شبهات حول السلف والسلفية
شبهة: تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام، وأن السلفيين مشغولون
بقضايا فقهية فرعية عن القضايا الكلية والمصيرية للأمة
علمنا أن المنهج السلفي يثار الغبار عليه بين الحين والحين من ناحية خصومه ومخالفيه، ولعلنا وقفنا على بعض منها في المقالات السابقة، وما ذلك منهم إلا أنه تنفير للناس من متابعته، وإلا جهل بحقيقته ومنهجه، وإلا حب للمخالفة التي تشبه التميز عما سواه، وإلا متابعة للأهواء والنفوس فيما تميل إليه عن متابعة الحق مع وضوحه وكماله، وإلا حبائل الشيطان من التفرق والتحزب المقيت الذي يجعل صاحبه على شفا جرف هار، مما يأتي عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة".
ومن هذه الأمور قولهم:
أن تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام، من توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات تقسيم مبتدع، وهذا أيضاً كلام فاسد، لأن هذا التقسيم تقسيم اصطلاحي علمي، كما نقسم العلوم والمعارف إلى أقسام وتفريعات مختلفة لتسهيل العلم بها، فهذا من قبيل تقسيم علم النحو والحساب والفقه وأصوله وسائر العلوم، فما الضير إذاً من تقسيم علم التوحيد والعقيدة. وقد جاء القرآن بها كلها.
ومن الشبهات؛ قولهم: أن السلفيين مشغولون بقضايا فرعية كالوضوء والحيض والنفاس والصلوات، عن القضايا الكلية والمصيرية للأمة، وهذا أيضاً من قبيل الوهم النفسي والواقعي لواقع العمل الإسلامي. لماذا؟ لأن طلب العلم وتعلم الأمور والأحكام الشرعية الواجبة خاصة وجوباً عينياً يستلزم تعلمها في الحال، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالمؤذن يؤذن للصلاة، فالواجب هنا تعلم مسائل وأحكام الآذان، وتعلم فقه الوضوء، وتعلم فقه المساجد، وتعلم فقه وأحكام الصلاة، وما يصح فيها وما لا يصح، كل هذا في واجب عيني واحد، فكيف بالمسائل الأخرى كالصيام والحج والعمرة والبيع والشراء والإجارة مما يحتاجه المسلم يومياً أو مثل ذلك.
فهل يصح إذاً ترك كل هذه الأحكام الشرعية الواجبة عيناً، بحجة أن هذا ليس وقته، وأن الأمة في مواجهة مع الأعداء. فما علاقة المواجهة إذاً بتعلم أحكام الإسلام وفرائضه، مع أن القرآن والسنة رفعا مكانة العلم وأهله وحملته، بل وجعل العلم قرين الجهاد وأرفع درجة.
وما ذلك كله إلا لأن العلم من المصالح الضرورية التي تقوم عليه حياة الأمة، بمجموعها وآحادها، فلا يستقيم نظام الحياة مع الإخلال بها، بحيث لو فاتت تلك المصالح الضرورية لآلت حال الأمة إلى الفساد، ولحادت عن الطريق الذي أراده لها الشارع، يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: "والحفظ لها - أي للمصالح الضرورية - يكون بأمرين:
أحدهما: ما يقيم أركانها، ويثبت قواعدها، وذلك بمراعاتها من جانب الوجود.
والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم[1]".
والعلم بلا ريب يسلك في هذه المصالح الضرورية التي تجب مراعاتها من الجانبين المذكورين، وذلك للأسباب التالية:
1- لأن حاجتنا إليه لا تقل عن حاجتنا إلى المأكل والمشرب والملبس والدواء إذ به قوام الدين والدنيا.
2- لأن المستعمرين، بل المحتلين الحاقدين، إنما احتلوا بلاد المسلمين لأسباب كثيرة، بيد أن من أهمها جهل المسلمين.
3- انتشار المذاهب الهدامة، والنحل الباطلة، وما حدث ذلك إلا لأنها وجدت قلوبًا خالية فتمكنت منها كما قال الشاعر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلبًا خاليًا فتمكنا
فإن القلوب التي لا تتحصن بالعلم الشرعي، تكون عرضة للانخداع بالضلالات،والوقوع في الانحرافات.
4- وإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب[2]، وهذه قاعدة شرعية معلومة وواضحة. والعلم الذي يطلبه الإسلام هو: الوحي: كتابًا وسنة، عقيدةً وشريعة، والعلوم المستمدة من الوحي منها: التفسير، والسنة، والتوحيد، والفقه. وما وراء ذلك من علوم الكون فهو مما يدعوا إليه الإسلام، ويحث عليه لتعرف سنن الله في الكون، وأسراره في الخلق، وحكمته في الوجود، ودراسة العلوم الكونية والإنسانية لا تقل في أهميتها عن دراسة العلوم الشرعية، وهي علوم الطبيعة، والكيمياء، والفلك، والأحياء والنبات، والنفس والاجتماع، والتاريخ العام [3].
