آل راشد



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

آل راشد

آل راشد

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
آل راشد

ثقافى-اجتماعى

*** - اللَّهُمَّ اَنَكَ عَفْوٍ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعِفُو عَنَّا - *** - اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك . *** - اللَّهُمَّ اُرْزُقْنَا تَوْبَةً نَصُوحًا قَبْلَ الْمَوْتِ وَ ارْزُقْنَا حُسْنَ الْخَاتِمَةِ . *** -

إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا شَابَتْ عَبِيدَهُمْ.. .. فِي رِقِّهِمْ عَتَقُوهُمْ عِتْقَ أَبْرَارٍ .. .. وَأَنْتَ يَا خَالِقِيُّ أوْلَى بِذَا كَرَمًا.. .. قَدْ شُبْتُ فِي الرِّقِّ فَأَعْتَقَنِي مِنَ النَّارِ .

المواضيع الأخيرة

» عقيدة السلف الصالح للشيخ المحدث محمد الطيب بن إسحاق الأنصاري المدني
فتوحات الشام Ooou110اليوم في 4:19 pm من طرف عبدالله الآحد

» أَسْرارُ اَلْمُسَبَّحَةِ اَوْ السُّبْحَةِ وَأَنْواعُها وَأَعْدادُها - - ( ( الجُزْءُ أَلْأَولٌ ) )
فتوحات الشام Ooou110أمس في 6:20 pm من طرف صادق النور

» عظمة الله سبحانه وتعالى والتحذير من الاستهزاء بالله والعياذ بالله
فتوحات الشام Ooou110أمس في 5:54 pm من طرف عبدالله الآحد

» أَسْرارُ اَلْمُسَبَّحَةِ اَوْ السُّبْحَةِ وَأَنْواعُها وَأَعْدادُها - - ( ( اَلْجُزْءُ الثَّانِي ))
فتوحات الشام Ooou110أمس في 8:06 am من طرف صادق النور

» أقسام صفات الله
فتوحات الشام Ooou110السبت أبريل 27, 2024 8:52 pm من طرف عبدالله الآحد

» اثبات أن الله يتكلم بالصوت والحرف وأن القرآن كلامه حقيقة
فتوحات الشام Ooou110الجمعة أبريل 26, 2024 4:11 pm من طرف عبدالله الآحد

» الرياء شرك أصغر إن كان يسيرا
فتوحات الشام Ooou110الخميس أبريل 25, 2024 4:39 pm من طرف عبدالله الآحد

» لم يصح تأويل صفة من صفات الله عن أحد من السلف
فتوحات الشام Ooou110الأربعاء أبريل 24, 2024 5:12 pm من طرف عبدالله الآحد

» إثبات رؤية الله للمؤمنين في الجنة
فتوحات الشام Ooou110الثلاثاء أبريل 23, 2024 7:24 am من طرف عبدالله الآحد

» الرد على من زعم أن أهل السنة وافقوا اليهود
فتوحات الشام Ooou110الثلاثاء أبريل 23, 2024 5:40 am من طرف عبدالله الآحد

اهلا بكم

الثلاثاء نوفمبر 08, 2011 2:32 am من طرف mohamed yousef

فتوحات الشام Ooousu10

المتواجدون الآن ؟

ككل هناك 56 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 56 زائر :: 1 روبوت الفهرسة في محركات البحث

لا أحد


أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 624 بتاريخ الأربعاء سبتمبر 15, 2021 4:26 am

احصائيات

أعضاؤنا قدموا 9635 مساهمة في هذا المنتدى في 3193 موضوع

هذا المنتدى يتوفر على 286 عُضو.

آخر عُضو مُسجل هو عبدالرحمن فمرحباً به.

دخول

لقد نسيت كلمة السر

أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى

أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع


    فتوحات الشام

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود فتوحات الشام

    مُساهمة من طرف صادق النور الأحد أكتوبر 30, 2011 11:06 am

    فتوحات الشام

    فتوحات أنهت غطرسة الروم ورفعة راية الإسلام على تلك البقاع المباركة في بلاد الشام وفلسطين، على يد الصحابة الكرام أمثال خالد وأبي عبيدة، بعد معارك فاصلة كمعركة كاليرموك وأجنادين

    فتوحات الشام 19438_image002

    موقعة مرج الصفر ....

    بانتصار خالد بن الوليد في موقعة أجنادين سيطر المسلمون على جنوب فلسطين، وامتلكوا بذلك جزءًا من أرض الشام، وهربت الحامية الرومية التي كانت موجودة في جلق، وكانت حامية بصرى قد هزمت من قبل، فأصبحت أهم قوة يجب أن يتوجه إليها خالد في الشام هي (حامية دمشق)، وقرر خالد أن يعود من أجنادين لحصار دمشق مرة أخرى، وكانت دمشق ذات أسوار حصينة، وبها حامية قوية، لم تحارب المسلمين من قبل بل كانت تكتفي بالتحصن وإلقاء السهام عليهم..

    فالتف خالد بن الوليد عليهم من جنوب البحر الميت ثم صعد شمالاً إلى البلقاء، ثم إلى بُصرى، ثم إلى دمشق، ولم يتجاوز أرض فلسطين من منتصفها، خوفًا من وجود حاميات رومية مختبئة في هذه الأرض، والمسلمون ليس لديهم دراية كافية بهذه الأرض، ووصل بجيشه إلى دمشق، وحاصرها، وخلف في البلقاء (شرحبيل بن حسنة) لحماية مؤخرة المسلمين، وترك معه 2500 جندي، وصعد مع أبي عبيدة ويزيد وعمرو بجيوشهم إلى دمشق لحصارها من جميع الجهات..

    بعد أن حاصر المسلمون دمشق، قرر هرقل إرسال حامية من (حمص) حتى تلتف حول الجيش الإسلامي الموجود في الجنوب، وحامية أخرى من الشمال، حتى تضع الجيش الإسلامي بين فكي كماشة!

    موقعة مرج الصفر :
    توجهت الجيوش الرومية (في 30 ألف مقاتل) من حمص إلى مرج الصفر حتى تصعد إلى دمشق، ولكن خالدًا علم من مخابراته بتوجههم ذاك، فقرر ألا ينتظر حتى تأتيه الجيوش، وأخذ جيشه وتوجه إلى الجيوش الرومية قبل أن تصل إلى دمشق، والتقى بهم في مرج الصفر، ولم تكن الجيوش الرومية مستعدة لذلك اللقاء، وبذلك التقى المسلمون والروم في مرج الصفر للمرة الثانية، ودار بينهما قتال عنيف للغاية، وجعل خالد ترتيب الجيش كما كان عليه في أجنادين، مع اختلاف يسير وهو وضع هاشم بن عتبة بن أبي وقاص على الميسرة، وبقي على الميمنة معاذ بن جبل t، وعلى القلب أبو عبيدة وسعيد بن زيد، وبقي هو في المقدمة، ويتنقل في كل المواقع، وكانت موقعة شديدة..

    وكان جيش الروم آنذاك أعدادًا ضخمة قادمة من أنطاكية ومن حمص لم تهزم قبل ذلك مع جيش الروم في أجنادين، صبر الفريقان، وطالت بهم المدة حتى نهاية اليوم، وكان أشد المسلمين ضراوة في القتال خالد بن سعيد t، الذي كان قد هُزِم من قبل في مرج الصفر والتي هُزم فيها، وكأنه يكفر عن خطئه، فجاهد جهادًا عظيمًا حتى استشهد t وأرضاه في آخر اليوم..

    حيث انتصر المسلمون انتصارًا عظيمًا، ولكن بثمن غالٍ، سقط خمسمائة شهيد من المسلمين، في مقابل خمسمائة قتيل وأسير من الروم، وجرح 4 آلاف مسلم. وهرب الجيش الرومي جرَّاء ذلك الانتصار.. وكان ذلك بعد موقعة أجنادين بعشرين يوم.. في السابع عشر من جمادى الآخرة عام 13 هـ..

    مما يذكر في هذه الموقعة: أن أم حكيم بنت الحارث بن هشام زوجة خالد بن سعيد رضي الله عنهما، كانت زوجته لليلة واحدة، أي أنه تزوجها في ليلة مرج الصفر، وكانت أرملة أحد شهداء المسلمين في فتح الشام، فلما علمت أم حكيم بمقتل زوجها ما كان منها إلا أن أخذت عمود الفسطاط وتلثمت، وخرجت تقاتل الروم، واختلف الرواة: أقتلت منهم أربعة، أم سبعة؟!! وعادت دون أن تصاب بجرح، فلا نامتْ أعينُ الجبناء!

    وفاة أبي بكر واستخلاف عمر :
    بعد ذلك الانتصار الثمين الذي حققه المسلمون في مرج الصفر، عاد المسلمون مرة أخرى إلى حصار دمشق، وأصرَّ الجيش الرومي على عدم الخروج، وكان الأولى به أن يخرج في الفترة التي ذهب المسلمون فيها للقتال في مرج الصفر، ولكن الله ألقى في قلوبهم الرعب، فبقوا في حصونهم، حتى عادوا إليهم مرة أخرى..

    وفي هذه الأثناء يحدث للمسلمين حدثٌ جلل، ومهم للغاية في المدينة المنورة.. وهو مرض خليفة رسول الله ، ومكوثه في بيته 15 يومًا، يؤم المسلمين أثناءها عمر بن الخطاب الذي أمره بأن يخلفه، يمرض الصديق t، الذي أمضى حياته كلها جهادًا في سبيل الله.. ولم يمكث في الخلافة إلا عامين، استطاع فيهما أن يقمع كيد المرتدين، وأن يجمع القرآن الكريم, ويبدأ بفتوحات المسلمين حول الجزيرة العربية، في فارس فتفتح العرقا، وفي بلاد الروم، فيفتح جزءًا من الشام، وفعل ما لم يفعله السابقون ولا اللاحقون بعد رسول الله ..

    حتى يأتي يوم 22 من جمادى الآخرة عام 13هـ، إذ يرسل لعثمان بن عفان رضي الله عنه..

    جاء في الكامل في التاريخ لابن الأثير:
    أن أبا بكر أحضر عثمان بن عفان خاليًا ليكتب عهد عمر، فقال له: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين، أما بعد. ثم أغمي عليه، فكتب عثمان: أما بعد فإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيرًا. ثم أفاق أبو بكر فقال: اقرأ عليَّ. فقرأ عليه، فكبر أبو بكر وقال: أراك خفت أن يختلف الناس إن مت في غشيتي. قال: نعم. قال: جزاك الله خيرًا عن الإسلام وأهله.

    فلما كتب العهد أمر به أن يقرأ على الناس، فجمعهم وأرسل الكتاب مع مولى له ومعه عمر، فكان عمر يقول للناس: أنصتوا واسمعوا لخليفة رسول الله، ، فإنه لم يألكم نصحًا. فسكن الناس، فلما قُرِئ عليهم الكتاب سمعوا وأطاعوا، وكان أبو بكر أشرف على الناس وقال: أترضون بمن استخلفت عليكم؟ فإني ما استخلفت عليكم ذا قرابة، وإني قد استخلفت عليكم عمر فاسمعوا له وأطيعوا، فإني والله ما ألوت من جهد الرأي. فقالوا: سمعنا وأطعنا. ثم أحضر أبو بكر عمر فقال له: إني قد استخلفتك على أصحاب رسول الله، ، وأوصاه بتقوى الله ثم قال: يا عمر إن لله حقًّا بالليل لا يقبله في النهار، وحقًا في النهار لا يقبله بالليل (أي أن العبادات يجب أن تؤدى على أوقاتها، ومثل ذلك نصرة دين الله في الوقت الذي يحتاج النصرة)، وإنه لا يقبل نافلة حتى تؤدَّى الفريضة، ألم تر يا عمر أنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق وثقله عليهم؟ وحق لميزان لا يوضع فيه غدًا إلا حق أن يكون ثقيلاً.

    ألم تر يا عمر أنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل وخفته عليهم؟ وحق لميزان أن يوضع فيه غدًا إلا باطل أن يكون خفيفًا. ألم تر يا عمر أنما نزلت آية الرخاء مع آية الشدة وآية الشدة مع آية الرخاء ليكون المؤمن راغبًا راهبًا (أي أن الله عندما يقول: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر: 49], يتبعها بالآية الكريمة {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر: 50]، وهكذا حتى يصبح المؤمن بين الخوف والرجاء، بين الرغبة لثواب الله ورضاه وجنته، والرهبة من عقاب الله سبحانه، وسخطه، والنار) (فلا يلقي بنفسه إلى التهلكة، ولا يتمنى على الله غير الحق) لا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له، ولا يرهب رهبةً يلقي فيها بيديه. أو لم تر يا عمر أنما ذكر أهل النار بأسوأِ أعمالهم؟ فإذا ذكرتهم قلت: إني لأرجو أن لا أكون منهم، وأنه إنما ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم لأنه يجاوز لهم ما كان من سيئ فإذا ذكرتهم قلت: أين عملي من أعمالهم؟ فإن حفظت وصيتي فلا يكونن غائب أحب إليك من حاضر من الموت فلا بد لك منه، وإن أنت ضيعت وصيتي هذه، فلا يكونن غائبٌ أبغض إليك من الموت، ولا بد لك منه) ولست بمعجزه.

    وقد وقعت هذه النصيحة -ولا شك- موقعًا حسنًا من نفس الفاروق عمر t، إذ نشر العدل في بلاد المسلمين، لمدة 10 سنوات كاملة، هي مدة خلافته t.

    المثنى في المدينة :
    كان هذا في صباح يوم 22 جمادى الآخرة، ويأتي المثنى بن حارثة t من أرض العراق في هذه الفترة التي مرض فيها أبو بكر، وذلك بعد أن انفصل خالد بجيشه عنه ذاهبًا إلى الشام، وبمجرد انفصال خالد بجيشه، التحم المثنى بن حارثة والفرس في موقعة بابل وانتصر فيها انتصارًا ساحقًا، ولكن بعد ذلك حدثت بعض التغيرات في الحكم الفارسي أسفرت عن تجميع الجيوش الفارسية في كل مكان لحرب المسلمين، فلم يكن من المثنى بن حارثة إلا أن ترك الجيش الإسلامي في العراق، وجاء للصديق يستأذنه في المدد (وكان يريده من المرتدين الذين عادوا إلى الإسلام، ويريد أن يقنع أبا بكر بضرورة الاستعانة بهم!)..

    وعاد المثنى في فترة المرض تلك، حتى كان يوم 22 من جمادى الآخرة، إذ أفاق أبو بكر، وبدا للناس أنه عاد إلى صحته، (كما حدث لرسول الله قبيل وفاته)، فجلس إليه المثنى بن حارثة، وحدثه عن الموقف في أرض العراق، وقال له إن المسلمين بحاجة إلى المدد، ولم يحدثه في أمر المرتدين، فأرسل أبو بكر مباشرة إلى عمر بن الخطاب t، ويقول له: (يا عمر إني لأرجو أن أموت من هذا اليوم، فإن أنا مت في الصباح، فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى بن حارثة إلى العراق، وإن أنا مت في المساء، فلا تصبحن حتى تندب الناس مع المثنى، للجهاد في العراق)، وهنا نرى أن الصديق t يلفت انتباه خليفته إلى أهم الأمور التي يجب أن ينتبه إليها بعد وفاته، وهو الجهاد في سبيل الله، ومساعدة المجاهدين في أرض فارس مباشرة، دون تأخير، ويمتد العمر بالصديق حتى المساء، وما بين المغرب والعشاء في ذلك اليوم، يصل رسول خالد بن الوليد من الشام ببشرى الفتح معركة أجنادين.

    فيُسَرُّ سرورًا عظيمًا، ثم يلتفت إلى من حوله من أهله ويقول: (انظروا إلى ثوبي هذين، فاغسلوهما، وكفنوني فيهما، فإن الحيَّ أحوج إلى الجديد من الميت) أي أنه لا يريد كفنًا جديدًا.. وكانت آخر كلماته قبل وفاته t: (رب توفَّني مسلمًا، وألحقني بالصالحين) قالها، ولفظ أنفاسه الأخيرة.. رحمه الله ورضي عنه..

    وكان وقع المصيبة عظيمًا على المسلمين، فوفاة أبي بكر حدثٌ جلل، ليس فقط لأنه أول خليفة للمسلمين، ولكن لما له من مكانة في قلوب المسلمين، والصحابة رضوان الله عليهم، وبمجرد تولي عمر بن الخطاب t الخلافة، دُفِن أبو بكر الصديق بعد العشاء مباشرة، وبدأ في تنفيذ وصيته بأن يندب الناس في منتصف الليل للجهاد في أرض العراق، وظل يندب الناس 3 أيام، دون أن يخرج أحد!! وكان ذلك لأسباب عديدة: أحدها: تأثر المسلمين بوفاة أبي بكر، وخوفهم من بطش عمر حتى إن طلحة بن عبيد الله دخل على أبي بكر بعد أن علم بأنه ولَّى عمر من بعده، فقال له: استخلفت على الناس عمر وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه، وكيف به إذا خلا بهم وأنت لاقٍ ربك فسائلك عن رعيتك؟! فانتفض أبو بكر وأمسك بكتفه وهزه وقال: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: أبالله تخوفني؟! (أي هل تظن أنك أكثر ورعًا مني، فتخوفني بالله؟!!) إذا لقيت ربي فسألني قلت: استخلفت على أهلك خير أهلك. (أي أنه يرى أن خير أهل الأرض آنذاك، وأفضلهم، وأجدرهم بالخلافة هو عمر t).. عن الكامل في التاريخ!!

    هذا بالإضافة إلى رهبتهم من القائد الفارسي رستم وقوة جيش الفرس، بالإضافة إلى أن كثيرًا من المجاهدين (نحو 50 ألف مجاهد) كانوا قد خرجوا في الشام والعراق وعلى أطراف الجزيرة العربية.. وغير ذلك.

    حتى خرج في اليوم الرابع أبو عبيد بن مسعود الثقفي، ثم قام ثلاثة بعده، وبعدهم قام ألف من المجاهدين، وأصرَّ عمر t على أن يولي أبو عبيد بن مسعود على كل الجيش حتى الموجود في العراق.. على الرغم من أنه ليس له علم بالحرب!!

    الوضع في الجبهة الشرقية :
    في الميدان الشرقي في ذلك الوقت، ينتصر أبو عبيد بن مسعود الثقفي في ثلاث مواقع متتالية على الفرس، ثم يهزم هزيمة كبيرة جدًّا، في مواجهة جيش جابان الفارسي القوي في معركة الجسر ويُسْتَشهد، وكان الثمن في منتهى القسوة على المسلمين إذ يسقط منهم 4 آلاف شهيد (من إجمالي 10 آلاف مجاهد)، وفرَّ منهم 4 آلاف!! وتولى المثنى بن حارثة قيادة الجيش، ثم انتصر المسلمون بفضل الله انتصارًا عظيمًا في موقعة البويب وكان ذلك بعد نحو أسبوعين من هزيمتهم في الجسر.

    فكان عمر t كلما جاءه مدد من المسلمين أرسله إلى العراق، وبذلك فإن الوضع في الشام قد غدا مطمئنًا، ومما لا شك فيه أن غياب خالد بن الوليد عن العراق بـ9 آلاف من جنود المسلمين، كان له أثر بالغ في إضعاف جيش المسلمين هناك، وكذلك كان لقيادة (أبو عبيد الثقفي) أثر، أما الوضع في الشام فكان مطمئنًا، فكان يرسل لأرض العراق كل المدد..

    الوضع الجديد في الشام :
    في أرض الشام، تجمعت بعض الجيوش الرومية القادمة من حمص، وأنطاكية في بعلبك وكان لديها الاستعداد أن تقدم إلى دمشق، فلما وصلتها أنباء هزيمة الروم في مرج الصفر تراجعوا وآثروا البقاء في حصون "بعلبك"، في ذلك الوقت أرسل أبو عبيدة بن الجراح شرحبيل بن حسنة رضي الله عنهما، الذي كان في البلقاء، يرسل له رسالة يأمره فيها بالانتشار في أرض الأردن وفلسطين، وبثِّ السرايا، والإغارة على القرى والمناطق المجاورة له، وجمع الغنائم، ودعوة الناس إلى الإسلام، أو الجزية، أو القتال..

