بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام علي سيد المرسلين سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم
تحويل القبله و الحوادث الفارقة في تميُّز الصفِّ المسلم
وقعت في سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- حوادث فارقة في توجيه مسيرة الأمة المسلمة، وحادثة تحويل القبلة من الحوادث الفارقة في تميُّز الصفِّ المسلم، وهتْكِ سرائر الحاقدين والمرجفين، وهكذا يظلُّ تحويل القبلة حدثًا فارقًا في تاريخ الدَّعوة الإسلاميَّة، ومسيرةِ بناء الدولة المسلِمة.
عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- (إِنَّ الْيَهُود قَوْمٌ حُسَّدٌ وَإِنَّهُمْ لَا يَحْسُدُونَا عَلَى شَيْءٍ كَمَا يَحْسُدُونَا عَلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّتِي هَدَانَا اللهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي هَدَانَا اللهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الْإمَامِ: آمِينَ، وَعَلَى السَّلَامِ)
ظل المسلمون طيلة العهد المكّي يتوجّهون في صلاتهم إلى المسجد الأقصى امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى، الذي أمر باستقباله وجعله قبلةً للصلاة. وفي تلك الأثناء كان رسول الله صل الله عليه وسلم ، يمتثل للحكم الإلهي وفي فؤاده أمنية كبيرة طالما راودته،
وتتمثّل في التوجّه إلى الكعبة بدلاً من المسجد الأقصى، ذلك لأنها قبلة أبيه النبي إبراهيم وهو أولى الناس به، وأوّل بيتٍ وضع للناس، ولحرصه على أن تتميّز الأمة الإسلامية في عبادتها عن غيرها من الأمم التي حرّفت وبدّلت.
ويدلّ على ذلك قول البراء بن عازب: «وكان يحب أن يوجّه إلى الكعبة». رواه البخاري.
وما كان لرسول الله أن يخالف أمر ربّه، بيد أنه استطاع الجمع بين رغبته في التوجّه إلى الكعبة وعدم مخالفة الأمر بالتوجّه إلى المسجد الأقصى بأن يصلّي أمام الكعبة ولكن متّجها إلى الشمال، كما يدلّ عليه الحديث الذي رواه ابن عباس حيث قال:
« كان رسول الله يصلي وهو بمكة نحو المسجد الاقصى والكعبة بين يديه.» رواه أحمد.
ثم أذن الله بالهجرة، ووصل المسلمون إلى المدينة، وبُنيت المساجد، وشرع الأذان، والنبي لم ينس حبّه للكعبة ويحزنه ألا يستطيع استقبال القبلتين معا كما كان يفعل في مكّة، وكان شأنه بين أن يخفض رأسه خضوعاً لأمر الله وأن يرفعه أملاً في إجابة دعوته. ويصف القرآن الكريم حال النبي بقوله: «قد نرى تقلب وجهك في السماء» (البقرة: 144)
متى وقع تحويل القبلة؟
عندما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة كان يستقبل بيت المقدس، وبقي على ذلك ستة - أو سبعة - عشر شهراً، كما ثبت في الصحيحين من حديث البَرَاءِ بن عازب -رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ. . . الحديث.
ثم بعد ذلك أمره الله تعالى باستقبال الكعبة ( البيت الحرام ) وذلك في قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]
فأمر الله تعالى نبيَّه في هذه الآية باستقبال الكعبة، ومن ذلك الوقت صارت الكعبة قبلته -صلى الله عليه وسلم-، وقبلة أمته مِن بعده.
الحكمة من تحويل القبلة
إنَّ لله تعالى في جعل القبلة إلى بيت المقدس، ثم تحويلها إلى الكعبة، حِكَما عظيمة، منها:
أ- محنة وابتلاء ليتميز الصف
الفارق بين مَن يعبد الله ومَن يعبد هواه، سرعة الاستجابة والامتثال لأوامر الشرع ولو تعارضتْ مع أهواء النفس، وتصادمت مع آراء الناس،
قال ابن القيم: كان لله في جعل القبلة إلى بيت المقدس ثم تحويلها إلى الكعبة حكمٌ عظيمة، ومحنة للمسلمين والمشركين واليهود والمنافقين.
فأما المسلمون فقالوا: سمعنا وأطعنا وقالوا: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] وهم الذين هدى الله، ولم تكن كبيرةً عليهم.
وأما المشركون فقالوا: كما رجع إلى قبلتنا، يوشك أن يرجع إلى ديننا، وما رجع إليها إلا أنه الحق.
وأما اليهود فقالوا: خالف قبلةَ الأنبياء قبله، ولو كان نبيا لكان يصلي إلى قبلة الأنبياء.
وأما المنافقون فقالوا: ما يدري محمد أين يتوجه، إن كانت الأولى حقا فقد تركها، وإن كانت الثانية هي الحق فقد كان على باطل، وكثرت أقاويل السفهاء من الناس،
وكانت كما قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143] وكانت محنة من الله امتحن بها عباده ليرى من يتبع الرسول منهم ممن ينقلب على عقبيه.
