" سبحان ربي الأعلى "
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أيّها الأحبّة، في هذه الليلة نشرع في شرح الأذكار التي تُقال في السُّجود، وأول ما ذكره المؤلفُ هو جزءٌ من حديث حُذيفة الذي قد مضى شطرُه المتعلِّق بالركوع.
حديث حُذيفة بن اليمان : أنَّه سمع النبيَّ ﷺ يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات[1]. وهذا الحديثُ أخرجه ابنُ ماجه.
وقلنا: إنَّ ذكر "ثلاثًا" في حديث حُذيفة لا يخلو إسنادُه من ضعفٍ، وله شواهد، وهذه الشَّواهد أيضًا لا تخلو من ضعفٍ، لكن يتقوَّى بها، وذكرنا هناك من هذه الشَّواهد: ما جاء عن عبدالله بن مسعودٍ [2]، وكذا عن جبير بن مطعم عند البزَّار[3]، ومن حديث أبي مالكٍ الأشعري[4]، وحديث أقرم بن زيدٍ الخزاعي[5]، وحديث أبي بكرة -رضي الله عنهم أجمعين-[6].
وهذه كلّها جاء فيها التَّقييد بأنَّه كان يقول ذلك ثلاث مرات، لكن في أسانيدها ضعفٌ، ومن أهل العلم مَن رأى أنها تتقوَّى بمجموعها: كالشيخ: ناصر الدين الألباني -رحمه الله-[7]، والشيخ شُعيب الأرنؤوط[8]، وقد مضى ذكرُ ذلك.
قوله في السُّجود: سبحان ربي الأعلى عرفنا أنَّ التَّسبيح بمعنى التَّنزيه، وهو يُنزه الله -تبارك وتعالى- ويُبرئه في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله عن كل عيبٍ ونقصٍ.
ربي الربّ عرفنا أنَّه يأتي بمعنى السَّيد والمالك والمتصرِّف والمربِّي لخلقه، إلى غير ذلك من المعاني، وكلّها ثابتٌ لله -تبارك وتعالى-.
سبحان ربي سيدي ومالكي وخالقي ومُتصرِّف في شؤوني، والمربي لعباده بالنِّعَم الظَّاهرة والباطنة.
الأعلى هذا من أسماء الله -تبارك وتعالى-، ثابتٌ في القرآن والسُّنة، وهذا الحديث يدلّ لذلك، فالله -تبارك وتعالى- يقول: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى:1]، فهو أعلى من كل شيءٍ: أعلى في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، فهو الأعلى، وله العلو المطلق: علو الذَّات، وعلو القدر، وعلو القهر، فكل العلو ثابتٌ لله -تبارك وتعالى-.
وقوله هنا: سبحان ربي الأعلى ظاهرٌ أنَّ التَّسبيح لله -تبارك وتعالى-، وهذا يمكن أن يُفسَّر به قوله -تبارك وتعالى-: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، بدليل أنَّ النبي ﷺ كان إذا قرأ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: سبحان ربي الأعلى، مما يدلّ على أنَّ المرادَ بذكر الاسم: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ليس المقصودُ تسبيحَ الاسم، وإنما تسبيح الربِّ -تبارك وتعالى-، الذي هو المسمّى بهذا الاسم.
وعبارات العُلماء -رحمهم الله- اختلفت في توجيه ذكر الاسم: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، لماذا ذكر الاسم؟ هل نقول: سبحان اسم ربي الأعلى؟ فنُسبِّح اسمه؟ هل هذا هو المراد؟
بعض أهل العلم قالوا: إنَّ المرادَ الربُّ، طيب، والاسم؟
بعضهم قال: إنَّه مُقْحَمٌ، أي: زائدٌ. هكذا ذهبت إليه طائفةٌ، منهم: القُرطبي صاحب التَّفسير[9]، ومن المتأخِّرين -وهو مُتأثِّرٌ به؛ لأنَّه ينقل من كلامه كثيرًا، بل يُلخِّصه- الشَّوكاني[10] -رحم الله الجميع-، قالوا: المعنى: سبِّح ربَّك، فالتَّسبيح لله .
وطائفةٌ قالوا: لا، التَّسبيح للاسم، وإلا كيف يُذكر الاسم ثم يُقال: إنَّه مُقحم؟! فهو مقصودٌ إذًا: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، نزِّه اسمَه أن يُسمَّى به أحدٌ سواه.
وبعضهم يقول: نزِّه تسمية ربّك وذكره، أو ذكرك إياه ألَّا تذكره إلا وأنت خاشعٌ ومُعظِّمٌ له .
وبعضهم فسَّر التَّسبيح في قوله: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى "أي: صلِّ لربِّك الأعلى"[11]، وهو قول الحسن البصري، إلى غير ذلك من الأقوال.
وأحسن مَن تكلم على هذا -فيما وقفتُ عليه- الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله-[12]، والحافظ ابن القيم[13]، فإنَّهم لم يقولوا بأنَّ الاسم مُقحمٌ، ولا أنَّ التَّسبيح للاسم، وإنما قالوا: التَّسبيح للربِّ -تبارك وتعالى-، ولم يقولوا مثل الأوَّلين: بأنَّ الاسم هنا زائدٌ، وإنما قالوا: الاسم هنا قصد ذكره، فليس بزائدٍ.
فالحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول: بأنَّ الذكرَ الحقيقي محلّه القلب؛ لأنَّ الذي يُقابله النِّسيان، والتَّسبيح نوعٌ من الذكر، فلو أطلق الذكرَ والتَّسبيح، يعني: لو قال: اذكر ربَّك، سبِّح ربَّك. يقول: فإنَّه يُفهم منه ما يُقابل النِّسيان، وهو الذكر بالقلب، يعني: أن يبقى ذكرُه حاضرًا في قلب العبد، فلا يغفل، يعني: ليس الذكرُ باللِّسان، يقول: والله -تبارك وتعالى- أراد من عباده الأمرين جميعًا، ولم يقبل الإيمان وعقد الإسلام إلا باقترانهما واجتماعهما، يعني: القلب، وإقرار اللِّسان، بأن يتواطأ القلبُ واللِّسانُ.
