم من المسلمين فهذا يعني انتشار الإسلام بسهولة ويسر؛ حيث إن تجار المسلمين والمسافرين الذي لا يتوقفون عن الحركة على مدار العام سيعملون على دعوة الناس إلى الإسلام، في حين أن هؤلاء الدعاة من التجار وغيرهم يكونون في مأمن، طالما كانوا في أرض النوبة فلا يتعرض لهم أحد.
وهنا شبهة يرددها الصليبيون الحاقدون على الإسلام وأهله، يجب أن نفندها ونبيِّن كذبهم وافتراءهم فيها، فهم يدعون أن هذه الاتفاقية كانت تجبر أهل النوبة -وهم نصارى على حد زعمهم- على بيع أولادهم للمسلمين كي يتقوا شرهم، فيحاولون إيهام الناس أن ذلك العدد من الرقيق الذي يجب على النوبيين إرساله للمسلمين سنويًّا، كانوا أبناء النصارى، وهذا كذبٌ وافتراء؛ فالاتفاقية تنص على تسليم ثلاثمائة وستين رأسًا من أوسط رقيقهم، ولا تنص على ثلاثمائة وستين رأسًا من أوسط فتيانهم أو شبابهم. والمعنى واضح والفرق شاسع بين اللفظين، فشتان شتان بين الرقيق والفتى أو الشاب.
لقد كان لهذا الصلح أثر عظيم في انتشار الإسلام في بلاد السودان وجنوبها، لقد استغل المسلمون الأوائل هذه المعاهدة في نشر الإسلام في تلك البلاد، وكان المسجد الذي بناه المسلمون في فناء دنقلة مركزًا لنشر الإسلام في بلاد النوبة وجنوبها، وإن هذا الصلح ليؤكد كذب الذين يدعون بأن انتشر بحد السيف! فليخبرونا إذن كيف أسلم أهل النوبة والسودان وتلك البلاد النائية في إفريقيا التي لم تصلها جيوش المسلمين في أي عصر من العصور؟!
إن هذا الصلح ليؤكد براعة وذكاء وفهم المسلمين الأوائل للواقع الذي يعيشونه وكيفية التعامل مع هذا الواقع بشكلٍ يخدم مصالح الأمة الإسلامية ويعمل على نشر الدين الإسلامي ولا يتعارض مع أحكام شريعة رب السماء جل في علاه، ولا سُنَّة نبيه المصطفى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وإن هذه هي السياسة التي يجب أن نتعامل بها ويجب أن نتعلمها؛ فلن يعود للإسلام عزه ومجده ولن تعود للأمة كلها القيادة والريادة في هذا العالم إلا باتباع هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، والنظر في أفعال سلفنا الصالح الصحابة والتابعين.
************************************************************
يقول ابن كثير -في البداية والنهاية (12/460) في أحداث سنة أربع وتسعين-: "وفيها فتح الله على الإسلام فتوحات عظيمة في دولة الوليد بن عبد الملك على يدي أولاده وأقربائه وأمرائه، حتى عاد الجهاد شبيهًا بأيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه".
هذه شهادة واحد من كبار مؤرخي الإسلام، وليس فيها شبهة ممالاة؛ لأنه لم يكتب ما كتب إلا وبينه وبين دولة بني أمية ما يربو على ستمائة سنة!
والنص السابق يهز وينال من الصورة التي طالما عرضت للنيل من أبناء هذه الدولة ورجالها، فلم يكن رجالها غارقين في النعيم كما تصورهم الأعمال الدرامية، بل كانوا يقودون حركة جهادية وصفها المؤرخ الكبير بأنها شبيهة بأيام عمر!
وفي هذه السنة افتتح القاسم بن محمد الثقفي أرض الهند، ومن الأمور التي يجب الوقوف أمامها في أحداث هذا الفتح ما يلي:
أنه لما رأى أهل المدن الهندية تقدم محمد بن القاسم وقدرته على دحر مدن "راور"، "برهمناباذ"، وسقط من القتلى الآلاف، قابله أهل "ساوندري" طالبين الأمان فأعطاهم إياه، واشترط عليهم ضيافة المسلمين، ومثل ذلك حدث مع "بسمد" في صلحه معهم.
وهذا الذي قاله البلاذري في فتوح البلدان يعكس مدى التزام المجاهد المسلم بأوامر الله سبحانه، فلم يكن المجاهدون المسلمون يُحركهم اشتهاء الدم، أو الظفر بالأرض، أو جمع الكنوز والغنائم، لقد خرج المجاهد المسلم يملؤه الشوق الجارف لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
والعجيب أن يشترط محمد بن القاسم في مصالحته لأهالي هذه المدن أن يضيفوا المسلمين، الرجل يطلب ضيافة المسلمين مع أنه صاحب البلد الأعلى، ولو سلب أو نهب ما رده أحد، لكن الجيش المسلم يريد أن يمكث ضيفًا في إقامته، وضيفًا في مطعمه ومشربه، إنه لا يريد أن يُقيم إقامةً أبديةً مستبدًّا طاغيةً يسير فيهم بمنطق الغالب القاهر.
شروط الصلح تُوحي بأن الفتح هو لتوصيل كلمة الله، والمجاهدون بعدما تمت عملية البلاغ لا مجالَ لمكثهم، هذا هو المفهوم من الضيافة؛ ولذلك تقول الأدبيات التي أرَّخت لهذا الفتح إن أهلها انقلبوا مسلمين.
مسألة أخرى جديرةٌ بأن نقف أمامها وهي: أنه لما تقدَّم المسلمون إلى السند لإتمام فتحها وصلوا إلى مدينة الراور فحوصرت، ثم فتحها المسلمون صلحًا على شرطين: هما عدم قتلهم، وعدم خراب بدهم (والبد: بيوتهم التي يتعبدون فيها).
هذا الشرطان يقدمان صورة بالغة النصاعة في تأمين معتقدات أصحاب البلاد المفتوحة، لقد كان شغل المسلم الشاغل هو بناء مسجد وتمكينه من إبلاغ دعوة الله، من غير قهرٍ للآخرين أو محو هوياتهم.
إن ترك هذه المعابد التي يقول عنها البلاذري إنها كنائس النصارى واليهود وبيوت النار التي للمجوس، يدل على أن هذه الأمة تجاهد وهي تحترم معتقدات الآخرين، ولو كان معتقدهم التعبد للأصنام!
أمر أخير هو أن جند المسلمين كانوا يتحركون بأخلاق الإسلام من الرحمة والعفة والبذل، ودليل ذلك أن محمد بن القاسم لما مات الوليد بن عبد الملك وتولى سليمان عزل محمد وتولى غيره، فحُمِل القائد الفاتح مقيدًا، فبكاه أهل الهند؛ يقول البلاذري: "فبكى أهل الهند على محمد".
فأي شيء حرَّك عاطفة هؤلاء نحو قائدٍ بلَّغ كلمة الله؟! إننا لم نسمع ولن نسمع عن غازٍ قاهرٍ يُبكيه مَن غزاهم وقهرهم، إنَّ بكاء بلاد الهند والسند (التي فُتحت في رمضان 94هـ/ 713م) على محمد بن القاسم أكبر دليل على رحمة الفاتح المسلم وبذله وكريم خلقه، بل إنَّ أدبيات ذلك الفتح تقرر أنهم صوروه وصنعوا له ما يُشبه التمثال.
