آل راشد



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

آل راشد

آل راشد

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
آل راشد

ثقافى-اجتماعى

*** - اللَّهُمَّ اَنَكَ عَفْوٍ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعِفُو عَنَّا - *** - اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك . *** - اللَّهُمَّ اُرْزُقْنَا تَوْبَةً نَصُوحًا قَبْلَ الْمَوْتِ وَ ارْزُقْنَا حُسْنَ الْخَاتِمَةِ . *** -

إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا شَابَتْ عَبِيدَهُمْ.. .. فِي رِقِّهِمْ عَتَقُوهُمْ عِتْقَ أَبْرَارٍ .. .. وَأَنْتَ يَا خَالِقِيُّ أوْلَى بِذَا كَرَمًا.. .. قَدْ شُبْتُ فِي الرِّقِّ فَأَعْتَقَنِي مِنَ النَّارِ .

المواضيع الأخيرة

» اثبات أن الله يتكلم بالصوت والحرف وأن القرآن كلامه حقيقة
(3)أدعيه الركوع " سبحان ربي العظيم " " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي "  Ooou110أمس في 4:11 pm من طرف عبدالله الآحد

» أَسْرارُ اَلْمُسَبَّحَةِ اَوْ السُّبْحَةِ وَأَنْواعُها وَأَعْدادُها - - ( ( اَلْجُزْءُ الثَّانِي ))
(3)أدعيه الركوع " سبحان ربي العظيم " " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي "  Ooou110أمس في 3:05 pm من طرف صادق النور

» الرياء شرك أصغر إن كان يسيرا
(3)أدعيه الركوع " سبحان ربي العظيم " " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي "  Ooou110الخميس أبريل 25, 2024 4:39 pm من طرف عبدالله الآحد

» لم يصح تأويل صفة من صفات الله عن أحد من السلف
(3)أدعيه الركوع " سبحان ربي العظيم " " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي "  Ooou110الأربعاء أبريل 24, 2024 5:12 pm من طرف عبدالله الآحد

» إثبات رؤية الله للمؤمنين في الجنة
(3)أدعيه الركوع " سبحان ربي العظيم " " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي "  Ooou110الثلاثاء أبريل 23, 2024 7:24 am من طرف عبدالله الآحد

» الرد على من زعم أن أهل السنة وافقوا اليهود
(3)أدعيه الركوع " سبحان ربي العظيم " " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي "  Ooou110الثلاثاء أبريل 23, 2024 5:40 am من طرف عبدالله الآحد

» طائِفُهُ الصَّفْوِيِّينَ - - اَلْدوَلهُ الصِّفْوِيهُ
(3)أدعيه الركوع " سبحان ربي العظيم " " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي "  Ooou110الإثنين أبريل 22, 2024 11:18 am من طرف صادق النور

» حكم الرقى والتمائم
(3)أدعيه الركوع " سبحان ربي العظيم " " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي "  Ooou110الأحد أبريل 21, 2024 7:19 am من طرف عبدالله الآحد

» كثرة الأشاعرة ليست دليلا على أنهم على حق في كل شيء
(3)أدعيه الركوع " سبحان ربي العظيم " " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي "  Ooou110السبت أبريل 20, 2024 5:13 pm من طرف عبدالله الآحد

» حقيقة الإسلام العلماني
(3)أدعيه الركوع " سبحان ربي العظيم " " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي "  Ooou110السبت أبريل 20, 2024 8:37 am من طرف صادق النور

اهلا بكم

الثلاثاء نوفمبر 08, 2011 2:32 am من طرف mohamed yousef

(3)أدعيه الركوع " سبحان ربي العظيم " " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي "  Ooousu10

المتواجدون الآن ؟

ككل هناك 26 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 26 زائر :: 2 عناكب الفهرسة في محركات البحث

لا أحد


أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 624 بتاريخ الأربعاء سبتمبر 15, 2021 4:26 am

احصائيات

أعضاؤنا قدموا 9627 مساهمة في هذا المنتدى في 3190 موضوع

هذا المنتدى يتوفر على 288 عُضو.

آخر عُضو مُسجل هو دينا عصام فمرحباً به.

دخول

لقد نسيت كلمة السر

أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى

أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع


    (3)أدعيه الركوع " سبحان ربي العظيم " " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي "

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5188
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    (3)أدعيه الركوع " سبحان ربي العظيم " " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي "  Empty (3)أدعيه الركوع " سبحان ربي العظيم " " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي "

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس مايو 05, 2022 2:12 pm

    الجزء الثالث

    أدعيه الركوع

    " سبحان ربي العظيم " " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي "



    الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

    أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    أيّها الأحبّة، في هذه الليلة نشرع -إن شاء الله- في الكلام على الأذكار والأدعية التي تُقال في الركوع، فأول ذلك مما أورده المؤلفُ ما جاء في حديث حُذيفة بن اليمان : أنَّه سمع رسولَ الله ﷺ يقول إذا ركع: سبحان ربي العظيم ثلاث مرات، وإذا سجد قال: سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات[1].

    وسيكون حديثنا -إن شاء الله- عن الشقِّ الأول، وهو ما يتَّصل بالركوع، وسيأتي الكلامُ -إن شاء الله- على ما يتعلق بالسُّجود في موضعه.

    فهذا الحديث أخرجه ابن ماجه، وهذه الزِّيادة التي فيه -وهي تقييد ذلك بثلاث مرات- لا تخلو من ضعفٍ، سواء كان ذلك في هذا الحديث -حديث حُذيفة-، أو في غيره مما جاءت به هذه الزِّيادة.

    لكن بعض أهل العلم صحَّحها للشَّواهد التي تتقوَّى بها، وإن كانت هذه الشَّواهد لا تخلو من ضعفٍ في أسانيدها، كما جاء ذلك في حديث عبدالله بن مسعود[2]، وحديث جبير بن مطعم[3]، وحديث أبي مالك الأشعري[4]، وحديث أقرم بن زيد الخزاعي[5]، وحديث أبي بكرة -رضي الله عنهم أجمعين-[6]، هذه كلّها جاء فيها التَّقييد، أو أنَّه كان يقول ذلك ثلاث مرات، لكن في أسانيدها ضعف، ومن أهل العلم مَن رأى أنها تتقوى بمجموعها: كالشَّيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله-[7]، والشيخ شُعيب الأرنؤوط[8]، فصحَّحوها لأجل ذلك.

    وليس الحديثُ الآن عمَّا يتعلق بالمشروع في السّجود والركوع في عدد التَّسبيحات، وإلا فقد جاء ما يدلّ أيضًا على غير ذلك مما هو أكثر في العدد، يعني: بنحو عشر تسبيحات، ولكن ليس هذا موضع الحديث عن هذه المسألة، وإنما نحن هنا نشرح الأذكار.

    يقول في الركوع: سبحان ربي العظيم، عرفنا أنَّ التَّسبيح معناه التَّنزيه، وأنَّ "سبحان" منصوبٌ على المصدر، فكأنَّه يقول هذا المسبِّح: أُنَزِّهُ الله من كلِّ عيبٍ ونقصٍ.

    وكذلك أيضًا في معنى العظيم: سبحان ربي العظيم، فإنَّ العظيم هذا اسمٌ من أسمائه -تبارك وتعالى-، يتضمّن صفةَ العظمة، وهذه الصِّفة من الصِّفات الجامعة التي تكون بمجموع أوصافٍ مُتحققةٍ، تكون منها العظمة، وأصل ذلك في كلام العرب "العظيم" يقولونه لما يُقابل الحقير، كما يقولون: "الصَّغير" لما يُقابل الكبير، فالعظيم فوق الكبير؛ لأنَّ الكبير قد لا يكون عظيمًا، قد يكون الكبيرُ حقيرًا، فالعظيم فوق الكبير، هكذا ذكر بعضُ أهل العلم، كصاحب "الكليات" الكفوي[9].

    والعظمة صفةٌ ثابتةٌ لله ، نُثبتها على ما يليق بجلال الله وعظمته، ولا نتعرَّض لذلك بتأويلٍ وتحريفٍ، لكن نُثبتها كما جاءت، وسيأتي الكلامُ على هذا -إن شاء الله- قريبًا في الكلام على الأسماء الحسنى.

    يقول: سبحان ربي العظيم والنبي ﷺ يقول: فأمَّا الركوع فعظِّموا فيه الربّ [10]، فيجتمع بذلك الهيئة (الفعل)، فحينما ينحني الإنسانُ فإنَّ هذا الانحناء يدل على التَّعظيم، وكذلك أيضًا القول مع الفعل، فيُردد لسانه: سبحان ربي العظيم، كان الناس يُعظِّمون كُبراءهم من الملوك، ومن كبار أهل ديانتهم، كما يفعل النَّصارى، فيسجدون لهم أو يركعون، فنُهِينا عن ذلك، وأُمِرْنَا بألا نسجد إلا لله ، وكان ذلك جائزًا في بعض الشَّرائع، والله -تبارك وتعالى- أمر الملائكةَ أن يسجدوا لآدم ﷺ سجود تكريمٍ، وليس سجود عبادةٍ.

    وقال الله -تبارك وتعالى- في حقِّ يوسف -عليه السلام- في الرُّؤيا التي رآها: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف:4]، إشارة إلى أبيه وأمه وإخوته، رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا [يوسف:4] هؤلاء الإخوة، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ الأم والأب، رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ، وجاء تأويلُ ذلك في آخر السُّورة، كما أخبر الله -تبارك وتعالى-: وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا [يوسف:100]، فهذا كلّه كان جائزًا، ولكنَّه حرم في هذه الشَّريعة.

    والله  قال لبني إسرائيل: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا [البقرة:58]، المقصود على هيئة الركوع، فإنَّ السجود يُقال للانحناء الذي هو الركوع، كما في هذه الآية التي في سورة البقرة: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا، ليس معنى ذلك أنَّهم يضعون جباههم على الأرض ويزحفون، فهذا لا يتأتَّى، كيف يدخلون البابَ ووجوههم في الأرض؟! وإنما يدخلون في حالٍ من الانحناء؛ خضوعًا لله ، وشكرًا على نعمة الفتح.

    فالمقصود أنَّ العبدَ حينما يحني ظهره، فإنَّ هذا مظهرٌ من مظاهر التَّعظيم، فإذا قارنه هذا القول: سبحان ربي العظيم فلا شكَّ أنَّه حينما يجتمع هذا وهذا يكون ذلك من المقامات التي تخضع معها القلوب لباريها وفاطرها -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه-، ولكنَّه الإلف -أيّها الأحبّة-، فقد ألفنا هذه المشاهد والمزاولات، فصارت لا تُحرِّك فينا ساكنًا، لو رأيت الناس خُضعانًا لأحدٍ من البشر، قد انحنوا أمامه بسكونٍ، ويُرددون كلامًا كهذا، يُعظِّمونه به مثلاً؛ لكان ذلك مما يقف له شعرُ الرأس، ويقشعر البدن، فكيف يكون هذا أمام المعبود  في حال مُناجاته في الصَّلاة، ومع ذلك لا يُؤثر فينا؟!

    الصلاة هذه من أوَّلها إلى آخرها مليئة بالأقوال والأفعال التي تُوجب حضورَ القلب والخشوع، وتُهذِّب النَّفس وتُورثها التَّواضع والذّل لله ، فلا يحصل من العبد أدنى مُعارضة، أو شموخ، أو ترفّع على طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ، ولكن ألفنا هذه الأشياء؛ ولذلك انظر إلى حال أولئك الذين يدخلون في الإسلام حديثًا، سله عن أول دخوله حينما نطق بالشَّهادتين؛ تجد أنَّ عامَّة هؤلاء ينطقون الشَّهادةَ وهم يبكون، لا أعني الذين يأتون أمامكم في المساجد، فهؤلاء يُعيدون النُّطق بالشَّهادة، لكنَّهم في الواقع نطقوا بها في مكانٍ آخر، فجيء بهم أمام الناس من باب التَّحفيز والتَّشجيع والدَّعم المعنوي لهم؛ ليُهنِّئهم إخوانُهم بالدُّخول في الإسلام، وإلا هم قد قالوا ذلك من قبل؛ ولهذا الذين يأتون هنا نقول: لا حاجةَ لقيامه بالنُّطق بالشَّهادتين، يكفي أن يُقال: هذا أخوكم قد دخل في الإسلام، فهنِّئوه، مثلاً، ولا حاجةَ للإعادة ثانيةً وقد نطق بذلك في مكانٍ آخر.

    على كل حالٍ، سلوا هؤلاء عن أول صلاةٍ صلّوها، وعن أول ركوعٍ ركعوه، ستجدون أنَّهم لا يستطيعون التَّعبير عن ذلك، بل سلوا الذين قد أقعدتهم العِلل والأوصاب والأمراض، فصاروا ما يستطيعون الركوع والسُّجود، سلوهم، مع أنَّ هذا السؤال سيُثير شجونهم، وقد يُجيبك بالبكاء، قل له: ماذا تشتهي في الدنيا؟ يقول: أن أركع وأسجد. لكن لا يعرف قدرَ هذه العبوديات إلا مَن فقدها، يحتاج العبدُ أن يُجدد هذه المعاني مع نفسه.

    ثم ذكر حديثَ عائشة -رضي الله عنها-، أنها قالت: كان النبيُّ ﷺ يُكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأوَّل القرآن[11]، وهذا مُخرَّجٌ في "الصحيحين".

    يُكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك يحتمل أنَّه يقول ذلك مع غيره، كأن يقول: سبحان ربي العظيم، ويُضيف: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، ويحتمل أنَّه يقول ذلك في ركوعه أو سجوده على سبيل الاستقلال.