يقول: فصار المعنى: "سبِّح ربَّك بقلبك ولسانك، واذكر ربَّك بقلبك ولسانك"[14]، فذكر الاسم يدلّ على أنَّ اللِّسان يلهج به، فلمَّا ذكر الاسم أفادنا هذه الفائدة: أنَّ هذا الذكر باللِّسان، فتذكر ربَّك ذكرًا بالقلب، مع اللِّسان، فيتواطأ القلبُ مع اللسان على الذكر. فهذه فائدة ذكر الاسم: أن تنطق باسمه وأنت تذكره، إذًا هذا كلامٌ ونطقٌ.
يقول: فجيء بالاسم هنا تنبيهًا على هذا المعنى، حتى لا يخلو الذكرُ والتَّسبيحُ من اللَّفظ باللِّسان. لاحظ، يقول: لو ذكر الذكر فقط فقد يكون ذكر القلب الذي يُقابل النِّسيان والغفلة، لما ذكر الاسم دلَّ على أنَّ اللِّسان ناطقٌ بهذا الذكر، مع مُواطأة القلب. يقول: لأنَّ اللَّفظَ لا يُراد لنفسه، فلا يتوهم أحدٌ أنَّ اللفظَ هو المسبّح، دون ما يدلّ عليه من المعنى. يعني: ليس المقصودُ أنَّك تُسبِّح اسمَه، وإنما ذكر القلب "مُتعلّقه المسمّى المدلول عليه بالاسم دون ما سواه"، الذي هو اسم الله: سبِّح ربَّك ذاكرًا اسمه: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى.
ففائدة ذكر الاسم أنَّك تُسبِّحه ذاكرًا اسمه، فتقول: سبحان ربي الأعلى، وتنطق بذلك؛ ولهذا النبي ﷺ كان إذا قرأ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: سبحان ربي الأعلى، ولم يقل: سبحان اسم ربي الأعلى، فهذا يُفسّر الآية، ويُبين المراد.
ثم نقل عن شيخه الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله- فيقول بأنَّه عبَّر له عن هذا المعنى بعبارةٍ لطيفةٍ وجيزةٍ، فقال: "المعنى: سبِّح ناطقًا باسم ربِّك، مُتكلِّمًا به"[15]، يقول ابنُ القيم: وهذه الفائدة تُساوي رحلةً[16]. يعني: سفرًا، يُسافر من أجلها، يقول: لكن لمن يعرف قدرَها[17].
ثم أفادنا الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- فائدةً أخرى في الفرق بين قوله: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:74]، حيث دخلت الباء بِاسْمِ رَبِّكَ، وفي سورة الأعلى قال: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى بدون باءٍ، فذكر وجه الفرق بينهما فقال: "بأنَّ التَّسبيح يُراد به التَّنزيه، والذكر المجرد دون معنًى آخر، ويُراد به ذلك مع الصَّلاة، وهو ذكرٌ وتنزيهٌ مع عملٍ"[18].
فالخُلاصة: أنَّ ابنَ القيم -رحمه الله- يقول: بأنَّ الذي يتعدَّى بالحرف (الباء): فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أنَّ هذا ذكرٌ مع عملٍ، الذي هو الصَّلاة، يقول: فلا يُقال: سبَّحتُ بالله، إلا إذا أردتَ ما كان مقرونًا بالفعل، وهو الصَّلاة، فتدخل الباء تنبيهًا على ذلك، كأنَّك قلتَ: سبّح مُفتتحًا باسم ربِّك، أو ناطقًا باسم ربِّك، كما تقول: أُصلِّي مُفتتحًا أو ناطقًا باسمه، فالباء هذه أفادتنا فائدةً زائدةً: أنَّ هذا ذكرٌ باللِّسان، زائد عملٍ، وهو الصَّلاة، فيقول: حيث وجدت هذه التَّعدية بالحرف، فيدلّ على أنَّ هناك عملٌ إضافي على الذكر باللِّسان، فيدلّ على أنَّه: سبّح مُفتتحًا باسمه، صلِّ له، فالصَّلاة يُقال لها: تسبيحٌ؛ ولهذا قال الله : سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الحديد:1]، فُسِّر بأنَّه يُصلي له، فعُدِّيَ بحرفٍ، وهو اللام: سَبَّحَ لِلَّهِ.
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الأعلى هنا يرجع إلى الربِّ -تبارك وتعالى-، فالعلو صفةٌ ذاتيةٌ له -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه-، ومن أسمائه الثابتة: العلي، والأعلى، والمتعال، فله علو القدر والشَّأن والمنزلة، وعلو القهر، وعلو الذَّات، فالله فوق خلقه، وفوق عرشه، وفوق سماواته، مُستوٍ على العرش، يعلم أحوالَ الخلق، مُحيطٌ بأعمالهم، لا تخفى عليه منهم خافية، وهو العلي العظيم، عالم الغيب والشَّهادة، الكبير المتعال، فكلّ هذا يدلّ على ثبوت هذه الأسماء لله -تبارك وتعالى.
والشّنقيطي -رحمه الله- حينما تكلَّم على هذه الآية: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: بأنَّه يمكن أن يكون المرادُ نفس الاسم؛ لأنَّ أسماء الله ألحد فيها قومٌ، ونزَّهها آخرون عن كلِّ ما لا يليق، ووصفها الله بأنها حُسنى، بمعنى: أنها بالغةٌ في الحُسن غايته، وفي ذلك أكمل تنزيهٍ لها؛ لأنَّها مُشتملة على صفاته الكريمة[19]، فهو يحتمِل أن يكون المرادُ تنزيه الاسم، لكن ما ذكرتُه من كلام شيخ الإسلام وابن القيم أحسن من هذا وأدقّ وأوضح.
هذا ما يتعلَّق بهذا الذكر.
وأسأل الله أن ينفعني وإيَّاكم بما سمعنا، ويجعلنا وإيَّاكم هُداةً مُهتدين، والله أعلم.
وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلّم.
###############################################
دعاء السجود
" اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين"
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
في هذه الليلة نتحدَّث عن ذكرٍ من الأذكار التي تُقال في السُّجود، وهو ما جاء عن عليٍّ -رضي الله تعالى عنه-، عن النبي ﷺ: أنَّه كان إذا قام إلى الصَّلاة ... وذكر الحديثَ الطَّويل الذي جزَّأه المؤلفُ، وقد مضى منه ثلاثةُ أجزاء، وهو ما يتعلَّق بدُعاء الاستفتاح، وما يتعلق بالركوع، وما يتعلق بالرفع من الركوع، ولا بأس بالتَّذكير بهذا الحديث، أن أذكر متنَه إلى هذا الموضع المتعلق بالسُّجود.
فأوَّله: "كان إذا قام إلى الصَّلاة" بهذا الإطلاق، فهنا لم يُحدد أنَّها صلاةُ تطوعٍ أو فريضةٍ، وهل هي صلاة الليل أو غير ذلك؟
"كان إذا قام إلى الصَّلاة"، فظاهره الإطلاق أو العموم؟
قال: وجهتُ وجهي للذي فطر السَّماوات والأرض حنيفًا، وما أنا من المشركين، إنَّ صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين، لا شريكَ له، وبذلك أُمِرْتُ، وأنا أوَّل المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي، وأنا عبدُك، ظلمتُ نفسي، واعترفتُ بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، إنَّه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت[1]، إلى آخر دعاء الاستفتاح الذي مضى الكلامُ عليه.
ذاك هو أول هذا الحديث الذي عندنا في السُّجود، وإذا ركع -نفس الحديث- قال: اللهم لك ركعتُ، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ، خشع لك سمعي وبصري ومخِّي وعظمي وعصبي[2]، وهذا قد مضى أيضًا.
وإذا رفع قال: اللهم ربنا لك الحمد، ملء السَّماوات، وملء الأرض، وملء ما شئتَ من شيءٍ بعد، وملء ما بينهما، وملء ما شئتَ من شيءٍ بعد[3].
ثم يأتي ما يتعلَّق بالسُّجود: "وإذا سجد قال: اللهم لك سجدتُ، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ، سجد وجهي للذي خلقه وصوَّره، وشقَّ سمعَه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين"[4]، وبقيت فيه بقيةٌ في آخر الحديث بين التَّشهد والتَّسليم، يعني: إذا فرغ من تشهده قبل أن يُسلم، فهذا الحديث أخرجه الإمامُ مسلمٌ في "صحيحه".
وذكرنا أيضًا أنَّه جاء عن جابر بن عبدالله : أنَّ النبي كان يقول في سجوده: اللهم لك سجدتُ، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ، وأنت ربي، سجد وجهي للذي خلقَه وصوَّره، وشقَّ سمعَه وبصرَه، تبارك الله أحسن الخالقين[5]، هذا بنحو اللَّفظ السَّابق، اللهم إلا في بعض الحروف والألفاظ اليسيرة.
ومثله أيضًا ما رواه محمدُ بن مسلمة ، عن النبي ﷺ: أنَّه كان إذا قام من الليل يُصلي تطوعًا قال إذا سجد: اللهم لك سجدتُ، وبك آمنتُ[6]، وذكر مثل حديث جابرٍ .
فهنا حديث جابرٍ ، وحديث محمد بن مسلمة، رواهما الإمامُ النَّسائي، وهما حديثان ثابتان صحيحان، لكن الأول حديث عليٍّ هو في "صحيح مسلم".
في حديث عليٍّ قال: "أنَّه كان إذا قام إلى الصَّلاة"، فهذا ظاهره الإطلاق، وحديث محمد بن مسلمة: "كان إذا قام من الليل يُصلي تطوعًا"، وقد تكلَّمنا على حديث عليٍّ، وقلنا: بأنَّ الإمام مسلمًا -رحمه الله- وضعه في أبواب قيام الليل، ففهم بعضُ أهل العلم أنَّ الإمام مسلمًا -رحمه الله- يرى أنَّ ذلك إنما هو في قيام الليل، بل ذكر بعضُهم أنَّها رواية في "صحيح مسلم"، والواقع أنها ليست بروايةٍ.
وذكرنا أيضًا بأنَّ ابن خُزيمة ذكره في باب ذكر الدُّعاء بين تكبيرة الافتتاح وبين القراءة، وأنَّ لفظَه عند ابن خُزيمة: "كان إذا قام إلى الصَّلاة المكتوبة"[7].
وكذلك أيضًا ذكره ابنُ حبان، ولفظه: "كان إذا ابتدأ الصَّلاة المكتوبة"[8]، وذكره تحت: باب ذكر ما يدعو المرءُ به بعد افتتاح الصَّلاة قبل القراءة. وهو بهذا اللَّفظ: "كان إذا ابتدأ الصَّلاة المكتوبةَ قال: وجَّهتُ وجهي"، إلى آخره، وذكره في بابٍ آخر، وهو ذكر ما يدعو به المرءُ عند افتتاح الصَّلاة الفريضة، ويقول بعد التَّكبيرة. وهكذا أيضًا في بابٍ ثالثٍ.
وفي روايةٍ عند الترمذي: "كان إذا قام إلى الصَّلاة المكتوبة"[9].
في روايةٍ عند مسلم: "كان رسولُ الله ﷺ إذا استفتح الصَّلاة كبَّر"[10]، إلى آخره، فظاهر هذا أنَّ النبيَّ ﷺ كان يقوله في الصَّلاة المكتوبة.
وفي الرِّواية التي عند النَّسائي من حديث محمد بن مسلمة، تدل على أنَّ النبي ﷺ قال ذلك في صلاة الليل، فيكون هذا الذكر مما يُقال في الفريضة، ويُقال في غيرها.