    ولم يكن هناك حامية رومية قوية، فلم يكن من الناس إلا أن يقبلوا بالجزية، أو يدخلوا في الإسلام، أو يهربوا من الأرض، وتجمعت القوات الرومية الموجودة في كل مكان في (بيسـان) شمال فلسطين.. وعرف المسلمون أن الروم لديهم حاميتان: الأولى في بعلبك، والثانية في بيسان. وأن شرحبيل بمفرده في بيسان بالقرب منهم وليس معه سوى ألفين وخمسمائة من المجاهدين..

    وكان جيش المسلمين المتبقي حول دمشق 29 ألفًا، وتصل هذه الأخبار إلى أبي عبيدة، فيجمع قادة جيوش الشام كلها خالد، ويزيد، وعمرو، معه في خيمته، ليأخذ رأيهم في تجمعات الروم الجديدة.

    تابعونا فى التالى .....
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: فتوحات الشام

    مُساهمة من طرف صادق النور الأحد أكتوبر 30, 2011 11:10 am

    عزل خالد بن الوليد ....

    فتوحات الشام 19437_image002

    أرسل عمر رسالة إلى أبي عبيدة بن الجراح في أرض الشام مع مولاه يرفأ، جاء فيها:

    عن تاريخ دمشق لابن عساكر: "أما بعد فإن أبا بكر الصديق خليفة رسول الله صلى اللة علية وسلم قد توفي، فإنا لله وإنا إليه راجعون, ورحمة الله وبركاته على أبي بكر الصديق العامل بالحق والآمر بالقسط والآخذ بالعرف اللين الستير الوادع السهل القريب الحكيم, ونحتسب مصيبتنا فيه ومصيبة المسلمين عامة عند الله تعالى وأرغب إلى الله في العصمة بالتقى في مرحمته والعمل بطاعته ما أحيانا والحلول في جنته إذا توفانا فإنه على كل شيء قدير، وقد بلغنا حصاركم لأهل دمشق وقد وليتك جماعة المسلمين فابثث سراياك في نواحي أهل حمص ودمشق وما سواها من أرض الشام وانظر في ذلك برأيك ومن حضرك من المسلمين ولا يحملنك قولي هذا على أن تغري عسكرك فيطمع فيك عدوك ولكن من استغنيت عنه فسيره ومن احتجت إليه في حصارك فاحتبسه (أي أن عمر بدأ يوجه القائد بنفسه، من مكانه كخليفة للمسلمين، فيأمره بإخراج السرايا إلى حمص، وما حولها، وألا تكن تلك السرايا كثيرة، فيضعف ذلك من شأن الجيش المحاصر دمشق) وليكن فيمن يُحتبَس خالد بن الوليد فإنه لا غنى بك عنه. (فاحتياج المسلمين لخالد بن الوليد أمر لا ينكره أحد، لذا نصحه أن يستبقيه مع الجيش الذي يحاصر دمشق)..

    وعلى هذا النحو جاء خطاب عمر لأبي عبيدة بلهجة رقيقة، ليس فيها أمرٌ مباشر، فقرأ أبو عبيدة الخطاب، وأخذه المفاجأة لوفاة الصديق t، ثم نادى معاذ بن جبل فأخبره، فاسترجع وقال: وما فعل المسلمون؟، فقال له يرفأ: استخلف أبو بكر رحمة الله عليه عمر بن الخطاب t، فقال معاذ: الحمد لله، وُفِّقُوا وأصابوا، فقال أبو عبيدة: لقد خشيت أن أسأل يرفأ خشية أن يقول أن الخليفة غير عمر. (وهكذا كان الصحابة متفقين على خلافة عمر لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما)، ثم قال يرفأ لأبي عبيدة: إن عمر بن الخطاب يسألك عن جيش المسلمين، ويسألك عن خالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، وعن شرحبيل بن حسنة وعن معاذ بن جبل وهم قادة الجيوش، فقال أبو عبيدة: (أما خالد فخير أمير، وأشدهم على عدوهم من الكفار، فجزاه الله عنهم خيرًا) وفي هذا شهادة من أمين الأمة على أن خالد بن الوليد t ذو كفاءة عالية، وأن اختياره للقيادة كان اختيارًا صائبًا، ثم يذكر أن بقية القادة كانوا أشداء على المشركين رحماء بينهم..

    ثم يقوم يرفأ لكي يعود إلى عمر، فيأمره أبو عبيدة بالانتظار حتى يكتب معه، ثم يجتمع هو ومعاذ بن جبل، فيكتبان رسالة إلى عمر t جاء فيها: في تاريخ دمشق لابن عساكر (من أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب، إنك يا عمر أصبحت وقد وليت أمر أمة محمد أحمرها وأسودها، يقعد بين يديك العدو والصديق، والقوي والضعيف، والشريف والوضيع، ولكل عليك حقٌ وحصة من العدل، فانظر كيف تكون يا عمر، وإنا نُذَكِّرُك يومًا تبلى فيه السرائر، وتكشف فيه العورات، وتظهر فيه المخبآت، وتعنو فيه الوجوه، لملك قاهر قهرهم بجبروته، والناس له داخرون، ينتظرون قضاءه، ويخافون عقابه، ويرجون رحمته، وإنه بلغنا أنه يكون في هذه الأمة رجال إخوان العلانية، أعداء السريرة (يحذرونه من بطانة السوء) وإنا نعوذ بالله من ذلك، فلا ينزل كتابنا من قلبك بغير المنزلة التي أنزلناها من أنفسنا (أي أن يهتم به كما اهتموا بكتابته) والسلام عليك" .

    أبو عبيدة يتكتم الأمر :
    فمضى الرسول بالكتاب إليه , وقال أبو عبيدة لمعاذ بن جبل والله ما أمرنا عمر أن نظهر هلاك أبي بكر للناس, وما نعاه إليهم فما ترى أن نذكر من ذلك شيئًا دون أن يكون هو الذي يذكره (يريد أن يكتم الخبر عن المسلمين، حتى لا يوهن من عزائمهم، وكتم ذلك الخبر يدل على مدى ما كان عليه أبو عبيدة من زهد في الدنيا , فقد ولاه عمر قيادة الجيوش بدلاً من خالد), قال له معاذ: فإنك نِعْمَ ما رأيت، فسكتا فلم يذكرا للناس من ذلك شيئًا.

    وبقي الأمر على ما هو عليه، على الرغم من أنه فيه مخالفة لأمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t في تغييره لأمير جيش المسلمين، ويبدو من الرسالة أيضًا أنه كان يريد أن يبلغ المسلمين بوفاة أبي بكر، لأن ذلك التغيير الذي وضعه عمر يقتضي أنه هو الذي أصبح خليفة المسلمين..

    ولكن أبا عبيدة -لخوفه t على معنويات المسلمين-لم يرد أن يعلن هذا الأمر لهم، فاستبقى الأمر على ما هو عليه تحت إمرة "خير أمير" كما يرى، وهو خالد بن الوليد t، فيرجع يرفأ الذي علم أن أبا عبيدة لم يخبر الناس بوفاة أبي بكر، ولم يغير إِمْرَةَ الجيوش، فأخبر عمر بن الخطاب بذلك، فأرسل عمر بن الخطاب رسالتين، الأولى: يرد فيها على رسالة معاذ بن جبل وأبي عبيدة في رسالتهما إليه، والثانية إلى أبي عبيدة خاصةً يقول له فيها: من عبد الله عمر، إلى أبي عبيدة بن الجراح، سلامٌ عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، وأصلي على نبيه محمد t، وبعد، فقد وليتك أمور المسلمين، فلا تستحي فإن الله لا يستحي من الحق، وإني أوصيك بتقوى الله الذي أخرجك من الكفر إلى الإيمان، ومن الضلال إلى الهدى، وقد استعملتك على جند خالد، فاقبض جنده، واعزله عن إمارته.

    وكانت هذه الرسالة في 26 من رجب عام 13هـ، وأُسْقِطَ في يد أبي عبيدة، فلم يكن راضيًا عن نزع خالد عن إمرة الجيش، لما يرى له من بأس على الكفار ورحمة على المسلمين ولمقدرته على القيادة، وخبرته بأمور القتال. فيطلب معاذ بن جبل t، ويستشير بعض المسلمين، ويتداول المسلمون الأمر فيما بينهم، حتى يصل الأمر إلى خالد بن الوليد t، (من تاريخ دمشق: فأقبل حتى دخل على أبي عبيدة فقال: يغفر الله لك يا أبا عبيدة؛ أتاك كتاب أمير المؤمنين بالولاية؛ فلم تُعْلِمْني وأنت تصلِّي خلفي والسلطان سلطانك!!)، (لأن الصلاة تكون للأمير، أو الوالي على المسلمين، حتى وإن كان مَنْ خلفه أقرأ منه، وكان هذا فقط ما أقلق خالدًا t، فلم يسأله: لم عزله عمر؟ ولم يعترض على رأي خليفة المسلمين!) فقال أبو عبيدة: وأنت يغفر الله لك، والله ما كنت لأعلمك ذلك حتى تعلمه من عند غيري، وما كنت لأكسر عليك حربك حتى ينقضي ذلك كله, ثم قد كنت أُعْلِمُكَ بعد ذلك، وما سلطان الدنيا أريد وما للدنيا أعمل، وإنَّ ما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع، وإنما نحن إخوان وقُوَّام بأمر الله ، وما يضر الرجل أن يلي عليه أخوه في دينه ولا دنياه، بل يعلم الوالي أنه يكاد أن يكون أدناهما إلى الفتنة وأوقعهما في الخطيئة إلا من عصم الله وقليل ما هم.

    وهكذا، لم يعلق خالد على مسألة عزله، وتولَّى أبو عبيدة بن الجراح إمرة جيوش المسلمين في الشام.

    تحقيق مواعيد المعارك :
    وكان للأستاذ أحمد عادل كمال بحث من أروع ما كُتِبَ في هذا المجال، وقد رجح فيه بعد الكثير من التقصي، والتحقيق، أن أول موقعة كانت أجنادين -كما ذكرنا- وكان فتح دمشق بعدها (14هـ)، وكانت اليرموك عام 15هـ.. وعلى ذلك يكون توقيت هذه الرسالة بعد موقعة أجنادين، لأن أبا بكر تُوُفي بعدها بنحو 20 يومًا، ومعروف عند المؤرخين جميعًا أن أول قرارات عمر كان عزل خالد بن الوليد رضي الله عنهما.. أي أن ذلك بعد أجنادين مباشرة، في حصار دمشق هذا (13هـ)...

    وقفـة عـنـد عـزل خـالـد :
    عزل خالد t كان موقفًا مهمًا بارزًا في التاريخ الإسلامي، يجب على كل مسلم أن يقف لتأمله، ذلك أن القائد العظيم الخليفة عمر بن الخطاب رأى أن المسلمين سيفتنون بقيادة خالد لجيش المسلمين، لانتصاراته المتتالية، ورأى أن في سيف خالد بن الوليد (رهقًا) , وأنه يقاتل الناس قبل أن يسلموا...

    وأنه يرى الهدف من الجهاد دخول الناس في الإسلام والدعوة للإسلام، وليس فتح الأراضي الجديدة فحسب، وفي الواقع كان خالد بن الوليد كان يقوم برسالته خير قيام، وإنه كان حريصًا على إيصال الدعوة الإسلامية للناس، وكان أبو بكر الصديق مدركًا لذلك، فرحًا بانتصاراته، يدعو له ويقول: (أَعَجَزَتِ النساءُ أن تلد مثل خالد بن الوليد؟!!) فكان هذا رأي أبي بكر، وأبي عبيدة فيه، ولكن كان هذا اجتهاد عمر بن الخطاب، وعلى علمه بمهارة خالد، إلا أنه رأى أن من الأفضل عزل خالد وتولية أحد القادة الهَيِّنين اللَّيِّنين كأبي عبيدة..

    وهي تضحية منه في سبيل الله، حتى يعم الإسلام الديار المفتوحة، فالهمُّ الأكبر لديه ليس كسب الأراضي الجديدة وفتحها، وإنما نشر دعوة الإسلام.. كما تجلى في هذا الموقف عظمة (أبو عبيدة بن الجراح) عندما تلقى أمر عمر بن الخطاب بالإمارة، بالحزن والهم، لأنه كان لا يريدها لنفسه.

    ومن جهة أخرى تجلت عظمة تربية خالد بن الوليد في طاعته لأمر خليفة المسلمين، فبمجرد أن علم بأمر عزله، قال: "الحمد لله الذي ولَّى عمر بن الخطاب، وقد كان أبو بكر أحب لديَّ من عمر بن الخطاب، فالحمد لله الذي ولَّى عمر، ثم ألزمني حبه", فمنذ هذه اللحظة أصبح يحب عمر بن الخطاب، وليس فقط يطيعه.

    ولم يعترض أحد على ما قرره الخليفة من عزل خالد، كما لم نسمع عن اعتراض على توليته على الجيوش، وقد كان أبو عبيدة أميرًا عليها، وهذا يعكس لنا إلى حد بعيد، طبيعة ذلك الجيش الإسلامي المنتصر، فلا فرق لدى المسلمين، فهم تحت أي إمرة يعملون، وفي أي صف يشاركون، وإنما هدفهم رضا الله ، والجهاد في سبيله. وهذا يوضح لنا أنه لا يمكن أن يعود الإسلام من جديد إلا بجماعة من المسلمين متحابين مترابطين.

    تابعونا فى التالى ....
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: فتوحات الشام

    مُساهمة من طرف صادق النور الأحد أكتوبر 30, 2011 11:13 am

    انتهاء فتح العراق والاستعداد لمحاربة الروم

    فتوحات الشام 1725_image002

    بعث خالد بن الوليد إلى العراق :
    فتح بلاد الشام بعد أن انتهت حروب الردّة أرسل أبو بكر الصديق t خالد بن الوليد t -من موقعه في بني حنيفة- إلى العراق لفتحه من الجنوب (وكان قد أرسل جيشًا آخر من الشمال بقيادة عياض بن غنم)، على أن يسير الجيشان في اتجاه الحيرة، ومن يصل منهما إلى الحيرة أولاً، سيكون هو أمير الجيشين، وبعد فتح الحيرة يمكنهم أن يتقدموا لفتح العراق، وقد أدى خالد t مهمته على خير وجه، وانتصر وتمكن من فتح الحيرة في 12 من ربيع الأول 12هـ قبل أن يصلها عياض بن غنم، فأصبح هو أمير الجيوش على العراق، وعلى الجانب الآخر توقف عياض بن غنم عند دومة الجندل، واستعصى عليه فتحها.

    انتهاء فتح الحيرة وبشرى لخليفة رسول الله :
    أرسل خالد شُرَحْبِيل بن حَسَنَة t لأبي بكر الصديق يهنئه بفتح الحيرة، ويحمل إليه الغنائم التي منَّ الله بها على المسلمين، ولما وصل شرحبيل t وبلَّغ أبا بكر الخبر، قال له كلمة عجيبة، إذ سأله: أتحدثك نفسك أن تُرسل جيشًا إلى الشام؟ وكانت هذه المرة الأولى التي يصرّح فيها بفتح الشام (مثلما خرج المسلمون من حروب الردّة إلى فتح فارس، وكانت جرأة عجيبة من المسلمين أن يرسلوا جيشًا لفتح فارس وهم حديثو عهد بحروب الردة)، ويتعجب خليفة رسول الله أبو بكر t؛ لأنه كان يحدّث نفسه بذلك فعلاً، ولم يُطلِع أحدًا على ما كان يحدّث نفسه به!!

    فقال له: نعم، قد حدثت نفسي بذلك، وما أطلعت عليه أحدًا، وما سألتني عنه إلا لشيء. قال له: نعم يا خليفة رسول الله، فإني قد رأيت رؤيا: رأيتك تمشي بين الناس، فوق خرشفة بجبل (يقصد مكانًا من الصعب جدًّا أن يسير فيه المرء بقدميه)، ثم أقبلت تمشي حتى صعدت قنة من القنان العالية (أي مكانًا مرتفعًا)، فأشرفت على الناس ومعك أصحابك، ثم إنك هبطت من تلك القنان إلى أرض سهلة (أي واسعة كبيرة)، فيها زرع وقرى وحصون، فقلت للمسلمين: شنّوا الغارة على أعداء الله، وأنا ضامنٌ لكم الفتح والغنيمة. فشدّ المسلمون، وأنا فيهم ومعي راية (أي أنه أحد قواد المسلمين في الحلم)، فتوجهت بهم إلى أهل قرية، فسألوني الأمان فأمنتهم، ثم جئتك فأجدك قد انتهيت إلى حصنٍ عظيم، ففتح الله لك، وألقوا إليك السلم، ووضع الله لك مجلسًا فجلست عليه، ثم قيل لك: يفتح الله عليك وتُنصر، فاشكر ربك واعمل بطاعته. ثم قرأت عليك سورة النصر: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1-3]، ثم انتبهت.فابتسم أبو بكر الصديق t، وقال له: نامت عيناك، خيرًا رأيت، وخيرًا يكون إن شاء الله.

    وبدأ يفسر لسيدنا شرحبيل بن حسنة t هذه الرؤيا، فقال له: بُشّرت بالفتح، ونعيت إليَّ نفسي!! ثم دمعت عيناه، وقال: أما الخَرْشَفَة التي رأيتنا صعدنا عليها، فأشرفنا عليها إلى الناس: فإنّا نكابد من أمر هذا الجند والعدو مشقة ويكابدونه (أي أن القتال سيرهق المسلمين جدًّا، ولن يكون قتالاً سهلاً)، ثم نعلو بعدُ ويعلو أمرنا (أي سنظل نقاتل وننتصر حتى نغلبهم)؛ وأما نزولنا من القنة العالية إلى الأرض السهلة والزرع والعيون والقرى والحصون، فإنا ننزل إلى أمر أسهل مما كنا فيه من الخصب والمعاش وهو الشام. وأما قولي للمسلمين: شنوا على أعداء الله الغارة، فإني ضامن لكم الفتح والغنيمة؛ فإن ذلك دنوّ المسلمين إلى بلاد المشركين، وترغيبي إياهم على الجهاد والأجر والغنيمة التي تقسم لهم وقبولهم.

    وأما الراية التي كانت معك، فتوجهت بها إلى قرية من قراهم ودخلتها، واستأمنوا فأمّنتهم فإنك تكون أحد أمراء المسلمين في فتح الشام، ويفتح الله على يديك. وأما الحصن الذي فتح الله لي، فهو ذلك الوجه الذي يفتح الله لي، وأما العرش الذي رأيتني عليه جالسًا فإن الله يرفعني (ويقصد بذلك المسلمين) ويضع ُالمشركين، قال الله تبارك وتعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} [يوسف:100].

    وأما الذي أمرني بطاعة الله وقرأ عليَّ السورة فإنه نَعَى إليَّ نفسي، وذلك أنّ النبي نعى الله إليه نفسه حين نزلت هذه السورة، وعلم أن نفسه قد نُعيت إليه، ثم سالت عيناه فقال: لآمرنّ بالمعروف، ولأنهين عن المنكر، ولأجهدن فيمن ترك أمر الله، ولأجهزن الجنود إلى العادلين بالله (أي المشركين) في مشارق الأرض ومغاربها حتى يقولوا: الله أحدٌ أحد لا شريك له، أو يؤدّوا الجزية عن يد وهم صاغرون. هذا أمر الله وسنة رسول الله، فإذا توفاني الله لا يجدني الله عاجزًا ولا وانيًا ولا في ثواب المجاهدين زاهدًا؛ فعند ذلك أَمَّر الأمراء، وبدأ يُعدّ العُدَّة لبعث البعوث إلى الشام.

    عقد مجلس الحرب وأخذ المشورة:
    شجعت هذه الرؤيا المباركة أبا بكر الصديق t على المُضيّ قُدمًا فيما كانت تحدثه نفسه به من إرسال الجيوش لفتح الشام وحرب الروم، إلا أنه مع ذلك لم يعجل في اتخاذ القرار، وإنما بدأ بإعداد العُدة، وجمع في البداية مجلسًا للحرب من المسلمين، حتى يأخذوا القرار في الحرب على الروم، وهذا القرار خطير، يجب أن يجمع له أبو بكر t كبار مفكري الدولة الإسلامية آنذاك، ذلك المجلس الذي ضم عمر بن الخطاب t، وعثمان بن عفان t، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وأبا عبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد، y وأرضاهم جميعًا.