- فعندما تُبتلى النفوس يتبين مَنْ يعبد الله ممنْ يعبد هواه، عن سعيد بن جبير قال: لقيني راهبٌ فقال: يا سعيد، في الفتنة يتبين من يعبد الله ممن يعبد الطاغوت.
- وعندما تُبتلى النفوس يظهر مَن يعبد الله على حرفٍ ممن رسخت أقدامه في الإيمان،
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11]
- وعندما تُبتلى النفوس يتبين مَن يعبد الله رجاءَ ما عند الله، ممن لا يريد إلا الدنيا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ المَدِينَةَ، فَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلاَمًا، وَنُتِجَتْ خَيْلُهُ، قَالَ: هَذَا دِينٌ صَالِحٌ، وَإِنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأَتُهُ وَلَمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ، قَالَ: هَذَا دِينُ سُوءٍ؟.
ب- لتحويل القبلة أبعادٌ كثيرة
إن لتحويل القبلة أبعادًا كثيرة، منها: السياسي، والعسكري، والديني البحت، والتاريخي.
فبُعْدها السياسي: أنها جعلت الجزيرة العربية محور الأحداث
وبُعدها التاريخي: أنها ربطت هذا العالم بالإرث العربي لإبراهيم عليه الصلاة والسلام وبُعدها العسكري: أنها مهدت لفتح مكة وإنهاء دولة الشرك فيها
وبعدها الديني: أنّها ربطت القلوب بالحنيفية، وميزت الأمة الإسلامية عن غيرها. .
ومن ثَمَّ كان تحويل القبلة نعمةً من نعم الله علينا، كما قال الله تعالى: { وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة: 150].
ج- كما أن تحويل القبلة فيه إشارة إلى انتقال القيادة والإمامة في الدين من بني إسرائيل الذين كانت الشام وبيت المقدس موطنهم إلى العرب الذين كانت الحجاز مستقرهم، قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]
دروس ووقفات مع هذا الحديث العظيم
لقد كانت حادثة تحويل القبلة، حادثة عظيمة، فيها من الدروس والعبر الكثير، والتي ينبغي الوقوف معها والاستفادة منها، ومن ذلك:
الوقفة الأولى: مع نبي الإسلام
- بيان عظيم مكانة النبي -صلى الله عليه وسلم- عند الله
استجاب الله دعاء نبيه -صلى الله عليه وسلم- وحقق الله رجاءه، وما ذلك إلا لعظيم مكانته عند ربه،
قال الله تعالى: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144]
قال ابن القيم: فهو -صلى الله عليه وسلم- الذي شرح الله له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وجعل الذلة والصغار على مَن خالف أمره، وأقسم بحياته في كتابه المبين، وقرن اسمَه باسمه فإذا ذُكِرَ ذُكِرَ معه كما في الخطب والتشهد والتأذين، وافترض على العباد طاعته ومحبته والقيام بحقوقه، وسدَّ الطرق كلها إليه وإلى جنته فلم يفتح لأحد إلا من طريقه؛ فهو الميزان الراجح الذي على أخلاقه وأقواله وأعماله توزن الأخلاق والأقوال والأعمال، والفرقان المبين الذي باتباعه يميز أهل الهدى من أهل الضلال.
- على قدر الهمة في الدين يكون المدد من رب العالمين
ظلَّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يقلِّبُ وجهه في السماء سائلا ربه مستعطفا راجيا، إلى أن حقق الله مطلوبه وأعطاه منهاه،
وهكذا تُنال المطالب وتُقضى الحاجات، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-:
(غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ،. . . . فَدَنَا مِنَ القَرْيَةِ صَلاَةَ العَصْرِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِلشَّمْسِ: إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا، فَحُبِسَتْ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ).
قال ابن القيم: المعونةُ من الله تنزل على الْعباد على قدر هممهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم، والخذلان ينزل عَلَيْهِم على حسب ذَلِك، فَالله سُبْحَانَهُ أحكم الْحَاكِمين وَأعلم الْعَالمين يضع التَّوْفِيق فِي موَاضعه اللائقة بِهِ والخذلان فِي موَاضعه اللائقة بِهِ هُوَ الْعَلِيم الْحَكِيم.
