الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه.
أما بعد: فإن من رحمة الله تعالى بعباده أن جعل الحق واحدًا لا يتعدَّد؛ ليكون علامة على صِدقه، مدعاة لاتباعه، وجعل الأهواء متفرقة ومتشعّبة؛ لتكون علامة على بطلانها، مدعاة لاجتنابها؛ يقول الله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 14]، يقول مطرف بن الشخير (ت 95هـ): “لو كانت هذه الأهواء كلها هوى واحدًا لقال القائل: الحق فيه، فلما تشعّبت واختلفت عرف كل ذي عقل أن الحق لا يتفرق”([1]).
وفي هذه الورقة العلمية نعرض لحديث لطالما تناوله المعتزلة والجهمية وبعض الأشاعرة بالرد، واتخذوا لذلك طرقًا شتى وتارات متفرقة؛ تارة بادعاء تضعيفه، وتارة بالتأويل وصرفه عن ظاهره، أو بتفويض معناه إلى الله تعالى تارة أخرى([2]).
هذا الحديث يعرف بحديث الجارية، وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم لها: «أَيْنَ اللهُ؟»، وهو حديث صحيح سالم من المعارضة، قد دلَّ على إثبات صفة العلو لله تعالى على الوجه اللائق به سبحانه([3])، كما أيده القرآن الكريم في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 16، 17].
فمَن أقبحُ حالًا وأسوأ مآلًا ممن ذكر له حديث النبي صلى الله عليه وسلم ثم هو يعارضه بشبهات غوية أو يقدم عليه سخافات عقلية؟! يقول ابن قدامة المقدسي (ت 600 هـ): “ومن أجهل جهلًا وأسخف عقلًا وأضل سبيلًا ممن يقول: إنه لا يجوز أن يقال: أين الله؟ بعد تصريح صاحب الشريعة بقوله «أَيْنَ اللهُ؟»؟!”([4]).
وفيما يلي نص الحديث، وبيان درجته، وأقوال العلماء في تصحيحه، ثم التعريج على ما يستفاد منه، مع الرد على ما يصلح أن يكون شبهة ترد على الحديث.
1- نص الحديث:
عن معاوية بن الحَكَم السُّلَمي رضي الله عنه -في حديث طويل- أنه قال: وَكَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ وَالْجَوَّانِيَّةِ([5])، فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا الذِّيبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، آسَفُ([6]) كَمَا يَأْسَفُونَ، لَكِنِّي صَكَكْتُهَا([7]) صَكَّةً، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَفَلَا أُعْتِقُهَا؟ قَالَ: «ائْتِنِي بِهَا»، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ لَهَا: «أَيْنَ اللهُ؟»، قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ: «مَنْ أَنَا؟»، قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ، قَالَ: «أَعْتِقْهَا، فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ»([8]).
2- درجة الحديث:
هذا الحديث صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا معارض له بحال، وبيان ذلك من وجوه:
الأول: رواية الإمام مسلم له في صحيحه، ولم يتعقّبه أحد من نقاد الحديث بتضعيفه، وهو وإن كان مما انفرد به مسلم دون البخاري في صحيحه، إلا أنه مقطوع بصحته، كما تلقته الأمة بالقبول([9])؛ وفي هذا المعنى يقول الحافظ ابن الصلاح (ت 643هـ): “ما انفرد به البخاري أو مسلم مندرج في قبيل ما يقطع بصحته؛ لتلقي الأمة كل واحد من كتابيهما بالقبول على الوجه الذي فصلناه من حالهما فيما سبق، سوى أحرف يسيرة، تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ كالدارقطني وغيره، وهي معروفة عند أهل هذا الشأن”([10]).
الثاني: أنه بالرغم من تفرد الإمام مسلم بتخريجه دون البخاري؛ فإنه مع ذلك على شرط الإمام البخاري؛ يقول أبو عبد الله الحميدي (ت 488هـ): “قد أخرجه البخاري في كتابه في “القراءة خلف الإمام”([11]) عن مسدد بن يحيى عن الحجاج الصواف، وهو من شرطه، ولم يتفق له إخراجه في الجامع الصحيح”([12]).
