الجزء الثالث
أدعيه الركوع
" سبحان ربي العظيم " " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي "
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أيّها الأحبّة، في هذه الليلة نشرع -إن شاء الله- في الكلام على الأذكار والأدعية التي تُقال في الركوع، فأول ذلك مما أورده المؤلفُ ما جاء في حديث حُذيفة بن اليمان : أنَّه سمع رسولَ الله ﷺ يقول إذا ركع: سبحان ربي العظيم ثلاث مرات، وإذا سجد قال: سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات[1].
وسيكون حديثنا -إن شاء الله- عن الشقِّ الأول، وهو ما يتَّصل بالركوع، وسيأتي الكلامُ -إن شاء الله- على ما يتعلق بالسُّجود في موضعه.
فهذا الحديث أخرجه ابن ماجه، وهذه الزِّيادة التي فيه -وهي تقييد ذلك بثلاث مرات- لا تخلو من ضعفٍ، سواء كان ذلك في هذا الحديث -حديث حُذيفة-، أو في غيره مما جاءت به هذه الزِّيادة.
لكن بعض أهل العلم صحَّحها للشَّواهد التي تتقوَّى بها، وإن كانت هذه الشَّواهد لا تخلو من ضعفٍ في أسانيدها، كما جاء ذلك في حديث عبدالله بن مسعود[2]، وحديث جبير بن مطعم[3]، وحديث أبي مالك الأشعري[4]، وحديث أقرم بن زيد الخزاعي[5]، وحديث أبي بكرة -رضي الله عنهم أجمعين-[6]، هذه كلّها جاء فيها التَّقييد، أو أنَّه كان يقول ذلك ثلاث مرات، لكن في أسانيدها ضعف، ومن أهل العلم مَن رأى أنها تتقوى بمجموعها: كالشَّيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله-[7]، والشيخ شُعيب الأرنؤوط[8]، فصحَّحوها لأجل ذلك.
وليس الحديثُ الآن عمَّا يتعلق بالمشروع في السّجود والركوع في عدد التَّسبيحات، وإلا فقد جاء ما يدلّ أيضًا على غير ذلك مما هو أكثر في العدد، يعني: بنحو عشر تسبيحات، ولكن ليس هذا موضع الحديث عن هذه المسألة، وإنما نحن هنا نشرح الأذكار.
يقول في الركوع: سبحان ربي العظيم، عرفنا أنَّ التَّسبيح معناه التَّنزيه، وأنَّ "سبحان" منصوبٌ على المصدر، فكأنَّه يقول هذا المسبِّح: أُنَزِّهُ الله من كلِّ عيبٍ ونقصٍ.
وكذلك أيضًا في معنى العظيم: سبحان ربي العظيم، فإنَّ العظيم هذا اسمٌ من أسمائه -تبارك وتعالى-، يتضمّن صفةَ العظمة، وهذه الصِّفة من الصِّفات الجامعة التي تكون بمجموع أوصافٍ مُتحققةٍ، تكون منها العظمة، وأصل ذلك في كلام العرب "العظيم" يقولونه لما يُقابل الحقير، كما يقولون: "الصَّغير" لما يُقابل الكبير، فالعظيم فوق الكبير؛ لأنَّ الكبير قد لا يكون عظيمًا، قد يكون الكبيرُ حقيرًا، فالعظيم فوق الكبير، هكذا ذكر بعضُ أهل العلم، كصاحب "الكليات" الكفوي[9].
والعظمة صفةٌ ثابتةٌ لله ، نُثبتها على ما يليق بجلال الله وعظمته، ولا نتعرَّض لذلك بتأويلٍ وتحريفٍ، لكن نُثبتها كما جاءت، وسيأتي الكلامُ على هذا -إن شاء الله- قريبًا في الكلام على الأسماء الحسنى.
يقول: سبحان ربي العظيم والنبي ﷺ يقول: فأمَّا الركوع فعظِّموا فيه الربّ [10]، فيجتمع بذلك الهيئة (الفعل)، فحينما ينحني الإنسانُ فإنَّ هذا الانحناء يدل على التَّعظيم، وكذلك أيضًا القول مع الفعل، فيُردد لسانه: سبحان ربي العظيم، كان الناس يُعظِّمون كُبراءهم من الملوك، ومن كبار أهل ديانتهم، كما يفعل النَّصارى، فيسجدون لهم أو يركعون، فنُهِينا عن ذلك، وأُمِرْنَا بألا نسجد إلا لله ، وكان ذلك جائزًا في بعض الشَّرائع، والله -تبارك وتعالى- أمر الملائكةَ أن يسجدوا لآدم ﷺ سجود تكريمٍ، وليس سجود عبادةٍ.
وقال الله -تبارك وتعالى- في حقِّ يوسف -عليه السلام- في الرُّؤيا التي رآها: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف:4]، إشارة إلى أبيه وأمه وإخوته، رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا [يوسف:4] هؤلاء الإخوة، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ الأم والأب، رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ، وجاء تأويلُ ذلك في آخر السُّورة، كما أخبر الله -تبارك وتعالى-: وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا [يوسف:100]، فهذا كلّه كان جائزًا، ولكنَّه حرم في هذه الشَّريعة.
والله قال لبني إسرائيل: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا [البقرة:58]، المقصود على هيئة الركوع، فإنَّ السجود يُقال للانحناء الذي هو الركوع، كما في هذه الآية التي في سورة البقرة: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا، ليس معنى ذلك أنَّهم يضعون جباههم على الأرض ويزحفون، فهذا لا يتأتَّى، كيف يدخلون البابَ ووجوههم في الأرض؟! وإنما يدخلون في حالٍ من الانحناء؛ خضوعًا لله ، وشكرًا على نعمة الفتح.
فالمقصود أنَّ العبدَ حينما يحني ظهره، فإنَّ هذا مظهرٌ من مظاهر التَّعظيم، فإذا قارنه هذا القول: سبحان ربي العظيم فلا شكَّ أنَّه حينما يجتمع هذا وهذا يكون ذلك من المقامات التي تخضع معها القلوب لباريها وفاطرها -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه-، ولكنَّه الإلف -أيّها الأحبّة-، فقد ألفنا هذه المشاهد والمزاولات، فصارت لا تُحرِّك فينا ساكنًا، لو رأيت الناس خُضعانًا لأحدٍ من البشر، قد انحنوا أمامه بسكونٍ، ويُرددون كلامًا كهذا، يُعظِّمونه به مثلاً؛ لكان ذلك مما يقف له شعرُ الرأس، ويقشعر البدن، فكيف يكون هذا أمام المعبود في حال مُناجاته في الصَّلاة، ومع ذلك لا يُؤثر فينا؟!
الصلاة هذه من أوَّلها إلى آخرها مليئة بالأقوال والأفعال التي تُوجب حضورَ القلب والخشوع، وتُهذِّب النَّفس وتُورثها التَّواضع والذّل لله ، فلا يحصل من العبد أدنى مُعارضة، أو شموخ، أو ترفّع على طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ، ولكن ألفنا هذه الأشياء؛ ولذلك انظر إلى حال أولئك الذين يدخلون في الإسلام حديثًا، سله عن أول دخوله حينما نطق بالشَّهادتين؛ تجد أنَّ عامَّة هؤلاء ينطقون الشَّهادةَ وهم يبكون، لا أعني الذين يأتون أمامكم في المساجد، فهؤلاء يُعيدون النُّطق بالشَّهادة، لكنَّهم في الواقع نطقوا بها في مكانٍ آخر، فجيء بهم أمام الناس من باب التَّحفيز والتَّشجيع والدَّعم المعنوي لهم؛ ليُهنِّئهم إخوانُهم بالدُّخول في الإسلام، وإلا هم قد قالوا ذلك من قبل؛ ولهذا الذين يأتون هنا نقول: لا حاجةَ لقيامه بالنُّطق بالشَّهادتين، يكفي أن يُقال: هذا أخوكم قد دخل في الإسلام، فهنِّئوه، مثلاً، ولا حاجةَ للإعادة ثانيةً وقد نطق بذلك في مكانٍ آخر.
على كل حالٍ، سلوا هؤلاء عن أول صلاةٍ صلّوها، وعن أول ركوعٍ ركعوه، ستجدون أنَّهم لا يستطيعون التَّعبير عن ذلك، بل سلوا الذين قد أقعدتهم العِلل والأوصاب والأمراض، فصاروا ما يستطيعون الركوع والسُّجود، سلوهم، مع أنَّ هذا السؤال سيُثير شجونهم، وقد يُجيبك بالبكاء، قل له: ماذا تشتهي في الدنيا؟ يقول: أن أركع وأسجد. لكن لا يعرف قدرَ هذه العبوديات إلا مَن فقدها، يحتاج العبدُ أن يُجدد هذه المعاني مع نفسه.
ثم ذكر حديثَ عائشة -رضي الله عنها-، أنها قالت: كان النبيُّ ﷺ يُكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأوَّل القرآن[11]، وهذا مُخرَّجٌ في "الصحيحين".
يُكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك يحتمل أنَّه يقول ذلك مع غيره، كأن يقول: سبحان ربي العظيم، ويُضيف: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، ويحتمل أنَّه يقول ذلك في ركوعه أو سجوده على سبيل الاستقلال.
ثم إنها لم تخصّ الفرضَ بذلك أو النَّفل، فدلَّ على الإطلاق، وهو أنَّ ذلك يُقال في الركوع والسُّجود، وفي الفريضة والنَّافلة، وفي صلاة الليل، وفي غيرها، فيُكثر المؤمنُ من ترداد ذلك، لا سيّما إذا كان في آخر العمر، وضعف وشاخ، وظهرت أمارات الرَّحيل.
في قوله -تبارك وتعالى-: وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37]، فسَّره كثيرٌ من السَّلف -وهو أحد الأقوال المشهورة- بالشَّيب، فإذا ظهر الوهنُ على الإنسان والضَّعف فإنَّه حينما يقترب رحيلُه من الدنيا يُكثر من هذا، كذلك مَن نزل به مرضٌ مَخوفٌ خطيرٌ، وقد يموت من هذا المرض، أو أنَّ الإنسان يموت غالبًا، أو نحو ذلك، فإنَّه يُكثر من هذا؛ لأنَّ الله قال لنبيِّه ﷺ: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر]، فجعل ذلك أمارةً -كما فهم ذلك ابنُ عباسٍ وعمر رضي الله عنهم أجمعين- على قُرب أجله ﷺ، نُعِيت إليه نفسُه، فأُمر أن يختم هذه المسيرة الطَّويلة الحافلة بالمجاهدات بأنواعها، والصَّبر، وتحمّل أعباء الدَّعوة والبلاغ في سبيل الله -تبارك وتعالى- والجهاد الطَّويل للأعداء: أن يختم ذلك بالتَّسبيح بحمد الله والاستغفار.
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ فكيف يكون التَّسبيح بحمده؟ ليس هناك ما يشرح هذه الجملة، كما ذكرنا في تفسير هذه السُّورة الكريمة في رمضان أو بعد رمضان من هذا الحديث، النبي ﷺ كان يقول ذلك كما قالت عائشةُ -رضي الله عنها-: يتأوَّل القرآن. يعني: أنَّه يمتثل، فإنَّ التَّأويلَ يأتي بمعنى فعل المأمور، هذا أحد معاني التَّأويل، فهنا "يتأوَّل القرآن" يعني: يمتثل ما أمره اللهُ به حينما قال: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ، فكان يقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، يجمع بين التَّسبيح والحمد، والتَّسبيح عرفنا أنَّ (سُبحان) منصوبٌ على المصدر، تقول: سبَّحتُ اللهَ تسبيحًا، وسبحان، وهو بمعنى: التَّنزيه، والحمد عرفناه، وقلنا: إضافة صفات الكمال والجلال لله -تبارك وتعالى-، وإعادته ثانيًا هو الثَّناء، والإكثار من ذلك هو التَّمجيد.
طيب، ما معنى: سبحانك اللهم؟
عرفنا أنَّ "اللهم" يعني: يا الله، وأنَّه حُذفت ياء النِّداء، وأنَّ الميمَ جاءت عِوضًا عن ذلك، وأنَّه لا يُجمع بين ياء النِّداء والميم: سبحانك يا الله، فحُذفت ياء النِّداء.