هذه بعض عظمة الفتح الإسلامي وجدت طريقها إلى أنفس شعوب الأرض، فعانقت دين الله.
***********************************************************
من أهم ما حدث في شهر رمضان المبارك، ما فاجأنا وفاجأ العالم كله من حدث، اهتزت له القلوب طربًا، وابتسمت له الثغور فرحًا، ولهجت به الألسنة ثناء، وسجدت الجباه من أجله لله شكرًا.
إنه الحدث الذي عوضنا عما فُوجئنا به من قبل في الخامس من حزيران (يونيو) 1967م، والذي خسرت به الأمة ما خسرت، وكسبت إسرائيل ما كسبت، وضاعت به -إلى اليوم- القدس والضفة والقطاع والجولان، إضافةً إلى سيناء التي استردتها مصر فيما بعد.
وهذا الحدث الذي أحيا الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، بل الأمة الإسلامية من المحيط إلى المحيط، هو حرب العاشر من رمضان (10 رمضان 1393هـ/ 6 أكتوبر 1973م). وأنا أحب دائمًا أن أسميها معركة العاشر من رمضان، وليس السادس من أكتوبر؛ لأن (شهر رمضان) ونفحاته وبركاته وإمداداته التي هبت نسماتها على الجنود والصائمين والمصلين كان له أثره في تحقيق النصر، وإمداد المقاتلين بشحنة إيمانية دفعتهم إلى البذل والفداء، أما (أكتوبر) فليس له أي إيحاء، أو دخل في هذا النصر.
ما زلت أذكر هذا اليوم المشرق، وقد خرجت من درس العصر في مسجد الشيخ خليفة، فإذا الأنباء المبشرة تستقبلني، وإذا الهواتف تدق ولا تتوقف، للاتصال بي من هنا وهناك، مهنئة بما وقع، شاكرة لله -تعالى- الذي صدق وعده، وأعز جنده، وهزم الظالمين وحده.
في أول الأمر خفت أن نكون مخدوعين، كما خدع كثيرون أيام نكبة 5 يونيو 1967م، فقد كانت القاهرة تذيع الأكاذيب على الناس، وتخدرهم بأخبار لا أساس لها: طائرات إسرائيلية تسقط بالعشرات، والحقيقة أن طائراتنا هي التي ضُربت في مدرجاتها، ولم تطر حتى تسقط، ولكن كانت الشواهد كلها تؤكد أن هذه حقيقة وليس حلمًا، وأنه واقع وليس من نسج الخيال.
ألا ما أحلى مذاق النصر، وخصوصًا بعد تجرع مرارة الهزيمة المذلة من قبل! وللأسف طالت هزائم الأمة في معارك شتى، وذرفت الدموع كثيرًا على هزائمها، حيث لم تغنِ الدموع، وآن لها أن تجد مناسبة تفرح بها بعد حزن، وأن تضحك بعد طول بكاء.
لقد عبر الجيش المصري القناة، صنع قناطر أو جسورًا للعبور عليها، مكونة من أجزاء، تُركب في الحال، ويوصل بعضها ببعض، فتكون جسرًا فوق الماء تعبر فوقه المصفحات والمجنزرات والدبابات إلى البر الآخر، وقد بدأ بالعمل فيها منذ سنوات، ثم بدأت تجربتها، والتدريب عليها منذ شهور، في تكتم وسرية بالغة، وهذا عمل مصري خالص، لم يشترك فيه خبراء أجانب؛ ولهذا حُفظ السر، ولم يبح به أحد.
بعد عبور القناة بسلام وأمان ونجاح، اقتحمت القوات المصرية ما عُرف باسم خط بارليف، الذي أقامته إسرائيل؛ ليكون حاجزًا ترابيًّا بعد الحاجز المائي، وكانت العدة قد أعدت لتخطيه بإحكام ومهارة.
وكان كل شيء مُعدًّا بجدارة وأناة وحكمة، ولم يكن هناك شيء مرتجل، وقام كلُّ سلاحٍ بدوره: سلاح المهندسين، وسلاح الفرسان والمدرعات، وسلاح الطيران، كلٌّ قام بما هيئ له، وما كلف به.
وقد اختير التوقيت المناسب لبدء المعركة، وكان رمضان هو الوقت الملائم نفسيًّا وروحيًّا؛ لما يمد به الجنود من نفحات، وما يعطيهم من شحنة روحية، وكان أكتوبر مناسبًا، من حيث المناخ، وليس فيه حرارة الصيف، ولا برد الشتاء.
وكان الوقت مناسبًا من ناحية أخرى أنه يوم الغفران، أو عيد الغفران عند اليهود، فلننتهز غفلتهم وانهماكهم في الاحتفال بالعيد؛ لنفاجئهم بضربتنا، كما فاجئونا بضربتهم في يونيو 67.
ولا يقال: كيف نباغتهم ولا ننذرهم؟ فمثل هذه الحرب لا تحتاج إلى إنذار ولا إبلاغ؛ لأنها حرب دفاع للمحتل، وهي مستمرة معه لم تتوقف.
وأهم من هذا كله: الروح المعنوية التي كان يحملها المقاتل المصري.. إنها روح الإيمان؛ الإيمان بالله تعالى، وأنه ينصر من نصره، والإيمان بأننا أصحاب الحق، والحق لا بد أن ينتصر، والباطل لا بد أن يزهق {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].
فرق بين حربين
وفرق كبير بين هذه الحرب وحرب يونيو 67، فقد كان العنصر الإيماني والروحي مغيبًا عنها تمامًا؛ لذلك لم يحالفها النصر.
كانت كلمة السر في حرب 67: "بر بحر جو"، ولكن الواقع يقول: إنهم لم ينتصروا في بر ولا بحر ولا جو، ولم يكن الذنب ذنب الجيش وجنوده، ولكن ذنب القادة الذين جروهم إلى حرب لم يخططوا لها، ولم يعدوا لها العُدَّة، ولم يأخذوا لها الحذر، كما أمر الله.
لقد ترك الجنود أسلحتهم، وتركوا دباباتهم ومصفحاتهم، لم يحاولوا أن يشعلوا فيها النار بعد أن تركوها، حتى لا يغنمها العدو ويستفيد منها؛ لأن همَّ كل واحد منهم كان هو النجاة بنفسه، واللياذ بالفرار.
لقد اعتمدوا على الآلات، فلم تغنِ عنهم الآلات، واتكلوا على السلاح فلم ينجدهم السلاح؛ لأن السلاح لا يقاتل بنفسه، إنما يقاتل بيد حامله، ويد حامله إنما يحرِّكها إيمان بهدف، وإيمان برسالة، وهذا لم يعبأ به الجنود.
وما زلنا مع رمضان الكريم وأنتصاراتة
أنتصارات رمضان ..