الثالث: إثبات الأئمة له في كتبهم؛ استدلالًا به على بعض المسائل الفقهية؛ كما فعل الإمام الشافعي (ت 204هـ)([13])، أو استدلالًا به على إثبات صفة العلو لله تعالى وأنه سبحانه في السماء، كما فعل الإمام أبو حنيفة (ت 150هـ)([14])، وأبو عبيد القاسم بن سلام (ت 224هـ)([15])، وأبو سعيد الدَّارمي (ت 280هـ)([16])، وعبد الله ابن الإمام أحمد (ت 290هـ)([17])، وأبو الحسن الأشعري (ت 324هـ)([18])، وابن أبي زَمَنِين المالكي (ت 399هـ)([19])، وأبو نصر السِّجزي (ت 444هـ)([20])، وأبو الحسين العمراني الشافعي (ت 558هـ)([21])، وعبد الغني المقدسي الحنبلي (ت 600هـ)([22])، وابن قدامة المقدسي الحنبلي (ت 620هـ)([23]). ولو ذهبنا نستقصي من استدل به من العلماء لطال بنا المقام.
3- أقوال العلماء في تصحيحه:
هذا الحديث مما اتفق العلماء على تصحيحه([24])، وفيما يلي أقوال بعضهم:
يقول أبو بكر البيهقي الشافعي (ت 458هـ): “هذا صحيح”([25]).
ويقول أبو محمد البغوي الشافعي (ت 516هـ): “هذا حديث صحيح”([26])، كما جعله من قسم الصحاح في “مصابيح السنة”([27]).
ويقول شهاب الدين التُّورِبِشتْي (ت 661هـ): “فإن الحديث حديث صحيح”([28]).
ويقول ابن شيخ الحزامين الشافعي (ت 711 هـ): “ثم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح للجارية: «أَيْنَ اللهُ؟» فقالت: في السماء. فلم ينكر عليها بحضرة أصحابه؛ كيلا يتوهموا أن الأمر على خلاف ما هو عليه، بل أقرها وقال: «أعتقها؛ فإنها مؤمنة»“([29]).
وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية الحنبلي (ت 728هـ) كما في “الفتوى الحموية الكبرى”([30])، و”مجموع الفتاوى”([31])، وغيرهما.
ويقول الذهبي الشافعي (ت 748هـ): “فمن الأحاديث المتواترة([32]) الواردة في العلو حديث معاوية بن الحكم السلمي”([33])، وقال أيضًا: “هذا حديث صحيح”([34]).
ويقول الحافظ ابن حجر الشافعي (ت 852هـ): “وهو حديث صحيح أخرجه مسلم”([35]).
ويقول مرعي الكرمي الحنبلي (ت 1033هـ): “في الحديث الصحيح المشهور، الذي رواه الأئمة في كتبهم بأسانيدهم، وتلقته الأمة بالقبول أن معاوية بن الحكم…”([36]).
ويقول الشيخ الألباني (ت 1420هـ): “هذا الحديث صحيح بلا ريب… الرواية الثابتة المتفق على صحتها بين المحدثين“([37]).
ويبقى السؤال: ألا يكفي هذا في التدليل على صحة الحديث، وبالتالي صحة اعتقاد ما دل عليه؟!
4- ما يستفاد من الحديث:
أوَّل ما يستفاد من هذا الحديث: جواز السؤال عن الله تعالى بأين هو؟ وهذا صريح، ثم جواز الإخبار بأنه سبحانه في السماء، وهو إقرار، وثالثًا: الحكم على من قال ذلك بالإيمان.
يقول أبو يعلى الفراء الحنبلي (ت 458هـ): “اعلم أن الكلام في هذا الخبر في فصلين:
أحدهما: في جواز السؤال عنه سبحانه بأين هو؟ وجواز الإخبار عنه بأنه في السماء.