وبحمدك بعضهم -كالإمام النَّووي رحمه الله- يقول: معناه: سبحانك اللهم وبحمدك يعني: "بتوفيقك لي وهدايتك وفضلك عليَّ سبَّحْتُك، لا بحولي وقوَّتي"[12]، فيكون خاضعًا بهذا التَّسبيح لنعمةٍ أخرى؛ وهي التَّوفيق والإعانة، يعني: سبَّحْتُك بحمدك، أنت الذي أعنتني على ذلك وقوّيتني، وهديتني إليه، فبفضلك عليَّ سبَّحْتُك، لا بحولي، ولا بقوَّتي. فهذا اعترافٌ من العبد للربِّ -تبارك وتعالى- بالإنعام والإفضال والإعانة والتَّوفيق، هكذا فسَّره النَّووي -رحمه الله-.
وبعضهم يقول: إنَّ معنى: سبحانك اللهم وبحمدك أُنَزِّهك وأتلبَّس بحمدك. وهذا كأنَّه أوضح، وأوضح منه مَن قال: إنَّ ذلك يكون بمعنى: أُسَبِّحك وأنا مُتَلَبِّسٌ بحمدك، أي: حال كوني مُتلبِّسًا بحمدك، فيكون ذلك للحال، إضافة الكمال وأوصاف الجلال لك سبحانك، كما ينبغي لجلال وجهك، وعظمة سُلطانك.
اللهم اغفر لي يا الله، اغفر لي، ذكر ذلك بعد التَّسبيح والتَّحميد؛ فإنَّ الدُّعاء والسُّؤال بعد الثَّناء على الله والتَّنزيه يكون أحرى للإجابة؛ ولهذا ينبغي للإنسان إذا أراد أن يدعو الله ألا يبدأ بمسألته مُباشرةً، وإنما يُقدِّم بين يديها من الثَّناء على الله، والتَّمجيد له، وذكره بأسمائه وصفاته وكمالاته ، فليذكر فقرَه وضعفَه وحاجته إلى ربِّه وخالقه .
كذلك أيضًا يذكر سوالفَ النِّعَم أنَّه لم يكن شقيًّا بدُعائه لربِّه فيما سلف، فالله يُعطيه ويُوليه ويُجيبه، فما كان بدعاء ربِّه شقيًّا، بل الله يُعطيه ويُكرمه ويُجيبه، فيذكر مثل هذه بين يدي الدُّعاء.
وانظروا هنا: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، وعرفنا أنَّ الغفر ينتظم معنيين: السَّتر، فلا يفضح في الدنيا، ولا في الآخرة، وكذلك أن يُوقَى تبعةَ هذه الذُّنوب وما ينتج عنها من المؤاخذة والعقوبة، وما إلى ذلك، وقلنا: منه المغفر، فهو يُغطِّي ويستر رأسَ لابسه، ويقيه الضَّرب.
"يتأوَّل القرآن"، وهذا كان يأتي به النبيُّ ﷺ في الركوع والسُّجود، كما تقول عائشةُ -رضي الله تعالى عنها-، اختار هذا التَّأول للقرآن، وامتثل أمر الله حينما قال له: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ، جعله في هذه الأحوال التي يكون العبدُ فيها مُعَظِّمًا لله غاية التَّعظيم، يعني: وهو راكعٌ، أو وهو ساجدٌ.
ويقول الحافظُ ابن رجب -رحمه الله-: في هذا الحديث دليلٌ على الجمع بين التَّسبيح والتَّحميد والاستغفار في الركوع والسُّجود[13]؛ لأنَّ هذا الحديثَ تضمَّن هذه الأشياء جميعًا، مع أنَّ النبي ﷺ قال: وأمَّا الركوع فعظِّموا فيه الربّ[14]، فهنا جاء تسبيحٌ وتحميدٌ واستغفارٌ!
فهذا أجاب عنه بعضُ أهل العلم بإجابات، كقول بعضهم بأنَّ هذا الذكر زيادةٌ على ذلك التَّعظيم الذي كان يقوله ﷺ: يقول: "سبحان ربي العظيم"، ويزيد هذا.
وبعضهم يقول -كابن دقيق العيد- بأنَّ حديثَ الباب هذا: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك يدلّ على الجواز، وأمَّا قوله: وأمَّا الركوع فعظِّموا فيه الربّ يدل على الأولوية[15]، يعني: أنَّ ذلك من باب أولى أن يكون للتَّعظيم.
لكن كيف يُقال: إنَّه من باب أولى، والنبي ﷺ يقول ذلك في ركوعه وسجوده؟
وبعضهم يقول: يحتمل أن يكون أُمِرَ بالسُّجود بتكثير الدُّعاء لإشارةِ قوله: وأمَّا السُّجود فاجتهدوا فيه بالدُّعاء، فقَمِنٌ أن يُستجاب لكم[16].
وأمَّا ما جاء في قوله: اللهم اغفر لي في الركوع، مثل هنا: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك؛ فإنَّ هذا قليلٌ، فلا يُعارض ما أُمِرَ في السُّجود، فالذي يظهر -والله تعالى أعلم- أنَّ هذا الذكرَ مُسْتَثْنًى، فيقوله في الركوع والسُّجود، لكن لا يتحرى في الركوع الدُّعاء، بمعنى: أنَّه في السُّجود يقول: ربي اغفر لي، وارحمني، وارزقني، واجبرني، وعافني، واهدني، واعفُ عني. ويدعو بما شاء، فيجتهد في الدُّعاء، لكن إذا ركع فإنَّه لا يجتهد في الدُّعاء، ولا يتحرى الدُّعاء في حال الركوع، فيكون هذا استثناءً فقط، يقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، فلو أنَّه قال هذا بعد أن يقول: سبحان ربي العظيم فهذا حسنٌ -والله تعالى أعلم-.
هذا ما يتعلق بهذا الحديث، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يُعيننا وإيَّاكم على ذكره وشُكره وحُسن عبادته.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دُنيانا.
ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذابَ النار.
اللهم اهدِ قلوبنا، وسدد ألسنتنا، والله أعلم.
وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
######################################################
دعاء الركوع
" سبوح قدوس رب الملائكة والروح "
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
في هذه الليلة -أيّها الأحبّة- نتحدَّث عن ذكرٍ جديدٍ مما يُقال في الركوع؛ وذلك ما ترويه عائشةُ أم المؤمنين -رضي الله تعالى عنها-، عن النبي ﷺ: أنَّه كان يقول في ركوعه وسجوده: سبُّوح، قدُّوس، ربُّ الملائكة والرُّوح[1].
قوله: سبُّوح، قدُّوس هذا الوزن -وزن فعول- يدل على المبالغة، ولم ترد في لغة العرب إلا في ألفاظٍ قليلةٍ محددةٍ، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، بل لا تبلغ ذلك، والمراد بها التَّنزيه.
فهاتان اللَّفظتان تدلان على التَّنزيه إجمالاً، وإن اختلفت عبارات أهل العلم في بيان الفرق بينهما؛ فبعضهم يقول بأنَّ الأولى: سبُّوح لتنزيه الذَّات، قدُّوس لتنزيه الصِّفات.
وبعضهم يقول بأنَّ سبُّوح من التَّسبيح الذي هو التَّنزيه، وقدُّوس من التَّطهير، ونحن نُسبِّح بحمدك، ونُقدِّس لك، ونُنزِّهك مُتلبِّسين بحمدك، ونُقدِّس لك، والمكان المقدَّس: المطهَّر، تقول: هذا شيء مُقدَّسٌ، يعني: مُطَهَّرٌ، لكنَّه مع التَّطهير -والله أعلم- فيه معنى التَّعظيم، فيكون تطهيرٌ مع التَّعظيم، تقول: هذه بُقعة مُقدَّسة مُطَهَّرة مُعَظَّمة، وهذا مسجدٌ مُقدَّسٌ، وما أشبه ذلك مما قد يُقال، فيدل على التَّطهير والتَّعظيم.
فبعض أهل العلم يقول: حينما نقول: سبُّوح، قدُّوس يكون التَّقدير: ركوعي وسجودي لمن هو سبُّوح، قدُّوس، ربّ الملائكة والروح.
فأنت حينما تركع وتقول: سبُّوح، قدُّوس بعضُهم يقول: التَّقدير إذا كنتَ راكعًا: ركوعي لمن هو سبُّوح، قدُّوس. وإذا كنتَ ساجدًا: سجودي لمن هو سبُّوح، قدُّوس، ربّ الملائكة والروح. فهذا قاله بعضُ أهل العلم.
وبعضهم قدَّره: أنت سبُّوح، قدُّوس، ربّ الملائكة والروح. وبعضهم يقول غير هذا من التَّقديرات، لكن كلّ ذلك يدلّ -كما سبق- على التَّنزيه، فهو مُنَزَّهٌ عن كل عيبٍ ونقصٍ في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله -تبارك وتعالى-، فإذا سبَّحت الله فإنَّك تكون قد نزَّهتَه من كل العيوب والنَّقائص، وما لا يليق بجلالته وعظمته.
فإذا فرّقنا بينهما قلنا: التَّسبيح بمعنى: التَّنزيه، والتَّقديس: تطهيرٌ مع التَّعظيم، طاهرٌ من كل عيبٍ، ومُنَزَّهٌ عن كل نقصٍ وما يُستقبح.
وبعضهم يقول: إنَّ "سبُّوح، قدُّوس" يعني: المسبِّح المقدِّس، وكأنَّ سبُّوح، قدُّوس مُسَبِّح، مُقَدِّس، ربّ الملائكة والروح، فجاء بها على وزن (فعول) يعني: مُبالغة: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [الجمعة:1]، تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، فكل ما في هذا الكون يُنَزِّه الله عن كلِّ ما لا يليق بجلاله وعظمته من كلِّ ما يكون نقصًا وعيبًا، والله -تبارك وتعالى- يُوصَف بأنَّه سبُّوح، ويُوصَف بأنه قدُّوس.
والسبوح عدَّه جماعةٌ من أهل العلم من أسماء الله ، فإنَّ أكثر الذين تكلَّموا في أسماء الله -تبارك وتعالى- ذكروه في جملة الأسماء الحسنى، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-[2]، وقبله ابن منده[3]، والبيهقي[4]، والإمام الأصبهاني صاحب "الحجّة"[5]، وخلق كثير، ومن المتأخّرين الشيخ محمد الصَّالح العثيمين -رحم الله الجميع-[6]، فهؤلاء كلّهم عدُّوا ذلك من جملة الأسماء الحسنى، ولم يرد فيه فيما أعلم إلا هذا الحديث: سبُّوح، قدُّوس، وقد ذكرنا في مُقدمات الأسماء الحسنى ما يُعدّ من جملة الأسماء، وأنَّ بعضَهم اشترط فيه الإطلاق والتَّعريف؛ ولهذا فإنَّ القدُّوس بالاتِّفاق من أسماء الله الحسنى: الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ [الحشر:23] في آخر سورة الحشر، فهذا بالاتِّفاق من أسماء الله ، والعلماء متَّفقون عليه، بخلاف السُّبوح: هل هو من أسماء الله، أو لا؟ لكن الأكثر أثبتوه.
وابن قتيبة -رحمه الله- يقول بأنَّ "القدُّوس" من القدس، والقدس هو الطَّهارة[7]، وشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: القدُّوس: المستحقّ للتَّنزيه عن السُّوء[8]. كما قلتُ بأنَّ ذلك يرجع إلى معنى التَّنزيه، لكن ما الفرق؟
يقول شيخُ الإسلام: وهو سبحانه سبُّوح، قدُّوس، يُسبِّح له ما في السَّماوات والأرض[9].
وهذا كما سيأتي -إن شاء الله تعالى- في الكلام على الأسماء الحسنى، وفي الكلام على القدُّوس، السَّلام، فبينهما أيضًا مُشابهة في المعنى؛ ولذلك اختلفت عبارات العلماء في الفرق بين القدُّوس والسَّلام؛ فبعضهم فسَّر القدُّوس: الطَّاهر من كل عيبٍ ونقصٍ، والسَّلام: السَّالم من كل عيبٍ ونقصٍ، والمعنى مُتقارب.
وبعضهم أرجع ذلك إلى التَّنزيه مطلقًا، فجعلوا الأول للتَّنزيه في الماضي، والثاني للتَّنزيه في المستقبل والحاضر.
فعلى كل حالٍ، هنا أيضًا يتقارب القدُّوس مع السبُّوح.