    ثم إنها لم تخصّ الفرضَ بذلك أو النَّفل، فدلَّ على الإطلاق، وهو أنَّ ذلك يُقال في الركوع والسُّجود، وفي الفريضة والنَّافلة، وفي صلاة الليل، وفي غيرها، فيُكثر المؤمنُ من ترداد ذلك، لا سيّما إذا كان في آخر العمر، وضعف وشاخ، وظهرت أمارات الرَّحيل.

    في قوله -تبارك وتعالى-: وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37]، فسَّره كثيرٌ من السَّلف -وهو أحد الأقوال المشهورة- بالشَّيب، فإذا ظهر الوهنُ على الإنسان والضَّعف فإنَّه حينما يقترب رحيلُه من الدنيا يُكثر من هذا، كذلك مَن نزل به مرضٌ مَخوفٌ خطيرٌ، وقد يموت من هذا المرض، أو أنَّ الإنسان يموت غالبًا، أو نحو ذلك، فإنَّه يُكثر من هذا؛ لأنَّ الله  قال لنبيِّه ﷺ: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ۝ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ۝ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر]، فجعل ذلك أمارةً -كما فهم ذلك ابنُ عباسٍ وعمر رضي الله عنهم أجمعين- على قُرب أجله ﷺ، نُعِيت إليه نفسُه، فأُمر أن يختم هذه المسيرة الطَّويلة الحافلة بالمجاهدات بأنواعها، والصَّبر، وتحمّل أعباء الدَّعوة والبلاغ في سبيل الله -تبارك وتعالى- والجهاد الطَّويل للأعداء: أن يختم ذلك بالتَّسبيح بحمد الله  والاستغفار.

    فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ فكيف يكون التَّسبيح بحمده؟ ليس هناك ما يشرح هذه الجملة، كما ذكرنا في تفسير هذه السُّورة الكريمة في رمضان أو بعد رمضان من هذا الحديث، النبي ﷺ كان يقول ذلك كما قالت عائشةُ -رضي الله عنها-: يتأوَّل القرآن. يعني: أنَّه يمتثل، فإنَّ التَّأويلَ يأتي بمعنى فعل المأمور، هذا أحد معاني التَّأويل، فهنا "يتأوَّل القرآن" يعني: يمتثل ما أمره اللهُ به حينما قال: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ، فكان يقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، يجمع بين التَّسبيح والحمد، والتَّسبيح عرفنا أنَّ (سُبحان) منصوبٌ على المصدر، تقول: سبَّحتُ اللهَ تسبيحًا، وسبحان، وهو بمعنى: التَّنزيه، والحمد عرفناه، وقلنا: إضافة صفات الكمال والجلال لله -تبارك وتعالى-، وإعادته ثانيًا هو الثَّناء، والإكثار من ذلك هو التَّمجيد.

    طيب، ما معنى: سبحانك اللهم؟

    عرفنا أنَّ "اللهم" يعني: يا الله، وأنَّه حُذفت ياء النِّداء، وأنَّ الميمَ جاءت عِوضًا عن ذلك، وأنَّه لا يُجمع بين ياء النِّداء والميم: سبحانك يا الله، فحُذفت ياء النِّداء.

    وبحمدك بعضهم -كالإمام النَّووي رحمه الله- يقول: معناه: سبحانك اللهم وبحمدك يعني: "بتوفيقك لي وهدايتك وفضلك عليَّ سبَّحْتُك، لا بحولي وقوَّتي"[12]، فيكون خاضعًا بهذا التَّسبيح لنعمةٍ أخرى؛ وهي التَّوفيق والإعانة، يعني: سبَّحْتُك بحمدك، أنت الذي أعنتني على ذلك وقوّيتني، وهديتني إليه، فبفضلك عليَّ سبَّحْتُك، لا بحولي، ولا بقوَّتي. فهذا اعترافٌ من العبد للربِّ -تبارك وتعالى- بالإنعام والإفضال والإعانة والتَّوفيق، هكذا فسَّره النَّووي -رحمه الله-.

    وبعضهم يقول: إنَّ معنى: سبحانك اللهم وبحمدك أُنَزِّهك وأتلبَّس بحمدك. وهذا كأنَّه أوضح، وأوضح منه مَن قال: إنَّ ذلك يكون بمعنى: أُسَبِّحك وأنا مُتَلَبِّسٌ بحمدك، أي: حال كوني مُتلبِّسًا بحمدك، فيكون ذلك للحال، إضافة الكمال وأوصاف الجلال لك سبحانك، كما ينبغي لجلال وجهك، وعظمة سُلطانك.

    اللهم اغفر لي يا الله، اغفر لي، ذكر ذلك بعد التَّسبيح والتَّحميد؛ فإنَّ الدُّعاء والسُّؤال بعد الثَّناء على الله والتَّنزيه يكون أحرى للإجابة؛ ولهذا ينبغي للإنسان إذا أراد أن يدعو الله  ألا يبدأ بمسألته مُباشرةً، وإنما يُقدِّم بين يديها من الثَّناء على الله، والتَّمجيد له، وذكره بأسمائه وصفاته وكمالاته ، فليذكر فقرَه وضعفَه وحاجته إلى ربِّه وخالقه .

    كذلك أيضًا يذكر سوالفَ النِّعَم أنَّه لم يكن شقيًّا بدُعائه لربِّه فيما سلف، فالله يُعطيه ويُوليه ويُجيبه، فما كان بدعاء ربِّه شقيًّا، بل الله يُعطيه ويُكرمه ويُجيبه، فيذكر مثل هذه بين يدي الدُّعاء.

    وانظروا هنا: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، وعرفنا أنَّ الغفر ينتظم معنيين: السَّتر، فلا يفضح في الدنيا، ولا في الآخرة، وكذلك أن يُوقَى تبعةَ هذه الذُّنوب وما ينتج عنها من المؤاخذة والعقوبة، وما إلى ذلك، وقلنا: منه المغفر، فهو يُغطِّي ويستر رأسَ لابسه، ويقيه الضَّرب.

    "يتأوَّل القرآن"، وهذا كان يأتي به النبيُّ ﷺ في الركوع والسُّجود، كما تقول عائشةُ -رضي الله تعالى عنها-، اختار هذا التَّأول للقرآن، وامتثل أمر الله  حينما قال له: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ، جعله في هذه الأحوال التي يكون العبدُ فيها مُعَظِّمًا لله  غاية التَّعظيم، يعني: وهو راكعٌ، أو وهو ساجدٌ.

    ويقول الحافظُ ابن رجب -رحمه الله-: في هذا الحديث دليلٌ على الجمع بين التَّسبيح والتَّحميد والاستغفار في الركوع والسُّجود[13]؛ لأنَّ هذا الحديثَ تضمَّن هذه الأشياء جميعًا، مع أنَّ النبي ﷺ قال: وأمَّا الركوع فعظِّموا فيه الربّ[14]، فهنا جاء تسبيحٌ وتحميدٌ واستغفارٌ!

    فهذا أجاب عنه بعضُ أهل العلم بإجابات، كقول بعضهم بأنَّ هذا الذكر زيادةٌ على ذلك التَّعظيم الذي كان يقوله ﷺ: يقول: "سبحان ربي العظيم"، ويزيد هذا.

    وبعضهم يقول -كابن دقيق العيد- بأنَّ حديثَ الباب هذا: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك يدلّ على الجواز، وأمَّا قوله: وأمَّا الركوع فعظِّموا فيه الربّ يدل على الأولوية[15]، يعني: أنَّ ذلك من باب أولى أن يكون للتَّعظيم.

    لكن كيف يُقال: إنَّه من باب أولى، والنبي ﷺ يقول ذلك في ركوعه وسجوده؟

    وبعضهم يقول: يحتمل أن يكون أُمِرَ بالسُّجود بتكثير الدُّعاء لإشارةِ قوله: وأمَّا السُّجود فاجتهدوا فيه بالدُّعاء، فقَمِنٌ أن يُستجاب لكم[16].

    وأمَّا ما جاء في قوله: اللهم اغفر لي في الركوع، مثل هنا: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك؛ فإنَّ هذا قليلٌ، فلا يُعارض ما أُمِرَ في السُّجود، فالذي يظهر -والله تعالى أعلم- أنَّ هذا الذكرَ مُسْتَثْنًى، فيقوله في الركوع والسُّجود، لكن لا يتحرى في الركوع الدُّعاء، بمعنى: أنَّه في السُّجود يقول: ربي اغفر لي، وارحمني، وارزقني، واجبرني، وعافني، واهدني، واعفُ عني. ويدعو بما شاء، فيجتهد في الدُّعاء، لكن إذا ركع فإنَّه لا يجتهد في الدُّعاء، ولا يتحرى الدُّعاء في حال الركوع، فيكون هذا استثناءً فقط، يقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، فلو أنَّه قال هذا بعد أن يقول: سبحان ربي العظيم فهذا حسنٌ -والله تعالى أعلم-.

    هذا ما يتعلق بهذا الحديث، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يُعيننا وإيَّاكم على ذكره وشُكره وحُسن عبادته.

    اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دُنيانا.

    ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذابَ النار.

    اللهم اهدِ قلوبنا، وسدد ألسنتنا، والله أعلم.

    وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

    ######################################################


    دعاء الركوع

    " سبوح قدوس رب الملائكة والروح "


    الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

    أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    في هذه الليلة -أيّها الأحبّة- نتحدَّث عن ذكرٍ جديدٍ مما يُقال في الركوع؛ وذلك ما ترويه عائشةُ أم المؤمنين -رضي الله تعالى عنها-، عن النبي ﷺ: أنَّه كان يقول في ركوعه وسجوده: سبُّوح، قدُّوس، ربُّ الملائكة والرُّوح[1].

    قوله: سبُّوح، قدُّوس هذا الوزن -وزن فعول- يدل على المبالغة، ولم ترد في لغة العرب إلا في ألفاظٍ قليلةٍ محددةٍ، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، بل لا تبلغ ذلك، والمراد بها التَّنزيه.

    فهاتان اللَّفظتان تدلان على التَّنزيه إجمالاً، وإن اختلفت عبارات أهل العلم في بيان الفرق بينهما؛ فبعضهم يقول بأنَّ الأولى: سبُّوح لتنزيه الذَّات، قدُّوس لتنزيه الصِّفات.

    وبعضهم يقول بأنَّ سبُّوح من التَّسبيح الذي هو التَّنزيه، وقدُّوس من التَّطهير، ونحن نُسبِّح بحمدك، ونُقدِّس لك، ونُنزِّهك مُتلبِّسين بحمدك، ونُقدِّس لك، والمكان المقدَّس: المطهَّر، تقول: هذا شيء مُقدَّسٌ، يعني: مُطَهَّرٌ، لكنَّه مع التَّطهير -والله أعلم- فيه معنى التَّعظيم، فيكون تطهيرٌ مع التَّعظيم، تقول: هذه بُقعة مُقدَّسة مُطَهَّرة مُعَظَّمة، وهذا مسجدٌ مُقدَّسٌ، وما أشبه ذلك مما قد يُقال، فيدل على التَّطهير والتَّعظيم.

    فبعض أهل العلم يقول: حينما نقول: سبُّوح، قدُّوس يكون التَّقدير: ركوعي وسجودي لمن هو سبُّوح، قدُّوس، ربّ الملائكة والروح.

    فأنت حينما تركع وتقول: سبُّوح، قدُّوس بعضُهم يقول: التَّقدير إذا كنتَ راكعًا: ركوعي لمن هو سبُّوح، قدُّوس. وإذا كنتَ ساجدًا: سجودي لمن هو سبُّوح، قدُّوس، ربّ الملائكة والروح. فهذا قاله بعضُ أهل العلم.

    وبعضهم قدَّره: أنت سبُّوح، قدُّوس، ربّ الملائكة والروح. وبعضهم يقول غير هذا من التَّقديرات، لكن كلّ ذلك يدلّ -كما سبق- على التَّنزيه، فهو مُنَزَّهٌ عن كل عيبٍ ونقصٍ في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله -تبارك وتعالى-، فإذا سبَّحت الله فإنَّك تكون قد نزَّهتَه من كل العيوب والنَّقائص، وما لا يليق بجلالته وعظمته.

    فإذا فرّقنا بينهما قلنا: التَّسبيح بمعنى: التَّنزيه، والتَّقديس: تطهيرٌ مع التَّعظيم، طاهرٌ من كل عيبٍ، ومُنَزَّهٌ عن كل نقصٍ وما يُستقبح.

    وبعضهم يقول: إنَّ "سبُّوح، قدُّوس" يعني: المسبِّح المقدِّس، وكأنَّ سبُّوح، قدُّوس مُسَبِّح، مُقَدِّس، ربّ الملائكة والروح، فجاء بها على وزن (فعول) يعني: مُبالغة: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [الجمعة:1]، تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، فكل ما في هذا الكون يُنَزِّه الله  عن كلِّ ما لا يليق بجلاله وعظمته من كلِّ ما يكون نقصًا وعيبًا، والله -تبارك وتعالى- يُوصَف بأنَّه سبُّوح، ويُوصَف بأنه قدُّوس.