والثاني: قوله: «أعتقها؛ فإنها مؤمنة».
أما الفصل الأول فظاهر الخبر يقتضي جواز السؤال عنه، وجواز الإخبار عنه بأنه في السماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «أَيْنَ اللهُ؟»، فلولا أن السؤال عنه جائز لم يسأل، وأجابته بأنه في السماء وأقرَّها على ذلك، فلولا أنه يجوز الإخبار عنه سبحانه بذلك لم يقرها عليه، فأجاز السؤال، وأجاب عنه”([38]).
ومع جواز السؤال عن الله تعالى بأين، فإن الجواب يأتي بالفطرة المركوزة في نفس كل أحد، بأنه تعالى في السماء؛ يقول الذهبي: “وهكذا رأينا كل من يُسأل: أين الله؟ يبادر بفطرته ويقول: في السماء، ففي الخبر مسألتان: إحداهما: شرعية قول المسلم: أين الله؟ وثانيهما: قول المسؤول: في السماء، فمن أنكر هاتين المسألتين فإنما ينكر على المصطفى صلى الله عليه وسلم”([39]).
ومما يستفاد من الحديث كذلك: أن من لم يعلم بأن الله تعالى في السماء فليس بمؤمن.
يقول الشافعي: “وفيه بيان أن من كانت عليه رقبة بنذر، أو وجبت بغير نذر؛ لم يجزئه فيها إلا مؤمنة، ألا ترى أنه يقول: علي رقبة، لا يذكر مؤمنة، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجارية عن صفة الإيمان، ولو كانت تجزئه غير مؤمنة قال: أعتق أيَّ رقبة شئت، والله أعلم”([40]).
ويقول أبو سعيد الدارمي (ت 280هـ): “ففي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا دليل على أن الرجل إذا لم يعلم أن الله عز وجل في السماء دون الأرض فليس بمؤمن، ولو كان عبدًا فأُعتق لم يجز في رقبة مؤمنة؛ إذ لا يعلم أن الله في السماء؛ ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل أمارة إيمانها معرفتها أن الله في السماء؟!”([41]).
ومما يستفاد من الحديث أيضًا: إثبات صفة العلو للعلي الغفار، وقد سبق ذكر طائفة ممن استدل بالحديث على هذا؛ يقول أبو سعيد الدارمي: “فالله تبارك وتعالى فوق عرشه، فوق سمواته، بائن من خلقه، فمن لم يعرفه بذلك لم يعرف إلهه الذي يعبد، وعلمه من فوق العرش بأقصى خلقه وأدناهم واحد، لا يبعد عنه شيء، {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [سبأ: 3]، سبحانه وتعالى عمَّا يصفه المعطلون علوًّا كبيرًا”([42]).
ولا يلزم من إثبات صفة العلوِّ لله تعالى لوازم باطلة، يقول ابن تيمية: “ولكن ليس معنى ذلك أن الله في جوف السماء، وأن السموات تحصره وتحويه؛ فإن هذا لم يقله أحد من سلف الأمة وأئمتها؛ بل هم متفقون على أن الله فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه؛ ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. وقد قال مالك بن أنس: إن الله فوق السماء وعلمه في كل مكان… -إلى أن قال:- فمن اعتقد أن الله في جوف السماء محصور محاط به، وأنه مفتقر إلى العرش أو غير العرش من المخلوقات، أو أن استواءه على عرشه كاستواء المخلوق على كرسيه: فهو ضال مبتدع جاهل، ومن اعتقد أنه ليس فوق السموات إله يعبد، ولا على العرش رب يصلى له ويسجد، وأن محمدًا لم يعرج به إلى ربه، ولا نزل القرآن من عنده: فهو معطل فرعوني ضال مبتدع”([43]).
