آل راشد



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

آل راشد

آل راشد

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
آل راشد

ثقافى-اجتماعى

*** - اللَّهُمَّ اَنَكَ عَفْوٍ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعِفُو عَنَّا - *** - اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك . *** - اللَّهُمَّ اُرْزُقْنَا تَوْبَةً نَصُوحًا قَبْلَ الْمَوْتِ وَ ارْزُقْنَا حُسْنَ الْخَاتِمَةِ . *** -

إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا شَابَتْ عَبِيدَهُمْ.. .. فِي رِقِّهِمْ عَتَقُوهُمْ عِتْقَ أَبْرَارٍ .. .. وَأَنْتَ يَا خَالِقِيُّ أوْلَى بِذَا كَرَمًا.. .. قَدْ شُبْتُ فِي الرِّقِّ فَأَعْتَقَنِي مِنَ النَّارِ .

المواضيع الأخيرة

» أقسام صفات الله
(4) أدعيه السجود.. دعاء السجود " سبحان ربي الأعلى "  Ooou110أمس في 8:52 pm من طرف عبدالله الآحد

» اثبات أن الله يتكلم بالصوت والحرف وأن القرآن كلامه حقيقة
(4) أدعيه السجود.. دعاء السجود " سبحان ربي الأعلى "  Ooou110الجمعة أبريل 26, 2024 4:11 pm من طرف عبدالله الآحد

» أَسْرارُ اَلْمُسَبَّحَةِ اَوْ السُّبْحَةِ وَأَنْواعُها وَأَعْدادُها - - ( ( اَلْجُزْءُ الثَّانِي ))
(4) أدعيه السجود.. دعاء السجود " سبحان ربي الأعلى "  Ooou110الجمعة أبريل 26, 2024 3:05 pm من طرف صادق النور

» الرياء شرك أصغر إن كان يسيرا
(4) أدعيه السجود.. دعاء السجود " سبحان ربي الأعلى "  Ooou110الخميس أبريل 25, 2024 4:39 pm من طرف عبدالله الآحد

» لم يصح تأويل صفة من صفات الله عن أحد من السلف
(4) أدعيه السجود.. دعاء السجود " سبحان ربي الأعلى "  Ooou110الأربعاء أبريل 24, 2024 5:12 pm من طرف عبدالله الآحد

» إثبات رؤية الله للمؤمنين في الجنة
(4) أدعيه السجود.. دعاء السجود " سبحان ربي الأعلى "  Ooou110الثلاثاء أبريل 23, 2024 7:24 am من طرف عبدالله الآحد

» الرد على من زعم أن أهل السنة وافقوا اليهود
(4) أدعيه السجود.. دعاء السجود " سبحان ربي الأعلى "  Ooou110الثلاثاء أبريل 23, 2024 5:40 am من طرف عبدالله الآحد

» طائِفُهُ الصَّفْوِيِّينَ - - اَلْدوَلهُ الصِّفْوِيهُ
(4) أدعيه السجود.. دعاء السجود " سبحان ربي الأعلى "  Ooou110الإثنين أبريل 22, 2024 11:18 am من طرف صادق النور

» حكم الرقى والتمائم
(4) أدعيه السجود.. دعاء السجود " سبحان ربي الأعلى "  Ooou110الأحد أبريل 21, 2024 7:19 am من طرف عبدالله الآحد

» كثرة الأشاعرة ليست دليلا على أنهم على حق في كل شيء
(4) أدعيه السجود.. دعاء السجود " سبحان ربي الأعلى "  Ooou110السبت أبريل 20, 2024 5:13 pm من طرف عبدالله الآحد

اهلا بكم

الثلاثاء نوفمبر 08, 2011 2:32 am من طرف mohamed yousef

(4) أدعيه السجود.. دعاء السجود " سبحان ربي الأعلى "  Ooousu10

المتواجدون الآن ؟

ككل هناك 19 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 19 زائر :: 2 عناكب الفهرسة في محركات البحث

لا أحد


أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 624 بتاريخ الأربعاء سبتمبر 15, 2021 4:26 am

احصائيات

أعضاؤنا قدموا 9628 مساهمة في هذا المنتدى في 3191 موضوع

هذا المنتدى يتوفر على 286 عُضو.

آخر عُضو مُسجل هو عبدالرحمن فمرحباً به.

دخول

لقد نسيت كلمة السر

أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى

أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع


    (4) أدعيه السجود.. دعاء السجود " سبحان ربي الأعلى "

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5188
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    (4) أدعيه السجود.. دعاء السجود " سبحان ربي الأعلى "  Empty (4) أدعيه السجود.. دعاء السجود " سبحان ربي الأعلى "

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس مايو 05, 2022 2:38 pm

    دعاء السجود

    " سبحان ربي الأعلى "




    الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

    أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    أيّها الأحبّة، في هذه الليلة نشرع في شرح الأذكار التي تُقال في السُّجود، وأول ما ذكره المؤلفُ هو جزءٌ من حديث حُذيفة  الذي قد مضى شطرُه المتعلِّق بالركوع.

    حديث حُذيفة بن اليمان : أنَّه سمع النبيَّ ﷺ يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات[1]. وهذا الحديثُ أخرجه ابنُ ماجه.

    وقلنا: إنَّ ذكر "ثلاثًا" في حديث حُذيفة لا يخلو إسنادُه من ضعفٍ، وله شواهد، وهذه الشَّواهد أيضًا لا تخلو من ضعفٍ، لكن يتقوَّى بها، وذكرنا هناك من هذه الشَّواهد: ما جاء عن عبدالله بن مسعودٍ [2]، وكذا عن جبير بن مطعم  عند البزَّار[3]، ومن حديث أبي مالكٍ الأشعري[4]، وحديث أقرم بن زيدٍ الخزاعي[5]، وحديث أبي بكرة -رضي الله عنهم أجمعين-[6].

    وهذه كلّها جاء فيها التَّقييد بأنَّه كان يقول ذلك ثلاث مرات، لكن في أسانيدها ضعفٌ، ومن أهل العلم مَن رأى أنها تتقوَّى بمجموعها: كالشيخ: ناصر الدين الألباني -رحمه الله-[7]، والشيخ شُعيب الأرنؤوط[8]، وقد مضى ذكرُ ذلك.

    قوله في السُّجود: سبحان ربي الأعلى عرفنا أنَّ التَّسبيح بمعنى التَّنزيه، وهو يُنزه الله -تبارك وتعالى- ويُبرئه في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله عن كل عيبٍ ونقصٍ.

    ربي الربّ عرفنا أنَّه يأتي بمعنى السَّيد والمالك والمتصرِّف والمربِّي لخلقه، إلى غير ذلك من المعاني، وكلّها ثابتٌ لله -تبارك وتعالى-.

    سبحان ربي سيدي ومالكي وخالقي ومُتصرِّف في شؤوني، والمربي لعباده بالنِّعَم الظَّاهرة والباطنة.

    الأعلى هذا من أسماء الله -تبارك وتعالى-، ثابتٌ في القرآن والسُّنة، وهذا الحديث يدلّ لذلك، فالله -تبارك وتعالى- يقول: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى:1]، فهو أعلى من كل شيءٍ: أعلى في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، فهو الأعلى، وله العلو المطلق: علو الذَّات، وعلو القدر، وعلو القهر، فكل العلو ثابتٌ لله -تبارك وتعالى-.

    وقوله هنا: سبحان ربي الأعلى ظاهرٌ أنَّ التَّسبيح لله -تبارك وتعالى-، وهذا يمكن أن يُفسَّر به قوله -تبارك وتعالى-: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، بدليل أنَّ النبي ﷺ كان إذا قرأ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: سبحان ربي الأعلى، مما يدلّ على أنَّ المرادَ بذكر الاسم: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ليس المقصودُ تسبيحَ الاسم، وإنما تسبيح الربِّ -تبارك وتعالى-، الذي هو المسمّى بهذا الاسم.

    وعبارات العُلماء -رحمهم الله- اختلفت في توجيه ذكر الاسم: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، لماذا ذكر الاسم؟ هل نقول: سبحان اسم ربي الأعلى؟ فنُسبِّح اسمه؟ هل هذا هو المراد؟

    بعض أهل العلم قالوا: إنَّ المرادَ الربُّ، طيب، والاسم؟

    بعضهم قال: إنَّه مُقْحَمٌ، أي: زائدٌ. هكذا ذهبت إليه طائفةٌ، منهم: القُرطبي صاحب التَّفسير[9]، ومن المتأخِّرين -وهو مُتأثِّرٌ به؛ لأنَّه ينقل من كلامه كثيرًا، بل يُلخِّصه- الشَّوكاني[10] -رحم الله الجميع-، قالوا: المعنى: سبِّح ربَّك، فالتَّسبيح لله .

    وطائفةٌ قالوا: لا، التَّسبيح للاسم، وإلا كيف يُذكر الاسم ثم يُقال: إنَّه مُقحم؟! فهو مقصودٌ إذًا: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، نزِّه اسمَه أن يُسمَّى به أحدٌ سواه.

    وبعضهم يقول: نزِّه تسمية ربّك وذكره، أو ذكرك إياه ألَّا تذكره إلا وأنت خاشعٌ ومُعظِّمٌ له .

    وبعضهم فسَّر التَّسبيح في قوله: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى "أي: صلِّ لربِّك الأعلى"[11]، وهو قول الحسن البصري، إلى غير ذلك من الأقوال.

    وأحسن مَن تكلم على هذا -فيما وقفتُ عليه- الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله-[12]، والحافظ ابن القيم[13]، فإنَّهم لم يقولوا بأنَّ الاسم مُقحمٌ، ولا أنَّ التَّسبيح للاسم، وإنما قالوا: التَّسبيح للربِّ -تبارك وتعالى-، ولم يقولوا مثل الأوَّلين: بأنَّ الاسم هنا زائدٌ، وإنما قالوا: الاسم هنا قصد ذكره، فليس بزائدٍ.

    فالحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول: بأنَّ الذكرَ الحقيقي محلّه القلب؛ لأنَّ الذي يُقابله النِّسيان، والتَّسبيح نوعٌ من الذكر، فلو أطلق الذكرَ والتَّسبيح، يعني: لو قال: اذكر ربَّك، سبِّح ربَّك. يقول: فإنَّه يُفهم منه ما يُقابل النِّسيان، وهو الذكر بالقلب، يعني: أن يبقى ذكرُه حاضرًا في قلب العبد، فلا يغفل، يعني: ليس الذكرُ باللِّسان، يقول: والله -تبارك وتعالى- أراد من عباده الأمرين جميعًا، ولم يقبل الإيمان وعقد الإسلام إلا باقترانهما واجتماعهما، يعني: القلب، وإقرار اللِّسان، بأن يتواطأ القلبُ واللِّسانُ.

    يقول: فصار المعنى: "سبِّح ربَّك بقلبك ولسانك، واذكر ربَّك بقلبك ولسانك"[14]، فذكر الاسم يدلّ على أنَّ اللِّسان يلهج به، فلمَّا ذكر الاسم أفادنا هذه الفائدة: أنَّ هذا الذكر باللِّسان، فتذكر ربَّك ذكرًا بالقلب، مع اللِّسان، فيتواطأ القلبُ مع اللسان على الذكر. فهذه فائدة ذكر الاسم: أن تنطق باسمه وأنت تذكره، إذًا هذا كلامٌ ونطقٌ.

    يقول: فجيء بالاسم هنا تنبيهًا على هذا المعنى، حتى لا يخلو الذكرُ والتَّسبيحُ من اللَّفظ باللِّسان. لاحظ، يقول: لو ذكر الذكر فقط فقد يكون ذكر القلب الذي يُقابل النِّسيان والغفلة، لما ذكر الاسم دلَّ على أنَّ اللِّسان ناطقٌ بهذا الذكر، مع مُواطأة القلب. يقول: لأنَّ اللَّفظَ لا يُراد لنفسه، فلا يتوهم أحدٌ أنَّ اللفظَ هو المسبّح، دون ما يدلّ عليه من المعنى. يعني: ليس المقصودُ أنَّك تُسبِّح اسمَه، وإنما ذكر القلب "مُتعلّقه المسمّى المدلول عليه بالاسم دون ما سواه"، الذي هو اسم الله: سبِّح ربَّك ذاكرًا اسمه: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى.

    ففائدة ذكر الاسم أنَّك تُسبِّحه ذاكرًا اسمه، فتقول: سبحان ربي الأعلى، وتنطق بذلك؛ ولهذا النبي ﷺ كان إذا قرأ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: سبحان ربي الأعلى، ولم يقل: سبحان اسم ربي الأعلى، فهذا يُفسّر الآية، ويُبين المراد.

    ثم نقل عن شيخه الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله- فيقول بأنَّه عبَّر له عن هذا المعنى بعبارةٍ لطيفةٍ وجيزةٍ، فقال: "المعنى: سبِّح ناطقًا باسم ربِّك، مُتكلِّمًا به"[15]، يقول ابنُ القيم: وهذه الفائدة تُساوي رحلةً[16]. يعني: سفرًا، يُسافر من أجلها، يقول: لكن لمن يعرف قدرَها[17].

    ثم أفادنا الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- فائدةً أخرى في الفرق بين قوله: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:74]، حيث دخلت الباء بِاسْمِ رَبِّكَ، وفي سورة الأعلى قال: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى بدون باءٍ، فذكر وجه الفرق بينهما فقال: "بأنَّ التَّسبيح يُراد به التَّنزيه، والذكر المجرد دون معنًى آخر، ويُراد به ذلك مع الصَّلاة، وهو ذكرٌ وتنزيهٌ مع عملٍ"[18].

    فالخُلاصة: أنَّ ابنَ القيم -رحمه الله- يقول: بأنَّ الذي يتعدَّى بالحرف (الباء): فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أنَّ هذا ذكرٌ مع عملٍ، الذي هو الصَّلاة، يقول: فلا يُقال: سبَّحتُ بالله، إلا إذا أردتَ ما كان مقرونًا بالفعل، وهو الصَّلاة، فتدخل الباء تنبيهًا على ذلك، كأنَّك قلتَ: سبّح مُفتتحًا باسم ربِّك، أو ناطقًا باسم ربِّك، كما تقول: أُصلِّي مُفتتحًا أو ناطقًا باسمه، فالباء هذه أفادتنا فائدةً زائدةً: أنَّ هذا ذكرٌ باللِّسان، زائد عملٍ، وهو الصَّلاة، فيقول: حيث وجدت هذه التَّعدية بالحرف، فيدلّ على أنَّ هناك عملٌ إضافي على الذكر باللِّسان، فيدلّ على أنَّه: سبّح مُفتتحًا باسمه، صلِّ له، فالصَّلاة يُقال لها: تسبيحٌ؛ ولهذا قال الله : سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الحديد:1]، فُسِّر بأنَّه يُصلي له، فعُدِّيَ بحرفٍ، وهو اللام: سَبَّحَ لِلَّهِ.

    سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الأعلى هنا يرجع إلى الربِّ -تبارك وتعالى-، فالعلو صفةٌ ذاتيةٌ له -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه-، ومن أسمائه الثابتة: العلي، والأعلى، والمتعال، فله علو القدر والشَّأن والمنزلة، وعلو القهر، وعلو الذَّات، فالله فوق خلقه، وفوق عرشه، وفوق سماواته، مُستوٍ على العرش، يعلم أحوالَ الخلق، مُحيطٌ بأعمالهم، لا تخفى عليه منهم خافية، وهو العلي العظيم، عالم الغيب والشَّهادة، الكبير المتعال، فكلّ هذا يدلّ على ثبوت هذه الأسماء لله -تبارك وتعالى.

    والشّنقيطي -رحمه الله- حينما تكلَّم على هذه الآية: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: بأنَّه يمكن أن يكون المرادُ نفس الاسم؛ لأنَّ أسماء الله ألحد فيها قومٌ، ونزَّهها آخرون عن كلِّ ما لا يليق، ووصفها الله  بأنها حُسنى، بمعنى: أنها بالغةٌ في الحُسن غايته، وفي ذلك أكمل تنزيهٍ لها؛ لأنَّها مُشتملة على صفاته الكريمة[19]، فهو يحتمِل أن يكون المرادُ تنزيه الاسم، لكن ما ذكرتُه من كلام شيخ الإسلام وابن القيم أحسن من هذا وأدقّ وأوضح.

    هذا ما يتعلَّق بهذا الذكر.

    وأسأل الله  أن ينفعني وإيَّاكم بما سمعنا، ويجعلنا وإيَّاكم هُداةً مُهتدين، والله أعلم.

    وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلّم.

    ###############################################

    دعاء السجود

    " اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين"




    الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

    أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    في هذه الليلة نتحدَّث عن ذكرٍ من الأذكار التي تُقال في السُّجود، وهو ما جاء عن عليٍّ -رضي الله تعالى عنه-، عن النبي ﷺ: أنَّه كان إذا قام إلى الصَّلاة ... وذكر الحديثَ الطَّويل الذي جزَّأه المؤلفُ، وقد مضى منه ثلاثةُ أجزاء، وهو ما يتعلَّق بدُعاء الاستفتاح، وما يتعلق بالركوع، وما يتعلق بالرفع من الركوع، ولا بأس بالتَّذكير بهذا الحديث، أن أذكر متنَه إلى هذا الموضع المتعلق بالسُّجود.

    فأوَّله: "كان إذا قام إلى الصَّلاة" بهذا الإطلاق، فهنا لم يُحدد أنَّها صلاةُ تطوعٍ أو فريضةٍ، وهل هي صلاة الليل أو غير ذلك؟

    "كان إذا قام إلى الصَّلاة"، فظاهره الإطلاق أو العموم؟

    قال: وجهتُ وجهي للذي فطر السَّماوات والأرض حنيفًا، وما أنا من المشركين، إنَّ صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين، لا شريكَ له، وبذلك أُمِرْتُ، وأنا أوَّل المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي، وأنا عبدُك، ظلمتُ نفسي، واعترفتُ بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، إنَّه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت[1]، إلى آخر دعاء الاستفتاح الذي مضى الكلامُ عليه.

    ذاك هو أول هذا الحديث الذي عندنا في السُّجود، وإذا ركع -نفس الحديث- قال: اللهم لك ركعتُ، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ، خشع لك سمعي وبصري ومخِّي وعظمي وعصبي[2]، وهذا قد مضى أيضًا.

    وإذا رفع قال: اللهم ربنا لك الحمد، ملء السَّماوات، وملء الأرض، وملء ما شئتَ من شيءٍ بعد، وملء ما بينهما، وملء ما شئتَ من شيءٍ بعد[3].

    ثم يأتي ما يتعلَّق بالسُّجود: "وإذا سجد قال: اللهم لك سجدتُ، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ، سجد وجهي للذي خلقه وصوَّره، وشقَّ سمعَه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين"[4]، وبقيت فيه بقيةٌ في آخر الحديث بين التَّشهد والتَّسليم، يعني: إذا فرغ من تشهده قبل أن يُسلم، فهذا الحديث أخرجه الإمامُ مسلمٌ في "صحيحه".

    وذكرنا أيضًا أنَّه جاء عن جابر بن عبدالله : أنَّ النبي كان يقول في سجوده: اللهم لك سجدتُ، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ، وأنت ربي، سجد وجهي للذي خلقَه وصوَّره، وشقَّ سمعَه وبصرَه، تبارك الله أحسن الخالقين[5]، هذا بنحو اللَّفظ السَّابق، اللهم إلا في بعض الحروف والألفاظ اليسيرة.

    ومثله أيضًا ما رواه محمدُ بن مسلمة ، عن النبي ﷺ: أنَّه كان إذا قام من الليل يُصلي تطوعًا قال إذا سجد: اللهم لك سجدتُ، وبك آمنتُ[6]، وذكر مثل حديث جابرٍ .

    فهنا حديث جابرٍ ، وحديث محمد بن مسلمة، رواهما الإمامُ النَّسائي، وهما حديثان ثابتان صحيحان، لكن الأول حديث عليٍّ  هو في "صحيح مسلم".

    في حديث عليٍّ  قال: "أنَّه كان إذا قام إلى الصَّلاة"، فهذا ظاهره الإطلاق، وحديث محمد بن مسلمة: "كان إذا قام من الليل يُصلي تطوعًا"، وقد تكلَّمنا على حديث عليٍّ، وقلنا: بأنَّ الإمام مسلمًا -رحمه الله- وضعه في أبواب قيام الليل، ففهم بعضُ أهل العلم أنَّ الإمام مسلمًا -رحمه الله- يرى أنَّ ذلك إنما هو في قيام الليل، بل ذكر بعضُهم أنَّها رواية في "صحيح مسلم"، والواقع أنها ليست بروايةٍ.

    وذكرنا أيضًا بأنَّ ابن خُزيمة ذكره في باب ذكر الدُّعاء بين تكبيرة الافتتاح وبين القراءة، وأنَّ لفظَه عند ابن خُزيمة: "كان إذا قام إلى الصَّلاة المكتوبة"[7].

    وكذلك أيضًا ذكره ابنُ حبان، ولفظه: "كان إذا ابتدأ الصَّلاة المكتوبة"[8]، وذكره تحت: باب ذكر ما يدعو المرءُ به بعد افتتاح الصَّلاة قبل القراءة. وهو بهذا اللَّفظ: "كان إذا ابتدأ الصَّلاة المكتوبةَ قال: وجَّهتُ وجهي"، إلى آخره، وذكره في بابٍ آخر، وهو ذكر ما يدعو به المرءُ عند افتتاح الصَّلاة الفريضة، ويقول بعد التَّكبيرة. وهكذا أيضًا في بابٍ ثالثٍ.

    وفي روايةٍ عند الترمذي: "كان إذا قام إلى الصَّلاة المكتوبة"[9].

    في روايةٍ عند مسلم: "كان رسولُ الله ﷺ إذا استفتح الصَّلاة كبَّر"[10]، إلى آخره، فظاهر هذا أنَّ النبيَّ ﷺ كان يقوله في الصَّلاة المكتوبة.

    وفي الرِّواية التي عند النَّسائي من حديث محمد بن مسلمة، تدل على أنَّ النبي ﷺ قال ذلك في صلاة الليل، فيكون هذا الذكر مما يُقال في الفريضة، ويُقال في غيرها.

    اللهم لك سجدتُ هنا تقديم الجار والمجرور: لك سجدتُ، وقلنا: هذا يُفيد الحصر، فلو قال: "سجدتُ لك"، هذا قد يُفهم منه أنَّه سجد لله ولغيره، فلا يمنع من احتمال السُّجود لغيره من حيث اللغة، لكن إذا قال: لك سجدتُ يعني: وحدك دون مَن سواك، فهذا يدل على التوحيد والإخلاص.

    وبك آمنتُ لا بغيرك، فإذا قُدِّم المعمولُ على عامله، أو تقديم الجار والمجرور، أو نحو ذلك، فكلّ هذا يُفيد الحصر، أو يُشبه الحصر.

    بك آمنتُ، ولك أسلمتُ وهذا فيه التَّفريق بين الإيمان والإسلام، وقلنا: إنَّهما إذا ذُكِرَا مع الاقتران من غير إفرادٍ لأحدهما؛ فإنَّ الإيمانَ يكون بمعنى الإقرار والإذعان القلبي، والإسلام يُراد به: إسلام الجوارح، وإسلام الظَّاهر، فهنا ذكر الإيمان والإسلام: بك آمنتُ هذا يرجع إلى إذعان القلب وتصديقه وانقياده، ولك أسلمتُ بجوارحي.

    سجد وجهي للذي خلقَه أشرف ما في الإنسان وجهه، فحينما يضع وجهَه على الأرض هذا تواضعٌ لله ، وهو شرفٌ للمخلوق، وهو تعظيمٌ للمعبود -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه-، فهنا يُخبر عن فعله.

    وقلنا: هذا الذكر يأتي من النوع الثاني الذي يُخبر فيه العبدُ عن حاله، وعن إيمانه، وعن ذكره لربِّه -تبارك وتعالى-، وعبادته له.

    سجد وجهي للذي خلقَه والذي خلق هو الذي يستحقّ أن يُعبد، وقد أشرنا إلى هذا المعنى في عددٍ من المناسبات، وكان الله -تبارك وتعالى- في القرآن يذكر هذا كثيرًا، حيث إنَّ تلك الآلهة التي يعبدونها من دون الله: لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النحل:20]، فالعبادة لا تصلح إلا لمن خلق؛ ولهذا أوَّل أمرٍ في القرآن: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21]، الأمر بعبادة الله قرنه بهذه القضية: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، فالذي خلق هو الذي يُعْبَد، وهو الذي يستحقّ العبادة دون مَن سواه، ولا يمكن أن يخلق ثم تُصرف العبادة لغيره، فهذا من أظلم الظُّلم؛ ولهذا كان الشِّركُ ظلمًا عظيمًا: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، يخلق ويرزق، ثم بعد ذلك تُصْرَف العبادةُ لغيره ممن لا يملك نفعًا ولا ضرًّا! فهذا من أظلم الظلم.

    سجد وجهي للذي خلقه أوجده، وجعله بهذه الصُّورة، وقدَّره على صورةٍ معينةٍ يتميز بها عن غيره، لا يشتبه، مع أنَّ هذه الوجوه من حيث مواضع هذه الحواس، وما إلى ذلك، العينان لكل الناس في موضعهما، والأنف في موضعه، والفم في موضعه، ولكن لا يتشابه الناسُ، يُميز بعضُهم بعضًا، يعني: لو نظرتَ إليهم، كما يقول الشيخُ محمد الأمين الشَّنقيطي -رحمه الله-، كثيرًا ما يذكر هذه الموعظة، يقول: "إذا رأيتم الناسَ يوم جمرة العقبة مُجتمعة من أقطار الدنيا، وجدتُموها على صَبَّةٍ واحدةٍ: الأنف هاهنا، والعينان هاهنا، والفم هاهنا، على نمطٍ وأسلوبٍ واحدٍ، مع أنَّه لم تشتبه صورة رجلٍ بصورة رجلٍ حتى لا يُفرَّق بينهما، ولا صورة امرأةٍ بصورة امرأةٍ، فكلٌّ منهم له صورة يُطْبَع عليها، سابق علم الله بها، مُنفَّذ في تصويره بها، وهذا مما يدلّ على كمال وعظمة خالق السَّماوات والأرض"[11].

    فهذا الخلق الذي يشترك الناسُ فيه بهذه الحواس، وبهذا الوجه، ومع ذلك يتمايزون، فهذا التَّمايز يدل على قُدرةٍ بديعةٍ في الخلق والتَّصوير والتَّقدير، ودقّة في هذا كلِّه.

    فهنا سجد وجهي للذي خلقَه هو الذي يستحقّ أن يُسجد له، وشقَّ سمعه وبصره شقّ السّمع يعني: جعل له منفذًا، وهي هذه الأذن، وإلا فإنَّ السَّمع ليس هذه الأذن، كما هو معلومٌ، ولكن منفذه يكون من هذه الأذن: وشقَّ سمعه وبصره شقّ له هذا الموضع، وجعل العينَ في هذا الموضع، وجعل الأُذنين على الجانبين، وجعلهما اثنتين، هذه من هذا الجانب، وهذه من هذا الجانب، بحيث يسمع الأصوات من جميع النَّواحي، وجعل البصر أعلى، وفي الرَّأس، وعليه هذه الحماية العظيمة، وبهذا التَّجويف، فهو أعلى ما في الإنسان في قامته، وكذلك سمعه بحيث يكون رأسُه كالبرج يرى الأشياء.

    وتصوّر لو كان البصرُ في ركب الإنسان، فهو عُرضة لكل آفةٍ، ولا يستطيع أن يرى به ويُبْصِر كما يُريد، لكن جعله الله  في هذا الموضع، وفي هذه الجمجمة، وحماه بهذه العِظام، وجعل فوقه الحواجب، وجعل عليه هذه الجفون، وجعل عليها هذا الشّعر، وأسال فيه عينًا مِلْحًا من أجل أن يكون هناك مسحٌ مُستمرٌّ وتعقيمٌ وتنظيفٌ، ولا يحصل له شيءٌ من العفن، وجعلها مالحةً لتُعقِّمه وتُنظِّفه.

    فهذا كلّه من دلائل قُدرته -تبارك وتعالى-، فالإنسان يُقرّ ويُذعِن بهذا، ويقول: أنا مُعترفٌ يا ربّ، وأنا أسجد للذي خلق هذا الوجه، وشقَّ سمعه وبصره.