فتح الأندلس في رمضان
لم يمض القرن الإسلامي الأول حتى كان فتح عظيم من فتوحات شهر رمضان الكريم، وهو فتح عظيم في التاريخ الإسلامي يكاد يلي في أهميته الفتح الإسلامي لمصر أرض الكنانة بلد الإسلام، إنه فتح الأندلس على يد المقاتل البارع والقائد الفذ طارق بن زياد.
في عهد الدولة الأموية استطاع القائد المسلم موسى بن نصير فتح بلاد المغرب العربي، وبذلك دخل البربر في دين الله وعمل موسى بن نصير على تعليم الناس أمور دينهم وتفقيههم فيه، وعمل على تدعيم الوجود الإسلامي ببلاد المغرب العربي، فكان له ذلك بخبرته وحنكته والتزامه بشرع الله، فصار البربر من جند الله المجاهدين.
لكن بقيت إحدى مدن المغرب عصية على الفتح الإسلامي وتسمى سبتة، وحاكمها يسمى يوليان وكان من حلفاء ملك الأندلس غيطشة، وكان يأتيه المدد عبر البحر من الأندلس، ثم مات غيطشة وخلفه في ملك الأندلس لذريق، وحدث أن اغتصب لذريق هذا ابنة يوليان حيث كان قد أرسلها إلى القصر لتتعلم وتتأدب بأدب الملوك، فأقسم يوليان على أن يزيل ملك لذريق، وحاول محاولات عدة لكنه لم يجد غير التحالف مع المسلمين سبيلاً، ورأى موسى بن نصير أن الفرصة سانحة لفتح الأندلس ونشر الإسلام فيها وهي في هذه الحالة من الضعف والفوضى.
وبعث موسى بن نصير إلى الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك يستأذنه في فتح هذه البلاد وواصفًا له مكانتها من المسلمين، مبينًا سهولة دخولها بناء على ما أوضحه له يوليان، فأمره الوليد بن عبد الملك بإرسال سرية صغيرة تختبر تلك البلاد؛ كي لا يقع المسلمون في مأزق في تلك البلاد، فأرسل موسى بن نصير أحد قادة جنده ويسمى طريف بن ملوك، فعبر إلى الأندلس في خمسمائة جندي وكان ذلك في رمضان سنة إحدى وتسعين للهجرة، ونزلوا في بلدة سميت باسم القائد طريف، وشن المسلمون غارات على الساحل غنموا فيها مغانم كثيرة، ثم رجعوا إلى موسى بن نصير بما حصلوا عليه في تلك المعارك.
بعدما رأى موسى بن نصير نتيجة السرية التي قام بها طريف بن ملوك، أخذ يجهز جيشًا كبيرًا وندب على رأسه رجلاً بربريًّا شجاعًا يسمى طارق بن زياد، وأرسله إلى الأندلس على رأس سبعة آلاف مقاتل مسلم، جُلّهم من البربر الذين حسن إسلامهم والبربر كانوا يتصفون بالقوة والشجاعة والإقدام، وبدأ عبور المسلمين إلى الأندلس ولم يكن لديهم سوى أربع سفن، فتم العبور على دفعات واختبأ الذين عبروا أولاً حتى عبر الجيش كله، وتجمعوا عند جبل سمِّي بجبل طارق تيمنًا باسم القائد الفاتح طارق بن زياد، واستولى المسلمون على الجزيرة الخضراء قبالة جبل طارق، فصارت مواصلات الجيش مع إفريقيا حيث المسلمون كلها آمنة.
لما علم ملك القوط لذريق بخبر المسلمين، أرسل فرقة من جيشه لتهاجم المسلمين لكنها هُزمت وقتل كل جنودها إلا رجل واحد عاد فأخبر لذريق بما رآه من المسلمين في قتالهم، فسار لذريق جنوبًا واستولى على قرطبة وعسكر في سهل البرباط، وكان تعداد جيشه مائة ألف مقاتل تقريبًا، وسار طارق بن زياد بجيشه متوجها إلى قرطبة وتوقف عند نهر البرباط، وتحسس أخبار لذريق فعرف مكانه وعدد جيشه، فأرسل إلى موسى بن نصير طالبًا المدد، فأرسل له موسى مددًا تعداده خمسة آلاف مقاتل جُلّهم من العرب، فسار تحت قيادة طارق بن زياد حوالي اثني عشر ألفًا من المسلمين.
أما لذريق فلم يكن من بيت الملك في بلاد الأندلس، لكنه لما هلك غيطشة ملك الأندلس ترك أولادًا لم يرضهم أهل الأندلس واضطرب الأمر هناك، فتراضوا على لذريق هذا وكان من قوادهم وفرسانهم فولوه ملكهم، لكنه خالف تقاليد الملك وفعل أشياء شنيعة؛ لذا لما تلاقى الجيشان كان أبناء ملك الأندلس قد اتفقوا على أن ينهزموا بجنودهم، وقد ظنوا أن المسلمين إنما جاءوا طلبًا للغنائم فقط، ونشبت المعركة وأبلى المسلمون بلاء حسنًا، على الرغم من أن غالب المسلمين كانوا رجَّالة بلا خيول بينما جنود القوط من الفرسان، واستمرت المعركة ثمانية أيام، وانضم عدد من جيش لذريق إلى المسلمين بغضًا له وتشفيًا فيه، وحدث اضطراب في جيشه، ففرَّ لذريق وفرَّ بقية جيشه وسيوف المسلمين تحصدهم..
ولم يعثر على أي أثر للذريق بعد هذه المعركة حيًّا أو ميتًا، وقد استشهد في هذه المعركة ثلاثة آلاف مسلم، وكانت هذه المعركة العظيمة التي انتصر فيها المسلمون انتصارًا عظيمًا في شهر رمضان في العام الثاني والتسعين للهجرة النبوية المباركة.
إن هذه معركة انتصر فيها المسلمون انتصارًا عظيمًا على الكفر وأهله، رغم فارق كبير جدًّا في العدد والعتاد، ولكن الإيمان الصادق والرجال المخلصين والقيادة الواعية المدركة بمآل الأمور والفهم الواضح لهذا الدين العظيم إذا اجتمعوا في جيش، فهذا الجيش لا بد منتصر، هذا رغم اختلاف الأعراق فكان الجيش مكونًا من العرب والبربر وكان لكل منهم لغة ولكل منهم عادات وتقاليد، لكن جمعهم الإيمان بالله والأخوة في الله والرغبة الصادقة في نشر الإسلام في كل بلاد الأرض؛ لكي لا يدَّعِي المدعون والذين ينادون بالقومية والوطنية أن الدين لا ينفع أن يكون جامعًا للناس تحت لوائه، بل يقصرون ذلك على اللغة والعرق فقط.