قول شيخ الإسلام ابن تيمية: “قد وصف الله نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله بالعلو والاستواء على العرش والفوقية في كتابه في آيات كثيرة، حتى قال بعض كبار أصحاب الشافعي: في القرآن ألف دليل أو أزيد تدل على أن الله عال على الخلق وأنه فوق عباده”([61])، ويقول ابن القيم (ت 751هـ): “وإذا كان العلو والفوقية صفة كمال لا نقص فيه، ولا يستلزم نقصًا، ولا يوجب محذورًا، ولا يخالف كتابًا ولا سنة ولا إجماعًا، فنفي حقيقتها عين الباطل”([62]).
فويل لمن عارض ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم بعقله وهواه، وأحدث لذلك وتشدق بما وسوس له به شيطانه، وترك الفطرة التي فطره الله عليها؛ يقول ابن تيمية: “والجارية التي قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أَيْنَ اللهُ؟» قالت: في السماء، قال: «أعتقها؛ فإنها مؤمنة» جارية أعجمية، أرأيت من فقَّهها وأخبَرها بما ذكرته؟! وإنما أخبرت عن الفطرة التي فطرها الله تعالى عليها، وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وشهد لها بالإيمان. فليتأمل العاقل ذلك يجده هاديًا له على معرفة ربه، والإقرار به كما ينبغي، لا ما أحدثه المتعمقون والمتشَدِّقون ممن سوَّل لهم الشيطان وأملى لهم“([63]).
نسأل الله تعالى لنا ولجميع إخواننا الهداية والتوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
منقول من موقع مركز السلف الصالح بتصرف
قال شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني رحمه الله: "وإمامنا أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله احتج في كتابه المبسوط في مسألة إعتاق الرقبة المؤمنة في الكفارة، وأن غير المؤمنة لا يصح التكفير بها، بخبر معاوية بن الحكم، وأنه أراد أن يُعتق الجارية السوداء لكفارة، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إعتاقه إياها ، فامتحنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: من أنا؟ فأشارت إليه وإلى السماء، يعني أنك رسول الله الذي في السماء، فقال صلى الله عليه وسلم: أعتقها فإنها مؤمنة، فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامها وإيمانها ، لما أقرت بأن ربها في السماء، وعرفت ربها بصفة العلو والفوقية.
وإنما احتج الشافعي رحمة الله عليه على المخالفين في قولهم بجواز إعتاق الرقبة الكافرة في الكفارة بهذا الخبر؛ لاعتقاده أن الله سبحانه فوق خلقه، وفوق سبع سماواته على عرشه، كما هو معتقد المسلمين من أهل السنة والجماعة، سلفهم وخلفهم؛ إذ كان رحمه الله لا يروي خبراً صحيحاً ثم لا يقول به" انتهى من "عقيدة السلف وأصحاب الحديث"، ص 188.
وقال الذهبي رحمه الله في "العلو" ص28: " وهكذا رأينا كل من يُسأل: أين الله ؟ يبادر بفطرته ويقول: في السماء. ففي الخبر مسألتان:
إحداهما: شرعية قول المسلم أين الله؟
وثانيهما: قول المسؤول: في السماء، فمن أنكر هاتين المسألتين فإنما ينكر على المصطفى صلى الله عليه وسلم" انتهى.
قال الإمام عبد الغني المقدسي رحمه الله: " ومَن أجهلُ جهلاً، وأسخف عقلاً، وأضل سبيلاً ممن يقول إنه لا يجوز أن يقال: أين الله، بعد تصريح صاحب الشريعة بقوله [أين الله]" انتهى من "الاقتصاد في الاعتقاد"، ص89
أما بعد: فإن من رحمة الله تعالى بعباده أن جعل الحق واحدًا لا يتعدَّد؛ ليكون علامة على صِدقه، مدعاة لاتباعه، وجعل الأهواء متفرقة ومتشعّبة؛ لتكون علامة على بطلانها، مدعاة لاجتنابها؛ يقول الله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 14]، يقول مطرف بن الشخير (ت 95هـ): “لو كانت هذه الأهواء كلها هوى واحدًا لقال القائل: الحق فيه، فلما تشعّبت واختلفت عرف كل ذي عقل أن الحق لا يتفرق”([1]).