    والسبوح عدَّه جماعةٌ من أهل العلم من أسماء الله ، فإنَّ أكثر الذين تكلَّموا في أسماء الله -تبارك وتعالى- ذكروه في جملة الأسماء الحسنى، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-[2]، وقبله ابن منده[3]، والبيهقي[4]، والإمام الأصبهاني صاحب "الحجّة"[5]، وخلق كثير، ومن المتأخّرين الشيخ محمد الصَّالح العثيمين -رحم الله الجميع-[6]، فهؤلاء كلّهم عدُّوا ذلك من جملة الأسماء الحسنى، ولم يرد فيه فيما أعلم إلا هذا الحديث: سبُّوح، قدُّوس، وقد ذكرنا في مُقدمات الأسماء الحسنى ما يُعدّ من جملة الأسماء، وأنَّ بعضَهم اشترط فيه الإطلاق والتَّعريف؛ ولهذا فإنَّ القدُّوس بالاتِّفاق من أسماء الله الحسنى: الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ [الحشر:23] في آخر سورة الحشر، فهذا بالاتِّفاق من أسماء الله ، والعلماء متَّفقون عليه، بخلاف السُّبوح: هل هو من أسماء الله، أو لا؟ لكن الأكثر أثبتوه.

    وابن قتيبة -رحمه الله- يقول بأنَّ "القدُّوس" من القدس، والقدس هو الطَّهارة[7]، وشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: القدُّوس: المستحقّ للتَّنزيه عن السُّوء[8]. كما قلتُ بأنَّ ذلك يرجع إلى معنى التَّنزيه، لكن ما الفرق؟

    يقول شيخُ الإسلام: وهو سبحانه سبُّوح، قدُّوس، يُسبِّح له ما في السَّماوات والأرض[9].

    وهذا كما سيأتي -إن شاء الله تعالى- في الكلام على الأسماء الحسنى، وفي الكلام على القدُّوس، السَّلام، فبينهما أيضًا مُشابهة في المعنى؛ ولذلك اختلفت عبارات العلماء في الفرق بين القدُّوس والسَّلام؛ فبعضهم فسَّر القدُّوس: الطَّاهر من كل عيبٍ ونقصٍ، والسَّلام: السَّالم من كل عيبٍ ونقصٍ، والمعنى مُتقارب.

    وبعضهم أرجع ذلك إلى التَّنزيه مطلقًا، فجعلوا الأول للتَّنزيه في الماضي، والثاني للتَّنزيه في المستقبل والحاضر.

    فعلى كل حالٍ، هنا أيضًا يتقارب القدُّوس مع السبُّوح.

    والروح الروح فُسّر بأنَّه ملكٌ من الملائكة، وفُسّر بأنَّه جبريل -عليه الصلاة والسلام-، فعلى هذين التَّفسيرين يكون هذا من قبيل عطف الخاصِّ على العامِّ: ربّ الملائكة والروح، فيكون خصَّ الروحَ لشرفه ومنزلته ومكانته وعظيم قدره، هذا على هذا التَّفسير أنَّه مَلَكٌ، سواء قيل: جبريل أو لا.

    وقد مضى الكلامُ في رمضان على ذلك في تفسير: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ [النبأ:38]، وذكرنا أقوال أهل العلم فيه.

    فهذا الاسم (الروح) بعضُهم يقول بأنَّه أرواح بني آدم: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ يعني: الأرواح يوم القيامة، وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ، الكل خاضعٌ لعظمة الله  في ذلك اليوم.

    وبعضهم يقول: الروح هو القرآن؛ لأنَّ الله وصفه بذلك: أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]؛ لأنَّه لا حياةَ للأرواح إلا به: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ، هل معناه: يقوم القرآن؟ هذا فيه بُعْدٌ، وهذا ذُكر في جملة الأقوال في الآية: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ.

    وأما هنا: ربّ الملائكة والروح، فإذا فُسّر الروحُ بالقرآن في هذا الحديث؛ فإنَّ "ربّ" يكون بمعنى: صاحب؛ لأنَّ القرآنَ كلامُ الله، وكلامه صفةٌ من صفاته، ليست بمخلوقةٍ، فالربّ يأتي بمعنى صاحب الشَّيء؛ لأنَّ الله هو الذي تكلَّم به، لكن هذا التَّفسير فيه بُعْدٌ -والله تعالى أعلم.

    وأبو جعفر ابن جرير -رحمه الله- لما ذكر هذه الأقوال لم يُرجِّح، فقال: "والصَّواب من القول أن يُقال: إنَّ الله -تعالى ذكره- أخبر أنَّ خَلْقَه لا يملكون منه خطابًا يوم يقوم الرُّوح، والرُّوح خَلْقٌ من خَلْقِه، وجائزٌ أن يكون بعض هذه الأشياء التي ذُكِرَتْ، والله أعلم أيّ ذلك هو، ولا خبر بشيءٍ من ذلك أنَّه المعنيّ به دون غيره يجب التَّسليم له، ولا حُجَّة تدلّ عليه، وغير ضائرٍ الجهل به"[10].

    يقول: ما عندنا خبرٌ، ولا نقلٌ، ولا نصٌّ يدل على تخصيص أحد هذه المعاني، لكن ابن كثير -رحمه الله- لما نقل توقف ابن جرير في ترجيح أحد المعاني في الآية، قال: "والأشبه -والله أعلم- أنَّهم بنو آدم"[11]، يعني: أرواح بني آدم؛ لقوله: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ.

    هنا في هذا الحديث: ربّ الملائكة والروح، يحتمل أن يكون المرادُ جبريل ﷺ: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا [مريم:17]، قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ [النحل:102]؛ لأنَّه يأتي بالوحي الذي به حياة الأرواح، فقيل له: الروح، كما يقول بعضُ أهل العلم، ففسّر: سبُّوح، قدُّوس، ربّ الملائكة والروح بجبريل ﷺ، أو ملك من الملائكة -كما سبق-؛ فيكون من قبيل عطف الخاصِّ -ملك معين- على الملائكة؛ لأنَّه واحدٌ منهم: ربّ الملائكة بما فيهم الروح جبريل ﷺ، لكنَّه ذكره، مثل: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، خصَّها لأهميتها.

    ويحتمل أنَّ المراد بـربّ الملائكة والروح الأرواح المخلوقة، وكأنَّ الأقربَ -والله أعلم- أنَّ المقصودَ بالروح هو جبريل -عليه الصلاة والسلام-.

    هذا ما يتعلق بهذا الذكر الذي يُقال في الركوع والسُّجود، فهذا لو أنَّ أحدًا استقلَّ به في ركوعه وسجوده، فإنَّه يُجزئه -إن شاء الله-، ولو قاله مع قوله: سبحان ربي العظيم[12] فلا بأس بذلك، والله أعلم.

    وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

    ###########################################
    دعاء الركوع

    " اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت... "



    الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

    أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    في هذا اليوم -أيّها الأحبّة- صُلِّيَ على نحو إحدى عشرة جنازة: رجال ونساء وطفل، وحينما ننظر في حالنا وهذه الجنائز تُحمل على الأعناق تباعًا إلى القبور، نجد -للأسف الشَّديد- أنَّ الغفلةَ غالبةٌ في هذا المقام والمشهد الذي ينبغي أن يكون موضعًا للتَّفكر والاعتبار.

    كان السَّلفُ -رضي الله تعالى عنهم- إذا شهدوا جنازةً -كما وُصِفُوا- لا ترى إلا مُتقنِّعًا باكيًا، أو مُتفكِّرًا، حتى جاء عن بعض السَّلف أنهم لربما شهدوا الجنازةَ ولم يعلموا بأهل الميت؛ لما يرون من كثرة الباكين، فهذا مقامٌ للاتِّعاظ، لكن إذا نظرنا إلى اهتماماتنا وحديثنا في المقابر ونحن نصطفّ لنُعزِّي هؤلاء، تجد الكثير منا لربما يتحدَّث عن اهتماماته، وبعضنا يتحدَّث عن تويتر ويضحك، ويتحدَّث مع أصحابه، وآخرون يتحدَّثون عن قضايا أخرى، وضحك، وكأنَّهم في سوقٍ، أو في مُنتدى.

    فإذا كان الاتِّعاظ لا يتحقق -أيّها الأحبّة- في مثل المقبرة، وهذه الأعداد من الجنائز، فلا أدري متى يكون ذلك؟!

    فيحتاج العبدُ إلى مُراجعة قلبه وقسوته، وإصلاح ما فسد منه، وأحد هؤلاء الشَّباب كان يسأل في مثل هذا الموقف: أنَّه حفظ جملة المتون، فيقول: بماذا تُوصي؟ فقلتُ له: اعمل لمثل هذا اليوم، فليست القضيةُ حفظَ متونٍ، ولا قراءة، ولا كثرة كتبٍ ومراجع، ولا كثرة شهادات، وإنما العبرةُ بما يكون عليه الإنسان، وما يقدم به على ربِّه -تبارك وتعالى-، هذه العبرة؛ ولذلك فإنَّ المؤمن ينبغي له دائمًا أن يتفكَّر في هذا المصير المحتوم، وهي مسألة وقتٍ والكل سيمضي، فإذا أراد أن يتكلم بكلمةٍ يحسب لها حسابًا، وإذا أراد أن يكتب شيئًا فليحسب له حسابًا، وإذا أراد أن يُجيب على سؤالٍ فليحسب لذلك حسابًا، حينما يُسأل: قلتَ كذا، وأجبتَ بكذا، وكتبتَ كذا، ونظرتَ إلى كذا، ومشيتَ إلى كذا. فلا بدَّ أن يكون الجوابُ حاضرًا، فقبل أن يُجيب الإنسانُ يستحضر وقوفَه بين يدي الله ، وقبل أن يُقرر مسألةً في العلم والشَّرع أن يقول: هذا هو الصَّحيح، وهذا هو الرَّاجح، وما عداه باطل. فيستحضر الجواب، كيف قلت: هذا هو الراجح؟ وكيف قلت: هذا غلط؟ وكيف قلت: هذا هو الصَّواب؟

    فتكون كلماتُه وعباراتُه له فيها مخرجٌ عند الله ، فلا يتكلم إلا بعلمٍ، وتكون عباراته: لو قال قائلٌ كذا، لو أنَّ أحدًا فسَّره بكذا لكان له وجهٌ، فإنَّه يحتمل.

    وهكذا حينما يكتب يتذكر أنَّ ذلك يُكتب في صحيفته، وحينما يتكلم في كل مواقفه وأحواله، فهكذا ينبغي أن يكون أهلُ الإيمان، أمَّا الغفلة في الحياة، وعند رؤية المقابر والقبور والجنائز وهي تُحْمَل، وبهذه الأعداد، جنائز مُتتابعة محمولة خلف بعضها: إحدى عشرة جنازة، ولا يُحرِّك في نفوسنا شيئًا، ونضحك، ونتحدَّث عن اهتمامات أخرى لا قيمةَ لها، فهذا لا شكَّ أنَّه من الغفلة.

    فنسأل الله  أن يلطف بنا، وأن يُصلح قلوبنا وأعمالنا.

    بعد ذلك أقول -أيّها الأحبّة-: في هذه الليلة نشرح حديثًا آخر من الأذكار التي تُقال في الركوع؛ وذلك ما جاء عن علي بن أبي طالبٍ -رضي الله تعالى عنه- في الحديث الذي أخرجه الإمامُ مسلمٌ في "صحيحه": أنَّ النبي ﷺ كان إذا ركع قال: اللهم لك ركعتُ، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ، أنت ربي، خشع سمعي وبصري ومخِّي وعظمي وعصبي[1]، وفي لفظٍ: خشع سمعي وبصري ومخي وعظمي وما استقلَّت به قدمي لله ربِّ العالمين[2]، هذه الزِّيادة ليست في "صحيح مسلم"، لكنَّها ثابتة.

    فقوله: اللهم لك ركعتُ عرفنا أنَّ (اللهم) يعني: يا الله، لك ركعتُ. ولاحظوا هنا أنَّه قدَّم الجار والمجرور ليُفيد الحصر، فلم يقل: ركعتُ لك، فإنَّه لو قال ذلك فإنَّه لا يُفيد الحصر، ركعتُ لك مثلاً يحتمل ولغيرك، لكنَّه هنا قال: لك ركعتُ، مثلما قلنا في: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، يعني: نعبدك وحدك، ونستعين بك وحدك.

    فهنا لك ركعتُ يعني: دون ما سواك. وهذا ينبغي أن يُراعي فيه قائلُه النية والقصد والإخلاص، فقد يقول الإنسانُ: لك ركعتُ وهو يتزين بركوعه وصلاته لأحدٍ من المخلوقين، فلا يكون قد ركع لله  حقيقةً.

    لك ركعتُ والركوع معروفٌ: هو الانحناء والميلان، يُقال: "ركعت النَّخلةُ" إذا مالت، وقد يُراد به الصَّلاة أحيانًا، من باب إطلاق اسم الجزء على الكلِّ: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43]، ما المراد به؟ الصَّلاة، والصَّلاة يُقال لها: ركوع، كما يُقال لها أيضًا: سجود، فتُسمَّى ببعض أجزائها مما هو ركنٌ فيها.

    اللهم لك ركعتُ، وبك آمنتُ يعني: أذعنتُ، وانقدتُ، وأقررتُ، وصدقتُ تصديقَ الانقيادِ، فهذا إذعان الباطن وتصديقه وانقياده.

    ولك أسلمتُ يعني: أسلم لساني وجوارحي لله ربِّ العالمين، فهي طيِّعةٌ لربها وخالقها، لا تخرج عن طاعته، ولا تتمرد على عبادته، وإنما تكون في حالٍ من الاستسلام لله ربها وخالقها -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه-.

    خشع لك سمعي كما سبق في الكلام على الخشوع مُفَصَّلاً في الأعمال القلبية، وتطرقت إلى معناه، وهنا في بعض هذه المجالس.