بعد هذه المعركة توجه طارق بن زياد بجيشه إلى مدينة شذونة فحاصرها حتى فتحها (ويقال إن الذي فتح شذونة هو موسى بن نصير)، ثم توجه طارق إلى مدينة استجة وفيها فلول جيش لذريق فقاتلهم قتالاً شديدًا حتى فتح الله على المسلمين بالنصر وأسر طارق حاكمها وصالحهم على الجزية. بعد ذلك رأى طارق أن جيشه قد كثر عدده؛ بسبب عبور كثير من أهل المغرب وانضمامهم للجيش، فعمل على تقسيم الجيش إلى فرق عدة، وكلف كل فرقة بفتح مدينة من المدن الأندلسية، فبعث مغيثًا الرومي مولى الوليد بن عبد الملك إلى قرطبة في سبعمائة فارس ليس معهم راجلٌ واحد، حيث لم يبق من المسلمين راجلٌ إلا ركب من كثرة غنائم المسلمين، وبعث فرقًا أخرى إلى مدن رية ومالقة وغرناطة، أما هو فقد توجه بالجزء الأكبر من الجيش إلى مدينة طليطلة.
أما مغيث فقد فتح الله عليه قرطبة وملكها وفر منها مقاتلو القوط، وكذلك الجيش الذي توجه إلى رية فتح الله عليه وانتصر على أهلها من القوط، ثم فتحت غرناطة وكذلك فتحوا أوريولة بصلح بين المسلمين وقائد القوط فيها وكان اسمه تدمير فسميت المدينة باسمه. وهكذا توالت الفتوحات في بلاد الأندلس، ثم عبر موسى بن نصير ففتح مدنًا كثيرة أيضًا، كان من أشهرها مدينة إشبيلية وهي آخر المدن الأندلسية التي خرج منها الإسلام.
هكذا فتحت الأندلس في القرن الأول الميلادي، فتحت بدماء الشهداء الأبرار، ونقل المسلمون بلاد الأندلس من التخلف والجهل إلى نور العلم وحضارة الإسلام، فصارت الأندلس رمزًا لحضارة الإسلام وللمكانة التي وصل إليها المسلمون من العلم والتقدم، في ذات الوقت الذي كانت مدن أوربا في ظلام دامس من تخلف وجهل.
ونحن إذ نتحدث عن الأندلس يجب أن نذكر أمتنا أن الإسلام بقي في الأندلس بضع قرون حتى وهن المسلمون وضعفوا وتشتتت مدنهم وصار لكل مدينة حاكما، فقام الفرنجة الصليبيون بقتالهم وتوالت هزائم المسلمين حتى كانت آخر المعارك هي معركة أشبيلية وهزم المسلمون فيها شر هزيمة، وهكذا خرج الإسلام من الأندلس، وصارت الأندلس اليوم حليفا مهما لأقوى البغي والطغيان الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وشاركت في تدمير بلاد إسلامية كثيرة أهمها العراق وأفغانستان، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
**********************************************************
فتح سرقوسة
وسرقوسة في الجغرافية العربية القديمة: "أكبر مدينة بجزيرة صقلية" على ما يقدره ياقوت الحموي في معجم البلدان (3/214)، وقد رصد لها الجغرافيون القدامى ما يعكس تقدمها وعمرانها.
ومن المهم أن نذكر أن فتح سرقوسة كان مرحلة شبه مستقلة من حركة الحروب التي استهدفت فتح جزيرة صقلية كلها.
وفي هذا السياق ينبغي أن نتأمل مجموعةً من العلامات الدالة على خط حركة الفتوحات الإسلامية وما قدمته للإنسانية في النقاط التالية:
أولاً: برهن المسلمون عن وعيهم بعالمية رسالتهم في الأقطار كافة، وهو ما نلمحه من خلال معرفتنا بأن الذي تم له فتح سرقوسة كان هم الأغالبة، بمعنى أن حركة الفتوحات الإسلامية لم تكن حكرًا على مسمى المشرق الإسلامي في يومٍ من الأيام، كما يحلو لبعض الدارسين أن يتصوروا أن حركة الفتوحات كانت حركة عربية قومية، على ما يشيع في كثير من كتابات المؤرخين المعاصرين الذين تشكلت أفكارهم في أثناء المد القومي!
ثانيًا: اعتراف مؤرخي الحضارات بالأثر الجبار الذي خلَّفه المسلمون في المدينة برمتها، وفي مدة وجيزة جدًّا على ما يقرره مثلاً كارل بروكلمان في "تاريخ الشعوب الإسلامية"؛ حيث يقرر ص249: "وفي الحق أن سنوات السلام التي قُدِّر العرب أن ينعموا بها في صقلية (سرقوسة) منذ ذلك الحين كانت كافيةً لنشر حضارتهم، والتمكين لها في ربوع الجزيرة إلى درجة بعيدة، حملت النورمانديين الذين (خلفوا العرب في حكم هذه البلاد) على أن يأخذوا عن العرب نظامهم الإداري ويقتبسوا العناصر الأساسية للثقافة الإسلامية في حياتهم الفكرية والعينية أيضًا". ففي هذه الشهادة التي يشهد بها واحد من أساطين الاستشراق الغربي كافية في هذا السياق لإعادة التمكين لجلال الفكرة الإسلامية التي حركت الفتوحات بدافع ديني وحضاري معًا يستهدف الخير للبشرية.
وهذا الوجه المضيء هو الوجه الذي ينبغي أن نواجه به أوربا والولايات المتحدة الأمريكية في مواجهاتها للعالم الإسلامي.
ثالثًا: إن القدرة الحربية المبكرة التي مكنت دولة الأغالبة (من المغرب العربي) من فتح هذه الجزيرة بما فيها سرقوسة بحصونها الطبيعية والصناعية تعيد فتح ملف التقدم العلمي في أواخر القرن الثالث الهجري، أي بعد ما يقرب من مائتي سنة فقط من عمر الدين الجديد باسم المعرفة الحديثة التي حازتها من فتح بلدان في عمق بحار عريقة جدًّا.
وهذه النقطة تعيينًا تفتح ملفًا مهمًّا ومهملاً معًا من جانب المعاصرين يتعلق بضرورة استثمار تخصص أصيل عُرِفَ في الأدبيات التاريخية والجغرافية باسم السفن الإسلامية، وهو تخصص له تاريخه ومصطلحاته للدرجة التي صنفت فيها كثير من المعاجم التي تعترف بما كان للعرب من تقدم هائل في مجال صناعة السفن والبحار.
هذه ثلاث نقاط فقط تبعث على التأمل والعمل معًا من أجل إيجاد آلية لدعم ما يُسمَّى به سقور الوحدة الثقافية بين أبناء العالم الإسلامية على امتداد بقاعه الجغرافية، وهو الأمر الذي كان موجودًا في ظل غياب ما هو قائم الآن من ثورة في الاتصالات غير مسبوقة، وهذه الوحدة قد تجلت أبعادها في أن حركة الفتوحات الإسلامية صنعها المسلمون جميعًا، من المشرق العربي ومن المغرب العربي، من المسلمين ذوي الأصول العربية ومن المسلمين ذوي الأصول غير العربية معًا.
باسم الإسلام وحضارته ووحدة شعوبه تقدم الفتح لينعم العالم تحت ظلاله، وفي أجواء رمضان الذي هو شهر الله تعالى تمت هذه الفصول البيضاء الرائعة.