    فدعاهم أبو بكر ليفكروا في اتخاذ قرار الحرب، وهؤلاء العشرة هم المبشّرون بالجنة، فأنْعِم به من مجلس! ولا شكّ أن قرارهم سيكون قرارًا موفقًا بتوفيق الله.

    فبدأ الصديق t بالحديث فقال لهم:

    إن الله لا تحُصى نعماؤه، ولا يبلغ جزاء الأعمال، فله الحمد، قد جمع الله كلمتكم وأصلح ذات بينكم، وهداكم إلى الإسلام، ونفى عنكم الشيطان، فليس يطمع أن تشركوا به، ولا تتخذوا إلهًا غيره، فالعرب اليوم أمة واحدة بنو أم وأب (وهذا بعد أن جمع الله كلمة المسلمين من جديد بعد حروب الردة)، وقد رأيت أن أستنفر المسلمين إلى جهاد الروم بالشام ليؤيد الله المسلمين، ويجعل الله كلمته هي العليا، مع أن للمسلمين في ذلك الحظ الوافر؛ لأنّه من هلك منهم هلك شهيدًا، وما عند الله خير للأبرار، ومن عاش عاش مدافعًا عن الدين مستوجبًا على الله ثواب المجاهدين. (أي أن المسلمين في حروبهم إما النصر والعزّة، وإما الشهادة في سبيل الله، وعلى هذا يجب أن تكون حياتنا كلها خالصة لله تعالى، وجهادًا في سبيله، في كل لحظة من لحظات الحياة؛ يقول أحد الصالحين: إن الإنسان لا يستطيع أن يختار لحظة موته، ولكنه يستطيع أن يختار كيف يموت, أي أنه إذا كانت حياة المرء كلها جهادًا في سبيل الله، وعملاً خالصًا لوجه الله سبحانه، فلا شك أنك ستموت وأنت على نفس هذه الحياة، وبذلك تكون قد اخترت أن تموت في سبيل الله، وفي المقابل إذا كنت تحيا للدنيا، ولا تفكّر إلا لنفسك، وتقتصر أحلامك وآمالك على ما يهمك وحدك، ولا تهتم بأمور المسلمين، فهذا يعني أنك ستموت على ما عشت من أجله!).

    يقول أبو بكر الصديق رأيه هذا، ثم يقول: هذا رأيي الذي رأيت، فأشيروا عليَّ. فيقوم عمر بن الخطاب فيقول: الحمد لله الذي يخصّ بالخير من يشاء من خلقه، والله ما استبقنا إلى شيء من الخير قط إلا سبقتنا إليه {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم} [الحديد:21]، قد والله أردت لقاءك لهذا الرأي الذي رأيت، فما قُضِى أن يكون حتى ذكرتَه، فقد أصبتَ أصاب اللهُ بك سبيل الرشاد، سرِّبْ إليهم الخيل في إثر الخيل، وابعثْ الرجالَ بعد الرجال، والجنود تتبعها الجنود؛ فإن الله ناصر دينه، ومعزٌّ الإسلام وأهله، ومنجزٌ ما وعد رسوله.

    وهكذا نجد أن عمر بن الخطاب t متفق مع أبي بكر، ويضع له الخطة التي يراها مناسبة لفتح الشام، وهي أن تخرج كلّ طاقة الجيش الإسلامي المتبقية لفتح الشام.

    ثم يقوم عبد الرحمن بن عوف فيقول: يا خليفة رسول الله، إن الروم وبني الأصفر حدٌّ حديد وركنٌ شديد، والله ما أرى أن تُقحم الخيل عليهم إقحامًا، ولكن تبعث الخيل فتغير في أدنى الأرض؛ فتأخذ منهم وترهبهم ثم ترجع إليك، فإذا فعلوا ذلك بهم مرارًا أضروا بهم وغنموا من أدنى أرضهم، فقووا بذلك على عدوهم، ثم تبعث إلى أرضي أهل اليمن وأقاصي ربيعة ومضر ثم تجمعهم جميعًا إليك، فإن شئت بعد ذلك غزوتهم بنفسك، وإن شئت أغزيتهم. ثم سكت وسكت الناس.

    اختلاف وجهات النظر بين الصحابة:
    كان لكلٍّ من الصحابة -رضوان الله عليهم- وجهة نظر تتعلق بالاستراتيجية العسكرية، ورؤيتهم لطريقة إنفاذ الجيوش، فإذا كان عمر t يرى أن يخرج الجيش كله لقتال الروم -كما فعل في حروب فارس- فإن ابن عوف t يقيس تلك الحرب على ما فعله الصديق t نفسه في فتح فارس، حيث جاء المثنى بن حارثة t من قبائل بكر بن وائل شمال الجزيرة العربية إلى حدود العراق، وطلب من الصديق أن يسمح له بالإغارة على حدود العراق، فوافقه أبو بكر الصديق على ذلك، وبدأ المثنى يُغير غاراتٍ متعددة، حتى ذهب خالد بن الوليد بجيش المسلمين لفتح فارس، في حين لم يكن ذلك تفكير عمر t، إذ سنراه في فتح فارس يرسل الجيوش الإسلامية كلها دفعة واحدة، ويجهز في فتح القادسية 32 ألف مجاهد، ثم 60 ألفًا لموقعة المدائن؛ ولذا يقترح أن يكون الجيش مقسمًا إلى مجموعات تحارب ثم تعود بالغنائم، حتى يتمرن المسلمون على حرب الروم؛ لأنهم مرهوبو الجانب.
    فقال لهم أبو بكر: ماذا ترون يرحمكم الله؟ (ولم يكن باقي المجلس قد تحدث عن رأيه في الخروج إلى الشام) فقام عثمان بن عفان t وقال: رأيي أنك ناصح مخلص لأهل هذا الدين، شفيق عليهم، فإذا رأيت رأيًا تراه لعامتهم صلاحًا فاعزم على إمضائه؛ فإنك غير ظَنِين ولا متهم.

    وهكذا كان رأي عثمان t أن أبا بكر t موفق في كل قراراته، فإذا اختلف المسلمون في القرار الأسلم للحرب، فإنه يرجع الأمر كله لأبي بكر الصديق، ويعلن أنه مطيع له. وانتظر الصديق ليسمع رأي بقية المسلمين، فقام طلحة والزبير وسعد وأبو عبيدة وسعيد بن زيد ومن حضر ذلك المجلس من المهاجرين والأنصار فقالوا: صدق عثمان فيما قال، ما رأيت من رأي فأمضه، فإنا سامعون لك مطيعون، لا نخالف أمرك، ولا نتهمك، ولا نتخلف عن دعوتك.

    وهكذا اتفق الجميع على رأي عثمان t، وعلى الخروج إلى الشام بشكل عام، وبقي واحد منهم لم يُدلِ برأيه، وهو عليّ t، فسأله أبو بكر: ماذا ترى يا أبا الحسن؟ فقال علي t: أرى أنك مباركُ الأمر، ميمون النقيبة، وإن سرت إليهم بنفسك أو بعثت إليهم الجنود، نُصرت عليهم إن شاء الله.

    فقال أبو بكر t: بشرك الله بخير! ومن أين علمت هذا؟ قال: سمعت رسول الله يقول: "لا يزال هذا الدين ظاهرًا على كل من ناوأه حتى يقوم الدين وأهله ظاهرون". أي أنه إذا التقى المسلمون والمشركون في موقعة وكان المؤمنون على إيمان صحيح، وأخذوا بأسباب النصر، فإن الله ناصرهم على المشركين.

    فقال أبو بكر: سبحان الله! ما أحسنَ هذا الحديث! (أي أن أبا بكر لم يكن قد سمع هذا الحديث) مسند الإمام أحمد عن جابر بن سمرة، لقد سررتني به سرّك الله في الدنيا والآخرة, وهكذا قام المجلس على هذا الاتفاق بالخروج لحرب الروم.


    تابعونا فى التالى ....
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: فتوحات الشام

    مُساهمة من طرف صادق النور الأحد أكتوبر 30, 2011 11:15 am

    البعوث ألى الشام .....

    فتوحات الشام 1736_image002

    بعد أن أُعِدَّتِ العُدَّة خرج أبو بكر ذات يوم ومعه رجال من الصحابة حتى انتهى إلى عسكرهم فرأى عدة حسنة لم يرض عدتها للروم؛ فقال لأصحابه: ما ترون في هؤلاء أن نشخصهم إلى الشام في هذه العدة؟ فقال عمر: ما أرضى هذه العدة لجموع بني الأصفر؛ فقال لأصحابه: ماذا ترون أنتم؟ فقالوا: نحن نرى ما رأى عمر؛ فقال: ألا أكتب كتابًا إلى أهل اليمن ندعوهم إلى الجهاد ونرغبهم في ثوابه؟ فرأى ذلك جميع أصحابه؛ فقالوا: نِعْمَ ما رأيت افعل فكتب:

    "بسم الله الرحمن الرحيم من خليفة رسول الله إلى من قُرِئ عليه كتابي هذا من المؤمنين والمسلمين من أهل اليمن سلام عليكم..

    فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعدُ فإن الله تعالى كتب على المؤمنين الجهاد، وأمرهم أن ينفروا خفافًا وثقالاً ويجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والجهاد فريضة مفروضة والثواب عند الله عظيم،وقد استنفرنا المسلمين إلى جهاد الروم بالشام وقد سارعوا إلى ذلك، وقد حسنت في ذلك نيتهم، وعظمت حسبتهم, فسارعوا عباد الله إلى ما سارعوا إليه, ولتحسن نيتكم فيه فإنكم إلى إحدى الحسنيين إما الشهادة وإما الفتح والغنيمة, فإن الله تبارك وتعالى لم يرضَ من عباده بالقول دون العمل، ولا يزال الجهاد لأهل عداوته حتى يدينوا بدين الحق ويقروا لحكم الكتاب.

    ثم يختم الصديق خطبته لهم: حفظ الله لكم دينكم وهدى قلوبكم وزكي أعمالكم ورزقكم أجر المجاهدين الصابرين".

    وهنا نلمح ملحمًا رائعًا عند الصديق t، وهو حسن الظن بالمؤمنين، وذلك سيرًا على منهج رسول الله ، الذي قال فيما يرويه ابن ماجة وأحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه، وضعفه الألباني عن أبي سَعِيدٍ الخدري t: "إِذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسَاجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالإِيمَانِ"، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [التوبة: 18].

    كما يوضح الصديق t أن الجهاد في الإسلام ليس فقط للدفاع عن الإسلام من القوى الخارجية، ولكن لتحرير الشعوب من حكامهم المستبدين، ونشر دين الله في الأرض، ثم ترك حرية الاختيار لهم بعد ذلك.

    وهكذا نرى الصديق t رقيقًا في التعامل مع الجنود المسلمين، حتى وإن كان من حقه الإمرة عليهم، وتوجيه الأوامر المباشرة،ويجب عليهم طاعته..
    وهكذا يجب أن يكون كل والٍ على أي أمر من أمور المسلمين، يجب أن يتحلى برقة الطبع، والرقة في الطلب، وذلك يشمل المسئول في عمله، كما يشمل الرجل في أهل بيته، انطلاقًا من قول رسول الله : "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته". الحديث.

    وبعث بهذا الكتاب مع أنس بن مالك t الذي يروي ما كان من أمر هذه الرسالة إذ يقول: (أتيت أهل اليمن جناحًا جناحًا وقبيلة قبيلة أقرأ عليهم كتاب أبي بكر، وإذا فرغت من قراءته قلت:

    الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله. بسم الله الرحمن الرحيم، أما بـعد.

    فإني رسول خليفة رسول الله ، ورسول المسلمين إليكم. ألا وإني قد تركتهم مُعَسكِرِين ليس يمنعهم من الشخوص إلى عدوهم إلا انتظاركم، فعجلوا إلى إخوانكم، رحمة الله عليكم أيها المسلمون, يقول: فكان من أقرأ عليه ذلك الكتاب،ويسمع مني هذا القول يحسن الرد علي، ويقول: ونحن سائرون، وكأنا قد فعلنا، حتى انتهيت إلى ذي الكلاع، فلما قرأتُ عليه الكتاب، وقلت هذا المقال دعا بفرسه وسلاحه، ونهض في قومه من ساعته، ولم يؤخر ذلك، وأمر بالمعسكر، فما برحنا حتى عسكر وعسكر معه جموع كثيرة من أهل اليمن، وسارعوا، فلما اجتمعوا إليه قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي ، ثم قال: "أيها الناس، إن من رحمة الله إياكم، ونعمته عليكم أن بعث فيكم رسولاً، وأنزل عليكم كتابًا فأحسن عنه البلاغ، فعلَّمكم ما يرشدكم ونهاكم عما يفسدكم، حتى علمكم ما لم تكونوا تعلمون، ورغبكم فيما لم تكونوا ترغبون، ثم دعاكم إخوانكم الصالحون إلى جهاد المشركين، واكتساب الأجر العظيم، فلينفر من أراد النفير معي الساعة".

    وهنا يبدو لنا في موقف ذي الكلاع الحميري t، أنه سارع مباشرة في تنفيذ أمر أنس بن مالك، وطاعة خليفة المسلمين، ذلك أن المسلم مأمورٌ ليس بفعل الخير فحسب، بل مأمورٌ بالمسارعة إليه والقيام إليه دون تكاسل أو توانٍِ؛ فالمسارعة في الخيرات هي أسلوب القرآن الكريم دائمًا: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].

    أبو بكر يودع الجيش قبل تحركه:
    بدا لأبي بكر أن ينصرف إلى المدينة، فقام في الجيش، فحمد الله وأثنى عليه، ثم أمرهم بالمسير، وبشرهم بالفتح، وقال: "حتى تبنوا فيها المساجد، فلا يعلم أنكم تأتونها تلهيًا، والشام أرض شبيعة، يكثر لكم فيها من المطعم والمشرب، فإياكم والأشر، أما ورب الكعبة لتأشرنَّ، ولتبطرن، أوصيكم بتقوى الله ، ولا تهدموا بيتًا ولا بيعة، ولا تقطعوا شجرًا مثمرًا، ولا تعقروا بهيمة إلا لأكل، ولا تحرقوا نخلاً ولا تعزقوه، ولا تعصوا، ولا تجبنوا".

    ونلاحظ أن الصديق t يوصي الجيش بمثل ما وصى به قائده، حتى يقول لهم: "إذا أنا انصرفت من مقامي هذا فاركبوا ظهوركم (أي خيولكم) ثم صفوا إليَّ صفًّا واحدًا حتى آتيكم" فمرَّ على أولهم، حتى أتى على آخرهم يسلم عليهم جميعًا!!

    كم يستغرق وقت ذلك التوديع المهيب من خليفة المسلمين، وأعلى قيادة في الدولة لهذا الجيش الأول الخارج لحرب إحدى أعظم قوتين في العالم آنـذاك؟!

    فإذا كان الجيش قد بلغ 7 آلاف وخمسمائة مجاهد فلا بد أن ذلك استغرق من أبي بكر t وقتًا كبيرًا (قد يصل إلى 10 ساعات!!)، وكل ذلك من أجل رفع الروح المعنوية للجيش المسلم، وتقوية رصيده الإيماني حتى يهجموا على الروم هجمة واحدة بعون الله..

    وهكـذا سار يزيد بجنده إلى الشام، فكان أبو بكر يدعو في كل يوم غدوة وعشيًّا بعد صلاة الفجر، وبعد صلاة العصر، فيقول: (اللهم إنك خلقتنا ولم نك شيئًا، ثم بعثت إلينا رسولاً رحمة منك لنا، وفضلاً منك علينا فهديتنا وكنا ضُلالاً، وحببت إلينا الإيمان وكنا كفارًا، وكثرتنا وكنا قليلاً، وجمعتنا وكنا أشتاتًا، وقويتنا وكنا ضعافًا، ثم فرضت علينا الجهاد، وأمرتنا بقتال المشركين حتى يقولوا: "لا إله إلا الله", ويعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون..

    اللهم إنا نطلب رضاك، ونجاهد أعداءك، من عدل بك وعبد معك إلهًا غيرك، تعاليت عما يقولون علوًّا كبيرًا، اللهم فانصر عبادك المسلمين على عدوك من المشركين، اللهم افتح لهم فتحًا يسيرًا، وانصرهم نصرًا عزيزًا، واجعل لهم من لدنك سلطانًا نصيرًا، اللهم شجع جبنهم، وثبت أقدامهم، وزلزل بعدوهم، وأدخل الرعب في قلوبهم، واستأصل شأفتهم، واقطع دابرهم، وأَبِدْ خضراءهم، وأورثنا أرضهم وديارهم وأموالهم، وكن لنا وليًّا وبنا حفيًّا، وأصلح لنا شأننا كله، ونياتنا وقضاءنا وتبعاتنا، واجعلنا لأنعمك من الشاكرين، واغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات.. الأحياء منهم والأموات، ثبتنا الله وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخـرة إنه بالمؤمنين رءوف رحيم".

    وجَدَّ القوم في السير، فقال ربيعة بن عامر: ما هذا السير يا يزيد؟ وقد أمرك أبو بكر أن ترفق بالناس في سيرك، فقال يزيد: يا عامر إن أبا بكر t سيعقد العقود ويرسل الجيوش فأردت أن أسبق الناس إلى الشام, فلعلنا أن نفتح فتحًا قبل تلاحق الناس بنا فيجتمع بذلك ثلاث خصال: رضاء الله ، ورضاء خليفتنا، وغنيمة نأخذها. فقال ربيعة: فَسِرِ الآن ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم, قال: فأخذ القوم في السير على وادي القرى ليخرجوا على تبوك ثم على الجابية إلى دمشق.

    وكان خروج يزيد من المدينة في 23 رجب 12هـ، في حين كان خالد بن الوليد وعياض بن غنم يحاصران دومة الجندل ضمن عملياتهما في فتح العراق, وما لبثت دومة الجندل أن سقطت في يد خالد في 24 من رجب، ولا شك أن ذلك كان له أثر في تأمين الطريق من المدينة إلى الشام، وقد كانت دومة الجندل محاصرة منذ أوائل ذلك العام.

    سار يزيد بجيشه من المروة سالكًا طريق تبوك كما أمره أبو بكر، وكانت تبوك على نشز مرتفع في سهل رملي بين جبل حسمى إلى الغرب، وجبل شرودي في شرقيها، وعلى الحدود الشمالية لبلاد العرب، ومن بعدها تبدأ حدود الدولة الرومية..

    ويمتد الطريق من المدينة إلى تبوك، ومنها إلى ذات المنازل.. وهو طريق شاق وصفه ابن بطوطة بأنه طريق وعر، ليس يسيرًا السير فيه، ولكن يزيد سار بجيش المسلمين فيه، ووصل إلى البلقاء فنزلهـا، وانتظر أوامر أبي بكر.

    وصية أبي بكر ليزيد:
    وقام أبو بكر الصديق t من ساعته يمشي على قدميه وحوله جماعة من الأصحاب منهم عمر وعثمان وعلي y أجمعين، وخرجوا إلى ظاهر المدينة، ووقع النداء في الناس، فكبروا بأجمعهم فرحًا لخروجهم وأجابتهم الجبال لدوي أصواتهم، وعلا أبو بكر على دابته حتى أشرف على الجيش فنظر إليهم قد ملأوا الأرض فتهلل وجهه، وقال: اللهم أنزل عليهم الصبر، وأيدهم، ولا تسلمهم إلى عدوهم {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26].

    وكان أول من دعاه أبو بكر t يزيد بن أبي سفيان، وعقد له راية وأمَّره على ألف فارس من سائر الناس، ودعا بعده رجلاً من بني عامر بن لؤي يقال له: ربيعة بن عامر، وكان فارسًا مشهورًا في الحجاز فعقد له راية وأمره على ألف فارس، ثم أقبل أبو بكر t على يزيد بن أبي سفيان، وقال له: هذا ربيعة بن عامر من ذوي العلا والمفاخر قد علمت صولته وقد ضممته إليك، وأمَّرْتُك عليه؛ فاجعله في مقدمتك، وشاوره في أمرك ولا تخالفه؛ فقال يزيد: حبًّا وكرامة.