    والخشوع فُسِّر بالسُّكون والتَّواضع، كما قال شيخُ الإسلام -رحمه الله-، فإنَّ هذا المصلِّي حينما يقول: خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي يكون قد وصف نفسَه بالخشوع في حال الركوع؛ لماذا؟ لأنَّ هذا الراكعَ ساكنٌ مُتواضعٌ[3]، خاضعٌ لله -تبارك وتعالى-، قد حنى جسدَه إعلانًا وإيذانًا بتواضعه لربِّه -تبارك وتعالى-، وتعظيمه له، وبهذا فُسِّر قوله -تبارك وتعالى-: فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:2]، فهذا الخشوع في الصَّلاة فُسِّر بالسُّكون.

    وابن عباسٍ -رضي الله عنهما- قال: خائفون، ساكنون[4]. وجاء عن مجاهدٍ أيضًا تفسيره بالسُّكون فيها[5]، وكذلك محمد بن شهاب الزهري[6]، وطائفة من السَّلف، فمَن بعدهم -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم-.

    فهذا الخشوع يكون في القلب، ويظهر أثرُه بعد ذلك على رعيَّة هذا القلب، وما رعيَّة هذا القلب؟ كلّ ما عدا القلب فهو من رعيَّته: كالسَّمع والبصر والمخ والعصب وسائر الأعضاء، كلّها رعيَّة لهذا القلب، فإذا خشع القلبُ خشع كلُّ شيءٍ وسكن، وإذا كان هذا القلبُ شاردًا اشتغلت هذه الجوارح بالحركة والفكر بالتّجوال هنا وهناك في أمور دُنياه، وما إلى ذلك مما هو بعيدٌ كل البُعد عن صلاته، فلم يخشع فكرُه ومخُّه؛ لأنَّ قلبَه لم يخشع، وكذلك بقية أعضائه وأبعاضه، فإنَّها لا تكون خاشعةً؛ لأنَّ الملكَ غير خاشعٍ.

    ولذلك تجد الإنسان حينما يتأثّر في صلاته، أو في الموعظة، أو نحو ذلك، أو يتفكّر؛ فيلين قلبُه، تجد أنَّ جميع الجوارح تكون في حالٍ من السُّكون، فإذا رأيتَ عابثًا في هذه الحال تعلم أنَّه أبعد ما يكون عن الخشوع.

    فهذا الخشوع -أيّها الأحبّة- يكون في القلب، وينبعث على بقية الجوارح والأعضاء والأبعاض بالخضوع والتَّواضع والسُّكون؛ ولذلك نجد العلماء -رحمهم الله- حينما يُفسِّرون الخشوع تارةً يُفسِّرونه بسببه، أو ببعض أسبابه ومُوجباته، وتارةً يُفسِّرونه ببعض آثاره، والواقع أنَّ السكونَ هو أثرٌ من آثار الخشوع، وإلا فإنَّ الخشوعَ يكون في القلب.

    وهنا يقول: خشع لك سمعي وبصري ومخِّي المخُّ فسَّره العلماء بالدِّماغ، والعلماء يُفسِّرونه يقولون: أصله الودك الذي في العظم، ويُقال لخالص كل شيءٍ: مخّه، يعني: خُلاصته، وهذا المخّ لا شكَّ أنَّه في الدِّماغ، ويُوجد أيضًا في العِظام -كما هو معلومٌ- مخٌّ، ما دام هذا العظم في حالٍ من عافيته وصحّته وسلامته، حينما يكون الإنسانُ صحيحًا، لكن هذا المخّ تجري فيه عمليات ترتبط مع القلب، وإن كان العقلُ في القلب كما دلَّت عليه نصوصُ الكتاب والسُّنة، لكنَّه يرتبط بالدِّماغ.

    يقول: خشع لك سمعي وبصري ومخِّي وعظمي وعصبي الكلّ، العِظام والعصب لا يتحرَّكان ولا يقومان إلا بالله -تبارك وتعالى- وطاعته.

    وما استقلَّت به قدمي يعني: ما قامت به وحملته، وما الذي حملته القدم؟ جميع البدن بما فيه القلب، فكأنَّ هذا من عطف العام على الخاصِّ، يعني: ذكر أشياء خاصَّة: السَّمع والبصر والمخّ والعصب والعظم، ثم قال: وما استقلَّت به قدمي؛ ليشمل الجميع، فذكر أشياء أساسية مهمة في البداية سمَّاها، ثم عمَّم بعد ذلك، فيكون ذلك من باب ذكر العام بعد الخاصِّ.

    هذا الدعاء -أيّها الأحبّة- أو هذا الذكر كما يقول الحافظُ ابن القيم -رحمه الله-: قد جمع بين شهود عبوديته لربِّه -تبارك وتعالى-، وشهوده معبوده[7]، وهذا كمال العبودية، يعني: أن يشهد ما يأتي به من العبودية مُوجِّهًا لها إلى المعبود -تبارك وتعالى-، محضِرًا لها بين يديه، مُتقرِّبًا بها إليه، فهو يُخاطِب ربَّه -تبارك وتعالى- فيقول: "اللهم"، فهو مُسْتَحْضِر الإخلاص، وأنَّه ركع لله ، ثم أيضًا هو مُستحضرٌ لهذه العبادة التي يقوم بها، وأنَّه يتقرَّب بها إلى الله -تبارك وتعالى- على الوجه الصَّحيح.

    هكذا قال الحافظُ ابن القيم -رحمه الله-، لكن ينبغي أن نتأمّل هنا معنى: حينما يقول الإنسانُ: خشع لك سمعي وبصري.. إلى آخره، ويكون أبعد ما يكون عن الخشوع، فإنَّ هذا يكون كذبًا، ويقول بلسانه غير الحقيقة، فينبغي التَّنبه لمثل هذا، وأن يعي الإنسانُ ما يقول، وألا يكون قولُه مُكذِّبًا لحاله، وألا تكون حالُه مُكذِّبةً لقوله، وألا يكون فعلُه مُكذِّبًا لقوله.

    وقد يقول قائلٌ: ما وجه ارتباط هذه الجُمَل في أول الحديث حينما يقول بأنَّه ركع لله ، ثم بعد ذلك يقول: خشع لك سمعي.. إلى آخره؟

    أجاب العلماء عن وجه الارتباط، ولماذا حُذفت واو العطف، فلم يقل: وخشع لك سمعي وبصري؟ فوجه ذلك كما قال بعضُ أهل العلم: هذا تفسيرٌ لقوله: لك أسلمتُ، فما هذا الإسلام؟

    إسلام جميع الأعضاء والجوارح لربِّها وخالقها ، وإسلام الظَّاهر، فهنا يقول: انقدتُ وأطعتُ، فهذا الانقياد في كلِّ أجزائه وأبعاضه وخلايا جسده، فهي مُنقادةٌ كلّها، وخاضعةٌ لربِّها -تبارك وتعالى-.

    فهنا كأنَّه بيَّن نوعي الانقياد والطَّاعة: خشع سمعي، ثم بيَّن الانقياد هذا في أشياء ظاهرة: كالسَّمع، والبصر، وأيضًا في أشياء لا تُرى، مثل: المخّ، والعصب، فخشع الظاهرُ والباطنُ، الجوارح والأعضاء الظَّاهرة، والأبعاض الباطنة، الكلّ مُستسلمٌ لله -تبارك وتعالى-، خاشعٌ، خاضعٌ له، فيكون ذلك كأنَّه توضيحٌ وبيانٌ وشرحٌ لهذا الإسلام في قوله: لك أسلمتُ.

    وقد يقول قائلٌ: لماذا خصَّ السَّمع والبصر من بين الحواس الظَّاهرة، والمخّ والعظم والعصب من الأشياء الباطنة، مع أنَّ الأبعاضَ أكثر من هذه؟

    أجاب بعض أهل العلم بالقول: بأنَّه خصَّ السَّمع والبصر لأنَّهما أعظم الحواس وأخطرها، بهما يُتلقَّى، فهما كالميزابين يصبَّان في القلب، والصّور المشاهدة تُؤثِّر في القلب، فالتَّلقي يكون بالسَّمع والبصر؛ ولهذا قال الله : إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36]، فهي أخطر هذه الأعضاء وأكثرها عملاً، كما قيل: العين لا تشبع من النَّظر ولا تكتفي، بعكس البطن مثلاً، يأكل ثم يشبع، ولا يستطيع أن يأكل بعد ذلك، لكن العين تنظر بلا كللٍ ولا مللٍ، وكلّما تُعطيها من المشاهد والصُّور فهي تتبعه، ولا تقول: اكتفيتُ بصورةٍ أو صورتين أو خمسٍ أو عشرٍ، وإنما هل من مزيدٍ؟

    وكذلك ما يسمعه الإنسانُ؛ ليس هناك شيءٌ يملأ النفسَ من هذه المسموعات، يقول: أستطيع أن أسمع عشر دقائق مثلاً، أو ساعة. لا، هو يمكن أن يجلس ويسمع ما شاء الله، إلى أن يسقط مُنهكًا ومُتعبًا أو ينام، ولا يزال يسمع.

    فهنا الخواطر والوساوس تأتي إلى القلب، والأشياء التي يُشاهدها تُشوش فكرَه وصلاتَه، وقد ينشغل بمَن بجواره، يريد أن يتعرف على المصلِّي بجانبه، وما إلى ذلك.

    وأمَّا المخّ والعظم والعصب، فبعض أهل العلم يقول: إنَّ ذلك لكون ما في أقصى قعر البدن هو المخّ، ثم العظم، ثم العصب؛ لأنَّ المخَّ -كما قالوا- يُمسكه العظم، والعظم يُمسكه العصب، وسائر أجزاء البدن مُركَّبة عليها، يعني: هذه هي -كما يُقال- مثل العُمد والأُسس والأُصول في البناء، والباقي مثل الطوب والأبواب والنَّوافذ، وما إلى ذلك، فقالوا: هذه الأُسس التي يقوم عليها اللحمُ والشَّحم، إلى آخره، فهذا اللَّحم والشَّحم يذهب ويجيء ويتبدّل، لكن يبقى العصبُ لا يتبدّل، وتبقى العظامُ عليها قوام البدن، وهكذا أيضًا المخّ، فهذه الأشياء التي يقوم عليها بناءُ الإنسان والحيوان، وهكذا.

    لكن ما معنى انقياد هذه الأشياء؟

    أما السمع والبصر فظاهرٌ، ومن خضوعه وخشوعه أن يقبل الحقَّ، ويُعرض عن سماع الباطل، ويُقْبِل على ما ينفع.

    وكذلك البصر ينظر به إلى ما يُرضي الله ، ويُعرض عمَّا حرم الله -تبارك وتعالى-.

    أما المخّ والعظم والعصب فهذا يعني: انقياد الباطن، وانقياد جميع أبعاض الإنسان؛ ليكون مُحقِّقًا للعبودية بكلِّ ذرَّاته، خاضعًا، خاشعًا، فحينما يقول هذا في هيئة الركوع، ويُخاطِب ربَّه، فهذا مقامٌ يحتاج إلى استحضارٍ: هل كلّ الأجزاء فعلاً خاشعة؟ وهل هي بهذه المثابة إلى هذا الحدِّ من عظمٍ وعصبٍ ومخٍّ وما إلى ذلك؟ أو أنَّ هذا الإنسان يُصلي وعيناه تجولان في المسجد، في سقفه، وفي المصلين، ونحو ذلك؟

    فإذا حصل هذا الانقيادُ الكامل صار العبدُ في حالٍ من النَّزاهة والطُّهر والاستقامة والعبودية، وأبعد ما يكون من خواطر السُّوء والفساد والشَّر في باطنه وظاهره، فيسلم ويسلم منه الناسُ، وبهذا تنهاه صلاتُه عن الفحشاء والمنكر، عرفتم لماذا كانت الصلاةُ تنهى عن الفحشاء والمنكر؟

    فلو نستحضر هذه المعاني لم نحتج إلى كلامٍ كثيرٍ في الجواب الذي أوردناه من قبل؛ ولماذا يخرج الإنسانُ من المسجد فيذهب يفتح صورًا مُحرَّمةً؟ ويخرج من المسجد ويغشّ في البيع، ويُخاصم ويفجر في الخصومة، ويكتب ما لا يُرضي الله -تبارك وتعالى-، والقلب مليءٌ بالغشِّ والغلِّ والحسدِ لإخوانه المسلمين، والظنّون السَّيئة، والأوهام الفاسدة، كلّ هذا يتنزَّه منه المؤمنُ الذي يُصلي بهذه الصَّلاة، ومَن كانت صلاتُه لا تنهاه عن الفحشاء والمنكر، فهذه الصَّلاة صورةٌ بلا روحٍ، وقد لا تزيده من الله إلا بُعْدًا، نسأل الله العافية.

    هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
    ------------------------------------------------------------------
    ما زلنا أحبابي تابعونا جزاكم الله خيرا

    ولا تنسونا من صالح دعائكم




    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5188
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    (3)أدعيه الركوع " سبحان ربي العظيم " " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي "  Empty أدعيه الركوع

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس مايو 05, 2022 2:23 pm

    دعاء الركوع "

    سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة



    الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

    أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    في هذه الليلة نشرع في شرح الحديث والذكر الأخير مما يُقال في الركوع؛ وذلك ما جاء من حديث عوف بن مالك  قال: قمتُ مع رسول الله ﷺ ليلةً، فلمَّا ركع مكث قدر سورة البقرة يقول في ركوعه: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة. هذا الحديثُ أخرجه أبو داود([1]، والنَّسائي[2]، وإسناده صحيحٌ.