وفي هذه الورقة العلمية نعرض لحديث لطالما تناوله المعتزلة والجهمية وبعض الأشاعرة بالرد، واتخذوا لذلك طرقًا شتى وتارات متفرقة؛ تارة بادعاء تضعيفه، وتارة بالتأويل وصرفه عن ظاهره، أو بتفويض معناه إلى الله تعالى تارة أخرى([2]).
هذا الحديث يعرف بحديث الجارية، وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم لها: «أَيْنَ اللهُ؟»، وهو حديث صحيح سالم من المعارضة، قد دلَّ على إثبات صفة العلو لله تعالى على الوجه اللائق به سبحانه([3])، كما أيده القرآن الكريم في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 16، 17].
فمَن أقبحُ حالًا وأسوأ مآلًا ممن ذكر له حديث النبي صلى الله عليه وسلم ثم هو يعارضه بشبهات غوية أو يقدم عليه سخافات عقلية؟! يقول ابن قدامة المقدسي (ت 600 هـ): “ومن أجهل جهلًا وأسخف عقلًا وأضل سبيلًا ممن يقول: إنه لا يجوز أن يقال: أين الله؟ بعد تصريح صاحب الشريعة بقوله «أَيْنَ اللهُ؟»؟!”([4]).
وفيما يلي نص الحديث، وبيان درجته، وأقوال العلماء في تصحيحه، ثم التعريج على ما يستفاد منه، مع الرد على ما يصلح أن يكون شبهة ترد على الحديث.
1- نص الحديث:
عن معاوية بن الحَكَم السُّلَمي رضي الله عنه -في حديث طويل- أنه قال: وَكَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ وَالْجَوَّانِيَّةِ([5])، فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا الذِّيبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، آسَفُ([6]) كَمَا يَأْسَفُونَ، لَكِنِّي صَكَكْتُهَا([7]) صَكَّةً، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَفَلَا أُعْتِقُهَا؟ قَالَ: «ائْتِنِي بِهَا»، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ لَهَا: «أَيْنَ اللهُ؟»، قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ: «مَنْ أَنَا؟»، قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ، قَالَ: «أَعْتِقْهَا، فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ»([8]).
2- درجة الحديث:
هذا الحديث صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا معارض له بحال، وبيان ذلك من وجوه:
الأول: رواية الإمام مسلم له في صحيحه، ولم يتعقّبه أحد من نقاد الحديث بتضعيفه، وهو وإن كان مما انفرد به مسلم دون البخاري في صحيحه، إلا أنه مقطوع بصحته، كما تلقته الأمة بالقبول([9])؛ وفي هذا المعنى يقول الحافظ ابن الصلاح (ت 643هـ): “ما انفرد به البخاري أو مسلم مندرج في قبيل ما يقطع بصحته؛ لتلقي الأمة كل واحد من كتابيهما بالقبول على الوجه الذي فصلناه من حالهما فيما سبق، سوى أحرف يسيرة، تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ كالدارقطني وغيره، وهي معروفة عند أهل هذا الشأن”([10]).
الثاني: أنه بالرغم من تفرد الإمام مسلم بتخريجه دون البخاري؛ فإنه مع ذلك على شرط الإمام البخاري؛ يقول أبو عبد الله الحميدي (ت 488هـ): “قد أخرجه البخاري في كتابه في “القراءة خلف الإمام”([11]) عن مسدد بن يحيى عن الحجاج الصواف، وهو من شرطه، ولم يتفق له إخراجه في الجامع الصحيح”([12]).