اللهم لك سجدتُ هنا تقديم الجار والمجرور: لك سجدتُ، وقلنا: هذا يُفيد الحصر، فلو قال: "سجدتُ لك"، هذا قد يُفهم منه أنَّه سجد لله ولغيره، فلا يمنع من احتمال السُّجود لغيره من حيث اللغة، لكن إذا قال: لك سجدتُ يعني: وحدك دون مَن سواك، فهذا يدل على التوحيد والإخلاص.
وبك آمنتُ لا بغيرك، فإذا قُدِّم المعمولُ على عامله، أو تقديم الجار والمجرور، أو نحو ذلك، فكلّ هذا يُفيد الحصر، أو يُشبه الحصر.
بك آمنتُ، ولك أسلمتُ وهذا فيه التَّفريق بين الإيمان والإسلام، وقلنا: إنَّهما إذا ذُكِرَا مع الاقتران من غير إفرادٍ لأحدهما؛ فإنَّ الإيمانَ يكون بمعنى الإقرار والإذعان القلبي، والإسلام يُراد به: إسلام الجوارح، وإسلام الظَّاهر، فهنا ذكر الإيمان والإسلام: بك آمنتُ هذا يرجع إلى إذعان القلب وتصديقه وانقياده، ولك أسلمتُ بجوارحي.
سجد وجهي للذي خلقَه أشرف ما في الإنسان وجهه، فحينما يضع وجهَه على الأرض هذا تواضعٌ لله ، وهو شرفٌ للمخلوق، وهو تعظيمٌ للمعبود -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه-، فهنا يُخبر عن فعله.
وقلنا: هذا الذكر يأتي من النوع الثاني الذي يُخبر فيه العبدُ عن حاله، وعن إيمانه، وعن ذكره لربِّه -تبارك وتعالى-، وعبادته له.
سجد وجهي للذي خلقَه والذي خلق هو الذي يستحقّ أن يُعبد، وقد أشرنا إلى هذا المعنى في عددٍ من المناسبات، وكان الله -تبارك وتعالى- في القرآن يذكر هذا كثيرًا، حيث إنَّ تلك الآلهة التي يعبدونها من دون الله: لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النحل:20]، فالعبادة لا تصلح إلا لمن خلق؛ ولهذا أوَّل أمرٍ في القرآن: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21]، الأمر بعبادة الله قرنه بهذه القضية: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، فالذي خلق هو الذي يُعْبَد، وهو الذي يستحقّ العبادة دون مَن سواه، ولا يمكن أن يخلق ثم تُصرف العبادة لغيره، فهذا من أظلم الظُّلم؛ ولهذا كان الشِّركُ ظلمًا عظيمًا: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، يخلق ويرزق، ثم بعد ذلك تُصْرَف العبادةُ لغيره ممن لا يملك نفعًا ولا ضرًّا! فهذا من أظلم الظلم.
سجد وجهي للذي خلقه أوجده، وجعله بهذه الصُّورة، وقدَّره على صورةٍ معينةٍ يتميز بها عن غيره، لا يشتبه، مع أنَّ هذه الوجوه من حيث مواضع هذه الحواس، وما إلى ذلك، العينان لكل الناس في موضعهما، والأنف في موضعه، والفم في موضعه، ولكن لا يتشابه الناسُ، يُميز بعضُهم بعضًا، يعني: لو نظرتَ إليهم، كما يقول الشيخُ محمد الأمين الشَّنقيطي -رحمه الله-، كثيرًا ما يذكر هذه الموعظة، يقول: "إذا رأيتم الناسَ يوم جمرة العقبة مُجتمعة من أقطار الدنيا، وجدتُموها على صَبَّةٍ واحدةٍ: الأنف هاهنا، والعينان هاهنا، والفم هاهنا، على نمطٍ وأسلوبٍ واحدٍ، مع أنَّه لم تشتبه صورة رجلٍ بصورة رجلٍ حتى لا يُفرَّق بينهما، ولا صورة امرأةٍ بصورة امرأةٍ، فكلٌّ منهم له صورة يُطْبَع عليها، سابق علم الله بها، مُنفَّذ في تصويره بها، وهذا مما يدلّ على كمال وعظمة خالق السَّماوات والأرض"[11].
فهذا الخلق الذي يشترك الناسُ فيه بهذه الحواس، وبهذا الوجه، ومع ذلك يتمايزون، فهذا التَّمايز يدل على قُدرةٍ بديعةٍ في الخلق والتَّصوير والتَّقدير، ودقّة في هذا كلِّه.
فهنا سجد وجهي للذي خلقَه هو الذي يستحقّ أن يُسجد له، وشقَّ سمعه وبصره شقّ السّمع يعني: جعل له منفذًا، وهي هذه الأذن، وإلا فإنَّ السَّمع ليس هذه الأذن، كما هو معلومٌ، ولكن منفذه يكون من هذه الأذن: وشقَّ سمعه وبصره شقّ له هذا الموضع، وجعل العينَ في هذا الموضع، وجعل الأُذنين على الجانبين، وجعلهما اثنتين، هذه من هذا الجانب، وهذه من هذا الجانب، بحيث يسمع الأصوات من جميع النَّواحي، وجعل البصر أعلى، وفي الرَّأس، وعليه هذه الحماية العظيمة، وبهذا التَّجويف، فهو أعلى ما في الإنسان في قامته، وكذلك سمعه بحيث يكون رأسُه كالبرج يرى الأشياء.
وتصوّر لو كان البصرُ في ركب الإنسان، فهو عُرضة لكل آفةٍ، ولا يستطيع أن يرى به ويُبْصِر كما يُريد، لكن جعله الله في هذا الموضع، وفي هذه الجمجمة، وحماه بهذه العِظام، وجعل فوقه الحواجب، وجعل عليه هذه الجفون، وجعل عليها هذا الشّعر، وأسال فيه عينًا مِلْحًا من أجل أن يكون هناك مسحٌ مُستمرٌّ وتعقيمٌ وتنظيفٌ، ولا يحصل له شيءٌ من العفن، وجعلها مالحةً لتُعقِّمه وتُنظِّفه.