    وفي روايةٍ لأبي داود يقول عوفٌ : "قمتُ مع رسول الله ﷺ ليلةً، فقرأ سورة البقرة، لا يمرّ بآية رحمةٍ إلا وقف فسأل، ولا يمرّ بآية عذابٍ إلا وقف فتعوَّذ، ثم ركع بقدر قيامه"[3]، كذا أيضًا في رواية النَّسائي: "بقدر قيامه"[4]، قام بسورة البقرة، فركع بقدرها يُردد -عليه الصَّلاة والسَّلام- هذا الذكر: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، فحينما يبقى ﷺ هذه المدّة الطَّويلة بقدر سورة البقرة، ومعلومٌ أنَّ سورةَ البقرة تُقرأ في قراءةٍ بحدرٍ قريبٍ من الاعتدال في القراءة، من غير إسراعٍ كثير، ومن غير ترسُّلٍ، تُقرأ فيما يقرب من ساعةٍ إلا عشرًا، في خمسين دقيقة تقريبًا.

    فهذا ركوعٌ واحدٌ في حدود ساعةٍ إلا عشرًا، فما مقدار السُّجود الأول والثاني والجلسة بين السَّجدتين؟ وكذلك أيضًا الركوع الثاني؟ وهذه الصَّلاة في ركعتين ما مقدارها؟ كم تبلغ؟ إذا كان الركوعُ بهذه الحدود: ساعة إلا عشرًا تقريبًا، ركوعٌ واحدٌ.

    بهذا يُقارن الإنسانُ بين حاله وحال النبي ﷺ، وقد غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، نحن في رمضان وفي غير رمضان ما أطول ركوعٍ ركعتَه؟ يستعيد الإنسانُ ذاكرتَه: هل قارب ذلك، أو قارب عُشْر ذلك؟ فالآخرة تحتاج إلى عملٍ، وكما سمعتُم في قول الله -تبارك وتعالى-: فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ۝ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى ۝ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى [النازعات:34-36]، فتبقى النَّجاةُ مُترتِّبةً على الإيثار: فَأَمَّا مَنْ طَغَى ۝ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ۝ فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ۝ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ۝ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:37-41].

    فإيثار الآخرة على الدنيا يحتاج إلى صبرٍ ومُجاهدةٍ وعملٍ وسعيٍ للآخرة: إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا [النبأ:40].

    فهذه عبادة النبي ﷺ، فلنقلب أعمالنا وما نحن عليه في عباداتنا، ونسأل الله  أن يرحمنا، وأن يتجاوز عنا، وأن يُعيننا على ذكره وشُكره وحُسن عبادته.

    هذا الحديث -أيّها الأحبّة- كما هو ظاهرٌ هو في قيام الليل، ومن ثم فإنَّ هذا الذكر يُشرع في قيام الليل، لكن لو أنَّ أحدًا قاله في الفريضة، فإنَّ ذلك لا يحتاج منه إلى سجود سهوٍ، أو يُقال: إنَّ هذا مما يُؤاخذ عليه الإنسان؛ لأنَّه ذكرٌ يُقال في الركوع، ولكن قاله ﷺ في قيام الليل، فنحن نقوله في صلاة الليل.

    فقوله: سبحان ذي الجبروت عرفنا معنى التَّسبيح، وأنَّه بمعنى التَّنزيه، يُسبح الله ويُبرئه ويُنزهه من كل عيبٍ ونقصٍ.

    سبحان ذي الجبروت يعني: صاحب الجبروت، والجبروت هذه صفةٌ ثابتةٌ لله -تبارك وتعالى-، دلَّ عليها اسمه الجبار، وقد مضى الكلامُ على هذا الاسم الكريم ضمن الأسماء الحسنى التي نذكرها في مجالس في هذا المسجد.

    فهنا كما قال الله -تبارك وتعالى- في آخر سورة الحشر: الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر:23]، وفي حديث عوف بن مالكٍ  أيضًا إثباتٌ لهذه الصِّفة، فالاسم "الجبار" ثابتٌ في كتاب الله ، وفي سنة رسوله ﷺ، وهو من الأسماء المجمَع عليها.

    ويدلّ على ذلك أيضًا من سنة رسول الله ﷺ حديثُ أبي سعيدٍ الخدري  في رؤية الله -تبارك وتعالى- في أرض المحشر، وفيه: فيأتيهم الجبَّار في صورةٍ غير صورته التي رأوه فيها أول مرةٍ، وهو مُخرَّجٌ في "صحيح البخاري"[5].

    وهذه الصِّفة (الجبروت) فسَّرها بعضُ أهل العلم بمعنى: التَّعظّم، أنَّ الجبَّار هو العظيم، وفسَّره بعضُهم بغير هذا، وقد ذكرنا أنَّ الجبَّار يدل على صفةٍ، يتضمّن صفةَ الجبروت، وأنَّ هذه الصِّفة تجمع معانٍ، وهذه المعاني صحيحة، وهي ثابتةٌ لله ، وقد جمع الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- ثلاثةً منها، أذكر ذلك تذكيرًا بها؛ لأنَّ هذا مضى في الكلام على اسمه الجبَّار، يقول:
    وَكَذَلِكَ الْجَبَّارُ من أَوْصَافِه والجبر فِي أَوْصَافه قِسْمَانِ[6]

    ثم ذكر الأوَّل:
    جبر الضَّعِيف وكلّ قلبٍ قد غَدَا ذَا كسرةٍ فالجبر مِنْهُ دَانِ[7]

    يعني: الذي يجبر الضَّعيف، ويجبر القلوب المنكسرة، ومن هنا يُقال: جبر الكسر، وتجبير الكسور، فالله يجبر الضَّعيف، ويجبر المصاب؛ ولذلك إذا أردنا أن نُعزي أحدًا، أو نحو ذلك، نقول: جبر اللهُ مُصابَكم، وجبر الله قلوبَكم، ونسأل الله أن يجبركم على هذه المصيبة، هذا معنى الجبر.

    والثاني يقول ابنُ القيم:
    وَالثَّانِي جبر الْقَهْر بالعزِّ الَّذِي لَا يَنْبَغِي لسواه من إنسانِ[8]

    وهذا هو المتبادر، وهو أشهر معانيه، الذي هو معنى القهر والعزّ والسُّلطان، يقول:
    وَله مُسَمًّى ثَالِثٌ وَهُوَ الْعُلُوّ فَلَيْسَ يدنو مِنْهُ من إنسانِ
    من قَولهم: جبارَة للنخلة الْـ عُليا الَّتِي فَاتَت لكل بنانِ[9]

    يقال: نخلة جبارة، يعني: طويلة، عالية، لا تنالها الأيدي.

    فالعلو صفةٌ ثابتةٌ لله -تبارك وتعالى-، فالجبَّار يشمل هذا جميعًا: فهو أولاً الذي يجبر ضعف الضُّعفاء، ويجبر القلوبَ المنكسرة، وكذلك أيضًا هو قهَّار، قد دان لعظمته كلُّ شيءٍ، وخضع كلُّ مخلوقٍ لجبروته وقُدرته وقهره وقوّته وعزّته وسُلطانه.

    والمعنى الثالث: أنَّه العلي الأعلى بذاته فوق جميع خلقه، له علو الذَّات والقدر والقهر والمنزلة، فجميع أنواع العلو ثابتةٌ لله -تبارك وتعالى-.

    وذكر بعضُ أهل العلم -كالشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله- معنًى رابعًا، وهو: "وهو المتكبِّر عن كلِّ سوءٍ ونقصٍ، وعن مُماثلة أحدٍ، وعن أن يكون له كفؤٌ أو ضدٌّ أو سميٌّ أو شريكٌ في خصائصه وحقوقه"[10]، أو نحو ذلك.

    والذي يظهر -والله أعلم- أنَّ هذا المعنى يرجع إلى معنى العلو، يعني: أنَّه المتعالي عن كلِّ عيبٍ ونقصٍ.

    والملكوت الملكوت هنا من الملك، والملك صفةٌ ثابتةٌ لله -تبارك وتعالى-، ومن أسمائه: الملك، والمليك كذلك: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ [آل عمران:26]، وفي سورة الفاتحة: (ملك يوم الدين) ومَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:55].

    وكذلك في قوله -تبارك وتعالى- في آخر سورة الحشر: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ [الحشر:23]، وهو ثابتٌ أيضًا في سنة رسول الله ﷺ، كما في الحديث المشهور؛ حديث أبي هُريرة : يقبض اللهُ الأرضَ، ويطوي السَّماوات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟، وهو مُخرَّجٌ في "الصَّحيحين"[11]، وهذا الحديث الذي بين أيدينا أيضًا: سبحان ذي الجبروت والملكوت فيه إثبات صفة الملك.

    وملك الله -تبارك وتعالى- وملكوته فُسِّر بسُلطانه وعظمته، والملك كما قلنا في مناسبات سابقة: بأنَّه التَّصرف المطلق من غير قيدٍ؛ ولهذا أيضًا فُسّر بالعزِّ والسُّلطان.

    وقال ابنُ عباسٍ: "الجبار هو العظيم، وجبروت الله عظمته"[12]، والجبار من أسماء الملوك، والجبر الملك، والجبابرة الملوك، فهذه الأسماء بينها نوع ارتباطٍ.

    وهذه التاء الدَّاخلة على هذه الصِّفات: (الجبروت)، (الملكوت) أهل اللغة يقولون: إنها زائدة، وتدلّ أيضًا على المبالغة، (فعلوت) هذا للمُبالغة، فيقولون: رهبوت من الرّهبة، ورغبوت من الرّغبة، ورحموت من الرّحمة، ونحو ذلك، وهي ألفاظ محدودة، معدودة، قليلة عند العرب، قد دخلت عليها التاء، وذلك البناء يدلّ على المبالغة.

    والكبرياء الكبر فُسِّر بالعظمة، وقد مضى الكلامُ على اسمه -تبارك وتعالى- المتكبر، وفي الحديث: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري[13]، وهذا الحديث يدلّ على أنَّ العظمةَ غير الكبرياء، وأنَّ الذين فسَّروا الكبرياء بالعظمة فسَّروه بمعنى يُقاربه، ولكنَّه لا يُطابقه، وإنما التَّكبر هو بمعنى التَّرفع والتَّعالي، وهذا يقتضي التَّعاظم والعظمة، فإنَّ ذلك من مُقتضياته ولوازمه -والله تعالى أعلم-.

    فالله -تبارك وتعالى- قد تكبَّر وتعالى عن كلِّ عيبٍ ونقصٍ، وعن مُشابهة أو مُماثلة أحدٍ من خلقه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].

    فهذا كِبرياؤه -تبارك وتعالى-، بمعنى: أنَّه مُترفِّعٌ، مُتعالٍ، وهذا يقتضي التَّعاظم، فإنَّ الذي يتكبر يكون مُتعاظمًا ولا بدَّ، ومن هنا فسَّره بعضُهم بالعظمة، أو بالتَّعاظم؛ ولذلك جاء في هذا الحديث الآخر: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري.

    ذي الجبروت والملكوت والكِبرياء والعظمة يعني: صاحب الجبروت، والملكوت، والكِبرياء، والعظمة، فهو حينما يركع ويحني ظهرَه يُعظِّم الله  بهذا الفعل وهذه الهيئة (الركوع)، وأيضًا بالقول الذي يليق بهذا المقام، فهو يقول مُعظِّمًا لربِّه وخالقه ، ويُنزِّهه عن كل عيبٍ ونقصٍ، وعمَّا يصفه به الواصفون مما لا يليق بجلاله وعظمته: سبحان ذي الجبروت الجبَّار، والملكوت صاحب الملك، فالأول الجبَّار قلنا: يدل على العلو والقهر، وجبر القلوب الضَّعيفة، وإن كان الأوفقُ للمعنى هنا في هذا المقام مع ذكر العظمة والملك والكِبرياء أن يكون بمعنى: القهر والعلو.

    ذي الجبروت والملكوت والكِبرياء والعظمة فمَن كان متَّصفًا بهذه الأوصاف، فإنَّه حقيقٌ بأن تخضع النفوس والأبدان لعظمته -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه-، فمَن كان صاحب جبروتٍ وملكوتٍ وكبرياء وعظمة فهذا الذي تخضع له الرِّقاب، وتنحني له الأعناق، وتخضع له النُّفوس .

    هذا ما يتعلَّق بهذا الحديث.

    وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإيَّاكم بما سمعنا، وأن يجعلنا هُداةً مُهتدين.

    اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دُنيانا.

    ربنا اغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين.

    اللهم أعنَّا على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك، والله أعلم.

    وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

    #################################################

    دعاء الرفع من الركوع

    " سمع الله لمن حمده " " ربنا ولك الحمد، حمداً كثيرا طيباً مباركاً فيه "




    الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

    أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    في هذه الليلة -أيّها الأحبّة- نشرع في الكلام على الأدعية والأذكار التي تُقال بعد الرفع من الركوع.

    فأوَّل ذلك ما جاء من حديث رفاعة بن رافع الزُّرقي  قال: كنا يومًا نُصلي وراء النبي ﷺ، فلمَّا رفع رأسَه من الركعة قال: سمع اللهُ لمن حمده، قال رجلٌ وراءه: "ربنا ولك الحمدُ حمدًا كثيرًا طيبًا مُباركًا فيه"، فلمَّا انصرف -يعني: النبيّ ﷺ- من صلاته قال: مَن المتكلم؟ قال: أنا. قال: رأيتُ بضعةً وثلاثين ملكًا يبتدرون أيّهم يكتبها أوَّل؟[1].