    وأسرعت الفرسان إلى لبس السلاح، واجتمع الجند، وركب يزيد بن أبي سفيان، وربيعة بن عامر، وأقبلا بقومهما على أبي بكر t؛ فأقبل يمشي مع القوم؛ فقال يزيد: يا خليفة رسول الله الناجي من غضب الله من رضيت عنه، لا نكن على ظهور خيولنا، وأنت تمشي فإما أن تركب وإما أن ننزل. فقال: ما أنا براكب وما أنتم بنازلين، وسار إلى أن وصل إلى ثنية الوداع فوقف هناك؛ فتقدم إليه يزيد فقال: يا خليفة رسول الله أوصنا، فقال أبو بكر t:

    يا يزيد إني أوصيك بتقوى الله وطاعته، والإيثار له والخوف منه، إذا سرت فلا تضيق على نفسك، ولا على أصحابك في مسيرك، ولا تغضب على قومك ولا على أصحابك، وشاورهم في الأمر، واستعمل العدل، وباعد عنك الظلم والجور؛ فإنه لا أفلح قوم ظلموا، ولا نُصِروا على عدوهم، وإذا لقيتم القوم {فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 15، 16]، وإذا أظفرك الله عليهم فلا تَغلُل ولا تمثل ولا تغدر ولا تجبن ولا تقتلوا ولدًا ولا شيخًا ولا امرأة ولا طفلاً، ولا تعقروا بهيمة إلا بهيمة المأكول، ولا تغدروا إذا عاهدتم ولا تنقضوا إذا صالحتم، وستمرون على قوم في الصوامع رهبانًا يزعمون أنهم ترقبوا في الله، فدعوهم ولا تهدموا صوامعهم.

    (وهكذا تكون فتوحات المسلمين دائمًا، يحرص المسلمون كل الحرص على ألا يؤذوا المدنيين، ولا يلحقوا الضرر بالمصالح العامة للمدن والبلاد المفتوحة، حتى إن تاريخ حروب المسلمين كله لم يُذكر فيه قتل لأي شيخ (إلا ما كان في موقعة الشيخ في فتوح فارس، لأنه كان قائد جيش الفرس) ولم تقتل النساء أبدًا، إلا المرة الوحيدة التي قُتلت فيها امرأة، كانت التي وضعت السم لرسول الله في فتح خيبر؛ لأنها قتلت بذلك السم أحد الصحابة..

    أما المدنيون الذين لا يحاربون المسلمين، ولا يمنعونهم من إيصال دعوة الله إلى الناس، فلا يقاتلهم المسلمون أبدًا عملاً بقوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] وكذلك يحرص الخليفة t على أن ينبههم إلى عدم قطع النخل والشجر، لأن ذلك يضر بالمصلحة العامة، ولم يحدث أن قطع المسلمون نخلاً أو شجرًا إلا ما كان للضرورة في غزوة بني النضير عندما اضطر المسلمون لحرق النخل؛ لأن اليهود كانوا يستخدمونها في حربهم، ولأن ذلك يفت في عضد الجيش الضخم الكبير.

    ثم يواصل الصديق وصيته: "وستجدون قومًا آخرين من حزب الشيطان وعبدة الصلبان، قد حلقوا أوساط رءوسهم حتى كأنها مناحيض العظام (هؤلاء يحرضون على قتال المسلمين)، فاعلوهم بسيوفكم حتى يرجعوا إلى الإسلام أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فإذا لقيتم العدو من المشركين إن شاء الله، فادعوهم إلى ثلاث خصال، فإن أجابوكم فاقبلوا منهم، وكفوا عنهم، ثم ادعوهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن هم فعلوا فأخبروهم أن لهم مثل ما للمهاجرين (المجاهدين)، وعليهم ما على المهاجرين، وإن هم دخلوا في الإسلام، واختاروا دارهم على دار المهاجرين، فأخبروهم أنهم كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي فرض على المؤمنين، وليس لهم في الفيء والغنائم شيء حتى يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا أن يدخلوا في الإسلام، فادعوهم إلى الجزية، فإن هم فعلوا، فاقبلوا منهم، وكفوا عنهم، وإن هم أبوا فاستعينوا بالله عليهم، فقاتلوهم إن شاء الله, ولينصرن الله من ينصره ورسله بالغيب, وقد استودعتكم الله، وعليكم سلام الله ورحمته".

    تابعونا فى التالى ....
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: فتوحات الشام

    مُساهمة من طرف صادق النور الأحد أكتوبر 30, 2011 11:18 am

    فتوحات الشام 1738_image002

    خروج جيش أبو عبيدة وشرحبيل إلى الشام.....

    بعد أن خرج جيش يزيد إلى الشام في 23 من رجب عام 12هـ أرسل الصديق t المدد له حتى بلغ قوام الجيش في علياء نحو 7500 مقاتل, وواكب ذلك سقوط "دومة الجندل" في يد خالد بن الوليد t 24 من رجب, وبذلك تم تأمين طريق المسلمين إلى الشام, وبقيت القوة التي يرأسها خالد بن سعيد في تيماء, وبعد خروج يزيد بثلاثة أيام فقط أمر الصديق t بخروج الجيش الثالث لفتح الشام, والذي كان بقيادة شرحبيل بن حسنة t.
    فأحضره الصديق, وأخذ يوصيه للقتال فقال له: أسمعت وصيتي إلى يزيد بن أبي سفيان. قال له: نعم. قال: فإني أوصيك بمثلها, غير أني قد سهوت عن بعض الأمور فإني أحدثك إياها, ويبلغها من يبلغها بعد ذلك إلى يزيد, فقال له: أوصيك بالصلاة على وقتها ويظهر من هذا الموقف أن المسلمين كانوا يحرصون على الصلاة على وقتها, حتى في أحلك المواقف, فإنهم كانوا يجمعون الظهر بالعصر. والمغرب مع العشاء. بحيث لا يفوتهم وقت الصلاة, ويصلون الصبح قبل طلوع الشمس دائمًا, حتى أنهم عندما فاتتهم صلاة الصبح في فتح تستر, وكانوا آنذاك على أبواب الفتح, وكان أمامهم إما حرب الفرس والفتح, وإما صلاة الصبح, فاختار أبو موسى الأشعري الدخول في الفتح, ثم ندم على ذلك ندمًا عظيمًا. وقال: لقد أضعت اليوم صلاة ما أود أن لي الدنيا جميعًا بهذه الصلاة, وهذا على الرغم من أن المسلمين كانوا مضطرين لفعل ذلك, وإلا لهاجمهم الفرس وقتلوهم..
    ثم قال له: وبالصبر يوم البأس حتى تظفر أو تقتل (فالمسلم دائمًا بين إحدى هاتين الحسنيين. إما النصر وإما الشهادة, فليس لديه الهزيمة ولا الفرار, وحتى إن فرَّ المسلم فإنما يفرُّ متحفزًا لقتال) ثم يوصيه بثلاث وصايا أخرى. وهي وصايا قد لا يتوقع أحد أن يُوصَى بها قائد معركة. يقول له: وبعيادة المرضى. وبحضور الجنائز (وللصديق t مغزى من ذكر ذلك الأمر؛ لأن هذا الجيش الكبير الذي سيخرج لملاقاة عدو خطير كالروم لا بد أنه سيكون فيه جرحى وقتلى كثيرون؛ فينبهه بوجوب عيادة هؤلاء المرضى وحضور جنائز من يُتَوفىَّ من الشهداء, وإذا كان هذا الأمر للمحارب, فلا شك أننا أولى به في أمور السلم) ثم الوصية الأخيرة: وذكر الله كثيرًا في كل حال (وقد علمنا من الحروب السابقة أن القائد كان يجعل لهم شعارًا يرددونه طوال الحرب, ويكون عادةً نوعًا من الذكر, يتواصى المسلمون به دائمًا).
    وكان أبو سفيان (والد يزيد t) حاضرًا تلك الوصية, فقال: رحمك الله يا أبا بكر, لقد كان يزيد بهذه الأمور مستوصيًا, وبها عاملاً قبل أن يسير إلى الشام, وهو الآن لها ألزم إن شاء الله. (فيطمئن الصديق على أن يزيدَ كان ينفذ ما في الوصية وهو في المدينة, ويطمئنه أنه لا شك سيأخذ بها أثناء حربه).
    ويخرج جيش شرحبيل بن حسنة t يوم 27 من المروة إلى مكان يسمى بصرى في شمال عمان, ويمر بنفس طريق يزيد ويتجاوز جيش يزيد في علياء, ويعسكر في منطقة بصرى كما وصف له الصديق t تمامًا, ويمكث في انتظار أوامر الصديق t.
    الروم يستعدون لمواجهة المسلمين :
    توجه خالد بن سعيد إلى منطقة الجابية وانضم إلى جيش أبي عبيدة, وسمع الروم عن استعدادات المسلمين لقتالهم, وأن هناك ثلاثة جيوش بدأت تحاصر الشام من الشرق والجنوب, وكان هرقل -قيصر الروم آنذاك- موجودًا في فلسطين. (وكان هرقل عندما وصلته رسالة رسول الله قد أخبرهم أن هـذا الرجل -أي رسول الله - على الحق, وأنه يجب أن نتبعه, ولكن البطاركة وأهل السطوة والنفوذ في الجيش رفضوا ذلك, وثاروا عليه, فتراجع عما قاله, وزعم أنه كان يختبر مدى ولائهم لدولة الروم), ولم يستجب لرسول الله, ففي قلبه منذ ذلك الحين شعور أن هذا الجيش الإسلامي القادم جيش منصور؛ لأنه على الحق, فكان يخشى ملاقاته..
    ولذا قرر أنه لن يقاتل المسلمين, وقال لهم: إني أرى أنه لو قاتلنا هؤلاء القوم لغلبونا على الشام, ولقاتلونا على جبال الروم. (أي أنه يخشى أن ينتصر المسلمون عليهم فيأخذوا الشام, ويصلوا إلى حدود دولة الروم) قال: فأرى أن نقسم معهم الشام, فنصف الأرض أحسن من ضياعها, لكن حاشيته وقادته ثارت عليه, ورفض أخوه ذلك الأمر, وطالبوه بالحرب.
    فلما لم يجد هرقل أي استجابة منهم لرأيه وافق على الحرب, وبدأ يحمس الناس على حرب المسلمين, على الرغم من يقينه بأن هذه المعارك خاسرة.
    قام قيصر الروم بإلقاء خطبة فيهم في بيت المقدس فقال: "يا أهل هذا الدين (أي النصرانية, وهو يخاطبهم من منطلق ديني) إن الله قد كان إليكم محسنًا, وكان لدينكم معزًّا وله ناصرًا على الأمم الخالية وعلى كسرى والمجوس والترك الذين لا يعلمون, وعلى من سواهم من الأمم كلها, وذلك أنكم كنتم تعملون بكتاب ربكم, فلما بدلتم وغيرتم أطمع ذلك فيكم قومًا ما كنا نعتدهم, ولا نخاف أن نُبتلى بهم, وقد ساروا إلينا حفاة عراة جياعًا, أخرجهم إلى بلادكم قحط المطر, وجدوبة الأرض, وسوء الحال, فسيروا إليهم فقاتلوهم عن دينكم وعن بلادكم وعن نسائكم وأولادكم", فهذه خطبة قيصر الروم, نلاحظ أنه يغلب على أكثر ما قال الصحة, وخاصة ما يتعلق بـ "كنتم تعملون بكتاب ربكم فلما بدلتم وغيرتم أطمع فيكم أقوامًا", إذ يرى قيصر الروم أن القوم إذا عملوا بكتاب الله نصرهم الله, وهذا صحيح تمام الصحة, وإذا بدلوا وغيروا فإن الله سبحانه يمكن منهم أي قوم آخرين, حتى وإن كانوا أضعف منهم وأقل عدة, وحتى إن كانوا من قبلُ أذلاء لا يُعتد بهم مطلقًا..
    ونجد هذا الأصل باقيًا عندنا في الإسلام, وقد حضَّ عليه رسول الله كثيرًا, إذ قال: "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم, كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها", قالوا: أومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: "بل أنتم يومئذٍ كثير, ولكنكم غثاء كغثاء السيل, ولينزعن الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم, وليقذفن في قلوبكم الوهن", قالوا: وما الوهن يا رسول الله: قال: "حب الدنيا وكراهية الموت". رواه الترمذي من حديث ثوبان t.
    فها هو رسول الله يقول أننا إذا اتبعنا كتاب الله وسنة رسوله كتبت لنا الغلبة على كل الشعوب, أما إذا بدلنا وغيرنا واتبعنا هوى أنفسنا, فإن ذاك سينزع المهابة من قلوب أعداء الله, ويضع فينا حب الدنيا وكراهية الموت (أي في سبيل الله), فليس المقصود أن نتمنى الموت, وإنما أن نكون زاهدين في الدنيا ومحبين للشهادة في سبيل الله, فإذا عظمت عندنا الدنيا عن الشهادة في سبيل الله, فهذا هو الوهن وهذا ما يمكن الأعداء مهما كانت قلتهم منا, (كما نرى عدد اليهود بالمقارنة بعدد المسلمين اليوم!) فهذا من ضعف المسلمين, وليس من قوة اليهود!!
    ولكن لديه جزء واحد فقط أخطأ في تقديره, وهو قوله عن المسلمين أنهم ساروا (حفاة عراة جياعًا, أخرجهم قحط المطر, وجدوبة الأرض, وسوء الحال!), فلم يكن هذا هو ما أخرج المسلمين قطعًا.
    فلم يخرج المسلمون أبدًا رغبة في رغد العيش في الشام أو رغبة في ثمار الشام, وإنما خرجوا لنصر الله ونشر دينه في الأرض, وتعبيد الناس لرب العالمين, وكان خلفاء المسلمين دائمًا يوصون قادتهم بألا يجعلوا الدنيا أبدًا في أعينهم, وأن يجعلوا الآخرة هي همهم الدائم.
    بعد تلك الخطبة ترك هرقل بيت المقدس فورًا وانطلق إلى دمشق, فألقى خطابًا مثل ذلك الخطاب في أهل دمشق يحمسهم على القتال, ثم خرج إلى حمص فخطب نفس الخطبة, ثم خرج من حمص إلى أقصى شمال الشام في أنطاكية وخطب فيها نفس الخطبة, وعسكر هناك, وجعلها مقره, فأتته جموع شتى.
    يقول الرواة (جموع لا يعلم عددها إلا الله) من كثرتها, ثم يقول القيصر بعد ذلك: وإني أعلم أن جيوش المسلمين إذا جمعت بكاملها تكون أقل من مدينة من مدن الروم (أي أنه يستقل بجيش المسلمين), ومع ذلك -يقول لهم- فإني ممدكم بالرجال حتى لا تستطيع أرض الشام أن تتحملهم. كل ذلكم كي يلقي الحمية في قلوب جيشه, ويجعلهم واثقين من النصر.
    ( صورة لمواقع الروم، ومواقع المسلمين ).
    الصِّدِّيق يرسل المدد :
    بدأ الصديق t في إنفاذ وعده, فاستحث المسلمين على الخروج مرة أخرى, واستحضر اثنين من القادة العظماء هما: هاشم بن عتبة بن أبي وقاص[1], وسعيد بن عامر.
    فيخرج مع هاشم ألف مقاتل يرسلهم أبو بكر إلى جيش أبي عبيدة بن الجراح ويوصيه أبو بكر t, فيقول له: يا هاشم, إنه من حظك, ومن كرم الله عليك أن يجعل المسلمين يستعينون بك, فعش مجاهدًا في سبيل الله.
    ثم يوصيه سعد بن أبي وقاص t, فيقول: يا ابن أخي, لا تضرب ضربة بسيف ولا طعنة برمح إلا في سبيل الله, (أي يحثه على أن تكون نيته خالصة, وأن ينبذ الدنيا من أمامه), فيقول هاشم: وكيف أجعل يا عمي الدنيا في عيني, وقد علمت أني عائدٌ إلى ربي.
    ويخرج مع سعيد بن عامر سبعمائة ويرسله الصديق إلى جيش يزيد بن أبي سفيان t ويخرج في جيش سعيد بن عامر مؤذن رسول الله الصحابي الجليل بلال بن رباح t يريد أن يخرج للجهاد في سبيل الله, إلا أن أبا بكر الصديق t يسترجعه في أمر خروجه, إذ كان يريده أن يبقى معه في المدينة, فيقول له بلال: يا أبا بكر إن كنت قد أعتقتني[2] لأقعد معك بجانبك, فإني سأفعل, وإن كنت قد أعتقتني لله, فخلِّ بيني وبين الجهاد في سبيل الله.
    فيقول له الصديق t: والله إني ما أعتقتك إلا لله, ولكني أريدك أن تؤذن للمسلمين, وإني أستأنس برأيك ومشورتك, فيقول بلال: فإن هواي في الجهاد. فيقول له أبو بكر: إذًا اخرج للجهاد في سبيل الله, فيخشى بلال أن يكون قد أجبر خليفة رسول الله على رأي لا يريده, فيقول: إن شئت بقيت معك, فيقول له أبو بكر: لا. بل اخرج للجهاد في سبيل الله, ولكني أودعك وداعًا, فلعلي لا ألقاك بعده إلا في يوم البعث! ويودعه. (ويحدث ما توقعه الصديق, إذ لا يرى بلالاً بعد ذلك في الدنيا رضي الله عنهما).
    فيخرج سعيد بن عامر t بقيادة الجيش, ويخرج معه بلال t وأرضاه يجاهد في أرض الشام.
    خرج أيضًا من المسلمين حمزة بن مالك t على رأس ألفي مقاتل من المسلمين جاءوا من همذان, وخرجت جموع أخرى كثيرة مددًا للمسلمين كما وعد أبو بكر الصديق.
    استكمل الجيش الإسلامي عدته في أرض الشام, وجمُِعت بعضُ القوات الرومية في غزة, وتقدمت هذه القوات بقيادة سرجيوس أحد كبار القادة الرومان, وتوجهت خلف الجيش الإسلامي, حتى تقاتل المسلمين من الخلف!!!
    فماذا كان ردُّ فعل المسلمين على هذا الالتفاف الرومي؟ هذا ما سنعرفه في المقال القادم إن شاء الله.
    خروج جيش أبي عبيدة t:
    بعد نحو 10 أيام من خروج جيش شرحبيل t يأمر الصديق بخروج جيش أبي عبيدة, وكان فيهم قيس بن مكشوح أحد الذين ارتدوا مرتين: في حياة الرسول ثم عاد، وبعد وفاته مرة أخرى ثم عاد إلى الإسلام.
    وقبل الصديق أن يخرج في جيش المسلمين إلى الشام, لما رأى له من المكانة والرأي والبأس, وكان قد اطمئن لمكانته وإسلامه, وكان يخشى أن يكون في صدر أبا عبيدة مأخذًا عليه, أو ألا يستعين به في القتال, فذهب إلى أبي عبيدة, وقال له: إنه قد صحبك رجل عظيم الشرف, فارس من فرسان العرب, ليس للمسلمين غناء عن رأيه ومشورته وبأسه في الحرب, فأدنه, وأره أنك غير مستغنٍ عن رأيه ولا مستهين بأمره, فإنك تستخرج بذلك نصيحته لك وجهده وجده على عدوك.
    ثم يقول لقيس: إني بعثتك مع أبي عبيدة بن الجراح الأمين الذي إذا ظُلِم لم يظلم, وإذا أُسِيءَ إليه غفر, وإذا قُطِعَ وصل (وهو هنا يعظم له من شأن أبي عبيدة بما فيه من خصائل حميدة, وذلك حتى لا يعلو على أمره, ولكي يستجيب لتعليماته؛ لأن قيسًا كان من كبار الناس في الجاهلية, وخشي الصديق أن يختلف مع أبي عبيدة.. وجدير بالذكر أن تلك الصفات يجب أن يتحلى بها كل مسلم. ولكن الأجدر بها هو من يملك زمام الأمور؛ لأنه إذا كانت عنده القدرة على الظلم فظلم فإن لذلك مضار كثيرة على المسلمين, أما من لا يملك السلطة فإن قدرته على الظلم ستكون ضعيفة) رحيم بالمؤمنين, شديدٌ على الكافرين، فلا تَعْصينَّ له أمرًا ولا تخالفنَّ له رأيًا, فإنه لن يأمرك إلا بخير, وقد أمرته أن يسمع منك. (يشير له أنه لم يغفل مكانته عند أبي عبيدة, وأنه عظَّم من شأنه) فلا تأمره إلا بتقوى الله, فإنا كنا نسمع أنك شريفٌ ذو بأس, سيد مجرب في زمان الجاهلية, فلا تنصحه إلا بخير فإنه سيسمع لك, فاجعل بأسك وشدتك ونجدتك في الإسلام على المشركين, وعلى من كفر بالله وعبد معه غيره, فقد جعل الله في ذلك الأجر العظيم والثواب الجزيل.
    فيقول قيس بن مكشوح وقد انشرح صدره من هذه الكلمات: إن بقيت وأبقاك الله, فسيبلغك عني من حيطتي للمسلمين, وجهدي على الكافرين ما تحب, وتُسَرُّ إن شاء الله رب العالمين.
    وقد كان على عهده t وأبلى بلاءً حسنًا في حروب الشام, وقال أبو بكر t بعد أن رأى له بعض المواقف المشهودة في فتح الشام, قال: صدق قيس بن مكشوح.
    ثم يقول أبو بكر لأبي عبيدة: إنك تخرج في أشراف الناس, وبيوتات العرب, وصلحاء المسلمين وفرسان الجاهلية, كانوا يقاتلون قبل ذلك على الحمية, وهم يقاتلون اليوم على النية الحسنة, أَحْسِنْ صحبة من صحبك, وليكن الناس عندك في الحق سواء.
    ثم يوصيه وصية أخرى بعد أن ولىَّ بكلمات كأنها الوداع الأخير له (لأن أبا بكر قد توفاه الله قبل أن يعود أبو عبيدة بجيشه) يقول له: "يا أبا عبيدة, اعمل صالحًا, وعش مجاهدًا, وتوفَّ شهيدًا, يعطك الله كتابك بيمينك, وتقر عينك في دنياك وآخرتك, فوالله إني لأرجو أن تكون من التوابين الأوابين المخشعين الزاهدين في الدنيا, والراغبين في الآخرة, إن الله قد صنع بك خيرًا, وساقه إليك إذ جعلك في جيش من المسلمين إلى عدوه من المشركين, فقاتل من كفر بالله وأشرك معه غيره".
    وهي وصية جامعة من أبي بكر الصديق t إلى أبي عبيدة الجراح رضي الله عنهما يجب أن نحفظها جيدًا ونتذكرها جيدًا ,ونتوقف هنا عندها قليلاً:
    يقول له: "اعمل صالحًا" وهذا جُمَّاع كل خير, أن يعمل المرء الأعمال الصالحة في حياته, ولن يقبل الله سبحانه منا مجرد النيات, وإنما يقبل العمل الصالح الموافق لسنة رسول الله , وأفضل هذا العمل الجهاد في سبيل الله؛ لذلك يقول له: "عش مجاهدًا".
    فضل الجهاد والشهادة:
    وفي فضل الجهاد والشهادة في سبيل الله يروى عن التابعيِّ الجليل عبد الله بن المبارك رحمه الله أنه عندما كان يجاهد في بلاد الشام أتته رسالة من الفضيل بن عياض -وكان مجاورًا بالحرمين الشريفين، ويلقب بعابد الحرمين- يدعوه فيها إلى المجاورة معه؛ فأراد أن يعرفه أن الاعتكاف -على عظم أجره- لا يُقارن بالجهاد في سبيل الله؛ فأرسل إليه قائلاً:
    يا عابد الحرمين لو أبصرتنا *** لعلمت أنك بالعبادة تلعب
    من كان يخضب خده بدموعه *** فنحورنا بدماءنا تتخضب
    أو كان يتعب خيله في باطل *** فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
    ريح العبير لكم ونحن عبيرنا *** وهج السنابك والغبار الأطيب
    ولقد أتانا من مقال نبـينا *** قول صحيح صادق لا يكـذب
    لا يستوي غبار خيل الله في *** أنف امرئ ودخان نار تلهب
    هـذا كتاب الله ينطق بيننا *** ليس الشهيد بميـت لا يكذب
    ويسمع الفضيل ذلك فتذرف عيناه, ويقول: صدق أبو عبد الرحمن. ثم قال لمن جاءه بالرسالة: أأنت ممن يكتب الحديث؟ قال: نعم. قال له: فاكتب هذا الحديث.
    [1] ابن أخِ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما.
    [2] حينما كان في مكة. واشتراه أبو بكر. ثم أعتقه.