    وتصوّر لو أنَّ الإنسان وُلِدَ مطموسًا في موضع العينين، وموضع الأُذنين، كيف يكون حالُه؟ لا سمعَ، ولا بصرَ، هذا لا يمكن أن يتعلم شيئًا، ولا يستطيع الكلام بطبيعة الحال، ولا يفهم لغةَ الإشارة، ولا يمكن أن يتلقَّى شيئًا من المعارف، يكون مثل البهيمة تمامًا.

    فالله  شقَّ له هذا السَّمع والبصر، وأصل ذلك هذه النُّطفة، حيوانٌ منويٌّ يُلقِّح هذه البُويضة، ثم بعد ذلك يبدأ هذا الخلق ينمو شيئًا فشيئًا: نُطفة، ثم علقة؛ قطعة دمٍ جامدٍ تعلق في الرحم، ثم بعد ذلك يكون مُضغةً، ثم بعد ذلك يبدأ يتحوّل إلى شيءٍ آخر، فيذهب هذا يكون عينًا، وهذا يكون سنًّا، وهذا يكون يدًا، وهذا يكون كُلًى، وهذا يكون كبدًا، وهذا يكون قلبًا، وهذا يكون عروقًا وشرايين، ما الذي يجعل هذا يكون هكذا؟ وهذا يكون هكذا؟ والعين تكون هنا؟ واليد تكون هنا؟ والرِّجْل تكون بهذه الصُّورة، ولا تكون اليدُ بصورة الرِّجْل والعكس؛ لأنَّ الرِّجْل هي التي للمشي ولا بدَّ، والقوائم السُّفلية تكون قويةً متينةً، لماذا لا تكون اليدُ بهذه الطَّريقة؟ لماذا لا ينقلب هذا الخلق: بعض الناس هكذا، وبعض الناس هكذا؟ لا، هو تدبير العزيز الحكيم، هذا العليم الخبير خلق الناسَ بهذه الطَّريقة، هل هناك أحد اختار كيف يُخْلَق؟ أبدًا، وإنما الله  هو الذي صوَّره هذا التَّصوير، وخلقه ودبَّره، فهو الذي يُصورنا في الأرحام كيف يشاء، تبارك الله، كثر خيرُه، وعظمت بركتُه، تعالى وتعظَّم.

    فهنا نُلاحظ في هذا أنَّه قدَّم السَّمعَ على البصر: شقَّ سمعَه وبصرَه، هذا يمكن أن يُقال: أولاً: لأنَّ السمعَ أنفع من البصر، وقد أشرنا إلى هذا من قبل، فقد يذهب بصرُ الإنسان، لكن السَّمع أهم، ويكون عالـمًا، وإذا ذهب نورُ العين يعود نورُهما إلى القلب، فيكون عنده من الإدراك والحفظ والفهم والنَّباهة والفطنة ما لا يكون عند غيره من المبصرين غالبًا، لكن إذا ذهب السَّمعُ فالمصيبة فيه أعظم؛ ولذلك الإنسان إذا ضعف سمعُه يجد حرجًا حتى في الجلوس مع الناس؛ لأنَّهم يضحكون وهو لا يدري لماذا يضحكون؟ ويُوجِّهون إليه الكلامَ وهو لا يُجيب، فقدَّم السَّمع هنا لأهميته.

    ويمكن أن يُقال أيضًا، كما يُشير الحافظُ ابن القيم في كتابه "تحفة المودود"، يُشير إلى: أنَّ السَّمع ينمو في الإنسان قبل البصر[12] في الجنين، يعني: وهو في بطن أُمِّه.

    فتبارك الله أحسن الخالقين والخلق عرفنا في أسماء الله الحُسنى أنَّه يأتي لثلاثة معانٍ: فيأتي بمعنى الإيجاد من العدم، ويأتي بمعنى التَّقدير، ويأتي بمعنى التَّشكيل والتَّصوير. كلّ هذا يُقال له: خلقٌ، لكن لما قال اللهُ في آخر سورة الحشر: الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ [الحشر:24]، صار معنى "الخالق" هنا بمعنى: المقدّر، والبارئ: الذي أوجد من العدم، والمصوِّر: الذي أعطاه صورةً وشكلاً، يعني: هذا التَّصميم الذي أمامكم، هذه الطَّاولة الذي صنعها في البداية قدَّر أبعادها وارتفاعها ومساحتها طولاً وعرضًا وارتفاعًا، فهذا يُسمَّى: تقدير، ويُقال له: خلق؛ ولهذا تجد يُقال مثلاً: نخلق فكرةً، أو هلموا فلنخلق أفكارًا، بعض الناس ينقبض من هذه الألفاظ، ويرى أنَّها لا تجوز، والصَّحيح أنَّ هذا جائزٌ؛ لأنَّ الخلقَ يأتي بمعنى: التَّقدير: وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا [العنكبوت:17]، فهذا بمعنى التَّقدير.

    إذا جاء هذا الصَّانع وصنع هذه الطَّاولة، في البداية قدَّرها، ثم بعد ذلك يقطع الخشب، وما إلى ذلك، فهو يصنعها، يُنفذ، فهذا يكون بمعنى: التَّصوير والتَّشكيل.

    فقوله -تبارك وتعالى-: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14]، بعضهم قال: يعني: المقَدِّرين، قدَّر هذا السَّمع والبصر. وبعضهم قال: يعني: المصوِّرين. ولا مانعَ من أن يكون ذلك جميعًا مُرادًا، فالله  هو الذي قدَّر هذه الأشياء على وجهٍ في غاية الإحكام والإتقان، ثم أوجدها وأعطاها صُورًا وشكلاً، وكما سبق في الكلام على الأسماء الحُسنى في قول الشَّاعر يمدح مَلِكًا:
    وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعضُ القَومِ يَخلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي[13]

    تفري ما خلقْتَ؟

    أي: ما قدَّرتَ، يعني: أنت تُخطط وتُنَفِّذ؛ لأنَّ لديك قُدرات وإمكانات على التَّنفيذ، وغيرك من الملوك يُقدِّر ويُخطط لأشياء، ولكن إمكانياته لا تسمح، فلا يستطيع أن يُنفذها لعجزه، فسمَّاه: خلقًا.

    فهنا أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ بالجمع، فدلَّ على أنَّ المخلوقَ يمكن أن يُوصَف بالخلق، بمعنى: التَّصوير، أو التَّقدير بهذا الاعتبار، لا الذي يُوجد من العدم، فإنَّ ذلك هو الله، وهذا معنى اسمه: البارئ.

    ومن ثم فإنَّ المخلوقَ يمكن أن يُقال له: بأنَّه خلق كذا، أو يخلق كذا، بمعنى يُصوِّر ويُقدِّر، يُقال: رجلٌ خالق -كما يقول الليث- أي: صانع[14].

    وكذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى- عن عيسى: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [المائدة:110]، {تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ} يعني: يُشكِّل من الطين بصورة الطَّير، فسمَّاه: خلقًا.

    وهذا كلّه لا إشكالَ فيه، فالله -تبارك وتعالى- أحسن الخالقين، فلا أحسن من تقديره، ولا أحسن من خلقه وتصويره وتشكيله الذي جاء على مُقتضى الحكمة والكمال: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [الملك:3]، وكلّ ذلك يُطابق الغايات المحمودة، فالله  يخلق لحكمةٍ؛ ولهذا قال: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ، فهذا كلّه يُفسّر به هذا الموضع.

    والشَّنقيطي -رحمه الله- فسَّره بالمقدِّرين[15]، والأمر في ذلك قريبٌ، وكلّ ذلك مما يدخل في معناه -والله تعالى أعلم-.

    ولعلَّ هذا يكفي في شرح هذا الحديث.

    وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعني وإيَّاكم بما سمعنا، وأن يجعلنا هُداةً مُهتدين، والله أعلم.

    وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه.


    ###############################################

    دعاء السجود

    " اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله وأوله وآخره وعلانيته وسره " " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك ... "




    الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

    أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    فلم يزل الحديثُ -أيّها الأحبّة- عمَّا يُقال من الذكر والدُّعاء في السُّجود مما ثبت عن رسول الله ﷺ، وما مضى الكلامُ عليه مما يُقال في الركوع والسُّجود، فإنَّه تكفي الإشارةُ إلى ذلك في الموضع الآخر، يعني: إذا شُرح هذا في الركوع فإذا جاء ذكره في السُّجود فتكفي الإشارةُ إلى ذلك، ولا يحتاج إلى إعادة لشرحه، كقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي[1]، وقول: سبُّوح، قدُّوس، ربّ الملائكة والروح[2]، وكذلك أيضًا: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة[3]، فهذا كلّه قد مضى الكلامُ عليه، فهو مما يُقال في الركوع والسُّجود.

    من هذه الأذكار والأدعية التي تُقال في السُّجود: ما رواه الإمامُ مسلمٌ في "صحيحه" من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-: أنَّ رسولَ الله ﷺ كان يقول في سجوده: اللهم اغفر لي ذنبي كلّه، دقّه وجلّه، وأوّله وآخره، وعلانيته وسرّه[4].

    فالنبي ﷺ كان يقول ذلك في سجوده، يعني: أحيانًا؛ لأنَّه ثبت عنه ﷺ أنَّه كان يقول غيره، كما مضى في جملةٍ من الأذكار في الليالي الماضية، وكونه يقول ذلك في السُّجود يحتمل أنه يقوله مع قول: سبحان ربي الأعلى كما مضى، ويحتمل أنَّه يقوله مُفردًا له، من غير ذكرٍ آخر يقوله معه، هذا احتمالٌ.

    وقوله: اللهم اغفر لي ذنبي كلّه عرفنا أنَّ الغفر ينتظم معنيين: السَّتر والوقاية. وقلنا: منه "المغفر" يستر رأسَ المقاتل، ويقيه أيضًا من ضرب السِّلاح، فإذا قال العبدُ: اللهم اغفر لي، يعني: يا الله، اغفر لي. فهو يطلب أن يستره، وأن يقيه تبعة الذَّنب، يعني: المؤاخذة، فيكون ذلك بالعفو والتَّجاوز والصَّفح.

    ذنبي ذنبٌ مُفردٌ مُضافٌ إلى ياء المتكلم، وهو معرفة، ومثل هذا يُفيد العموم، يعني: ذنوبي، هذا المعنى، لكنَّه أكَّد ذلك أيضًا بقوله: كلّه، وما ذكر بعده من قوله: دقّه وجلّه يمكن أن يكون ذلك أنَّه من قبيل التَّفصيل لأنواع هذا الذَّنب: إمَّا أن يكون من الأمور الصَّغيرة، أو من الأمور الكبيرة، أو يكون ذلك لبيان هذا الذَّنب، أو يكون ذلك بتقدير: اغفر لي ذنبي كلّه أعني: دقّه وجلّه، ودقّه يعني: دقيقه وصغيره، فإنَّ الصَّغائر تجتمع على العبد حتى تُهلكه إذا تكاثرت.

    وقد مثَّلها النبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام-: كمثل قومٍ نزلوا أرض فلاةٍ، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجلُ ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سوادًا، فأجَّجوا نارًا، وأنضجوا ما قذفوا فيها[5]، فالذُّنوب الصِّغار يُحاسَب الإنسانُ عليها.

    وكما مضى في بعض المناسبات من قوله -تبارك وتعالى-: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا [الكهف:49].

    فالإنسان يُحاسَب على الصَّغائر، كما قال بعضُ السَّلف: "ضجّوا من الصَّغائر قبل الكبائر"[6]، فقالوا: مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا، قدَّموا الصَّغائر على الكبائر، فضجّوا من الصَّغائر قبل الكبائر، فلا يستهين الإنسانُ بالصَّغائر.

    وقوله ﷺ هنا: دقّه وجلّه يُبيّن لنا بطلان ما يقوله بعضُ الناس لربما طلبًا للسَّجع في الكلام، وهو من الإساءة في الدُّعاء: "أستغفر الله العظيم من كلِّ ذنبٍ عظيمٍ"، والنبي ﷺ يقول: اغفر لي ذنبي كله، دقّه وجلّه، وهذا يقول: "أستغفر الله العظيم من كلِّ ذنبٍ عظيمٍ"، طيب، والصَّغائر ألا يستغفر منها؟!

    والنبي ﷺ قد غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، ومع ذلك يستغفر، فإنَّ هذا من كمال عبوديته -عليه الصَّلاة والسَّلام-، وهو تعليمٌ أيضًا لأُمَّته، يُعلِّمهم الاستغفار، كما سيأتي بيانه -إن شاء الله-، فلا يصحّ أن يقول الإنسانُ: أستغفر الله العظيم من كل ذنبٍ عظيمٍ، وإنما يقول: أستغفر الله وأتوب إليه من كل ذنبٍ.

    وقوله: وجِلَّه بكسر الجيم، وقد تُضم فيُقال: "وجُلَّه"، يعني: جليله وكبيره؛ لأنَّه قابله بقوله: دقَّه، فالذي يُقابله هو الكبير، يقولون: يُوصَف الإنسانُ بالفقر، وأنَّه لا يملك شيئًا، فيُقال: ما له دقيقة ولا جليلة، يعني: أنَّه فقيرٌ، يعني: ما له شاة ولا ناقة، وهذا لأنَّ أموالَ العرب كانت الإبل، يُقال: "حُمر النَّعَم"، هذه أغلى الأموال وأثمنها، فيُقال: فلانٌ ما له دقيقة ولا جليلة، والجليلة هي النَّاقة، والإبل أفضل الأموال وأنفسها، وعليها تُقدّر الدِّيات، وفي كثيرٍ من الأحيان مهور النِّساء في بعض البيئات.

    فالشَّاهد أنَّ العربَ يقولون ذلك: "ما له لا قليل ولا كثير"، ويقولون: "أتيتُه فما أدقني ولا أجلني"، يعني: ما أعطاني شيئًا يسيرًا ولا كثيرًا، والجلل هو الشَّيء العظيم، مع أنَّه يُقال للشَّيء الهين الصَّغير؛ ولذلك قالوا: إنَّه من الأضداد، لكنَّه هنا في الحديث لما قابله بقوله: دقّه دلَّ على أنَّ المقصود الشَّيء العظيم والذَّنب الكبير.

    ولاحظ هنا أنَّه قدَّم الدَّقيقَ على الجليل، مثل الآية: مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف:49]، ويكون هذا من باب التَّرقي في السُّؤال؛ فإنَّه يسأل أن يغفر اللهُ له صغائر الذُّنوب، ثم ارتقى إلى سؤال الغفر لكبائرها وعظائمها.

    ثم أيضًا هذه الكبائر من أين تنشأ؟

    هي تنشأ أولاً من التَّساهل في الصَّغائر، فإنَّ الإنسانَ لا يزال كما هو معلومٌ، وكما ذكر الشَّاطبي -رحمه الله- في "الموافقات" في الكلام على التَّوسع في المباحات: أنَّه يُؤدي به إلى الوقوع في المشتبهات، والوقوع في المشتبهات يُؤدِّي به إلى الوقوع في الحرام[7]، فيقع أولاً في الصَّغائر، ثم لم يزل يتساهل في ذلك حتى يقع في الكبائر، ثم هذه الصَّغائر أيضًا إذا اجتمعت -كما سبق- فإنَّها تكون بمنزلة الكبائر، وكذلك أيضًا هذه الصَّغائر حينما يُصرّ الإنسانُ عليها، ويستخفّ بذلك، ولا يُبالي بها، فهي وسائل إلى الكبائر.

    فهنا يمكن أن يكون ذلك من باب تقديم الوسيلة إلى الكبيرة، فقدَّم الصَّغيرة على الكبيرة، أو أنَّ هذا من باب التَّدرج والتَّرقي من الصَّغير إلى الكبير في السؤال، فكل ذلك يحتمل -والله تعالى أعلم-.

    وأوّله وآخره طيب، والوسط؟ هذا ما يرد هنا أن يُقال: والوسط؛ لماذا؟

    لأنَّ العربَ تُعبر بذلك وتقصد الإحاطة، يعني: بما فيه الوسط؛ لأنَّ العربَ تذكر طرفي الشَّيء وتقصد الجميع، كما قال: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [المزمل:9]، ما يأتي أحدٌ فيقول: طيب، والوسط والشَّمال والجنوب؟ فالعرب تذكر الطَّرفين وتقصد الإحاطة بما بينهما، الجميع.

    فهنا: وأوّله وآخره يعني: وما يدخل في ذلك، يعني: جميع الذُّنوب.

    وعلانيته وسرّه فالله بالنسبة إليه يستوي السّر والعلانية، ويعلم السّر وأخفى، ولكن هنا المقصود: ما أخفاه العبدُ عن الناس، والعلانية: ما فعله جهارًا أمام الناس، فكلّ ذلك يُطلب من الله -تبارك وتعالى- أن يغفره، وإلا فالله يعلم السّر وأخفى.

    فلاحظ هذا الدُّعاء وما اشتمل عليه من الإحاطة بجميع أنواع الذنوب، ومن قول القائل: "أستغفر الله العظيم من كلِّ ذنبٍ عظيمٍ"، فشتان بين هذا وهذا، ولكن تجري على الألسن أحيانًا بعضُ الكلمات لا يتفطَّن الإنسانُ لما تحتها.

    وهنا أيضًا لاحظوا هذا الاستغفار في هذا الموضع في السُّجود، شيخ الإسلام -رحمه الله- يُعلِّق على هذا يقول: "فلم يَبْقَ حالٌ من أحوال الصَّلاة، ولا ركنٌ من أركانِها إلا استغفرَ الله فيه، فَعُلِمَ أنَّه كان اهتمامُه به أكثرَ من اهتمامِه بسائرِ الأدعية"[8]، أي: الاستغفار.

    ولاحظ هذه الصَّلاة وما تشتمل عليه من هذه الأذكار والأدعية والاستغفار الكثير في أركانها، وكذلك أيضًا حينما ينصرف منها يستغفر الله ثلاثًا، مع ما كان عليه ﷺمن كثرة الاستغفار في المجلس الواحد، وفي يومه وليلته، وهو الذي غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، فيحتاج العبدُ إلى كثرة الاستغفار.

    وإذا كان الإنسانُ صاحبَ صلاةٍ ويستغفر فيها كثيرًا، ويستغفر بعدها أيضًا، فكيف بحال العبد حينما يفعل الذَّنب والمعصية، أو يُقصِّر في طاعة الله -تبارك وتعالى-؟ فهو أحوج إلى كثرة الاستغفار.

    فينغي للعبد أن ينظر، وأن يلتفت إلى نفسه: كم يستغفر في اليوم والليلة، مع كثرة التَّقصير والذنوب وغلبة الغفلة؟

    فهذا الاستغفار إذا كان مع قصد التَّوبة فإنَّه يكون توبةً، أمَّا إذا جرى على اللِّسان -كما سبق في الكلام على التَّوبة في الأعمال القلبية- فإنَّ ذلك لا يكون توبةً، فينبغي أن يحضر قلبه معه، وأن يستحضر التوبةَ عنده، وأن يتعقّل معناه، ويُكثر منه، ويستشعر التَّقصير، وإذا كان يقوله بعد الطَّاعة، وفي الطَّاعة؛ فإنَّ هذا أيضًا يجعل العبدَ في حالٍ من التَّواضع والإخبات، فلا يلتفت إلى نفسه ويقول: أنا صاحب عبادةٍ، وصاحب قيام الليل. فأصحاب القيام الذين: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16]، هؤلاء: وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:18]، إذا جاء السَّحر يكون قد انتهى من ورد الليل، فهنا يأتي الاستغفار بعد هذا القيام الطَّويل، فكيف بالمقصِّر من أمثالنا الذي يُعافس الذنوب في ليله ونهاره؟! فهو أحوج إلى كثرة الاستغفار.

    ومن الفوائد ما ذكره الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- عند الكلام على هذا الحديث، وما فيه من هذه المعاني، وطلب غفران الذّنوب الصِّغار والكبار، الدَّقيق والجليل، الأوّل والآخر، السّر والعلانية، يقول: "فهذا التَّعميم وهذا الشُّمول لتأتي التَّوبة على ما علمه العبدُ من ذنوبه، وما لم يعلمه"[9]، قبل أن يأتي ثم يقول: يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا [الكهف:49].

    وأولئك الذين قال الله  عنهم: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6]، فالإنسان قد ينسى الذنوب؛ لبُعْد العهد بها، أو لاستخفافه بها وقلّة المبالة، أو لكثرتها وتتابعها، فهو ينسى، لكن الله -تبارك وتعالى- لا ينسى شيئًا من ذلك، وكلّ ذلك مُدوَّنٌ على العبد، والملك قد أحصاه عليه، وسيقرأه في كتابه، كما قال الله : وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ، والطَّائر على الأرجح من أقوال المفسّرين هو العمل: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا مفتوحًا، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13- 14]، تنطق الجوارح، ويُختم على فيه، وتشهد عليه جوارحُه، ثم ينطق فيه ويشهد بما قالت، فيعترف ويُقرّ: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا، وانظر هذا التَّعقيب بعده: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15].

    فحينما يهتدي الإنسانُ ويستقيم ويُقبل على الله، ويتوب توبةً نصوحًا؛ فإنَّه لا يُقدّم ذلك لآخرين، وهو لا يتصدَّق بذلك على ربِّه -تبارك وتعالى-، وإنما يُقدِّم ذلك لنفسه: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا، فهو إمَّا أن يكون مُهتديًا، وإمَّا أن يكون ضالاً، فيأتي يوم القيامة بأعماله: إمَّا أنَّه يجد الحسنات التي جمعها وحازها في هذه الحياة الدنيا، وإلا يجد -أعوذ بالله- الرَّيبَ والمعاصي والجرائم والذّنوب والجرائر، فكلّ ذلك قد أُحصي عليه، فهذه بضاعته، ومن زرع الحنظلَ فإنَّه لا يجني إلا الحنظل، ومَن زرع الشَّوكَ فلا يجني إلا الشَّوك.

    فنسأل الله -تبارك وتعالى- أن يهدي قلوبنا، ويُصلح أحوالنا وأعمالنا، وأن يغفر لنا ذنوبنا جميعًا: دقّها وجلّها، وأوّلها وآخرها، إنَّه سميعٌ مُجيبٌ -والله أعلم.

    وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
    ---------------------------------------------------
    مازلنا أحبابي تالعونا
    ولا تنسونا من صالح دعائكم
    أحبكم في الله


    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5188
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    (4) أدعيه السجود.. دعاء السجود " سبحان ربي الأعلى "  Empty دعاء الجلسه بين السجود

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس مايو 05, 2022 2:47 pm

    دعاء الجلسة بين السجدتين

    " اللهم اغفر لي وارحمني واهدني واجبرني وعافني وارزقني وارفعني "






    أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

    في هذه الليلة أختم الحديثَ على ما جاء من الأذكار التي تُقال بين السَّجدتين مما أورده المؤلفُ، وذلك ما جاء عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-: أنَّ النبي ﷺ كان يقول بين السَّجدتين: اللهم اغفر لي، وارحمني، واجبرني، واهدني، وارزقني[1]، وفي روايةٍ: أنَّه كان يقول ذلك في صلاة الليل، ولفظه: ربِّ اغفر لي، وارحمني، واجبرني، وارزقني، وارفعني[2].

    فهذا الحديث أخرجه أصحابُ السُّنن إلا النَّسائي، وألفاظه مُتقاربة، وبينها اختلافات يسيرة؛ ففي الرِّواية الأولى التي أوردها: اللهم اغفر لي، وارحمني، قال: واجبرني، لكن في بعض الرِّوايات بدلاً من "واجبرني": عافني، واهدني، وارزقني، وفي الرِّواية الأخرى في أوَّله: ربِّ اغفر لي، هناك: اللهم اغفر لي، وفيه بعد "واجبرني" قال: وارزقني، ثم قال: وارفعني، وليس فيه: "واهدني".

    هذا الحديث صحَّحه الحاكمُ، وحسَّنه الشيخُ شعيب الأرنؤوط، وصحَّحه الشيخ ناصر الدين الألباني -رحم الله الجميع.

    فلاحظوا هذه الجُمل في هذا الدُّعاء الذي يُردّد ويُقال بين السَّجدتين في صلاة الليل، ونحن نعلم أنَّ النبي ﷺ كان يُصلي صلاةً طويلةً، ومضى في الليلة الماضية أنَّ جلوسَه كان قريبًا من قيامه، فهذا يعني: أنَّه كان يُردد هذا الدُّعاء: اللهم اغفر لي، يا الله، اغفر لي.

    وقد مضى كلامُ شيخ الإسلام -رحمه الله- من أنَّ طلبَ المغفرة -الاستغفار- أنَّ هذا أمرٌ مُؤكَّدٌ في الصَّلاة؛ حيث إنَّه جاء في مواضع مُتعددة: كالركوع، والسُّجود، وكما في الجلوس بين السَّجدتين، وغير ذلك[3]، فهو من الأمور المطلوبة.

    والعبد حينما ينصرف من صلاته أيضًا فإنَّه يستغفر ثلاثًا، فهنا يُردد: اللهم اغفر لي، يا الله، اغفر لي.

    وعرفنا أنَّ الغفرَ يتضمن السَّتر والوقاية، فالعبد ذنوبه كثيرة، وتقصيره في حقِّ الله كبيرٌ، ومهما فعل فإنَّه لا يُؤدي حقَّ الله وشُكر نعمته عليه، بحاجةٍ إلى استغفارٍ من هذا التَّقصير، النِّعَم مُتتابعة، تفيض عليه هذه النِّعَم من حيث يدري، ومن حيث لا يدري: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، فيحتاج إلى استغفارٍ إزاء هذا التَّقصير الكثير في شُكر هذه النِّعَم، إضافةً إلى أنَّ العبدَ قد يستعمل شيئًا من ذلك في معصية الله .

    اغفر لي ذنوبي، اغفر لي تقصيري في حقِّك، اغفر لي غفلتي وإسرافي في أمري، وارحمني.

    وهنا -كما تُلاحظون- الإطلاق: "اغفر لي"، ما قال: من كذا، اغفر لي كذا، فسأل المغفرةَ سُؤالاً عامًّا: اغفر لي من كلِّ ذنبٍ، من الذنوب الكِبار والصِّغار، ما قدَّمتُ، وما أخَّرتُ، وما أسررتُ، وما أعلنتُ، وما أنت أعلم به مني، ما أعلمه، وما لا أعلمه، ما أستحضره، وما لا يحضرني من هذه الذنوب عند الاستغفار، وارحمني.

    فالغفر هو التَّجاوز عن هذه الذنوب، والوقاية، والسَّتر، والرحمة فوق ذلك، فإنَّ الله -تبارك وتعالى- إذا رحم عبدًا غفر له.

    ثم إنَّ الرحمة فيها معنًى زائدٌ إضافةً إلى الغفر؛ فإنَّ الله إذا رحم العبدَ هداه، ووفَّقه، وسدَّده، وعافاه، وأنعم عليه، وأجاب سُؤله، وبلَّغه المراتبَ العالية، وساق إليه ألطافَه، وصرفه في محابِّه، وأشغله بذكره وطاعته، فيكون العبدُ هاديًا مهديًّا، مُسدَّدًا، راشدًا، مُوفَّقًا، مُشتغلاً بما يُرضي الله -تبارك وتعالى-.

    إذا رحم اللهُ العبدَ فلا تسأل عن حاله، فدخول الجنَّة إنما هو برحمة الله ، كلُّ ما يتقلَّب فيه العبادُ من هذه النِّعَم إنما هو برحمة الله -تبارك وتعالى-، ما يصرف عنه من الشُّرور والآفات مما يعرفون، وما لا يعرفون، كلّ ذلك من رحمته -تبارك وتعالى- بهؤلاء العباد، فالله رحيمٌ بهم، لطيفٌ بهم، تتنزَّل عليهم رحماته وألطافه.

    هنا يقول: "يا ربّ، ارحمني، واهدني"، فيدخل هنا الهداية بالعلم الصَّحيح؛ أن يعرف، يُهدى إلى ما ينفعه، ويُصلحه، ويرفعه، أن يُهدى إلى محابِّ الله ، أن يُهدى إلى الصَّواب فيما اختلف الناسُ فيه، وأن يُهدى إلى أفضل الأعمال، ثم بعد ذلك يُوفَّق إلى القيام والنُّهوض بذلك.

    العمر قصير، فيحتاج العبدُ إلى هذه الهدايات: الهداية إلى تفاصيل الصِّراط، الهداية إلى الأعمال الزَّاكية الصَّالحة التي يُحبُّها الله ، هداية العلم.