والروح الروح فُسّر بأنَّه ملكٌ من الملائكة، وفُسّر بأنَّه جبريل -عليه الصلاة والسلام-، فعلى هذين التَّفسيرين يكون هذا من قبيل عطف الخاصِّ على العامِّ: ربّ الملائكة والروح، فيكون خصَّ الروحَ لشرفه ومنزلته ومكانته وعظيم قدره، هذا على هذا التَّفسير أنَّه مَلَكٌ، سواء قيل: جبريل أو لا.
وقد مضى الكلامُ في رمضان على ذلك في تفسير: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ [النبأ:38]، وذكرنا أقوال أهل العلم فيه.
فهذا الاسم (الروح) بعضُهم يقول بأنَّه أرواح بني آدم: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ يعني: الأرواح يوم القيامة، وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ، الكل خاضعٌ لعظمة الله في ذلك اليوم.
وبعضهم يقول: الروح هو القرآن؛ لأنَّ الله وصفه بذلك: أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]؛ لأنَّه لا حياةَ للأرواح إلا به: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ، هل معناه: يقوم القرآن؟ هذا فيه بُعْدٌ، وهذا ذُكر في جملة الأقوال في الآية: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ.
وأما هنا: ربّ الملائكة والروح، فإذا فُسّر الروحُ بالقرآن في هذا الحديث؛ فإنَّ "ربّ" يكون بمعنى: صاحب؛ لأنَّ القرآنَ كلامُ الله، وكلامه صفةٌ من صفاته، ليست بمخلوقةٍ، فالربّ يأتي بمعنى صاحب الشَّيء؛ لأنَّ الله هو الذي تكلَّم به، لكن هذا التَّفسير فيه بُعْدٌ -والله تعالى أعلم.
وأبو جعفر ابن جرير -رحمه الله- لما ذكر هذه الأقوال لم يُرجِّح، فقال: "والصَّواب من القول أن يُقال: إنَّ الله -تعالى ذكره- أخبر أنَّ خَلْقَه لا يملكون منه خطابًا يوم يقوم الرُّوح، والرُّوح خَلْقٌ من خَلْقِه، وجائزٌ أن يكون بعض هذه الأشياء التي ذُكِرَتْ، والله أعلم أيّ ذلك هو، ولا خبر بشيءٍ من ذلك أنَّه المعنيّ به دون غيره يجب التَّسليم له، ولا حُجَّة تدلّ عليه، وغير ضائرٍ الجهل به"[10].
يقول: ما عندنا خبرٌ، ولا نقلٌ، ولا نصٌّ يدل على تخصيص أحد هذه المعاني، لكن ابن كثير -رحمه الله- لما نقل توقف ابن جرير في ترجيح أحد المعاني في الآية، قال: "والأشبه -والله أعلم- أنَّهم بنو آدم"[11]، يعني: أرواح بني آدم؛ لقوله: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ.
هنا في هذا الحديث: ربّ الملائكة والروح، يحتمل أن يكون المرادُ جبريل ﷺ: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا [مريم:17]، قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ [النحل:102]؛ لأنَّه يأتي بالوحي الذي به حياة الأرواح، فقيل له: الروح، كما يقول بعضُ أهل العلم، ففسّر: سبُّوح، قدُّوس، ربّ الملائكة والروح بجبريل ﷺ، أو ملك من الملائكة -كما سبق-؛ فيكون من قبيل عطف الخاصِّ -ملك معين- على الملائكة؛ لأنَّه واحدٌ منهم: ربّ الملائكة بما فيهم الروح جبريل ﷺ، لكنَّه ذكره، مثل: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، خصَّها لأهميتها.
ويحتمل أنَّ المراد بـربّ الملائكة والروح الأرواح المخلوقة، وكأنَّ الأقربَ -والله أعلم- أنَّ المقصودَ بالروح هو جبريل -عليه الصلاة والسلام-.
هذا ما يتعلق بهذا الذكر الذي يُقال في الركوع والسُّجود، فهذا لو أنَّ أحدًا استقلَّ به في ركوعه وسجوده، فإنَّه يُجزئه -إن شاء الله-، ولو قاله مع قوله: سبحان ربي العظيم[12] فلا بأس بذلك، والله أعلم.
وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
###########################################
دعاء الركوع
" اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت... "
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
في هذا اليوم -أيّها الأحبّة- صُلِّيَ على نحو إحدى عشرة جنازة: رجال ونساء وطفل، وحينما ننظر في حالنا وهذه الجنائز تُحمل على الأعناق تباعًا إلى القبور، نجد -للأسف الشَّديد- أنَّ الغفلةَ غالبةٌ في هذا المقام والمشهد الذي ينبغي أن يكون موضعًا للتَّفكر والاعتبار.
كان السَّلفُ -رضي الله تعالى عنهم- إذا شهدوا جنازةً -كما وُصِفُوا- لا ترى إلا مُتقنِّعًا باكيًا، أو مُتفكِّرًا، حتى جاء عن بعض السَّلف أنهم لربما شهدوا الجنازةَ ولم يعلموا بأهل الميت؛ لما يرون من كثرة الباكين، فهذا مقامٌ للاتِّعاظ، لكن إذا نظرنا إلى اهتماماتنا وحديثنا في المقابر ونحن نصطفّ لنُعزِّي هؤلاء، تجد الكثير منا لربما يتحدَّث عن اهتماماته، وبعضنا يتحدَّث عن تويتر ويضحك، ويتحدَّث مع أصحابه، وآخرون يتحدَّثون عن قضايا أخرى، وضحك، وكأنَّهم في سوقٍ، أو في مُنتدى.
فإذا كان الاتِّعاظ لا يتحقق -أيّها الأحبّة- في مثل المقبرة، وهذه الأعداد من الجنائز، فلا أدري متى يكون ذلك؟!
فيحتاج العبدُ إلى مُراجعة قلبه وقسوته، وإصلاح ما فسد منه، وأحد هؤلاء الشَّباب كان يسأل في مثل هذا الموقف: أنَّه حفظ جملة المتون، فيقول: بماذا تُوصي؟ فقلتُ له: اعمل لمثل هذا اليوم، فليست القضيةُ حفظَ متونٍ، ولا قراءة، ولا كثرة كتبٍ ومراجع، ولا كثرة شهادات، وإنما العبرةُ بما يكون عليه الإنسان، وما يقدم به على ربِّه -تبارك وتعالى-، هذه العبرة؛ ولذلك فإنَّ المؤمن ينبغي له دائمًا أن يتفكَّر في هذا المصير المحتوم، وهي مسألة وقتٍ والكل سيمضي، فإذا أراد أن يتكلم بكلمةٍ يحسب لها حسابًا، وإذا أراد أن يكتب شيئًا فليحسب له حسابًا، وإذا أراد أن يُجيب على سؤالٍ فليحسب لذلك حسابًا، حينما يُسأل: قلتَ كذا، وأجبتَ بكذا، وكتبتَ كذا، ونظرتَ إلى كذا، ومشيتَ إلى كذا. فلا بدَّ أن يكون الجوابُ حاضرًا، فقبل أن يُجيب الإنسانُ يستحضر وقوفَه بين يدي الله ، وقبل أن يُقرر مسألةً في العلم والشَّرع أن يقول: هذا هو الصَّحيح، وهذا هو الرَّاجح، وما عداه باطل. فيستحضر الجواب، كيف قلت: هذا هو الراجح؟ وكيف قلت: هذا غلط؟ وكيف قلت: هذا هو الصَّواب؟
فتكون كلماتُه وعباراتُه له فيها مخرجٌ عند الله ، فلا يتكلم إلا بعلمٍ، وتكون عباراته: لو قال قائلٌ كذا، لو أنَّ أحدًا فسَّره بكذا لكان له وجهٌ، فإنَّه يحتمل.
وهكذا حينما يكتب يتذكر أنَّ ذلك يُكتب في صحيفته، وحينما يتكلم في كل مواقفه وأحواله، فهكذا ينبغي أن يكون أهلُ الإيمان، أمَّا الغفلة في الحياة، وعند رؤية المقابر والقبور والجنائز وهي تُحْمَل، وبهذه الأعداد، جنائز مُتتابعة محمولة خلف بعضها: إحدى عشرة جنازة، ولا يُحرِّك في نفوسنا شيئًا، ونضحك، ونتحدَّث عن اهتمامات أخرى لا قيمةَ لها، فهذا لا شكَّ أنَّه من الغفلة.
فنسأل الله أن يلطف بنا، وأن يُصلح قلوبنا وأعمالنا.
بعد ذلك أقول -أيّها الأحبّة-: في هذه الليلة نشرح حديثًا آخر من الأذكار التي تُقال في الركوع؛ وذلك ما جاء عن علي بن أبي طالبٍ -رضي الله تعالى عنه- في الحديث الذي أخرجه الإمامُ مسلمٌ في "صحيحه": أنَّ النبي ﷺ كان إذا ركع قال: اللهم لك ركعتُ، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ، أنت ربي، خشع سمعي وبصري ومخِّي وعظمي وعصبي[1]، وفي لفظٍ: خشع سمعي وبصري ومخي وعظمي وما استقلَّت به قدمي لله ربِّ العالمين[2]، هذه الزِّيادة ليست في "صحيح مسلم"، لكنَّها ثابتة.
فقوله: اللهم لك ركعتُ عرفنا أنَّ (اللهم) يعني: يا الله، لك ركعتُ. ولاحظوا هنا أنَّه قدَّم الجار والمجرور ليُفيد الحصر، فلم يقل: ركعتُ لك، فإنَّه لو قال ذلك فإنَّه لا يُفيد الحصر، ركعتُ لك مثلاً يحتمل ولغيرك، لكنَّه هنا قال: لك ركعتُ، مثلما قلنا في: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، يعني: نعبدك وحدك، ونستعين بك وحدك.
فهنا لك ركعتُ يعني: دون ما سواك. وهذا ينبغي أن يُراعي فيه قائلُه النية والقصد والإخلاص، فقد يقول الإنسانُ: لك ركعتُ وهو يتزين بركوعه وصلاته لأحدٍ من المخلوقين، فلا يكون قد ركع لله حقيقةً.
لك ركعتُ والركوع معروفٌ: هو الانحناء والميلان، يُقال: "ركعت النَّخلةُ" إذا مالت، وقد يُراد به الصَّلاة أحيانًا، من باب إطلاق اسم الجزء على الكلِّ: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43]، ما المراد به؟ الصَّلاة، والصَّلاة يُقال لها: ركوع، كما يُقال لها أيضًا: سجود، فتُسمَّى ببعض أجزائها مما هو ركنٌ فيها.
اللهم لك ركعتُ، وبك آمنتُ يعني: أذعنتُ، وانقدتُ، وأقررتُ، وصدقتُ تصديقَ الانقيادِ، فهذا إذعان الباطن وتصديقه وانقياده.
ولك أسلمتُ يعني: أسلم لساني وجوارحي لله ربِّ العالمين، فهي طيِّعةٌ لربها وخالقها، لا تخرج عن طاعته، ولا تتمرد على عبادته، وإنما تكون في حالٍ من الاستسلام لله ربها وخالقها -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه-.
خشع لك سمعي كما سبق في الكلام على الخشوع مُفَصَّلاً في الأعمال القلبية، وتطرقت إلى معناه، وهنا في بعض هذه المجالس.
والخشوع فُسِّر بالسُّكون والتَّواضع، كما قال شيخُ الإسلام -رحمه الله-، فإنَّ هذا المصلِّي حينما يقول: خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي يكون قد وصف نفسَه بالخشوع في حال الركوع؛ لماذا؟ لأنَّ هذا الراكعَ ساكنٌ مُتواضعٌ[3]، خاضعٌ لله -تبارك وتعالى-، قد حنى جسدَه إعلانًا وإيذانًا بتواضعه لربِّه -تبارك وتعالى-، وتعظيمه له، وبهذا فُسِّر قوله -تبارك وتعالى-: فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:2]، فهذا الخشوع في الصَّلاة فُسِّر بالسُّكون.
وابن عباسٍ -رضي الله عنهما- قال: خائفون، ساكنون[4]. وجاء عن مجاهدٍ أيضًا تفسيره بالسُّكون فيها[5]، وكذلك محمد بن شهاب الزهري[6]، وطائفة من السَّلف، فمَن بعدهم -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم-.