    تابعونا بارك اللة فيكم ...
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: فتوحات الشام

    مُساهمة من طرف صادق النور الأحد أكتوبر 30, 2011 11:20 am

    فتوحات الشام 1739_image002

    خروج جيش عمرو بن العاص ألى الشام....

    بعد أن وصلت الجيوش الإسلامية إلى منطقة الأردن وسوريا جنوب دمشق بنحو 50 كلم، لم يحدث أي نوع من القتال، وتجمع جيش رومي قوامه 3 آلاف مقاتل من غزة، بقيادة سرجيوس، أراد أن يلتف حول المسلمين من الخلف حتى يفاجئهم، ويقطع المدد القادم من المدينة المنورة جنوبًا، فاتجه إلى منطقة العربة جنوب البحر الميت، وكانت عيون المسلمين منتشرة في المكان، فاستطاعت أن تنقل ما حدث إلى أبي عبيدة بن الجراح t، فأمد جيش يزيد الذي كان قوامه 3 آلاف مقاتل بألف من المجاهدين من جيش شرحبيل بن حسنة فأصبح جيش يزيد 4 ألاف مقاتل، وأمره بالتوجه إلى العربة، قبل أن يتخطاها جيش سرجيوس، ودار بين الفريقين قتالٌ عنيف، وكان النصر-بفضل الله - للمسلمين.
    ولا تُّعدُّ هذه الموقعة من المواقع الكبرى في حروب المسلمين مع الروم، إذ إنها بين قوة إسلامية أكبر من قوة الروم (4 آلاف من المسلمين، يواجهون 3 آلاف من الروم) وعلى الرغم من هزيمة جيش الروم فيها، إلا أنه لم يُقتل منه الكثير، وفرَّ معظمه عائدًا إلى غزة، وفي اليوم التالي تتبع الجيش الإسلامي جيش الروم داخل الأراضي الفلسطينية، فقابله جيش الروم في منطقة داثنة شرق غزة، وحدث قتالٌ آخر، وانتصر فيه المسلمون أيضًا، وقتل من جيش الروم أحد قواده، وفر سرجيوس إلى بيت المقدس، ثم إلى دمشق شمالاً, وبعد انتصار المسلمين في العربة وداثنة عاد يزيد بن أبي سفيان بقواته إلى معسكره مرة أخرى.
    في الوقت ذاته يصل المدد الذي أرسله أبو بكر الصديق t إلى جيشي يزيد وأبي عبيدة، ثم يأتي بطاركة العرب (نصارى العرب الموجودن في المنطقة، وأكثرهم من قبائل غسان) وينضمون إلى جيش الروم، فزاد عدده مرة أخرى، وأرسل أبو عبيدة بذلك إلى الصديق طالبًا المدد..
    أسباب اختيار مسار الجيش:
    ولهذا الاختيار حكمته وأهدافه التي نحاول أن نبينها كما يلي:
    1- تواجدت الجيوش الإسلامية الثلاثة في شرق الشام حتى الآن (بين بصرى وعلياء جنوب دمشق) فلم يبق إلا جنوب الشام، الذي إن حوصر فإن الروم سيكونون بذلك محاصرين تمامًا، لأن البحر الأبيض المتوسط في الغرب، ولم يكن هناك حروب بحرية آنذاك!
    2- تأمين الجيش الإسلامي الموجود في شرق الشام، كان إحدى غايات الصديق من هذا الجيش، لأنه منذ أيام حدثت موقعتا العربة وداثنة، والتف جيش جرجيوس خلف الجيش الإسلامي، ولولا بعد نظر العيون الإسلامية المنتشرة في المكان لفوجئ جيش المسلمين بذلك الأمر، ولكن الله سلم، وبهذا الجيش يؤمَّنُّ الجيش الإسلامي الموجود في الشرق، ويقطع الطريق على الرومان من الالتفات خلفه مرة أخرى.
    3- يوجد في منطقة أيلة مسلمون من بعض البطون من قضاعة، وبعض القبائل الأخرى كجثام وهم لم يخرجوا للجهاد قبل ذلك، لا ضد الفرس ولا ضد الروم، فيمر بهم جيش عمرو بن العاص، لكي يحمسهم على الخروج للجهاد في سبيل الله، حتى يخرج منها من استطاع، ويعمل ذلك على زيادة الصف المسلم.
    4- كان لتغيير مسار الجيش الرابع أثر بالغ حتى لا يتمكن الروم من متابعة مسار الجيوش الإسلامية، ولا يرصدون خط سير المسلمين، (فإذا كانوا قد علموا بالجيوش الثلاثة، وأنها مرت من تبوك، فلا يعرفون أمر هذا الجيش لأنه مر من طريق مختلف تمامًا، وغير مأهول) على الرغم من أن هذا الطريق أشد وعورة وخطورة من الطريق الآخر المعروف المعتاد.
    موقعة مرج الصفـر ووضع المسلمين بعدها:
    في الرابع من محرم عام 13هـ، تصل الأخبار إلى المسلمين أن عددًا من الروم قد خرج من دمشق متجهًا لجيش أبي عبيدة لقتاله، وعرف المسلمون أنهم مجموعة قليلة، وليسوا جيشًا كبيرًا، فأخرج لهم أبو عبيدة فرقة من جيشه، بقيادة خالد بن سعيد t (الذي كان أبو بكر قد عينه قائدًا عامًّا على الجيوش ثم عزله لتسرعه في القتال بناءً على نصيحة عمر بن الخطاب) مع أهله وقبيلته وعشيرته مع بعض المسلمين لقتال الروم جنوب دمشق، والتقى معهم خالد t في مرج الصفر.
    وكان الروم بقيادة باهان في مجموعة من الجنود توازي مجموعة خالد بن سعيد t، فتسرع خالد t في قتالهم، (وهو لا يجيد التخطيط للحرب كما قال عنه عمر: ضعيف التروءة) دون أن يحمي ظهره.
    (كان خالد بن الوليد t، بعبقريته الفذة في القتال في حروب فارس -مثلاً- حريصًا كل الحرص على حماية ظهره حتى لا يلتف من خلفه أحد) فالتف جيش باهان الرومي حول المسلمين في مرج الصفر ففاجأهم وقاتلهم، وحدثت مقتلة عظيمة، قُتِلَ فيها كثير من المسلمين، واستشهد سعيد بن خالد بن سعيد في هذه المعركة، فلما قُتِلَ ابنه، تسرع خالد بن سعيد في الهروب t، فثبت بعض المسلمين مع سيدنا عكرمة بن أبي جهل وقاتلوا باهان حتى ردوه عن مرج الصفر، ولم يقتل عدد يذكر من جيش الروم، فَعُدَّتْ هذه هزيمة لجيش المسلمين، وهي أول هزيمة للمسلمين في الفتوحات بشكل عام.... (وظهر بذلك بُعْدُ نظر عمر t، حينما عارض أبا بكر في أن يقود خالد بن سعيد جيش المسلمين كله، وقال عنه: إنه ضعيف التروءة، وفعلاً ظهر ذلك في هزيمة تلك الفرقة أمام الروم) وأحدثت تلك الهزيمة هزة نفسية للمسلمين في الشام، وفي المدينة المنورة، إذ وصلت الأنباء لأبي بكر الصديق في المدينة، وحزن حزنًا شديدًا، وجمع حوله عمر بن الخطاب، ومستشاريه لكي يقيموا الأمر من جديد.
    وضع المسلمين آنذاك:
    - في الشام: انتصر المسلمون في العربة وداثنة، وهما موقعتان صغيرتان، وخسروا في مرج الصفر، جيش أبو عبيدة (7 آلاف مقاتل)، جيش شرحبيل (7 آلاف مقاتل), جيش يزيد (7 آلاف مقاتل )، جيش عمرو بن العاص (3 آلاف مقاتل), أي أن جيش المسلمين بالشام 24 ألف مقاتل, خرجوا في رجب 12هـ، وهم الآن محرم 13هـ، أي أنهم قد أمضوا (5 أشهر) داخل الشام..
    - في فـارس: عين أبو بكر جيشين لفتح العراق من الجنوب بقيادة خالد بن الوليد، ومن الشمال مرورًا بدومة الجندل بقيادة عياض بن غنم، وقد مر عليهما عام في قتال الفرس، التقى فيها خالد مع الفرس في موقعة كاظمة (المعروفة بذات السلاسل) وانتصر عليهم، ثم فتح الحيرة (9 مواقع في شهرين حتى فتح الحيرة)، وبينما استعصت دَوْمَة الجندل على عياض بن غنم، تقدم خالد أيضًا وفتح الأنبار، وعين التمر، وانتصر (18 ألف ضد 100 ألف من فارس)، ثم أُمِرَ أن يذهب لنجدة عياض بن غنم في دومة الجندل, فذهب إليه بـ9 آلاف، وانتصر على الفرس هناك بعد يومين من وصوله، وفتح دومة الجندل, كان ذلك في 24 رجب 12هـ..
    حقق جيش خالد بن الوليد انتصاراتٍ متتالية في فارس، حتى دانت له السيطرة غرب الفرات دون قتال، وغدا مالكًا لكل أرض العراق حتى نهر دجلة، كل ذلك في أقل من سنة, إنجازٌ لا يتخيله عقل مما جعل الصديق t يفكر في إرسال خالد لقيادة قوات المسلمين في الشام، وكان عمر t يرفض ذلك، ويرى عزل خالد، حتى لا يقترن النصر في أذهان المسلمين بشخص خالد بن الوليد t.
    ولكن أبا بكر اتخذ قرارًا حاسمًا بنقل سيدنا خالد من العراق لقيادة جيوش المسلمين في الشام..
    الصديق يبحث عن المدد:
    نفد الرجال عند الصديق t (بعد أن أرسل كل من كان عنده من الرجال في المدينة، وبعد أن استعان بأهل اليمن، فقرر الاستعانة بأهل مكة، الذين يُعدُّون حديثي عهد بالإسلام (أسلموا في فتح مكة، العام الثامن للهجرة)، وكانوا قادة الكفر في الجاهلية، فكانت استعانة المسلمين بهم يجب أن تكون على حذر، وقبل أن يرسل لهم الصديق رسالة للاستعانة بهم، كانوا يفكرون -من تلقاء أنفسهم- في الخروج للجهاد في سبيل الله، ويعدون لذلك العدة، وأراد الصديق t أن يستفيد من خبرتهم في التعامل مع الروم (في رحلات التجارة) في كيفية حربهم، بعد أن اطمأنَّ الصديق لإسلامهم، فتحدث إلى عمر بن الخطاب t، أن يرسل إلى رءوس القبائل الموجودة بمكة، حتى يعقدوا مجلسًا للشورى في كيفية إدارة القتال داخل أرض الروم، لكن عمر رفض ذلك، وأصرَّ على ألا يستشيرهم الصديق، وقال: إنا كنا منذ قليل نقاتلهم، وكانوا يقاتلوننا، وكانوا يعبدون من دون الله آلهة أخرى، فكيف إذا نصرنا الله عليهم، وجاءت الغنيمة، جئنا بهم نستشيرهم؟ فليس من العدل أن تقدم هؤلاء على قدامى المسلمين من المهاجرين والأنصار (فكان عمر يرى أن الأولى بالمشورة، والأولى بالنصيحة هم هؤلاء المهاجرون والأنصار، ما دامت لديهم الحكمة، والخبرة في القتال، ولا نقدم عليهم الذين أتوا بعدهم، وكانوا مقاتلين لرسول الله لأمد طويل) فوافقه أبو بكر رأيه، وقال: إن كان ذلك فنعم. (وهذا من طبع الصديق t، أنه لين الجانب، حسن الظن بالمسلمين، فيريد أن يستشيرهم، ولكن عمر ينظر إلى الأمر من زاوية العدل، والعدل يقتضي ألا يضيع حق من سبقوا بالإسلام).
    وصل ذلك إلى سادة القبائل في مكة، وعلموا أن أبا بكر كان يريد أن يستشيرهم، وأن عمر رفض ذلك، فقال الحارث بن هشام (وهو من كبار سادات قريش): إن عمر بن الخطاب في شدته علينا قبل أن نسلم كان مصيبًا، أما الآن فلا نراه إلا قاطعًا (يقصد قاطعًا للرحم) فرأى أن يجمع وفدًا منهم، ويذهبوا إلى الصديق لكي يعرضوا عليه ذلك الأمر، وكان هو على رأس هذا الوفد، ومعه سهيل بن عمرو, وهو من أحكم العرب في الجاهلية والإسلام.
    موقف مُسْلِمَة الفتح:
    وصل الوفد إلى أبي بكر، وكان عمر بن الخطاب t عنده، فقالوا له: أما أنت فقد برئت ذمتك منا، أما أنت يا عمر فلا نراك إلا قاطعًا.
    فقال عمر: والله ما فعلت ذلك إلا عدلاً، وإني لأُفَضِّلُ من هو أفضل منكم.
    فلم يكن من سهيل بن عمرو t إلا أن قال يخاطب أهل المجلس كله بما فيه من المهاجرين والأنصار: فإن قلتم إنما فَضَلْتُمُونا بالجهاد في سبيل الله، فوالله لنستكثرنَّ منه (أي من الجهاد)، وأشهدكم أني حبيسٌ في سبيل الله، ووالله لأقفنَّ مكان كل موقف وقفته على حرب رسول الله موقفين على أعداء الله، ولأنفقن مكان كل نفقة أنفقتها على حرب رسول الله، نفقتين في سبيل الله، وهي منتهى الحكمة من هذا الصحابي الجليل t، إذ إنه t يعلم أن المهاجرين والأنصار يفضلون أهل مكة في كل شيء، في الصلاة والصيام والزكاة والذكر والطاعة، ويفضلونهم في الجهاد، ولكنه يعلم أن هذا الجهاد هو الذي رفع درجتهم عاليًا, وخَصَّ الجهاد؛ لأنه ذروة سنام الإسلام.
    ومن حكمته أنه وجه حميته توجيهًا صحيحًا، فلم ينطلق للتحدي، أو الانتصار لنفسه، ولكنه قال إنه سينافسهم فيما فضلوه فيه، ونأخذ من حديثه أيضًا المسارعة في الخيرات، وأنه إذا حدثتك نفسك بخير، فلا تؤخر ذلك الخير، فها هو سهيل يتمنى لو كان قد أسلم مع المهاجرين منذ البداية، ولكن هيهات!!... والله يقول: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد: 21]، ويقول في صفة أهل الإيمان: {كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء: 90], ويقول: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاَّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10], فمن ينفق في وقت الضعف والحصار، أعظم ممن ينفق في وقت العز والتمكين، وكذلك من يجاهد في حالة الضعف أعظم ممن يجاهد بعد أن استقرت الأمور وأصبح الإسلام قويًّا..
    (ولا شك أن سهيل بن عمرو t يتذكر الآن ما حدث بينه وبين رسول الله، حينما كان يحارب رسول الله في صفوف المشركين، فسهيل هو الذي وقف لرسول الله في صلح الحديبية، وكان يعترض على ما يكتبه الرسول في ورقة الصلح، فقال له: اكتب (من محمد بن عبد الله، لو كنت رسول الله ما كتبنا هذه المعاهدة)، وهو الآن يندم على موقفٍ كهذا..
    وهذا إشارة لنا ألا نؤخر خيرًا قط راودتنا به أنفسنا، ونذكر موقف المخلفين الثلاثة في غزوة تبوك، وكيف أن نياتهم كانت للخروج في سبيل الله، ولكنهم أخروا الخروج يومًا بعد يوم، حتى تغلب عليهم الشيطان، ولم يخرجوا للجهاد في سبيل الله.
    بعد أن خرج سهيل بن عمرو، وسادات قريش معه من عند أبي بكر الصديق، يلتفت سهيل إليهم، ويقول: "لا تجزعوا مما ترون، فإنهم دُعُوا ودُعِينا؛ فأجابوا وأبطأنا، ولو ترون فضائل من سبقكم إلى الإسلام عند الله عليكم، ما نفعكم عَيْشٌ، وما من أعمال عند الله أفضل من الجهاد في سبيل الله، فانطلقوا حتى تكونوا بين المسلمين وبين عدوهم، فتجاهدوهم دونهم حتى تموتوا (يلفت أنظارهم إلى أنهم يجب أن يكونوا في مقدمة جيش المسلمين، وأن يقاتلوا ليس للنصر، وإنما للشهادة في سبيل الله) فعَلَّنا أن نبلغ بذلك فضل المجاهدين".
    وهكذا بكل حكمة، ورغبة في الخير، يريد سهيل أن يقدم t لله ورسوله كل ما يستطيع، آملاً أن يحصل على أجر، وثواب من الله، ربما يوازي ثواب المهاجرين الذين سبقوه إلى الإسلام.
    عمرو بن العاص أمير على المدد:

    بعد أن وافق الصديق t على خروج سادات قريش للجهاد في سبيل الله، أخذ يفكر فيمن يضعه أميرًا عليهم، وكلهم سادات وأمراء، وكان من حكمته t، أنه لم يؤمر عليهم إلا سيدًا شريفًا مثلهم، حتى لا يوغر صدورهم، فهم حديثو عهدٍ بالإسلام، ومتوجهون للجهاد في سبيل الله، وأمامهم معركة شديدة مع الروم، فيجب أن تكون أنفسهم راضية تمامًا بمن سيؤمر عليهم، حتى يسمعوا له ويطيعوا.
    فوفقه الله لاختيار عمرو بن العاص t، وهو من أشراف العرب، وحكمائهم، ومن أفضل المقاتلين في الجاهلية والإسلام، أسلم عام 7هـ، بعد فتح خيبر، لم يمض على إسلامه أكثر من 6 سنوات، ولكن حسُنَ إسلامه، حتى إن رسول الله أَمَّره على غزوة ذات السلاسل، وكان في جيشه –آنذاك- أبو عبيدة t.
    وكان رسول الله قد بعثه جابيًا لصدقات المسلمين من قبائل قضاعة شمال الجزيرة العربية قبل وفاته، واستدعاه أبو بكر في حروب الرِّدَّة، وأمره على الجيش الخامس لمقاتلة مرتدي قضاعة، ولم يحدث قتال، فأعاده بعد الحرب إلى جمع الصدقات منهم.
    فأرسل الصديق t خطابًا له يطلب منه المجيء لكي يقود الجيوش الإسلامية الخارجة من مكة، فقال له: "إني كنت قد رددتك إلى العمل الذي كان رسول الله ولاَّكه مرة، وقد أحببت -أبا عبد الله- أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك، إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك", نلحظ في هذا الخطاب التأدب مع رسول الله ، في هذا الخطاب يقول أن رسول الله كان قد ولاه هذا الأمر، فهو يستحيي أن يعزله منه، ويوليه في أمر آخر -حتى وإن كان هذا الأمر أفضل منه- دون استئذانه، مع أن هذا الأمر من رسول الله ليس أمرًا تشريعيًّا، ولكنه أمر يتغير بتغير الأحوال، واختلاف الأمراء، لكن الصديق في أدب مع رسول الله، يستأذن عمْرًا في أن يستجيب لطلبه، ويخاطبه بكنيته (أبو عبد الله) فيناديه بأحب الأسماء إليه، ويقول له: (إلا أن يكون ما أنت فيه أحب إليك)..
    وهذا من ذكاء الصديق t، وهو يعلم أنه بهذه المقولة، من الصعب جدًّا على عمرو أن يرفض طلبه، وهذا ما حدث من ابن العاص t، إذ سَرْعَان ما اختار الجهاد في سبيل الله، وأرسل للصديق يقول له: "إني سهم من سهام الإسلام، وإنك بعد الله الرامي بها والجامع لها، فانظر أشدها وأخشاها وأفضلها فارم به شيئًا إن جاءك من ناحية من النواحي", وجاء إلى المدينة في جيش من قضاعة، على الرغم من أن الصديق لم يطلب منه ذلك، إلا أنه شعر أن من مسئولياته الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله..
    (في غزوة ذات السلاسل كان عمرو قد أُمِّرَ على المسلمين، وعندما وصل إلى ذات السلاسل وجد أن عدد المشركين في ذلك الوقت كبير، فطلب المدد من رسول الله ، فأرسل له الرسول مع أبي عبيدة مددًا، وقال له إذا أتيت عمرو بن العاص فلا تختلفا، ولكنه لم يحدد له من الذي سيقود الجيش، فلما جاءه أبو عبيدة، قال له عمرو: جئتني مددًا، ولم يجعله أمير الجيوش، فلم يكن من أبي عبيدة إلا أن قال له: أمرني رسول الله ألا نختلف، ولئن عصيتني لأطيعنك، ودخل تحت إمرة عمرو في تلك الغزوة).
    وهنا لا شك أن الصديق t يذكر ذلك الموقف، وكذلك عمرًا، وأبو عبيدة هو أمير الجيوش في الشام، فمن الممكن أن يتكرر الموقف مرة أخرى، يقول أبو بكر: يا عمرو؛ هؤلاء أشراف قومك يخرجون مجاهدين في سبيل الله، بائعين أنفسهم لله، فاخرج فعَسْكِرْ حتى أندب الناس معك، فقال عمرو: يا خليفة رسول الله ألستُ أنا الوالي على الناس؟ قال: بلى، أنت الوالي على من أبعثه معك من هاهنا؛ فقال: بل على من أُقْدِمُ عليه من المسلمين؛ فقال أبو بكر: لا، ولكن أحد الأمراء فإن جمعتكم حرب فأبو عبيدة أميركم؛ فسكت عمرو, وكلنا نعلم منزلة أبي عبيدة t في الإسلام، وعند أبي بكر..
    (ولكن لماذا ولىَّ أبو بكر أبا عبيدة على الجيوش الإسلامية الأربعة، ولا يولي عمرًا، مع أن عمرًا أحكم في القتال من أبي عبيدة وأقدر وأعلم بالحرب؟ فأبو عبيدة من المقاتلين المهرة، ولكن حكمة ودراية ابن العاص تفوقه، ولا شك!).

    تابعونا أثابكم اللة ....
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: فتوحات الشام

    مُساهمة من طرف صادق النور الأحد أكتوبر 30, 2011 11:23 am

    فتوحات الشام 1740_image002

    فتح بصرى ..................

    حقق خالد بن الوليد انتصارات عظيمة في أرض فارس، وترك جيشه في الحيرة، وذهب للحج سرًّا، تاركًا عددًا من قادته لقيادة الجيش، دون أن يستأذن الخليفة، وعاد على الفور، وكان الموقف لا يزال متأزمًا في دمشق بالشام، فقرر أبو بكر الصديق t أن يرسله إلى الشام؛ لأن الموقف في الشام متوتر، على العكس من فارس فالوضع هناك مطمئن جدًّا، فأرسل خطابًا إلى خالد، بعد أن استشار مجلس الحرب، وكان عمر بن الخطاب يرفض نقل خالد، بل يرى أن يُعزَل، وكان يرى أن ذهابه للحج بدون إذن الخليفة أمر عظيم! أما الصديق t فقال: والله لأُنسينَّ الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد، والله لا أشيم سيفًا سلَّه الله على الكفار, فأرسل له رسالة بتعيينه أميرًا على جيش الشام.
    موقف عمر من خالد رضي الله عنهما:
    كان عمر يرى في سيف ابن الوليد رهقًا، أي أنه شديد العنف مع الكفار، ويرى أنه لم يكن يترك لهم فرصة كافية للاختيار بين الإسلام، أو القتال، وهذا مخالف للواقع، إذ كان الصديق t يراه قائدًا ناجحًا، وكان يؤيده باستمرار، حتى إنه بعد مقتل 70 ألف فارسي في موقعة أُلَّيْس, قال: "أعجزت النساء أن يلدن مثل خالد بن الوليد؟!!"، ولما هدم أماغشيا على أهلها، ورأى عمر في ذلك إرهاقًا للفرس، ومجاوزة للحد في قتلهم، قال أبو بكر عنه: "أيها المسلمون، عدا أسدكم على الأسد".
    - كما كان عمر يرى أن الناس قد فتنت بخالد بن الوليد، وقد يظنون أن النصر إنما يأتي من خالد، وليس من عند الله ، وكان لدى جيشه الكثير من الاحترام والمهابة والتقدير له، ولكنهم -حتى في غيابه- كانوا يؤدون أداءً جيدًا، فقد استطاع خالد t أن يربي مجموعة من القادة تمكنت بمفردها من فتح فارس كلها بعد ذلك.
    نأخذ من ذلك أن الطبائع النفسية لدى كلا الصحابيين الجليلين لم تكن تتواءم معًا، ربما لكونهما متماثلين في القوة، والشدة، فكان من الصعب التقاؤهما معًا.
    (ونعلم عن عمر بن الخطاب عندما ولي أمور المسلمين، أنه كان يريد أن يعرف كل شيء بنفسه، ولا يقوم أي من قادته بخطوة إلا بعد إذنه ومشورته، ففي فتح القادسية يطلب من سعد بن أبي وقاص أن يصف له أرض المعركة كأنه يراها، حتى يضع له الخطة المناسبة, أما خالد بن الوليد فكان يتصرف في الجيش وفق ما يتراءى له في أرض المعركة، وكان الصديق يعلم ذلك عن خالد، ويثق في رأيه، وحكمته الحربية، وغيره من القادة, فيضع لهم الخطة العامة، ويترك لهم حرية التصرف في أرض المعركة، وكلا الطريقتين صواب، ولكن لكل منهما وجهة نظره..
    فهناك تراوح بين الشدة واللين باستمرار، حتى في الفقه، نجد -مثلاً- أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يُعرف بالشدائد، ونجد عبد الله بن عباس معروفًا باللين والرخص، فعبد الله بن عمر كان لا يحمل الصبي وهو صغير مخافة أن ينجسه بول الصبي، أما ابن عباس فكان يحمله ويقول: "إنما هي رياحين نشمها"، كان ابن عمر حريصًا على تقبيل الحجر الأسود، فيحاول الوصول إليه حتى تَدْمى قدماه، ويقول: "هوت إليه الأفئدة، وأحب أن يهوي إليه فؤادي"، أما ابن عباس فكان يشير إليه من بعيد، ويقول: لا يُؤْذَى، ولا يُؤْذِي.
    وكلاهما على صواب حتى في عهد رسول الله ، حدث أن صلى اثنان من الصحابة لاتجاه مختلف من القبلة، فلما علما أعاد الصلاة أحدهما، ولم يعدها الآخر، فرجعا للرسول، فقال لمن أعاد: لقد أخذت أجرك مرتين، وقال للذي لم يُعِدْ: أصبت السنة, فكلاهما على خير، وقد كان عمر بن الخطاب t شديدًا حتى على نفسه، لدرجة أنه كان لا يصلي الوتر قبل أن ينام، بل يصليه بعد قيام الليل وقبل الفجر؛ لأنه يعلم لشدته على نفسه أنه لا بد مستيقظٌ لقيام الليل، ولكن الصديق t، على ورعه وتقواه كان يصلي الوتر قبل أن ينام، مخافة أن يفوته..
    وهكذا هما مدرستان مختلفتان، ودائمًا ينسجم اللين مع الشدة، فكان الصديق t مطمئنًا لخالد بن الوليد، في حين اختلف عمر عنه في ذلك..
    يرسل الصديق لخالد بن الوليد خطابًا لتعيينه أميرًا على جيوش الشام، يلومه في بداية الخطاب على خروجه للحج دون أن يستأذنه، وقال له: لا تعد إلى ذلك ثانية، وحذره من العُجْبِ بنفسه، ثم قال له: "إذا جاءك كتابي هذا، فدع العراق وخَلِّفْ أهله فيه الذين قدمت عليهم وهم فيه، ثم امض مخففًا في أهل القوة من أصحابنا الذين قدموا معك العراق من اليمامة وصحبوك من الطريق وقدموا عليك من الحجاز حتى تأتي الشام, فتلقى أبا عبيدة بن الجراح ومن معه من المسلمين فإذا التقيتم فأنت أمير الجماعة. والسلام عليك ورحمة الله".
    نلاحظ في هذا الخطاب أن الصديق t يأمره فيه أن يترك العراق، بخلاف الخطاب الذي وجهه لعمرو بن العاص، وهو هنا لا يخُيرِّ خالدًا كما فعل مع عمرو، ولكنه يأمره أمرًا مباشرًا، لأنه لا يرى أن غيره يمكن أن يحل محله، مع أن هذا الأمر قد يكون شديدًا على نفس خالد بن الوليد، (إذ إنه بعد انتصاره في 16 موقعة متتالية، واستيلائه على معظم أرض العراق حتى غرب نهر دجلة، قد أصبح قريبًا من المدائن، ومن إسقاط الدولة الفارسية)..
    وتصل هذه الرسالة إلى خالد فيفهم محتواها، ويقول: "أما إذ ولاَّني، فإن في الشام خلفًا عن العراق", ويقوم له أحد قواده بشير بن ثور, فيقول له: أصلحك الله، والله ما جعل الله الشام من العراق خلفًا، والعراق أكثر من الشام حنطةً وشعيرًا، وديباجًا وحريرًا، وفضةً وذهبًا، وأوسع سعة وأعرض عرضًا، والله ما الشام كله إلا كجانب يسير في العراق, ونلاحظ أن نظرة بشير بن ثور لهذا الأمر نظرة ضيقة جدًّا، أما خالد بن الوليد t فقد كانت نظرته مختلفة.

    خالد بن الوليد يتجه إلى الروم ..............

    بعد أن أرسل خالد الرسالة، انطلق بجيشه وتحرك إلى الشام، ولكنه سلك طريقًا مختلفًا تمامًا عبر منطقة وعرة جدًّا هي (صحراء السَّمَاوَة) التي لم تكن تعبر فيها أية قوافل، وكان الطريق المعروف إلى دمشق بالنزول منها جنوبًا إلى دومة الجندل ثم غربًا حتى جنوب البحر الميت حتى تصعد شمالاً إلى دمشق، وهو طريق آمن ومأمون بالنسبة للمسلمين، فلماذا سلك خالد ذلك الطريق الصعب الوعر إلى دمشق؟!! وهي ولا شك عبقرية منه في الخطة، وفي الأداء، إذ نلحظ على ذلك التحرك ما يلي:
    1- أراد خالد أن يصل إلى أرض الشام بسرعة، وهذا الطريق على الرغم من وعورته إلا أنه أقصر. بل إنه طريق مباشر إلى دمشق، وذلك لأن خالدًا يثق في سرعة جيشه، وقوة أدائه، فقد كان معروفًا بأنه يُسرع من خُطَى جيشه، فإذا كان الجيش يسير في المعتاد بسرعة 50 كلم في اليوم، فإنه يجعله يسير 100كلم في اليوم، وفي هذه الرحلة كان يسير بسرعة 50كلم، حتى وصل لمنطقة قبل (الشجرة العظيمة) التي ذكر له الدليل أنه إن لم يقطعها في يوم واحد هلك هو وجيشه، لقلة الزاد فيها، فاستطاع فعلاً أن يتجاوزها في يوم واحد وقطع 100 كلم في يوم واحد، وصَبَّح القوم عند الشجرة العظيمة.
    فليس خالد وحده الفذّ وإنما كان جيشه t -أيضا- جيشًا فذًّا، فإذا كان لديه القدرة على أن يسير هذه المسافة بهذه السرعة وفي هذه الظروف الشاقة، فإن هؤلاء الآلاف التسعة من الرجال لا شك أنهم أقوياء جدًّا وذوو كفاءة عالية.
    2- أراد خالد كذلك أن يزيد من حصار الجيش الإسلامي لمنطقة الشام؛ لأن المسلمين كانوا قد حاصروا الجنوب والشرق، وهو يزيد من دخوله شمالاً في الحصار.
    3- يعلم خالد أن الروم لا يمكن أن يتوقعوا أن يأتيهم جيش من الشمال أو الشرق وإنما كان كل ظنهم أن المدد سيأتي المسلمين من الغرب أو الجنوب، فمجيء خالد بجيشه من الشمال يُعَدُّ مفاجأة للروم، إذ إنهم لم يتوقعوا أبدًا أن يعبر أحدٌ صحراء السماوة بجيش كبير كجيش خالد!
    يذكر الرواة أن خالدًا t كان دائمًا يسبق الخبر، فإذا كان في المنطقة عيون (جواسيس) لجيش الأعداء، فإنه يسبقهم ويصل إلى الأعداء مباشرة!!