- إثبات نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم-
فقد أخبر الله تبارك وتعالى بما سيقوله اليهود عند تحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، قبل وقوع الأمر بالتحويل، ولهذا دلالته، فهو يدل على صدق نبوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ هو أمر غيبي، فأخبر عنه -صلى الله عليه وسلم- بآيات قرآنية قبل وقوعه ثم وقع، وفي ذلك يقول الله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142]
الوقفة الثانية: مع الصحابة
- نتعلم من الصحابة كمال التسليم والانقياد لأوامر الله
فالمسلم عبدٌ لله تعالى، يسلِّم لأحكامه وينقاد لأوامره بكل حب ورضا، ويستجيب لذلك، ويسارع للامتثال بكل ما أوتي من قوة وجهد، فأصل الإسلام التسليم، وخلاصة الإيمان الانقياد، وأساس المحبة الطاعة، لذا كان عنوان صدق المسلم وقوة إيمانه هو فعل ما أمر الله والاستجابة لحكمه، والامتثال لأمره في جميع الأحوال، لا يوقفه عن الامتثال والطاعة معرفة الحكمة واقتناعه بها،
لأنه يعلم علم اليقين، أنه ما أمره الله تعالى بأمر ولا نهاه عن شيء، إلا كان في مصلحته سواء علم ذلك أو لم يعلمه،
كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } [الأحزاب: 36]
هذه الطاعة، وذلك التسليم، الذي أقسم الله تعالى بنفسه على نفي الإيمان عمن لا يملكه في قوله تعالى: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]
والصحابة -رضي الله عنهم- ضربوا أروع الأمثال في سرعة امتثالهم لأوامر الشرع، فلما أُمِروا بالتوجه إلى المسجد الحرام سارعوا وامتثلوا، بل إن بعضهم لما علم بتحويل القبلة وهم في صلاتهم تحولوا وتوجهوا إلى القبلة الجديدة في نفس الصلاة،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-، قَالَ: بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ، إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الكَعْبَةِ.
وعَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلاَةٍ صَلَّاهَا صَلاَةَ العَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ، فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ وَهُمْ رَاكِعُونَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ البَيْتِ.
- مِن مواقف الانقياد والتسليم عند الصحابة -رضي الله عنهم-:
- إراقة الخمور بمجرد التحريم
- سرعة استجابة النساء في ارتداء الحجاب
- والأعجب من ذلك: خلع النعال أثناء الصلاة متابعةً للنبي -صلى الله عليه وسلم- الذي خلعه لنجاسة فيه!. والنماذج في هذا المعنى كثيرة من واقع الصحابة، ولكنها إشارة للعاقل.
- والسؤال: أين هذا مِن حال مَن يجادلون في آيات الله بغير علم؟! وممن يطعنون في أصول الدين لأنها لا تتوافق مع أهوائهم المنحرفة وعقولهم الخرِبة؟
- نتعلم من الصحابة: درسًا في معنى الأخوة
أظهر تحويل القبلة حرص المؤمن على أخيه وحب الخير له، فحينما نزلت الآيات التي تأمر المؤمنين بتحويل القبلة إلى الكعبة، تساءل المؤمنون عن مصير عبادة إخوانهم الذين ماتوا وقد صلوا نحو بيت المقدس، فأخبر الله عز وجل أن صلاتهم مقبولة،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-، قَالَ: لَمَّا تَوَجَّهَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْكَعْبَةِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَكَيْفَ الَّذِينَ مَاتُوا، وَهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}[البقرة:143]
- وهكذا الأخوة الصادقة لا تنقطع بالموت، بل لا تنقطع في أحلك الظروف في عرصات القيامة،
فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر شفاعة بعض المؤمنين لإخوانهم، فقال: (فيقولون: رَبَّنَا إِخْوَانُنَا، كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: اذْهَبُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ).
لذلك قال الحسن البصري: استكثروا من الأصدقاء المؤمنين فإن لهم شفاعة يوم القيامة.
- الأخوة الصادقة تعني: أن نفرح لفرح إخواننا ونحزن لحزنهم؛
دخل عمر -رضي الله عنه- على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وهما يبكيان،
فقال: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ؟ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا.
الوقفة الثالثة: مكانة الأمة الإسلامية وفضلها
- إنها الأمة الوسط: قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]
يقول ابن كثير: إنما حوَّلناكم إلى قبلةِ إبراهيم، عليه السلام، واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم، لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم؛ لأن الجميع معترفون لكم بالفضل.
فهذه الأمة هي الأمة الوسط في التصور والاعتقاد، وفي التفكير والشعور في التنظيم والتنسيق، في الارتباطات والعلاقات، وحتى في المكان في سُرَّةِ الأرض وأوسط بقاعها.
- إنها أعظم الأمم وأسبقها فضلاً
قال الله تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [آل عمران: 110]
عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-
يَقُولُ (أَنْتُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ). (21)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ).
- لذلك لا ينبغي الإعجاب بالأمم الكافرة والاقتداء بهم في ضلالهم
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ). قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ آلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: (فَمَنْ).
- الوقفة الرابعة: قبلتنا تذكرنا دائما بـــ
- توحدنا وتوحيدنا
من كل اتجاه، في أنحاء الأرض جميعًا، قبلة واحدة تجمع هذه الأمة وتوحِّد بينها على اختلاف مواطنها، واختلاف مواقعها من هذه القبلة، واختلاف أجناسها وألسنتها وألوانها، قبلة واحدة، تتجه إليها الأمة الواحدة في مشارق الأرض ومغاربها، فتشعر أنها جسم واحد، وكيان واحد، تتجه إلى هدف واحد، وتسعى لتحقيق منهج واحد، منهج ينبثق من كونها جميعًا تعبد إلهًا واحدًا، وتؤمن برسول واحد، وتتجه إلى قبلة واحدة.