    فيحتاج أيضًا إلى هداية التَّوفيق، فيكون عاملاً بما علم، يُعان على العمل بما تعلم، هذا بالإضافة إلى التَّثبيت على الصِّراط في هذه الحياة الدنيا إلى الممات، ثم يحتاج إلى هدايات أخرى: هداية عند الموت، وهداية عند سؤال الملكين، وهداية عند الحساب، ويحتاج أيضًا إلى هدايةٍ إلى الصِّراط، وإلى هدايةٍ على الصِّراط، ويحتاج إلى هدايةٍ إلى باب الجنَّة، ويحتاج إلى هدايةٍ إلى منزله في الجنَّة؛ ولهذا قال الله : وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ۝ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ [محمد:4-5]، يهديهم بعدما قُتلوا، يهديهم إلى ماذا؟ فهذه هدايات بعد الموت.

    فهنا إذا قال العبدُ: "اهدني" تدخل فيه الهدايات التي تكون في هذه الحياة: هداية الإرشاد، وهداية التَّوفيق، وتدخل فيه أيضًا الهدايات التي تكون بعد ذلك، فالعبد لا يستغني عن هداية الله  له، هو مُفتقرٌ إليها كلَّ الافتقار؛ لأنَّه إزاء أعمالٍ وعبادات يتقرّب بها إلى الله، في كلِّ أحواله يحتاج إلى هدايةٍ، هو أمام اختلافٍ كبيرٍ أمام الناس يحتاج إلى هدايةٍ، هو أمام ازدحامٍ لأعمالٍ من المعروف، أعمال صالحة لا يتَّسع لها الزَّمان، فيحتاج إلى هدايةٍ، ما الأفضل فيقضي فيه العمر؟ فإنَّ العمر سرعان ما يرتحل.

    فهنا "اهدني"، فجاء بهذا الإطلاق، رأيتُم ما تحت هذه الألفاظ من المعاني الكبار، نُرددها بين السَّجدتين.

    وعافني هنا يدخل أنواع المعافاة؛ المعافاة أن يُعافى الإنسان في دينه، فيسلم من البدع، والضَّلالات، والشُّرور، والمعاصي، والشُّبهات، والزَّيغ، وأنواع الضَّلال، الإنسان يسأل ربَّه العافية في الدنيا والآخرة.

    ويدخل فيه أيضًا المعافاة من الابتلاء، الابتلاء لا بدَّ منه، ولكن فيما يكون شاقًّا على العبد مما قد لا يصبر معه، فيحتاج إلى العافية، الإنسان يسأل ربَّه العافية، فلا يتمنّى البلاء؛ ولهذا قال النبيُّ ﷺ: لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتُموهم فاصبروا[4].

    وذكرنا في الكلام على الأعمال القلبية في الصَّدر، ذكرنا كلامَ شيخ الإسلام -رحمه الله-: أنَّ من الناس مَن يعزم على الصَّبر، ولكنَّه إذا ابتُلِيَ لا يصبر[5]، سواء كان هذا الابتلاء بنفسه: يمرض، أو نحو ذلك بشدّةٍ من الشَّدائد، أو بماله، أو بولده، أو نحو ذلك، لا يصبر، وذكرنا أمثلةً على ذلك.

    هنا يسأل ربَّه العافية في دينه، وفي دُنياه، وفي آخرته، فسؤال العافية يشمل ذلك جميعًا، العافية لا يعدلها شيءٌ؛ ولهذا قال النبيُّ ﷺ: لا ينبغي للمؤمن أن يُذلَّ نفسَه، فلمَّا سُئِلَ عن هذا قال: يتعرَّض من البلاء لما لا يُطيق[6]، يعني: من الناس مَن يعمل أعمالاً، ثم لا يستطيع أن يصبر ويتحمّل تبعات هذه الأعمال، ولو كانت صالحةً؛ فينكسر، فهذا ينبغي له ألا يُقبل إلا على ما كان مُطيقًا له.

    وارزقني يدخل فيه الرزق: الهداية رزق، الرزق الذي يكون للقلوب، قوت القلوب، ويدخل فيه العلم، فهو رزقٌ من الله؛ ولذلك فإنَّ الإنسان قد يعكف زمانًا طويلاً على العلم، ولكنَّه لا يخرج بكبير طائلٍ، وهذا أمرٌ مُشاهَدٌ، فهذا العلم رزقٌ من الله، وله أسبابه الحسيَّة والمعنوية.

    ثم أيضًا يدخل في ذلك الرزق بالمال، وما يُوهَب العبد من العطاء الدّنيوي مما يستغني به عن الناس، فالله هو الرَّزاق، فيتوجّه إليه بذلك، يملك خزائن السَّماوات والأرض، فيقول: يا ربّ، ارزقني رزقًا حسنًا. ويدخل في ذلك الرِّزق الأُخروي، كلّ ذلك داخلٌ فيه، وهذا من أجمع الأدعية.

    ولو أنَّ العبد يستحضر هذه المعاني وهو يقولها في صلاته؛ فإنَّ ذلك سيكون بالغ الأثر، مُستوجبًا للخشوع وحضور القلب.

    وما جاء في الرِّواية الأخرى حينما يقول: واجبرني[7]، هذا جاء في بعض روايات الحديث؛ كما عند الترمذي والبيهقي، وعرفنا ما معنى الجبر: جبر الكسير، جبر الضَّعيف، اجبر ضعفي، اجبر قلبي، فإذا جبر اللهُ  عبدًا فإنَّ ضعفَه يتحوّل إلى قوةٍ، وحزنَه يتحوّل إلى أنسٍ، وراحةٍ، وسرورٍ، وسعادةٍ، وتكون أحوالُه إلى سدادٍ وكمالٍ.

    فالله -تبارك وتعالى- هو الذي يجبر أصحابَ القلوب المنكسرة، ويجبر الفقير فيُغنيه، ويُوليه، ويُعطيه.

    وفي زيادةٍ عند ابن ماجه والحاكم: وارفعني[8]، يعني: في الدَّارين، وليس المقصودُ بالرِّفعة: العلوَّ في الأرض، وإنما يرفعه بالإيمان والعمل الصَّالح، فلا يكون مهينًا، وإنما العزَّة لله، ولرسوله، وللمؤمنين، فالمؤمن لا يكون ذليلاً مهينًا، فهذا كلّه مما يُقال بين السَّجدتين.

    هذا الذكر كما سمعتُم جاء في لفظٍ: أنَّ النبي ﷺ- كان يقوله في صلاة الليل، طيب، لو قاله في الفريضة؛ فيصحّ، وقد قال الإمامُ الشَّافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه بأنَّ هذا يُقال في المكتوبة، وفي التَّطوع[9].

    على كل حالٍ، ولو أنَّ المصلي قال ذلك في صلاة الليل، وقال غيرَه مما صحَّ مما يُقال في الفريضة؛ فيكون ذلك أتبع للسُّنة، والله تعالى أعلم.

    هذا ما يتعلَّق بهذا الحديث، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعني وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين، والله أعلم.

    وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

    ####################################################

    دعاء سجود التلاوة

    " سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره... " اللهم اكتب لي بها عندك أجرا وضع عني بها وزرا... "






    الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

    أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

    في هذه الليلة نشرع في الكلام على سجود التِّلاوة، وقد أورد المؤلفُ حديثَ عائشة -رضي الله تعالى عنها-، قالت: كان رسولُ الله ﷺ يقول في سجود القرآن: سجد وجهي للذي خلقَه، وشقَّ سمعه وبصره بحوله وقُوَّته[1].

    وفي لفظٍ: كان رسولُ الله ﷺ يقول في سجود القرآن بالليل. يعني: في صلاة الليل: سجد وجهي للذي خلقَه، وشقَّ سمعه وبصره بحوله وقوَّته، فتبارك الله أحسن الخالقين[2].

    هذا الحديث أخرجه أبو داود، والترمذي، والنَّسائي، وقال عنه الترمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ. وصححه الحاكم، وقال: على شرط الشَّيخين. ووافقه الذَّهبي، وقد صحَّحه أو حسَّنه الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله-.

    فقوله في هذا الحديث: سجد وجهي للذي خلقَه، وشقَّ سمعَه وبصره، قوله: سجد وجهي يُحمل على الوجه، لا على الذات، وذلك أنَّه قال: وشقَّ سمعَه وبصرَه، فهذا كلّه مما يتَّصل بالوجه، يعني: شقَّ سمعَه وبصره فتحهما، وأعطاهما الإدراك بحوله وقوَّته -تبارك وتعالى-، يعني: هو الذي صرفهما هذا التَّصريف، ودبَّرهما هذا التَّدبير، فإنَّه لا تحول من حالٍ إلى حالٍ إلا بعون الله -تبارك وتعالى- وقوّته، وإرادته، وتدبيره: بحوله وقوَّته، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي يخلق ذلك، ويصرفه، ويُوجِده، ولا يستطيعه أحدٌ سواه: شقَّ سمعَه وبصرَه بحوله وقُوَّته.

    وفي الرِّواية الأخرى بزيادة: فتبارك الله أحسن الخالقين، وقد مضى الكلامُ على مثل هذا، وقلنا: "أحسن الخالقين" فسَّره بعضُ أهل العلم: بالمقدِّرين. قلنا: إنَّ الخلقَ يأتي لمعانٍ منها التَّقدير، وكذلك التَّصوير، فهو أحسن الخالقين، أحسن المقدِّرين، والمصورين، يبقى المعنى الثالث: وهو الإيجاد من العدم، هذا يختصُّ بالله -تبارك وتعالى-، ولا يُضاف إلى المخلوقين؛ لهذا قال: أحسن الخالقين، فالذي يكون من المخلوقين مما يُضاف إليهم مما يكون من قبيل الخلق إنما هو التَّشكيل والتَّصوير، أو التَّقدير: وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا [العنكبوت:17].

    وكذلك فيما ذكره  من خبر عيسى  وما أعطاه من الآيات والمعجزات، حيث أخبر أنَّه يخلق من الطِّين كهيئة الطَّير، فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله -تبارك وتعالى-، فهنا يُشكل من الطِّين على هيئة الطَّير، ويُصوّره.

    وذكرنا أنَّ شيخَ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أعدَّ ذلك من جملة أسماء الله الحسنى، مثل: أرحم الرَّاحمين، الأسماء المضافة: ربّ العالمين، مالك يوم الدِّين، وما أشبه ذلك[3].

    وفي الحديث الآخر مما أورده المؤلفُ في سجود التِّلاوة: ما جاء عن ابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما- قال: جاء رجلٌ إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، إني رأيتُ الليلة وأنا نائمٌ كأني أُصلي خلف شجرةٍ، فسجدتُ؛ فسجدتْ الشجرةُ لسجودي، فسمعتُها وهي تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجرًا، وضع عني بها وزرًا، واجعلها لي عندك ذُخرًا، وتقبَّلها مني كما تقبَّلتها من عبدك داود[4].

    وفي روايةٍ: قال ابنُ عباسٍ -رضي الله عنهما-: فقرأ النبيُّ ﷺ سجدةً، ثم سجد، فقال ابنُ عباسٍ: فسمعتُه وهو يقول مثلما أخبره الرجلُ عن قول الشَّجرة[5].

    وفي لفظٍ عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- قال: كنتُ عند النبي ﷺ، فأتاه رجلٌ فقال: إني رأيتُ البارحةَ فيما يرى النَّائم كأني أُصلي إلى أصل شجرةٍ، فقرأتُ السَّجدة، فسجدتُ؛ فسجدتْ الشَّجرةُ لسجودي، فسمعتُها تقول: اللهم احطط عني بها وزرًا، واكتب لي بها أجرًا، واجعلها لي عندك ذخرًا. يقول ابنُ عباسٍ -رضي الله عنهما-: فرأيتُ النبيَّ ﷺ قرأ السَّجدة، فسجد، فسمعتُه يقول في سجوده مثل الذي أخبره الرجلُ عن قول الشَّجرة[6].

    ومثل هذا النبيُّ ﷺ أقرَّه، وقاله، فهو من السُّنة، وإلا فالأصل أنَّ الرُّؤى لا يُبنى عليها حكمٌ.

    هذا الحديث -حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما- أخرجه الترمذي، وقال: حديثٌ غريبٌ من حديث ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وصحَّحه الحاكم، ووافقه الذَّهبي، وحسَّن إسنادَه الإمامُ النَّووي، قبله صحَّحه ابنُ حبان، وحسَّنه الشيخ ناصر الدين الألباني -رحم الله الجميع-.

    هذا الرجل الذي جاء إلى النبي ﷺ، ورأى هذه الرُّؤيا، ذكر جمعٌ من أهل العلم أنَّه أبو سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه-، وأنَّ ذلك جاء مُصرَّحًا به في بعض الأحاديث أو الرِّوايات، يقول: "يا رسول الله، رأيتُني الليلة". يعني: التي مضت، فإنَّ الليلةَ التي تسبق يومك يُقال لها ذلك، تقول: رأيتُ الليلة، يعني: الفائتة.

    "وأنا نائمٌ كأني أُصلي خلف شجرةٍ، فسجدتُ؛ فسجدتْ الشَّجرةُ لسجودي، فسمعتُها تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجرًا"، اكتب لي بهذه السَّجدة عندك أجرًا، وضع عني بها وزرًا يعني: الذَّنب، واجعلها لي عندك ذخرًا، الذُّخر: ما يذخره الإنسانُ من مالٍ، أو كنزٍ، أو غير ذلك. وبعضهم قال: ذخرًا يعني: أجرًا؛ فيكون تكرارًا، قالوا: لأنَّ مقام الدعاء يُناسب الإطناب. وبعضهم قال: الأول لما سأل أن يكتب له بها الأجر. قالوا: هذا طلب كتابة الأجر، وهنا الذّخر طلب بقاء ذلك سالـمًا يجده في آخرته، دون أن يعرض له ما يُحبطه ويُبطله، فيكون ذُخْرًا عند الله -تبارك وتعالى-، والذُّخر يدل على إحراز الشَّيء وحفظه.

    وتقبَّلها مني كما تقبَّلتَها من عبدك داود هذا قد يُفهم منه أنَّ هذه السَّجدة كانت السجدة التي في سورة (ص)؛ لأنَّ داود  سجد شُكرًا لله، فسجد النبيُّ ﷺ اقتداءً به، وذلك أنَّ الله -تبارك وتعالى- لما ذكر الأنبياء في سورة الأنعام قال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ} إلى أن قال: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:84- 90]، لكنَّها ليست من عزائم السُّجود.

    يقول ابنُ عباسٍ -رضي الله عنهما-: فقرأ النبيُّ ﷺ سجدةً، ثم سجد.

    يقول الحافظُ ابن حجر -رحمه الله-: يحتمل أنَّه قصدها ليُبين مشروعية ما سمعه ممن أخبره عن هذه الرُّؤيا، فيُبين ذلك بفعله ﷺ، أو أنَّ ذلك وقع اتِّفاقًا[7].

    يقول: سجد فسمعتُه وهو يقول مثلما أخبره الرجلُ عن قول الشَّجرة.

    فهذا كلّه مما يُقال في سجود التِّلاوة، فلو أنَّ ذلك قيل في الصَّلاة، أو في خارج الصَّلاة؛ فإنَّ هذا كلّه من السُّنة، ولا إشكالَ في ذلك، سواء قال ما جاء في الحديث الأول: حديث عائشة -رضي الله عنها-: سجد وجهي للذي خلقه، وشقَّ سمعه وبصره بحوله وقُوَّته[8]، فهذا مُختصرٌ، وهكذا لو جاء بالزِّيادة في الرِّواية الأخرى: فتبارك الله أحسن الخالقين، أو جاء بما في حديث ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-، كلّ ذلك صحيحٌ، إن شاء الله.

    هذا، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعني وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين، والله أعلم.

    ما زلنا أحبابي ابقو معنا جزاكم الله خيرا

    ولا تنسونا من صالح دعائكم

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5188
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    (4) أدعيه السجود.. دعاء السجود " سبحان ربي الأعلى "  Empty التشهد

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس مايو 05, 2022 3:04 pm

    التشهد

    " التحيات لله والصلوات "





    أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

    في هذه الليلة -أيّها الأحبّة- نتحدَّث عن شرح ما جاء في التَّشهد مما يُقال من الذِّكر والتَّحيات.

    من ذلك ما جاء عن ابن مسعودٍ  قال: كنا إذا كنا مع النبي ﷺ في الصَّلاة قلنا: السَّلام على الله من عباده، السَّلام على فلان وفلان. فقال النبي ﷺ: لا تقولوا: السَّلام على الله، فإنَّ الله هو السَّلام، ولكن قولوا: التَّحيات لله، والصَّلوات والطَّيبات، السلام عليك أيُّها النبي ورحمة الله وبركاته، السَّلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين، فإنَّكم إذا قلتُم أصاب كلّ عبدٍ في السَّماء، أو بين السَّماء والأرض، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، ثم يتخير من الدُّعاء أعجبه إليه، فيدعو[1].

    وفي لفظٍ: كنا إذا صلينا خلف النبي ﷺ قلنا: السَّلام على جبريل وميكائيل، السَّلام على فلان وفلان. فالتفت إلينا رسولُ الله ﷺ فقال: إنَّ الله هو السَّلام، فإذا صلَّى أحدُكم فليقل: التَّحيات لله، والصَّلوات والطَّيبات، السَّلام عليك أيُّها النبي ورحمة الله وبركاته، السَّلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين، فإنَّكم إذا قلتُموها أصابت كلّ عبدٍ لله صالحٍ في السَّماء والأرض، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله[2].

    فهذه إحدى الصِّيغ الواردة المشهورة في التَّشهد: حديث ابن مسعودٍ ، وهو مُخرَّجٌ في "الصَّحيحين"، والصِّيغ الواردة في التَّشهدات مُتعددة كما هو معروفٌ، فما ثبت عن رسول الله ﷺ منها فإنَّه للمُسلم والمصلِّي أن يتخيَّر منه، يمكن أن يأتي بهذا، أو بهذا، أو بهذا.

    كانوا قبل أن يُعلِّمهم النبيُّ ﷺ ذلك يقولون: السَّلام على الله من عباده. وهذا يمكن أن يستدلّ به مَن يقول بأنَّ الأذكار الواردة في الصَّلاة لا يجب التزام ما ورد فيها؛ لأنَّهم كانوا يقولون ذلك من عند أنفسهم.

    لكن يمكن أن يُجاب عن هذا: أنَّ ذلك قبل أن يُعلِّمهم النبيُّ ﷺ التَّشهد.

    ويمكن أن يُجاب عن هذا على قول الجمهور.

    على كل حالٍ، يقول: كنا إذا كنا مع النبي ﷺ في الصَّلاة قلنا: السَّلام على الله من عباده. "السَّلام" هذا اسمٌ من أسماء الله -تبارك وتعالى-، وكذلك أيضًا هو مُتضمّنٌ للدُّعاء بالسَّلامة؛ يعني: هذا وجهٌ في تفسيره يجمع بين القولين المشهورين.

    حينما نقول: "السَّلام عليكم"، هل نحن نقول: إنَّ اسمَ الله: السَّلام عليكم، أو أن ندعو لك بالسَّلامة؟ هذا الاسم يتضمّن هذا المعنى: السَّلامة.

    فهؤلاء يقولون: السَّلام على الله، والله هو السَّلام، ولا تطلب له السَّلامة؛ لأنَّه سالـمٌ من كل عيبٍ ونقصٍ، وهو الذي يسلم عباده من الآفات، إنما الذي يحتاج إلى طلب السَّلامة والدُّعاء له بالسَّلامة هو العبد الضَّعيف.

    فكانوا يقولون: السَّلام على الله. كأنَّهم يطلبون له السَّلامة من الشُّرور والآفات، وإنما يُطلب ذلك منه، لا له، فهو الغني الكامل الغنى، المنَزَّه عن كلِّ عيبٍ ونقصٍ، وهو الذي يمنح السَّلامة ويُعطيها، فكيف تُطلب له وهو السَّلام؟! فكيف يُقال: السَّلام على الله، ومنه السَّلام؟!

    اللهم أنت السَّلام، ومنك السَّلام[3] فهو الذي يسلم عباده، وهو الذي يسلم عليهم: سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58].

    فهنا سمعهم النبيُّ ﷺ يقولون هذا، ويقولون: السَّلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان، يُسلِّمون على هؤلاء الملائكة، ويُسلِّمون على غيرهم، والأنبياء والرسل -عليهم الصَّلاة والسَّلام-.

    فهنا كانوا يقولون ذلك عِوَضًا عن التَّحيات، فلمَّا انصرف النبيُّ ﷺ من صلاته أقبل عليهم بوجهه، والإمام إذا انصرف من الصَّلاة أقبل على المأمومين بوجهه، كما كان يفعل النبيُّ ﷺ، فقال: لا تقولوا: السلام على الله. والسَّبب في ذلك هو ما ذكرتُ؛ إذا كان هو السَّلام، فكيف يُقال: السلام على الله؟! وإذا كان هو السَّالم من كل عيبٍ ونقصٍ، فكيف تُطلب له السَّلامة، ويدعو له بها، وهو المدعو  في كل الحالات، والعباد هم الفُقراء المحتاجون إلى تسليمه -تبارك وتعالى-، وإنما السَّالم منهم مَن سلَّمه الله ؟!

    فقال لهم النبيُّ ﷺ: فإذا جلس أحدُكم في الصَّلاة فليقل[4]، هذا أمرٌ، والأمر يقتضي الوجوب، فهذا يدل على أن التَّشهد واجبٌ.

    التَّحيات لله التَّحيات جمع تحيَّةٍ، يقولون: من حيَّا فلانًا؛ إذا دعا له عند مُلاقاته، وهم يقولون عادةً: حيَّاك الله؛ أي: أبقاك الله، فهو دعاءٌ له بالحياة، دعاءٌ له بطول البقاء، بطول الحياة، ثم صارت التَّحيةُ تُقال لما يُقال عند اللِّقاء بإطلاقٍ، كقولهم: كيف أصبحتَ؟ كيف أمسيتَ؟

    وأشرف ذلك وأكمله ما شرعه لنا ربُّنا -تبارك وتعالى- أن نقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فهذه تحية الإسلام، وهي تحية أهل الجنَّة، وهي تحية الربِّ -تبارك وتعالى- لعباده، فما يُقال في أول اللِّقاء يُقال له: تحيَّة، وإن كان أصل ذلك فيما ذكره بعضُ أهل العلم أنَّهم كانوا يقولون: حيَّاك الله، وما إلى ذلك من العبارات: حيَّاك وبَيَّاك، والدُّعاء بالحياة وطول الحياة لا يكون في مصلحة الإنسان في كل الأحوال، وإنما إذا كان ذلك على حالٍ صالحةٍ، وعلى حياةٍ لها معنًى، وإلا فهذه الحياة إن خلت من ذلك فلا قيمةَ لها، كما في قول بعضهم فيما ذكرتُه سابقًا

    ألا موتٌ يُباع فأشتريه
    فهذا العيش مما لا خيرَ فيه
    فلا رحم المهيمن رأسَ حُرٍّ تصدَّق بالوفاة على أخيه[5]

    هذا يتمنى الموت.

    وقول الآخر:
    المرء يرغب فِي الحياة وطول عيشٍ قد يضرّه
    تفنى بشاشتُه ويبقى بعد حلو العيش مرّه
    وتسوؤه الأيام حتى ما يرى شيئًا يسرّه[6]

    إذًا أصل التَّحية من هذا: دعاءٌ بالبقاء والحياة، حيَّا، يُحيي، تحيَّة؛ ولهذا فسَّرها بعضُ أهل العلم بالبقاء الدَّائم لله -تبارك وتعالى-: "التَّحيات لله"، البقاء الدَّائم لله وحده، وليس ذلك لأحدٍ سواه، وهذا يرجع إلى أنَّ أصلَ معنى "التَّحيات"، و"التَّحية" أنَّ أصلَ ذلك من قولهم: حيَّاك الله، الدُّعاء بالحياة، أنَّ ذلك مأخوذٌ من هذا، ومن هنا ذهب الأزهري صاحب "تهذيب اللغة" إلى تفسيره بهذا: البقاء الدَّائم[7].

    والتَّحية والحياة أصلهما واحدٌ في اللُّغة بالاتِّفاق، باتِّفاق أهل العلم من أهل اللغة وغيرهم، وفسّرت بهذا: بالبقاء الدَّائم، وبعضهم كأنَّه نظر إلى أنَّ ذلك كان يُقال -أعني: التَّحايا- بين يدي الملوك، ومن هنا قال جمعٌ من أهل العلم بأنَّ معنى ذلك "التَّحيات لله": الملك لله، وهذا هو المشهور في تفسير التَّحيات، وعليه حمل بعضُهم قولَ الشَّاعر:
    من كلِّ ما نال الفتى قد نلتُه إلا التَّحية[8]

    يعني: كلّ ما يمكن أن يُنال قد نلته، إلا التَّحية، يعني: الملك لم أنله، هذا على تفسيره بالملك، كما يقول أبو علي الفارسي، مع أنَّ بعضَهم حمل ذلك: إلا التَّحية؛ يعني: إلا البقاء الدَّائم، المستمرّ، الذي لا فوتَ ولا موتَ بعده، يقول: كلّ اللَّذات والمطالب حصلتها إلا التَّحية؛ يعني: البقاء، فيكون من الأول.

    وبعض أهل العلم فسَّر التَّحية بالتَّعظيم، وكأنَّ هؤلاء نظروا إلى أنَّ ذلك يُقال مُرادًا به التَّعظيم؛ ولهذا قال هؤلاء بأنَّ التَّحية هي العظمة، وأنَّ التَّحية هي التَّعظيم، فكل لفظٍ يدل على التَّعظيم فهو تحيَّة، الألفاظ التي يُقصد بها التَّعظيم والتَّكريم، وما إلى ذلك، وبهذا فسَّره بعضُ أهل العلم، ومن المعاصرين ممن فسَّره بهذا الشيخ محمد الصَّالح العثيمين -رحمه الله-: أنَّ ما يُقال للتَّعظيم[9].

    ومن أهل العلم -وهذا هو الرابع- مَن قال: المراد بالتَّحية، "التَّحيات" جمع تحيةٍ، والمراد بها السَّلامة من الآفات، وجميع العيوب والنَّقائص، التَّحيات لله، فهو تنزيهٌ له من الآفات والعيوب والنَّقائص، وهذا قال به خالد بن يزيد[10].

    وبعضهم -وهو الخامس- قالوا: التَّحيات هي العبادات القولية لله -تبارك وتعالى-؛ لأنَّ التَّحية هي قولٌ يُقال. فحملوها على العبادات القولية، وهذا بمعنى قول مَن قال بأنَّ أعزَّ الألفاظ التي تدلّ على الملك والعظمة وكل عبادةٍ قوليَّةٍ فهي لله -تبارك وتعالى-، فهي داخلةٌ في ذلك، حملوها على العبادات القولية.

    وسيأتي أنَّ هؤلاء حملوا الصَّلوات على معنى يُناسِب هذا، وذلك أنَّ بعضَهم يقولون: بأنها العبادات البدنيَّة -وسيأتي ذكره-، والطَّيبات: العبادات المالية؛ يعني: جعلوها على هذه الأقسام الثلاثة: التَّحيات عبادات قوليَّة لله، والصَّلوات عبادات بدنية، والطَّيبات عبادات مالية.

    لكن هذا التَّفصيل وهذا التَّفريق لا دليلَ عليه، فهذا حاصل أقوالهم.

    ومن أهل العلم مَن حاول أن يجمع بعض ذلك في عبارةٍ تنتظم كثيرًا من هذه المعاني، قالوا: التَّحيات يعني: جميع التَّعظيمات لله -تبارك وتعالى- ملكًا، وخلقًا، وتقديرًا، يعني: جميع ما يعظم به -تبارك وتعالى- بالتَّكبير، والتَّبجيل، والتَّسبيح، وكلّ ما فيه وصفٌ له بالرفعة وبالعلو فهو داخلٌ في هذه التَّعظيمات التي يعظم بها، ويحيا بها، فهو داخلٌ في قوله: التَّحيات لله، التَّحيات: كان الناسُ يقولون بين يدي الملوك عبارات، الله أحقُّ بالتَّحيات.

    ولاحظوا هنا أنَّ التَّحيات جاءت بصيغة الجمع: التَّحيات لله، ما وجه الجمع هنا؟

    بعض أهل العلم يقولون: لأنَّه كان في الأرض ملوك يُحيَّون بتحيَّاتٍ مختلفةٍ، فبعضهم يُقال له: أبيت اللعن، وبعضهم يُقال له: أسلم كثيرًا، وبعضهم يُقال له: أنعم صباحًا، وبعضهم يُقال له: عش ألف سنةٍ؛ يعني: يحيا بهذا، فعلَّمنا النبيُّ ﷺ أن نقول: التَّحيات، يعني: الألفاظ التي تدلّ على الملك، والبقاء، والسَّلامة من الآفات، وما يُراد به التَّعظيم، والإجلال، والإكبار، والإكرام، كلّ ذلك يُوجَّه لله -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه-، كما قال بذلك جمعٌ من أهل العلم: كابن قُتيبة[11]، والخطَّابي[12]، وهذا معنًى حسنٌ، فكان الجمعُ لاختلاف أنواعها، الأنواع مختلفة، وأمَّا الأفراد فلا حدَّ لها مما يُقال في حقِّ الله -تبارك وتعالى- من وجوه التَّعظيم، والتَّنزيه، والتَّقديس، والتَّسبيح، والإجلال، وما إلى ذلك.