فهذا الخشوع يكون في القلب، ويظهر أثرُه بعد ذلك على رعيَّة هذا القلب، وما رعيَّة هذا القلب؟ كلّ ما عدا القلب فهو من رعيَّته: كالسَّمع والبصر والمخ والعصب وسائر الأعضاء، كلّها رعيَّة لهذا القلب، فإذا خشع القلبُ خشع كلُّ شيءٍ وسكن، وإذا كان هذا القلبُ شاردًا اشتغلت هذه الجوارح بالحركة والفكر بالتّجوال هنا وهناك في أمور دُنياه، وما إلى ذلك مما هو بعيدٌ كل البُعد عن صلاته، فلم يخشع فكرُه ومخُّه؛ لأنَّ قلبَه لم يخشع، وكذلك بقية أعضائه وأبعاضه، فإنَّها لا تكون خاشعةً؛ لأنَّ الملكَ غير خاشعٍ.
ولذلك تجد الإنسان حينما يتأثّر في صلاته، أو في الموعظة، أو نحو ذلك، أو يتفكّر؛ فيلين قلبُه، تجد أنَّ جميع الجوارح تكون في حالٍ من السُّكون، فإذا رأيتَ عابثًا في هذه الحال تعلم أنَّه أبعد ما يكون عن الخشوع.
فهذا الخشوع -أيّها الأحبّة- يكون في القلب، وينبعث على بقية الجوارح والأعضاء والأبعاض بالخضوع والتَّواضع والسُّكون؛ ولذلك نجد العلماء -رحمهم الله- حينما يُفسِّرون الخشوع تارةً يُفسِّرونه بسببه، أو ببعض أسبابه ومُوجباته، وتارةً يُفسِّرونه ببعض آثاره، والواقع أنَّ السكونَ هو أثرٌ من آثار الخشوع، وإلا فإنَّ الخشوعَ يكون في القلب.
وهنا يقول: خشع لك سمعي وبصري ومخِّي المخُّ فسَّره العلماء بالدِّماغ، والعلماء يُفسِّرونه يقولون: أصله الودك الذي في العظم، ويُقال لخالص كل شيءٍ: مخّه، يعني: خُلاصته، وهذا المخّ لا شكَّ أنَّه في الدِّماغ، ويُوجد أيضًا في العِظام -كما هو معلومٌ- مخٌّ، ما دام هذا العظم في حالٍ من عافيته وصحّته وسلامته، حينما يكون الإنسانُ صحيحًا، لكن هذا المخّ تجري فيه عمليات ترتبط مع القلب، وإن كان العقلُ في القلب كما دلَّت عليه نصوصُ الكتاب والسُّنة، لكنَّه يرتبط بالدِّماغ.
يقول: خشع لك سمعي وبصري ومخِّي وعظمي وعصبي الكلّ، العِظام والعصب لا يتحرَّكان ولا يقومان إلا بالله -تبارك وتعالى- وطاعته.
وما استقلَّت به قدمي يعني: ما قامت به وحملته، وما الذي حملته القدم؟ جميع البدن بما فيه القلب، فكأنَّ هذا من عطف العام على الخاصِّ، يعني: ذكر أشياء خاصَّة: السَّمع والبصر والمخّ والعصب والعظم، ثم قال: وما استقلَّت به قدمي؛ ليشمل الجميع، فذكر أشياء أساسية مهمة في البداية سمَّاها، ثم عمَّم بعد ذلك، فيكون ذلك من باب ذكر العام بعد الخاصِّ.
هذا الدعاء -أيّها الأحبّة- أو هذا الذكر كما يقول الحافظُ ابن القيم -رحمه الله-: قد جمع بين شهود عبوديته لربِّه -تبارك وتعالى-، وشهوده معبوده[7]، وهذا كمال العبودية، يعني: أن يشهد ما يأتي به من العبودية مُوجِّهًا لها إلى المعبود -تبارك وتعالى-، محضِرًا لها بين يديه، مُتقرِّبًا بها إليه، فهو يُخاطِب ربَّه -تبارك وتعالى- فيقول: "اللهم"، فهو مُسْتَحْضِر الإخلاص، وأنَّه ركع لله ، ثم أيضًا هو مُستحضرٌ لهذه العبادة التي يقوم بها، وأنَّه يتقرَّب بها إلى الله -تبارك وتعالى- على الوجه الصَّحيح.
هكذا قال الحافظُ ابن القيم -رحمه الله-، لكن ينبغي أن نتأمّل هنا معنى: حينما يقول الإنسانُ: خشع لك سمعي وبصري.. إلى آخره، ويكون أبعد ما يكون عن الخشوع، فإنَّ هذا يكون كذبًا، ويقول بلسانه غير الحقيقة، فينبغي التَّنبه لمثل هذا، وأن يعي الإنسانُ ما يقول، وألا يكون قولُه مُكذِّبًا لحاله، وألا تكون حالُه مُكذِّبةً لقوله، وألا يكون فعلُه مُكذِّبًا لقوله.
وقد يقول قائلٌ: ما وجه ارتباط هذه الجُمَل في أول الحديث حينما يقول بأنَّه ركع لله ، ثم بعد ذلك يقول: خشع لك سمعي.. إلى آخره؟
أجاب العلماء عن وجه الارتباط، ولماذا حُذفت واو العطف، فلم يقل: وخشع لك سمعي وبصري؟ فوجه ذلك كما قال بعضُ أهل العلم: هذا تفسيرٌ لقوله: لك أسلمتُ، فما هذا الإسلام؟
إسلام جميع الأعضاء والجوارح لربِّها وخالقها ، وإسلام الظَّاهر، فهنا يقول: انقدتُ وأطعتُ، فهذا الانقياد في كلِّ أجزائه وأبعاضه وخلايا جسده، فهي مُنقادةٌ كلّها، وخاضعةٌ لربِّها -تبارك وتعالى-.
فهنا كأنَّه بيَّن نوعي الانقياد والطَّاعة: خشع سمعي، ثم بيَّن الانقياد هذا في أشياء ظاهرة: كالسَّمع، والبصر، وأيضًا في أشياء لا تُرى، مثل: المخّ، والعصب، فخشع الظاهرُ والباطنُ، الجوارح والأعضاء الظَّاهرة، والأبعاض الباطنة، الكلّ مُستسلمٌ لله -تبارك وتعالى-، خاشعٌ، خاضعٌ له، فيكون ذلك كأنَّه توضيحٌ وبيانٌ وشرحٌ لهذا الإسلام في قوله: لك أسلمتُ.
وقد يقول قائلٌ: لماذا خصَّ السَّمع والبصر من بين الحواس الظَّاهرة، والمخّ والعظم والعصب من الأشياء الباطنة، مع أنَّ الأبعاضَ أكثر من هذه؟
أجاب بعض أهل العلم بالقول: بأنَّه خصَّ السَّمع والبصر لأنَّهما أعظم الحواس وأخطرها، بهما يُتلقَّى، فهما كالميزابين يصبَّان في القلب، والصّور المشاهدة تُؤثِّر في القلب، فالتَّلقي يكون بالسَّمع والبصر؛ ولهذا قال الله : إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36]، فهي أخطر هذه الأعضاء وأكثرها عملاً، كما قيل: العين لا تشبع من النَّظر ولا تكتفي، بعكس البطن مثلاً، يأكل ثم يشبع، ولا يستطيع أن يأكل بعد ذلك، لكن العين تنظر بلا كللٍ ولا مللٍ، وكلّما تُعطيها من المشاهد والصُّور فهي تتبعه، ولا تقول: اكتفيتُ بصورةٍ أو صورتين أو خمسٍ أو عشرٍ، وإنما هل من مزيدٍ؟
وكذلك ما يسمعه الإنسانُ؛ ليس هناك شيءٌ يملأ النفسَ من هذه المسموعات، يقول: أستطيع أن أسمع عشر دقائق مثلاً، أو ساعة. لا، هو يمكن أن يجلس ويسمع ما شاء الله، إلى أن يسقط مُنهكًا ومُتعبًا أو ينام، ولا يزال يسمع.
فهنا الخواطر والوساوس تأتي إلى القلب، والأشياء التي يُشاهدها تُشوش فكرَه وصلاتَه، وقد ينشغل بمَن بجواره، يريد أن يتعرف على المصلِّي بجانبه، وما إلى ذلك.
وأمَّا المخّ والعظم والعصب، فبعض أهل العلم يقول: إنَّ ذلك لكون ما في أقصى قعر البدن هو المخّ، ثم العظم، ثم العصب؛ لأنَّ المخَّ -كما قالوا- يُمسكه العظم، والعظم يُمسكه العصب، وسائر أجزاء البدن مُركَّبة عليها، يعني: هذه هي -كما يُقال- مثل العُمد والأُسس والأُصول في البناء، والباقي مثل الطوب والأبواب والنَّوافذ، وما إلى ذلك، فقالوا: هذه الأُسس التي يقوم عليها اللحمُ والشَّحم، إلى آخره، فهذا اللَّحم والشَّحم يذهب ويجيء ويتبدّل، لكن يبقى العصبُ لا يتبدّل، وتبقى العظامُ عليها قوام البدن، وهكذا أيضًا المخّ، فهذه الأشياء التي يقوم عليها بناءُ الإنسان والحيوان، وهكذا.
لكن ما معنى انقياد هذه الأشياء؟
أما السمع والبصر فظاهرٌ، ومن خضوعه وخشوعه أن يقبل الحقَّ، ويُعرض عن سماع الباطل، ويُقْبِل على ما ينفع.
وكذلك البصر ينظر به إلى ما يُرضي الله ، ويُعرض عمَّا حرم الله -تبارك وتعالى-.
أما المخّ والعظم والعصب فهذا يعني: انقياد الباطن، وانقياد جميع أبعاض الإنسان؛ ليكون مُحقِّقًا للعبودية بكلِّ ذرَّاته، خاضعًا، خاشعًا، فحينما يقول هذا في هيئة الركوع، ويُخاطِب ربَّه، فهذا مقامٌ يحتاج إلى استحضارٍ: هل كلّ الأجزاء فعلاً خاشعة؟ وهل هي بهذه المثابة إلى هذا الحدِّ من عظمٍ وعصبٍ ومخٍّ وما إلى ذلك؟ أو أنَّ هذا الإنسان يُصلي وعيناه تجولان في المسجد، في سقفه، وفي المصلين، ونحو ذلك؟
فإذا حصل هذا الانقيادُ الكامل صار العبدُ في حالٍ من النَّزاهة والطُّهر والاستقامة والعبودية، وأبعد ما يكون من خواطر السُّوء والفساد والشَّر في باطنه وظاهره، فيسلم ويسلم منه الناسُ، وبهذا تنهاه صلاتُه عن الفحشاء والمنكر، عرفتم لماذا كانت الصلاةُ تنهى عن الفحشاء والمنكر؟
فلو نستحضر هذه المعاني لم نحتج إلى كلامٍ كثيرٍ في الجواب الذي أوردناه من قبل؛ ولماذا يخرج الإنسانُ من المسجد فيذهب يفتح صورًا مُحرَّمةً؟ ويخرج من المسجد ويغشّ في البيع، ويُخاصم ويفجر في الخصومة، ويكتب ما لا يُرضي الله -تبارك وتعالى-، والقلب مليءٌ بالغشِّ والغلِّ والحسدِ لإخوانه المسلمين، والظنّون السَّيئة، والأوهام الفاسدة، كلّ هذا يتنزَّه منه المؤمنُ الذي يُصلي بهذه الصَّلاة، ومَن كانت صلاتُه لا تنهاه عن الفحشاء والمنكر، فهذه الصَّلاة صورةٌ بلا روحٍ، وقد لا تزيده من الله إلا بُعْدًا، نسأل الله العافية.
هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
------------------------------------------------------------------
ما زلنا أحبابي تابعونا جزاكم الله خيرا
ولا تنسونا من صالح دعائكم
أدعيه الركوع
" سبحان ربي العظيم " " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي "
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أيّها الأحبّة، في هذه الليلة نشرع -إن شاء الله- في الكلام على الأذكار والأدعية التي تُقال في الركوع، فأول ذلك مما أورده المؤلفُ ما جاء في حديث حُذيفة بن اليمان : أنَّه سمع رسولَ الله ﷺ يقول إذا ركع: سبحان ربي العظيم ثلاث مرات، وإذا سجد قال: سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات[1].
وسيكون حديثنا -إن شاء الله- عن الشقِّ الأول، وهو ما يتَّصل بالركوع، وسيأتي الكلامُ -إن شاء الله- على ما يتعلق بالسُّجود في موضعه.