    خالد يقتحم الـشام .....................
    قطع خالد t المسافة من الحيرة إلى دمشق في ستة أيام، ويصل إلى منطقة تسمى (أرج)، وبعد أن وضع قدميه في أطراف الشام باغت أهل (أرج) فهجم عليهم وحاصرهم، فلم يجدوا لهم طاقة بخالد وجيشه؛ فاستسلموا، ورضوا بدفع الجزية وفُتِحَت مدينة (أرج) صلحًا، ثم ترك (أرج) وذهب إلى (تَدْمُر)، وحاصرها فاستعصت عليه؛ لأن أسوارها عالية ولم يخرج أهلها لحربه، بل ظلوا داخل حصونهم، ولما كان يريد أن يسرع حتى يلحق بالمسلمين في الشام، أرسل لهم رسالة يقول لهم فيها: "والله لو كنتم في السحاب لاستنزلناكم، ولظهرنا عليكم، وما جئناكم إلا ونحن نعلم أنكم ستفتحونها لنا، وإن أنتم لم تصالحوني هذه المرة، لأرجعنَّ إليكم، لو قد انصرفت من وجهي هذا، ثم لا أرتحل عنكم حتى أقتل مقاتلتكم، وأسبي ذراريكم"..
    ورحل عنهم، فتشاور كبار القوم فيهم، ورأوا أنهم لا طاقة لهم به، وأنه الذي وُعِدوا به (كان عندهم في كتبهم أنه سيفتح المدينة أحد من هذه الجهة) فأرسلوا رسولاً في إِثْرِ خالد بن الوليد، فعاد خالد إلى (تدمر) مرة أخرى، وتسلم المدينة، وصالحوه على الجزية، وهكذا نُصِرَ بالرعب t، ثم انتقل إلى (القريتين) فقاتلهم خالد، وسبى منهم السبايا وأخذ منهم الغنائم، ثم انتقل إلى مدينة (حواريين) وحاصرهم، فرفضوا قتاله، ولكنهم أرسلوا في طلب المدد، فجاءهم ألفا مقاتل من بَعْلَبَك وألفان من بُصرى، فترك جيشه محاصرًا لحواريين، وانتخب مائتي مقاتل ممن معه، وهاجم المدد القادم من بعلبك أولاً، فقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم التف حول (حواريين) وقتل المدد القادم من بصرى، فقتل 4 آلاف رجل خارج (حواريين)، واستمر في حصار (حواريين) حتى خرج له جيشها، ثم أيقنوا أنهم لا طاقة لهم بقتاله، فاستسلموا ودفعوا الجزية.
    توجه خالد بعد ذلك إلى مرج راهط وكانت نصرانية لسُكنى قبائل غسان بها، وكما يقول الرواة (ابن كثير في البداية والنهاية): "فهجم على مرج راهط، فانتسف عسكرهم، وسبى منهم وغنم", وأرسل خمُس الغنائم إلى أبي بكر الصديق t، كل ذلك ولم يصل حتى الآن إلى أبي عبيدة وجيش الشام..
    يروي أحد من هُزِمَ في حواريين، ثم أسلم بعد ذلك يقول: "والله لقد خرجنا إلى خالد، وإنا لأكثر منهم بأضعافهم، فما هو إلا أن دنونا منهم فثاروا في وجوهنا بالسيوف، كأنهم الأُسْدُ، فهزمونا أقبح هزيمة، وقتلونا أشد القتل، وقد رأيت منا رجلاً كنا نَعُدُّه بألف رجل، وكان يقول: لئن رأيت أميرهم لأقتلنَّه، فلما رأى خالد قال له أصحابه: هذا أميرهم فاقتله، فأقبل على خالد، وحمل عليه، وإنا لنرجو أن يقتله من بأسه وشدته، فلما دنا من خالد استقبله خالد بالسيف، فضربه ضربة واحدة فأطار نصف وجهه وقَحْفَ رأسه، فدخلنا مدينتنا وما كان لنا من همٍّ إلا الصلح!!"، ويقول عن خالد عندما يقاتل: كان له هيبة، وكان يربو على القوم (أي يعلو)، وهذا من نِعَمِ الله على خالد الذي جعل حياته وقفًا على الجهاد في سبيله, أن جعل الكفار يرهبونه بمجرد رؤيته، ومنحه العلوَّ عليهم، وكذلك كل من أخلص جهاده لله I.
    في موقعة مرج راهط سبى المسلمون سبيًا كثيرًا، يحكي أبو الخزرج الغساني (ابن إحدى السبايا) عن أمه أنها لما رأت حال المسلمين أسلمت، ثم جاء زوجها يطلبها من المسلمين، وكان قد أسلم، ولكن زوجته لم تعلم، فقالت: "إن كان قد أسلم فَنَعَمْ، وإن لم يكن ذلك، فليس لي حاجةٌ فيه"، فقالوا لها: إنه أسلم، فعادت إليه, وهكذا كان سلوك المسلمين -دائمًا- دافعًا للناس حتى من أعدائهم للدخول في الدين، فقد كانوا ملتزمين بأخلاق الإسلام في كل أمر، ولم يجبروا أحدًا على الدخول فيه، ولكن الناس رأوا منهم العدل والرحمة التي أمر الله بها، ولم يجدوها من بني جلدتهم، ففضلوا الإسلام رغم رقهم على الاستمرار في الكفر ولو عادوا به أحرارًا.
    بدء المعركة:
    وبمجرد أن علم جيش الروم في بصرى بتجمع الجيوش الإسلامية (نحو 33 ألف مجاهد)، خرج مباشرة لقتال خالد ومن معه، وبادر خالد على الفور بتنظيم جيشه, فجعل نفسه في قلب الجيش، وجعل رافع بن عمرو على الميمنة، وضرار بن الأزور على الميسرة، وقسم المؤخرة إلى نصفين المسيب بن نشبة يمينًا، ومذعور بن عدي شمالاً، وجعل المؤخرة بعيدة عن الجيش، لتأخذ أطراف المعركة، نلاحظ أن قادة الجيش كانوا جميعًا من جيش خالد القادم من فارس.
    خرج جيش بُصرى من الحصن، وبدأ يواجه الجيش الإسلامي، وكان خالد قد أمر المؤخرة ألا تشترك في القتال إلا بعد أن يأمرها بذلك، وقام بالهجوم على جيش الروم بالمقدمة والميمنة والميسرة فقط، فحمل جيش الروم عليه حملة عظيمة، فصبر خالد على هجماته الشديدة المتتالية، ثم نادى على الجيش بقوله: "يا أهل الإسلام الشدة الشدة، احملوا -رحمكم الله- عليهم، فإنكم إن قاتلتموهم محتسبين تريدون بذلك وجه الله، فليس لهم أن يواقفوكم ساعة", كل ذلك والمؤخرة لا تحارب، يقول قيس بن أبي حازم: " لقد كنا مطمئنين لما يفعله خالد؛ لأننا كنا نعلم أن القليل من العدو والكثير عنده سواء، فإنه لا يملأ صدره منهم شيء".
    واستمر القتال على أشده حتى ظن الفريقان أن صبرهما قد نفد، فأمر خالد فرقتي المؤخرة المتأخرتين، فهجمتا من بعيد والتفَّتا من أعلى القوم، ثم انقضتا على جيش الروم من خلفه، فكانت هزيمة داحرة لجيش الروم، وقتلوا مقتلة عظيمة, وهرب بقيتهم إلى داخل حصن بُصرى، وأعلنوا الاستسلام ودفع الجزية، فقام خالد بن الوليد بجمع غنائم الحرب التي خلَّفها الرومان خارج الحصن..
    انتصار كاسح وأهل بصرى يدفعون الجزية:
    وبذلك فتحت بُصْرَى في 25 ربيع الأول عام 13هـ. (أي بعد شهر من قدوم خالد بن الوليد) وهي من أعظم المدن الموجودة في هذه الفترة.
    وما إن وصلت أنباء موقعة بصرى إلى هرقل حتى قال: ألم أقل لكم: لا تقاتلوهم؟!! فإنه لا قوام لكم مع هؤلاء القوم (ونعلم أن هرقل كان رافضًا للحرب، موقنًا بنصر المسلمين)، فقال أخوه: قاتل عن دينك، ولا تجَبنِّ الناس، واقضِ الذي عليك, فقال: وأي شيء أطلب إلا توقير دينكم؟!!
    وفرق كبير بين جيش كجيش الروم، قائده موقن بالهزيمة، ولا يرى جدوى من القتال، وبين جيش قائده أبو بكر الصديق t، الذي ما فتئ يحمسه، ويحثه على القتال، ويوثقه بالنصر أو الشهادة..
    وكان رد فعل الروم على هزيمة الجيش الرومي في بصرى شديدًا وذكيًّا، إذ أخرجوا قوتين كبيرتين: الأولى إلى جِلَّق من70 ألف رومي، وقوة أخرى من حمص في 10 آلاف مقاتل. ولكن إلى أين اتجهت؟ وماذا فعلت؟ هذا ماسنعرفه في المقال التالي بإذن الله.

    تابعونا هدانا هداكم اللة ..........
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: فتوحات الشام

    مُساهمة من طرف صادق النور الأحد أكتوبر 30, 2011 11:25 am

    فتوحات الشام 1741_image002

    معركة أجنادين ....................

    بعد فتح بُصرى، انتقل خالد مع جيش أبي عبيدة إلى دمشق لحصارها، وترك جيش شرحبيل في بصرى، وعاد جيش يزيد إلى البلقاء في الأردن، وعاد عمرو بجيشه إلى جنوب فلسطين.
    وكان رد فعل الروم على هزيمة بصرى ذكيًّا وعلى محورين: الأول: تحركت قوة من الروم تقدر بحوالي 20 ألفًا بقيادة قائد رومي شهير هو وردان من حامية حمص لقتال المسلمين في بصرى، (أي لقتال جيش شرحبيل 7 آلاف مجاهد)، فاختار وردان حرب جيش شرحبيل لأكثر من سبب:
    أحدها: أنه جيش مفرد، وأقل عددًا.
    ثانيًا: وأنه لو انتصر عليه فسيحاصر جيش خالد وأبا عبيدة من الجنوب، وتصبح لدى حامية دمشق فرصة أن تخرج من أسوارها العالية لقتالهم.
    ثالثًا: أنه قد يسترد بصرى.
    ورابعًا: رفع معنويات الجيش الرومي؛ لأن سقوط بصرى كان لها أثر شديد على نفسية الجيش؛ لأنها تمثل أهمية دينية خاصة.
    تحرك رومي غير مدروس:
    تحرك وردان من حمص من خلال الطرق الداخلية، عن طريق بعلبك وشمال فلسطين، لكي يصل إلى بصرى، بحيث لا يلحظ جيش المسلمين في دمشق مرور هذا الجيش، وتحجبه الجبال اللبنانية في ذلك المكان، وهذا ما حدث، ولكن عيون الجيش الإسلامي كانت يقظة، فعرفت بتحرك جيش (وردان) بمجرد خروجه من منطقة الجبال، وأنه يتحرك نحو جيش شرحبيل في بصرى.
    المحور الثاني: كانت جِلَّق تضم مجموعة من القوات الرومية، فانضم إليها عدد كبير من قوات الجيش الرومي من أنطاكية عن طريق البحر الأبيض المتوسط (بحر الروم)، كما جاءت قوات أخرى من الأراضي الشامية وتجمع الكل تحت قيادة تذارق في جلق، وكان هذا الجيش قوامه 70 ألف مقاتل أو يزيد، إلا أن تحركه ذلك كان غير مفهوم!! وليس له هدف واضح، ولم يكن مدروسًا، إذ إن جيش المسلمين المواجه لهم (3 آلاف) مجاهد بقيادة عمرو بن العاص، فليس منطقيًا أن يحُشَد 70 ألف مقاتل لمواجهة 3 آلاف!! ولم يكن موجهًا لغيره من الجيوش الإسلامية، لأنهم مكثوا مدة طويلة لم يحاربوا أحدًا فيها!!.. فكان تحركًا غير مدروس، وإنما تحرك أملته عليهم الخبطات الإسلامية، لوجود أكثر من جيش إسلامي في الشام.
    (وهذا أمر يتكرر في التاريخ، فقد وجدناه في الجيوش العربية في نكسة 67 إذ كانت تحركات الجيوش غير مدروسة على نحو يوحي بأن من يحرك هذه الجيوش لا يدري إلى أين هي ذاهبة؟ وأين يجب أن تتجه؟)
    وصلت أخبار وردان إلى جيش أبي عبيدة وخالد بن الوليد في دمشق، وأنه يلتف حول الجيش الإسلامي في بصرى، وأن تذارق جمع في جلق 70 ألفًا.
    طرح خالد الموضوع كاملاً على أبي عبيدة (أمامهم 3 جيوش رومية قوية: جيش خلف أسوار دمشق، وجيش وردان المتجه إلى بصرى، وأكبر هذه الجيوش في جلق) كما وصلتهم أخبار أن نصارى العرب بدءوا في الانضمام إلى جيش تذارق الموجود في جلق.
    فكان رأي أبي عبيدة أن يتركا دمشق، ويذهبا لمعاونة جيش شرحبيل، فتتحد الجيوش الثلاثة، لمقاتلة (وردان)، وهو رأي له وجاهته، أما خالد فقد رأى أنهم لو ذهبوا لشرحبيل في بصرى، لتبعتهم حامية دمشق عن قرب، (فطنة خالد في الحرب تتضح في مثل تلك المواقف)، وأدرك أنهم سيكونون بذلك بين الجيشين، ويرى أن جمع الروم الأكبر الموجود في (جلق) تحت قيادة تذارق يجب أن يُواجَه، وأن تُرسل رسالة إلى شرحبيل لتحذيره من جيش وردان، وألا يلتقي معه (أي يهرب من ملاقاته) ويقابلهم في أجنادين، حتى ينتقلوا إلى جلق معًا، ويأتيهم جيشا يزيد وعمرو في نفس المنطقة، أي أنه رأى أن تجتمع الجيوش الخمسة في أجنادين، حتى تنطلق إلى مواجهة جيش تذارق في جلق, فوافقه أبو عبيدة t قائلاً: "هذا رأي حسن، فأمضه على بركة الله، ونسأل الله بركته".
    يخرج خالد بن الوليد، يخطب خطبة في الجيش الإسلامي؛ فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: "أما بعد، فإني قد بلغني أن طائفة من الروم نزلوا بأجنادين، وأنهم استعانوا بأناس قليل من أهل هذا البلد، على كثرتهم، وذلك استقلالاً لما معهم من الكثرة ذلاًّ"..
    (لديه نظرة ثاقبة للروم، أنه يجب أن يفهم طبيعة عدوه، وكيف بنا اليوم، ونحن الكثرة نستعين اليوم بقلة من غيرنا، بل قلة من أعدائنا لأمر من أمورنا، نستعين بالخبراء اليهود والأمريكيين!!، ورد في أحد التقارير أن أي أمة من الأمم تستطيع أن تجند 10بالمائة من شعبها لحمل السلاح، وهذا العدد إذا أخذ من الأمة الإسلامية (ألف مليون)، يصل إلى (100مليون)، إذا حاربوا اليهود، فلا بد أنهم منصورون! ولكننا كثرة تستعين بالقلة، ولا حول ولا قوة إلا بالله).
    يقول خالد: واللهُ -إن شاء الله- جاعل الدائرة عليهم، وقاتلهم كل مقتلة، فاقصدوا بنا قصدهم، فإني كاتب إلى يزيد وشرحبيل وعمرو أن يوافونا بما معهم من المسلمين هناك.
    الجيوش الإسلامية تتحرك إلى أجنادين:
    أرسل خالد الرسائل إليهم وبدأت الجيوش الإسلامية تتحرك، من كل المناطق، وتحرك الجيشان من دمشق إلى أجنادين، وحدث ما توقعه خالد عند خروجه من دمشق، إذ بمجرد توجهه بجيشه وجيش أبي عبيدة جنوبًا إلى أجنادين، خرج جيش دمشق خلفه، وبدأ يقاتل مؤخرته، ولكن خالد انطلق بجيشه بسرعة من دمشق إلى أجنادين، فحاصر جيش دمشق مؤخرة جيش أبي عبيدة، ولم يعلم بذلك خالد t، لسرعة سيره، فظل أبو عبيدة ومن معه صابرون على قتال حامية دمشق فترة من الزمن، حتى كادوا أن يُهزموا! فوصل الخبر إلى خالد بن الوليد، فعاد ينهب الأرض نهبًا، حتى وصل إلى جيش أبي عبيدة على أطراف دمشق، فَدَقَّ الرومَ بعضَهم على بعض (كما يقول الرواة)، وانتصر على حامية دمشق، وتتبعهم حتى أدخلهم مرة أخرى داخل أسوار دمشق، وعاد هو إلى مؤخرة الجيش مرة أخرى، ولكنهم لم يتتبعوه..
    ثم انطلق إلى أجنادين بجيشه وجيش أبي عبيدة، ولم يعبر نهر الأردن خوفًا من اختراق الأرض التي سيكون على ميمنته فيها الجيوش الرومية، فالتف حول البحر الميت، حتى يصل إلى أجنادين.
    (صورة توضح التفافه حول البحر الميت حتى أجنادين)
    وصلت الرسالة إلى شرحبيل في بصرى، وهو على بعد يوم واحد فقط من جيش وردان (نحو 45 كلم)، فلم يكن لديه وقت كافٍ للحرب، وكان خالد قد أمره ألا يقاتل جيش وردان، وخشي إن هو عاد إلى أجنادين أن يلحقه وردان بجيشه من الخلف! فأخذ جيشه واتجه شرقًا، لأنها منطقة أكثرها صحراء، والجيش الرومي لم يعتد على الصحراء، وبالفعل ما إن علم وردان باتجاه شرحبيل إلى الصحراء بجيشه، حتى خشي أن يتبعه وتوقف، ووصلته رسالة من هرقل للذهاب إلى جلق ليجتمع مع الجيش الرومي هناك، ويتجهوا جميعًا إلى أجنادين، وأنه هو الذي سيرأس جيوش الروم كلها هناك..
    بذلك بلغت القوة الرومية في أجنادين نحو 100 ألف مقاتل أو يزيد، في حين بلغت الجيوش الإسلامية كلها 33 ألف مجاهد، وكان آخر الجيوش وصولاً إلى أجنادين جيش شرحبيل بعد أن خرج من الصحراء.
    عسكر الجيش الإسلامي في أجنادين، وتجمع الجيش الرومي هناك، والتاريخ يذكر أن الروم لم يختاروا أجنادين للقتال، وإنما اختاروها للتجمع، فهي تقع في مفترق الطرق، فمنها طريق إلى بيت المقدس، وطريق واضح إلى دمشق، وطريق إلى البحر الأبيض المتوسط، وطريق إلى الرملة وطريق إلى غزة، مما يجعل تجمع الجيوش الرومية عندها ميسورًا، فهي مجرد مكان تجمع، لكن لا يوجد به أسوار عالية، أو حصون منيعة، فلم تكن مهيئة للحرب، وإنما للتجمع، ثم الانتقال إلى بيت المقدس أو الخليل، أو غيرها من المناطق المعدة للقتال، إلا أن جيش خالد بن الوليد بعيونه ومخابراته استطاع أن يفاجئهم في أجنادين، وكذلك بقية الجيوش الإسلامية، التي جاءت بسرعة مذهلة، إلى حيث أمرهم القائد الأعلى آنذاك.
    أرسل جيش الروم أحد الجواسيس من العرب الموالين للروم إلى الجيش الإسلامي، اسمه ابن هزارز، وقد أسلم بعد ذلك، فدخل ولم يعرفه أحد، وقد وصاه تذارق أن يأتيه بخبر القوم، فمكث يومًا بليلة، ثم عاد إليهم فقال: "والله إني وجدتهم، رهبانًا بالليل، فرسانًا بالنهار، لو سرق ابن ملكهم قطعوا يده، ولو زنى رُجِم، لإقامة الحق فيهم".
    فهذه الصفات التي في الجيش الإسلامي آنذاك، هي مفتاح النصر الذي جعلها تجرؤ على محاربة أعتى قوة في العالم قوة الروم، في أرضها، تلك الصفات: أنهم رهبان بالليل، يذكرون الله ليلاً، ويقفون بين يدي الله، يبكون، ويصلون، والناس نيام، وكأنهم انقطعوا لعبادة الله، سمْتهم ليس كسمت الناس العاديين، الذين يقضون أيامهم كما تكون، وإنما كالراهب الذي انقطع عن الحياة تمامًا، ومكث في محرابه، يتعبد الله، كان لهم دوي كدوي النحل، وهذه صفة لازمة لكل معسكرات الجهاد الإسلامي، في فارس والروم، وفي كل مكان، فإذا أتى النهار كانوا فرسانًا ذوي نشاط وهمة، وتدريبات على القتال كبيرة،ومهارة في الأداء، والأخذ بكل أسباب النصر، فهم متوكلون على الله بالعبادة، ويعدون العدة بالنهار، ثم إنهم يتسمون بالعدل المطلق، في البخاري من حديث عائشة: "إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِم الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِم الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ", وهذا يجعلنا ننظر إلى حالنا، هل نحن رهبانٌ بالليل، فرسانٌ بالنهار؟ هل توجهنا لله عز وجل بخالص العبادة، وخالص الدعاء وخالص التوجه إلى الله سبحانه وتعالى في كل أحوالنا؟ وهل أعددنا العدة للكفار بكل ما استطعنا من قوة؟ وهل أبناء الشرفاء لدينا، وأبناء الرؤساء، ومن لهم السطوة لدينا يقام عليهم مثلما يقام على أبناء الأمة الإسلامية من غيرهم؟؟!
    فقال القائد الرومي: لئن كنت صدقتني، فَلَبَطْن الأرض خيرٌ من لقاء هؤلاء على ظهرها، ولوددتُ أن حظِّي من الله أن يخلِّي بيني وبينهم، فلا ينصرني عليهم ولا ينصرهم عليَّ.
    موقعة أجنادين:
    في السبت 27 من جمُادى الأولى عام 13هـ، واجه فيها الروم بـ 100 ألف مقاتلٍ، جيش المسلمين البالغ 33 ألفًا، أي بنسبة 3:1 تقريبًا!! نظم خالد بن الوليد جيشه، فجعل على الميمنة معاذ بن جبل t، وعلى الميسرة سعيد بن عامر t، وقسم قلب الجيش نصفين، نصفًا للمشاة بقيادة أبي عبيدة t، وجعلهم في مؤخرة الوسط، ونصفًا للخيل في المقدمة بقيادة سعيد بن زيد t، ووقف خالد بنفسه في مقدمة الجيوش الإسلامية، حتى إن إشارة البدء للجيش الإسلامي، كانت قتال خالد بن الوليد نفسه، فلم يقاتلوا إلا عندما رأوه يحمل على القوم: (إذا حملتُ على القوم فاحملوا).
    أما الجيش الرومي فقد كان قائده وردان في المؤخرة، وقد كان هذا ديدنهم في كل المعارك، مثلما فعل رستم في القادسية أيضًا، وهكذا يؤمِّنُ نفسه تمامًا.
    كما استخدم خالد t سلاحًا معنويًّا لطيفًا في هذه المعركة، بأن جعل نساء المسلمين، في مؤخرة الجيش الإسلامي، (والجيش الإسلامي في تحركاته إلى الشام، وإلى العراق كانوا يذهبون مع أهاليهم، لأنهم يمكثون سنين وشهورًا طويلة، للجهاد فأصبحت حياتهم كلها الجهاد في سبيل الله، فانتقلوا بكل عائلاتهم)، فجعل خالد النساء والأبناء خلف الجيش، وأوصاهم أن يوصوا كل مجاهد بالقتال، ويحثوهم على القتال دون أولادهم ونسائهم، ويدعو لهم بالنصر والتمكين، وهو سلاح معنوي, أضاف به عاملاً جديدًا حفَّز المسلمين على الجهاد..
    وكان خالد بن الوليد لا يهدأ في مكان حتى بدء المعركة، وكان كلما مر على قبيلة من القبائل، أو طائفة من الجيش أوصاهم بتقوى الله، وقال لهم: "قاتلوا في الله من كفر بالله، ولا تنكصوا على أعقابكم، ولا تهنوا من عدوكم، أقدموا كإقدام الأسد، وأنتم أحرار كرام، فقد أبيتم الدنيا، واستوجبتم على الله ثواب الآخرة، ولا يهولنكم كثرة أعدادهم، فإن الله منزلٌ عليهم رجسه، وعقابه (إذا حملت على القوم، فاحملوا)..
    وهكذا كان القائد على ثقةٍ بنصر الله، وعلى يقين بأن الله لن يخذلهم، ما داموا قد استعدوا، وأخذوا بأسباب النصر، وخاصة أن حربهم ضد من كفر بالله، وصدوا عن انتشار دعوته إلى هذه البلاد؛ لذا فإن الله سينزل عليهم رجسه، وعقابه..
    كان ذلك كله في صبيحة يوم السبت، وجاء وقت القتال عند صلاة الظهر، وكان خالد t يفضل أن يقاتل بعد صلاة الظهر، ونلاحظ اهتمامه t بالصلاة حتى في ميدان المعركة والسيوف على رقاب المسلمين، كما أن في ذلك أيضًا سيرًا على سُنة رسول الله ، فقد كان رسول الله يجاهد في هذه الأوقات، من طلوع الشمس حتى قبيل الظهر، أو بعد صلاة الظهر، وكان يقول: "تهب نسائم النصر في هذه الأوقات", كما روى الترمذي وأبو داود، فلم يبدأ خالد بالقتال، ولكن الجيش الرومي استغل الفرصة وبدأ هو بالهجوم، فهجمت ميمنة الجيش الرومي على ميسرة جيش المسلمين، على فرقة سعيد بن عامر t، فثبتت لها فرقة سعيد دفاعًا عن المسلمين فقط، ولكنها لم تهاجم؛ لأن خالدًا لم يعط الأمر ببدء القتال بعد!!.. وبعد ذلك تحركت ميسرة الجيش الرومي إلى ميمنة المسلمين فرقة معاذ بن جبل وثبت لها أيضًا، وظل الحال كذلك فترة من الزمان، حتى قال سعيد بن زيد t لخالد بن الوليد: يا خالد إن رماح الروم تنال منا!! فهم قد بلغ بهم الجهد من الدفاع، وفي الوقت ذاته لا يريدون أن يخالفوا أمره، ولكن خالد رد عليه: اصبر فإن في الصبر رجاء!
    كان خالد بن الوليد t يرى أن الميسرة والميمنة لدى كلا الجيشين قد هاجمتا، فيكون من اليسير على قلب جيشه بقيادته أن يتقدم إلى قلب جيش الروم، مما يعجل وييسر من وصوله إلى قائد الروم (وهو يعلم أنه في مؤخرة جيشه)، ويعلم أنه إذا قتل قائدهم، فإن الجيش لن يصمد لحظة، وسيفكر في الهرب، وسيكون قد انتصر عليهم, بخلاف الجيش الإسلامي الذي يحمل عقيدة، ويقاتل من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، ولأنه يحب الموت كما يحب هؤلاء الحياة (وقد رأينا مثالاً عمليًّا لذلك في موقعة مؤتة، حينما سقط القائد العام زيد بن حارثة، وتبعه جعفر بن أبي طالب، فسقط جعفر، فتبعه عبد الله بن رواحة، وسقط عبد الله بن رواحة، كل ذلك لم يفت من عضد الجيش الإسلامي، ولم يجعله يتوانى عن الجهاد، والاستمرار في المعركة، حتى اجتمع المسلمون وأمروا عليهم خالد بن الوليد t).
    مقتل قائد الروم، وانتصار المسلمين:
    أما خالد هنا فإنه يريد أن يضرب نقطة ضعفهم، بقتل قائدهم العام، وهذا ما حدث فعلاً، بعد أن تقدمت ميمنة جيش الروم وميسرته، غدا الطريق خاليًا للوسط أمام جيش المسلمين، فأشار خالد بالبدء بأن حمل عليهم بنفسه، وقال: "احملوا عباد الله على من كفر بالله"، فكان كمن أزاح صخرة أمام الطوفان، فاقتحم المسلمون جيش الروم كالسيل الهادر، وقاتلوهم قتالاً عنيفًا شديدًا، وقال معاذ بن جبل: "يا معشر المسلمين، اشروا أنفسكم اليوم لله، فإنكم إن هزمتموهم اليوم، كانت لكم هذه البلاد دار الإسلام أبدًا، مع رضوان الله، والثواب العظيم من الله"، فهو يحفزهم بأن في جهادهم ذلك، ليس فقط ثواب الله، إذا انتصروا أو استشهدوا، ولكن ستكون هذه البلاد أيضًا بلاد إسلامية، وقد كان -كما رأينا- هذا تقديرًا صائبًا من معاذ t، وليس مجرد نظرة تفاؤلية متعجلة في المعركة، فهذه القوى الرومية الموجودة في أرض فلسطين هي القوى الوحيدة للروم في هذه المنطقة، فإذا سقطت هذه المنطقة فإن نصف فلسطين سيكون في يد الجيش الإسلامي، وهذا ما كان فعلاً.
    استمر القتال بين الفريقين وقتًا قليلاً كما ذكر الرواة (فما صبروا لهم فواقًا) أي مدة حلب الناقة، أو ما بين ضم اليد على ضرع الناقة لحلبها، وبسطها، أي هذه الفترة اليسيرة جدًّا، وانتصر الجيش الإسلامي انتصارًا عظيمًا، ووصل الجيش الإسلامي كما خطط خالد بن الوليد t إلى خيمة قائدهم العام، الذي قال: "والله ما رأيت يومًا في الدنيا أشدَّ عليَّ من هذا"، وكانت آخر كلماته، إذ اجتُثَّ رأسه بعد هذه الكلمة.
    بلغ عدد القتلى من الروم في هذه المعركة نحو 3 آلاف قتيل، من 100 ألف، وبمجرد أن قُتِلَ قائده، لم يكن من بقية الجيش إلا أن فرُّوا عن طريق الطرق المتشعبة الكثيرة الموجودة حول أجنادين، ولكن الجيش الإسلامي لم يتركهم، بل أخذوا في تتبعهم في هذه الطرق، قتلاً وأسرًا.
    كان الجيش الإسلامي 33 ألف، فكان على كل رجل أن يقتل ثلاثة من الروم (3/1)، فكانت هذه موقعة الفرد المسلم، وكان بين المسلمين من 14 إلى 24 شهيد فقط على اختلاف الروايات.
    نماذج من شهداء المسلمين في هذه الموقعة:
    - أبان بن سعيد بن العاص: كان قد تزوج مساء الخميس الذي سبق المعركة، تزوج في أجنادين!! وبعد أن مكث مع زوجته ليلتين، سارع إلى الجهاد في سبيل الله في اليوم الثالث، بعد أن تناديه الدنيا، يسارع إلى الآخرة! كيف رضت زوجته، وعائلة زوجته أن يزوجوه وهو مقدم على الحرب، بل إنه على أرض المعركة، ومع ذلك وافقوا على تزويجه!! ثم يدخل أرض المعركة، ويلقى الله شهيدًا في يوم السبت.
    وهكذا نعلم أن المجتمع الإسلامي كله في هذه الفترة كان مجاهدًا، ونتعلم منه أن أمر الجهاد في سبيل الله اليوم ليس بالأمر الهين، لكي نقرره، بل إن أحدنا قد يكون منشغلاً بالدعوة إلى الله عز وجل في بلده، وليس في أرض الجهاد، ولكن المجتمع قد يرفض تزويجه، إذ إنه قد يتعرض لاعتقال أو غيره!!
    - عمرو بن سعيد بن العاص (أخو أبان) فهذه عائلة فقدت اثنين من شبابها في يوم واحد.
    - طُلَيْب بن عمير بن وهب: ابن عمة رسول الله (أروى)، قتل بعد أن سقطت كفه حاملة سيفه..
    - عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب: ابن عم رسول الله (وليس ابن الزبير بن العوام المعروف).
    - عبد الله بن عمرو بن الطفيل الدوسي: ابن الصحابي الجليل، الذي استشهد في اليمامة t، وكان قد رأى رؤيا قبل أن يُستشهد، أنه وابنه يحاولان أن يدخلا في شيء ما، فنجح هو في دخوله، بينما فشل ابنه! وفسر ذلك بالدخول في قبره، وأنه سيستشهد في هذه الموقعة، وسيحاول ابنه أن ينال هذه الشهادة، ولكنه لن ينالها، فقال له أبوه: "ولكن ابق على العهد"، ويأتي اليوم الذي يموت فيه عبد الله على خطى والده شهيدًا في سبيل الله في هذه المعركة، بعد موقعة اليمامة بنحو عامين (وهكذا كانت رؤية الصحابة رضوان الله عليهم للاستشهاد في سبيل الله، أنه أمرٌ صعب، يحاولون الحصول عليه، فيخفقون مرة، وينجحون أخرى).
    - يعقوب بن عمرو المشجعي. ليس مشهورًا في التاريخ، ولكنه عُرف لأنه قتل 7 من المشركين، ولم يكف عن القتال حتى سقطت يده.
    - أما عكرمة بن أبي جهل، فقد كلل الله عز وجل له جهود أربع سنوات من الإسلام فقط، بأن استشهد أيضًا في هذه المعركة، على خلاف إن كان قد استشهد في هذه المعركة أم في اليرموك، ولكن لا خلاف أنه نال الشهادة في سبيل الله.
    بعد انتصار المسلمين الساحق على الروم في موقعة أجنادين، أرسل خالد بن الوليد t خطابًا إلى خليفة رسول الله أبي بكر الصديق في المدينة، يبشره بالفتح فيقول له: "بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله أبي بكر خليفة رسول الله ، من خالد بن الوليد سيف الله المسلول على المشركين، أما بعد، سلامٌ عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإني أخبرك أيها الصديق إنا التقينا نحن والمشركين، وقد جمعوا لنا جموعًا جمَّة كثيرة بأجنادين، وقد رفعوا صُلُبَهم، ونشروا كتبهم، وتقاسموا بالله لا يفرون حتى يفنوا أو يخرجونا من بلادهم، فخرجنا إليهم واثقين بالله متوكلين على الله، فطاعَنَّاهم بالرماح، ثم صرنا إلى السيوف، فقارعناهم في كل فجًّ, فأحمد الله على إعزاز دينه وإذلال عدوه وحسن الصنيع لأوليائه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"..
    فلما قرأ أبو بكر الرسالة فرح بها، وقال: "الحمد لله الذي نصر المسلمين، وأقرَّ عيني بذلك"، وكانت عينه t لا تنام، ليس لانتظار انتصار جيش المسلمين فحسب، ولكن لنقله خالد بن الوليد من العراق لنجدة المسلمين في الشام، على الرغم من معارضة عمر t لذلك، فكان يتمنى من الله عز وجل أن تُكلَّلَ هذه الجهود بالنجاح حتى لا يشعر بأنه أخطأ، أو يشعر بالذنب وتأنيب الضمير إن هُزِم المسلمون.