    وهنا التَّحيات (أل) هذه تكون للجنس؛ جنس التَّحيات التي يُراد بها التَّعظيم والإجلال، وما إلى ذلك، كلّها مُستحقّة لله -تبارك وتعالى-؛ ولهذا كانت اللامُ في قوله: (لله) تُفيد الاستحقاق.

    وبعضهم عبَّر عن ذلك بالاختصاص، وبعضهم ذكرهما معًا، قال: الاستحقاق والاختصاص.

    والفرق بين الاستحقاق، والاختصاص، والملك: أنَّك إذا أضفتَ ذاتًا إلى ذاتٍ من شأنها أن تملك: السَّاعة لزيدٍ؛ فهذا للملك، السيارة لزيدٍ؛ فهذا للملك، فإذا أضفتَ ذاتًا لذاتٍ ليس من شأنها أن تملك: المفتاح للسيارة؛ فهذا للاختصاص، المفتاح للباب؛ فهذا للاختصاص، وإذا أضفتَ معنًى إلى ذاتٍ: الحمد لله؛ فهذا للاستحقاق، الحمد مُستحقٌّ لله. هذا الفرق بين هذه اللامات، أو الفرق بين هذه المعاني الثلاثة للام.

    فهنا: الحمد لله، التَّحيات لله؛ أي: مُستحقّة له -تبارك وتعالى-، فلا يستحقّ التَّحيات على الإطلاق إلا الله، ومن ثم قال بعضُ أهل العلم بأنَّه لا أحد يُحيَّا على الإطلاق إلا الله -تبارك وتعالى-، لكن إذا حيَّا إنسانٌ إنسانًا على سبيل الخصوص، فلا بأسَ في ذلك.

    طيب، إذا قال لغيره: "تحيتي إليك"، فما الحكم؟

    لا بأسَ بهذا، لك مني تحيّة، لكن قد ينظر إلى أنَّ تحيةً هنا مُفرد مُضاف إلى المعرفة: ياء المتكلم، تحيَّتي إليك، وهذا يُفيد العموم، هو بمعنى قول: تحيَّاتي إليك، فهل مثل هذا فيه إشكال؟

    كنتُ أجد حرجًا من هذا، ثم تأمَّلتُه، وراجعتُ فيه كلام أهل العلم: التَّحيات لله؛ أي: مُستحقّة لله -تبارك وتعالى-، لا أحد يستحقّ جميع التَّحيات إلا الله، لكن إذا قال الإنسانُ: تحيَّاتي إليك، تحيَّاتي لك، لا أستطيع أن أجزم أنَّ هذا مما يكون ممنوعًا في الألفاظ، فمثل هذا قد يُقال بأنَّه لا إشكالَ فيه.

    وقد يُنظر إلى كون التَّحيات جميعًا لله ، فيكون ذلك مما يدخله الحرج، في "معجم المناهي اللفظية" تجدون مثل هذه العبارات: تحياتي لفلان.

    الشيخ بكر أبو زيد -رحمه الله- يقول: هنا لأبي طالب محمد بن علي، المنعوت بـ"المهذب"، المتوفى سنة 642، رسالة باسم "شرح لفظ التَّحيات"، جاء فيها ما نصّه: فأمَّا لفظ "التَّحيات" مجموعًا، فلم أسمع في كتابٍ من كتب العربية أنَّه جُمع إلا في جلوس الصَّلوات.

    يقول: إذًا لا يجوز إطلاق ذلك لغير مَن له الخلق والأمر، وهو الله تعالى؛ لأنَّ الملك كلّه بيد الله، وقد نطق بذلك الكتابُ العزيز: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ [آل عمران:26] الآية.

    يقول: والذي سطره أهلُ اللغة إنما يُعبرون عن التَّحية الواحدة، ولم ينتهوا لجمعه دون إفراده. إلى آخر ما قاله[13]، هكذا نقل عنه، ثم ذكر المصدر في الهامش، وأشار إلى أنَّ مثل هذا قد لا يُوافق عليه.

    وفي فتاوى اللجنة الدَّائمة: تقبَّلوا تحيَّاتي، أنَّ هذا لا بأسَ به[14].

    وفي فتاوى الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- مجموعة من الفتاوى يُسأل فيها عن: تحيَّتي إليك، لك تحيَّاتي، تقبَّل تحيَّاتي، وما أشبه ذلك؛ أنَّ هذا لا بأسَ به[15]، مع أنَّه يقول: لا أحدَ يُحيَّا على الإطلاق إلا الله -تبارك وتعالى-، بخلاف ما إذا حيَّا إنسانٌ آخر على سبيل الخصوص، فلا بأسَ بذلك[16].

    فهو يقول: لو قلتَ مثلًا: لك تحيَّاتي، أو لك تحيَّاتنا، أو مع التَّحية، فلا بأسَ به، لكن التَّحيات على سبيل العموم والكمال لا تكون إلا لله .

    التَّحيات، فهنا (أل) هذه تُفيد الاستغراق؛ جميع التَّحيات لله .

    وقد يقول قائلٌ: وهل ربنا -تبارك وتعالى- بحاجةٍ إلى أن نُحييه؟

    أجاب عن هذا الشيخ محمد الصَّالح العثيمين -رحمه الله- بأنَّ ذلك -كما هو معلومٌ- لا يفتقر إليه ربنا ، ولكن هو أهلٌ للتَّعظيم؛ فنُعظِّمه، ونتعبَّد ونتقرَّب بذلك، فذلك مما يفتقر إليه العبدُ، والله  يقول: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7].

    هذا ما يتعلَّق بالتَّحيات[17].

    وقبل أن نتجاوزها: تنتشر رسائل في وسائل الاتِّصال الجديدة، وللأسف يسأل الناسُ عنها كثيرًا، ويُروجونها، ويُرسلونها: هل تعلم أنَّ التَّحيات اسم طائرٍ في الجنة على شجرةٍ يُقال لها: الطَّيبات، بجانب نهرٍ يُقال له: الصَّلوات؟ فإذا قال العبدُ: التَّحيات لله، والصَّلوات الطَّيبات؛ نزل الطائرُ عن تلك الشَّجرة، فغرس في ذلك النَّهر، ونفض ريشه على جانب النهر، فكل قطرةٍ وقعت منه خُلق منها ملكٌ يستغفر لقائلها إلى يوم القيامة.

    هذه تتكرر، ولا أُحصي كم مرة أرسل سائلون يسألون عنها، وتتعجب: كيف تروج على الناس مثل هذه الأكاذيب؟! وكأني بأحد هؤلاء الكذبة من الأفَّاكين يختلق هذا الاختلاق، وينشره على ضعاف العقول، ثم بعد ذلك ينشرونه وينقلونه: هل تعلم؟ وهل تعلم؟

    فهذا كلّه كذبٌ، لا أساسَ له إطلاقًا، ولا يصحّ الالتفات إليه بحالٍ من الأحوال.

    انتهى الوقت، وأكمل -إن شاء الله تعالى- في الليلة الآتية.

    أسأل الله  أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.

    ##############################################

    التشهد

    " ... السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته... "



    الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

    أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

    تحدَّثنا في الليلة الماضية عن قول المصلِّي في التَّشهد: التَّحيات لله..، وفي هذه الليلة نتحدَّث -إن شاء الله- عمَّا بعده من قوله: والصَّلوات والطَّيبات[1].

    الصَّلوات جمع صلاةٍ، والصَّلاة في أصل معناها اللُّغوي: الدُّعاء، فهي كما يقولون: حقيقة لُغوية في الدُّعاء، ومن ثم فإنَّ من أهل العلم مَن فسَّر ذلك بالمعنى اللُّغوي.

    والصَّلوات يعني: الأدعية، فيكون عامًّا في كلِّ الأدعية، والصَّلوات يعني: لله، بمعنى: أنَّه هو الذي يُتوجَّه إليه بالدُّعاء، فيدعوه الدَّاعون، ويسأله السَّائلون، فيتوجَّهون إليه برغبتهم، وحاجتهم، وفقرهم.

    ونحن عرفنا في الكلام على أول هذه المجالس، في المقدِّمات: أنَّ الدعاء يشمل دعاء المسألة، ويشمل الثَّناء، والحمد، والتَّسبيح، والتَّهليل، وما إلى ذلك من ألوان الذكر الذي يُقال باللِّسان، فهذا الثَّناء الحسن على الله -تبارك وتعالى-، هذا الحمد، هذا التَّسبيح داخلٌ فيه بهذا الاعتبار؛ ولهذا فإنَّ من أهل العلم مَن قال: إنَّ الصَّلوات تشمل الأدعية؛ بمعنى السُّؤال: يا ربّ، يتوجّه إليه بالدُّعاء، كما يشمل أيضًا الدّعاء بالنوع الآخر الذي هو الذكر؛ يعني: من تهليلٍ، وتسبيحٍ، وتحميدٍ، وتقديسٍ، فإنَّ الذي يقول ذلك -يعني: يذكر ربَّه- هو داعٍ في حقيقة الأمر؛ وذلك حينما يقول: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"، فهو يسأل الثوابَ على هذا العمل، يسأل الثَّواب، هو يرتجي الأجر، فهو سائلٌ بهذا، هو طالبٌ، فيكون داعيًا حينما يكون ذاكرًا لربِّه؛ لأنَّه إنما ذكر لطلب الأجر، فهذا طالبٌ، وهذا طالبٌ، لكن هذا يطلب مباشرةً: يا ربّ، أعطني. وهذا يقول: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"، يطلب بذلك الثَّواب، فكلّ هذا دعاءٌ بهذا الاعتبار.

    الحاصل: أنَّ من أهل العلم مَن فسَّر الصَّلوات بالعبادات القولية من نوعي الدّعاء، أو الذكر بالسُّؤال، أو الثَّناء والحمد، ومنهم مَن فسَّره بالعبادات البدنيَّة؛ لأنَّهم فسَّروا التَّحيات -هؤلاء- بالعبادات القوليَّة، وفسَّروا الصَّلوات بالعبادات البدنية، وكما ذكرنا أنَّهم فسَّروا الطَّيبات بالعبادات المالية، وقلنا: هذا لا دليلَ عليه.

    أمَّا الفريق الآخر الذين حملوا الصَّلاةَ على الصَّلاة الشَّرعية، هي الصَّلاة المعروفة، وهؤلاء إنما ذهبوا إلى ذلك -والله تعالى أعلم- باعتبار أنَّ ألفاظَ الشَّارع محمولةٌ على المعنى الشَّرعي، وليست بمحمولةٍ على المعنى اللُّغوي إلا لدليلٍ، لقرينةٍ؛ لأنَّ عُرفَ الشَّارع الشَّرعيَّات، فإذا خاطبنا الشَّارعُ بمثل هذا، فجاء بالأمر بالصَّلاة، أو بذكر الصَّلاة، فالمتبادر إلى الذِّهن أنها الصَّلاة المعروفة؛ لأنَّ هذا هو معناها الشَّرعي، ولا حاجةَ لأن نُفسِّرها بالمعنى اللُّغوي؛ لأنَّ هذا إنما يُفسّر به كلام أهل اللُّغة، أمَّا كلام الشَّرع فهو يُقرر الشَّرعيات، وكل مُتكلِّمٍ يُحمل كلامه على معهوده؛ يعني: على عُرفه.

    ومن ثم فإنَّ من أهل العلم مَن قال: إنَّ الصَّلوات "أل" هذه عهديّة، الصَّلوات المعهودة، ما الصَّلوات المعهودة؟ الخمس؛ يعني: أنَّ هذه الصَّلوات لله ، تُوجَّه إليه، يتعبَّد ويتقرَّب بها إليه -سبحانه وتعالى-، هذه الصَّلوات التي نُصلِّيها، الصَّلوات الخمس.

    وبعضهم فسَّر "أل" هذه بأنها للجنس -جنس الصَّلوات- يعني: الصَّلاة التي تُفتتح بالتَّكبير، وتُختتم بالتَّسليم، الصَّلاة الشَّرعية، كلّ هؤلاء فسَّروا الصَّلاة بالمعنى الشَّرعي، لكن فريقًا منهم قال بأنَّها الصَّلاة المعهودة، وهي الصَّلوات الخمس، الصَّلوات هذه التي نُصليها.

    والفريق الآخر قالوا: لا دليلَ على تخصيص الخمس، كل الصَّلوات التي نُصليها من فرضٍ ونفلٍ، كلُّه لله -تبارك وتعالى-، ولا تُصلَّى لغيره، هذا قالت به طائفةٌ.

    الذين حملوها على المعنى الشَّرعي جمعٌ من أهل العلم: كالقرافي[2]، وغيره، والذين جعلوا "أل" عهدية؛ أنها الصَّلوات الخمس أيضًا طائفةٌ، من هؤلاء: ابن المنذر[3]، وبعض الشَّافعية[4]، قالوا: هذه الصَّلوات الخمس لا تُصلَّى لغير الله .

    وبعضهم فسَّر الصَّلوات بالرحمة: التَّحيات لله، والصَّلوات يعني: الرحمة[5]، قالوا: لأنَّ صلاةَ الله -تبارك وتعالى- على عباده بمعنى: الرَّحمة. هكذا فسَّروها، مع أنَّ الأقربَ أنَّ صلاةَ الله على العبد تُفسَّر بذكره في الملإ الأعلى، كما قال الحافظُ ابن القيم -رحمه الله-: أن يذكره في الملإ الأعلى، إذا قلنا: اللهم صلِّ على محمدٍ[6].

    وبعض أهل العلم فسَّره بالرحمة، فهؤلاء الذين فسَّروه بالرحمة قالوا: التَّحيات لله، والصَّلوات بمعنى: الرحمة، هي لله -تبارك وتعالى-، يرحم بها مَن شاء من عباده.

    وذهبت طائفةٌ –كالزهري- إلى حمله على معنى أعمّ من هذا كلِّه، قالوا: والصَّلوات يعني: العبادات بجميع أنواعها: العبادات القولية، والعبادات البدنية، كلّ ذلك يُقال: صلوات.

    وعلى كل حالٍ، لو أنَّ ذلك حُمِلَ على المعنى اللُّغوي والشَّرعي من باب حمل المشترك على معنييه، أو عند القائلين بالمجاز حُمِلَ اللَّفظ على حقيقته ومجازه؛ لكان ذلك له وجهٌ، وهو قريبٌ من النَّظر، وجمعٌ من أهل العلم من الأصوليين -كالشَّافعي وغيره- يُصححون حمل المشترك على معنييه[7]، وعند القائلين بالمجاز أيضًا على حقيقته ومجازه في آنٍ واحدٍ.

    انظروا إلى قوله -تبارك وتعالى-: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الأحزاب:43]، يُصلي عليكم وملائكته؛ يعني: يُصلُّون، لفظٌ واحدٌ: يُصلِّي صلاتَه على عبده، صلاته علينا؛ بمعنى: أن يذكر عبدَه في الملإ الأعلى، صلاة الملائكة الاستغفار: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [الشورى:5]، لفظ "الصَّلاة" جاء واحدًا، واستُعمل في المعنيين، فهذا من باب حمل المشترك على معنييه، وهذا مثالٌ واضحٌ لهذه القاعدة.

    فلو قيل: بأنَّ الصَّلوات تدخل فيها الأدعية، وتشمل أيضًا النَّوع الآخر من الدُّعاء بالذكر، وتشمل أيضًا الصَّلوات من فرضٍ ونفلٍ. فهذا وجيهٌ.

    ولو أنَّ المعنى وسّع باعتبار أنَّ الصَّلوات إذا كانت تُقال للدُّعاء، فالدُّعاء يشمل الدُّعاء بالسؤال، ويشمل الدُّعاء بالذكر، ويشمل الدُّعاء أيضًا بالجوارح، العمل؛ يعني: هذا الإنسان الذي يعمل بجوارحه، يتعبّد بجوارحه، أو يصوم، هو ماذا يريد؟ هو سائلٌ بفعله، هو يطلب ما عند الله، هو يطلب الأجر، فهذا لا إشكالَ فيه -إن شاء الله تعالى-، لكن هناك معانٍ قريبة، وهناك معانٍ تدخل فيه بنوعٍ من أنواع الدّلالة الصَّحيحة: كاللزوم، أو التَّضمن، هذا ما يتعلَّق بهذه الصَّلوات.

    الشيخ محمد الصالح العثيمين -رحمه الله- فسَّر ذلك بمعنًى شاملٍ لكلِّ ما يُطلق عليه صلاة شرعًا، أو لغةً، قال: فالصَّلوات كلّها حقًّا واستحقاقًا، لا أحدَ يستحقُّها، وليست حقًّا لأحدٍ سوى الله ، والدُّعاء أيضًا حقٌّ بالمعنى اللُّغوي، كما قال الله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ[8] [غافر:60].

    فلاحظ هنا ادْعُونِي فُسِّر: اسألوني، وفُسِّر أيضًا: اعبدوني؛ لأنَّه قال بعده: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي، فالدُّعاء يأتي بمعنى: العبادة، وكلا المعنيين صحيحٌ في الآية كما ذكرناه في مناسباتٍ شتَّى في غير هذه المجالس في التَّفسير، وفي غيره، فكلّ الصَّلوات: فرضها ونفلها، وكلّ الأدعية لله ، باعتبار أنَّ الصلاة تُقال في هذا وهذا، وهذا الكلام قريبٌ -والله تعالى أعلم-.

    بعد ذلك يأتي: الطَّيبات، والصَّلوات، والطَّيبات يعني: لله ، ما معنى "الطَّيبات"؟ فُسِّرت "الطَّيبات" هذه التي نقولها في التَّشهد بالكلمات الطَّيبات، ما الكلمات الطَّيبات؟ هي ذكر الله وما والاه، ذكر الله، جميع أنواع الذكر، والله  يقول: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10]، أفضل الكلم الطَّيب، وأعلى الكلم الطَّيب، وأجلّ الكلم الطَّيب: "لا إله إلا الله"، وقد أخبر النبيُّ ﷺ عن أفضل الكلام، الكلمات الأربع، وهي هذه الكلمة: كلمة التوحيد، بالإضافة إلى سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، وفُسِّر بذلك أيضًا الباقيات الصَّالحات: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ [الكهف:46].

    فهذا فُسِّر به الكلمات الطَّيبات، وعلى هذا أكثر أهل العلم: التَّحيات لله، والصَّلوات، والطَّيبات يعني: الكلمات الطَّيبات، الطَّيبات من الكلام مصروفات إلى الله -تبارك وتعالى-؛ ولهذا قال الليثُ: أحسن الكلام وأفضله لله[9]. يعني: الذي يُحْمَد ويُثْنَى عليه، ويُقال في حقِّه ما يليق بجلاله وعظمته، فهو المنعِم المتفضِّل: وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53].

    كنا نتكلم في يوم السبت الماضي في أسماء الله الحسنى عن اسمه: الكريم، وذكرنا أشياء مما يدخل في كرمه، وفضله، وإحسانه، وبرِّه، وجوده، واليوم كنتُ أحاول أن أُحصي مجموعةً من الأسماء الحسنى التي تتَّصل بالعطاء والكرم، قلتُ: لعلَّ ذلك يكون في مجلسٍ واحدٍ -إن شاء الله-، فاجتمعت أسماء كثيرة، أكثر من خمس عشرة اسمًا تدلّ على العطاء والإحسان والبذل للعباد، فبذله -تبارك وتعالى- وإحسانه وعطاؤه مُتجدد، مُتنوع، لا يُحصيه المحصون، ولا يعدّه العادُّون.

    وبعض أهل العلم قال: الطَّيبات -كما ذكرنا سابقًا- هي العبادات المالية. هؤلاء هم الذين فسَّروا التَّحيات والصَّلوات بما سبق.

    وبعضهم قال: الطَّيبات هي الأعمال الصَّالحة؛ لأنَّها تطيب العباد: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ [النور:26]، مع أنَّ الطَّيبات هنا لا تختصّ بالأعمال الصَّالحة، فيدخل في ذلك النِّساء: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ من النَّاس؛ لأنَّ السياقَ في هذا؛ في عائشةَ -رضي الله عنها- وقصّة الإفك، فالنِّساء الطَّيبات الأوصاف، الطَّيبات للطّيبين من الناس، الكلمات الطَّيبات.

    وهذا قول أكثر المفسّرين، ومنهم أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله-[10]: الطَّيبات من الكلام للطّيبين من الناس، إن قالوها وصدرت عنهم فهم مظنّتها، وإن قِيلت فيهم فهم أهلها، بخلاف -نسأل الله العافية-: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ [النور:26]، الخبيثات من النِّساء من الأوصاف، من الأفعال، من الأقوال، فهؤلاء إذا صدرت عنهم فهم مظنّتها، وهم أهلها، ما ينتظر منه إلا أسوأ القول، وأسوأ الفعل، هم معدن لهذا -نسأل الله العافية-، إذا تكلّم ماذا تتوقع منه؟ وإذا كتب ماذا تتوقع منه؟ ويدخل في ذلك أيضًا كون هؤلاء إذا قِيلت فيهم ضرّتهم، وهم حقيقيون بذلك.

    فعلى كل حالٍ، "الطَّيبات" عامَّة أهل العلم فسَّروها بذكر الله : الطَّيبات من الكلام، كلّ ذلك يتوجّه به إلى الله -تبارك وتعالى-، ويُقال فيه.

    الشيخ محمد الصَّالح العثيمين -رحمه الله- هنا فسَّرها بتفسيرٍ شاملٍ أيضًا، قال: "الطَّيبات" لها معنيان: المعنى الأول: ما يتعلّق بالله. والثاني: ما يتعلّق بأفعال العباد[11]، الذي يتعلّق بالله قصد بذلك الأوصاف التي يُوصَف بها، "الطَّيبات" يعني: من الأوصاف والأفعال، فله من ذلك أطيبه، وله من الأقوال أطيبها.

    والنبي ﷺ يقول: إنَّ الله طيِّبٌ لا يقبل إلا طيِّبًا[12]، فالله طيِّبٌ في ذاته، طيِّبٌ في أفعاله، طيِّبٌ في صفاته، وهو لا يكون منه إلا الطَّيب، فأفعاله كلّها خير، وأوصافه كلّها طيبة.

    وأمَّا أفعال العباد التي تصدر عنهم، من أعمالٍ وأقوالٍ، له منها الطَّيب، فلا يليق به إلا ذلك؛ ولهذا قال: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، الصَّالح هنا طيِّبٌ أيضًا: يَرْفَعُهُ، قيل: الضَّمير يرجع إلى الله؛ أي: أنَّ الله يرفع العمل الصَّالح؛ لأنَّه لا يرتفع إليه إلا العمل الصَّالح، وبعضُهم يقول: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ، الهاء، هاء الضَّمير يرجع إلى الكلم الطَّيب، العمل الصَّالح يرفع الكلم الطَّيب؛ لأنَّه لا ينفع كلامٌ بلا عملٍ.

    وبعضهم يقول: الكلم الطَّيب يرفع العمل الصَّالح؛ يعني: أنَّ الضَّمير يرجع إلى العمل الصَّالح، الكلم الطَّيب: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ الكلم الطَّيب؛ لأنَّه لا يرتفع عملٌ بغير "لا إله إلا الله" بهذا الاعتبار، وهذه المعاني كلّها صحيحة، والقرآن يُعبّر به بالألفاظ القليلة الدَّالة على المعاني الكثيرة.

    فهنا يكون ما يتعلّق بأفعال العباد وأقوالهم، وما يصدر عنهم من: ذكرٍ، وتهليلٍ، وتسبيحٍ، وما إلى ذلك، ومن أعمالٍ في تعبُّداتهم، وكذلك الصَّدقات والزَّكوات، فإنَّ الله طيِّبٌ لا يقبل إلا طيِّبًا، فيقبل: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103]، إلى أن قال بعده في الآية التي بعدها: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ [التوبة:104]، فكل ذلك يرتفع إليه، ويتوجّه به إليه.

    مقابل الطَّيب: الخبائث، وهناك شيءٌ ليس بطيبٍ، وليس بخبيثٍ، الله -تبارك وتعالى- له المثل الأعلى، ولا يمكن أن يكون شيءٌ من صفاته وأفعاله إلا على وجه الكمال والطّيب، أمَّا ما يصدر من العباد فمنه، ومنه، كلّ ذلك يتأتَّى منه.

    هذا ما يتعلّق بقولنا في التَّشهد: والصَّلوات، والطَّيبات، هل نحن نستحضر هذه المعاني كلّها حينما نقول: التَّحيات لله، والصَّلوات، والطَّيبات؟

    لو كنا نستحضر هذه المعاني، ونقول كلّ ما صدر عنا من هذه الأشياء؛ لأوجب ذلك إحضار النية في كل شيءٍ، الإخلاص لله  وتصحيح العبادة، وأن يأتي الإنسانُ بهذه الصَّلاة على الوجه المطلوب؛ لأنَّ الله طيِّبٌ لا يقبل إلا طيبًا، فلا ينقرها ويأتي بها بحالٍ مُشوَّهة، والمعازف تضرب في جيبه بهذه الهواتف النَّقالة، وهو يُصلي ويُناجي ربَّه، ويقول: التَّحيات لله، والصَّلوات، والطَّيبات، وهذا يشهد عليه بأصواتٍ مُنكرةٍ يسمعها أهلُ المسجد، وهم في حال الصَّلاة، يُناجي ربَّه، ثم يُواجهه بهذه القبائح.

    فهذا الذي يجعلنا -أيّها الأحبّة- لا ننتفع كثيرًا بصلاتنا، فلم تعد تنهانا عن كثيرٍ من الفحشاء والمنكر، والسَّبب أننا نُؤدّيها أداءً صوريًّا يخلو من الروح، والاستحضار، والعقل لما تضمّنته من هذه المعاني الكبار.

    أنا أستبعد الأشياء البعيدة، والأقوال الشَّاذة، والكلام الذي لربما لا حاجةَ إليه، لكني أحرص أن آتي بأشياء مُفيدة لطالب العلم ولغيره، فمَن لم يفقه بعضَها فإنَّه يُدرك أنَّ تحت هذه الأقوال والأعمال أشياء قد لا يستوعب جُملًا منها، لكنَّها أشياء عظيمة جدًّا؛ أن تحت هذه الألفاظ الشَّرعية هدايات كبيرة، ومعانٍ كبيرة قد غفل عنها.

    أنا أريد أن تصل هذه الرِّسالة، ولو لم يفهم بعضُنا بعضَ ما يُقال في شرح هذه الأذكار مما يكون زائدًا عن الحدِّ الذي يحتاج إليه عامَّةُ الناس، فينتفع به طالب العلم؛ ليُدرك هذا المعنى، هنا هدايات كبيرة.

    إذًا علينا أن نحضر القلب، علينا أن نُصحح هذه العبادات، ونسأل الله  أن تكون هذه المجالس سببًا لصلاح الأحوال، لصلاح القلوب والأعمال، وتصلح هذه الصَّلوات، وتكون كافَّةً لنا، ناهيةً عن الفحشاء والمنكر، وأن تكون قُرَّةَ عينٍ لنا، والنبي ﷺ جُعِلَتْ قُرَّةُ عينه في الصَّلاة، فمتى نصل إلى هذه الحال؟

    حينما نرى أننا لربما نستثقل هذه الصَّلاة، ونتحرى أن نأتي هذه الصَّلاة بعدما تُقام، ونحاول أن نُوقِّت هذا؛ ألا نأتي إلى المسجد إلا بعدما تُقام الصلاة، ولربما فاتتنا في اليوم والليلة ركعات، أو صلوات، وفي الليلة الماضية الناس يسألون، وأئمّة المساجد يسألون؛ لأنَّهم سيتوقعون إحراجات من الناس عن الجمع في الغبار.

    فكنتُ أقول لهم: هؤلاء لم يكفهم الغبار عن الانطلاق في مصالحهم وشؤونهم، نحن حينما نسير في ناحيةٍ، أو في أخرى؛ نجد المحلات مفتوحة، والأسواق مفتوحة، والمكاتب العقارية وغير العقارية، كلّ ذلك مفتوحٌ، ولم يتوقف أحدٌ، فهذا الذي يُعاني من ربوٍ أو نحو ذلك -نسأل الله أن يُعافي كلَّ مسلمٍ- يُصلي في بيته، وله رخصة، لكن بقية الناس ما بقوا في بيوتهم؛ لأنَّهم تؤذّوا بسبب الغبار، فلِمَاذا وقفت على الصَّلاة؟!