فهذا الحديث أخرجه ابن ماجه، وهذه الزِّيادة التي فيه -وهي تقييد ذلك بثلاث مرات- لا تخلو من ضعفٍ، سواء كان ذلك في هذا الحديث -حديث حُذيفة-، أو في غيره مما جاءت به هذه الزِّيادة.
لكن بعض أهل العلم صحَّحها للشَّواهد التي تتقوَّى بها، وإن كانت هذه الشَّواهد لا تخلو من ضعفٍ في أسانيدها، كما جاء ذلك في حديث عبدالله بن مسعود[2]، وحديث جبير بن مطعم[3]، وحديث أبي مالك الأشعري[4]، وحديث أقرم بن زيد الخزاعي[5]، وحديث أبي بكرة -رضي الله عنهم أجمعين-[6]، هذه كلّها جاء فيها التَّقييد، أو أنَّه كان يقول ذلك ثلاث مرات، لكن في أسانيدها ضعف، ومن أهل العلم مَن رأى أنها تتقوى بمجموعها: كالشَّيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله-[7]، والشيخ شُعيب الأرنؤوط[8]، فصحَّحوها لأجل ذلك.
وليس الحديثُ الآن عمَّا يتعلق بالمشروع في السّجود والركوع في عدد التَّسبيحات، وإلا فقد جاء ما يدلّ أيضًا على غير ذلك مما هو أكثر في العدد، يعني: بنحو عشر تسبيحات، ولكن ليس هذا موضع الحديث عن هذه المسألة، وإنما نحن هنا نشرح الأذكار.
يقول في الركوع: سبحان ربي العظيم، عرفنا أنَّ التَّسبيح معناه التَّنزيه، وأنَّ "سبحان" منصوبٌ على المصدر، فكأنَّه يقول هذا المسبِّح: أُنَزِّهُ الله من كلِّ عيبٍ ونقصٍ.
وكذلك أيضًا في معنى العظيم: سبحان ربي العظيم، فإنَّ العظيم هذا اسمٌ من أسمائه -تبارك وتعالى-، يتضمّن صفةَ العظمة، وهذه الصِّفة من الصِّفات الجامعة التي تكون بمجموع أوصافٍ مُتحققةٍ، تكون منها العظمة، وأصل ذلك في كلام العرب "العظيم" يقولونه لما يُقابل الحقير، كما يقولون: "الصَّغير" لما يُقابل الكبير، فالعظيم فوق الكبير؛ لأنَّ الكبير قد لا يكون عظيمًا، قد يكون الكبيرُ حقيرًا، فالعظيم فوق الكبير، هكذا ذكر بعضُ أهل العلم، كصاحب "الكليات" الكفوي[9].
والعظمة صفةٌ ثابتةٌ لله ، نُثبتها على ما يليق بجلال الله وعظمته، ولا نتعرَّض لذلك بتأويلٍ وتحريفٍ، لكن نُثبتها كما جاءت، وسيأتي الكلامُ على هذا -إن شاء الله- قريبًا في الكلام على الأسماء الحسنى.
يقول: سبحان ربي العظيم والنبي ﷺ يقول: فأمَّا الركوع فعظِّموا فيه الربّ [10]، فيجتمع بذلك الهيئة (الفعل)، فحينما ينحني الإنسانُ فإنَّ هذا الانحناء يدل على التَّعظيم، وكذلك أيضًا القول مع الفعل، فيُردد لسانه: سبحان ربي العظيم، كان الناس يُعظِّمون كُبراءهم من الملوك، ومن كبار أهل ديانتهم، كما يفعل النَّصارى، فيسجدون لهم أو يركعون، فنُهِينا عن ذلك، وأُمِرْنَا بألا نسجد إلا لله ، وكان ذلك جائزًا في بعض الشَّرائع، والله -تبارك وتعالى- أمر الملائكةَ أن يسجدوا لآدم ﷺ سجود تكريمٍ، وليس سجود عبادةٍ.
وقال الله -تبارك وتعالى- في حقِّ يوسف -عليه السلام- في الرُّؤيا التي رآها: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف:4]، إشارة إلى أبيه وأمه وإخوته، رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا [يوسف:4] هؤلاء الإخوة، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ الأم والأب، رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ، وجاء تأويلُ ذلك في آخر السُّورة، كما أخبر الله -تبارك وتعالى-: وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا [يوسف:100]، فهذا كلّه كان جائزًا، ولكنَّه حرم في هذه الشَّريعة.
والله قال لبني إسرائيل: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا [البقرة:58]، المقصود على هيئة الركوع، فإنَّ السجود يُقال للانحناء الذي هو الركوع، كما في هذه الآية التي في سورة البقرة: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا، ليس معنى ذلك أنَّهم يضعون جباههم على الأرض ويزحفون، فهذا لا يتأتَّى، كيف يدخلون البابَ ووجوههم في الأرض؟! وإنما يدخلون في حالٍ من الانحناء؛ خضوعًا لله ، وشكرًا على نعمة الفتح.
فالمقصود أنَّ العبدَ حينما يحني ظهره، فإنَّ هذا مظهرٌ من مظاهر التَّعظيم، فإذا قارنه هذا القول: سبحان ربي العظيم فلا شكَّ أنَّه حينما يجتمع هذا وهذا يكون ذلك من المقامات التي تخضع معها القلوب لباريها وفاطرها -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه-، ولكنَّه الإلف -أيّها الأحبّة-، فقد ألفنا هذه المشاهد والمزاولات، فصارت لا تُحرِّك فينا ساكنًا، لو رأيت الناس خُضعانًا لأحدٍ من البشر، قد انحنوا أمامه بسكونٍ، ويُرددون كلامًا كهذا، يُعظِّمونه به مثلاً؛ لكان ذلك مما يقف له شعرُ الرأس، ويقشعر البدن، فكيف يكون هذا أمام المعبود في حال مُناجاته في الصَّلاة، ومع ذلك لا يُؤثر فينا؟!
الصلاة هذه من أوَّلها إلى آخرها مليئة بالأقوال والأفعال التي تُوجب حضورَ القلب والخشوع، وتُهذِّب النَّفس وتُورثها التَّواضع والذّل لله ، فلا يحصل من العبد أدنى مُعارضة، أو شموخ، أو ترفّع على طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ، ولكن ألفنا هذه الأشياء؛ ولذلك انظر إلى حال أولئك الذين يدخلون في الإسلام حديثًا، سله عن أول دخوله حينما نطق بالشَّهادتين؛ تجد أنَّ عامَّة هؤلاء ينطقون الشَّهادةَ وهم يبكون، لا أعني الذين يأتون أمامكم في المساجد، فهؤلاء يُعيدون النُّطق بالشَّهادة، لكنَّهم في الواقع نطقوا بها في مكانٍ آخر، فجيء بهم أمام الناس من باب التَّحفيز والتَّشجيع والدَّعم المعنوي لهم؛ ليُهنِّئهم إخوانُهم بالدُّخول في الإسلام، وإلا هم قد قالوا ذلك من قبل؛ ولهذا الذين يأتون هنا نقول: لا حاجةَ لقيامه بالنُّطق بالشَّهادتين، يكفي أن يُقال: هذا أخوكم قد دخل في الإسلام، فهنِّئوه، مثلاً، ولا حاجةَ للإعادة ثانيةً وقد نطق بذلك في مكانٍ آخر.
على كل حالٍ، سلوا هؤلاء عن أول صلاةٍ صلّوها، وعن أول ركوعٍ ركعوه، ستجدون أنَّهم لا يستطيعون التَّعبير عن ذلك، بل سلوا الذين قد أقعدتهم العِلل والأوصاب والأمراض، فصاروا ما يستطيعون الركوع والسُّجود، سلوهم، مع أنَّ هذا السؤال سيُثير شجونهم، وقد يُجيبك بالبكاء، قل له: ماذا تشتهي في الدنيا؟ يقول: أن أركع وأسجد. لكن لا يعرف قدرَ هذه العبوديات إلا مَن فقدها، يحتاج العبدُ أن يُجدد هذه المعاني مع نفسه.
ثم ذكر حديثَ عائشة -رضي الله عنها-، أنها قالت: كان النبيُّ ﷺ يُكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأوَّل القرآن[11]، وهذا مُخرَّجٌ في "الصحيحين".
يُكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك يحتمل أنَّه يقول ذلك مع غيره، كأن يقول: سبحان ربي العظيم، ويُضيف: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، ويحتمل أنَّه يقول ذلك في ركوعه أو سجوده على سبيل الاستقلال.
ثم إنها لم تخصّ الفرضَ بذلك أو النَّفل، فدلَّ على الإطلاق، وهو أنَّ ذلك يُقال في الركوع والسُّجود، وفي الفريضة والنَّافلة، وفي صلاة الليل، وفي غيرها، فيُكثر المؤمنُ من ترداد ذلك، لا سيّما إذا كان في آخر العمر، وضعف وشاخ، وظهرت أمارات الرَّحيل.
في قوله -تبارك وتعالى-: وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37]، فسَّره كثيرٌ من السَّلف -وهو أحد الأقوال المشهورة- بالشَّيب، فإذا ظهر الوهنُ على الإنسان والضَّعف فإنَّه حينما يقترب رحيلُه من الدنيا يُكثر من هذا، كذلك مَن نزل به مرضٌ مَخوفٌ خطيرٌ، وقد يموت من هذا المرض، أو أنَّ الإنسان يموت غالبًا، أو نحو ذلك، فإنَّه يُكثر من هذا؛ لأنَّ الله قال لنبيِّه ﷺ: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر]، فجعل ذلك أمارةً -كما فهم ذلك ابنُ عباسٍ وعمر رضي الله عنهم أجمعين- على قُرب أجله ﷺ، نُعِيت إليه نفسُه، فأُمر أن يختم هذه المسيرة الطَّويلة الحافلة بالمجاهدات بأنواعها، والصَّبر، وتحمّل أعباء الدَّعوة والبلاغ في سبيل الله -تبارك وتعالى- والجهاد الطَّويل للأعداء: أن يختم ذلك بالتَّسبيح بحمد الله والاستغفار.
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ فكيف يكون التَّسبيح بحمده؟ ليس هناك ما يشرح هذه الجملة، كما ذكرنا في تفسير هذه السُّورة الكريمة في رمضان أو بعد رمضان من هذا الحديث، النبي ﷺ كان يقول ذلك كما قالت عائشةُ -رضي الله عنها-: يتأوَّل القرآن. يعني: أنَّه يمتثل، فإنَّ التَّأويلَ يأتي بمعنى فعل المأمور، هذا أحد معاني التَّأويل، فهنا "يتأوَّل القرآن" يعني: يمتثل ما أمره اللهُ به حينما قال: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ، فكان يقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، يجمع بين التَّسبيح والحمد، والتَّسبيح عرفنا أنَّ (سُبحان) منصوبٌ على المصدر، تقول: سبَّحتُ اللهَ تسبيحًا، وسبحان، وهو بمعنى: التَّنزيه، والحمد عرفناه، وقلنا: إضافة صفات الكمال والجلال لله -تبارك وتعالى-، وإعادته ثانيًا هو الثَّناء، والإكثار من ذلك هو التَّمجيد.
طيب، ما معنى: سبحانك اللهم؟
عرفنا أنَّ "اللهم" يعني: يا الله، وأنَّه حُذفت ياء النِّداء، وأنَّ الميمَ جاءت عِوضًا عن ذلك، وأنَّه لا يُجمع بين ياء النِّداء والميم: سبحانك يا الله، فحُذفت ياء النِّداء.
وبحمدك بعضهم -كالإمام النَّووي رحمه الله- يقول: معناه: سبحانك اللهم وبحمدك يعني: "بتوفيقك لي وهدايتك وفضلك عليَّ سبَّحْتُك، لا بحولي وقوَّتي"[12]، فيكون خاضعًا بهذا التَّسبيح لنعمةٍ أخرى؛ وهي التَّوفيق والإعانة، يعني: سبَّحْتُك بحمدك، أنت الذي أعنتني على ذلك وقوّيتني، وهديتني إليه، فبفضلك عليَّ سبَّحْتُك، لا بحولي، ولا بقوَّتي. فهذا اعترافٌ من العبد للربِّ -تبارك وتعالى- بالإنعام والإفضال والإعانة والتَّوفيق، هكذا فسَّره النَّووي -رحمه الله-.