فالمسلمون يتعلمون من وحدة القبلة، وحدة الأمة في الهدف والغاية، وأن الوحدة والاتحاد ضرورة في كل شئون حياتهم الدينية والدنيوية، قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]
- قبلتنا تذكرنا: بضرورة تميز المسلمين عن غيرهم
- لم يكن بُدّ من تمييز المكان الذي يتجه إليه المسلم في الصلاة والعبادة وتخصيصه؛ كي يتميز المسلم وينفرد بتصوره ومنهجه واتجاهه، فهذا التميز تلبية للشعور بالامتياز والتفرد؛ كما أنه بدوره ينشئ شعورًا بالامتياز والتفرد.
- ومن هنا كذلك كان النهي عن التشبه بغير المسلمين في خصائصهم، التي هي تعبير ظاهر عن مشاعر باطنة،
عن شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (خَالِفُوا الْيَهُودَ فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ، وَلَا خِفَافِهِمْ).
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (خَالِفُوا المُشْرِكِينَ: وَفِّرُوا اللِّحَى، وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (جُزُّوا الشَّوَارِبَ، وَأَرْخُوا اللِّحَى خَالِفُوا الْمَجُوسَ).
ولقد أدرك اليهود مدى حِرْص الرسول -صلى الله عليه وسلم- على هُوية الأمة وتميزها، والإمعان في مخالفتهم حتى قال قائلهم: مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ.
- قبلتنا تذكرنا بتخليص القلوب من نعرات الجاهلية
- كان العرب يعظمون البيت الحرام في جاهليتهم، ولما كان الإسلام يريد استخلاص القلوب لله وتجريدها من التعلق بغيره، وتخليصها من كل نعرةٍ، وكل عصبيةٍ لغير منهج الله تعالى، فقد انتزعهم من الاتجاه إلى البيت الحرام، وشاء لهم الاتجاه إلى المسجد الأقصى لفترةٍ ليست بالقصيرة، وما ذاك إلا ليخلِّص نفوسهم من رواسب الجاهلية.
ثم لمَّا خلصت النفوس وجَّهها الله تعالى إلى قبلةٍ خاصةٍ تخالف قبلة أهل الديانات السماوية الأخرى.
وقد وصف الله تعالى هذه القدرة على تخليص النفوس بأنها "كبيرة": { وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143]
- قبلتنا تذكرنا بحقيقة الصراع بيننا وبين أهل الكتاب
قال تعالى في معرض حديث الآيات عن القبلة { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } [البقرة: 145]
من دروس حادثة تحويل القبلة المهمة،
أنها وضَّحتْ للمسلمين طبيعة الكفار- من يهود ونصارى وغيرهم- وأنهم لن يرضوا أبدا عن المسلمين إلا أن يتبعوهم ويكونوا مثلهم، قال الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]
وهنا ندرك أصالة عدوان هؤلاء للإسلام والمسلمين، فقد شنوا حربًا إعلامية ضارية في أعقاب حدث تحويل القبلة،
ولقد فُتن ضعاف الإيمان كما فُتن إخوانهم في حادث الإسراء والمعراج، وإن المتأمل لآيات تحويل القبلة - وهي تردُّ شبهات اليهود - يتبين له مدى ضراوة الحرب الإعلامية والفكرية التي شنَّها اليهود، وما زالوا إلى اليوم يسيطرون على القنوات والأبواق الإعلامية المسموعة والمرئية، وكلُّ همهم هو تشويه صورة المسلمين وتشتيت شملهم، وحالهم
كما قال الله تعالى { وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا } [المائدة: 64]
قبلتنا تذكرنا: أن مَن عاش على القبلة مات عليها
عن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي، قال: اشتدَّ وجعُ سعيد بن المسيب، فدخل عليه نافع بن جبير يعوده، فأُغمي عليه، فقال نافع: وجهوه إلى القبلة. ففعلوا، فأفاق، فقال: مَن أمركم أن تُحوِّلوا فراشي إلى القبلة، أنافعٌ؟ قال: نعم. قال له سعيد: لئن لم أكن على القبلة والملة والله لا ينفعني توجيهُكم فراشي.