    فهذا الحديثُ مُخرَّجٌ في "صحيح البخاري" -رحمه الله-، وقد ذكر الحافظُ ابن حجر -رحمه الله- أنَّه جاء في رواية بشر بن عمران الزَّهراني، عن رفاعة بن يحيى: أنَّ تلك الصَّلاة كانت صلاةَ المغرب[2]، فهو أراد أن يُؤكد أنَّ ذلك كان في صلاة الفريضة، وهذا ظاهرٌ في أنهم كانوا يُصلون خلف النبي ﷺ، وهذا في الغالب أنَّهم كانوا يُصلون خلفه الفريضة.

    وقوله: "فلمَّا رفع رأسَه قال: سمع الله لمن حمده" أي: فلمَّا شرع في رفع رأسه؛ لأنَّ قولَ: سمع الله لمن حمده إنما يكون في حال الرَّفع، وهذا ينبغي أن يكون معلومًا لدى المصلِّي، سواء كان إمامًا أم مأمومًا، بمعنى: أنَّ هذه التَّكبيرات التي تُقال في الانتقال، وكذلك ما في حكمها، كقول: سمع الله لمن حمده؛ فإنها تُقال في حال الانتقال، فإذا ركع فإنَّه يقول حال النُّزول والحركة والانحناء: الله أكبر، ولا يقوله قبله، ولا يقوله بعده، يعني: إذا وصل إلى الركوع، فإنَّ هذا قد يكون فات محلُّ الموضع الذي تُقال فيه، بل بالغ بعضُ أهل العلم فقال: إنَّ الصَّلاةَ لا تصحُّ بهذا؛ لأنَّه قد فات موضعُه. بل بالغ بعضُهم فقال: إنَّه إن قال بعضَه في حال الوصول للركن الذي يليه؛ فإنَّ صلاته لا تصحّ.

    ونحن لا نقول هذا؛ لأنَّ هذا يصعب ضبطُه والتَّحرز فيه، لكن نقول: إنَّ موضعَ ذلك هو في حال الانتقال، فبعض الأئمّة يُؤخِّر ذلك من أجل ألا يسبقه المأمومُ، فلا يقول: "الله أكبر" إلا إذا وصل إلى الركوع، أو لا يقول: "الله أكبر" إلا إذا وصل إلى السُّجود؛ لئلا يُسْبَق، وهذا غير صحيحٍ، يمكن أن ينزل إلى السُّجود فيُؤخِّر قوله: "الله أكبر"، فعندما يكون قد وضع ركبتيه على الأرض مثلًا يقول ذلك وهو ينزل أو ينحني للسُّجود، فيكون قد استتمَّ ذلك قبل أن يصل إلى السُّجود، وبهذا لا يسبقه المأمومُ.

    المقصود أنَّ هذه التَّكبيرات، وقول: سمع الله لمن حمده هي في حال الانتقالات، فهذا موضعها، فإذا وصل إلى الركوع يقول: "سبحان ربي العظيم"، وليس "الله أكبر"، وإذا رفع من الركوع فانتصب قائمًا فهو يقول: "ربنا لك الحمد"، ولا يقول: "سمع الله لمن حمده".

    فهنا: "فلمَّا رفع رأسَه" أي: فلمَّا شرع في رفع رأسه، "من الركعة" يعني: من الركوع، النبي ﷺ قال: سمع الله لمن حمده، هنا فيه إثبات صفة السَّمع لله -تبارك وتعالى- على ما يليق بجلاله وعظمته، فهي صفةٌ ثابتةٌ في الكتاب والسُّنة: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].

    وقد جاء هذا في نصوصٍ كثيرةٍ في الكتاب والسُّنة، وهذا السَّمع الذي يُضاف إلى الله -تبارك وتعالى- على نوعين:

    الأول: وهو السَّمع العام، بمعنى: أنَّ الله  يسمع الأصوات، ولا يخفى عليه دبيبُ النَّمل، فهو سامعٌ لذلك جميعًا، يسمع السِّرَّ والنَّجوى، ويسمع الجهرَ، فهو سميعٌ لكل مسموعٍ.

    وقد قالت عائشةُ -رضي الله عنها- في خبر المجادلة التي أنزل اللهُ  فيها: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1]، وهي خولة بنت ثعلبة -على ما هو مشهورٌ في اسمها، وقيل غير ذلك- زوجة أوس بن الصَّامت -رضي الله تعالى عنهم أجمعين-، فعائشة -رضي الله عنها- لما أنزل اللهُ هذه الآيات في خبرها ومُجادلتها، تقول: "الحمد لله الذي وسع سمعُه الأصوات؛ لقد جاءت المجادلةُ تشتكي إلى رسول الله ﷺ، وأنا في جنب الحجرة يخفى عليَّ بعضُ كلامها"[3]، فأنزل الله قوله: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا.

    فالله  يسمع الأصواتَ جميعًا، لا يخفى عليه من ذلك شيءٌ مهما دقَّ.

    و"سميع" على وزن (فعيل)، هذه صيغة مُبالغة، يعني: عظيم السَّمع.

    والثاني: من السَّمع الذي يُضاف إلى الله، هو السَّمع الخاصّ، وهو سمع الإجابة والقبول، كما هنا: سمع الله لمن حمده بمعنى: أجاب، قول الخليل -عليه الصَّلاة والسَّلام-: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ [إبراهيم:39]، يسمع دُعاء الدَّاعين، ويُجيب دُعاءهم، هذا سماعُ إجابةٍ، وسماعٌ خاصٌّ.

    فهنا: سمع الله لمن حمده أي: أجاب حمده، وتقبَّله، فاللام في لمن تُؤذِن بمعنًى زائدٍ، وهو الاستجابة.

    وهنا يقول: "قال رجلٌ" هذا الرجل قال بعضُ أهل العلم: هو رفاعة بن رافع، راوي الخبر، وبهذا جزم الحافظُ ابن حجر -رحمه الله-[4]؛ وذلك لما جاء في بعض الرِّوايات، لكن هناك فيه أنَّه عطس، وهذا الحديث: ربنا ولك الحمدُ حمدًا كثيرًا طيبًا .. إلى آخره، جاء بعد الرَّفع من الركوع.

    وجاء أيضًا أنَّه قاله رجلٌ عطس وهو في الصَّلاة خلف النبي ﷺ، فقال ذلك.

    وجاء في ثالثٍ: أنَّه جاء رجلٌ وقد حفزه النَّفَسُ، يعني: جاء مُسرعًا، فدخل مع النبي ﷺ في الصَّلاة، فقال. يعني: كأنَّه استفتح الصَّلاةَ بهذا، لكن هذا الذي بين أيدينا هنا أنَّه قاله بعد الرفع من الركوع.

    وقوله هنا: ربنا ولك الحمد "لك الحمد" بمعنى إضافة المحامد، الأوصاف الكاملة، وأوصاف الجمال والجلال، وما إلى ذلك، كلّ ذلك يُضاف إليه -تبارك وتعالى-.

    وفي بعض الرِّوايات بالواو: ربنا ولك الحمد، وفي بعضها: ربنا لك الحمد.

    فـ"ربنا لك الحمدُ" واضحٌ، وأمَّا بالواو فقد أجاب عنه بعضُ أهل العلم بأجوبةٍ متنوعةٍ؛ فبعضهم يقول: أي: ربنا لك النِّعمة، ولك الحمد. فيكون قبلها ما هو مُقدَّرٌ، فتكون معطوفةً عليه. وقيل غير ذلك.

    و"حمدًا" هذا منصوبٌ بفعلٍ مُضْمَرٍ، دلَّ عليه قوله: "لك الحمد"، كأنَّه يقول: أحمدك حمدًا، أو أحمد حمدًا كثيرًا طيبًا، يعني: ليس فيه ما يُعاب، ولا نقصَ: لا في ألفاظه، ولا في معانيه، ولا في مقاصده، يعني: أنَّه خالصٌ لله -تبارك وتعالى-، فهذا هو الطّيب، وهو ما كان سالـمًا من العيوب والنَّقائص، وأول ذلك ما يتَّصل بالنية والقصد، فليس فيه رياءٌ ولا سمعةٌ.

    طيبًا مُباركًا فيه يعني: كثير الخير، وقد عرفنا في بعض المناسبات أنَّ البركةَ هي الزيادة والكثرة في الخير والنَّماء، وما إلى ذلك من المعاني التي يذكرها أهلُ العلم في تفسيرها.

    فهذا المبارك فيه يعني: كثير الخير، وفي روايةٍ أيضًا عند أبي داود[5]، والنَّسائي[6]، والترمذي[7]: مُباركًا عليه، فهذا يحتمل أن يكون ذلك من قبيل التَّأكيد: مُباركًا فيه، ومُباركًا عليه. ويحتمل أنَّ الأول بمعنى: الزيادة، والثاني بمعنى: البقاء، ويحتمل غير هذا، فهو مُباركٌ فيه، ومُباركٌ عليه.

    وفي روايةٍ أيضًا عند بعض أصحاب السُّنن: كما يُحبّ ربنا ويرضى[8]، فالإنسان يقول ذلك تأدُّبًا مع الله ، فهذا مقام حمدٍ وثناءٍ، والإنسان لا يبلغ من حمد الله -تبارك وتعالى- ما يكون لائقًا بجلاله وعظمته ، فما حمدناه حقَّ حمده، ولا عبدناه حقَّ عبادته، فيُفوِّض ذلك إلى الله ، فيقول: كما يُحبُّ ربنا ويرضى.

    فلمَّا انصرف النبيُّ ﷺ من الصَّلاة قال: مَن المتكلِّم؟ فهنا لم يتكلم أحدٌ، كأنَّ قائلَ ذلك تخوَّف أن يلحقه بسبب ذلك ملامةٌ، أو أن يلحقه بسببه أمرٌ يكرهه، فسكتوا، ثم قالها الثانية: مَن المتكلم في الصَّلاة؟ فلم يتكلم أحدٌ، ثم قالها الثالثة: مَن المتكلم في الصَّلاة؟ فقال رافع: أنا يا رسول الله. فالنبي ﷺ أخبر أنَّه رأى بضعةً وثلاثين ملكًا يبتدرونها: أيّهم يكتبها أوَّل؟.

    والبضع من الثلاث إلى التِّسع، فهو رأى بضعةً وثلاثين ملكًا يبتدرونها، يعني: يُسارعون في كتابتها: أيّهم يكتبها أوَّل؟.

    وجاء أيضًا في روايةٍ عند الترمذي: أيُّهم يصعد بها؟[9]، ولا منافاةَ بين الرِّوايتين، يبتدرونها ليكتبوها، ثم يصعدون بها إلى الله -تبارك وتعالى-.

    هذا الذكر -أيّها الأحبّة- يرد عليه سؤالٌ قد أوردناه في الكلام على المقدّمات، وهو: هل لأحدٍ أن يُنْشِئ من عند نفسه ذكرًا في صلاته أو في عبادته؟

    فتكلّمنا على ذلك في الصَّلاة، وفي خارج الصَّلاة، وذكرنا أقوال أهل العلم، فغاية ما هنالك: أنَّ هذا قاله وقت نزول الوحي، والنبي ﷺ بين أظهرهم، فأقرَّه الوحي على ذلك، هذا يُقال فيه وفي نظائره؛ لأنَّ هذا السؤال يرد في باب البدع: هل للإنسان أن يُنْشِئ بدعًا بحجة أنَّ هؤلاء أنشأوا أذكارًا في الصَّلاة من عند أنفسهم، فأقرَّهم النبي ﷺ، بل امتدح ذلك، وأثنى عليهم، وأخبر عن مكانه وموقعه ومنزلته؟

    الجواب: ليس للإنسان أن يُنْشِئ شيئًا من ذلك، لكن هذا حصل في وقت التَّنزيل، أجرى اللهُ على لسانه، فأقرَّه النبي ﷺ، فنحن نأخذ بهذا الإقرار، فصار ذلك من قبيل السُّنة، وما عداه فإنَّه لا يُعتبر؛ لأنَّه ليس عندنا فيه من الله برهانٌ: هل يقرّ أو لا يقرّ؟ لكن عندنا حكمٌ عامٌّ: كل محدثةٍ بدعة، وأن كلَّ بدعةٍ ضلالة[10]، وقال ﷺ: فعليكم بسُنتي وسنة الخلفاء الرَّاشدين المهديين[11]، فنحن مأمورون بهذا.

    ومن ثم فليس للإنسان أن يُنْشِئ من عند نفسه أشياء في العبادات، ثم بعد ذلك يرجو أن تكون مقبولةً على هذا المهيع، هذا غير صحيحٍ، وما يُدريه؟! وعنده هذه النُّصوص العامَّة المحكمة: مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ[12].

    فنبقى مع ما ورد، ونتقيد بذلك، ولا يجتهد الإنسانُ في أمورٍ لم يشرعها الله، ولم يشرعها رسولُه ﷺ، ففيما جاء عن الشَّارع غنية عن هذه الاجتهادات والمخترعات التي يخترعها بعضُ الناس، فملؤوا الدنيا بِدَعًا ومحدثات في أبواب الأذكار وغيرها مما أنشؤوها وابتدعوها واختلقوها.

    ولو نظرتم في أنواع البدع التي يذكرها بعضُ أهل العلم، فإنَّكم تجدون في كلِّ يومٍ مُبتدعات، طول السَّنة، فنحن في غنًى عن هذا، فقد أغنانا الله عن ذلك كلِّه.

    فالإنسان يلزم السُّنة، ويجتهد في تطبيقها، ولن يُدرك، يعني: لو أنَّه جدَّ واجتهد في العمل بما ثبت عن النبي ﷺ، فإنَّه لن يستطيع أن يأتي بكلِّ السُّنن والأعمال المشروعة الثابتة عن رسول الله ﷺ؛ لأنَّ ذلك أكثر من أن يُحصيه، والزمان أقلّ من هذا.