وبعضهم يقول: إنَّ معنى: سبحانك اللهم وبحمدك أُنَزِّهك وأتلبَّس بحمدك. وهذا كأنَّه أوضح، وأوضح منه مَن قال: إنَّ ذلك يكون بمعنى: أُسَبِّحك وأنا مُتَلَبِّسٌ بحمدك، أي: حال كوني مُتلبِّسًا بحمدك، فيكون ذلك للحال، إضافة الكمال وأوصاف الجلال لك سبحانك، كما ينبغي لجلال وجهك، وعظمة سُلطانك.
اللهم اغفر لي يا الله، اغفر لي، ذكر ذلك بعد التَّسبيح والتَّحميد؛ فإنَّ الدُّعاء والسُّؤال بعد الثَّناء على الله والتَّنزيه يكون أحرى للإجابة؛ ولهذا ينبغي للإنسان إذا أراد أن يدعو الله ألا يبدأ بمسألته مُباشرةً، وإنما يُقدِّم بين يديها من الثَّناء على الله، والتَّمجيد له، وذكره بأسمائه وصفاته وكمالاته ، فليذكر فقرَه وضعفَه وحاجته إلى ربِّه وخالقه .
كذلك أيضًا يذكر سوالفَ النِّعَم أنَّه لم يكن شقيًّا بدُعائه لربِّه فيما سلف، فالله يُعطيه ويُوليه ويُجيبه، فما كان بدعاء ربِّه شقيًّا، بل الله يُعطيه ويُكرمه ويُجيبه، فيذكر مثل هذه بين يدي الدُّعاء.
وانظروا هنا: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، وعرفنا أنَّ الغفر ينتظم معنيين: السَّتر، فلا يفضح في الدنيا، ولا في الآخرة، وكذلك أن يُوقَى تبعةَ هذه الذُّنوب وما ينتج عنها من المؤاخذة والعقوبة، وما إلى ذلك، وقلنا: منه المغفر، فهو يُغطِّي ويستر رأسَ لابسه، ويقيه الضَّرب.
"يتأوَّل القرآن"، وهذا كان يأتي به النبيُّ ﷺ في الركوع والسُّجود، كما تقول عائشةُ -رضي الله تعالى عنها-، اختار هذا التَّأول للقرآن، وامتثل أمر الله حينما قال له: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ، جعله في هذه الأحوال التي يكون العبدُ فيها مُعَظِّمًا لله غاية التَّعظيم، يعني: وهو راكعٌ، أو وهو ساجدٌ.
ويقول الحافظُ ابن رجب -رحمه الله-: في هذا الحديث دليلٌ على الجمع بين التَّسبيح والتَّحميد والاستغفار في الركوع والسُّجود[13]؛ لأنَّ هذا الحديثَ تضمَّن هذه الأشياء جميعًا، مع أنَّ النبي ﷺ قال: وأمَّا الركوع فعظِّموا فيه الربّ[14]، فهنا جاء تسبيحٌ وتحميدٌ واستغفارٌ!
فهذا أجاب عنه بعضُ أهل العلم بإجابات، كقول بعضهم بأنَّ هذا الذكر زيادةٌ على ذلك التَّعظيم الذي كان يقوله ﷺ: يقول: "سبحان ربي العظيم"، ويزيد هذا.
وبعضهم يقول -كابن دقيق العيد- بأنَّ حديثَ الباب هذا: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك يدلّ على الجواز، وأمَّا قوله: وأمَّا الركوع فعظِّموا فيه الربّ يدل على الأولوية[15]، يعني: أنَّ ذلك من باب أولى أن يكون للتَّعظيم.
لكن كيف يُقال: إنَّه من باب أولى، والنبي ﷺ يقول ذلك في ركوعه وسجوده؟
وبعضهم يقول: يحتمل أن يكون أُمِرَ بالسُّجود بتكثير الدُّعاء لإشارةِ قوله: وأمَّا السُّجود فاجتهدوا فيه بالدُّعاء، فقَمِنٌ أن يُستجاب لكم[16].
وأمَّا ما جاء في قوله: اللهم اغفر لي في الركوع، مثل هنا: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك؛ فإنَّ هذا قليلٌ، فلا يُعارض ما أُمِرَ في السُّجود، فالذي يظهر -والله تعالى أعلم- أنَّ هذا الذكرَ مُسْتَثْنًى، فيقوله في الركوع والسُّجود، لكن لا يتحرى في الركوع الدُّعاء، بمعنى: أنَّه في السُّجود يقول: ربي اغفر لي، وارحمني، وارزقني، واجبرني، وعافني، واهدني، واعفُ عني. ويدعو بما شاء، فيجتهد في الدُّعاء، لكن إذا ركع فإنَّه لا يجتهد في الدُّعاء، ولا يتحرى الدُّعاء في حال الركوع، فيكون هذا استثناءً فقط، يقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، فلو أنَّه قال هذا بعد أن يقول: سبحان ربي العظيم فهذا حسنٌ -والله تعالى أعلم-.
هذا ما يتعلق بهذا الحديث، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يُعيننا وإيَّاكم على ذكره وشُكره وحُسن عبادته.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دُنيانا.
ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذابَ النار.
اللهم اهدِ قلوبنا، وسدد ألسنتنا، والله أعلم.
وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
######################################################
دعاء الركوع
" سبوح قدوس رب الملائكة والروح "
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
في هذه الليلة -أيّها الأحبّة- نتحدَّث عن ذكرٍ جديدٍ مما يُقال في الركوع؛ وذلك ما ترويه عائشةُ أم المؤمنين -رضي الله تعالى عنها-، عن النبي ﷺ: أنَّه كان يقول في ركوعه وسجوده: سبُّوح، قدُّوس، ربُّ الملائكة والرُّوح[1].
قوله: سبُّوح، قدُّوس هذا الوزن -وزن فعول- يدل على المبالغة، ولم ترد في لغة العرب إلا في ألفاظٍ قليلةٍ محددةٍ، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، بل لا تبلغ ذلك، والمراد بها التَّنزيه.
فهاتان اللَّفظتان تدلان على التَّنزيه إجمالاً، وإن اختلفت عبارات أهل العلم في بيان الفرق بينهما؛ فبعضهم يقول بأنَّ الأولى: سبُّوح لتنزيه الذَّات، قدُّوس لتنزيه الصِّفات.
وبعضهم يقول بأنَّ سبُّوح من التَّسبيح الذي هو التَّنزيه، وقدُّوس من التَّطهير، ونحن نُسبِّح بحمدك، ونُقدِّس لك، ونُنزِّهك مُتلبِّسين بحمدك، ونُقدِّس لك، والمكان المقدَّس: المطهَّر، تقول: هذا شيء مُقدَّسٌ، يعني: مُطَهَّرٌ، لكنَّه مع التَّطهير -والله أعلم- فيه معنى التَّعظيم، فيكون تطهيرٌ مع التَّعظيم، تقول: هذه بُقعة مُقدَّسة مُطَهَّرة مُعَظَّمة، وهذا مسجدٌ مُقدَّسٌ، وما أشبه ذلك مما قد يُقال، فيدل على التَّطهير والتَّعظيم.
فبعض أهل العلم يقول: حينما نقول: سبُّوح، قدُّوس يكون التَّقدير: ركوعي وسجودي لمن هو سبُّوح، قدُّوس، ربّ الملائكة والروح.
فأنت حينما تركع وتقول: سبُّوح، قدُّوس بعضُهم يقول: التَّقدير إذا كنتَ راكعًا: ركوعي لمن هو سبُّوح، قدُّوس. وإذا كنتَ ساجدًا: سجودي لمن هو سبُّوح، قدُّوس، ربّ الملائكة والروح. فهذا قاله بعضُ أهل العلم.
وبعضهم قدَّره: أنت سبُّوح، قدُّوس، ربّ الملائكة والروح. وبعضهم يقول غير هذا من التَّقديرات، لكن كلّ ذلك يدلّ -كما سبق- على التَّنزيه، فهو مُنَزَّهٌ عن كل عيبٍ ونقصٍ في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله -تبارك وتعالى-، فإذا سبَّحت الله فإنَّك تكون قد نزَّهتَه من كل العيوب والنَّقائص، وما لا يليق بجلالته وعظمته.
فإذا فرّقنا بينهما قلنا: التَّسبيح بمعنى: التَّنزيه، والتَّقديس: تطهيرٌ مع التَّعظيم، طاهرٌ من كل عيبٍ، ومُنَزَّهٌ عن كل نقصٍ وما يُستقبح.
وبعضهم يقول: إنَّ "سبُّوح، قدُّوس" يعني: المسبِّح المقدِّس، وكأنَّ سبُّوح، قدُّوس مُسَبِّح، مُقَدِّس، ربّ الملائكة والروح، فجاء بها على وزن (فعول) يعني: مُبالغة: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [الجمعة:1]، تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، فكل ما في هذا الكون يُنَزِّه الله عن كلِّ ما لا يليق بجلاله وعظمته من كلِّ ما يكون نقصًا وعيبًا، والله -تبارك وتعالى- يُوصَف بأنَّه سبُّوح، ويُوصَف بأنه قدُّوس.
والسبوح عدَّه جماعةٌ من أهل العلم من أسماء الله ، فإنَّ أكثر الذين تكلَّموا في أسماء الله -تبارك وتعالى- ذكروه في جملة الأسماء الحسنى، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-[2]، وقبله ابن منده[3]، والبيهقي[4]، والإمام الأصبهاني صاحب "الحجّة"[5]، وخلق كثير، ومن المتأخّرين الشيخ محمد الصَّالح العثيمين -رحم الله الجميع-[6]، فهؤلاء كلّهم عدُّوا ذلك من جملة الأسماء الحسنى، ولم يرد فيه فيما أعلم إلا هذا الحديث: سبُّوح، قدُّوس، وقد ذكرنا في مُقدمات الأسماء الحسنى ما يُعدّ من جملة الأسماء، وأنَّ بعضَهم اشترط فيه الإطلاق والتَّعريف؛ ولهذا فإنَّ القدُّوس بالاتِّفاق من أسماء الله الحسنى: الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ [الحشر:23] في آخر سورة الحشر، فهذا بالاتِّفاق من أسماء الله ، والعلماء متَّفقون عليه، بخلاف السُّبوح: هل هو من أسماء الله، أو لا؟ لكن الأكثر أثبتوه.
وابن قتيبة -رحمه الله- يقول بأنَّ "القدُّوس" من القدس، والقدس هو الطَّهارة[7]، وشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: القدُّوس: المستحقّ للتَّنزيه عن السُّوء[8]. كما قلتُ بأنَّ ذلك يرجع إلى معنى التَّنزيه، لكن ما الفرق؟
يقول شيخُ الإسلام: وهو سبحانه سبُّوح، قدُّوس، يُسبِّح له ما في السَّماوات والأرض[9].
وهذا كما سيأتي -إن شاء الله تعالى- في الكلام على الأسماء الحسنى، وفي الكلام على القدُّوس، السَّلام، فبينهما أيضًا مُشابهة في المعنى؛ ولذلك اختلفت عبارات العلماء في الفرق بين القدُّوس والسَّلام؛ فبعضهم فسَّر القدُّوس: الطَّاهر من كل عيبٍ ونقصٍ، والسَّلام: السَّالم من كل عيبٍ ونقصٍ، والمعنى مُتقارب.
وبعضهم أرجع ذلك إلى التَّنزيه مطلقًا، فجعلوا الأول للتَّنزيه في الماضي، والثاني للتَّنزيه في المستقبل والحاضر.
فعلى كل حالٍ، هنا أيضًا يتقارب القدُّوس مع السبُّوح.
والروح الروح فُسّر بأنَّه ملكٌ من الملائكة، وفُسّر بأنَّه جبريل -عليه الصلاة والسلام-، فعلى هذين التَّفسيرين يكون هذا من قبيل عطف الخاصِّ على العامِّ: ربّ الملائكة والروح، فيكون خصَّ الروحَ لشرفه ومنزلته ومكانته وعظيم قدره، هذا على هذا التَّفسير أنَّه مَلَكٌ، سواء قيل: جبريل أو لا.
وقد مضى الكلامُ في رمضان على ذلك في تفسير: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ [النبأ:38]، وذكرنا أقوال أهل العلم فيه.
فهذا الاسم (الروح) بعضُهم يقول بأنَّه أرواح بني آدم: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ يعني: الأرواح يوم القيامة، وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ، الكل خاضعٌ لعظمة الله في ذلك اليوم.