فهذا كلّه من دلائل قُدرته -تبارك وتعالى-، فالإنسان يُقرّ ويُذعِن بهذا، ويقول: أنا مُعترفٌ يا ربّ، وأنا أسجد للذي خلق هذا الوجه، وشقَّ سمعه وبصره.
وتصوّر لو أنَّ الإنسان وُلِدَ مطموسًا في موضع العينين، وموضع الأُذنين، كيف يكون حالُه؟ لا سمعَ، ولا بصرَ، هذا لا يمكن أن يتعلم شيئًا، ولا يستطيع الكلام بطبيعة الحال، ولا يفهم لغةَ الإشارة، ولا يمكن أن يتلقَّى شيئًا من المعارف، يكون مثل البهيمة تمامًا.
فالله شقَّ له هذا السَّمع والبصر، وأصل ذلك هذه النُّطفة، حيوانٌ منويٌّ يُلقِّح هذه البُويضة، ثم بعد ذلك يبدأ هذا الخلق ينمو شيئًا فشيئًا: نُطفة، ثم علقة؛ قطعة دمٍ جامدٍ تعلق في الرحم، ثم بعد ذلك يكون مُضغةً، ثم بعد ذلك يبدأ يتحوّل إلى شيءٍ آخر، فيذهب هذا يكون عينًا، وهذا يكون سنًّا، وهذا يكون يدًا، وهذا يكون كُلًى، وهذا يكون كبدًا، وهذا يكون قلبًا، وهذا يكون عروقًا وشرايين، ما الذي يجعل هذا يكون هكذا؟ وهذا يكون هكذا؟ والعين تكون هنا؟ واليد تكون هنا؟ والرِّجْل تكون بهذه الصُّورة، ولا تكون اليدُ بصورة الرِّجْل والعكس؛ لأنَّ الرِّجْل هي التي للمشي ولا بدَّ، والقوائم السُّفلية تكون قويةً متينةً، لماذا لا تكون اليدُ بهذه الطَّريقة؟ لماذا لا ينقلب هذا الخلق: بعض الناس هكذا، وبعض الناس هكذا؟ لا، هو تدبير العزيز الحكيم، هذا العليم الخبير خلق الناسَ بهذه الطَّريقة، هل هناك أحد اختار كيف يُخْلَق؟ أبدًا، وإنما الله هو الذي صوَّره هذا التَّصوير، وخلقه ودبَّره، فهو الذي يُصورنا في الأرحام كيف يشاء، تبارك الله، كثر خيرُه، وعظمت بركتُه، تعالى وتعظَّم.
فهنا نُلاحظ في هذا أنَّه قدَّم السَّمعَ على البصر: شقَّ سمعَه وبصرَه، هذا يمكن أن يُقال: أولاً: لأنَّ السمعَ أنفع من البصر، وقد أشرنا إلى هذا من قبل، فقد يذهب بصرُ الإنسان، لكن السَّمع أهم، ويكون عالـمًا، وإذا ذهب نورُ العين يعود نورُهما إلى القلب، فيكون عنده من الإدراك والحفظ والفهم والنَّباهة والفطنة ما لا يكون عند غيره من المبصرين غالبًا، لكن إذا ذهب السَّمعُ فالمصيبة فيه أعظم؛ ولذلك الإنسان إذا ضعف سمعُه يجد حرجًا حتى في الجلوس مع الناس؛ لأنَّهم يضحكون وهو لا يدري لماذا يضحكون؟ ويُوجِّهون إليه الكلامَ وهو لا يُجيب، فقدَّم السَّمع هنا لأهميته.
ويمكن أن يُقال أيضًا، كما يُشير الحافظُ ابن القيم في كتابه "تحفة المودود"، يُشير إلى: أنَّ السَّمع ينمو في الإنسان قبل البصر[12] في الجنين، يعني: وهو في بطن أُمِّه.
فتبارك الله أحسن الخالقين والخلق عرفنا في أسماء الله الحُسنى أنَّه يأتي لثلاثة معانٍ: فيأتي بمعنى الإيجاد من العدم، ويأتي بمعنى التَّقدير، ويأتي بمعنى التَّشكيل والتَّصوير. كلّ هذا يُقال له: خلقٌ، لكن لما قال اللهُ في آخر سورة الحشر: الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ [الحشر:24]، صار معنى "الخالق" هنا بمعنى: المقدّر، والبارئ: الذي أوجد من العدم، والمصوِّر: الذي أعطاه صورةً وشكلاً، يعني: هذا التَّصميم الذي أمامكم، هذه الطَّاولة الذي صنعها في البداية قدَّر أبعادها وارتفاعها ومساحتها طولاً وعرضًا وارتفاعًا، فهذا يُسمَّى: تقدير، ويُقال له: خلق؛ ولهذا تجد يُقال مثلاً: نخلق فكرةً، أو هلموا فلنخلق أفكارًا، بعض الناس ينقبض من هذه الألفاظ، ويرى أنَّها لا تجوز، والصَّحيح أنَّ هذا جائزٌ؛ لأنَّ الخلقَ يأتي بمعنى: التَّقدير: وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا [العنكبوت:17]، فهذا بمعنى التَّقدير.
إذا جاء هذا الصَّانع وصنع هذه الطَّاولة، في البداية قدَّرها، ثم بعد ذلك يقطع الخشب، وما إلى ذلك، فهو يصنعها، يُنفذ، فهذا يكون بمعنى: التَّصوير والتَّشكيل.
فقوله -تبارك وتعالى-: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14]، بعضهم قال: يعني: المقَدِّرين، قدَّر هذا السَّمع والبصر. وبعضهم قال: يعني: المصوِّرين. ولا مانعَ من أن يكون ذلك جميعًا مُرادًا، فالله هو الذي قدَّر هذه الأشياء على وجهٍ في غاية الإحكام والإتقان، ثم أوجدها وأعطاها صُورًا وشكلاً، وكما سبق في الكلام على الأسماء الحُسنى في قول الشَّاعر يمدح مَلِكًا:
وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعضُ القَومِ يَخلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي[13]
تفري ما خلقْتَ؟
أي: ما قدَّرتَ، يعني: أنت تُخطط وتُنَفِّذ؛ لأنَّ لديك قُدرات وإمكانات على التَّنفيذ، وغيرك من الملوك يُقدِّر ويُخطط لأشياء، ولكن إمكانياته لا تسمح، فلا يستطيع أن يُنفذها لعجزه، فسمَّاه: خلقًا.