    فالأعمال الثابتة المشروعة كثيرةٌ، وانظروا كم نحفظ؟ وكم نقف عليه من الأذكار والأعمال الصَّالحة المشروعة؟ وما القدر الذي نعمل به؟

    فالتَّقصير كبيرٌ فيما نعلم ثبوته، فكيف يتطلب الإنسانُ أشياء لا يعلمها، ولا يتحقق من ثبوتها؟!

    أسأل الله  أن ينفعني وإيَّاكم بما سمعنا، وأن يجعلنا هُداةً مُهتدين، والله أعلم.

    وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه

    #############################################
    دعاء الرفع من الركوع

    " ربنا ولك الحمد، حمداً كثيرا طيباً مباركاً فيه " " ملئ السموات وملئ الأرض وما بينهما ... "



    الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

    أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    في هذه الليلة -أيّها الأحبّة- نتكلم على الذكر والدُّعاء الأخير مما يُقال بعد الرفع من الركوع؛ وذلك ما جاء في حديث أبي سعيدٍ الخدري  قال: "كان رسولُ الله ﷺ إذا رفع رأسَه من الركوع قال: ربنا لك الحمدُ ملء السَّماوات والأرض، وملء ما شئتَ من شيءٍ بعد، أهل الثَّناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبدٌ، اللهم لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا مُعطي لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدّ"[1]. هذا الحديث أخرجه الإمامُ مسلمٌ في "صحيحه".

    وهنا لم يُحدَّد أنَّ النبي ﷺ قال ذلك في فريضةٍ أو نافلةٍ، فيكون ذلك مما يُقال في الصَّلاة مُطلقًا، في فرضها ونفلها.

    فقوله: ربنا لك الحمد يعني: يا ربنا لك الحمد، هذا الحمدُ ما قدره؟ قال: ملء السَّماوات والأرض، وملء ما شئتَ من شيءٍ بعد يعني: حمدًا يملأ السَّماوات والأرض، أو بقدر ما يملأ السَّماوات والأرض.

    وملء ما شئتَ من شيءٍ بعد يعني: وأكثر من ذلك مما يشاؤه ربنا -تبارك وتعالى-، فهذا حمدٌ كثيرٌ لا يُقادر قدره.

    أهل الثَّناء والمجد يعني: أنت أهل الثَّناء، أو هو أهل الثَّناء والمجد، ويحتمل: أهلَ الثَّناء والمجد، يعني: يا أهل الثناء والمجد.

    وعرفنا أنَّ الثناء هو إعادة الحمد ثانيًا، فالله -تبارك وتعالى- له الحمد، فإذا أعاد ذلك ثانيًا كان ذلك هو الثَّناء، كما في الحديث المشهور: قسمتُ الصَّلاةَ بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] قال اللهُ تعالى: حمدني عبدي، فإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي، ثنَّى الحمد، أي: أعاده ثانيًا، فإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] قال الله تعالى: مجَّدني عبدي[2].

    فبعضهم فسَّر التَّمجيد بمعنى: كثرة الحمد؛ لما ذكر الثَّالثة سمَّاه: تمجيدًا، وبعضهم يقول: إنَّ ذلك قيل له: تمجيد؛ لأنَّه أناطه بالملك: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، فالملك من أوصاف المجد، وقد مضى الكلامُ على المجد في اسم الله: المجيد، في الكلام على الأسماء الحُسنى، وقلنا بأنَّ هذا اللَّفظ يدل على السَّعة والكثرة في أوصاف الكمال: كالكرم والجود والعظمة، وما إلى ذلك من المعاني، فهو من الأسماء التي تتضمن أوصافًا جامعةً، بمعنى: أنَّه يدخل تحتها أوصافٌ كثيرةٌ، يعني: لا يكون المجدُ إلا بكثرة أوصاف الكمال، فهذا يشمل ما ذُكر من تفسيره بالعظمة، أو الكرم، أو غير ذلك مما قيل فيه، وكأنَّه يقول: أنت أهل الثَّناء والمجد.

    فحينما يُوصَف ربنا -تبارك وتعالى- ويُحْمَد ويُثنى عليه بذلك، فهذا حقٌّ؛ لأنَّه مُستحقٌّ لذلك؛ ولهذا قال: أحقُّ ما قال العبدُ، فهذا تقريرٌ لحمده، وتمجيده، والثَّناء عليه، يعني: أنَّ ذلك أحقّ ما نطق به العبدُ، وهذا له دلالات كما سيأتي -إن شاء الله تعالى-.

    ثم أتبع ذلك بالاعتراف بالعبودية، كما يقول الحافظُ ابن القيم -رحمه الله-[3]، فقال: وكلنا لك عبدٌ، فهذا حكمٌ عامٌّ للجميع، كلنا بهذه الصِّفة والمثابة، كلنا عبيدك؛ ولهذا فإنَّ بعض أهل العلم قالوا: حينما يقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5]، هكذا بصيغة الجمع، كأنَّه يُعظِّم نفسَه، وهذا موضع تواضعٍ لله ، فكيف جاء بصيغة الجمع؟ لماذا لم يقل: إياك أعبد؟

    فمن الأجوبة التي ذكرها أهلُ العلم: إنَّ ذلك يُنبئ عن حاله، وعن حال الخلق: أنَّهم عبيدٌ لله .

    قالوا: وهذا أبلغ من أن يقول: أنا عبدك، وأنا مُطيعك، وأنا المقبِل عليك. يقول: كلنا عبيدك، وكلنا تحت قبضتك وتصرُّفك. فهذا أبلغ في التَّعظيم.

    هذا أحد الأجوبة المتنوعة المتعددة التي ذكرها أهلُ العلم في هذا المقام.

    فـأحقُّ ما قال العبدُ يحتمل أن تكون (ما) موصولة أو موصوفة، و(أل) في العبد للجنس؛ جنس العباد، أو أن يكون معنى: أحقُّ ما قال العبد هو الحمد والثَّناء على الله -تبارك وتعالى-.

    ويحتمل أن يكون المعنى مُتعلِّقًا بما بعده، يعني: أحقُّ ما قال العبدُ ... اللهم لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا مُعطي لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدّ، وتبقى هذه الجملة: وكلنا لك عبدٌ جملة اعتراضيَّة، يعني: ما أحقّ ما قال العبدُ؟ اللهم لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا مُعطي لما منعتَ، فـ"أحقُّ ما قال العبدُ" تكون مُبتدءًا، وما بعدها هو الخبر: اللهم لا مانع لما أعطيتَ، ولا مُعطي لما منعتَ ... إلى آخره.

    وعلى الأول يكون: ربنا لك الحمد، ملء السَّماوات والأرض، وملء ما شئتَ من شيءٍ بعد، أهلُ الثَّناء، أو أهلَ الثناء على الاحتمالين، والمجدَ، أحقُّ ما قال العبدُ هذا الكلام الذي هو الحمدُ والثَّناء والتَّمجيد لله -تبارك وتعالى- مُتعلِّقٌ بما قبله: أنَّ الحمدَ والثَّناء والتَّمجيد أحقُّ ما قال العبدُ، وهذا هو المتبادر، وإلا فهناك أقوال أخرى، وقد تكون بعيدةً ومُتكلَّفةً.

    أحقُّ ما قال العبدُ، وبعضهم يقول: أحقَّ ما قال العبدُ بالنَّصب على المدح، أو على المصدر، كأنَّه يقول: قلتُ: أحقَّ ما قال العبدُ، يعني: أصدقه وأثبته، لكن المشهور الأول.

    وكلنا لك عبدٌ يعني: كلنا ذلك العبد، كلنا عبيدك، وتحت قبضتك وتصرُّفك، ونحن مماليكك.

    وشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: إنَّ التَّقدير في قوله: أحقُّ ما قال العبدُ: "الحمد أحقُّ ما قال العبدُ، أو هذا -وهو الحمد- أحقُّ ما قال العبدُ"[4]، فجعله مُتعلِّقًا بالحمد، يعني: أنَّ الحمدَ لله -تبارك وتعالى- أحقُّ ما قاله العبادُ، يقول: "ولهذا أوجب قوله -أي الحمد- في كل صلاةٍ، وأن تُفتتح به الفاتحةُ، وأوجب قولَه في كل خطبةٍ، وفي كل أمرٍ ذي بالٍ"[5]؛ لعظم شأنه ومنزلته، فهو أحقُّ ما قال العبدُ.

    وقد عرفنا أنَّ الحمدَ يُقابل الذَّنب، وأنَّه يكون على محاسن المحمود بذكر أوصاف الكمال؛ لإضافتها له ، مع مُواطأة القلب، مع المحبَّة والتَّعظيم، وإلا كان تزلُّفًا وملقًا، ونحو ذلك، يعني: إذا كان باللِّسان من غير مُواطأة القلب قد يكون مادحًا بغير ما يعتقد، لكن الحمد حقيقةً لا بدَّ فيه من مُواطأة القلب مع المحبَّة.

    ويقول: اللهم لا مانعَ لما أعطيتَ لا أحد يمنع ما أعطيتَ، فإذا أعطى اللهُ العبدَ عطاءً فلو اجتمع مَن بأقطارها لا يستطيعون أن يمنعوه هذا العطاء، أيًّا كان هذا العطاء، قد يكون هذا العطاء ولدًا، وقد يكون هذا العطاء مالاً، وقد يكون هذا العطاء علمًا، وقد يكون هذا العطاء تقوى وصلاحًا، وقد يكون هذا العطاء بخلقٍ جميلٍ، أو غير ذلك مما يُعطاه الناس، فهذا إنما المعطي هو الله -تبارك وتعالى-، وهو المانع: لا مانعَ لما أعطيتَ، فإذا أعطى اللهُ عبدًا شيئًا لا يستطيع أحدٌ أن يمنعه.

    وهذا العطاء سواء كان ابتداءً، أي: ابتدأ اللهُ به العبدَ، أو كان جزاءً على عملٍ عمله في الدنيا، أو في الآخرة، فإنَّ الله يجزي المحسنَ إحسانًا، وهذا من معاني اسمه: الشَّكور، ويزيده، ويُضاعف له، فإذا أعطى اللهُ  العبد في الدنيا، أو في الآخرة، فإنَّه لا يستطيع أحدٌ أن يحول بينه وبين هذا العطاء بحالٍ من الأحوال.

    وإذا منع اللهُ العبدَ شيئًا لا يستطيع أحدٌ أن يُعطيه إياه في الدنيا، أو في الآخرة، لا يمكن ولو كان أقوى الناس، ولو اجتمع الخلقُ جميعًا، ولو كان أقرب الناسِ إليه: كالوالدة والوالد، ومهما كان حال هذا الذي يريد إيصالَ ذلك إليه، فإنَّه لا أحدَ يستطيع أن يُوصِل إليه شيئًا منعه اللهُ  إياه.

    هذا كتب اللهُ له ألا يُرزق بالولد، فلو اجتمع أطباءُ الدنيا بأموال أهل الدنيا من أوَّلها إلى آخرها، قالوا: بين أيديكم ولدٌ واحدٌ فقط، لا يستطيعون، إذا أعطاه اللهُ عافيةً لا أحد يستطيع أن ينتزعها منه، أو يمنع ذلك عنه، وإذا رفع اللهُ منه عافيةً، فإنَّه لا يستطيع أن يكشفها أحدٌ إلا هو، فالأطباء يموتون، طبيب يُجري عمليةً ويُصاب بجلطةٍ، هذا يحصل، فأين الأطباء في القرون التي مضت؟ مات الأطباءُ، ومات المرضى، ومات الأصحّاء: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [الأنعام:17].

    ومن هنا إذا عرف العبدُ أنَّه لا مُعطي لما منع اللهُ ، كما أنَّه لا مانعَ لما أعطى، كما قال الله -تبارك وتعالى-: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:2]، إذا عرف العبدُ هذا المعنى -أيّها الأحبّة- وأيقن، فإنَّ قلبَه يتعلَّق بالله ، ولا يتعلق بالطَّبيب، ولا بالدَّواء، ولا بالرَّاقي، ولا بأهل الجدة والغنى والثَّراء، ولا يتعلق بالأقوياء، وإنما يتعلق بالواحد القهَّار ، الذي بيده النَّفع والضّر، ومن هنا يسلم له قلبُه، ويكون مُحقِّقًا للتَّوحيد على الوجه الصَّحيح، ولا يكون في قلبه أدنى التفات إلى المخلوق.

    لكن حينما يقول الإنسانُ: اللهم لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا مُعطي لما منعتَ، ويتوقع أنَّ رئيسه في العمل يملك رزقَه ومُستقبله، وقلبه مُعلِّقه به، هذا كيف يُفلح؟!

    إذا كان يقول: اللهم لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا مُعطي لما منعتَ وقلبه مُعلَّقٌ بالطَّبيب الذي يُعالجه، أو المستشفى الذي يتردد عليه، ويُعالج فيه، ويظنّ أنَّه لو قُطع عنه ذلك يهلك ويموت؛ فهذا لم يُحقق هذا المعنى.

    فالعبد حينما يقول ذلك ينبغي أن يلتفت إلى قلبِه، وأن ينظر: هل هو كذلك أو لا؟

    لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا مُعطي لما منعتَ البنات قد تبور، فلا تتزوج، وقد تكون فيها من الأوصاف الكاملة الشَّيء الكثير، ولكن الله  لم يُقدِّر لها هذا، فأين المخرج؟ وأين الطَّريق؟ التَّعلق بالله ، فهو الذي يملك النَّفع والضّر.