وبعضهم يقول: الروح هو القرآن؛ لأنَّ الله وصفه بذلك: أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]؛ لأنَّه لا حياةَ للأرواح إلا به: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ، هل معناه: يقوم القرآن؟ هذا فيه بُعْدٌ، وهذا ذُكر في جملة الأقوال في الآية: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ.
وأما هنا: ربّ الملائكة والروح، فإذا فُسّر الروحُ بالقرآن في هذا الحديث؛ فإنَّ "ربّ" يكون بمعنى: صاحب؛ لأنَّ القرآنَ كلامُ الله، وكلامه صفةٌ من صفاته، ليست بمخلوقةٍ، فالربّ يأتي بمعنى صاحب الشَّيء؛ لأنَّ الله هو الذي تكلَّم به، لكن هذا التَّفسير فيه بُعْدٌ -والله تعالى أعلم.
وأبو جعفر ابن جرير -رحمه الله- لما ذكر هذه الأقوال لم يُرجِّح، فقال: "والصَّواب من القول أن يُقال: إنَّ الله -تعالى ذكره- أخبر أنَّ خَلْقَه لا يملكون منه خطابًا يوم يقوم الرُّوح، والرُّوح خَلْقٌ من خَلْقِه، وجائزٌ أن يكون بعض هذه الأشياء التي ذُكِرَتْ، والله أعلم أيّ ذلك هو، ولا خبر بشيءٍ من ذلك أنَّه المعنيّ به دون غيره يجب التَّسليم له، ولا حُجَّة تدلّ عليه، وغير ضائرٍ الجهل به"[10].
يقول: ما عندنا خبرٌ، ولا نقلٌ، ولا نصٌّ يدل على تخصيص أحد هذه المعاني، لكن ابن كثير -رحمه الله- لما نقل توقف ابن جرير في ترجيح أحد المعاني في الآية، قال: "والأشبه -والله أعلم- أنَّهم بنو آدم"[11]، يعني: أرواح بني آدم؛ لقوله: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ.
هنا في هذا الحديث: ربّ الملائكة والروح، يحتمل أن يكون المرادُ جبريل ﷺ: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا [مريم:17]، قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ [النحل:102]؛ لأنَّه يأتي بالوحي الذي به حياة الأرواح، فقيل له: الروح، كما يقول بعضُ أهل العلم، ففسّر: سبُّوح، قدُّوس، ربّ الملائكة والروح بجبريل ﷺ، أو ملك من الملائكة -كما سبق-؛ فيكون من قبيل عطف الخاصِّ -ملك معين- على الملائكة؛ لأنَّه واحدٌ منهم: ربّ الملائكة بما فيهم الروح جبريل ﷺ، لكنَّه ذكره، مثل: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، خصَّها لأهميتها.
ويحتمل أنَّ المراد بـربّ الملائكة والروح الأرواح المخلوقة، وكأنَّ الأقربَ -والله أعلم- أنَّ المقصودَ بالروح هو جبريل -عليه الصلاة والسلام-.
هذا ما يتعلق بهذا الذكر الذي يُقال في الركوع والسُّجود، فهذا لو أنَّ أحدًا استقلَّ به في ركوعه وسجوده، فإنَّه يُجزئه -إن شاء الله-، ولو قاله مع قوله: سبحان ربي العظيم[12] فلا بأس بذلك، والله أعلم.
وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
###########################################
دعاء الركوع
" اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت... "
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
في هذا اليوم -أيّها الأحبّة- صُلِّيَ على نحو إحدى عشرة جنازة: رجال ونساء وطفل، وحينما ننظر في حالنا وهذه الجنائز تُحمل على الأعناق تباعًا إلى القبور، نجد -للأسف الشَّديد- أنَّ الغفلةَ غالبةٌ في هذا المقام والمشهد الذي ينبغي أن يكون موضعًا للتَّفكر والاعتبار.
كان السَّلفُ -رضي الله تعالى عنهم- إذا شهدوا جنازةً -كما وُصِفُوا- لا ترى إلا مُتقنِّعًا باكيًا، أو مُتفكِّرًا، حتى جاء عن بعض السَّلف أنهم لربما شهدوا الجنازةَ ولم يعلموا بأهل الميت؛ لما يرون من كثرة الباكين، فهذا مقامٌ للاتِّعاظ، لكن إذا نظرنا إلى اهتماماتنا وحديثنا في المقابر ونحن نصطفّ لنُعزِّي هؤلاء، تجد الكثير منا لربما يتحدَّث عن اهتماماته، وبعضنا يتحدَّث عن تويتر ويضحك، ويتحدَّث مع أصحابه، وآخرون يتحدَّثون عن قضايا أخرى، وضحك، وكأنَّهم في سوقٍ، أو في مُنتدى.
فإذا كان الاتِّعاظ لا يتحقق -أيّها الأحبّة- في مثل المقبرة، وهذه الأعداد من الجنائز، فلا أدري متى يكون ذلك؟!
فيحتاج العبدُ إلى مُراجعة قلبه وقسوته، وإصلاح ما فسد منه، وأحد هؤلاء الشَّباب كان يسأل في مثل هذا الموقف: أنَّه حفظ جملة المتون، فيقول: بماذا تُوصي؟ فقلتُ له: اعمل لمثل هذا اليوم، فليست القضيةُ حفظَ متونٍ، ولا قراءة، ولا كثرة كتبٍ ومراجع، ولا كثرة شهادات، وإنما العبرةُ بما يكون عليه الإنسان، وما يقدم به على ربِّه -تبارك وتعالى-، هذه العبرة؛ ولذلك فإنَّ المؤمن ينبغي له دائمًا أن يتفكَّر في هذا المصير المحتوم، وهي مسألة وقتٍ والكل سيمضي، فإذا أراد أن يتكلم بكلمةٍ يحسب لها حسابًا، وإذا أراد أن يكتب شيئًا فليحسب له حسابًا، وإذا أراد أن يُجيب على سؤالٍ فليحسب لذلك حسابًا، حينما يُسأل: قلتَ كذا، وأجبتَ بكذا، وكتبتَ كذا، ونظرتَ إلى كذا، ومشيتَ إلى كذا. فلا بدَّ أن يكون الجوابُ حاضرًا، فقبل أن يُجيب الإنسانُ يستحضر وقوفَه بين يدي الله ، وقبل أن يُقرر مسألةً في العلم والشَّرع أن يقول: هذا هو الصَّحيح، وهذا هو الرَّاجح، وما عداه باطل. فيستحضر الجواب، كيف قلت: هذا هو الراجح؟ وكيف قلت: هذا غلط؟ وكيف قلت: هذا هو الصَّواب؟
فتكون كلماتُه وعباراتُه له فيها مخرجٌ عند الله ، فلا يتكلم إلا بعلمٍ، وتكون عباراته: لو قال قائلٌ كذا، لو أنَّ أحدًا فسَّره بكذا لكان له وجهٌ، فإنَّه يحتمل.
وهكذا حينما يكتب يتذكر أنَّ ذلك يُكتب في صحيفته، وحينما يتكلم في كل مواقفه وأحواله، فهكذا ينبغي أن يكون أهلُ الإيمان، أمَّا الغفلة في الحياة، وعند رؤية المقابر والقبور والجنائز وهي تُحْمَل، وبهذه الأعداد، جنائز مُتتابعة محمولة خلف بعضها: إحدى عشرة جنازة، ولا يُحرِّك في نفوسنا شيئًا، ونضحك، ونتحدَّث عن اهتمامات أخرى لا قيمةَ لها، فهذا لا شكَّ أنَّه من الغفلة.
فنسأل الله أن يلطف بنا، وأن يُصلح قلوبنا وأعمالنا.
بعد ذلك أقول -أيّها الأحبّة-: في هذه الليلة نشرح حديثًا آخر من الأذكار التي تُقال في الركوع؛ وذلك ما جاء عن علي بن أبي طالبٍ -رضي الله تعالى عنه- في الحديث الذي أخرجه الإمامُ مسلمٌ في "صحيحه": أنَّ النبي ﷺ كان إذا ركع قال: اللهم لك ركعتُ، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ، أنت ربي، خشع سمعي وبصري ومخِّي وعظمي وعصبي[1]، وفي لفظٍ: خشع سمعي وبصري ومخي وعظمي وما استقلَّت به قدمي لله ربِّ العالمين[2]، هذه الزِّيادة ليست في "صحيح مسلم"، لكنَّها ثابتة.
فقوله: اللهم لك ركعتُ عرفنا أنَّ (اللهم) يعني: يا الله، لك ركعتُ. ولاحظوا هنا أنَّه قدَّم الجار والمجرور ليُفيد الحصر، فلم يقل: ركعتُ لك، فإنَّه لو قال ذلك فإنَّه لا يُفيد الحصر، ركعتُ لك مثلاً يحتمل ولغيرك، لكنَّه هنا قال: لك ركعتُ، مثلما قلنا في: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، يعني: نعبدك وحدك، ونستعين بك وحدك.
فهنا لك ركعتُ يعني: دون ما سواك. وهذا ينبغي أن يُراعي فيه قائلُه النية والقصد والإخلاص، فقد يقول الإنسانُ: لك ركعتُ وهو يتزين بركوعه وصلاته لأحدٍ من المخلوقين، فلا يكون قد ركع لله حقيقةً.
لك ركعتُ والركوع معروفٌ: هو الانحناء والميلان، يُقال: "ركعت النَّخلةُ" إذا مالت، وقد يُراد به الصَّلاة أحيانًا، من باب إطلاق اسم الجزء على الكلِّ: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43]، ما المراد به؟ الصَّلاة، والصَّلاة يُقال لها: ركوع، كما يُقال لها أيضًا: سجود، فتُسمَّى ببعض أجزائها مما هو ركنٌ فيها.
اللهم لك ركعتُ، وبك آمنتُ يعني: أذعنتُ، وانقدتُ، وأقررتُ، وصدقتُ تصديقَ الانقيادِ، فهذا إذعان الباطن وتصديقه وانقياده.
ولك أسلمتُ يعني: أسلم لساني وجوارحي لله ربِّ العالمين، فهي طيِّعةٌ لربها وخالقها، لا تخرج عن طاعته، ولا تتمرد على عبادته، وإنما تكون في حالٍ من الاستسلام لله ربها وخالقها -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه-.
خشع لك سمعي كما سبق في الكلام على الخشوع مُفَصَّلاً في الأعمال القلبية، وتطرقت إلى معناه، وهنا في بعض هذه المجالس.
والخشوع فُسِّر بالسُّكون والتَّواضع، كما قال شيخُ الإسلام -رحمه الله-، فإنَّ هذا المصلِّي حينما يقول: خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي يكون قد وصف نفسَه بالخشوع في حال الركوع؛ لماذا؟ لأنَّ هذا الراكعَ ساكنٌ مُتواضعٌ[3]، خاضعٌ لله -تبارك وتعالى-، قد حنى جسدَه إعلانًا وإيذانًا بتواضعه لربِّه -تبارك وتعالى-، وتعظيمه له، وبهذا فُسِّر قوله -تبارك وتعالى-: فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:2]، فهذا الخشوع في الصَّلاة فُسِّر بالسُّكون.
وابن عباسٍ -رضي الله عنهما- قال: خائفون، ساكنون[4]. وجاء عن مجاهدٍ أيضًا تفسيره بالسُّكون فيها[5]، وكذلك محمد بن شهاب الزهري[6]، وطائفة من السَّلف، فمَن بعدهم -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم-.
فهذا الخشوع يكون في القلب، ويظهر أثرُه بعد ذلك على رعيَّة هذا القلب، وما رعيَّة هذا القلب؟ كلّ ما عدا القلب فهو من رعيَّته: كالسَّمع والبصر والمخ والعصب وسائر الأعضاء، كلّها رعيَّة لهذا القلب، فإذا خشع القلبُ خشع كلُّ شيءٍ وسكن، وإذا كان هذا القلبُ شاردًا اشتغلت هذه الجوارح بالحركة والفكر بالتّجوال هنا وهناك في أمور دُنياه، وما إلى ذلك مما هو بعيدٌ كل البُعد عن صلاته، فلم يخشع فكرُه ومخُّه؛ لأنَّ قلبَه لم يخشع، وكذلك بقية أعضائه وأبعاضه، فإنَّها لا تكون خاشعةً؛ لأنَّ الملكَ غير خاشعٍ.