فهنا أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ بالجمع، فدلَّ على أنَّ المخلوقَ يمكن أن يُوصَف بالخلق، بمعنى: التَّصوير، أو التَّقدير بهذا الاعتبار، لا الذي يُوجد من العدم، فإنَّ ذلك هو الله، وهذا معنى اسمه: البارئ.
ومن ثم فإنَّ المخلوقَ يمكن أن يُقال له: بأنَّه خلق كذا، أو يخلق كذا، بمعنى يُصوِّر ويُقدِّر، يُقال: رجلٌ خالق -كما يقول الليث- أي: صانع[14].
وكذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى- عن عيسى: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [المائدة:110]، {تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ} يعني: يُشكِّل من الطين بصورة الطَّير، فسمَّاه: خلقًا.
وهذا كلّه لا إشكالَ فيه، فالله -تبارك وتعالى- أحسن الخالقين، فلا أحسن من تقديره، ولا أحسن من خلقه وتصويره وتشكيله الذي جاء على مُقتضى الحكمة والكمال: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [الملك:3]، وكلّ ذلك يُطابق الغايات المحمودة، فالله يخلق لحكمةٍ؛ ولهذا قال: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ، فهذا كلّه يُفسّر به هذا الموضع.
والشَّنقيطي -رحمه الله- فسَّره بالمقدِّرين[15]، والأمر في ذلك قريبٌ، وكلّ ذلك مما يدخل في معناه -والله تعالى أعلم-.
ولعلَّ هذا يكفي في شرح هذا الحديث.
وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعني وإيَّاكم بما سمعنا، وأن يجعلنا هُداةً مُهتدين، والله أعلم.
وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه.
###############################################
دعاء السجود
" اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله وأوله وآخره وعلانيته وسره " " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك ... "
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
فلم يزل الحديثُ -أيّها الأحبّة- عمَّا يُقال من الذكر والدُّعاء في السُّجود مما ثبت عن رسول الله ﷺ، وما مضى الكلامُ عليه مما يُقال في الركوع والسُّجود، فإنَّه تكفي الإشارةُ إلى ذلك في الموضع الآخر، يعني: إذا شُرح هذا في الركوع فإذا جاء ذكره في السُّجود فتكفي الإشارةُ إلى ذلك، ولا يحتاج إلى إعادة لشرحه، كقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي[1]، وقول: سبُّوح، قدُّوس، ربّ الملائكة والروح[2]، وكذلك أيضًا: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة[3]، فهذا كلّه قد مضى الكلامُ عليه، فهو مما يُقال في الركوع والسُّجود.
من هذه الأذكار والأدعية التي تُقال في السُّجود: ما رواه الإمامُ مسلمٌ في "صحيحه" من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-: أنَّ رسولَ الله ﷺ كان يقول في سجوده: اللهم اغفر لي ذنبي كلّه، دقّه وجلّه، وأوّله وآخره، وعلانيته وسرّه[4].
فالنبي ﷺ كان يقول ذلك في سجوده، يعني: أحيانًا؛ لأنَّه ثبت عنه ﷺ أنَّه كان يقول غيره، كما مضى في جملةٍ من الأذكار في الليالي الماضية، وكونه يقول ذلك في السُّجود يحتمل أنه يقوله مع قول: سبحان ربي الأعلى كما مضى، ويحتمل أنَّه يقوله مُفردًا له، من غير ذكرٍ آخر يقوله معه، هذا احتمالٌ.
وقوله: اللهم اغفر لي ذنبي كلّه عرفنا أنَّ الغفر ينتظم معنيين: السَّتر والوقاية. وقلنا: منه "المغفر" يستر رأسَ المقاتل، ويقيه أيضًا من ضرب السِّلاح، فإذا قال العبدُ: اللهم اغفر لي، يعني: يا الله، اغفر لي. فهو يطلب أن يستره، وأن يقيه تبعة الذَّنب، يعني: المؤاخذة، فيكون ذلك بالعفو والتَّجاوز والصَّفح.
ذنبي ذنبٌ مُفردٌ مُضافٌ إلى ياء المتكلم، وهو معرفة، ومثل هذا يُفيد العموم، يعني: ذنوبي، هذا المعنى، لكنَّه أكَّد ذلك أيضًا بقوله: كلّه، وما ذكر بعده من قوله: دقّه وجلّه يمكن أن يكون ذلك أنَّه من قبيل التَّفصيل لأنواع هذا الذَّنب: إمَّا أن يكون من الأمور الصَّغيرة، أو من الأمور الكبيرة، أو يكون ذلك لبيان هذا الذَّنب، أو يكون ذلك بتقدير: اغفر لي ذنبي كلّه أعني: دقّه وجلّه، ودقّه يعني: دقيقه وصغيره، فإنَّ الصَّغائر تجتمع على العبد حتى تُهلكه إذا تكاثرت.
وقد مثَّلها النبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام-: كمثل قومٍ نزلوا أرض فلاةٍ، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجلُ ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سوادًا، فأجَّجوا نارًا، وأنضجوا ما قذفوا فيها[5]، فالذُّنوب الصِّغار يُحاسَب الإنسانُ عليها.
وكما مضى في بعض المناسبات من قوله -تبارك وتعالى-: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا [الكهف:49].
فالإنسان يُحاسَب على الصَّغائر، كما قال بعضُ السَّلف: "ضجّوا من الصَّغائر قبل الكبائر"[6]، فقالوا: مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا، قدَّموا الصَّغائر على الكبائر، فضجّوا من الصَّغائر قبل الكبائر، فلا يستهين الإنسانُ بالصَّغائر.