**********************************************************
فتح القرم
والقرم شبه جزيرة داخلة في نطاق جغرافية روسيا، وهو ما يلفت النظر إلى أن الإسلام امتدَّ سلطانه حتى يسيطر على عدد ضخم من مدن أوربا من جهة روسيا والمجر وبولندا، وهو ما ينبغي تفهمه في إطار صناعة العلاقات على الجمهوريات الروسية المختلفة، باعتبار أن الإسلام ظلَّ واحدًا من الروافد المهمة التي شكلت ثقافة هذه البلاد حتى مشارف العصر الحديث.
وقد شكلت القرم التي فُتحت في (رمضان 889هـ/ 1474م) بما عاش فيها من شعوب أسلمت على أثر فتحها جزءًا من العالم الإسلامي، ما يتضح من كتاب بروكلمان "تاريخ الشعوب الإسلامية".
ومن هذا الذي نذكره من فتح القرم وتحويل شعبها إلى الإسلام بأثر ما وجدوه من عظمة الدين نلاحظ ما يلي:
أولاً: حاجة العقل المعاصر فتح الملف المتعلق بتاريخ الدولة العثمانية، وتصحيح الصور الشائهة التي روَّج لها الغرب بعد صراعه الطويل معها، وخسارة الرهيبة من ضرباتها وفتوحها، فما تزال أوربا المسلمة -إن صح هذا التعبير- في ألبانيا وكوسوفا وروسيا وبولندا والمجر وغيرها بعضًا من منح الدولة العثمانية، وهو بعض المفهوم من كتاب المنح الرحمانية في الدولة العثمانية وذيله لمحمد بن أبي السرور البكري الصديقي.
ثانيًا: ضرورة إعادة النظر في المناهج الدعوية والتربوية المتعاطية مع أعلام الإسلام العظام لتغذية الوجدان الإسلامي المعاصر، بعد أن اتضح أن منجز محمد الفاتح ليس مقصورًا على فتح القسطنطينية على جلال قدرها هذا الفتح، وإنما ينبغي أن تجاوزه إلى قراءة المنجز الحضاري والحربي الذي حققه للإسلام لما فتحه من بلدان روسيا وأوربا معًا، فقد رصد الدكتور سالم الرشيد -في كتابه المهم عن المهم عن محمد الفاتح (طبعة الحلبي 1956م)- له الفتوحات التالية: صربيا، والبوسنة والهرسك، فتح أثينا، والمورة، وغيرها.
ثالثًا: ضرورة تقديم نماذج بجوار النماذج الأولى محمد الفاتح وغيره من قيادات العالم الإسلامي المتأخرين لا يصح أن يغيبوا لمصلحة عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وغيرهم؛ لأن الإسلام صاحب حضارة ولود منتجة.
رابعًا: تأمل تفاصيل فتح القرم والتعامل مع ثقافة التتار المسلمين، وطبيعة الجغرافية والأرض المجاورة للدولة العثمانية، قائد إلى أمور مهمة جدًّا تصب في ضرورة إعادة فتح ملف التعليم في العالم العربي والإسلامي؛ لأن واحدًا من الأسباب التي عزاها المؤرخون للمقدرة والعبقرية الحربية التي أظهرها محمد الفاتح راجع إلى الثقافة الممتازة التي حصلها محمد الفاتح في نطاق نسق تعليمي متقدم جدًّا، وهو ما يؤكده الدكتور سالم الرشيدي عندما يقرر أن عناية محمد الفاتح بالعلم والعلماء هو السبب الخطير في تقدمه الحربي والحضاري.
خامسًا: برز الإسلام عاملاً مهمًّا في قيادة حركة الفتوحات التي قادها محمد الفاتح وهو الأمر الذي حاول ولم يزل بعض أنصار القومية التركية بعد مد أتاتورك العلماني أن يعزو التقدم العثماني بتفسير خصائص القومية التركية، وهو الأمر الذي يكذبه المؤرخون، يقول سالم الرشيدي ص280: "وإذا صح أن يقال: إن العرب إنما قامت دولتهم ومجدهم بفضل الإسلام، وأنهم ما كانوا ليكونوا شيئًا في التاريخ لولا هذا الدين، صح أن يقال: إن العثمانيين إنما قامت دولتهم ومجدهم بفضل الإسلام، وأنهم ما كانوا ليكونوا شيئًا في التاريخ لولا هذا الدين".
هذا الصوت الأخير هو الأمر المستقر في أدبيات الذين عرفوا تاريخ الدولة العثمانية من قبل محمد عنان، ونادية مصطفى، والصلابي، وعبد الرزاق بركات، ومحمد حرب، وغيرهم.
**************************************************************
فتح شذونة
لم تفرد الأدبيات التاريخية مساحة واسعة لفتح شذونة (رمضان 92هـ)، وهي من البلدان الحدودية المطلة على البحر المتوسط من جنوب الأندلس، كما حدث مع القادسية باب فارس في الجاهلية، وهو أول فارق في فلسفة الفتح يفاجئك في قراءة التعاطي مع بلدان الحدود في فتوحات جيل الدولة الراشدة وفتوحات جيل الدولة الأموية، وهو ما انعكس بدوره على تعامل الأدبيات التاريخية العربية مع كلا الفتحين.
كانت آثار المعرفة الجغرافية والتاريخية ببلدان فارس وتقدير خطرها عاملاً حاسمًا في حماية مكاسب فتح فارس الذي تجلَّى في تمصير مدن عربية كاملة من العدم تكون عمقًا استراتيجيًّا يمنع من استرداد فارس لبلدان إمبراطوريتها الذاهبة.
كان قرب جيوش الفتح من عصر النبوة بما استقر في نفوسهم من فعل الهجرة ذا أثر حاسم في الهجرة إلى بلدان جديدة سلكها العرب في البصرة والكوفة في الطريق إلى القادسية وفارس، لقد كان مسكن القبائل العربية في الطريق إلى الأمم المفتوحة عاملاً حاسمًا في تغيير الخريطة الديمغرافية السكانية التي حمت مكتسبات الفتح الراشد؛ لأنها ذوبت العناصر الثقافية عن طريق الاحتواء السكاني، وهو ما لم يحدث في فتوحات دولة بني أمية للأندلس.
وربما كان البربر -وهم أغلبية في جيش فتح الأندلس- سببًا آخر في عدم استدامة الفتح وانهياره بعد ثمانية قرون!
هل فَتُرَت ثقافة الهجرة فغاب الأندلس؟!.. ربما!
أمر آخر نلمسه في قراءة أحداث فتح شذونة (أول ما يقابل من بلاد الأندلس من جهة البحر قادمًا من بلدان المغرب)؛ هو أن حركة الجيوش كان أبعد عمق لها هو القبائل المتأخرة لمضيق جيل طارق من بلاد المغرب، وهي مسافة بعيدة جدًّا عن مقر الحكم المركزي في الشام لدولة بني أمية؛ مما يوحي بغياب أو خفوت الصوت العربي من أبناء الصحابة والتابعين، وهو أمرٌ له أثار سلبية على توجيه حركة الإعمار الفكري في داخل الأندلس نفسها..