الثالث: إثبات الأئمة له في كتبهم؛ استدلالًا به على بعض المسائل الفقهية؛ كما فعل الإمام الشافعي (ت 204هـ)([13])، أو استدلالًا به على إثبات صفة العلو لله تعالى وأنه سبحانه في السماء، كما فعل الإمام أبو حنيفة (ت 150هـ)([14])، وأبو عبيد القاسم بن سلام (ت 224هـ)([15])، وأبو سعيد الدَّارمي (ت 280هـ)([16])، وعبد الله ابن الإمام أحمد (ت 290هـ)([17])، وأبو الحسن الأشعري (ت 324هـ)([18])، وابن أبي زَمَنِين المالكي (ت 399هـ)([19])، وأبو نصر السِّجزي (ت 444هـ)([20])، وأبو الحسين العمراني الشافعي (ت 558هـ)([21])، وعبد الغني المقدسي الحنبلي (ت 600هـ)([22])، وابن قدامة المقدسي الحنبلي (ت 620هـ)([23]). ولو ذهبنا نستقصي من استدل به من العلماء لطال بنا المقام.
3- أقوال العلماء في تصحيحه:
هذا الحديث مما اتفق العلماء على تصحيحه([24])، وفيما يلي أقوال بعضهم:
يقول أبو بكر البيهقي الشافعي (ت 458هـ): “هذا صحيح”([25]).
ويقول أبو محمد البغوي الشافعي (ت 516هـ): “هذا حديث صحيح”([26])، كما جعله من قسم الصحاح في “مصابيح السنة”([27]).
ويقول شهاب الدين التُّورِبِشتْي (ت 661هـ): “فإن الحديث حديث صحيح”([28]).
ويقول ابن شيخ الحزامين الشافعي (ت 711 هـ): “ثم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح للجارية: «أَيْنَ اللهُ؟» فقالت: في السماء. فلم ينكر عليها بحضرة أصحابه؛ كيلا يتوهموا أن الأمر على خلاف ما هو عليه، بل أقرها وقال: «أعتقها؛ فإنها مؤمنة»“([29]).
وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية الحنبلي (ت 728هـ) كما في “الفتوى الحموية الكبرى”([30])، و”مجموع الفتاوى”([31])، وغيرهما.
ويقول الذهبي الشافعي (ت 748هـ): “فمن الأحاديث المتواترة([32]) الواردة في العلو حديث معاوية بن الحكم السلمي”([33])، وقال أيضًا: “هذا حديث صحيح”([34]).
ويقول الحافظ ابن حجر الشافعي (ت 852هـ): “وهو حديث صحيح أخرجه مسلم”([35]).
ويقول مرعي الكرمي الحنبلي (ت 1033هـ): “في الحديث الصحيح المشهور، الذي رواه الأئمة في كتبهم بأسانيدهم، وتلقته الأمة بالقبول أن معاوية بن الحكم…”([36]).
ويقول الشيخ الألباني (ت 1420هـ): “هذا الحديث صحيح بلا ريب… الرواية الثابتة المتفق على صحتها بين المحدثين“([37]).
ويبقى السؤال: ألا يكفي هذا في التدليل على صحة الحديث، وبالتالي صحة اعتقاد ما دل عليه؟!
4- ما يستفاد من الحديث:
أوَّل ما يستفاد من هذا الحديث: جواز السؤال عن الله تعالى بأين هو؟ وهذا صريح، ثم جواز الإخبار بأنه سبحانه في السماء، وهو إقرار، وثالثًا: الحكم على من قال ذلك بالإيمان.
يقول أبو يعلى الفراء الحنبلي (ت 458هـ): “اعلم أن الكلام في هذا الخبر في فصلين:
أحدهما: في جواز السؤال عنه سبحانه بأين هو؟ وجواز الإخبار عنه بأنه في السماء.
والثاني: قوله: «أعتقها؛ فإنها مؤمنة».
أما الفصل الأول فظاهر الخبر يقتضي جواز السؤال عنه، وجواز الإخبار عنه بأنه في السماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «أَيْنَ اللهُ؟»، فلولا أن السؤال عنه جائز لم يسأل، وأجابته بأنه في السماء وأقرَّها على ذلك، فلولا أنه يجوز الإخبار عنه سبحانه بذلك لم يقرها عليه، فأجاز السؤال، وأجاب عنه”([38]).