وقوله ﷺ هنا: دقّه وجلّه يُبيّن لنا بطلان ما يقوله بعضُ الناس لربما طلبًا للسَّجع في الكلام، وهو من الإساءة في الدُّعاء: "أستغفر الله العظيم من كلِّ ذنبٍ عظيمٍ"، والنبي ﷺ يقول: اغفر لي ذنبي كله، دقّه وجلّه، وهذا يقول: "أستغفر الله العظيم من كلِّ ذنبٍ عظيمٍ"، طيب، والصَّغائر ألا يستغفر منها؟!
والنبي ﷺ قد غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، ومع ذلك يستغفر، فإنَّ هذا من كمال عبوديته -عليه الصَّلاة والسَّلام-، وهو تعليمٌ أيضًا لأُمَّته، يُعلِّمهم الاستغفار، كما سيأتي بيانه -إن شاء الله-، فلا يصحّ أن يقول الإنسانُ: أستغفر الله العظيم من كل ذنبٍ عظيمٍ، وإنما يقول: أستغفر الله وأتوب إليه من كل ذنبٍ.
وقوله: وجِلَّه بكسر الجيم، وقد تُضم فيُقال: "وجُلَّه"، يعني: جليله وكبيره؛ لأنَّه قابله بقوله: دقَّه، فالذي يُقابله هو الكبير، يقولون: يُوصَف الإنسانُ بالفقر، وأنَّه لا يملك شيئًا، فيُقال: ما له دقيقة ولا جليلة، يعني: أنَّه فقيرٌ، يعني: ما له شاة ولا ناقة، وهذا لأنَّ أموالَ العرب كانت الإبل، يُقال: "حُمر النَّعَم"، هذه أغلى الأموال وأثمنها، فيُقال: فلانٌ ما له دقيقة ولا جليلة، والجليلة هي النَّاقة، والإبل أفضل الأموال وأنفسها، وعليها تُقدّر الدِّيات، وفي كثيرٍ من الأحيان مهور النِّساء في بعض البيئات.
فالشَّاهد أنَّ العربَ يقولون ذلك: "ما له لا قليل ولا كثير"، ويقولون: "أتيتُه فما أدقني ولا أجلني"، يعني: ما أعطاني شيئًا يسيرًا ولا كثيرًا، والجلل هو الشَّيء العظيم، مع أنَّه يُقال للشَّيء الهين الصَّغير؛ ولذلك قالوا: إنَّه من الأضداد، لكنَّه هنا في الحديث لما قابله بقوله: دقّه دلَّ على أنَّ المقصود الشَّيء العظيم والذَّنب الكبير.
ولاحظ هنا أنَّه قدَّم الدَّقيقَ على الجليل، مثل الآية: مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف:49]، ويكون هذا من باب التَّرقي في السُّؤال؛ فإنَّه يسأل أن يغفر اللهُ له صغائر الذُّنوب، ثم ارتقى إلى سؤال الغفر لكبائرها وعظائمها.
ثم أيضًا هذه الكبائر من أين تنشأ؟
هي تنشأ أولاً من التَّساهل في الصَّغائر، فإنَّ الإنسانَ لا يزال كما هو معلومٌ، وكما ذكر الشَّاطبي -رحمه الله- في "الموافقات" في الكلام على التَّوسع في المباحات: أنَّه يُؤدي به إلى الوقوع في المشتبهات، والوقوع في المشتبهات يُؤدِّي به إلى الوقوع في الحرام[7]، فيقع أولاً في الصَّغائر، ثم لم يزل يتساهل في ذلك حتى يقع في الكبائر، ثم هذه الصَّغائر أيضًا إذا اجتمعت -كما سبق- فإنَّها تكون بمنزلة الكبائر، وكذلك أيضًا هذه الصَّغائر حينما يُصرّ الإنسانُ عليها، ويستخفّ بذلك، ولا يُبالي بها، فهي وسائل إلى الكبائر.
فهنا يمكن أن يكون ذلك من باب تقديم الوسيلة إلى الكبيرة، فقدَّم الصَّغيرة على الكبيرة، أو أنَّ هذا من باب التَّدرج والتَّرقي من الصَّغير إلى الكبير في السؤال، فكل ذلك يحتمل -والله تعالى أعلم-.
وأوّله وآخره طيب، والوسط؟ هذا ما يرد هنا أن يُقال: والوسط؛ لماذا؟
لأنَّ العربَ تُعبر بذلك وتقصد الإحاطة، يعني: بما فيه الوسط؛ لأنَّ العربَ تذكر طرفي الشَّيء وتقصد الجميع، كما قال: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [المزمل:9]، ما يأتي أحدٌ فيقول: طيب، والوسط والشَّمال والجنوب؟ فالعرب تذكر الطَّرفين وتقصد الإحاطة بما بينهما، الجميع.
فهنا: وأوّله وآخره يعني: وما يدخل في ذلك، يعني: جميع الذُّنوب.
وعلانيته وسرّه فالله بالنسبة إليه يستوي السّر والعلانية، ويعلم السّر وأخفى، ولكن هنا المقصود: ما أخفاه العبدُ عن الناس، والعلانية: ما فعله جهارًا أمام الناس، فكلّ ذلك يُطلب من الله -تبارك وتعالى- أن يغفره، وإلا فالله يعلم السّر وأخفى.
فلاحظ هذا الدُّعاء وما اشتمل عليه من الإحاطة بجميع أنواع الذنوب، ومن قول القائل: "أستغفر الله العظيم من كلِّ ذنبٍ عظيمٍ"، فشتان بين هذا وهذا، ولكن تجري على الألسن أحيانًا بعضُ الكلمات لا يتفطَّن الإنسانُ لما تحتها.
وهنا أيضًا لاحظوا هذا الاستغفار في هذا الموضع في السُّجود، شيخ الإسلام -رحمه الله- يُعلِّق على هذا يقول: "فلم يَبْقَ حالٌ من أحوال الصَّلاة، ولا ركنٌ من أركانِها إلا استغفرَ الله فيه، فَعُلِمَ أنَّه كان اهتمامُه به أكثرَ من اهتمامِه بسائرِ الأدعية"[8]، أي: الاستغفار.