وقد تبنى القرآن الكريم الدعوة إلى مثل هذه العلوم في محكم آياته، فمن ذلك: قوله تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ﴾ [ق: 6-11]. وقوله تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [الروم: 22].
وقوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُور ﴾ [فاطر: 28،27]، والمقصود بالعلماء في هذه الآية علماء الكون والماء والنبات والجبال والناس والدواب والحيوانات لا العلماء بالصلاة والصيام والزكاة والحج فحسب وإن كانوا هم أولى بها. وقال تعالى: ﴿ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْييِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الروم: 50]. وقال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ ﴾ [النور: 43،44].
وقال عز وجل: ﴿ وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 21،20]. وقال عز وجل: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ ﴾ [فصلت: 54،53]. وقال سبحانه: ﴿ فََلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ﴾ [الطارق: 5-7]. فكل هذه الآيات الكريمة وغيرها تتحدث عن العلوم الكونية والإنسانية والتي دعا إليها القرآن الكريم وأكد الدعوة على طلبها.
أما الآيات التي تدعوا إلى العلم النافع عمومًا وإطلاقًا و الحث على فضله وطلبه، سواء أكان هذا العلم في أمور الدين أو الدنيا فهي كثيرة كذلك فمنها:
قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11]. وقوله سبحانه: ﴿ أَفَمَن يَّعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ ﴾ [الرعد: 19]. وقوله سبحانه: ﴿ شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 18].
وقوله عز وجل: ﴿ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 59]. وقوله تعالى: ﴿ قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 43].
وقوله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 9]. وقوله سبحانه: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2].
وقوله سبحانه: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الألْبَابِ ﴾ [البقرة: 269]. وقوله تعالى: ﴿ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114]. وقوله تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ﴾ [محمد: 19]. وقوله عز وجل: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28].
فكل هذه الآيات داعية إلى العلم وشرفه وطلبه، ناهيك عن السنة ونصوصها، فلا علاقة إذاً بين كون الأمة تتعلم شؤون دينها وبين الجهاد وقضايا الأمة، اللهم إلا إن دهم العدو بلاد وديار المسلمين، فالواجب حينئذ الجهاد والقتال وترك كل شيء لأن العدو فساده عند ذلك لا يقاوم بشيء.
ولكن هل تترك الأمة العلم والعمل حتى تتحرر بلاد الإسلام، وهل نترك العلم والعمل حتى تنتهي قضايا الأمة، وهل ننتظر حتى تعود الخلافة لتحل لنا كل مشكلاتنا، إنه الوهم النفسي، والوهم الدعوي، الذي لن يكون طريقاً للتمكين مهما طال الزمان. علينا أن نعلم أن العقيدة والتوحيد هي أكبر قضية في الإسلام، وعلينا أن نعلم أن طلب العلم من أكبر قضايا الأمة اليوم.
وعلينا أن نعلم أن العودة إلى منهج السلف الصافي من أكبر القضايا لتوحيد الصف الإسلامي، هذه هي القضايا الكبرى، فإذا فهمت حقاً لانتهت كل قضايا الأمة، إن قضية المسلمين ليست في أعدائهم وليست فيما يخططون، وإنما فيما أصاب الأمة من ضعف ووهن في شتى مجالات الحياة الإنسانية.
[1] الموافقات. للشاطبي.
[2] العلم ضرورة شرعية. ناصر العمر.
[3] عناصر القوة في الإسلام. للسيد سابق بتصرف.
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/52231/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%AF-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%B4%D8%A8%D9%87%D8%AA%D9%8A-%D8%A8%D8%AF%D8%B9%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D9%82%D8%B3%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D8%AD%D9%8A%D8%AF%D8%8C-%D9%88%D8%A3%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D9%81%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D9%85%D8%B4%D8%BA%D9%88%D9%84%D9%88%D9%86-%D8%A8%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7-%D9%81%D9%82%D9%87%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D8%B1%D8%B9%D9%8A%D8%A9/#ixzz8fgf2ydDq
شبهة: تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام، وأن السلفيين مشغولون
بقضايا فقهية فرعية عن القضايا الكلية والمصيرية للأمة
علمنا أن المنهج السلفي يثار الغبار عليه بين الحين والحين من ناحية خصومه ومخالفيه، ولعلنا وقفنا على بعض منها في المقالات السابقة، وما ذلك منهم إلا أنه تنفير للناس من متابعته، وإلا جهل بحقيقته ومنهجه، وإلا حب للمخالفة التي تشبه التميز عما سواه، وإلا متابعة للأهواء والنفوس فيما تميل إليه عن متابعة الحق مع وضوحه وكماله، وإلا حبائل الشيطان من التفرق والتحزب المقيت الذي يجعل صاحبه على شفا جرف هار، مما يأتي عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة".