وهو ما ظهر في بقاء عدد ضخم من النصارى يعملون بما يسمى استرداد الأندلس، ولو أن العنصر العربي الإسلامي الذي ظهر في فتوحات أبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم- كان بارزًا في حركة فتوحات الأندلس بما يميزه من تقديرٍ لقيمة المَعْلم، وبما يميزه من القدرة على التغير باسم المعايشة، لربما تغير أمر الأندلس، ولربما لم تنجح حركة ما يسمى باستيرادها.
ثمة أمر آخر لا أحب أن أقف أمامه طويلاً، وهو: هل كان لحظ النفس أثر في البدايات انعكست على نهايات الوجود المسلم في الأندلس؟!
تقول الأدبيات التاريخية: إن طارق بن زياد بدأ فتح الأندلس وبدأ فتح شذونة، ثم حسده سيده موسى بن نصير فأسرع ليتم الفتح معه، وهو ما ظهر في غير مصدر تاريخي قديم وحديث في تعبيره!! وأتم موسى بن نصير فتح شذونة.
وأنا بطبيعة الحال أقلق من مثل هذه التفاسير مع إمكان وجودها، لكن المهم هو أن التعامل مع الأندلس في لحظة من اللحظات تمَّ على اعتبارها جزءًا معزولاً عن جسد الخلافة في المشرق، وربما دعم هذا قيام الدولة الأموية في الأندلس بعد سقوطها في المشرق، واستمرت إلى أوائل القرن الخامس الهجري (403هـ) على التعيين.
فتح شذونة (رمضان 92هـ) وما أثير حوله من كتابات قليلة يفتح الباب إلى أن نتعلم من أخطاء ما كان ينبغي أن تقع.
باسم الإسلام فُتحت الأندلس، وفُتحت أولى محطاتها في شذونة، وباسمه تم تعميرها زمانًا طويلاً، لكن الفتح لم يَدُمْ سوى ثمانية قرون، وهو أمر ندعو إلى قراءة أبعاده وتجلِّياته.
**********************************************************
معركة النوبة .. فتح من الفتوحات الرمضانية
من ضمن المعارك والفتوحات العظيمة التي حفل بها شهر رمضان المبارك معركة فتح النوبة التي حدثت في العام الحادي والثلاثين من الهجرة النبوية المباركة، والتي كان من أهم آثارها معاهدة القبط التي كانت فاتحة خير على المسلمين في البلاد الإفريقية.
لما قام عمرو بن العاص بفتح في مصر في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أرسل عمرو بن العاص حملة عسكرية بقيادة عقبة بن نافع لفتح بلاد النوبة التي تقع في جنوب مصر، لكن المسلمين فوجئوا في هذه المعركة بأن النوبيين يجيدون رمي السهام، فقد أصاب النوبيون من المسلمين عددًا كبيرًا بتلك السهام، وأصيب كثير من المسلمين في حدق عينهم من جرَّاء النبل، فسموا (رماة الحدق).
وكان من نتيجة هذه الحملة أن تم التوافق على هدنة بين المسلمين والنوبيين، واستمر الصلح حتى كان عصر خلافة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، وكان قد عزل عمرو بن العاص عن مصر وولّى مكانه عبد الله بن أبي سرح، فنقض النوبيون الصلح وهاجموا صعيد مصر، فما كان من ابن أبي سرح إلا أن خرج في جيش تعداده عشرون ألف مقاتل، وسار إلى دنقلة عاصمة النوبيين وحاصرها وضربها بالمنجنيق حتى استسلموا وطلبوا الصلح.
وتصالح المسلمون والنوبيون في شهر رمضان من العام الحادي والثلاثين بعد الهجرة على بنود من أهمها:
1- حفظ من نزل بلادهم من مسلم أو معاهد حتى يخرج منها.
2- رد من لجأ إليهم من مسلم محارب للمسلمين وإخراجه من ديارهم.
3- حفظ المسجد الذي بناه المسلمون في فناء المدينة وألاّ يمنعوا منه مسلمًا.
4- أن يدفعوا للمسلمين كل عام ثلاثمائة وستين رأسًا من أوسط رقيق بلادهم، وكان القوم مشهورين بكثرة الرقيق عندهم.
5- في مقابل ذلك لهم عند المسلمين أمان فلا يحاربونهم ولا يغزونهم.
وقد قيل إنه في مقابل الرقيق الذي يأخذه المسلمون منهم يعدونهم بدلاً منه قمحًا وعدسًا، هذا كان العهد الذي تم بين المسلمين وأهل النوبة، وقد رفع هذا الصلح إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه فأقره.
وإن هذا لعهد -إن أمعنَّا النظر فيه وتأملناه جيدًا- نرى في بنوده معالم للسياسة الشرعية في الإسلامية، ومعالم واضحة للعلاقات الخارجية للدولة الإسلامية.
فنرى أن رد النوبيين المسلم المحارب للمسلمين وإخراجه من ديارهم يعد أمرًا مهمًّا جدًّا، فهو يمنع من تكتل وتجمع الخارجين عن النظام الشرعي للدولة الإسلامية وعلى ولاة الأمر الذين يحكمون بما أنزل الله، وبالتالي لا تكون هذه الجهة مركزًا للاعتداء على الدولة الإسلامية من بعض الأفراد الخارجين على ولاة الأمر، وبالتالي حماية الدولة الإسلامية والتأكيد على وحدتها.
ونرى أن حفظهم للمسجد الذي بناه المسلمون في فناء المدينة هو الأثر الأهم والنتيجة العظمى لهذا الصلح الطيب؛ فوجود المسجد وعدم التعرض للمسلمين في المدينة يعني انتشار الإسلام بين الناس، ولأن المسجد في الإسلام مكانته عظيمة وهو منطلق الدعوة ومركزها، وكان أول شيء يقوم به المسلمون في أي مكان يدخلونه هو بناء المسجد؛ اقتداءً بنبيهم صلى الله عليه وسلم الذي بنى مسجدًا بالمدينة بمجرد وصوله إليها. ومع اشتراط حفظهم لمن يدخل بلادهم من المسلمين فهذا يعني انتشار الإسلام بسهولة ويسر؛ حيث إن تجار المسلمين والمسافرين الذي لا يتوقفون عن الحركة على مدار العام سيعملون على دعوة الناس إلى الإسلام، في حين أن هؤلاء الدعاة من التجار وغيرهم يكونون في مأمن، طالما كانوا في أرض النوبة فلا يتعرض لهم أحد.
وهنا شبهة يرددها الصليبيون الحاقدون على الإسلام وأهله، يجب أن نفندها ونبيِّن كذبهم وافتراءهم فيها، فهم يدعون أن هذه الاتفاقية كانت تجبر أهل النوبة -وهم نصارى على حد زعمهم- على بيع أولادهم للمسلمين كي يتقوا شرهم، فيحاولون إيهام الناس أن ذلك العدد من الرقيق الذي يجب على النوبيين إرساله للمسلمين سنويًّا، كانوا أبناء النصارى، وهذا كذبٌ وافتراء؛ فالاتفاقية تنص على تسليم ثلاثمائة وستين رأسًا من أوسط رقيقهم، ولا تنص على ثلاثمائة وستين رأسًا من أوسط فتيانهم أو شبابهم. والمعنى واضح والفرق شاسع بين اللفظين، فشتان شتان بين الرقيق والفتى أو الشاب.