ولاحظ هذه الصَّلاة وما تشتمل عليه من هذه الأذكار والأدعية والاستغفار الكثير في أركانها، وكذلك أيضًا حينما ينصرف منها يستغفر الله ثلاثًا، مع ما كان عليه ﷺمن كثرة الاستغفار في المجلس الواحد، وفي يومه وليلته، وهو الذي غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، فيحتاج العبدُ إلى كثرة الاستغفار.
وإذا كان الإنسانُ صاحبَ صلاةٍ ويستغفر فيها كثيرًا، ويستغفر بعدها أيضًا، فكيف بحال العبد حينما يفعل الذَّنب والمعصية، أو يُقصِّر في طاعة الله -تبارك وتعالى-؟ فهو أحوج إلى كثرة الاستغفار.
فينغي للعبد أن ينظر، وأن يلتفت إلى نفسه: كم يستغفر في اليوم والليلة، مع كثرة التَّقصير والذنوب وغلبة الغفلة؟
فهذا الاستغفار إذا كان مع قصد التَّوبة فإنَّه يكون توبةً، أمَّا إذا جرى على اللِّسان -كما سبق في الكلام على التَّوبة في الأعمال القلبية- فإنَّ ذلك لا يكون توبةً، فينبغي أن يحضر قلبه معه، وأن يستحضر التوبةَ عنده، وأن يتعقّل معناه، ويُكثر منه، ويستشعر التَّقصير، وإذا كان يقوله بعد الطَّاعة، وفي الطَّاعة؛ فإنَّ هذا أيضًا يجعل العبدَ في حالٍ من التَّواضع والإخبات، فلا يلتفت إلى نفسه ويقول: أنا صاحب عبادةٍ، وصاحب قيام الليل. فأصحاب القيام الذين: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16]، هؤلاء: وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:18]، إذا جاء السَّحر يكون قد انتهى من ورد الليل، فهنا يأتي الاستغفار بعد هذا القيام الطَّويل، فكيف بالمقصِّر من أمثالنا الذي يُعافس الذنوب في ليله ونهاره؟! فهو أحوج إلى كثرة الاستغفار.
ومن الفوائد ما ذكره الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- عند الكلام على هذا الحديث، وما فيه من هذه المعاني، وطلب غفران الذّنوب الصِّغار والكبار، الدَّقيق والجليل، الأوّل والآخر، السّر والعلانية، يقول: "فهذا التَّعميم وهذا الشُّمول لتأتي التَّوبة على ما علمه العبدُ من ذنوبه، وما لم يعلمه"[9]، قبل أن يأتي ثم يقول: يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا [الكهف:49].
وأولئك الذين قال الله عنهم: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6]، فالإنسان قد ينسى الذنوب؛ لبُعْد العهد بها، أو لاستخفافه بها وقلّة المبالة، أو لكثرتها وتتابعها، فهو ينسى، لكن الله -تبارك وتعالى- لا ينسى شيئًا من ذلك، وكلّ ذلك مُدوَّنٌ على العبد، والملك قد أحصاه عليه، وسيقرأه في كتابه، كما قال الله : وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ، والطَّائر على الأرجح من أقوال المفسّرين هو العمل: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا مفتوحًا، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13- 14]، تنطق الجوارح، ويُختم على فيه، وتشهد عليه جوارحُه، ثم ينطق فيه ويشهد بما قالت، فيعترف ويُقرّ: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا، وانظر هذا التَّعقيب بعده: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15].
فحينما يهتدي الإنسانُ ويستقيم ويُقبل على الله، ويتوب توبةً نصوحًا؛ فإنَّه لا يُقدّم ذلك لآخرين، وهو لا يتصدَّق بذلك على ربِّه -تبارك وتعالى-، وإنما يُقدِّم ذلك لنفسه: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا، فهو إمَّا أن يكون مُهتديًا، وإمَّا أن يكون ضالاً، فيأتي يوم القيامة بأعماله: إمَّا أنَّه يجد الحسنات التي جمعها وحازها في هذه الحياة الدنيا، وإلا يجد -أعوذ بالله- الرَّيبَ والمعاصي والجرائم والذّنوب والجرائر، فكلّ ذلك قد أُحصي عليه، فهذه بضاعته، ومن زرع الحنظلَ فإنَّه لا يجني إلا الحنظل، ومَن زرع الشَّوكَ فلا يجني إلا الشَّوك.
فنسأل الله -تبارك وتعالى- أن يهدي قلوبنا، ويُصلح أحوالنا وأعمالنا، وأن يغفر لنا ذنوبنا جميعًا: دقّها وجلّها، وأوّلها وآخرها، إنَّه سميعٌ مُجيبٌ -والله أعلم.
وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
---------------------------------------------------
مازلنا أحبابي تالعونا
ولا تنسونا من صالح دعائكم
أحبكم في الله
اليوم في 3:00 pm من طرف عبدالله الآحد
» كتاب الترجيح في مسائل الطهارة والصلاة
أمس في 9:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» وجوب التوكل على الله وخده لا شريك له
أمس في 3:26 pm من طرف عبدالله الآحد
» أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 5:24 pm من طرف عبدالله الآحد
» العبادة وأركانها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 2:55 pm من طرف عبدالله الآحد
» الراجح من أقوال العلماء أن جلسة الاستراحة سنة في الصلاة
الإثنين نوفمبر 18, 2024 2:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» -(( 3 -))- خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
الأحد نوفمبر 17, 2024 10:15 pm من طرف صادق النور
» لا يعلم الغيب إلا الله وحده لا شريك له
الأحد نوفمبر 17, 2024 3:12 pm من طرف عبدالله الآحد
» تابع زبدة التوحيد لنعمان بن عبد الكريم الوتر
السبت نوفمبر 16, 2024 2:15 pm من طرف عبدالله الآحد
» هيئات السجود المسنونة
الخميس نوفمبر 14, 2024 3:24 pm من طرف عبدالله الآحد