    والنبي ﷺ ما نُقِلَ عنه قطّ أنَّه جمع في غبارٍ، الغبار موجودٌ في زمن النبي ﷺ، لكن القضية استثقال، اختصرها، هانت لأدنى سببٍ، وهذا غير صحيحٍ، وهذا يعني: أنها لم تعد قُرَّة عينٍ.

    مَن صارت له الصَّلاةُ قُرَّة عينٍ إذا جاء وقتُها هو مُشتاقٌ، ينتظرها، هو إليها بالأشواق، أمَّا الآخر إذا جاء وقتُ الصَّلاة وقد صلَّاها جمع تقديمٍ، وهو يشعر أنَّه في استرواحٍ، هنا لا يوجد الآن صلاة، يرجع إلى بيته مسرورًا، مُنشرح الصَّدر؛ لأنَّه قد ألقى عبئًا يُثقل كاهله، أليس هذا هو واقع الكثيرين؟!

    ونسأل الله أن يعفو عنا، وأن يرحمنا.

    والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

    #########################################

    --------------------------------------------------------
    ما زلنا أحبابنا تابعونا وجزاكم الله خيرا

    ولا تنسونا من صالح دعائكم
    [/center][/size]

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5188
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    (4) أدعيه السجود.. دعاء السجود " سبحان ربي الأعلى "  Empty التشهد

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس مايو 05, 2022 3:10 pm


    التشهد

    " ... السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله"


    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

    أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

    فلا زال الحديثُ متَّصلاً بشرح التَّشهد وما يُقال فيه، وقد مضى الكلامُ على قوله: التَّحيات لله، والصَّلوات، والطَّيبات ...، وفي هذه الليلة -إن شاء الله- نتكلم على قوله: السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين[1].

    وفي الكلام على دُعاء دخول المسجد أو الذكر الذي يُقال عند دخول المسجد ذكرنا هناك أنَّ السلام على النبي ﷺ ثابتٌ من قوله: "فليُسلِّم على النبي ﷺ"، وأنَّ الصَّلاةَ عليه ﷺ عند الدُّخول إلى المسجد؛ أنَّ ذلك ثابتٌ من فعله، فيُجمع بينهما.

    وذكرتُ هناك أنَّ الكلامَ على السلام يأتي مُفصَّلاً -إن شاء الله- في الكلام على التَّشهد، وكان اللائقُ في هذا الموضع أن أُبين المراد بذلك بصورةٍ غير مجملةٍ، لا كما ذكرتُه هناك.

    فهذا السَّلام حينما نقول: السَّلام عليك أيّها النبي، وحتى حينما يُسلم المسلمُ على أخيه، يقول: السَّلام عليكم. فهذا ما المراد به؟ هذا يحتمل معنيين -كما سيأتي-، لكن قبل ذلك أصل هذه المادة في كلِّ تصرفاتها تدلّ على السَّلامة، والخلاص، والبراءة، والنَّجاة من الشُّرور، والعيوب، والآفات، والنَّقائص، كل الاستعمالات هذه لمادة: السين، واللام، والميم، في كل استعمالاتها، وهذا بابٌ يطول شرحه، لكن يكفي أن نعرف هذا المقدار.

    ومهما أتيت به من لفظ: السّلم، والسّلام، والسّلامة، والمسالمة، وما إلى ذلك؛ فهو يرجع إلى هذا المعنى بوجهٍ أو بآخر.

    ومَن شاء أن ينظر في تفاصيل كثيرةٍ، وأمثلةٍ طويلةٍ؛ فلينظر فيما ذكره الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- في "بدائع الفوائد" على سبيل المثال، وإلا فقد تكلّم على هذا أيضًا في كتابه الآخر "أحكام أهل الذّمة".

    فإذا أدركنا هذا المعنى الذي ترجع إليه، فإنَّ ذلك يُقال حينما ننظر إلى هذا الاسم الكريم من أسماء الله -تبارك وتعالى-: السلام، فهو أحقّ بهذه المعاني، والله -تبارك وتعالى- سالـمٌ من كل عيبٍ ونقصٍ بذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، كلّ ذلك حقٌّ ثابتٌ، فهو كاملٌ من كل وجهٍ، وهو أحقّ بهذا الاسم؛ يعني: السَّلام[2].

    سالـمٌ من الصَّاحبة والولد، سالـمٌ من الشَّريك، سالـمٌ من ظلم العباد، سالـمٌ من الكفؤ، والنَّظير، والمثيل، وقلْ ما شئتَ من هذه الأمور التي تكون عيبًا ونقصًا، فإنَّ الله -تبارك وتعالى- سالـمٌ منها جميعًا، فإذا قال المسلِّمُ: "السلام عليك"، فهذا يحتمل أن يكون المعنى أو المراد؛ يعني: هذا الاسم الكريم من أسماء الله -تبارك وتعالى-، يعني: "السَّلام عليكم"، أنَّك تُلقي هذا الاسم على المسلَّم عليه؛ يعني: نزلت بركةُ اسمه عليكم، حلَّت عليكم، ونحو هذا، واختير هذا الاسمُ من بين سائر الأسماء؛ لكونه يدلّ على السَّلامة.

    والنبي ﷺ قال: لا تقولوا: السَّلام على الله؛ فإنَّ الله هو السَّلام، ولكن قولوا: السَّلام عليك أيُّها النبي إلى آخره، السَّلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين[3]، فهذا حينما يُقال "السلام" هو الله، فهذا يُؤيد أنَّ هذا الاسم الكريم هو المقصود بهذه التَّحية، فكيف تقول: "السلام على الله"؟! فالله هو السَّلام، فهذا نظرٌ صحيحٌ، ولكن أيضًا هناك نظرٌ آخر صحيحٌ يأتي بيانه في المعنى الآخر الذي تحتمله هذه التَّحية.

    فالله -تبارك وتعالى- هو السَّلام، وحينما يُسلَّم عليه فهو السَّلام، فإذًا هذا لا يصحّ، وكذلك لو قصد به الدُّعاء، فإنَّه هو الذي يُسلِّم غيره، وتُطلب السَّلامة منه، ولا تتحقق إلا من عنده، فكيف تُطلب له السَّلامة، ويُدْعَى بذلك؟!

    فالله -تبارك وتعالى- هو المطلوب منه، لا المطلوب له، هو المدعو، لا المدعو له، ومن ثم فلا يصحّ أن يُسلَّم عليه، بل هو المسلِّم على عباده: وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات:181]، وسلامٌ من الله -تبارك وتعالى- كما قال: سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الصافات:109]، سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ [الصافات:79]، وَسَلَامٌ عَلَيْهِ [مريم:15]، قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ [هود:48]، ويُسلِّم عليهم أيضًا يوم القيامة: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ [الأحزاب:44] من المعاني الداخلة تحته، أو يحتمل أنَّ الله -تبارك وتعالى- يُحيِّهم بذلك يوم يلقونه، يُحيِّهم بالسَّلام: سَلَامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58].

    وعلى هذا المعنى إذا قال المسلِّم: السَّلام عليكم؛ يعني: كان المعنى اسم: السلام عليكم -عند هؤلاء-، هذا الاسم فيه دلالة على السَّلامة، فكان هو المناسب في هذا المقام.

    القول الآخر: أنَّ السَّلام مصدرٌ بمعنى: السَّلامة، وأنه هو المقصود عند التَّحية؛ أنَّك تطلب للمُسلَّم عليه السَّلامة، تدعو له بها.

    وهؤلاء حينما يحتجُّون لهذا المعنى يقولون: يدلّ عليه أنَّك تقول: سلامٌ عليكم، وأمَّا الاسم الكريم لله -تبارك وتعالى- فهو بـ(أل): السلام.

    ولاحظوا في هذه الآيات السَّابقة: وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ، فدلَّ على أنَّ المقصود المصدر؛ يعني: التَّسليم، فيكون ذلك طلبًا للسَّلامة له، ولو كان المقصودُ الاسم الكريم لدخلت عليه "أل".

    ثم يدلّ على ذلك أيضًا -أنَّ المقصودَ السَّلامة- أنَّه عُطفت عليه رحمة الله وبركاته: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فهذا عطف عليه هذه المصادر: الرحمة، والبركات، مصدران؛ فدلَّ على أنَّ ما قبلهما مصدرٌ، فهي ثلاثة مصادر: السلام؛ بمعنى: السَّلامة، والرحمة، والبركات، فهذه قرينةٌ تدلّ على ذلك.

    وكذلك أيضًا لو كان هذا، لو كان المرادُ الاسم الكريم لاحتاج ذلك إلى تقديرٍ، حينما يُقال: السَّلام؛ يعني: بركة هذا الاسم، ونحو ذلك مما يُقدِّرونه، والأصل عدم التَّقدير؛ يعني: من المرجّحات أنَّ الكلام إذا احتمل التَّقدير، أو احتاج إلى التَّقدير على وجهٍ، واستغنى عنه على وجهٍ آخر يصحّ، فعدم التَّقدير أولى، فحينما نقول: إنَّ ذلك بمعنى: السَّلامة، هذا لا يحتاج إلى تقديرٍ.

    وأيضًا حينما نقول: السَّلام عليكم، ماذا نُريد بإلقاء السَّلام على الآخرين؟

    المقصود بذلك الإيذان بالسَّلامة، والإخبار بها؛ يعني: أنت تقول لهذا الذي تلقاه في أول اللِّقاء، وعرفنا أنَّ التَّحية: ما يُقال في أول اللِّقاء، تقول له: السَّلام عليكم، تُلقي عليه السَّلام، فأنت من جهةٍ تُؤمّنه أنَّه لا يصل إليه منك مكروهٌ، وتدعو له بالسَّلامة من الشُّرور والآفات، وما إلى ذلك، فهذا كلّه مقصودٌ ومُرادٌ، بخلاف ما لو قال: السَّلام عليكم؛ يعني: هذا الاسم الكريم. فهذا بعض ما يحتجّ به أصحابُ هذا القول.

    وكذلك أيضًا يمكن أن يُقال بأنَّ هذا السَّلام حينما يُلقيه على غيره، ويردّ الآخر: وعليكم السَّلام ورحمة الله، فهذا أمانٌ من الجهتين: يُؤمِّنه، والآخر أيضًا يردّ عليه بالمثل، فهو مصدرٌ بمعنى: السَّلامة، وحُذفت تاؤه: السَّلامة؛ لأنَّ المطلوبَ هذا الجنس، لا المرة الواحدة، ليست سلامةً واحدةً، وإنما سلامٌ دائمٌ ثابتٌ على هذا المسلَّم عليه.

    لكن الحافظ ابن القيم -رحمه الله- كما أشرتُ في بعض المناسبات جمع بين القولين، قال: كلا القولين حقٌّ، وأنَّه يلتئم منهما معنًى صحيحٌ. فيجمع بينهما، وأنَّ الصَّوابَ في مجموعهما؛ وذلك أنَّ مَن دعا الله تعالى بأسمائه الحسنى، فإنَّ الأدبَ اللَّائق في هذا المقام أن يسأل في كلِّ مطلوبٍ بما يُناسبه من الأسماء: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، فإذا كنت تُريد الرزقَ تقول: يا رزَّاق، وإن كنت تُريد المغفرة: يا غفور، الرحمة: يا رحيم، وإذا كان يُريد السَّلامة فالمناسِب أن يذكر هذا الاسم الكريم في هذا المقام[4].

    وهذا مقام دعاءٍ بالسَّلامة، فالذي يُناسِب معه اسم الله -تبارك وتعالى-: السَّلام، فيتوسّل إليه في هذا المطلوب بهذا الاسم الكريم، ويكون ذلك لائقًا ومُناسبًا للمقام، هذا مقام طلب سلامةٍ، وهذه السَّلامة هي أهمّ ما عند الإنسان، فجاءت بهذه الصِّيغة، صيغة اسمٍ من أسماء الله -تبارك وتعالى-، وهو السَّلام الذي تُطلب منه السَّلامة، فتضمّن لفظ "السلام" معنيين:

    الأول: أنَّه ذكرٌ لله -تبارك وتعالى-، ذكر هذا الاسم؛ ولهذا فإنَّ النبي ﷺ عدَّه من الذكر؛ يعني: السَّلام، وكره أن يُذكر الله إلا على طهرٍ.

    والمعنى الثاني: وهو طلب السَّلامة، وهو مقصود المسلِّم، فصارت هذه التَّحيةُ مُتضمّنةً للأمرين معًا.

    هذا فيما يتعلَّق بالمعنى حينما نقول: السَّلام عليكم[5]، وهذا حاصل ما ذكره الحافظُ ابن القيم في كلامٍ طويلٍ وتفصيلٍ يُرجع إليه في موضعه، وهو أحسن ما وقفتُ عليه في هذا الباب من كلام الشُّراح، وإنما هو شيءٌ يسير مما ذكره وقرَّره -رحمه الله- في شرح هذا المعنى، وأورد فيه أكثر من عشرين سؤالاً، أكثر من عشرين مسألةً تتعلق بالسَّلام في بحثٍ طويلٍ.

    ومن ذلك: الحكمة في تسليم الله -تبارك وتعالى- على أنبيائه ورسله، والسَّلام هو طلبٌ ودعاءٌ، فكيف يُتصور من الله -تبارك وتعالى-؟!

    نقول: اللهم صلِّ وسلِّم، فإذا سلَّم الله على رسوله سلم، إذا قلنا: هو دعاءٌ بالسَّلامة، طلب السَّلامة، فالله هو السَّلام، وهو الذي يُسلِّم عبادَه، فما وجه الطَّلب هنا؟ الله هو الغني، وكلّ ما سواه فهو فقيرٌ، فهذا الطَّلب كيف يُوجَّه؟

    فأجاب عن هذا الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- بأنَّ الطلبَ يتضمن ثلاثة أشياء: يتضمّن الطالب، والمطلوب، والمطلوب منه. وأنَّ حقيقةَ الطلب لا تتمّ إلا بهذا[6]، فإذا قلنا: اللهم صلِّ وسلِّم على نبينا محمدٍ، فالعبد طالبٌ، والله مطلوبٌ منه، والسَّلامة أو التَّسليم هو المطلوب.

    طيب، حينما يصدر ذلك عن الله -تبارك وتعالى-؛ يُسلِّم على عبده، هنا طلب السَّلامة، ففي هذه الحال ماذا يُقال في المطلوب منه؟

    المطلوب منه هو نفسه ؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- يُوجِب على نفسه ما شاء، ويكتب على نفسه ما شاء: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12]، إني حرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي[7]، لا مُعَقِّبَ لحكمه، ولا رادَّ لقضائه -تبارك وتعالى-، ومن ثم فإنَّ السَّلامة تُطلب من الله -تبارك وتعالى-، وهو يُسلِّم على عباده؛ بمعنى: أنَّ ذلك يصدر عنه لمن شاءه من هؤلاء العباد؛ فتحصل لهم السَّلامة.

    ومن ثم فالحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول: فكما يعقل أن يكون المريدُ يُريد من نفسه، فكذلك يطلب من نفسه، والمقصود أنَّ طلبَ الحيّ من نفسه أمرٌ معقولٌ، يعلمه كلُّ أحدٍ من نفسه.

    وأيضًا فمن المعلوم أنَّ الإنسان يكون آمرًا لنفسه، ناهيًا لنفسه: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [النازعات:40]، ينهى نفسه: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف:53]، فهي تأمر صاحبها، الإنسان يأمر نفسَه، وينهى نفسَه، هذا بالنِّسبة للمخلوق[8]:
    ابدأ بنفسك فانهها عن غيِّها فإذا انتهَتْ عنه فأنت حكيمُ[9]

    يقول: فإذا كان معقولاً أنَّ الإنسانَ يأمر نفسَه وينهاها، والأمر والنَّهي طلبٌ، مع أنَّ فوقه آمرًا وناهيًا، وهو الله ، فكيف يستحيل ممن لا آمرَ فوقه ولا ناهٍ أن يطلب من نفسه فعل ما يُحبّه، وترك ما يبغضه؟!

    يقول: إذا عرف هذا عرف سرَّ سلامه -تبارك وتعالى- على أنبيائه ورسله، وأنَّه طلب من نفسه لهم السَّلامة[10].

    أيضًا من المسائل ما يتعلّق بالحكمة في اقتران الرحمة والبركة بالسَّلامة: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإذا جمعنا هذه الأشياء الثلاثة في التَّحية؛ فإنَّها تكون مُستوفاةً، فالإنسان لا سبيلَ له إلى انتفاعه بالحياة إلا بثلاثة أشياء:

    الأول: السَّلامة من الشُّرور والآفات؛ يعني: كلّ ما يُضادّ الحياة؛ الأمراض التي تنتابه، وما يعرض له مما يكون نقصًا في حياته، وعارضًا يعرض لها؛ فيُكدّر عليه عيشَه، فيحتاج إلى سلامةٍ من هذا، وإلا لكدِّر عليه العيشُ وتنغَّص.

    ثم يحتاج إلى أمرٍ آخر: وهو حصول الخير له.

    ثم يحتاج إلى أمرٍ ثالثٍ: وهو دوام هذا الخير وثباته.

    بهذه الثلاثة يحصل له كمال الانتفاع بالحياة، فجاءت هذه التَّحية مُتضمنةً للثلاثة، فإذا قلت: سلامٌ عليكم، هذا تضمّن السَّلامة من الشُّرور، والنَّقائص، والآفات. وإذا قلتَ: ورحمة الله، تضمّن حصول الخير له، الرحمة، وإذا قلت: وبركاته، فالبركات تدلّ على الدَّوام والثُّبوت؛ ثبوت هذه الرحمة والخير والبركة له، فإنَّ البركةَ هي كثرة الخير، واستمراره، ودوامه.

    فهنا لما كانت هذه الثلاثة مطلوبةً لكل أحدٍ، بل هي مُتضمنة لكلِّ مطالبنا، وكل المطالب فهي دونها، ووسائل إليها، وأسباب لتحصيلها، كما يقول الحافظُ ابن القيم -رحمه الله-؛ جاء لفظ التَّحية دالاً عليها جميعًا هذه المطالب الثلاثة بالمطابقة[11]، هذا إذا قلناها جميعًا: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذه دلالة بالمطابقة على هذه المطالب الثلاث، فإذا اقتصرنا على بعضها فإنَّ ذلك يكون دالاً عليها: إمَّا بالتَّضمّن، أو اللزوم.

    فدلالة اللَّفظ عليها بالمطابقة إذا ذكرت بلفظها جميعًا، ودلالته بالتَّضمن إذا ذُكر السَّلام والرحمة، فإنَّهما يتضمّنان الثالث، وهو البركة؛ لأنَّ ذلك لا يكمل له إلا بالدَّوام، والاستمرار، والثَّبات.

    وأمَّا الدّلالة باللزوم: فلو اقتصرنا على السَّلام، قلنا له: السَّلام عليكم، ولم نقل: ورحمة الله وبركاته؛ فيكون دالاً على الاثنين الآخرين بدلالة اللزوم، فإنَّ السلامَ يكون سلامةً بالمطابقة، دلَّ على المطابقة، على السَّلامة من العيوب، والآفات، والنَّقائص، ولكن هذا أيضًا يستلزم حصول الخير وثباته؛ لأنَّه لا تكتمل له مطالبه إلا بهذه السَّلامة وحدها، لا تكون وافيةً بذلك إلا إذا كانت مُطلقةً، السَّلامة المطلقة، فالسَّلامة مُستلزمةٌ لحصول الرَّحمة، ولبقاء هذه المطالب، ودوامها، وإلا فإنَّ ذلك يكون ناقصًا. هذا ما يتعلَّق بالسَّلام.

    ابن القيم -رحمه الله- عقَّب تعقيبًا في غاية الفائدة، أذكر طرفًا منه، يقول: بهذا يُعرف فضل هذه التَّحية وكمالها على سائر تحيَّات الأمم؛ ولهذا اختارها اللهُ لعباده، وجعلها تحيَّتهم فيما بينهم في الدنيا، وفي دار السَّلام، وقد بان لك أنها من محاسن الإسلام وكماله، فإذا كان هذا في فرعٍ من فروع الإسلام، وهو التَّحية التي يعرفها الخاصُّ والعامُّ، فما ظنُّك بسائر محاسن الإسلام، وجلالته، وعظمته، وبهجته التي شهدت بها العقول والفِطَر، حتى إنَّها من أكبر الشَّواهد وأظهر البراهين الدَّالة على نبوة محمدٍ ﷺ وكمال دينه، وفضله، وشرفه على جميع الأديان؟ .. إلى آخر ما ذكر، ذكر كلامًا في غاية النَّفاسة، لما بيَّن ما اشتملت عليه هذه التَّحية قال: هذا فرعٌ واحدٌ، في جزئيَّةٍ يعرفها الجميع، فكيف ببقية شرائع الإسلام؟![12].

    ثم ذكر أنَّ هذه الشَّريعة هي جنّة، وبهجة، وسعادة، ولذَّة، وما فيها من التَّكاليف والمشقّات إنما ذلك عارضٌ، لا يمكن أن يُقاس بما فيها من الخيرات والمنافع، وذكر كلامًا كثيرًا يحسُن مُراجعته، لا يفي بالمقصود منه ما يُذكر من مضامينه، أو معناه.

    ثم بعد ذلك جاء ما يتَّصل بالمصلِّي وإخوانه المؤمنين: السَّلام علينا، علينا مَن؟ معاشر المصلِّين.

    قال بعضُ أهل العلم: معشر الحاضرين في المسجد: السلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين، لماذا خصُّوه بالذين في المصلَّى؟

    "السَّلام علينا"، قال: وعلى عباد الله الصَّالحين يعني: هذا أعمّ؛ لئلا يكون فيه تكرار، فابتدأ بالسَّلام أولاً على مَن معه، وهو في ضمنهم: سلامٌ علينا، ولو كان يُريد نفسَه لقال: السَّلام عليَّ، وهذا ليس مقامَ تعظيم النَّفس، فيُقال: جاء بما يدلّ على الجمع، صيغة الجمع، نون الجمع للتَّعظيم، لا، السَّلام علينا معشر مَن حضر، وعلى عباد الله الصالحين، هذا يشمل كلَّ صالحٍ كما قال النبيُّ ﷺ: إذا قال ذلك أصاب كلَّ عبدٍ صالحٍ في السَّماء والأرض[13].

    هنا الصَّالح فسَّره بعضُهم بالقائم بحقوق الله، وحقوق العباد، وبعضهم فسَّره بالمسلم عمومًا، فهذا يُخرج الكفَّار والمنافقين: السَّلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين، فالذين فسَّروه بهذا التَّفسير الأخصّ الذي هو: مَن قام بحقوق الله، وحقوق الخلق، هؤلاء هم أهل التَّقوى، وليس مجرد المسلم، وإن كان مُقصِّرًا.

    وعلى عباد الله الصَّالحين لماذا خصُّوه بهذا؟

    قالوا: لأنَّه قيَّده بقوله بهذا الوصف: "الصَّالحين"، مع ما في قوله: "على عباد الله"، فهذا يُشعر بأهل العبودية الخاصَّة: وعلى عباد الله الصَّالحين، وقول النبي ﷺ: أصاب كلَّ عبدٍ صالحٍ، كأنَّه يُشعر بنوعٍ من الاختصاص، فهذا يشمل الملائكة، والأنبياء، والرسل -عليهم الصَّلاة والسَّلام-، ويشمل غيرهم من أهل الإيمان.

    "أشهد أن لا إله إلا الله"، فهو يُقرّ بذلك بقلبه، وينطق لسانُه به، فقلبه مُقرٌّ مُنقادٌ، ولسانه ناطقٌ، شاهدٌ بذلك، "أشهد أن لا إله إلا الله"، لا معبودَ بحقٍّ إلا الله، "وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله"، قدَّم هنا العبودية، يمكن أن يُقال: دفعًا للغلو؛ لئلا يحصل به الغلو، كما غلت النَّصارى في عيسى -عليه الصَّلاة والسَّلام-، فهو كما قال ﷺ: إنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبدالله ورسوله[14] ﷺ، فهو عبدٌ ورسولٌ.

    قال: ثم ليتخيّر يعني: يختار من الدُّعاء أعجبه إليه؛ يعني: أحبّ الدُّعاء وأرضاه، أعجبه إليه، بعض أهل العلم قال: الذي يكون أعجب هو الذي يكون مأثورًا، من جوامع الكلم، فهذا هو الأكمل والأعجب، فيدعو به.

    ولو قال قائلٌ: بأنَّ ذلك أعمّ من هذا؛ لأنَّه قال: أعجبه إليه؛ يعني: مما يُعجبه من الدُّعاء، يتخيّر من ذلك، ولم يُقيد ذلك بالمأثور، هو يتخيّر من الدَّعوات ما يحتاج إليه، وما هو أعلق بحاله، وأليق بمطلوبه.

    ولذلك فإنَّ الراجح من أقوال أهل العلم: أنَّ الدعاء الذي يكون سواء في السُّجود مما يدعو به الإنسانُ لنفسه، أو بعد التَّشهد؛ أنَّه لا يُشترط أن يكون من المأثور، وإنما له أن يختار من الأدعية مما يُنشئه، لكن لا شكَّ أنَّ الدُّعاء بجوامع الكلم أكمل؛ مما ورد في القرآن، أو ورد عن رسول الله ﷺ.

    وقوله: فيدعوه يحتمل أن يكون المعنى: فيقرأ الدُّعاء الأعجب، يدعوه؛ يعني: الضَّمير يرجع إلى الدُّعاء.

    ويحتمل أن يكون: فيدعوه أي: الله به، يدعو ربَّه به، وهذا لا يُؤثر من حيث الحكم؛ يعني: عود الضَّمير.

    هذا ما يتعلّق بهذا الموضع، أو بهذا الحديث.

    وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين، والله أعلم.

    وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

    ########################################



    الصلاة على النبي بعد التشهد

    " اللهم صل على محمد وعلى آل محمد..."



    الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

    أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

    في هذه الليلة -أيّها الأحبّة- نشرع في الكلام على الصَّلاة على النبي ﷺ بعد التَّشهد، وهذه الصِّيغ الواردة عن النبي ﷺ في الصَّلاة عليه وصفتها بعد التَّشهد قد تنوَّعت، ومن ذلك ما أورده المؤلفُ، وهو ما رواه كعبُ بن عُجرة، عن رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام-، وذلك أنَّ كعبًا لقي ابنَ أبي ليلى، وابنُ أبي ليلى هو عبدالرحمن ابن أبي ليلى، من أصحاب رسول الله ﷺ ممن شهد أحدًا وما بعدها[محمد1] ، وهو في عداد الأنصار -رضي الله عنهم وعن المهاجرين-.

    لقيه كعب بن عُجرة  فقال: ألا أُهدي لك هديةً؟ هذا للاستفهام من أجل التَّشويق: خرج علينا رسولُ الله ﷺ فقلنا: قد عرفنا كيف نُسلِّم عليك، فكيف نُصلِّي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما صليتَ على آل إبراهيم، إنَّك حميدٌ مجيدٌ، اللهم بارك على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما باركتَ على آل إبراهيم، إنَّك حميدٌ مجيدٌ[1].

    وهذا الحديث -حديث كعب بن عُجرة - مُخرَّجٌ في "الصَّحيحين"، مع اختلافٍ في بعض ألفاظه.

    يقول كعب  لعبدالرحمن ابن أبي ليلى لما لقيه: ألا أُهدي لك هديةً سمعتُها من النبي ﷺ؟ فقلتُ: بلى، فأهداها لي -كما في بعض رواياته- فقال: سألنا رسول الله ﷺ فقلنا: يا رسول الله، كيف الصَّلاة عليكم أهل البيت؟ في بعض ألفاظه، وفي اللَّفظ الذي قبله أنَّهم قالوا: قد عرفنا كيف نُسلِّم عليك، فكيف نُصلِّي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ .. إلى آخره.

    هنا: كيف الصَّلاةُ عليكم أهل البيت؟ فإنَّ الله قد علَّمنا كيف نُسلِّم عليك. يعني: علمنا ذلك، الله أمر بالصَّلاة والسَّلام على نبيِّه ﷺ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، فهذا في كتاب الله -تبارك وتعالى- الأمر بذلك.