لقد كان لهذا الصلح أثر عظيم في انتشار الإسلام في بلاد السودان وجنوبها، لقد استغل المسلمون الأوائل هذه المعاهدة في نشر الإسلام في تلك البلاد، وكان المسجد الذي بناه المسلمون في فناء دنقلة مركزًا لنشر الإسلام في بلاد النوبة وجنوبها، وإن هذا الصلح ليؤكد كذب الذين يدعون بأن انتشر بحد السيف! فليخبرونا إذن كيف أسلم أهل النوبة والسودان وتلك البلاد النائية في إفريقيا التي لم تصلها جيوش المسلمين في أي عصر من العصور؟!
إن هذا الصلح ليؤكد براعة وذكاء وفهم المسلمين الأوائل للواقع الذي يعيشونه وكيفية التعامل مع هذا الواقع بشكلٍ يخدم مصالح الأمة الإسلامية ويعمل على نشر الدين الإسلامي ولا يتعارض مع أحكام شريعة رب السماء جل في علاه، ولا سُنَّة نبيه المصطفى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وإن هذه هي السياسة التي يجب أن نتعامل بها ويجب أن نتعلمها؛ فلن يعود للإسلام عزه ومجده ولن تعود للأمة كلها القيادة والريادة في هذا العالم إلا باتباع هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، والنظر في أفعال سلفنا الصالح الصحابة والتابعين.
************************************************************
فتح السند والهند
يقول ابن كثير -في البداية والنهاية (12/460) في أحداث سنة أربع وتسعين-: "وفيها فتح الله على الإسلام فتوحات عظيمة في دولة الوليد بن عبد الملك على يدي أولاده وأقربائه وأمرائه، حتى عاد الجهاد شبيهًا بأيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه".
هذه شهادة واحد من كبار مؤرخي الإسلام، وليس فيها شبهة ممالاة؛ لأنه لم يكتب ما كتب إلا وبينه وبين دولة بني أمية ما يربو على ستمائة سنة!
والنص السابق يهز وينال من الصورة التي طالما عرضت للنيل من أبناء هذه الدولة ورجالها، فلم يكن رجالها غارقين في النعيم كما تصورهم الأعمال الدرامية، بل كانوا يقودون حركة جهادية وصفها المؤرخ الكبير بأنها شبيهة بأيام عمر!
وفي هذه السنة افتتح القاسم بن محمد الثقفي أرض الهند، ومن الأمور التي يجب الوقوف أمامها في أحداث هذا الفتح ما يلي:
أنه لما رأى أهل المدن الهندية تقدم محمد بن القاسم وقدرته على دحر مدن "راور"، "برهمناباذ"، وسقط من القتلى الآلاف، قابله أهل "ساوندري" طالبين الأمان فأعطاهم إياه، واشترط عليهم ضيافة المسلمين، ومثل ذلك حدث مع "بسمد" في صلحه معهم.
وهذا الذي قاله البلاذري في فتوح البلدان يعكس مدى التزام المجاهد المسلم بأوامر الله سبحانه، فلم يكن المجاهدون المسلمون يُحركهم اشتهاء الدم، أو الظفر بالأرض، أو جمع الكنوز والغنائم، لقد خرج المجاهد المسلم يملؤه الشوق الجارف لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
والعجيب أن يشترط محمد بن القاسم في مصالحته لأهالي هذه المدن أن يضيفوا المسلمين، الرجل يطلب ضيافة المسلمين مع أنه صاحب البلد الأعلى، ولو سلب أو نهب ما رده أحد، لكن الجيش المسلم يريد أن يمكث ضيفًا في إقامته، وضيفًا في مطعمه ومشربه، إنه لا يريد أن يُقيم إقامةً أبديةً مستبدًّا طاغيةً يسير فيهم بمنطق الغالب القاهر.
شروط الصلح تُوحي بأن الفتح هو لتوصيل كلمة الله، والمجاهدون بعدما تمت عملية البلاغ لا مجالَ لمكثهم، هذا هو المفهوم من الضيافة؛ ولذلك تقول الأدبيات التي أرَّخت لهذا الفتح إن أهلها انقلبوا مسلمين.
مسألة أخرى جديرةٌ بأن نقف أمامها وهي: أنه لما تقدَّم المسلمون إلى السند لإتمام فتحها وصلوا إلى مدينة الراور فحوصرت، ثم فتحها المسلمون صلحًا على شرطين: هما عدم قتلهم، وعدم خراب بدهم (والبد: بيوتهم التي يتعبدون فيها).
هذا الشرطان يقدمان صورة بالغة النصاعة في تأمين معتقدات أصحاب البلاد المفتوحة، لقد كان شغل المسلم الشاغل هو بناء مسجد وتمكينه من إبلاغ دعوة الله، من غير قهرٍ للآخرين أو محو هوياتهم.
إن ترك هذه المعابد التي يقول عنها البلاذري إنها كنائس النصارى واليهود وبيوت النار التي للمجوس، يدل على أن هذه الأمة تجاهد وهي تحترم معتقدات الآخرين، ولو كان معتقدهم التعبد للأصنام!
أمر أخير هو أن جند المسلمين كانوا يتحركون بأخلاق الإسلام من الرحمة والعفة والبذل، ودليل ذلك أن محمد بن القاسم لما مات الوليد بن عبد الملك وتولى سليمان عزل محمد وتولى غيره، فحُمِل القائد الفاتح مقيدًا، فبكاه أهل الهند؛ يقول البلاذري: "فبكى أهل الهند على محمد".
فأي شيء حرَّك عاطفة هؤلاء نحو قائدٍ بلَّغ كلمة الله؟! إننا لم نسمع ولن نسمع عن غازٍ قاهرٍ يُبكيه مَن غزاهم وقهرهم، إنَّ بكاء بلاد الهند والسند (التي فُتحت في رمضان 94هـ/ 713م) على محمد بن القاسم أكبر دليل على رحمة الفاتح المسلم وبذله وكريم خلقه، بل إنَّ أدبيات ذلك الفتح تقرر أنهم صوروه وصنعوا له ما يُشبه التمثال.
هذه بعض عظمة الفتح الإسلامي وجدت طريقها إلى أنفس شعوب الأرض، فعانقت دين الله.
***********************************************************
حرب العاشر من رمضان
من أهم ما حدث في شهر رمضان المبارك، ما فاجأنا وفاجأ العالم كله من حدث، اهتزت له القلوب طربًا، وابتسمت له الثغور فرحًا، ولهجت به الألسنة ثناء، وسجدت الجباه من أجله لله شكرًا.
إنه الحدث الذي عوضنا عما فُوجئنا به من قبل في الخامس من حزيران (يونيو) 1967م، والذي خسرت به الأمة ما خسرت، وكسبت إسرائيل ما كسبت، وضاعت به -إلى اليوم- القدس والضفة والقطاع والجولان، إضافةً إلى سيناء التي استردتها مصر فيما بعد.