-----------------------------------------عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- (إِنَّ الْيَهُود قَوْمٌ حُسَّدٌ وَإِنَّهُمْ لَا يَحْسُدُونَا عَلَى شَيْءٍ كَمَا يَحْسُدُونَا عَلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّتِي هَدَانَا اللهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي هَدَانَا اللهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الْإمَامِ: آمِينَ، وَعَلَى السَّلَامِ)
ظل المسلمون طيلة العهد المكّي يتوجّهون في صلاتهم إلى المسجد الأقصى امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى، الذي أمر باستقباله وجعله قبلةً للصلاة. وفي تلك الأثناء كان رسول الله صل الله عليه وسلم ، يمتثل للحكم الإلهي وفي فؤاده أمنية كبيرة طالما راودته،
وتتمثّل في التوجّه إلى الكعبة بدلاً من المسجد الأقصى، ذلك لأنها قبلة أبيه النبي إبراهيم وهو أولى الناس به، وأوّل بيتٍ وضع للناس، ولحرصه على أن تتميّز الأمة الإسلامية في عبادتها عن غيرها من الأمم التي حرّفت وبدّلت.
ويدلّ على ذلك قول البراء بن عازب: «وكان يحب أن يوجّه إلى الكعبة». رواه البخاري.
وما كان لرسول الله أن يخالف أمر ربّه، بيد أنه استطاع الجمع بين رغبته في التوجّه إلى الكعبة وعدم مخالفة الأمر بالتوجّه إلى المسجد الأقصى بأن يصلّي أمام الكعبة ولكن متّجها إلى الشمال، كما يدلّ عليه الحديث الذي رواه ابن عباس حيث قال:
« كان رسول الله يصلي وهو بمكة نحو المسجد الاقصى والكعبة بين يديه.» رواه أحمد.
ثم أذن الله بالهجرة، ووصل المسلمون إلى المدينة، وبُنيت المساجد، وشرع الأذان، والنبي لم ينس حبّه للكعبة ويحزنه ألا يستطيع استقبال القبلتين معا كما كان يفعل في مكّة، وكان شأنه بين أن يخفض رأسه خضوعاً لأمر الله وأن يرفعه أملاً في إجابة دعوته. ويصف القرآن الكريم حال النبي بقوله: «قد نرى تقلب وجهك في السماء» (البقرة: 144)
متى وقع تحويل القبلة؟
عندما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة كان يستقبل بيت المقدس، وبقي على ذلك ستة - أو سبعة - عشر شهراً، كما ثبت في الصحيحين من حديث البَرَاءِ بن عازب -رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ. . . الحديث.
ثم بعد ذلك أمره الله تعالى باستقبال الكعبة ( البيت الحرام ) وذلك في قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]
فأمر الله تعالى نبيَّه في هذه الآية باستقبال الكعبة، ومن ذلك الوقت صارت الكعبة قبلته -صلى الله عليه وسلم-، وقبلة أمته مِن بعده.
الحكمة من تحويل القبلة
إنَّ لله تعالى في جعل القبلة إلى بيت المقدس، ثم تحويلها إلى الكعبة، حِكَما عظيمة، منها:
أ- محنة وابتلاء ليتميز الصف
الفارق بين مَن يعبد الله ومَن يعبد هواه، سرعة الاستجابة والامتثال لأوامر الشرع ولو تعارضتْ مع أهواء النفس، وتصادمت مع آراء الناس،
قال ابن القيم: كان لله في جعل القبلة إلى بيت المقدس ثم تحويلها إلى الكعبة حكمٌ عظيمة، ومحنة للمسلمين والمشركين واليهود والمنافقين.
فأما المسلمون فقالوا: سمعنا وأطعنا وقالوا: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] وهم الذين هدى الله، ولم تكن كبيرةً عليهم.
وأما المشركون فقالوا: كما رجع إلى قبلتنا، يوشك أن يرجع إلى ديننا، وما رجع إليها إلا أنه الحق.
وأما اليهود فقالوا: خالف قبلةَ الأنبياء قبله، ولو كان نبيا لكان يصلي إلى قبلة الأنبياء.
وأما المنافقون فقالوا: ما يدري محمد أين يتوجه، إن كانت الأولى حقا فقد تركها، وإن كانت الثانية هي الحق فقد كان على باطل، وكثرت أقاويل السفهاء من الناس،
وكانت كما قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143] وكانت محنة من الله امتحن بها عباده ليرى من يتبع الرسول منهم ممن ينقلب على عقبيه.
- فعندما تُبتلى النفوس يتبين مَنْ يعبد الله ممنْ يعبد هواه، عن سعيد بن جبير قال: لقيني راهبٌ فقال: يا سعيد، في الفتنة يتبين من يعبد الله ممن يعبد الطاغوت.
- وعندما تُبتلى النفوس يظهر مَن يعبد الله على حرفٍ ممن رسخت أقدامه في الإيمان،
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11]
- وعندما تُبتلى النفوس يتبين مَن يعبد الله رجاءَ ما عند الله، ممن لا يريد إلا الدنيا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ المَدِينَةَ، فَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلاَمًا، وَنُتِجَتْ خَيْلُهُ، قَالَ: هَذَا دِينٌ صَالِحٌ، وَإِنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأَتُهُ وَلَمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ، قَالَ: هَذَا دِينُ سُوءٍ؟.