ومع جواز السؤال عن الله تعالى بأين، فإن الجواب يأتي بالفطرة المركوزة في نفس كل أحد، بأنه تعالى في السماء؛ يقول الذهبي: “وهكذا رأينا كل من يُسأل: أين الله؟ يبادر بفطرته ويقول: في السماء، ففي الخبر مسألتان: إحداهما: شرعية قول المسلم: أين الله؟ وثانيهما: قول المسؤول: في السماء، فمن أنكر هاتين المسألتين فإنما ينكر على المصطفى صلى الله عليه وسلم”([39]).
ومما يستفاد من الحديث كذلك: أن من لم يعلم بأن الله تعالى في السماء فليس بمؤمن.
يقول الشافعي: “وفيه بيان أن من كانت عليه رقبة بنذر، أو وجبت بغير نذر؛ لم يجزئه فيها إلا مؤمنة، ألا ترى أنه يقول: علي رقبة، لا يذكر مؤمنة، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجارية عن صفة الإيمان، ولو كانت تجزئه غير مؤمنة قال: أعتق أيَّ رقبة شئت، والله أعلم”([40]).
ويقول أبو سعيد الدارمي (ت 280هـ): “ففي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا دليل على أن الرجل إذا لم يعلم أن الله عز وجل في السماء دون الأرض فليس بمؤمن، ولو كان عبدًا فأُعتق لم يجز في رقبة مؤمنة؛ إذ لا يعلم أن الله في السماء؛ ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل أمارة إيمانها معرفتها أن الله في السماء؟!”([41]).
ومما يستفاد من الحديث أيضًا: إثبات صفة العلو للعلي الغفار، وقد سبق ذكر طائفة ممن استدل بالحديث على هذا؛ يقول أبو سعيد الدارمي: “فالله تبارك وتعالى فوق عرشه، فوق سمواته، بائن من خلقه، فمن لم يعرفه بذلك لم يعرف إلهه الذي يعبد، وعلمه من فوق العرش بأقصى خلقه وأدناهم واحد، لا يبعد عنه شيء، {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [سبأ: 3]، سبحانه وتعالى عمَّا يصفه المعطلون علوًّا كبيرًا”([42]).
ولا يلزم من إثبات صفة العلوِّ لله تعالى لوازم باطلة، يقول ابن تيمية: “ولكن ليس معنى ذلك أن الله في جوف السماء، وأن السموات تحصره وتحويه؛ فإن هذا لم يقله أحد من سلف الأمة وأئمتها؛ بل هم متفقون على أن الله فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه؛ ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. وقد قال مالك بن أنس: إن الله فوق السماء وعلمه في كل مكان… -إلى أن قال:- فمن اعتقد أن الله في جوف السماء محصور محاط به، وأنه مفتقر إلى العرش أو غير العرش من المخلوقات، أو أن استواءه على عرشه كاستواء المخلوق على كرسيه: فهو ضال مبتدع جاهل، ومن اعتقد أنه ليس فوق السموات إله يعبد، ولا على العرش رب يصلى له ويسجد، وأن محمدًا لم يعرج به إلى ربه، ولا نزل القرآن من عنده: فهو معطل فرعوني ضال مبتدع”([43]).
قول شيخ الإسلام ابن تيمية: “قد وصف الله نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله بالعلو والاستواء على العرش والفوقية في كتابه في آيات كثيرة، حتى قال بعض كبار أصحاب الشافعي: في القرآن ألف دليل أو أزيد تدل على أن الله عال على الخلق وأنه فوق عباده”([61])، ويقول ابن القيم (ت 751هـ): “وإذا كان العلو والفوقية صفة كمال لا نقص فيه، ولا يستلزم نقصًا، ولا يوجب محذورًا، ولا يخالف كتابًا ولا سنة ولا إجماعًا، فنفي حقيقتها عين الباطل”([62]).