    وجاء التَّعليم لصفة السَّلام عليه ﷺ على لسان رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام- كما في التَّشهد: السَّلام عليك أيُّها النبي ورحمة الله وبركاته، السَّلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين[2]، هذا كلّه جاء في التَّشهد كما مضى، فهم يسألون: فإنَّ الله قد علّمنا كيف نُسلِّم عليك. وكانوا يسألون عن كيفية الصَّلاة على رسول الله ﷺ، فقال: قولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ.

    وذكر الحافظُ ابن حجر -رحمه الله- روايةً قال: إنَّ إسنادها جيدٌ. يقول: لما نزلت هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا جاء رجلٌ إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، هذا السَّلام عليك قد عرفناه، فكيف الصَّلاة عليك؟ قال: قولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ .. الحديث[3].

    وفي لفظٍ عند مسلمٍ وغيره: أمرنا اللهُ أن نُصلِّي عليك، فكيف نُصلِّي عليك؟ فسكت -عليه الصَّلاة والسَّلام- حتى تمنينا أنَّه لم يُسأل، أو أنَّه لم يَسأل، يعني: الرجل، خشوا أن يكون ذلك قد كرهه رسولُ الله ﷺ، ثم قال: قولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ .. إلى آخره، وفي آخره: والسَّلام كما قد عَلِمْتُم، أو عُلِّمْتُم[4]، ضبطه بعضُهم بهذا، وضبطه بعضُهم بذاك.

    حينما يقول: اللهم صلِّ على محمدٍ قلنا: بأنَّ صلاةَ الله تعالى على عبده بمعنى: أنَّه يذكر عبدَه في الملإ الأعلى، وأنَّ صلاةَ الملائكة على العبد بمعنى: الاستغفار، وأنَّ قولنا نحن: اللهم صلِّ على محمدٍ هذا بمعنى: السُّؤال والدُّعاء له بالرَّحمة.

    هذا الفرق بين صلاة الله على العبد، وصلاة الملائكة، وصلاة المؤمنين، وهذا أحسن ما ذُكِرَ في الفرق بين هذه الأمور الثلاثة فيما ذهب إليه الحافظُ ابن القيم، وشرحه، وبيَّنه.

    فهنا النبيُّ ﷺ نقول داعين له، سائلين: اللهم صلِّ على محمدٍ، نسأل ربنا -تبارك وتعالى- أن يُصلِّي عليه، والله  أخبرنا أنَّه يُصلِّي عليه، والملائكة يُصلُّون عليه ﷺ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ.

    طيب، إذًا نحن لماذا نسأل ونقول: اللهم صلِّ على محمدٍ؟

    يكون ذلك أولًا مما تعبدنا الله  به.

    الأمر الثاني: أنَّ صلاةَ الله على النبي ﷺ قد تكون مُرتبةً على سببٍ مما قضاه الله  وقدَّره، وهو العليم الحكيم، أو أسباب، ومن ذلك: سؤال المؤمنين -كما ذكرنا-: اللهم ... آتِ محمدًا الوسيلة[5]، مع أنَّ هذا حاصلٌ له -عليه الصَّلاة والسَّلام-.

    ثم نحن أيضًا ننتفع بهذا: مَن صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى اللهُ عليه بها عشرًا[6]، فكلّ ذلك مما يحتاج إليه العبدُ، ويتقرَّب به إلى الله -تبارك وتعالى-، وهو أداءٌ لبعض حقِّه علينا -عليه الصَّلاة والسَّلام-، هذا هو المشروع؛ لأنَّ بعضَ الناس يسأل يقول: أنا أُريد أن أجعل صدقاتي للنبي ﷺ، هل هذا هو المطلوب؟ هل الصَّحابة كانوا يفعلون ذلك؟

    الجواب: لا، لماذا؟ لأنَّ النبيَّ ﷺ هو الذي دلَّنا على ذلك جميعًا، ومن ثم فإنَّ كلَّ ما يعمله العاملون من أعمال البرِّ بجميع أنواعها: القوليَّة، والعمليَّة، والماليَّة للنبي ﷺ كأجرهم؛ لأنَّه هو الذي دلَّهم على هذا الهدى -عليه الصَّلاة والسَّلام-.

    الحاصل أنَّ هذه الرِّواية التي ذكرها الحافظُ ابن حجر أنَّهم سألوا لما نزلت هذه الآية، هذا يدلّ على أنَّ هؤلاء السَّائلين قد تنوَّعوا: فمنهم مَن سأل بعد نزول هذه الآية، كهذا الرجل الذي جاء فسأل النبيَّ ﷺ، وبعضهم من الصَّحابة المعروفين، كما جاء مُصرَّحًا به في بعض الرِّوايات، كلّ هؤلاء سألوا النبيَّ ﷺ: كيف نُصلِّي عليك؟ قد جاء هذا أيضًا عن قيس بن سعد بن عُبادة[7].

    الشَّاهد: أنَّ النبي ﷺ علَّمهم ذلك: اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، طيب، ما معنى: "وعلى آل محمدٍ"؟ نحن نطلب أن يُصلي الله على نبيِّه ﷺ وعلى آله، مَن هم آله؟ عرفنا معنى الصَّلاة على النبي ﷺ، فمَن هم آله؟

    العلماء تكلَّموا في هذا كثيرًا في الآل، ومن أجمع ما رأيتُ، ومن أحسن ما رأيتُ، وأدقّ ما رأيتُ في الكلام على ذلك هو ما ذكره الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- في مثل كتابه "جلاء الأفهام"، وذكر حاصلَ أقوال أهل العلم في معنى الآل[8]: آل النبي ﷺ، وأنَّ ذلك يرجع إلى أربعة أقوالٍ:

    أما القول الأول: فهم القائلون بأنَّهم مَن تحرم عليهم الصَّدقة، ومن هؤلاء الذين تحرم عليهم الصَّدقة؟ ليس هذا محلَّ اتِّفاقٍ، هذا وصفٌ جامعٌ: مَن تحرم عليهم الصَّدقة، طيب، مَن هم؟

    اختلفوا فيهم على ثلاثة أقوالٍ:

    الأول: أنَّهم بنو هاشم، وبنو المطلب. وهذا الذي ذهب إليه الشَّافعي، وأحمدُ في روايةٍ عنه، ونسبه الحافظُ ابن حجر -رحمه الله- إلى الجمهور: أنَّهم بنو هاشم، وبنو المطلب[9].

    القول الثاني: أخصُّ من هذا، وهو أنَّهم بنو هاشم، وهذا مذهب أبي حنيفة، والرِّواية الثانية عن الإمام أحمد -رحمه الله ورحم الجميع-، واختاره ابنُ القاسم من أصحاب الإمام مالك[10].

    القول الثالث -وهو بعيدٌ والله أعلم-: أنَّهم بنو هاشم ومَن فوقهم إلى غالب[11]، وغالب هذا من أجداد النبي ﷺ كما هو معروفٌ، وهو في سلسلة النَّسب الشَّريف في آباء النبي ﷺ يكون رقم عشرة، هو العاشر من آباء النبي ﷺ، إذا عددتَ من عبدالله يكون هو العاشر، غالب.

    فهذا بعض أهل العلم يقولون: إنَّه إلى غالب، معنى ذلك أنَّه يدخل بنو هاشم، وبنو المطلب، وبنو أمية، ومنهم عثمان بن عفّان ، فإنَّه يرجع إليهم، بنو أمية، وبنو نوفل، ومَن فوقهم إلى بني غالبٍ.

    فكل هؤلاء يجتمع نسبُهم مع النبي ﷺ كما هو معلومٌ، وهذا قال به بعضُ أصحاب الإمام مالك، نسبه بعضُهم إلى أشهب، وبعضهم إلى أصبغ، لكن هذا بعيدٌ، والله تعالى أعلم.

    وعامَّة أهل العلم على خلافه، لكن القول بأنَّهم مَن تحرم عليهم الصَّدقة في الجملة، سواء قلنا: من بني هاشم، وبني المطلب، أو أنَّهم في خصوص بني هاشم، هذا الذي عليه عامَّة أهل العلم، وهو منصوص الشَّافعي -كما سبق-، وقول الإمام أحمد على اختلافٍ في الرِّواية عنه، وقول الأكثرين؛ جمهور أصحاب أحمد والشَّافعي على هذا -رحم الله الجميع-.

    إذًا هذا هو القول الأول في تفسير الآل: أنهم مَن تحرم عليهم الصَّدقة، واختلفوا في تفصيل هؤلاء مَن يكونون.

    القول الثاني في الآل: أنَّهم ذُريته ﷺ، وأزواجه، الذُّريَّة والأزواج.

    لاحظوا: ما الفرق بين هذا وما قبله؟

    هناك يدخل بنو هاشم، أو بنو هاشم وبنو المطلب، وهناك مَن تحرم عليهم الصَّدقة أربعة أبياتٍ على المشهور: آل علي، وآل جعفر، وآل عباس، وآل حمزة. أربعة.

    أما على هذا القول الثاني: أنهم ذُرية النبي ﷺ وأزواجه خاصَّة، يكونون ذُريته: أولاد عليٍّ  من فاطمة: الحسن، والحسين، فهذا مع الزَّوجات.

    هؤلاء العُلماء حينما يقولون مثلَ هذا عندهم أدلة، ومَن تأمَّل أقوالَ العُلماء في اختلافاتهم، ونظر في استدلالاتهم؛ فإنَّه أحيانًا قد يكون القولُ المستبعد بالنِّسبة إليه إذا بيَّن له وجهه ودليله قد يظنّ أنَّ هذا هو القول الصَّحيح، بعدما كان مُستبعدًا عنده.

    الشَّاهد: أنَّ هؤلاء احتجُّوا بحديث أبي حميدٍ -رضي الله تعالى عنه-، وفيه -في نفس الحديث، حديث أبي حميدٍ- أنَّهم سألوا النبيَّ ﷺ: كيف نُصلي عليك؟ كما قلت: إنَّ ذلك جاء عن جماعةٍ من الصَّحابة، يسألون: كيف نُصلِّي عليك؟ فماذا قال؟

    لاحظوا: هذا تفسيرٌ للصَّلاة عليه، هناك: اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، هنا ماذا قال لهم؟ اللهم صلِّ على محمدٍ، وأزواجه، وذُريته[12]، ما في (آل).

    فقالوا: إنَّ قولَه هنا: على محمدٍ، وأزواجه، وذُريته أنَّ الأزواجَ والذُّريةَ يُساوي: آل محمد، فقالوا: "الآل" هم الأزواج والذُّرية. هذا تفسيرٌ للحديث بقول النبي ﷺ، وهذا له وجهٌ كما ترون؛ فهذه جعلوها تقوم مقام تلك تمامًا، قالوا: هم الأزواج والذُّرية. قالوا: والآل والأهل سواء، وآل الرجل وأهله سواء، وهم الأزواج والذُّرية، بدليل هذا الحديث.

    أمَّا أصحاب القول الثالث، فقولهم لا يخلو من بُعْدٍ حينما ذكروه بهذا الإطلاق هكذا، قالوا: "آله" هم أتباعه إلى يوم القيامة، أتباع النبي ﷺ، إذا قلتَ: اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ. يعني: وعلى أتباع محمدٍ ﷺ، يعني: من أهل الإيمان. وهذا مرويٌّ عن جابر بن عبدالله ، واختاره بعضُ أصحاب الشَّافعي -رحم الله الجميع-، واختاره الإمامُ النَّووي -رحمه الله- أنَّهم أتباعه[13].

    القول الرابع والأخير: أنَّ "الآل" هم الأتقياء من أُمَّته ﷺ، يعني: أنَّهم قيَّدوه بالتَّقوى، وهؤلاء ربما يحتجُّون بحديثٍ لا يصحّ، في أنَّ "آله" ﷺ هو كل تقيٍّ من أُمَّته[14]، لكن الحديثَ لا يصحّ.

    فهذه الأقوال الأربعة أضعفها الأخيران: الثالث والرابع. والأول والثاني قويَّان، الأول عليه الجمهور: أنَّه مَن تحرم عليه الصَّدقة، وعليه عامَّة أهل العلم، والقول الثاني يدلّ عليه حديثُ أبي حميدٍ السَّاعدي -رضي الله تعالى عنه-.

    والنبي ﷺ أخبر أنَّ الصَّدقةَ لا تحلّ لآل محمدٍ، فكيف يُقال: إنَّ "آله" هم أتباعه إلى يوم القيامة، أو هم الأتقياء من أُمَّته؟! الآل أخصُّ من هذا، لا تحلّ لهم الصَّدقة.

    شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فسَّر آل محمدٍ ﷺ قال: هم الذين تحرم عليهم الصَّدقة[15]، فإنَّ النبي ﷺ قال: إنَّ الصَّدقةَ لا تحلّ لمحمدٍ، ولا لأهل بيته[16]، فهذا ترجيحٌ منه للقول الأول؛ بأنَّهم مَن تحرم عليهم الصَّدقة، الزَّوجات هم من آل الرجل، ومن أهله، والآل والأهل.

    يعني: لو نظرنا الآن في قوله -تبارك وتعالى-: وَسَارَ بِأَهْلِهِ [القصص:29]، موسى ﷺ مَن التي سارت معه؟ هي زوجته، وزوجة الرجل يُقال: أهله.

    فهنا آل النبي ﷺ أزواجه، وبناته، وصهره عليّ -رضي الله تعالى عنه-، والأحفاد، والذُّريات، كلّ هؤلاء.

    وفي قوله -تبارك وتعالى- عن قول الملائكة لإبراهيم ﷺ لما بشَّروه بالولد، وتعجَّبت امرأتُه من حصول الولد بعد تقادم العمر، مع العُقم، قالوا: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود:73]، مَن هم أهل البيت؟ الذين كانوا بالحضرة حينما قالت الملائكةُ هذا: إبراهيم مع زوجته، فهم أهل البيت.

    والرجل داخلٌ في ذلك، الرجل نفسه كما في قوله -تبارك وتعالى-: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، فرعون لا شكَّ أنَّه داخلٌ فيهم.

    إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ [البقرة:248]، فُسِّر بموسى وهارون، مما ترك موسى وهارون -عليهما الصَّلاة والسَّلام-.

    لكن إذا ذكر الرجل، وعطف عليه الآل؛ كان ذلك للمُغايرة، كما نقول: اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ. لكن حينما نقول: كما صليتَ على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم[17]، كما في بعض الرِّوايات، فهذا يدل على المغايرة، لكن في بعضها: كما صليتَ على آل إبراهيم[18]، بدون: "على إبراهيم"، فإبراهيم يكون داخلًا فيه، وهذا مهمٌّ في التَّشبيه، كما سيأتي سؤالٌ يرد عليه وجوابه: كما صليتَ على آل إبراهيم، بدون ذكر إبراهيم ﷺ.

    الخلاصة: الذي يظهر -والله تعالى أعلم- أنَّ "الآل" يُطلق بإطلاقات مُتعددة، وهو بحسب المقام، فأضيق إطلاقات "الآل" هم ما جاء في حديث الكِساء، لما قال اللهُ : إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33]، النبي ﷺ دعا فاطمة، وعليًّا، والحسن، والحسين، ووضع عليهم كساءً، وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي، اللهم أذهب عنهم الرِّجسَ وطهِّرهم تطهيرًا[19]، ولما استأذنته أمُّ المؤمنين أن تدخل معهم، النبي ﷺ اعتذر إليها بما قد علمتُم. فهذا أضيق إطلاقٍ لأهل البيت: علي، وفاطمة، والحسن، والحسين، وما كان من ذُريتهم، هذا أضيق إطلاقٍ، وهو إطلاقٌ صحيحٌ لا يُنكر، ويدلّ عليه حديث الكِساء، وهو حديثٌ ثابتٌ وصحيحٌ.

    الإطلاق الثاني أوسع من هذا، وهو مَن تحرم عليهم الصَّدقة، فيدخل فيهم هؤلاء: علي، وفاطمة، والحسن، والحسين؛ يعني: لا تكون الذُّرية فقط، وإنما أيضًا مَن تحرم عليهم الصَّدقة: كآل عليٍّ، وآل جعفر، وآل عباس، وآل عقيل، هؤلاء الأربعة.

    فهنا يكون إطلاقُ آل النبي ﷺ على ما هو أوسع؛ يعني: مَن تحرم عليهم الصَّدقة، هناك إطلاقٌ أوسع من هذا يدخل فيه أزواجُ النبي ﷺ، ما الدَّليل على هذا: أنَّ الآل يدخل فيه الأزواج؟

    رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ، وهنا كما في قولنا في قصّة إبراهيم ﷺ أنَّ ذلك قيل في حقِّه، وفي حقِّ زوجته، فهي داخلةٌ معه بلا شكٍّ، وكذلك ما ذكرنا أيضًا من أنَّ زوجةَ الرجل يُقال لها: أهل.

    وآية الأحزاب نفسها: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ، هي في سياق ذكر الزَّوجات: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ۝ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:32- 33]، هذه في زوجاته، السياق كله في زوجاته، والآية من أوَّلها في زوجاته، فهنَّ داخلات في هذا قطعًا، فالإطلاق الأوسع يدخل فيه الزَّوجات.

    ويدلّ على هذا الحديث الذي ذكرتُه، وجوَّد إسنادَه الحافظُ ابن حجر -رحمه الله-؛ حديث أبي حميدٍ: اللهم صلِّ على محمدٍ، وأزواجه، وذُريته[20]، فهذا بمعنى: آل محمدٍ.

    وهناك أوسع الإطلاقات، وهو أتباعه إلى يوم القيامة.

    فإذا قلنا: "اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ" فهنا يدخل فيه الإطلاقات هذه: يدخل فيه الإطلاق الضَّيق، ثم الذي أوسع منه، ثم الذي أوسع منه؛ يعني: الزَّوجات داخلات في هذا، بدليل حديث أبي حميدٍ، داخلات في هذا.

    إذًا هو لا يختصّ بمَن تحرم عليهم الصَّدقة، فزوجاته داخلات، ولا مانعَ من أن يُقال: إنَّ أتباعَه يدخلون في هذا؛ لأنَّ "آل" الرجل في اللغة يدخل فيهم الأتباع.

    وقوله تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ يدخل فيه فرعون، ويدخل فيه أتباعُ فرعون، فيكون في مقامٍ بما يليق به، فإذا كان المقامُ مثلًا يتعلَّق بالصَّدقة، ومَن تحلّ له الصَّدقة، ومَن لا تحلّ له، فيُقال: لا تحلّ لآل محمدٍ، كما جاء في الحديث؛ فهنا تخرج الزَّوجات، ويخرج الأتباع، ويكون ذلك فيمَن تحرم عليهم الصَّدقة، وهؤلاء -كما قلتُ- أربعة أبياتٍ: آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس.

    هذا ما يتعلق بهذا القدر من صدر هذا الحديث، وبقيت فيه بقيةٌ -إن شاء الله تعالى- نُكملها في الليلة الآتية.

    والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
    ما زلنا أحبابي .. تابعونا جزاكم الله خيرا .. ولا تنسونا من صالح دعائكم

    ##############################################
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5188
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    (4) أدعيه السجود.. دعاء السجود " سبحان ربي الأعلى "  Empty رد: (4) أدعيه السجود.. دعاء السجود " سبحان ربي الأعلى "

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس مايو 05, 2022 3:16 pm

    الصلاة على النبي بعد التشهد

    " ... كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم..."



    ا
    لحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

    أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

    لم يزل الحديثُ متَّصلاً عن الصَّلاة على النبي ﷺ بعد التَّشهد، وذلك قوله: اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، توقفنا هنا في شرح هذا الحديث، ثم بعد ذلك قال: كما صليتَ على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم[1]، بعض ألفاظه: كما صليتَ على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، وفي بعضها: كما صليتَ على آل إبراهيم[2].

    أمَّا الأول فواضح، وأمَّا الثاني فيكون "آل إبراهيم" يدخل فيهم إبراهيم ﷺ؛ فإنَّ الآل -كما سبق- إذا أُطلق فإنَّه يدخل فيه المعنِي: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [هود:73]، إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- داخلٌ في هذا: كما صليتَ على آل إبراهيم داخلٌ في هذا.

    وهكذا في قوله تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، فرعون داخلٌ في هذا قطعًا، وهذا كلّه مضى الكلامُ عليه، لكن قوله: كما صليتَ على إبراهيم[3]، في الرِّواية الأخرى عند مسلمٍ: كما صليتَ على إبراهيم، كما هو لفظ الكتاب، والحديث مُخرَّجٌ في "الصَّحيحين"، ورواية مسلم لم يذكر فيها إبراهيم ﷺ.

    هنا قد يرد سؤال، فيقول قائلٌ: لماذا خصَّ إبراهيم ﷺ في الذكر؟ لماذا لم يقل مثلاً: كما صليتَ على موسى -عليه الصلاة والسَّلام-، كما صليتَ على عيسى ﷺ، كما صليتَ على نوحٍ -عليه الصَّلاة والسَّلام-؟

    فهنا العلماء ذكروا وجوهًا لتخصيص إبراهيم ﷺ بالذكر: كما صليتَ على إبراهيم، منها: أنَّ إبراهيم -عليه الصَّلاة والسَّلام- هو جدّ النبي ﷺ، وقد أمرنا بمُتابعته: أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [النحل:123]، وهو إمام الحُنفاء، وهذه الملّة حنيفيَّة، والله -تبارك وتعالى- يقول: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا [آل عمران:67].

    وكذلك قال عن إبراهيم ﷺ وعمَّن هم أولى به: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:68]، فهذه صلةٌ وشيجةٌ بإبراهيم -عليه الصَّلاة والسَّلام- نسبًا، وعقيدةً، ودينًا.

    وإبراهيم ﷺ هو أبو الأنبياء؛ إذ إنَّ كلَّ الأنبياء الذين جاءوا بعده فهم من ذُريته، جميع الأنبياء من ولد إسحاق ، أنبياء بني إسرائيل، إلى عيسى ﷺ، وهم كُثر، وكذلك أيضًا إسماعيل ﷺ، ونبينا -عليه الصَّلاة والسَّلام.

    كما صليتَ على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم[4]، مَن هم آله؟

    إسماعيل، وإسحاق، وذُرية هؤلاء، ومن ذُرية إسحاق أنبياء بني إسرائيل، فيدخل في ذلك جميعُ هؤلاء الأنبياء الذين لا يُحصيهم إلا الله، يدلّ على كثرتهم في بني إسرائيل: أنَّ بني إسرائيل قتلوا في يومٍ واحدٍ سبعين نبيًّا، فكان الأنبياء هم الذين يسوسونهم، كما تسوس العلماءُ هذه الأُمَّة؛ لأنَّه لا نبيَّ بعد النبي ﷺ، وإنما تسوسهم العلماء، أمَّا بنو إسرائيل فكان يسوسهم الأنبياء، في يومٍ واحدٍ قتلوا سبعين نبيًّا.

    فقد يرد سؤالٌ آخر، إذا عرفنا لماذا ذُكر إبراهيم ﷺ وآل إبراهيم، فقد يقول قائلٌ: عرفنا لماذا خصّ إبراهيم ﷺ، وأنَّ الوشيجة قويّة، وظاهرة، لكن هنا سؤال، وهو أنَّ الكافَ للتَّشبيه: اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما صليتَ على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم[5]، معلومٌ أنَّ النبي ﷺ أفضل الأنبياء بإطلاقٍ، أفضل من إبراهيم ﷺ، فكيف يُطلب أن يُصلَّى عليه -على نبينا ﷺ- كما صلَّى الله على إبراهيم؟ يعني: لماذا لم يُطلب أن يُصلَّى عليه أعظم مما صُلِّي على إبراهيم -عليه الصَّلاة والسلام-؛ لأنَّ النبي ﷺ أفضل؟ هذا هو السؤال.

    وأيضًا من ناحيةٍ أخرى فإنَّ المقرر أنَّ المشبّه دون المشبّه به؛ يعني: الآن المشبّه النبي ﷺ وآله: كما صليتَ على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم[6]، فإبراهيم ﷺ هو المشبّه به، فالمشبّه دون المشبّه به، واضح؟

    تقول: زيدٌ كالقمر، تُشبِّهه بالقمر، والقمر أفضل وأجمل، لكنَّك أردتَ أن تُبين فضله، فذكرتَ ذلك، فألحقتَه بهذا الكامل، فهنا قد يُقال: كيف شبه ذلك: كما صليتَ على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم[7]؟ والواقع أنَّ النبي ﷺ وهو المشبّه أكمل من المشبّه به؛ فإنَّ رسولنا ﷺ أكمل شرفًا ومنزلةً، وأرفع من إبراهيم وآل إبراهيم -عليهم السلام-.

    وهذا السُّؤال أجاب عنه أهلُ العلم بأجوبةٍ مُتعددةٍ:

    فمن قائلٍ: إنَّ ذلك قاله قبل أن يُعلمه الله بأنَّه أفضل وأكمل من جميع الأنبياء، وأنَّه سيدُ ولد آدم، وأنَّه حاملُ لواء الحمد، وأنَّه صاحب الشَّفاعة العُظمى، وأنَّه صاحب المقام المحمود.

    هذا ذكره بعضُ أهل العلم، وليس بقويٍّ، وذلك أنَّ هذا استمرَّ يُقال إلى يومنا هذا، لم يُعلمهم النبيُّ ﷺ شيئًا آخر يقولونه بدلاً من هذا اللَّفظ.

    وبعضهم يقولون: إنَّ النبي ﷺ قال ذلك تواضعًا.

    وهذا أيضًا لا يخلو من إشكالٍ؛ لأنَّ هذه أذكار شرعيَّة، والنبي ﷺ لا ينطق عن الهوى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4].

    وبعضهم يقول: إنَّ التَّشبيه في الأصل، لا في القَدْر؛ يعني: أنَّ الله صلَّى على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، فالمطلوب هو أن تحصل الصَّلاة على النبي ﷺ وآله، وليس بالقدر الذي صُلِّي به على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، كقوله تعالى في الصيام.

    وقد مضى الكلامُ على آيات الصيام في رمضان قبل الماضي تفصيلاً، تكلّمنا على الكاف في قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183]، هل التَّشبيه بأصل الفرضية: فُرِضَ عليكم كما فُرِضَ عليهم، مع اختلافٍ في الصِّفة والمقدار؟ ما الذي كُتِبَ عليهم؟ تفاصيل الصّوم المشروع بالنسبة إليهم، أو أنَّ التَّشبيه في كل شيءٍ، حتى في الصِّفة وعدد الأيام؟ فهذا فيه كلامٌ لأهل العلم.

    والمقصود أنَّ هؤلاء يقولون: إنَّ التَّشبيه في أصل الصَّلاة، لا في قدرها، وكيفيتها، وكثرتها، ونحو ذلك، الله صلَّى على إبراهيم ﷺ، فالمطلوب أن يُصلِّي على النبي ﷺ كما أنَّه صلَّى على إبراهيم، لكن المقدار لم يتعرّض له.

    هذا جوابٌ له وجهٌ: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء:163]، يعني: هنا التَّشبيه: كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ في أصل الإيحاء، لكن في مقداره وفي شرفه يتفاوت، يختلف.

    وهكذا في أمثلةٍ كثيرةٍ لا تخفى، ومن أوضح ذلك ما قال اللهُ -تبارك وتعالى-: وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص:77]، الإنسان إذا أحسن هنا على أساس أنَّ الكاف ليست للتَّعليل، وإنما للتَّشبيه، هل إحسان الإنسان يكون كإحسان الله إليه؟ أبدًا، ولا في نعمةٍ واحدةٍ على هذا المعنى، وإنما المقصود في أصل الإحسان.

    وبعضهم يقول: إنَّ الكاف للتَّعليل: لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [الحج:37]، يعني: على هدايتكم؛ لأنَّه هداكم، تُكبِّروا كما هداكم، وهنا: كما صليتَ على إبراهيم، تقول لصاحبك: افعل لي كذا، كما أنَّك فعلتَ لزيدٍ كذا. يعني: للتَّعليل؛ يعني: لأنَّك فعلتَ، كما أنَّك فعلتَ كذا، افعل كذا. تكون الكاف للتَّعليل، وهو أحد المعاني في قوله: وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ أنَّ الكافَ للتَّعليل؛ يعني: لكون الله أحسن إليك؛ لأنَّ الله أحسن إليك.

    وبعضهم يقول: إنَّ التَّشبيه: كما صليتَ على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم[8].

    بعضهم يقول: هذا مُتعلِّقٌ بقوله: وعلى آل إبراهيم.