وهذا الحدث الذي أحيا الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، بل الأمة الإسلامية من المحيط إلى المحيط، هو حرب العاشر من رمضان (10 رمضان 1393هـ/ 6 أكتوبر 1973م). وأنا أحب دائمًا أن أسميها معركة العاشر من رمضان، وليس السادس من أكتوبر؛ لأن (شهر رمضان) ونفحاته وبركاته وإمداداته التي هبت نسماتها على الجنود والصائمين والمصلين كان له أثره في تحقيق النصر، وإمداد المقاتلين بشحنة إيمانية دفعتهم إلى البذل والفداء، أما (أكتوبر) فليس له أي إيحاء، أو دخل في هذا النصر.
ما زلت أذكر هذا اليوم المشرق، وقد خرجت من درس العصر في مسجد الشيخ خليفة، فإذا الأنباء المبشرة تستقبلني، وإذا الهواتف تدق ولا تتوقف، للاتصال بي من هنا وهناك، مهنئة بما وقع، شاكرة لله -تعالى- الذي صدق وعده، وأعز جنده، وهزم الظالمين وحده.
في أول الأمر خفت أن نكون مخدوعين، كما خدع كثيرون أيام نكبة 5 يونيو 1967م، فقد كانت القاهرة تذيع الأكاذيب على الناس، وتخدرهم بأخبار لا أساس لها: طائرات إسرائيلية تسقط بالعشرات، والحقيقة أن طائراتنا هي التي ضُربت في مدرجاتها، ولم تطر حتى تسقط، ولكن كانت الشواهد كلها تؤكد أن هذه حقيقة وليس حلمًا، وأنه واقع وليس من نسج الخيال.
ألا ما أحلى مذاق النصر، وخصوصًا بعد تجرع مرارة الهزيمة المذلة من قبل! وللأسف طالت هزائم الأمة في معارك شتى، وذرفت الدموع كثيرًا على هزائمها، حيث لم تغنِ الدموع، وآن لها أن تجد مناسبة تفرح بها بعد حزن، وأن تضحك بعد طول بكاء.
لقد عبر الجيش المصري القناة، صنع قناطر أو جسورًا للعبور عليها، مكونة من أجزاء، تُركب في الحال، ويوصل بعضها ببعض، فتكون جسرًا فوق الماء تعبر فوقه المصفحات والمجنزرات والدبابات إلى البر الآخر، وقد بدأ بالعمل فيها منذ سنوات، ثم بدأت تجربتها، والتدريب عليها منذ شهور، في تكتم وسرية بالغة، وهذا عمل مصري خالص، لم يشترك فيه خبراء أجانب؛ ولهذا حُفظ السر، ولم يبح به أحد.
بعد عبور القناة بسلام وأمان ونجاح، اقتحمت القوات المصرية ما عُرف باسم خط بارليف، الذي أقامته إسرائيل؛ ليكون حاجزًا ترابيًّا بعد الحاجز المائي، وكانت العدة قد أعدت لتخطيه بإحكام ومهارة.
وكان كل شيء مُعدًّا بجدارة وأناة وحكمة، ولم يكن هناك شيء مرتجل، وقام كلُّ سلاحٍ بدوره: سلاح المهندسين، وسلاح الفرسان والمدرعات، وسلاح الطيران، كلٌّ قام بما هيئ له، وما كلف به.
وقد اختير التوقيت المناسب لبدء المعركة، وكان رمضان هو الوقت الملائم نفسيًّا وروحيًّا؛ لما يمد به الجنود من نفحات، وما يعطيهم من شحنة روحية، وكان أكتوبر مناسبًا، من حيث المناخ، وليس فيه حرارة الصيف، ولا برد الشتاء.
وكان الوقت مناسبًا من ناحية أخرى أنه يوم الغفران، أو عيد الغفران عند اليهود، فلننتهز غفلتهم وانهماكهم في الاحتفال بالعيد؛ لنفاجئهم بضربتنا، كما فاجئونا بضربتهم في يونيو 67.
ولا يقال: كيف نباغتهم ولا ننذرهم؟ فمثل هذه الحرب لا تحتاج إلى إنذار ولا إبلاغ؛ لأنها حرب دفاع للمحتل، وهي مستمرة معه لم تتوقف.
وأهم من هذا كله: الروح المعنوية التي كان يحملها المقاتل المصري.. إنها روح الإيمان؛ الإيمان بالله تعالى، وأنه ينصر من نصره، والإيمان بأننا أصحاب الحق، والحق لا بد أن ينتصر، والباطل لا بد أن يزهق {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].
فرق بين حربين
وفرق كبير بين هذه الحرب وحرب يونيو 67، فقد كان العنصر الإيماني والروحي مغيبًا عنها تمامًا؛ لذلك لم يحالفها النصر.
كانت كلمة السر في حرب 67: "بر بحر جو"، ولكن الواقع يقول: إنهم لم ينتصروا في بر ولا بحر ولا جو، ولم يكن الذنب ذنب الجيش وجنوده، ولكن ذنب القادة الذين جروهم إلى حرب لم يخططوا لها، ولم يعدوا لها العُدَّة، ولم يأخذوا لها الحذر، كما أمر الله.
لقد ترك الجنود أسلحتهم، وتركوا دباباتهم ومصفحاتهم، لم يحاولوا أن يشعلوا فيها النار بعد أن تركوها، حتى لا يغنمها العدو ويستفيد منها؛ لأن همَّ كل واحد منهم كان هو النجاة بنفسه، واللياذ بالفرار.
لقد اعتمدوا على الآلات، فلم تغنِ عنهم الآلات، واتكلوا على السلاح فلم ينجدهم السلاح؛ لأن السلاح لا يقاتل بنفسه، إنما يقاتل بيد حامله، ويد حامله إنما يحرِّكها إيمان بهدف، وإيمان برسالة، وهذا لم يعبأ به الجنود.
وما زلنا مع رمضان الكريم وأنتصاراتة
أمس في 9:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» وجوب التوكل على الله وخده لا شريك له
أمس في 3:26 pm من طرف عبدالله الآحد
» أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 5:24 pm من طرف عبدالله الآحد
» العبادة وأركانها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 2:55 pm من طرف عبدالله الآحد
» الراجح من أقوال العلماء أن جلسة الاستراحة سنة في الصلاة
الإثنين نوفمبر 18, 2024 2:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» -(( 3 -))- خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
الأحد نوفمبر 17, 2024 10:15 pm من طرف صادق النور
» لا يعلم الغيب إلا الله وحده لا شريك له
الأحد نوفمبر 17, 2024 3:12 pm من طرف عبدالله الآحد
» تابع زبدة التوحيد لنعمان بن عبد الكريم الوتر
السبت نوفمبر 16, 2024 2:15 pm من طرف عبدالله الآحد
» هيئات السجود المسنونة
الخميس نوفمبر 14, 2024 3:24 pm من طرف عبدالله الآحد
» (( - 2 -)) خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
الأربعاء نوفمبر 13, 2024 11:28 pm من طرف صادق النور