    وبعض أهل الجهالة قريبًا ممن كانوا يعبدون الأشجار، وما إلى ذلك، شجرة كبيرة تذهب لها المرأةُ التي تطلب الزوج، وتطوف بها، وتتمسَّح وتقول: يا فحل الفحول، أريد زوجًا قبل الحول! ومَن لا تُرزق بالولد كذلك، فهذا شركٌ أكبر بالله ، مُخْرِجٌ من الملَّة؛ فإنَّ الذي يُعطي ويمنع هو الله، فلا يسأل ذلك من شجرةٍ، أو نحو ذلك.

    هذا هو التوحيد الذي نُردده في هذه الصَّلاة، وفي أوضاع وأشياء نقولها في قيامنا وركوعنا وسجودنا، ولكن القلوب تغفل كثيرًا عن هذه المعاني.

    لعلي أتوقّف هنا، انتهى الوقتُ.

    وأسأل الله  أن ينفعني وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا هُداةً مُهتدين.

    اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دُنيانا، والله أعلم.

    وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
    -------------------------------------------------------------------
    ما زلنا أحبابي تابعونا جزاكم الله خيرا

    ولا تنسونا من صالح دعائكم

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5188
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    (3)أدعيه الركوع " سبحان ربي العظيم " " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي "  Empty أدعيه الركوع

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس مايو 05, 2022 2:28 pm

    دعاء الرفع من الركوع


    ... ولا ينفع ذا الجد منك الجد



    الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

    أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    نُواصل في هذه الليلة -أيّها الأحبّة- الكلام على الذكر الذي يُقال بعد الرفع من الركوع، وهو حديث أبي سعيدٍ  قال: "كان رسولُ الله ﷺ إذا رفع رأسَه من الركوع قال: ربنا لك الحمد ملء السَّماوات والأرض، وملء ما شئتَ من شيءٍ بعد، أهل الثَّناء والمجد، أحقُّ ما قال العبدُ، وكلنا لك عبدٌ، اللهم لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا مُعطي لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدّ"[1].

    وقد بلغ الحديثُ والتَّعليق إلى قوله: ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدّ، و"الجدّ" مضى الكلامُ عليه في بعض المناسبات، وما فُسِّر به، وأنَّ ذلك يُقال للحظِّ والنَّصيب، هذا هو المشهور، مع أنَّ بعضَهم فسَّره بعباراتٍ أخرى: كالعظمة والسُّلطان، كما في قوله -تبارك وتعالى-: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا [الجن:3]، وذلك أنَّ كلمة (الجدّ) تأتي لمعانٍ في كلام العرب، منها: أنَّ ذلك يُقال لأب الأب، ولأب الأم، وإن علا؛ ولهذا بعضُ أهل العلم فسَّر "الجدّ" هنا بهذا المعنى، فقالوا: لا ينفعه آباؤه عند الله -تبارك وتعالى-، أو لا يُخلصونه من عذاب الله. لكن هذا المعنى فيه بُعْدٌ، فبعض أهل العلم فسَّره بالسلطان والعظمة.

    والمقصود من لا ينفع ذا الجدِّ أي: لا ينفع ذا الحظِّ، وهذا الحظُّ قد يكون بالمال، وقد يكون بالسُّلطان، وبالعظمة في الدنيا، وما يُؤتاه الإنسانُ مما يظنّ أنَّه يكون به راجحًا، أو أنَّ ذلك يُخلصه من عذاب الله -تبارك وتعالى-.

    والواقع أنَّه لا يُنجي بعد رحمة الله  إلا الإيمان والعمل الصَّالح، فهذه الأمور التي يحصلها الناسُ من الحظوظ الدّنيوية -أيًّا كان نوعها- ليس عليها المعول في الآخرة، ولا يحصل بها التَّفاضل عند الله -تبارك وتعالى-، ولا النَّجاة من عذابه، وإنما هي التَّقوى والإيمان والعمل الصَّالح.

    والعلماء -رحمهم الله- في تفسير قوله: ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدّ جاءت تفاسيرهم له على ثلاث مراتب: فكثيرٌ من الشُّراح يُفسرون ذلك بمثل قولهم: ولا ينفع ذا الجدّ يعني: صاحب الحظِّ من السُّلطان، أو المال، ونحوه، لا ينفعه ذلك عند الله، فيكون مُقرِّبًا له، أو رفعة في منزلته ودرجته عند ربِّه -تبارك وتعالى-، فهذا لا يحصل به ارتفاعٌ ولا انتفاعٌ في الآخرة. هكذا يقولون.

    والحافظ ابن القيم -رحمه الله- كان تفسيره أوسع من هذا، فأشار إلى هذا المعنى، حيث قال: "أنَّه لا ينفع عنده، ولا يُخلص من عذابه، ولا يُدني من كرامته جدود بني آدم وحظوظهم من الملك والرِّئاسة والغِنَى وطيب العيش وغير ذلك، إنما ينفعهم عنده التَّقرب إليه بطاعته وإيثار مرضاته"[2].

    وشيخ الإسلام -رحمه الله- فسَّره بأدقّ من هذا كلِّه، فإنَّه نظر إلى معنى من، فيقول شيخُ الإسلام: "ولهذا قال: (لا ينفعه منك)، ولم يقل: "لا ينفعه عندك"، فإنَّه لو قيل ذلك أوهم أنَّه لا يتقرّب به إليك، لكن قد لا يضرّه، فيقول صاحبُ الجدِّ: إذا سلمت من العذاب في الآخرة فما أُبالي، كالذين أوتوا النبوةَ والملكَ؛ لهم ملكٌ في الدنيا، وهم من السُّعداء، فقد يظنّ ذو الجدِّ الذي لم يعمل بطاعة الله من بعده أنَّه كان كذلك، فقال: ولا ينفع ذا الجدِّ منك ضمَّن (ينفع) معنى (يُنجي ويُخلِّص)، فبيّن أنَّ جدَّه لا يُنجيه من العذاب، بل يستحقّ بذنوبه ما يستحقّه أمثاله، ولا ينفعه جدُّه منك، فلا يُنجيه، ولا يُخلِّصه"[3].

    فإذًا شيخ الإسلام يقول: لو قال: "ولا ينفع ذا الجدِّ عندك الجدّ"، بمعنى: أنَّه لا يرتفع بمُؤهلاته الدّنيوية من مالٍ ومنصبٍ وكثرة ولدٍ، أو نجاحاتٍ في أعمالٍ ومِهَنٍ، وما إلى ذلك، هذا لا يرفعه، لكنَّه قال: ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدّ.

    فشيخ الإسلام يقول: إنَّ قوله: منك يدل على الخلاص والنَّجاة، يعني: أنَّه لا يُخلِّصه حظُّه من عذابك، وإنما الذي يُخلِّصه بعد رحمتك هو الإيمان والعمل الصَّالح، فالكلام هنا في الخلاص والنَّجاة: ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدّ يعني: لا يتخلَّص بمُكتسباته المادية الدّنيوية، وبأمواله وولده، وما إلى ذلك.

    فهذا التَّفسير الذي ذكره شيخُ الإسلام -رحمه الله- أدقّ مما قاله الأوَّلون، ومما قاله ابنُ القيم، فكلام ابن القيم تُلاحظون أنَّه ذكر فيه النَّاحيتين: لا يقرّب، ولن يُخلِّص، وشيخ الإسلام أخصّ من هذا كلّه، فهو يُبيّن أنَّه لو قيل: "لا ينفعه عندك" لكان ذلك له وجهٌ، يعني: مما قالوه، وأنَّه لو كان لا ينفعه، فإنَّ ذلك لا يعني: أنَّه يتضرر بذلك، يعني: يكون لا له، ولا عليه، لكن حينما يقول: ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدّ يعني: لا يُطلقه، ولا يعتقه، ولا يُخلِّصه من عذابك ما عنده من مُقتنيات ومُكتسبات، وما إلى ذلك من الأمور الدّنيوية المادية، فيكون حسبُه أنَّه لا يتقرّب بهذا الجدِّ إليك؛ ولهذا عُدِّيَ بـ(من)، فيكون جدّه لا يُنجيه من العذاب، بل يستحقّ بذنوبه ما يستحقّه أمثاله.

    ثم إنَّه يُشير -رحمه الله- إلى ما تضمّنه هذا الحديث من تحقيق توحيد الربوبية: خلقًا، وقدرًا، وبدايةً، وهدايةً، وأنَّه هو المعطي المانع، لا مانعَ لما أعطى، ولا مُعطي لما منع.

    وكذلك أيضًا توحيد الإلهية: شرعًا، وأمرًا، ونهيًا، وهو أنَّ العبادَ وإن كانوا يُعطون ملكًا وعظمةً وبختًا ورياسةً في الظَّاهر، أو في الباطن، فإنَّ ذلك لا ينفع، ولا يُخلِّص من عذاب الله -تبارك وتعالى- وحسابه وسؤاله.

    ويذكر كلامًا وتفاصيل في تحقيقه للتَّوحيد، وتحقيق معنى قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، وقوله: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود:123]، وقوله: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88]، وقوله: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ۝ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً [المزمل:8- 9]، فيذكر هذا المعنى في بعض كُتبه، ويذكر أيضًا ما يشرحه ويُوضحه في مواضع أخرى، فهو يُبيّن أنَّ هذا الحديثَ يتضمن أصلين عظيمين:

    الأول: توحيد الربوبية، لا مُعطي لما منع الله، ولا مانعَ لما أعطى، ولا يتوكّل إلا عليه، ولا يسأل إلا هو.

    والثاني: توحيد الإلهية، وهو بيان ما ينفع، وما لا ينفع، وأنَّه ليس كل مَن أُعطي مالاً أو دنيا أو رياسةً كان ذلك نافعًا له عند الله، مُنجيًا له من عذابه، فإنَّ الله يُعطي الدنيا مَن يُحبُّ، ومَن لا يُحبُّ، ولا يُعطي الإيمانَ إلا مَن يُحبُّ.

    وتوحيد الألوهية: أن يُعبد الله، ولا يُشرك به، فيُطاع، وتُطاع رسلُه -عليهم الصَّلاة والسلام-، وتُفعل محابُّه ومراضيه.

    وأمَّا توحيد الربوبية: فيدخل في ذلك أيضًا ما قدَّره وقضاه، وإن لم يكن مما أمر به وأوجبه، والعبد مأمورٌ بأن يعبد الله، وأن يفعل ما أمر به، وهو توحيد الإلهية، وأن يستغفر ربَّه -تبارك وتعالى-، وكلّ ذلك تحقيقٌ لقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].

    ثم أيضًا تأمّلوا هذا الحمد الواسع الذي أشرتُ إليه في أول الكلام على هذا الحديث، فقلتُ: يأتي ما يُوضِّحه -إن شاء الله- حينما يقول: ملء السَّماوات والأرض، بهذا الإطلاق، وبهذه السّعة: ملء السَّماوات والأرض، وملء ما شئتَ من شيءٍ بعد يعني: أنَّك تحمد هذا الحمد الذي يكون بهذه المنزلة، وبهذا المقدار، ومعنى ذلك: أنَّ الله -تبارك وتعالى- محمودٌ على كلِّ مخلوقٍ يخلقه، وعلى كل فعلٍ يفعله، والسَّماوات والأرض وما فيهما وما بينهما كلّ ذلك من خلق الله -تبارك وتعالى-، فيكون الحمدُ حينئذٍ مالئًا للسَّماوات والأرض، ومعلومٌ أنَّ المخلوقات تملأ ذلك.

    فيستحضر المصلِّي أنَّ الله محمودٌ على كل فعلٍ فعله، وعلى كل خلقٍ خلقه، وقد عرفنا أنَّ الشَّر لا يُنسَب إليه، وأنَّ أفعالَ الله -تبارك وتعالى- كلّها خيرٌ، لا شرَّ فيها، فيحمد على أفعاله.

    وهذا أيضًا فيه دليلٌ ظاهرٌ -كما يقول النَّووي رحمه الله- على فضيلة هذا اللَّفظ، حيث قال: "وفي هذا الكلام دليلٌ ظاهرٌ على فضيلة هذا اللَّفظ، فقد أخبر النبيُّ ﷺ الذي لا ينطق عن الهوى: أنَّ هذا أحقُّ ما قاله العبدُ، فينبغي أن يُحافظ عليه؛ لأنَّا كلّنا عبدٌ، ولا نُهمله، وإنما كان أحقّ ما قاله العبدُ لما فيه من التَّفويض إلى الله تعالى، والإذعان له، والاعتراف بوحدانيَّته، والتَّصريح بأنَّه لا حولَ ولا قوةَ إلا به، وأنَّ الخيرَ والشَّر منه، والحثّ على الزّهادة في الدنيا، والإقبال على الأعمال الصَّالحة"[4].

    فهو أحقُّ ما قال العبدُ؛ لما فيه من التَّفويض إلى الله -تبارك وتعالى-، والإذعان والإقرار بتوحيده بإلاهيَّته وربوبيَّته، وأنَّه هو المعبود وحده، وهو المستعان به وحده، فعليه التُّكلان، وأنَّه لا حولَ ولا قوَّةَ إلا به، وأنَّ الخيرَ والعطاءَ والمنعَ والنَّفعَ والضُّرَّ كلّ ذلك بيده .

    هذا ما تضمّنه هذا الحديث، والله تعالى أعلم.

    وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
    ###########################################
    التالي الجزء الرابع أدعيه السجود
    تابعونا جزاكم الله خيرا
    ولا تنسونا من صالح دعائكم

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع


      الوقت/التاريخ الآن هو السبت أبريل 27, 2024 6:18 pm