ب- لتحويل القبلة أبعادٌ كثيرة
إن لتحويل القبلة أبعادًا كثيرة، منها: السياسي، والعسكري، والديني البحت، والتاريخي.
فبُعْدها السياسي: أنها جعلت الجزيرة العربية محور الأحداث
وبُعدها التاريخي: أنها ربطت هذا العالم بالإرث العربي لإبراهيم عليه الصلاة والسلام وبُعدها العسكري: أنها مهدت لفتح مكة وإنهاء دولة الشرك فيها
وبعدها الديني: أنّها ربطت القلوب بالحنيفية، وميزت الأمة الإسلامية عن غيرها. .
ومن ثَمَّ كان تحويل القبلة نعمةً من نعم الله علينا، كما قال الله تعالى: { وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة: 150].
ج- كما أن تحويل القبلة فيه إشارة إلى انتقال القيادة والإمامة في الدين من بني إسرائيل الذين كانت الشام وبيت المقدس موطنهم إلى العرب الذين كانت الحجاز مستقرهم، قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]
دروس ووقفات مع هذا الحديث العظيم
لقد كانت حادثة تحويل القبلة، حادثة عظيمة، فيها من الدروس والعبر الكثير، والتي ينبغي الوقوف معها والاستفادة منها، ومن ذلك:
الوقفة الأولى: مع نبي الإسلام
- بيان عظيم مكانة النبي -صلى الله عليه وسلم- عند الله
استجاب الله دعاء نبيه -صلى الله عليه وسلم- وحقق الله رجاءه، وما ذلك إلا لعظيم مكانته عند ربه،
قال الله تعالى: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144]
قال ابن القيم: فهو -صلى الله عليه وسلم- الذي شرح الله له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وجعل الذلة والصغار على مَن خالف أمره، وأقسم بحياته في كتابه المبين، وقرن اسمَه باسمه فإذا ذُكِرَ ذُكِرَ معه كما في الخطب والتشهد والتأذين، وافترض على العباد طاعته ومحبته والقيام بحقوقه، وسدَّ الطرق كلها إليه وإلى جنته فلم يفتح لأحد إلا من طريقه؛ فهو الميزان الراجح الذي على أخلاقه وأقواله وأعماله توزن الأخلاق والأقوال والأعمال، والفرقان المبين الذي باتباعه يميز أهل الهدى من أهل الضلال.
- على قدر الهمة في الدين يكون المدد من رب العالمين
ظلَّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يقلِّبُ وجهه في السماء سائلا ربه مستعطفا راجيا، إلى أن حقق الله مطلوبه وأعطاه منهاه،
وهكذا تُنال المطالب وتُقضى الحاجات، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-:
(غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ،. . . . فَدَنَا مِنَ القَرْيَةِ صَلاَةَ العَصْرِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِلشَّمْسِ: إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا، فَحُبِسَتْ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ).
قال ابن القيم: المعونةُ من الله تنزل على الْعباد على قدر هممهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم، والخذلان ينزل عَلَيْهِم على حسب ذَلِك، فَالله سُبْحَانَهُ أحكم الْحَاكِمين وَأعلم الْعَالمين يضع التَّوْفِيق فِي موَاضعه اللائقة بِهِ والخذلان فِي موَاضعه اللائقة بِهِ هُوَ الْعَلِيم الْحَكِيم.
- إثبات نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم-
فقد أخبر الله تبارك وتعالى بما سيقوله اليهود عند تحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، قبل وقوع الأمر بالتحويل، ولهذا دلالته، فهو يدل على صدق نبوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ هو أمر غيبي، فأخبر عنه -صلى الله عليه وسلم- بآيات قرآنية قبل وقوعه ثم وقع، وفي ذلك يقول الله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142]
الوقفة الثانية: مع الصحابة
- نتعلم من الصحابة كمال التسليم والانقياد لأوامر الله
فالمسلم عبدٌ لله تعالى، يسلِّم لأحكامه وينقاد لأوامره بكل حب ورضا، ويستجيب لذلك، ويسارع للامتثال بكل ما أوتي من قوة وجهد، فأصل الإسلام التسليم، وخلاصة الإيمان الانقياد، وأساس المحبة الطاعة، لذا كان عنوان صدق المسلم وقوة إيمانه هو فعل ما أمر الله والاستجابة لحكمه، والامتثال لأمره في جميع الأحوال، لا يوقفه عن الامتثال والطاعة معرفة الحكمة واقتناعه بها،
لأنه يعلم علم اليقين، أنه ما أمره الله تعالى بأمر ولا نهاه عن شيء، إلا كان في مصلحته سواء علم ذلك أو لم يعلمه،
كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } [الأحزاب: 36]
هذه الطاعة، وذلك التسليم، الذي أقسم الله تعالى بنفسه على نفي الإيمان عمن لا يملكه في قوله تعالى: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]
والصحابة -رضي الله عنهم- ضربوا أروع الأمثال في سرعة امتثالهم لأوامر الشرع، فلما أُمِروا بالتوجه إلى المسجد الحرام سارعوا وامتثلوا، بل إن بعضهم لما علم بتحويل القبلة وهم في صلاتهم تحولوا وتوجهوا إلى القبلة الجديدة في نفس الصلاة،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-، قَالَ: بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ، إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الكَعْبَةِ.
وعَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلاَةٍ صَلَّاهَا صَلاَةَ العَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ، فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ وَهُمْ رَاكِعُونَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ البَيْتِ.
- مِن مواقف الانقياد والتسليم عند الصحابة -رضي الله عنهم-:
- إراقة الخمور بمجرد التحريم
- سرعة استجابة النساء في ارتداء الحجاب
- والأعجب من ذلك: خلع النعال أثناء الصلاة متابعةً للنبي -صلى الله عليه وسلم- الذي خلعه لنجاسة فيه!. والنماذج في هذا المعنى كثيرة من واقع الصحابة، ولكنها إشارة للعاقل.
- والسؤال: أين هذا مِن حال مَن يجادلون في آيات الله بغير علم؟! وممن يطعنون في أصول الدين لأنها لا تتوافق مع أهوائهم المنحرفة وعقولهم الخرِبة؟
- نتعلم من الصحابة: درسًا في معنى الأخوة
أظهر تحويل القبلة حرص المؤمن على أخيه وحب الخير له، فحينما نزلت الآيات التي تأمر المؤمنين بتحويل القبلة إلى الكعبة، تساءل المؤمنون عن مصير عبادة إخوانهم الذين ماتوا وقد صلوا نحو بيت المقدس، فأخبر الله عز وجل أن صلاتهم مقبولة،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-، قَالَ: لَمَّا تَوَجَّهَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْكَعْبَةِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَكَيْفَ الَّذِينَ مَاتُوا، وَهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}[البقرة:143]
- وهكذا الأخوة الصادقة لا تنقطع بالموت، بل لا تنقطع في أحلك الظروف في عرصات القيامة،
فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر شفاعة بعض المؤمنين لإخوانهم، فقال: (فيقولون: رَبَّنَا إِخْوَانُنَا، كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: اذْهَبُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ).
لذلك قال الحسن البصري: استكثروا من الأصدقاء المؤمنين فإن لهم شفاعة يوم القيامة.
- الأخوة الصادقة تعني: أن نفرح لفرح إخواننا ونحزن لحزنهم؛
دخل عمر -رضي الله عنه- على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وهما يبكيان،
فقال: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ؟ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا.
الوقفة الثالثة: مكانة الأمة الإسلامية وفضلها
- إنها الأمة الوسط: قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]
يقول ابن كثير: إنما حوَّلناكم إلى قبلةِ إبراهيم، عليه السلام، واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم، لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم؛ لأن الجميع معترفون لكم بالفضل.
فهذه الأمة هي الأمة الوسط في التصور والاعتقاد، وفي التفكير والشعور في التنظيم والتنسيق، في الارتباطات والعلاقات، وحتى في المكان في سُرَّةِ الأرض وأوسط بقاعها.
- إنها أعظم الأمم وأسبقها فضلاً
قال الله تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [آل عمران: 110]
عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-
يَقُولُ (أَنْتُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ). (21)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ).
- لذلك لا ينبغي الإعجاب بالأمم الكافرة والاقتداء بهم في ضلالهم
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ). قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ آلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: (فَمَنْ).
- الوقفة الرابعة: قبلتنا تذكرنا دائما بـــ
- توحدنا وتوحيدنا
من كل اتجاه، في أنحاء الأرض جميعًا، قبلة واحدة تجمع هذه الأمة وتوحِّد بينها على اختلاف مواطنها، واختلاف مواقعها من هذه القبلة، واختلاف أجناسها وألسنتها وألوانها، قبلة واحدة، تتجه إليها الأمة الواحدة في مشارق الأرض ومغاربها، فتشعر أنها جسم واحد، وكيان واحد، تتجه إلى هدف واحد، وتسعى لتحقيق منهج واحد، منهج ينبثق من كونها جميعًا تعبد إلهًا واحدًا، وتؤمن برسول واحد، وتتجه إلى قبلة واحدة.
فالمسلمون يتعلمون من وحدة القبلة، وحدة الأمة في الهدف والغاية، وأن الوحدة والاتحاد ضرورة في كل شئون حياتهم الدينية والدنيوية، قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]
- قبلتنا تذكرنا: بضرورة تميز المسلمين عن غيرهم
- لم يكن بُدّ من تمييز المكان الذي يتجه إليه المسلم في الصلاة والعبادة وتخصيصه؛ كي يتميز المسلم وينفرد بتصوره ومنهجه واتجاهه، فهذا التميز تلبية للشعور بالامتياز والتفرد؛ كما أنه بدوره ينشئ شعورًا بالامتياز والتفرد.