    وظاهر الرِّواية بذكر إبراهيم ﷺ يردّه؛ يعني: يقولون: إنَّ التَّشبيه مُتعلِّقٌ بقوله: وعلى آل محمد، أنَّ صلاةَ الرب -تبارك وتعالى- المطلوبة: كما صليتَ على إبراهيم، المطلوبة: على آل محمدٍ كما صليتَ على إبراهيم، فإبراهيم ﷺ أفضل من آل محمدٍ؛ يعني: من غير رسول الله ﷺ، لكن هذا ظاهر اللَّفظ يردّه.

    وبعضهم يقول: إنَّ التَّشبيه هنا باعتبار المجموع الذي يُقابل المجموع، ما هو المجموع؟

    إبراهيم، وآل إبراهيم أنبياء لا يُحصيهم إلا الله، فبهذا الاعتبار هذه الكثرة الكبيرة: آل إبراهيم أنبياء، وخلق كثير، محمد، وآل محمد؛ يعني: ليس إبراهيم ومحمد، وإنما مجموع آل إبراهيم -عليه الصَّلاة والسَّلام-، وآل محمدٍ -عليه الصَّلاة والسَّلام-، فمحمد ﷺ- ليس من نسله نبيّ، وليس بعده نبيّ، إبراهيم جاء من نسله أنبياء كثر، من كبارهم موسى ﷺ، هذا فضلاً عن إسحاق، ويعقوب، وإسماعيل، وغير هؤلاء -عليهم الصَّلاة والسَّلام-، فبعضهم يقول: هذا باعتبار الآل. وهذا أيضًا فيه نظرٌ، والله تعالى أعلم.

    وبعضهم يقول: إنَّ قوله: اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما صليتَ على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم[9]، من آل إبراهيم محمدٌ ﷺ، فهو من نسله، ومن ذُريته، فهو من آله إذًا، فيكون ذلك مجموعًا إلى صلاته على إبراهيم، وعلى آله الذين منهم نبينا ﷺ، فيكون ذلك مُضاعفًا في الكثرة؛ يعني: مما طُلب للنبي ﷺ.

    وهذا له وجهٌ، هذا المعنى أنَّه طلب أن يُصلي اللهُ على نبيِّه ﷺ وآله، كما صلَّى على إبراهيم وآله، ومن آل إبراهيم محمد ﷺ، فيكون المطلوبُ إضافةَ صلاةٍ على محمدٍ ﷺ وآله زيادة على الصَّلاة على إبراهيم وآله التي هي واقعة ولاحقة للنبي ﷺ؛ لأنَّه من آل إبراهيم، هو داخلٌ في آل إبراهيم؛ لأنَّه من ذُرية إسماعيل، فجدّه إبراهيم -عليهم الصَّلاة والسَّلام-، فطلب له قدرًا زائدًا على ما يكون لإبراهيم، فيكون ذلك مُضاعفًا.

    وبعضهم يقول غير ذلك: بأنَّ التَّشبيه يكون بما هو أكمل، ويكون بما هو مُساوٍ، ويكون بما هو أقلّ، الله  قال: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ [النور:35]، ولا شكَّ أنَّ نوره الذي هو هُداه في قلب المؤمن أعظم من المشكاة التي فيها مصباح، لكن الأمثال تُضرب للتَّقريب، فشبَّهه بمشكاةٍ فيها مصباح، والمشبّه أعظم من المشبّه به، فقالوا: لا يلزم إذا قال: كما صليتَ على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم[10] أن يكون إبراهيمُ أفضل لوجود التَّشبيه، وأنَّ المشبّه به أفضل، قالوا: نحن ما نُسلم بأصل هذه المقدّمة، لا يلزم أن يكون المشبّه به أفضل وأكمل من المشبّه.

    والذي لعله يكون أقرب -والله أعلم-: أنَّ الله -تبارك وتعالى- صلَّى على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، ومنهم محمد ﷺ، فهو من آله، فطلب للنبي ﷺ صلاة تنضاف إلى تلك الصَّلاة التي هي لاحقة له؛ لأنَّه من آل إبراهيم، فيكون ما حلَّ بإبراهيم وحصل له من هذه الصَّلاة، ما لحق إبراهيم ﷺ من تلك الصَّلاة على آل إبراهيم يكون حاصلاً للنبي ﷺ وزيادة؛ لأنَّه طلب له مثل الصَّلاة على إبراهيم وآله، وزيادة صلاة، فيكون قد حصل ذلك وزاد عليه.

    إنَّك حميدٌ مجيدٌ "الحميد" هنا عامَّة أهل العلم أنَّ "الحميد" هنا بمعنى: محمود؛ لأنَّ فعيل يأتي بمعنى: فاعل؛ يعني: حامد، ويأتي بمعنى: مفعول؛ يعني: محمود، فالعلماء هنا في هذا الموضع يكادون أن يُطبقوا على أنَّ "حميدًا" بمعنى: محمود، إنَّك حميدٌ يعني: محمود، محمود في ذاته، وصفاته، وأفعاله بألسنة خلقه.

    لكن لو فُسِّر بمعنى أنَّه حامدٌ، أنَّه يحمد ذاته وأولياءه، فهو حميدٌ، وحامدٌ، هذا من حيث أصل اللَّفظ في الاحتمال الذي يحتمله، ولكن العلماء مع أنَّ منهم مَن ذكر هذا احتمالاً، إلا أنَّهم كادوا أن يُجمعوا على أنَّ "حميدًا" هنا الذي هو من أسماء الله  "الحميد" أنَّه بمعنى: المحمود، وليس الحامد.

    وقد مضى الكلامُ على "المجيد" في أسماء الله -تبارك وتعالى-، وأنَّ من أهل العلم مَن فسَّره بالكريم، ومَن فسَّره بالعظيم، إلى غير ذلك.

    وذكرنا أنَّ المجدَ يدل على سعة وكثرة أوصاف الكمال، فكلّ ذلك مُتحققٌ للربِّ -تبارك وتعالى.

    ويقول أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله- في تفسير: إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، يقول: إنَّ الله محمودٌ في تفضّله عليكم بما تفضّل به من النِّعَم عليكم وعلى سائر خلقه، "مجيد" يقول: ذو مجدٍ، ومدحٍ، وثناءٍ كريم[11].

    كذلك الحافظ ابن كثير -رحمه الله- قال: حميدٌ في جميع أفعاله وأقواله، محمودٌ، مُمجدٌ في صفاته وذاته[12].

    والشيخ عبدالرحمن بن سعدي -رحمه الله- يقول: المجيد: الكبير، العظيم، الجليل، والموصوف بصفات المجد والكِبرياء والعظمة والجلال[13].

    وذكرنا هناك أنَّ ذلك يدلّ على السّعة والكثرة؛ ولهذا الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- حينما تكلّم على هذين الاسمين توسَّع في ذلك، وذكر كلامًا في غاية الأهميّة[14]، لكن الوقت الآن انتهى؛ فأتوقف -إن شاء الله تعالى- وأُكمل في الليلة الآتية، والله أعلم.

    وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
    ------------------------------------

    ##################################################

    الصلاة على النبي بعد التشهد

    " ... إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آله محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد"



    الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

    أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

    لم يزل الحديثُ متَّصلاً في الكلام على الصَّلاة على النبي ﷺ التي نقولها بعد التَّشهد، وكان آخر ما كنا نتحدَّث عنه في الليلة الماضية هو ما يتعلَّق بختم ذلك بهذين الاسمين الكريمين: الحميد، والمجيد: إنَّك حميدٌ مجيدٌ[1]، وقلنا: إنَّ الحميدَ هنا بمعنى: المحمود، وهذا الذي عليه عامَّةُ أهل العلم، وهو من الحمد.

    والحافظ ابن القيم -رحمه الله- يذكر أنَّ أكثر ما يأتي على هذه الزِّنَة؛ يعني: فعيل في أسماء الله -تبارك وتعالى- فإنَّه يكون بمعنى: فاعل، "سميع" بمعنى: سامع، و"بصير" يعني: مُبصر، و"عليم" بمعنى: عالم، و"قدير" بمعنى: قادر، وهكذا أيضًا: العلي، والحكيم، والحليم، وهذا كثيرٌ، وهكذا ما كان من قبيل أو على زنة "فعول": كالغفور، والشَّكور، والصَّبور؛ بمعنى: الغافر، والشَّاكر، والصَّابر[2].

    أمَّا "الحميد" فالحافظ ابن القيم -رحمه الله- يجزم بأنَّه لم يأتِ إلا بمعنى المحمود، والحميد أبلغ من المحمود؛ لأنَّها صيغة مُبالغة[3]، فذلك يدلّ على كثرة الحمد، لا سيّما أنَّ فعيلاً إذا عُدل به عن مفعول: حميد ومحمود، محمود على وزن: مفعول، فعُدل به عن مفعول إلى فعيل، فإنَّ ذلك يدلّ على أنَّ تلك الصِّفة قد صارت كالسَّجيَّة، والغريزة، والخلق اللَّازم، تقول: فلان كريم، فلان شريف، فلان ظريف. فهنا يكون ذلك سجيَّةً له، فهو يقول: إنَّ هذا من أبنية الغرائز؛ يعني: ما كان على وزن فعيل، أن تكون الصِّفةُ راسخةً، ثابتةً.

    وأيضًا يذكر -رحمه الله- أنَّ الحميد هو مَن له من الصِّفات وأسباب الحمد ما يقتضي أن يكون محمودًا، وإن لم يحمده غيره؛ يعني: فالله -تبارك وتعالى- حميدٌ؛ بمعنى: محمود، وإن لم يحمده أحدٌ من الخلق، فهو حميدٌ في نفسه بما له من الأوصاف الكاملة، له الكمال المطلق في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، أمَّا المحمود فهو مَن تعلَّق به حمدُ الحامدين.

    كذلك أيضًا "المجيد" ونحو ذلك، كلّ هذا يدلّ على المبالغة، وذكر أنَّ "الحمدَ والمجدَ" يرجع إليهما الكمال كلّه، إلى هذين الاسمين المتضمنين لصفة الحمد والمجد، وذلك أنَّ الحمدَ يستلزم الثَّناء والمحبَّة للمحمود، فمَن أحببتَه ولم تُثْنِ عليه؛ لم تكن حامدًا له حتى تكون مُثنيًا عليه، محبًّا له، وهذا الثَّناءُ والحبُّ تبعٌ للأسباب المقتضية له، وهو ما عليه المحمود من صفات الكمال، ونعوت الجلال، مع الإحسان إلى الغير.

    يقول: فإنَّ هذه هي أسباب المحبَّة، وكلَّما كانت هذه الصِّفات أجمع وأكمل؛ كان الحمدُ والحبُّ أتمّ وأعظم، والله -تبارك وتعالى- له الكمال المطلق الذي لا نقصَ فيه بوجهٍ من الوجوه، فالإحسان كلّه له، وهو منه -تبارك وتعالى-، فالله أحقّ بكلِّ حمدٍ، وبكل حبٍّ، من كل جهةٍ، فهو أهلٌ أن يُحبَّ لذاته، ولصفاته، ولأفعاله، ولأسمائه، ولإحسانه -تبارك وتعالى-، ولكلّ ما يصدر عنه.

    وأمَّا المجد فذكر أنَّه مُستلزمٌ للعظمة، والسّعة، والجلال، والحمد يدلّ على صفات الإكرام، والله -تبارك وتعالى- ذو الجلال والإكرام، يقول: ولهذا يقرن -تبارك وتعالى- بين هذين النَّوعين كثيرًا في القرآن: إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، إلى غير ذلك من الآيات[4].

    ثم يذكر أنَّه لما كانت الصلاةُ على النبي ﷺ هي ثناء الله تعالى عليه، وتكريمه، والتَّنويه به، ورفع ذكره، وزيادة حبِّه وتقريبه -كما تقدّم-؛ كانت مُشتملةً على الحمد والمجد، فكأنَّ المصلي طلب من الله تعالى أن يزيد في حمده ومجده، فإنَّ الصلاةَ عليه هي نوع حمدٍ له وتمجيد، هذه حقيقتها، فذكر في هذا المطلوب الاسمين المناسبين له، وهما اسم: الحميد، والمجيد، فختم هذا بهما، هذه الصَّلاة على النبي ﷺ.

    ولما كان المطلوبُ للنبي ﷺ الحمد والمجد بصلاة الله عليه؛ ختم هذا السؤال بهذين الاسمين: الحميد، والمجيد؛ من أجل أنَّ الدعاءَ يكون بأسماء الله -تبارك وتعالى- في كل مقامٍ بما يليق به، هذا بالإضافة إلى أنَّه لما كان المطلوبُ للنبي ﷺ الحمد والمجد، وكان ذلك حاصلاً له؛ ختم ذلك بالإخبار عن ثبوت ذينك الوصفين للربِّ بطريق الأولى، فالنبي ﷺ لا شكَّ أنَّه محمودٌ، وله من صفات المجد ما هو معلومٌ، فالله أولى بذلك، فجاء وصفُ الله -تبارك وتعالى- في ختم هذه الصَّلاة على النبي ﷺ بأنَّه حميدٌ مجيدٌ، فهو الأحقّ بأوصاف الكمال؛ لأنَّه مانحها، وواهبها، ومُعطيها، ومُسديها.

    وكذلك أيضًا لما طلب للنبيّ ﷺ الحمد والمجد بالصَّلاة عليه، وذلك يستلزم الثَّناء عليه؛ ختم هذا المطلوب بالثَّناء على مُرسله بالحمد والمجد، فقلنا: "إنَّك"؛ أي: يا الله، "حميد، مجيد"، فيكون هذا الدُّعاء مُتضمنًا لطلب الحمد والمجد للنبي ﷺ، والإخبار عن ثبوته للربِّ -تبارك وتعالى-، كما قال الحافظُ ابن القيم في النُّونية:
    وهو المجيد صفاته أوصاف تعـ ظيمٍ فشأن الوصف أعظم شان[5]

    ثم يقول: "اللهم بارك على محمدٍ"، نحن عرفنا معنى البركة، فهي تدلّ على كثرة الخير، ونمائه، ودوامه، واستمراره، وهنا "اللهم بارك على محمدٍ"؛ يعني: دُعاء له بكثرة الخير، والتَّشريف، والعطاء الذي أعطاه الله  إياه من كراماته لنبيِّه ﷺ في الدنيا والآخرة، وأن يكون ذلك دائمًا، فإنَّ أصلَ هذه المادة كما ذكرنا يدل على الثُّبوت؛ ولهذا يُقال: برك البعيرُ؛ يعني: إذا أناخ في موضعه ولزمه، كما أنَّها تدل على الزِّيادة.

    نقول: "اللهم بارك على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ"، عرفنا معنى "الآل": "كما باركتَ على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم"، وصحَّ عند مسلمٍ وغيره زيادة: في العالمين[6]، يعني: أظهر الصَّلاة والبركة على محمدٍ ﷺ وعلى آله في العالمين، كما أظهرتهما على إبراهيم وآله في العالمين.

    ولهذا فإنَّ ما ذكرناه في الليلة الماضية من الكلام على وجه التَّشبيه في الصَّلاة المطلوبة للنبي ﷺ كما صلَّى اللهُ على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، قلنا: هذا يرد عليه سؤالٌ ذكرناه، وذكرنا الجوابَ عنه.

    فبعض أهل العلم كان من أجوبتهم: أن لاحظوا هذه الزِّيادة في الرِّواية، فقالوا: المطلوب لما كان ما أُعطي إبراهيم ﷺ مُشتهرًا، معلومًا، ذائعًا، معروفًا عند العالمين، عند الأمم، وهذه الأمم تُقرّ بمنزلته وقدره، وما أعطاه الله وحباه؛ طُلب مثل ذلك في الاشتهار للنبيِّ ﷺ وآله.

    هذا جوابٌ ذكره بعضُ أهل العلم، يُؤخذ من هذه الزيادة، أو أخذوه من هذه الزيادة.

    هذا ما يتعلّق بهذه الصَّلاة على النبي ﷺ.

    بعد ذلك أورد المؤلفُ حديثَ أبي حميدٍ السَّاعدي الذي أشرتُ إليه في ثنايا الكلام على حديثنا هذا؛ وذلك أنهم قالوا: يا رسول الله، كيف نُصلِّي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ كما صليتَ على آل إبراهيم، وبارك على محمدٍ، وعلى أزواجه وذُريته كما باركتَ على آل إبراهيم، إنَّك حميدٌ مجيدٌ. هذا مُخرَّجٌ في "الصحيحين"، واللفظ لمسلمٍ، هذه صيغة من صيغ الصَّلاة على النبي ﷺ بعد التَّشهد.

    هذه الصِّيغة هل يُقال بأنَّ ذلك يمكن أن يُجمع مع ما قبله، ومع غيره من الصِّيغ الصَّحيحة الثابتة، فيُركّب من الجميع صيغة متَّحدة مع جميع الزِّيادات؟

    الجواب: لا؛ لأنَّ هذا ليس من قبيل اختلاف الرِّوايات، وإنما هي صيغٌ قالها النبيُّ ﷺ في أحوالٍ وأوقاتٍ شتَّى؛ يعني: قالها النبيُّ ﷺ أو علَّمهم النبيُّ ﷺ في مقاماتٍ: قولوا كذا، فتارةً قال لهم هذا، وتارةً قال لهم الآخر، فعندها يُقال: إنَّ المشروع هو أن يُنوِّع المصلِّي: فتارةً يأتي بهذا، وتارةً يأتي بهذا، وتارةً يأتي بهذا.

    أما خارج الصَّلاة فإنَّ الله -تبارك وتعالى- حينما أمر عباده: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، لو أنَّ الإنسان قال: "اللهم صلِّ وسلِّم على نبينا محمدٍ وعلى آله" مثلاً، "اللهم صلِّ على محمدٍ"؛ فإنَّ ذلك يُجزئه، فيكون قد صلَّى على النبي ﷺ، والنبي ﷺ يقول: البخيلُ مَن ذُكِرْتُ عنده فلم يُصلِّ عليَّ[7]، فنحن مأمورون بهذا، فلو قال: "صلَّى الله عليه وسلَّم" إذا سمع ذكره، أو المتكلم حينما يذكر النبيَّ ﷺ يقول: "صلَّى الله عليه وعلى آله وسلّم"، أو نحو ذلك؛ فهذا يُجزئه، فإن قال: "صلَّى الله عليه وسلَّم" أجزأ، فإن ذكر الآل فهو أكمل؛ لأنَّ النبي ﷺ ذكره فيما علَّم أصحابَه، لكن أكمل من ذلك كلّه مثلاً في ليلة الجمعة ويوم الجمعة أُمرنا بالصَّلاة على النبي ﷺ على وجه الخصوص؛ يعني: يكون ذلك أكثر.

    فهنا لو أنَّه يُردد ويقول: "اللهم صلِّ على محمدٍ، اللهم صلِّ على محمدٍ"، ونحو ذلك، "اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آله"، أو "على آل محمدٍ"؛ فهذا يُجزئ، لكن الأكمل أن يأتي بمثل هذه الصِّيغ الكاملة التي علَّمها النبيُّ ﷺ أصحابَه، فيُرددها، مثلما يُقال مثلاً في الاستغفار، لو قال: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله. هذا تحقق الاستغفار، ولكن لو أنَّه قال سيد الاستغفار، جاء به كاملاً، فهذا أكمل، وهكذا.

    فهناك صِيغ مُجزئة، وهناك صيغ كاملة، فهنا في هذا الحديث مضى الكلامُ على أجزاءٍ منه أثناء الحديث عن حديثنا السَّابق، هنا قالوا للنبي ﷺ: يا رسول الله، كيف نُصلِّي عليك؟ ذكرنا أنَّه جاء بإسنادٍ جيدٍ، كما قال الحافظُ ابن حجر -رحمه الله-، سبب هذا السُّؤال وهو أنَّه لما نزلت: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا، سألوا، قالوا: يا رسول الله، هذا السَّلام عليك قد علمنا ما هو، فكيف تأمرنا أن نُصلِّي عليك؟ فقال رسولُ الله ﷺ: قولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ[8]، يعني: "اللهم" عرفنا أنَّه: يا الله، وأنَّ الميم عِوض عن الياء، ياء النِّداء: يا الله، وأنَّهما لا يجتمعان، وبعضهم يقول: الميم هذه زائدة للتَّفخيم. وبعضهم يقول: تدلّ على الجمع؛ يعني: يا مَن اجتمعت له الأسماء الحسنى، والكمالات، يا الله، اللهم. هكذا قال بعضُهم.

    وعلى كل حالٍ، اللهم صلِّ على محمدٍ، محمدٌ ﷺ عرفنا معنى الصَّلاة عليه، وهذا الاسم من أسمائه، بل هو أشهر أسمائه -عليه الصَّلاة والسلام-، وفي القرآن سورةٌ بهذا الاسم؛ سورة محمدٍ ﷺ، وهذا الاسم وغيره من أسماء النبي ﷺ هي ليست مجرد أعلام كأسمائنا، أسماؤنا مجرد أعلام، لا تدلّ على أوصافٍ ثابتةٍ لنا، فقد يُسمَّى الإنسانُ: صالحًا، ولا يكون كذلك، وقد يُسمَّى: شجاعًا، وليس كذلك، وقد يُسمَّى: سعيدًا، وليس كذلك، فأسماؤنا مجرد أعلامٍ نتعارف بها فقط، يُنادى بها الإنسان.

    أمَّا أسماء الله ، وأسماء الرسول ﷺ، وأسماء القرآن، هذه الثلاثة فإنَّها أعلام مُتضمنة لأوصافٍ، أسماء الله هذا واضحٌ، وأسماء القرآن كذلك أيضًا: الفرقان؛ لأنَّه يُفرِّق بين الحقِّ والباطل، وأسماء النبي ﷺ كذلك؛ لأنَّه -عليه الصَّلاة والسلام- لما ذكر أسماءه، وذكر الحاشر، والعاقب.. إلى آخره بيَّن وجهَ ذلك، وما تضمّنه من المعنى.

    فهنا اسمه ﷺ هذا الاسم المشهور: محمد، هذا من الحمد، يُقال في كتب السِّيرة: إنَّ الذي سمَّاه به هو جدّه عبدالمطلب، محمد، فهو يُحمد كثيرًا، فالنبي ﷺ محمودٌ بين الخلائق، ويذكر أهلُ السِّير البيتَ المشهور الذي ينسبونه لأبي طالب جدّ النبي ﷺ:
    وشقَّ له من اسمه ليُجلّه فذو العرش محمودٌ وهذا محمَّد[9]

    مع أنَّ هذا البيتَ هو ضمن قصيدة لحسان بن ثابت  يمدح النبيَّ ، فيحتمل أنَّه وقع توافقٌ، ويحتمل أنَّ حسان بن ثابت ضمَّن هذا البيت في قصيدته، وهو من قول أبي طالب، ويحتمل أنَّه لحسان أصلاً، وليس لأبي طالب -فالله أعلم-، وهذا لا يترتب عليه كبيرُ أثرٍ.

    فهنا الله -تبارك وتعالى- جمع للنبي ﷺ من المحامد وصفات الحمد ما لم يجمعه لغيره، فهو الذي بيده لواء الحمد، وصاحب المقام المحمود الذي يحمده عليه الأوَّلون والآخرون، وكذلك يُلهمه الله -تبارك وتعالى- عندما يسجد تحت العرش للشَّفاعة من مجامع الحمد مما لا يُحسنه قبل ذلك -عليه الصَّلاة والسلام- كما أخبر.

    وكذلك أيضًا سُميت هذه الأُمَّة بالحمادين؛ لحمدهم على السَّراء والضَّراء: اللهم صلِّ على محمدٍ، ونقول: كما صليتَ على آل إبراهيم. وهذا مضى الكلامُ عليه، "وبارك على محمدٍ"، كلّ هذا مضى الكلامُ عليه، وعلى أزواجه، وذُريته، كما باركتَ على آل إبراهيم، إنَّك حميد مجيد.

    هنا الأزواج والذُّرية: أزواج جمع زوجٍ، والمرأة -كما ذكرنا في مناسبةٍ سابقةٍ- أنَّه الأفصح والأشهر، أنَّه يُقال لها: زوج، وليس زوجة، هذا هو الأشهر، وهو الذي ورد في القرآن، ولم يرد سواه؛ يعني: ما ورد "زوجة" في القرآن، "زوجة" بالهاء: أَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء:90]؛ يعني: زوجته، فالتي قالت للنبيِّ ﷺ: "يا رسول الله، صلِّ عليَّ وعلى زوجي"، هنا تقصد زوجها، فالرجل يُقال له: زوج، والمرأة يُقال لها: زوج، فقال النبي ﷺ: صلَّى اللهُ عليكِ وعلى زوجك[10].

    هذا هو المستعمل في القرآن، المرأة يُقال لها: زوج، والرجل يُقال له: زوج، ولكن "زوجة" لا يُقال، إنَّه لحنٌ، ولكنَّها لغةٌ قليلةٌ، وبعضهم يقول: ضعيفة؛ يعني: هي فصيحة، لكنَّها ليست كزوجٍ، فالقرآن جاء بالأفصح.

    ومما يدلّ على أنها لغة قول الفرزدق، وهو شاعر ممن يُحتجّ بشعره؛ لأنَّه في زمن الاحتجاج:
    فإنَّ الذي يسعى ليُفسد زوجتي عليَّ كساعٍ إلى أُسْدِ الشَّرى يستبيلها[11]

    قال: "زوجتي"، فهذا يدلّ على أنَّه استعمالٌ صحيحٌ، وصار هذا هو الشَّائع اليوم، مع أنَّ الأفصح هو ما جاء في القرآن، وما عليه كلام العرب في الأعمِّ الأغلب: أزواج النبي ﷺ وذُريته، الذُّرية هم الأولاد، وأولاد الأولاد، وما تناسل منهم، نسل الإنسان، وهل يدخل فيهم أولاد البنات، أو لا؟

    بعض أهل العلم يقولون: يدخلون فيهم. الحافظ ابن حجر يقول: أولاد الأبناء والبنات كلّهم يدخلون في ذلك[12].

    وهذه المسألة فيها كلامٌ معروفٌ لأهل العلم، ولكن أولاد فاطمة -رضي الله تعالى عنها ورضي عنهم أجمعين- الحسن، والحسين، هم من أولاد النبي ﷺ.

    والحجاج بن يوسف لما بلغه أنَّ أبا عمرو ابن العلاء -وهو إمامٌ في اللغة، وإمامٌ في القراءات- يقول: إنَّ الحسن والحسين أبناء النبي ﷺ، قال: إمَّا أن تُثبت هذا، وإلا لأفعلنَّ بك. توعَّده، فبماذا احتجَّ؟ احتجَّ بآيةٍ من القرآن، لما ذكر اللهُ  إبراهيم  قال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ إلى أن قال: وَعِيسَى [الأنعام:84-85]، فعيسى ولد بنتٍ، واضح؟ فهو من ذُرية إبراهيم بنصِّ القرآن.

    الحجَّاج لما بلغه عن أبي عمرو ابن العلاء أنَّه يقول: إنَّ الحسن والحسين من ذُرية النبي ﷺ. قال: أثبت، وإلا. توعَّده، فاحتجَّ عليه بهذه من القرآن[13].

    وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ قيل: الضَّمير يرجع إلى نوحٍ. وقيل: يرجع إلى إبراهيم.

    المقصود أنَّه عدَّه من ذُريته، وهو ولد بنتٍ، الذي هو عيسى  ابن مريم، ونسبها يرجع إلى إسحاق بن إبراهيم -عليهم السَّلام-.

    وأمَّا قول الشَّاعر:
    بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهُنَّ أبناء الرِّجال الأباعد[14]

    فهذا قول شاعرٍ ليس بوحيٍ، قول قائلٍ مجهول، ولا عبرةَ به.

    وعند أبي حنيفة وجماعة أنَّه لا يدخل فيه أولاد البنات، إلا أولاد بنات النبي ﷺ؛ لأنهم يُنسبون إليه في الكفاءة وغيرها، والمقصود هنا أولاد فاطمة -رضي الله عنها-، وكذا من غيرها من بناته، لكن بعضهنَّ لم يعقب كما هو معلومٌ، وبعضهنَّ انقطع عقبها.

    فالمقصود أنَّ ذُريته يدخل فيهم الحسن والحسين بلا شكٍّ -رضي الله عن الجميع- ومَن تناسل منهم.

    "كما صليتَ على إبراهيم"، وقلنا: إنَّ ذاك يعني: وأزواجه وذُريته هو بمنزلةٍ، "وعلى آل محمدٍ"، وقد فسَّرنا هذه الجملة، وقلنا: إنها وُضعت موضعها، "كما صليتَ على إبراهيم"، هكذا في بعض النُّسَخ، وفي بعضها: "كما صليتَ على آل إبراهيم".