ومن هذه الأمور قولهم:
أن تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام، من توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات تقسيم مبتدع، وهذا أيضاً كلام فاسد، لأن هذا التقسيم تقسيم اصطلاحي علمي، كما نقسم العلوم والمعارف إلى أقسام وتفريعات مختلفة لتسهيل العلم بها، فهذا من قبيل تقسيم علم النحو والحساب والفقه وأصوله وسائر العلوم، فما الضير إذاً من تقسيم علم التوحيد والعقيدة. وقد جاء القرآن بها كلها.
ومن الشبهات؛ قولهم: أن السلفيين مشغولون بقضايا فرعية كالوضوء والحيض والنفاس والصلوات، عن القضايا الكلية والمصيرية للأمة، وهذا أيضاً من قبيل الوهم النفسي والواقعي لواقع العمل الإسلامي. لماذا؟ لأن طلب العلم وتعلم الأمور والأحكام الشرعية الواجبة خاصة وجوباً عينياً يستلزم تعلمها في الحال، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالمؤذن يؤذن للصلاة، فالواجب هنا تعلم مسائل وأحكام الآذان، وتعلم فقه الوضوء، وتعلم فقه المساجد، وتعلم فقه وأحكام الصلاة، وما يصح فيها وما لا يصح، كل هذا في واجب عيني واحد، فكيف بالمسائل الأخرى كالصيام والحج والعمرة والبيع والشراء والإجارة مما يحتاجه المسلم يومياً أو مثل ذلك.
فهل يصح إذاً ترك كل هذه الأحكام الشرعية الواجبة عيناً، بحجة أن هذا ليس وقته، وأن الأمة في مواجهة مع الأعداء. فما علاقة المواجهة إذاً بتعلم أحكام الإسلام وفرائضه، مع أن القرآن والسنة رفعا مكانة العلم وأهله وحملته، بل وجعل العلم قرين الجهاد وأرفع درجة.
وما ذلك كله إلا لأن العلم من المصالح الضرورية التي تقوم عليه حياة الأمة، بمجموعها وآحادها، فلا يستقيم نظام الحياة مع الإخلال بها، بحيث لو فاتت تلك المصالح الضرورية لآلت حال الأمة إلى الفساد، ولحادت عن الطريق الذي أراده لها الشارع، يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: "والحفظ لها - أي للمصالح الضرورية - يكون بأمرين:
أحدهما: ما يقيم أركانها، ويثبت قواعدها، وذلك بمراعاتها من جانب الوجود.
والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم[1]".
والعلم بلا ريب يسلك في هذه المصالح الضرورية التي تجب مراعاتها من الجانبين المذكورين، وذلك للأسباب التالية:
1- لأن حاجتنا إليه لا تقل عن حاجتنا إلى المأكل والمشرب والملبس والدواء إذ به قوام الدين والدنيا.
2- لأن المستعمرين، بل المحتلين الحاقدين، إنما احتلوا بلاد المسلمين لأسباب كثيرة، بيد أن من أهمها جهل المسلمين.
3- انتشار المذاهب الهدامة، والنحل الباطلة، وما حدث ذلك إلا لأنها وجدت قلوبًا خالية فتمكنت منها كما قال الشاعر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلبًا خاليًا فتمكنا
فإن القلوب التي لا تتحصن بالعلم الشرعي، تكون عرضة للانخداع بالضلالات،والوقوع في الانحرافات.
4- وإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب[2]، وهذه قاعدة شرعية معلومة وواضحة. والعلم الذي يطلبه الإسلام هو: الوحي: كتابًا وسنة، عقيدةً وشريعة، والعلوم المستمدة من الوحي منها: التفسير، والسنة، والتوحيد، والفقه. وما وراء ذلك من علوم الكون فهو مما يدعوا إليه الإسلام، ويحث عليه لتعرف سنن الله في الكون، وأسراره في الخلق، وحكمته في الوجود، ودراسة العلوم الكونية والإنسانية لا تقل في أهميتها عن دراسة العلوم الشرعية، وهي علوم الطبيعة، والكيمياء، والفلك، والأحياء والنبات، والنفس والاجتماع، والتاريخ العام [3].
وقد تبنى القرآن الكريم الدعوة إلى مثل هذه العلوم في محكم آياته، فمن ذلك: قوله تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ﴾ [ق: 6-11]. وقوله تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [الروم: 22].
وقوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُور ﴾ [فاطر: 28،27]، والمقصود بالعلماء في هذه الآية علماء الكون والماء والنبات والجبال والناس والدواب والحيوانات لا العلماء بالصلاة والصيام والزكاة والحج فحسب وإن كانوا هم أولى بها. وقال تعالى: ﴿ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْييِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الروم: 50]. وقال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ ﴾ [النور: 43،44].
وقال عز وجل: ﴿ وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 21،20]. وقال عز وجل: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ ﴾ [فصلت: 54،53]. وقال سبحانه: ﴿ فََلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ﴾ [الطارق: 5-7]. فكل هذه الآيات الكريمة وغيرها تتحدث عن العلوم الكونية والإنسانية والتي دعا إليها القرآن الكريم وأكد الدعوة على طلبها.
أما الآيات التي تدعوا إلى العلم النافع عمومًا وإطلاقًا و الحث على فضله وطلبه، سواء أكان هذا العلم في أمور الدين أو الدنيا فهي كثيرة كذلك فمنها:
قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11]. وقوله سبحانه: ﴿ أَفَمَن يَّعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ ﴾ [الرعد: 19]. وقوله سبحانه: ﴿ شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 18].
وقوله عز وجل: ﴿ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 59]. وقوله تعالى: ﴿ قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 43].
وقوله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 9]. وقوله سبحانه: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2].
وقوله سبحانه: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الألْبَابِ ﴾ [البقرة: 269]. وقوله تعالى: ﴿ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114]. وقوله تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ﴾ [محمد: 19]. وقوله عز وجل: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28].
فكل هذه الآيات داعية إلى العلم وشرفه وطلبه، ناهيك عن السنة ونصوصها، فلا علاقة إذاً بين كون الأمة تتعلم شؤون دينها وبين الجهاد وقضايا الأمة، اللهم إلا إن دهم العدو بلاد وديار المسلمين، فالواجب حينئذ الجهاد والقتال وترك كل شيء لأن العدو فساده عند ذلك لا يقاوم بشيء.
ولكن هل تترك الأمة العلم والعمل حتى تتحرر بلاد الإسلام، وهل نترك العلم والعمل حتى تنتهي قضايا الأمة، وهل ننتظر حتى تعود الخلافة لتحل لنا كل مشكلاتنا، إنه الوهم النفسي، والوهم الدعوي، الذي لن يكون طريقاً للتمكين مهما طال الزمان. علينا أن نعلم أن العقيدة والتوحيد هي أكبر قضية في الإسلام، وعلينا أن نعلم أن طلب العلم من أكبر قضايا الأمة اليوم.
وعلينا أن نعلم أن العودة إلى منهج السلف الصافي من أكبر القضايا لتوحيد الصف الإسلامي، هذه هي القضايا الكبرى، فإذا فهمت حقاً لانتهت كل قضايا الأمة، إن قضية المسلمين ليست في أعدائهم وليست فيما يخططون، وإنما فيما أصاب الأمة من ضعف ووهن في شتى مجالات الحياة الإنسانية.
[1] الموافقات. للشاطبي.
[2] العلم ضرورة شرعية. ناصر العمر.
[3] عناصر القوة في الإسلام. للسيد سابق بتصرف.
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/52231/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%AF-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%B4%D8%A8%D9%87%D8%AA%D9%8A-%D8%A8%D8%AF%D8%B9%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D9%82%D8%B3%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D8%AD%D9%8A%D8%AF%D8%8C-%D9%88%D8%A3%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D9%81%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D9%85%D8%B4%D8%BA%D9%88%D9%84%D9%88%D9%86-%D8%A8%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7-%D9%81%D9%82%D9%87%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D8%B1%D8%B9%D9%8A%D8%A9/#ixzz8fgf2ydDq
اليوم في 3:17 pm من طرف عبدالله الآحد
» -(( 3 -))- خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
اليوم في 12:53 pm من طرف صادق النور
» إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن الشرك سيظهر في هذه الأمة بعد إخفائه واندحاره
أمس في 2:19 pm من طرف عبدالله الآحد
» فضل توحيد الله سبحانه
الجمعة نوفمبر 22, 2024 3:20 pm من طرف عبدالله الآحد
» وجوب الدعوة إلى توحيد الله سبحانه
الخميس نوفمبر 21, 2024 3:00 pm من طرف عبدالله الآحد
» كتاب الترجيح في مسائل الطهارة والصلاة
الأربعاء نوفمبر 20, 2024 9:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» وجوب التوكل على الله وخده لا شريك له
الأربعاء نوفمبر 20, 2024 3:26 pm من طرف عبدالله الآحد
» أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 5:24 pm من طرف عبدالله الآحد
» العبادة وأركانها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 2:55 pm من طرف عبدالله الآحد
» الراجح من أقوال العلماء أن جلسة الاستراحة سنة في الصلاة
الإثنين نوفمبر 18, 2024 2:31 pm من طرف عبدالله الآحد