فويل لمن عارض ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم بعقله وهواه، وأحدث لذلك وتشدق بما وسوس له به شيطانه، وترك الفطرة التي فطره الله عليها؛ يقول ابن تيمية: “والجارية التي قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أَيْنَ اللهُ؟» قالت: في السماء، قال: «أعتقها؛ فإنها مؤمنة» جارية أعجمية، أرأيت من فقَّهها وأخبَرها بما ذكرته؟! وإنما أخبرت عن الفطرة التي فطرها الله تعالى عليها، وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وشهد لها بالإيمان. فليتأمل العاقل ذلك يجده هاديًا له على معرفة ربه، والإقرار به كما ينبغي، لا ما أحدثه المتعمقون والمتشَدِّقون ممن سوَّل لهم الشيطان وأملى لهم“([63]).
نسأل الله تعالى لنا ولجميع إخواننا الهداية والتوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
منقول من موقع مركز السلف الصالح بتصرف
قال شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني رحمه الله: "وإمامنا أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله احتج في كتابه المبسوط في مسألة إعتاق الرقبة المؤمنة في الكفارة، وأن غير المؤمنة لا يصح التكفير بها، بخبر معاوية بن الحكم، وأنه أراد أن يُعتق الجارية السوداء لكفارة، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إعتاقه إياها ، فامتحنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: من أنا؟ فأشارت إليه وإلى السماء، يعني أنك رسول الله الذي في السماء، فقال صلى الله عليه وسلم: أعتقها فإنها مؤمنة، فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامها وإيمانها ، لما أقرت بأن ربها في السماء، وعرفت ربها بصفة العلو والفوقية.
وإنما احتج الشافعي رحمة الله عليه على المخالفين في قولهم بجواز إعتاق الرقبة الكافرة في الكفارة بهذا الخبر؛ لاعتقاده أن الله سبحانه فوق خلقه، وفوق سبع سماواته على عرشه، كما هو معتقد المسلمين من أهل السنة والجماعة، سلفهم وخلفهم؛ إذ كان رحمه الله لا يروي خبراً صحيحاً ثم لا يقول به" انتهى من "عقيدة السلف وأصحاب الحديث"، ص 188.
وقال الذهبي رحمه الله في "العلو" ص28: " وهكذا رأينا كل من يُسأل: أين الله ؟ يبادر بفطرته ويقول: في السماء. ففي الخبر مسألتان:
إحداهما: شرعية قول المسلم أين الله؟
وثانيهما: قول المسؤول: في السماء، فمن أنكر هاتين المسألتين فإنما ينكر على المصطفى صلى الله عليه وسلم" انتهى.
قال الإمام عبد الغني المقدسي رحمه الله: " ومَن أجهلُ جهلاً، وأسخف عقلاً، وأضل سبيلاً ممن يقول إنه لا يجوز أن يقال: أين الله، بعد تصريح صاحب الشريعة بقوله [أين الله]" انتهى من "الاقتصاد في الاعتقاد"، ص89
اليوم في 3:00 pm من طرف عبدالله الآحد
» كتاب الترجيح في مسائل الطهارة والصلاة
أمس في 9:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» وجوب التوكل على الله وخده لا شريك له
أمس في 3:26 pm من طرف عبدالله الآحد
» أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 5:24 pm من طرف عبدالله الآحد
» العبادة وأركانها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 2:55 pm من طرف عبدالله الآحد
» الراجح من أقوال العلماء أن جلسة الاستراحة سنة في الصلاة
الإثنين نوفمبر 18, 2024 2:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» -(( 3 -))- خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
الأحد نوفمبر 17, 2024 10:15 pm من طرف صادق النور
» لا يعلم الغيب إلا الله وحده لا شريك له
الأحد نوفمبر 17, 2024 3:12 pm من طرف عبدالله الآحد
» تابع زبدة التوحيد لنعمان بن عبد الكريم الوتر
السبت نوفمبر 16, 2024 2:15 pm من طرف عبدالله الآحد
» هيئات السجود المسنونة
الخميس نوفمبر 14, 2024 3:24 pm من طرف عبدالله الآحد