ولذلك تجد الإنسان حينما يتأثّر في صلاته، أو في الموعظة، أو نحو ذلك، أو يتفكّر؛ فيلين قلبُه، تجد أنَّ جميع الجوارح تكون في حالٍ من السُّكون، فإذا رأيتَ عابثًا في هذه الحال تعلم أنَّه أبعد ما يكون عن الخشوع.
فهذا الخشوع -أيّها الأحبّة- يكون في القلب، وينبعث على بقية الجوارح والأعضاء والأبعاض بالخضوع والتَّواضع والسُّكون؛ ولذلك نجد العلماء -رحمهم الله- حينما يُفسِّرون الخشوع تارةً يُفسِّرونه بسببه، أو ببعض أسبابه ومُوجباته، وتارةً يُفسِّرونه ببعض آثاره، والواقع أنَّ السكونَ هو أثرٌ من آثار الخشوع، وإلا فإنَّ الخشوعَ يكون في القلب.
وهنا يقول: خشع لك سمعي وبصري ومخِّي المخُّ فسَّره العلماء بالدِّماغ، والعلماء يُفسِّرونه يقولون: أصله الودك الذي في العظم، ويُقال لخالص كل شيءٍ: مخّه، يعني: خُلاصته، وهذا المخّ لا شكَّ أنَّه في الدِّماغ، ويُوجد أيضًا في العِظام -كما هو معلومٌ- مخٌّ، ما دام هذا العظم في حالٍ من عافيته وصحّته وسلامته، حينما يكون الإنسانُ صحيحًا، لكن هذا المخّ تجري فيه عمليات ترتبط مع القلب، وإن كان العقلُ في القلب كما دلَّت عليه نصوصُ الكتاب والسُّنة، لكنَّه يرتبط بالدِّماغ.
يقول: خشع لك سمعي وبصري ومخِّي وعظمي وعصبي الكلّ، العِظام والعصب لا يتحرَّكان ولا يقومان إلا بالله -تبارك وتعالى- وطاعته.
وما استقلَّت به قدمي يعني: ما قامت به وحملته، وما الذي حملته القدم؟ جميع البدن بما فيه القلب، فكأنَّ هذا من عطف العام على الخاصِّ، يعني: ذكر أشياء خاصَّة: السَّمع والبصر والمخّ والعصب والعظم، ثم قال: وما استقلَّت به قدمي؛ ليشمل الجميع، فذكر أشياء أساسية مهمة في البداية سمَّاها، ثم عمَّم بعد ذلك، فيكون ذلك من باب ذكر العام بعد الخاصِّ.
هذا الدعاء -أيّها الأحبّة- أو هذا الذكر كما يقول الحافظُ ابن القيم -رحمه الله-: قد جمع بين شهود عبوديته لربِّه -تبارك وتعالى-، وشهوده معبوده[7]، وهذا كمال العبودية، يعني: أن يشهد ما يأتي به من العبودية مُوجِّهًا لها إلى المعبود -تبارك وتعالى-، محضِرًا لها بين يديه، مُتقرِّبًا بها إليه، فهو يُخاطِب ربَّه -تبارك وتعالى- فيقول: "اللهم"، فهو مُسْتَحْضِر الإخلاص، وأنَّه ركع لله ، ثم أيضًا هو مُستحضرٌ لهذه العبادة التي يقوم بها، وأنَّه يتقرَّب بها إلى الله -تبارك وتعالى- على الوجه الصَّحيح.
هكذا قال الحافظُ ابن القيم -رحمه الله-، لكن ينبغي أن نتأمّل هنا معنى: حينما يقول الإنسانُ: خشع لك سمعي وبصري.. إلى آخره، ويكون أبعد ما يكون عن الخشوع، فإنَّ هذا يكون كذبًا، ويقول بلسانه غير الحقيقة، فينبغي التَّنبه لمثل هذا، وأن يعي الإنسانُ ما يقول، وألا يكون قولُه مُكذِّبًا لحاله، وألا تكون حالُه مُكذِّبةً لقوله، وألا يكون فعلُه مُكذِّبًا لقوله.
وقد يقول قائلٌ: ما وجه ارتباط هذه الجُمَل في أول الحديث حينما يقول بأنَّه ركع لله ، ثم بعد ذلك يقول: خشع لك سمعي.. إلى آخره؟
أجاب العلماء عن وجه الارتباط، ولماذا حُذفت واو العطف، فلم يقل: وخشع لك سمعي وبصري؟ فوجه ذلك كما قال بعضُ أهل العلم: هذا تفسيرٌ لقوله: لك أسلمتُ، فما هذا الإسلام؟
إسلام جميع الأعضاء والجوارح لربِّها وخالقها ، وإسلام الظَّاهر، فهنا يقول: انقدتُ وأطعتُ، فهذا الانقياد في كلِّ أجزائه وأبعاضه وخلايا جسده، فهي مُنقادةٌ كلّها، وخاضعةٌ لربِّها -تبارك وتعالى-.
فهنا كأنَّه بيَّن نوعي الانقياد والطَّاعة: خشع سمعي، ثم بيَّن الانقياد هذا في أشياء ظاهرة: كالسَّمع، والبصر، وأيضًا في أشياء لا تُرى، مثل: المخّ، والعصب، فخشع الظاهرُ والباطنُ، الجوارح والأعضاء الظَّاهرة، والأبعاض الباطنة، الكلّ مُستسلمٌ لله -تبارك وتعالى-، خاشعٌ، خاضعٌ له، فيكون ذلك كأنَّه توضيحٌ وبيانٌ وشرحٌ لهذا الإسلام في قوله: لك أسلمتُ.
وقد يقول قائلٌ: لماذا خصَّ السَّمع والبصر من بين الحواس الظَّاهرة، والمخّ والعظم والعصب من الأشياء الباطنة، مع أنَّ الأبعاضَ أكثر من هذه؟
أجاب بعض أهل العلم بالقول: بأنَّه خصَّ السَّمع والبصر لأنَّهما أعظم الحواس وأخطرها، بهما يُتلقَّى، فهما كالميزابين يصبَّان في القلب، والصّور المشاهدة تُؤثِّر في القلب، فالتَّلقي يكون بالسَّمع والبصر؛ ولهذا قال الله : إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36]، فهي أخطر هذه الأعضاء وأكثرها عملاً، كما قيل: العين لا تشبع من النَّظر ولا تكتفي، بعكس البطن مثلاً، يأكل ثم يشبع، ولا يستطيع أن يأكل بعد ذلك، لكن العين تنظر بلا كللٍ ولا مللٍ، وكلّما تُعطيها من المشاهد والصُّور فهي تتبعه، ولا تقول: اكتفيتُ بصورةٍ أو صورتين أو خمسٍ أو عشرٍ، وإنما هل من مزيدٍ؟
وكذلك ما يسمعه الإنسانُ؛ ليس هناك شيءٌ يملأ النفسَ من هذه المسموعات، يقول: أستطيع أن أسمع عشر دقائق مثلاً، أو ساعة. لا، هو يمكن أن يجلس ويسمع ما شاء الله، إلى أن يسقط مُنهكًا ومُتعبًا أو ينام، ولا يزال يسمع.
فهنا الخواطر والوساوس تأتي إلى القلب، والأشياء التي يُشاهدها تُشوش فكرَه وصلاتَه، وقد ينشغل بمَن بجواره، يريد أن يتعرف على المصلِّي بجانبه، وما إلى ذلك.
وأمَّا المخّ والعظم والعصب، فبعض أهل العلم يقول: إنَّ ذلك لكون ما في أقصى قعر البدن هو المخّ، ثم العظم، ثم العصب؛ لأنَّ المخَّ -كما قالوا- يُمسكه العظم، والعظم يُمسكه العصب، وسائر أجزاء البدن مُركَّبة عليها، يعني: هذه هي -كما يُقال- مثل العُمد والأُسس والأُصول في البناء، والباقي مثل الطوب والأبواب والنَّوافذ، وما إلى ذلك، فقالوا: هذه الأُسس التي يقوم عليها اللحمُ والشَّحم، إلى آخره، فهذا اللَّحم والشَّحم يذهب ويجيء ويتبدّل، لكن يبقى العصبُ لا يتبدّل، وتبقى العظامُ عليها قوام البدن، وهكذا أيضًا المخّ، فهذه الأشياء التي يقوم عليها بناءُ الإنسان والحيوان، وهكذا.
لكن ما معنى انقياد هذه الأشياء؟
أما السمع والبصر فظاهرٌ، ومن خضوعه وخشوعه أن يقبل الحقَّ، ويُعرض عن سماع الباطل، ويُقْبِل على ما ينفع.
وكذلك البصر ينظر به إلى ما يُرضي الله ، ويُعرض عمَّا حرم الله -تبارك وتعالى-.
أما المخّ والعظم والعصب فهذا يعني: انقياد الباطن، وانقياد جميع أبعاض الإنسان؛ ليكون مُحقِّقًا للعبودية بكلِّ ذرَّاته، خاضعًا، خاشعًا، فحينما يقول هذا في هيئة الركوع، ويُخاطِب ربَّه، فهذا مقامٌ يحتاج إلى استحضارٍ: هل كلّ الأجزاء فعلاً خاشعة؟ وهل هي بهذه المثابة إلى هذا الحدِّ من عظمٍ وعصبٍ ومخٍّ وما إلى ذلك؟ أو أنَّ هذا الإنسان يُصلي وعيناه تجولان في المسجد، في سقفه، وفي المصلين، ونحو ذلك؟
فإذا حصل هذا الانقيادُ الكامل صار العبدُ في حالٍ من النَّزاهة والطُّهر والاستقامة والعبودية، وأبعد ما يكون من خواطر السُّوء والفساد والشَّر في باطنه وظاهره، فيسلم ويسلم منه الناسُ، وبهذا تنهاه صلاتُه عن الفحشاء والمنكر، عرفتم لماذا كانت الصلاةُ تنهى عن الفحشاء والمنكر؟
فلو نستحضر هذه المعاني لم نحتج إلى كلامٍ كثيرٍ في الجواب الذي أوردناه من قبل؛ ولماذا يخرج الإنسانُ من المسجد فيذهب يفتح صورًا مُحرَّمةً؟ ويخرج من المسجد ويغشّ في البيع، ويُخاصم ويفجر في الخصومة، ويكتب ما لا يُرضي الله -تبارك وتعالى-، والقلب مليءٌ بالغشِّ والغلِّ والحسدِ لإخوانه المسلمين، والظنّون السَّيئة، والأوهام الفاسدة، كلّ هذا يتنزَّه منه المؤمنُ الذي يُصلي بهذه الصَّلاة، ومَن كانت صلاتُه لا تنهاه عن الفحشاء والمنكر، فهذه الصَّلاة صورةٌ بلا روحٍ، وقد لا تزيده من الله إلا بُعْدًا، نسأل الله العافية.
هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
------------------------------------------------------------------
ما زلنا أحبابي تابعونا جزاكم الله خيرا
ولا تنسونا من صالح دعائكم
أمس في 4:11 pm من طرف عبدالله الآحد
» أَسْرارُ اَلْمُسَبَّحَةِ اَوْ السُّبْحَةِ وَأَنْواعُها وَأَعْدادُها - - ( ( اَلْجُزْءُ الثَّانِي ))
أمس في 3:05 pm من طرف صادق النور
» الرياء شرك أصغر إن كان يسيرا
الخميس أبريل 25, 2024 4:39 pm من طرف عبدالله الآحد
» لم يصح تأويل صفة من صفات الله عن أحد من السلف
الأربعاء أبريل 24, 2024 5:12 pm من طرف عبدالله الآحد
» إثبات رؤية الله للمؤمنين في الجنة
الثلاثاء أبريل 23, 2024 7:24 am من طرف عبدالله الآحد
» الرد على من زعم أن أهل السنة وافقوا اليهود
الثلاثاء أبريل 23, 2024 5:40 am من طرف عبدالله الآحد
» طائِفُهُ الصَّفْوِيِّينَ - - اَلْدوَلهُ الصِّفْوِيهُ
الإثنين أبريل 22, 2024 11:18 am من طرف صادق النور
» حكم الرقى والتمائم
الأحد أبريل 21, 2024 7:19 am من طرف عبدالله الآحد
» كثرة الأشاعرة ليست دليلا على أنهم على حق في كل شيء
السبت أبريل 20, 2024 5:13 pm من طرف عبدالله الآحد
» حقيقة الإسلام العلماني
السبت أبريل 20, 2024 8:37 am من طرف صادق النور