    وهنا ذكرنا السّؤال السَّابق، وكلام أهل العلم فيه، في الجواب عن وجه التَّشبيه، ومما يُذكر في هذا الباب ما أجاب به القاضي عياض: بأنَّ الآل مُقحم، كما في قوله -عليه الصلاة والسلام- لأبي موسى: إنَّه أُعطي مزمارًا من مزامير آل داود، والمقصود مزامير داود[15]، هذا ذكرناه بالأمس: أنَّ الآل ولو لم يقل: إنَّه مُقحم، فإنَّ الآل يدخل فيهم الرجل نفسه: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، فهو فرعون ومَن معه؛ لأنَّه هو الأصل المقصود، فالنبي ﷺ هو الأصل المقصود في الصَّلاة.

    وهكذا حينما نقول: "وعلى آل إبراهيم"، طيِّب، وإبراهيم  بناءً على هذه الرِّواية: "وعلى آل إبراهيم"، لم يذكر إبراهيم ، فيُقال: هو داخلٌ في ذلك، وأنَّ آله تبعٌ له.

    "بارك" يعني: زدْ في البركة والخير، كما قلنا الكثير على آل محمدٍ وأزواجه وذُريته: "كما باركتَ على آل إبراهيم".

    الحافظ ابن القيم -رحمه الله- أجاب عن السؤال الذي أشرتُ إليه بجوابٍ، وهو من جملة ما ذكرتُه سابقًا، لكن لمعرفة قوله -رحمه الله-، فهو يرى أنَّ الأحسن أن يُقال: بأنَّه ﷺ من آل إبراهيم، وأنَّه قد ثبت ذلك عن ابن عباسٍ في تفسير قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:33]، قال: محمدٌ من آل إبراهيم.

    يقول ابنُ القيم: فكأنَّه أمرنا أن نُصلِّي على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، خصوصًا بقدر ما صلّينا عليه مع إبراهيم وآل إبراهيم عمومًا[16]، يعني: نكون طلبنا صلاةً عليه، بالإضافة إلى صلاةٍ أخرى كصلاته -تبارك وتعالى- على إبراهيم، فيحصل لآله ما يليق بهم، ويبقى الباقي كلّه له ﷺ، وذلك القدر أزيد مما لغيره من آل إبراهيم؛ يعني: أنَّ المطلوبَ للنبي ﷺ أكثر وأفضل مما لإبراهيم .

    هذا والله تعالى أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
    ما زلنا أحبابي .... تابعونا جزاكم الله خيرا ... ولا تنسونا من صالح دعائكم



    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5188
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    (4) أدعيه السجود.. دعاء السجود " سبحان ربي الأعلى "  Empty رد: (4) أدعيه السجود.. دعاء السجود " سبحان ربي الأعلى "

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس مايو 05, 2022 3:20 pm

    الدعاء بعد التشهد الأخير قبل السلام

    " اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب جهنم ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال"



    الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

    أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    في هذه الليلة نتحدَّث -إن شاء الله- عمَّا جاء من الدُّعاء بعد التَّشهد الأخير قبل السَّلام، فأول ما ذكره المؤلفُ ما جاء من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: كان رسولُ الله ﷺ يدعو ويقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدَّجال[1]، هذه الأربع: عذاب القبر، وعذاب النار، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدَّجال.

    والحديث مُخرَّجٌ في "الصَّحيحين".

    فهذا اللَّفظ: أنَّ النبي ﷺ كان يدعو ويقول: اللهم إني أعوذ بك، وجاء في بعض ألفاظه: وإذا فرغ أحدُكم من التَّشهد الآخر فليتعوّذ بالله[2]، فهذا أمرٌ، فيتعوذ هنا فعل مضارع، دخلت عليه لامُ الأمر، وهذه إحدى الصِّيغ المعروفة للأمر.

    وجاء من حديث ابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-، وهو أيضًا مُخرَّجٌ في "الصَّحيحين": أنَّ النبي ﷺ كان يُعلِّمهم هذا الدُّعاء كما يُعلِّمهم السُّورة من القرآن، يقول: قولوا: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدَّجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات[3]، فهذا فيه الاستعاذة من هذه الأربع أيضًا، لكن مع تقديمٍ وتأخيرٍ ومُغايرةٍ يسيرةٍ في اللَّفظ: من عذاب جهنم، من عذاب النَّار.

    فكون النبي ﷺ يأمر بذلك، وأيضًا هنا يُعلِّمهم هذا الدُّعاء كما يُعلِّمهم السُّورة من القرآن، كلّ ذلك يدلّ على تأكُّده، وأنَّ ذلك مما ينبغي أن يُحافظ المصلِّي عليه.

    وقد جاء عن طاووسٍ، كما في "صحيح مسلم" بعد أن أورد هذا الحديث: بأن طاووس بن كيسان قد أمر ابنَه بإعادة الصَّلاة حينما ترك هذا الدُّعاء، أمره بالإعادة[4].

    ولهذا فقد ذهب بعضُ أهل العلم إلى وجوب الاستعاذة من الأربع بعد الفراغ من التَّشهد[5]والصَّلاة على النبي ﷺ، وهو رواية عن الإمام أحمد، ولكن المشهور الذي عليه الجمهور[6]-ومنهم الأئمة الأربعة- أنَّ ذلك من قبيل المستحبّ، ولكن مثل هذه العبارات في الحديث -كما رأيتُم- من الأمر به، وتأكيد النبي ﷺ عليه؛ هذا يدعو المؤمن المصلِّي إلى التَّمسك به، والمحافظة على هذا الدُّعاء.

    فالقول بأنَّه واجبٌ قولٌ قريبٌ، وهو مُقتضى الصناعة الأصولية: أنَّ الأمر للوجوب، ولكن الجرأة على هذا لا تخلو من إشكالٍ؛ لقول السَّواد الأعظم من أهل العلم، ومنهم الأئمّة الأربعة، فيُقال: ينبغي الحرص والمحافظة، وألا يدع المسلمُ مثلَ هذا، هذا هو القدر الذي نحتاج إليه، وكلام طاووس يمكن أن يُقال: هذا اجتهادٌ له، مع أنَّ الكثيرين من أهل العلم قد وجَّهوا ذلك بتوجيهاتٍ؛ يعني: حملوه على محامل، باعتبار أنَّه لا يرى الوجوب، وذلك من عند أنفسهم؛ يعني: هم اجتهدوا في بيان محامل لما صنعه طاووس -رحمه الله-، قالوا: لعله قصد بذلك التَّأديب؛ لأنَّه في مقام التَّعليم؛ تعليم الولد، فأمره أن يُعيد هذه الصَّلاة.

    لكن مهما كان، هذه قضية شرعيّة، الصّلاة إذا وقعت على وجهٍ صحيحٍ؛ فإنَّه لا موضعَ للإعادة، إنما الذي يُعاد ما كان غير مُجزئٍ؛ يعني: ما كان واقعًا على صورةٍ صحيحةٍ، ولو كان فيه ما كان من النَّقص، فإنَّه لا موضعَ للإعادة؛ لأنَّ الثانية نافلةٌ، الفرض وقع في الأولى، سواء كان هذا في الصَّلاة، أو كان في الحجِّ، أو غير ذلك، إذا وقع على وجهٍ صحيحٍ، ولو كان فيه بعض النَّقص.

    يعني: بعض الناس يقول: أنا صليتُ وما خشعتُ كما ينبغي، أريد أن أُعيد، يُقال: لا، انتهى، هذه الصَّلاة وقعت، ومضت.

    بعض الناس يقول: حججتُ حجّة الإسلام، ولم يكن ذاك الحجّ الذي أتطلع إليه؛ كان معي رُفقة، وكنا نُكثر الضَّحك والمزاح والدُّعابة، وما إلى ذلك، أُريد أن أحجَّ ثانيةً، تكون هي حجّة الإسلام، نقول: لا، هيهات، تلك كانت حجّة الإسلام، وما بعدها يكون نافلةً.

    فهنا هذا الأمر من طاووس يدلّ على أنَّه كان يرى الوجوب، فمهما كان التَّأديب والتَّعليم، فهذه قضيّة شرعيّة -والله تعالى أعلم-.

    فهنا: إذا فرغ أحدُكم من التَّشهد الآخر[7] كما في بعض رواياته، يعني: آخر الصَّلاة؛ يعني: ليس التَّشهد الأول، فإذا كانت الصلاةُ من ركعتين، أو من ثلاثٍ، أو من أربعٍ؛ فإنَّ ذلك يكون في جلوسها الأخير: ففي صلاة الفجر يقول ذلك بعد الصَّلاة على النبي ﷺ، وفي صلاة المغرب والعشاء يكون في التَّشهد الثاني، ولا يقول ذلك في التَّشهد الأول، والتَّشهد الأول مبناه على التَّخفيف كما هو معلومٌ، وإنما يكون موضع الدّعاء قبل الانصراف من الصَّلاة، وفي آخرها، يكون في آخر الصَّلاة قبل السَّلام منها.

    فليتعوَّذ كما في الرِّواية الأولى، وهذا في الرِّواية الثانية، وهذا ظاهره الوجوب؛ يعني: فليستعذ بالله، والاستعاذة والعوذ عرفنا أنَّه بمعنى: الالتجاء والاعتصام بالله -تبارك وتعالى-، يتعوّذ من ماذا؟ يقول: "اللهم إني"، عرفنا معنى: "اللهم"؛ يعني: يا الله: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم في رواية ابن عباسٍ.

    وفي حديث أبي هريرة بدأ بعذاب القبر: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر[8]، والنبي ﷺ أخبر أنَّ هذه الأُمَّة تفتن في قبورها[9]، وأخبر عن عذاب القبر، ومرَّ بقبرين -كما هو معلومٌ- وقال: أما إنَّهما ليُعذَّبان، وما يُعذَّبان في كبيرٍ؛ أمَّا أحدهما فكان يمشي بالنَّميمة، وأمَّا الآخر فكان لا يستتر من بوله[10]، فإذا كان العذابُ واقعًا على هذه الذُّنوب التي يتقالُّها الناس، يرون أنها قليلة، وأنها يسيرة، وهي من مُحقِّرات الذنوب في نظر الكثيرين، فما بالك إذًا بالذُّنوب الكِبار؟ وما بالك بما هو أعظم من ذلك، وهو الإشراك بالله -تبارك وتعالى-؟ والله يقول عن آل فرعون: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح:25]، فالفاء تدلّ على التَّعقيب المباشر، فاستدلَّ به أهلُ العلم على أنَّ ذلك يُقصد به عذاب القبر.

    وكذلك في قوله -تبارك وتعالى- عن آل فرعون: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، فهم يُعرضون على النَّار غدوًّا وعشيًّا، هذا في القبر، والحديث الطَّويل؛ حديث البراء  يدلّ على ذلك أيضًا.

    فالمقصود أنَّه ابتدأ بعذاب القبر، ابتدأ بالأخصِّ، ثم الأعمّ، ثم الأعمّ، فبدأ بهذا التَّدريج: "اللهم إني أعوذ بك"؛ أي: ألتجئ وأعتصم من عذاب القبر، ومن عذاب النار، فعذاب النَّار أعمُّ من عذاب القبر؛ لأنَّ عذابَ النار يكون في القبر، حيث يرى منزله من النار، ويُفتح له نافذة إلى النَّار، ويناله من حرِّها، ومن سمومها، إلى آخره، وكذلك أيضًا في الآخرة، فهذا تعميمٌ بعد تخصيصٍ.

    ثم بعد ذلك ذكر الاستعاذة من فتنة المحيا والممات، فتنة المحيا والممات هذا أيضًا أعمّ من عذاب النار، وعذاب القبر، فهذا يدخل فيه فتنة المحيا: ما يكون في الحياة، وما يكون عند الموت، وما يكون في القبر، وما يكون في المحشر، وما يكون بعد ذلك أيضًا من عذاب النار، أعاذنا الله وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين منها.

    ونُلاحظ هنا أنَّه كرر: "أعوذ"، و"أعوذ بك من فتنة المحيا والممات"، في كلِّ واحدةٍ يُكرر هذه اللَّفظة؛ إظهارًا لعظم موقعها، وأنها حقيقة باستعاذة مُستقلة؛ يعني: كلّ جملةٍ، أو كلّ مُستعاذٍ بالله منه من هذه القضايا يستحقّ أن يُستعاذ بالله منه على سبيل الاستقلال لشدّته وعظيم خطره؛ ولذلك لم يعطف بالواو من غير إعادةٍ لفعل الاستعاذة: "أعوذ بك من فتنة المحيا والممات"، ما فتنة المحيا وفتنة الممات؟

    فتنة المحيا فسَّرها بعضُ أهل العلم بالابتلاء الذي يقع للإنسان مع زوال الصَّبر، الله أخبر أنَّ هذه الحياة هي موضع ابتلاء: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4]، هو الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]، وأخبرنا أنَّه يبلونا أيضًا بالخير والشَّر فتنةً، فهذه الفتنة تكون بالمسارِّ والأمور المحبوبة: بالمال، والولد، واللَّذات، وتكون أيضًا بالمكاره، فالوقوع في الآفات داخلٌ فيه، والإصرار على السَّيئات، ومُعافسة الموبقات، كلّ هذا من فتنة المحيا: التَّعلق بمساخط الله ، بالأمور التي يكرهها، بالأمور التي يسخطها، بالأمور التي تُودي بالعبد إلى عذاب الله -تبارك وتعالى-، كلّ ذلك داخلٌ في فتنة المحيا.

    وفتنة الممات فُسِّر ذلك بسؤال الملكين، وكذلك أيضًا عذاب القبر، ويدخل فيه أيضًا ما ذكره بعضُ أهل العلم من الابتلاء عند النَّزع، كلّ هذا داخلٌ فيه، والعلم عند الله -تبارك وتعالى-.

    بعدما ذكر فتنة المحيا والممات، فتنة المحيا بمعنى: فتنة الحياة، وفتنة الممات يعني: بما يكون بعد الموت، فتنة المحيا بما يكون في أيام حياته من أوَّلها إلى آخرها في دار الابتلاء، فهذه الدُّنيا دار الشَّهوات، دار فتنةٍ، ويكون آخر ذلك عند النَّزع، فعلى أي شيءٍ يموت الإنسانُ؟ وبأيِّ شيءٍ يُختم له؟

    ومن هنا فإنَّ من أهل العلم مَن قال بأنَّ فتنة المحيا والممات، بأنَّ فتنة المحيا يدخل فيها كلّ ما يكون من ذلك الذي قاله أهلُ العلم في حياة الإنسان، وفتنة الممات يدخل فيها كلّ ما قيل من سؤال الملكين، وما يكون عند النزع، وعذاب القبر، وما إلى ذلك، كلّه داخلٌ في فتنة الممات؛ لأنَّ ذلك يقع بعد الموت.

    وأضاف هذه الفتنة إلى المحيا والممات؛ المحيا باعتبار أنَّها واقعة في الحياة، وأمَّا ما يكون في القبر وبعد الموت أضافه إلى الممات؛ لتعلُّقه به، وقُربه منه، فإنَّ ذلك يكون عند الاحتضار، ويكون بعد مُفارقة الروح الجسد من سؤال الملكين، كلّ هذا قريبٌ من موته، فإنَّ الإنسان إذا مات قامت قيامتُه.

    وهنا أيضًا نُلاحظ أنَّه قدَّم عذابَ القبر في هذه الرِّواية على فتنة الدَّجال.

    أجاب بعض أهل العلم على هذا؛ يعني: فتنة الدَّجال واقعة في الحياة، فهي من جملة فتنة المحيا، فبعض أهل العلم قال: باعتبار أنَّ فتنةَ الممات أطولُ من فتنة الدَّجال، أطول من جهة الزمن، وأعظم شأنًا؛ يعني: عذاب القبر مثلاً أعظم شأنًا، وأعظم امتحانًا. هكذا قال بعضُ أهل العلم.

    ثم قال: "وأعوذ بك من فتنة المسيح الدَّجال"، فتنة المسيح الدَّجال يعني: ابتلاء المسيح الدَّجال وامتحانه، فإنَّ ذلك يكون فتنةً واقعةً عظيمةً لمن أدركها؛ ولهذا فإنَّ الله لم يبعث نبيًّا إلا حذَّر أُمَّته الدَّجال[11]، كما أخبر النبي ﷺ؛ وذلك لعظم فتنته، وشدّة خطرها.

    والدَّجال المقصود به: المسيح الذي أخبر عنه النبيُّ ﷺ، والدَّجال يُقال للخدَّاع، والمفسِد، والمضلّ، والمموه الذي يفتن الناس ويصدّهم عن الحقِّ بتمويهاته، وخِداعه، وتضليله، ودجله.

    لماذا سُمِّي بالمسيح؟

    بعض أهل العلم يقول: قيل له ذلك لأنَّ إحدى عينيه ممسوحة؛ يعني: هو فعيل؛ بمعنى: مفعول، مسيح؛ بمعنى: ممسوح؛ يعني: عينه ذاهبة.

    وبعضهم يقول: لأنَّه ممسوحٌ من كل خيرٍ، مُبْعَدٌ عنه، لا خيرَ فيه؛ أو لأنَّ أحد شقّي الوجه خُلق ممسوحًا، لا عينَ فيه، ولا حاجب. وهذا قريبٌ، يرجع إلى القول الأول.

    وبعضهم يقول: إنَّه فعيل؛ بمعنى: فاعل؛ يعني: مسيحٌ؛ بمعنى: ماسح، باعتبار أنَّه يمسح الأرض؛ يعني: يقطعها، يدخل القُرى والمدن، ونحو ذلك في مدةٍ وجيزةٍ، إلا مكّة والمدينة، فإنَّه لا يتمكّن من ذلك.

    وهذا بخلاف عيسى ؛ فإنَّه يُقال له: المسيح.

    وبعضهم يقول: إنَّ أصلَه المسيح باللغة العبرانية، وهو المبارك.

    وبعضهم يقول: لأنَّه خرج من بطون أُمِّه ممسوحًا بالدّهن، فقيل له: المسيح.

    وبعضهم يقول: لأنَّ زكريا  مسحَه؛ فقيل له ذلك.

    وبعضهم يقول: لأنَّه ممسوح باطن القدم، الله تعالى أعلم.

    ولكن المسيح  يُقال له: المسيح، فيُعرف أنَّه عيسى ابن مريم .

    وأمَّا الدَّجال فإذا قيل: المسيح؛ فإنَّه لا بدَّ من تقييده بالدَّجال.

    وفتنة الدَّجال كما قال شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- على نوعين، وهذا في غاية الأهميّة:

    الأولى: فتنة جنسٍ[12]: بمعنى: أنَّه كل مُموهٍ، كلّ مُضلٍّ، كلّ صاحب شُبهات؛ فهو من جنس فتنة الدَّجال؛ يعني: سواء كان صاحبَ موقعٍ في الإنترنت، سواء كان صاحب حسابٍ في تويتر، سواء كان هذا صاحب قناةٍ فضائيةٍ، سواء كان هذا من المشعوذين، من المنجِّمين، من الكُهَّان، ممن يدَّعي أنَّه صاحب خوارق، ونحو ذلك، يدَّعي الإلهية، أو يدَّعي النبوة، أو يدَّعي أنَّه المهدي، أو غير ذلك.

    وقد ذكرتُ لكم في بعض المناسبات ما ذكره الحافظُ ابن كثير -رحمه الله-، وما ذكره شيخُ الإسلام عن رجلٍ افتتن في بلاد الشَّام، فتنه الشَّيطانُ، وكان صاحب عبادةٍ، ذكر شيخُ الإسلام أنَّه كان يبقر الرُّخامة التي في المسجد الجامع بأصبعه، وكان يُري الناس رجالاً على خيلٍ عليهم البياض، وعليهم العمائم البيضاء، ويقول: هؤلاء الملائكة، أو رجال الغيب! وكلّ ذلك من تمويهاته، وكان يدَّعي أنَّه يُوحى إليه، فهذا من الدَّجاجلة[13].

    كذلك المختار الثَّقفي كان يدَّعي أنَّه يُوحى إليه، وكان يُخبر عن مغيبات، فإذا لم تقع -قبَّحه الله- قال: بدا لله كذا وكذا -نسأل الله العافية-، إلى غير ذلك من الأسود العنسي، وسِجاح، وغير هؤلاء من الضَّالين المضلّين إلى يوم القيامة.

    ولا يزال يخرج إلى الناس إلى اليوم مَن يُضللهم بألوان التَّضليل: إمَّا بشُبهات يضلّ بها عقولهم، ينشرها، ويُذيعها، وإمَّا بتمويهات وأمور من قبيل خفّة الحركة، أو معرفة خواصّ المواد، أو من قبيل السّحر، فيظهر أنَّ ذلك من قبيل الخوارق، وقد يكون مُضلاً بغير هذا كلِّه، كلّ مُضلٍّ وداعية إلى الضَّلال يُفْسِد عقائد الناس، وأديان الناس، وأخلاق الناس؛ فهو من الدَّجاجلة، هو من جملة الدَّجالين، وكل دجالٍ له أتباع، ولكن الدَّجال الكبير يكون يوم القيامة.

    وانظروا إلى الدَّجاجلة في كل عصرٍ، وكم لهم من الأتباع في زماننا هذا، كل دجالٍ له أتباع، يصيح بهم الشَّيطانُ من أقصى الغرب، ثم يجد أتباعًا في أقاصي الشَّرق، هذا شيءٌ مُشاهَدٌ.

    في بلادٍ مثل: إندونيسيا يُوجد مَن يدَّعي أنَّه إلهٌ، وله أتباعٌ في جميع المحافظات، يوجد هناك مَن يدَّعي أنَّه رسولٌ، وله أتباعٌ في جميع المحافظات، يوجد مَن يدَّعي أنَّه المهدي، وله أتباعٌ من جميع المحافظات، ويُوجد من دُعاة الضَّلالة القاديانية، ولهم أتباعٌ بالملايين، ويوجد مَن يدعو الناس إلى الرَّفض والمذاهب المضلّة، ويُوجد لهم أتباعٌ وقنوات فضائيَّة وإذاعات لربما تزيد على مئة إذاعةٍ.

    دُعاةٌ على أبواب جهنم، مَن أجابهم إليها قذفوه فيها، فكلّ هؤلاء من الدَّجاجلة، وقنواتهم هي أبواق الدَّجال؛ بمعنى: جنس الدَّجال الذي ذكر شيخُ الإسلام ابن تيمية، فهذه فتنة جنسٍ.

    الثانية: هي فتنة شخصٍ: يعني: فتنة الدَّجال المسيح الذي ذكره النبيُّ ﷺ بأوصافه: الأعور الدَّجال، هذا ذكره شيخُ الإسلام في التِّسعينية.

    وهنا حينما يُستعاذ بالله من كل فتنةٍ، فإنَّه يدخل في ذلك الفتن الصِّغار، والفتن الكِبار، فحينما نستعيذ من فتنة الدَّجال؛ فإنَّ الذين يُدركون شخصَ الدَّجال -أعني: المسيح الدَّجال- هم قلّة في الأمة بالنسبة لعددها من أوَّلها إلى آخرها، ولكن هذه الاستعاذة من كلِّ شخصٍ ينبغي أن يستحضر فيها أيضًا فتنة الدَّجالين، كما ذكر شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، ففتنة الدَّجال لا تختصّ بالموجودين في زمانه، بل حقيقة فتنته الباطل المخالف للشَّريعة، كما يقول شيخُ الإسلام -رحمه الله-: المقرون بالخوارق، فمَن أقرَّ بما يُخالف الشَّريعة لخارقٍ؛ فقد أصابه نوعٌ من هذه الفتنة.

    يقول: وهذا كثيرٌ في كل زمانٍ ومكانٍ، لكن هذا المعين فتنته أعظم الفتن، فإذا عصم اللهُ عبدَه منها، سواء أدركه، أو لم يُدركه؛ كان معصومًا مما هو دون هذه الفتنة[14]، وهكذا إنذار الرسل إياه أُممهم يقتضي تخويف عموم فتنته، وإن تأخَّر وجود شخصه حتى يقتله المسيح -عليه السلام- [15].

    فالمقصود أنَّ الإنسان ينظر في حاله، وفي أهله، ومَن حوله، ومَن تحت يده، كيف يستجيبون لأبواب الشَّر والضَّلالة، وينقادون للشَّائعات وللأمور التي لا حقيقةَ لها، سواء كان ذلك من قضايا يُدَّعى أنها تنفع الإنسان في عافيته وبدنه، أو كان ذلك يعتقد أنَّه ينفعه في تجارته، وماله، وكسبه من الأمور التي لا حقيقةَ لها، هي خُرافات، إمَّا أن يُقال: هذا من جنس الطّب، ولا حقيقةَ له. أو يُقال: هذا يُفيد في كسب الأموال الطَّائلة، وهذا للأسف تجده ذائعًا شائعًا في كثيرٍ من هذه الدّورات التي قد مُلئت بالدَّجل والخُرافة، مما يكون من قبيل ما يُسمَّى بالطَّاقة، أو غير ذلك من الأمور الرُّوحانية، وما شابه مما يعتقدون، أو مما يضللون، أو مما يُوهمون أنَّه يحصل به الكسب الكثير للأموال، أو تحقيق المطالب المختلفة؛ من صحّة الأجسام، أو غير ذلك مما يطلبه الناس، فهذا كلّه من الدَّجل.

    فهؤلاء الذين يتهافتون على هذه الأمور، ويدفعون الأموال، ويقضون الأوقات فيها، هؤلاء إذا صاح بهم الدَّجالُ ماذا سيفعلون؟

    هؤلاء النِّسوة اللاتي قد بلغ الأمرُ ببعضهنَّ أنهنَّ يتشبَّهن، السؤال دائمًا عن زيِّ الأعاجم، زيّ القارة الهنديّة، الأذواق الكورية، واللباس الكوري، وصلت الأمور والإفلاس إلى هذا الحدِّ للأسف الشَّديد، أمور يُقال لهم: إنها تنفع من كذا، أصبح الإنسانُ لا يكاد يُصدِّقها، وقد سألنا بعضَ الباعة، وقال: هذا حقيقة.

    يا إخوان، عُذرًا، القمل تُباع الواحدة بعشرة ريالات عند بعض العطَّارين، قيل لهؤلاء النِّساء: بأنَّ ذلك نافعٌ لجلدة الرأس، ويُغذِّي ذلك، ويُقوّيه. فصارت الواحدةُ من النِّساء تشتري الواحدةَ بعشرة، وتضعها في رأسها، هل رأيتم عقولاً قد بلغت هذا المبلغ إلى هذا الحدِّ؟!

    هذا الكلام لم أُصدقه بحالٍ من الأحوال، ولا يمكن أن أقبله في عقلي، وأن أُصدِّقه، حتى سمعته من كثيرين، وسمعتُه من نساءٍ، وسمعتُه من بعض العطَّارين، قالوا: نعم يوجد، وتُباع الواحدةُ بعشرة ريالات. فإذا صاح الدَّجالُ فما ظنُّكم؟

    يدعو الخربة فتُخرج كنوزَها تتبعه كيعاسيب النَّحل، يمرّ على الأرض المجدبة، فيأمر السَّماء فتُمطر، والأرض تُنبت، تعود لهم دوابهم وبهائمهم، ممتدة الخواصر، ممتلئة الضُّروع باللبن، فهذا إذا خرج ماذا سيفعل هؤلاء الناس إزاء فتنته؟!

    هذا معيار، إذا كانت هذه الأشياء التَّافهة يتهافت كثيرٌ من الناس عليها، فكيف إذا جاءت تلك الفتنة العظيمة التي ما من نبيٍّ إلا حذَّر أُمَّته، حتى إنَّه ورد أنَّ الرجلَ يُوثق نساءه؛ لئلا يتبعنه، يتهافتون عليه، ويتبعه خلقٌ من الناس: من يهود أصبهان سبعون ألفًا، عليهم الطَّيالسة، يتبعه الخوارج، هؤلاء لخفَّة عقولهم، فيُصدِّقون أشياء وأمورًا لا حقيقةَ لها، ويعيشون في عالم آخر من الرُّؤى، والخيالات، والأحلام، والأماني الفارغة، ثم بعد ذلك يفعلون الأفاعيل؛ بناءً على الوهم الذي يتبعونه، فإذا جاء الدَّجالُ هرولوا خلفَه، نسأل الله العافية.

    هذا، وأسأل الله  أن ينفعني وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين، والله أعلم.

    وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

    --------------------------------------------------------------
    أحبتي في الله نلتقي بإذن المولي عز وجل في أذكار الصباح والمساء
    ::
    جزاكم الله خيرا

    ::
    ولا تنسونا من صالح دعائكم
    ::
    أحبكم في الله

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع


      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد أبريل 28, 2024 3:10 am