- ومن هنا كذلك كان النهي عن التشبه بغير المسلمين في خصائصهم، التي هي تعبير ظاهر عن مشاعر باطنة،
عن شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (خَالِفُوا الْيَهُودَ فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ، وَلَا خِفَافِهِمْ).
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (خَالِفُوا المُشْرِكِينَ: وَفِّرُوا اللِّحَى، وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (جُزُّوا الشَّوَارِبَ، وَأَرْخُوا اللِّحَى خَالِفُوا الْمَجُوسَ).
ولقد أدرك اليهود مدى حِرْص الرسول -صلى الله عليه وسلم- على هُوية الأمة وتميزها، والإمعان في مخالفتهم حتى قال قائلهم: مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ.
- قبلتنا تذكرنا بتخليص القلوب من نعرات الجاهلية
- كان العرب يعظمون البيت الحرام في جاهليتهم، ولما كان الإسلام يريد استخلاص القلوب لله وتجريدها من التعلق بغيره، وتخليصها من كل نعرةٍ، وكل عصبيةٍ لغير منهج الله تعالى، فقد انتزعهم من الاتجاه إلى البيت الحرام، وشاء لهم الاتجاه إلى المسجد الأقصى لفترةٍ ليست بالقصيرة، وما ذاك إلا ليخلِّص نفوسهم من رواسب الجاهلية.
ثم لمَّا خلصت النفوس وجَّهها الله تعالى إلى قبلةٍ خاصةٍ تخالف قبلة أهل الديانات السماوية الأخرى.
وقد وصف الله تعالى هذه القدرة على تخليص النفوس بأنها "كبيرة": { وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143]
- قبلتنا تذكرنا بحقيقة الصراع بيننا وبين أهل الكتاب
قال تعالى في معرض حديث الآيات عن القبلة { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } [البقرة: 145]
من دروس حادثة تحويل القبلة المهمة،
أنها وضَّحتْ للمسلمين طبيعة الكفار- من يهود ونصارى وغيرهم- وأنهم لن يرضوا أبدا عن المسلمين إلا أن يتبعوهم ويكونوا مثلهم، قال الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]
وهنا ندرك أصالة عدوان هؤلاء للإسلام والمسلمين، فقد شنوا حربًا إعلامية ضارية في أعقاب حدث تحويل القبلة،
ولقد فُتن ضعاف الإيمان كما فُتن إخوانهم في حادث الإسراء والمعراج، وإن المتأمل لآيات تحويل القبلة - وهي تردُّ شبهات اليهود - يتبين له مدى ضراوة الحرب الإعلامية والفكرية التي شنَّها اليهود، وما زالوا إلى اليوم يسيطرون على القنوات والأبواق الإعلامية المسموعة والمرئية، وكلُّ همهم هو تشويه صورة المسلمين وتشتيت شملهم، وحالهم
كما قال الله تعالى { وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا } [المائدة: 64]
قبلتنا تذكرنا: أن مَن عاش على القبلة مات عليها
عن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي، قال: اشتدَّ وجعُ سعيد بن المسيب، فدخل عليه نافع بن جبير يعوده، فأُغمي عليه، فقال نافع: وجهوه إلى القبلة. ففعلوا، فأفاق، فقال: مَن أمركم أن تُحوِّلوا فراشي إلى القبلة، أنافعٌ؟ قال: نعم. قال له سعيد: لئن لم أكن على القبلة والملة والله لا ينفعني توجيهُكم فراشي.
ما زلنا أحبابنا تابعونا جزاكم الله خيرا
ولا تنسونا من صالح دعائكم
--
التالي ::
أبعاد الحكمة في "تحويل القبلة"
أمس في 3:20 pm من طرف عبدالله الآحد
» وجوب الدعوة إلى توحيد الله سبحانه
الخميس نوفمبر 21, 2024 3:00 pm من طرف عبدالله الآحد
» كتاب الترجيح في مسائل الطهارة والصلاة
الأربعاء نوفمبر 20, 2024 9:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» وجوب التوكل على الله وخده لا شريك له
الأربعاء نوفمبر 20, 2024 3:26 pm من طرف عبدالله الآحد
» أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 5:24 pm من طرف عبدالله الآحد
» العبادة وأركانها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 2:55 pm من طرف عبدالله الآحد
» الراجح من أقوال العلماء أن جلسة الاستراحة سنة في الصلاة
الإثنين نوفمبر 18, 2024 2:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» -(( 3 -))- خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
الأحد نوفمبر 17, 2024 10:15 pm من طرف صادق النور
» لا يعلم الغيب إلا الله وحده لا شريك له
الأحد نوفمبر 17, 2024 3:12 pm من طرف عبدالله الآحد
» تابع زبدة التوحيد لنعمان بن عبد الكريم الوتر
السبت نوفمبر 16, 2024 2:15 pm من طرف عبدالله الآحد