    تابعونا غفر اللة لنا ولكم
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: فتوحات الشام

    مُساهمة من طرف صادق النور الأحد أكتوبر 30, 2011 11:28 am

    فتوحات الشام 1743_image002

    المفاوضات قبل موقعة بيسان ...........

    بعد تجمع القوات الرومية في بعلبك (20 ألف مقاتل)، قرروا التوجه لحرب المسلمين في دمشق، ولكنهم تراجعوا بعد هزيمة الروم في مرج الصفر، خشية الهزيمة..
    وفي نفس الوقت في شمال فلسطين كان شرحبيل بن حسنة t، يقوم بإغارات على أهل المناطق المجاورة، يستثيرهم للإسلام أو دفع الجزية، وذكر المؤرخون أنه أقام القيامة في هذه الأرض (فلسطين والأردن)، وأغار على كثير من المناطق، حتى تضايق الناس من هذا الأمر، وبدأوا يتجمعون في منطقة غرب نهر الأردن قرب بصرى تسمى بيسـان، تجمع فيها نحو 20 ألف جندي من الروم، ولم تكن بيسان من المناطق الحصينة، ولكنهم تجمعوا عندها، وكان جيش شرحبيل t ألفين وخمسمائة مجاهد، فوصلت هذه الأخبار إلى أبي عبيدة t، وهو مع جيشه في دمشق، فاستشار خالدًا في الأمر، وسمع رأيه أولاً احترامًا له، فأشار عليه خالد بأن يرسل إلى شرحبيل مددًا يساعده على مواجهة جيش الروم؛ لأن جيش الروم في بيسان ليس مستعدًا للحرب على أن يراقب المسلمون جيش بعلبك، فإذا ثبت هناك توجهت قوة إسلامية إليه، وإن تحرك تجاه دمشق تحرك إليه الجيش الإسلامي قبل أن يصل إلى دمشق، حتى لا تجتمع القوة الرومية الموجودة في بعلبك مع القوة الرومية الموجودة داخل أسوار دمشق، ووافق أبو عبيدة على اقتراح خالد، وأرسل مددًا لشرحبيل بن حسنة، على رأسه عمرو بن العاص t، الذي توجه ومعه ألفان وثمانمائة مجاهدٍ، فأصبح جيش المسلمين في فلسطين نحو خمسة آلاف وثلاثمائة مجاهد، وكان على إمرتهم عمرو بن العاص t.
    من جهة أخرى علم المسلمون بتراجع حامية بعلبك عن حربهم، فقرروا أن يتوجهوا إليهم في بعلبك، وقال أبو عبيدة لخالد: والله ما لهذا الجيش إلا أنا أو أنت أو يزيد، فيقول خالد: لا. بل أنا أسير إليهم، (فهو t يرى في نفسه القدرة على قيادة هذا الجيش، كما أنه توَّاقٌ إلى الجهاد في سبيل الله دائمًا، ويريد أن يتجه إلى القتال) فانطلق t بجيش قوامه 5 آلاف جندي كلهم من الفرسان، وبقي في حصار دمشق مع أبي عبيدة نحو 21 ألف وسبعمائة مجاهد، وخرج أبو عبيدة يودع جيش خالد ويوصيه، ويقول له: إن احتجت للمدد فابعث لي، وأبعث لك بالمدد، وإن احتجت لي أنا، آتِك فورًا, فيشد خالد على يد أبي عبيدة، وينطلق إلى بعلبك..
    مراوغات وتحركات إلى بيسان:
    يتجه خالد ين الوليد t من شمال دمشق إلى بعلبك، وهي في سهل البقاع الموجود بين سلسلتين من الجبال الشرقية، والغربية، وجيش المسلمين يتوجه صَوْبَ بعلبك شرق سلسلة الجبال الشرقية، في حين كان جيش الروم بعد أن علم بتوجه الجيش الإسلامي له يفر من ملاقاة الجيش الإسلامي، (على الرغم من كثرة عدده 20 ألفًا) ويتجه إلى منطقة بيسان، بعد أن أمرهم (هرقل) بذلك، وكان هذا قرارًا عسكريًّا حكيمًا؛ لأن في بيسان 20 ألفًا من الجنود، وبانضمام هؤلاء إليهم، يصبحون 40 ألفًا، بإمكانهم أن يقاوموا جيش المسلمين الـ 5 آلاف مقاتل فقط..
    فتوجهت الجيوش الرومية من بعلبك -عبر الطرق الداخلية، بين سلسلتي الجبال العاليتين- إلى بيسان، وعلى الرغم من قوة مخابرات خالد بن الوليد t، إلا إنه لم يعلم بأمر توجه هذه القوات إلى الجنوب! وتوجه إلى بعلبك، كل ذلك بسبب تلك الجبال الوعرة.. ووصل خالد إلى بعلبك، ولم يجد فيها جيشًا!!
    خالد ينطلق إلى بيسان:
    وعلى الفور يعود خالد إلى دمشق، ليستطلع رأي أبي عبيدة، فيأمره أبو عبيدة بالتوجه إلى الروم المجتمعين في بيسان لمؤازرة جيش عمرو بن العاص هناك، ويبدو أن الروم قد ركزوا تجمعهم على هذه المنطقة.. وتُعَدُّ الجيوش الإسلامية على وجه السرعة، مع استبقاء جيش من المسلمين (نحو 7 آلاف) بقيادة يزيد بن أبي سفيان في حصار دمشق، حتى لا تخرج حامية دمشق في ظهر المسلمين.. ويجعل أبو عبيدة خالد بن الوليد في مقدمة جيشه، ويأمره بأن يسبق المسلمين بألف وخمسمائة فارس، لنجدة الجيش الإسلامي في بيسان..
    ينطلق خالد بفرسانه شرق نهر الليطاني، وبحيرة طبرية، حتى إنه من شدة سرعته، يباغت مؤخرة الجيش الرومي القادم من بعلبك إلى بيسان، على الرغم من تحركها قبله بفترة طويلة، وكانت قد اتخذت طريقها غرب نهر الأردن، وغرب بحيرة طبرية، فوصل خالد إلى جنوب بحيرة طبرية، ويجد أن أخريات الجيش الرومي على الجهة الأخرى، فيعبر نهر الأردن، ويقتتل معهم، ويهرب منهم الكثير على الرغم من كثرة عددهم (حيث كان بإمكانهم أن يستديروا لمواجهة فرسان خالد) في مواجهة فرسان خالد (20 ألف مقابل ألف وخمسمائة فارس!!) إلا أنهم لم يكن لهم هم إلا المسارعة للوصول إلى حامية الروم في بيسان فقتل خالد كثيرًا من أخريات الجيش الرومي، وعاد بعد ذلك إلى منطقة فِحْل التي عسكر فيها عمرو بن العاص بجيشه المكون من خمسة آلاف وثلاثمائة مجاهدٍ، فيصل إليهم ومعه بعض الغنائم من الجيش الرومي الذي حاربه، ويستبشر المسلمون بقدوم خالد بن الوليد إليهم استبشارًا عظيمًا.. ويغدو للمسلمين معسكران في هذه المنطقة: واحد بقيادة خالد، والآخر بإمرة عمرو بن العاص..
    وانتظر المسلمون بقية الجيش الإسلامي القادم من دمشق، حتى وصلوا إليهم، وبدأ أبو عبيدة يعد الجيوش الإسلامية لحرب جيش الروم في بيسان.
    يقسم أبو عبيدة جيشه جاعلاً خالد بن الوليد في المقدمة مع فرسانه، ومعاذ بن جبل على الميمنة، وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص على الميسرة، وسعيد بن زيد على المشاة، وكان لا ينام إلا على تعبئة (أي على هذا الترتيب)، حتى إذا باغته الجيش الرومي في أي وقت تكون جميع الجيوش مستعدة للقتال والمواجهة.
    ولم تفتأ الإمدادات الرومية تتوالى على الجيش الرومي في بيسان الواقعة على البحر الأبيض المتوسط، عبر السفن حتى تزايد عدد الجيش الرومي، وأراد خالد أن يبدأ بحربهم قبل أن يأتيهم مدد أكثر، واستعمل الروم حيلة حتى يمنعوا المسلمين من التقدم إليهم، وذلك بأن فجروا السدود الموجودة بنهر جالوت الذي يفصلهم عن المسلمين فغُمِرَتْ تلك المنطقة الفاصلة بالمياه..
    ومع ذلك تقدم المسلمين، إلا أن الأرض أصبحت موحلة طينية، فلم يستطع المسلمون مواصلة التقدم (وسميت تلك الأرض الردغة، أو ذات الرداغ من كثرة الطين والوحل فيها!)، وكانت هذه المطاولة (الإبطاء في المواجهة) من مصلحة الروم؛ لأن هذا الجانب الغربي لنهرالأردن (الذي مكثوا فيه) كان هو الجانب الخصب، ولم يكن الجانب الشرقي خصبًا لدرجة كافية، فكان لدى المسلمين مشكلة في التموين والغذاء!، بالإضافة إلى تزايد الإمدادات القادمة للجيش الرومي، حتى تضاعف عددهم بعد بضعة أيام إلى 80 ألفًا..
    بدء المفاوضات:
    فكر المسلمون في الإغارة على هذه المناطق، حتى يأتوا بالمدد والتموين للجيش الإسلامي، ويقطعوا في الوقت ذاته وصول الإمدادات والتموين عن الجيش الرومي! ويستحثونه للبدء في المواجهة، وفعلاً وسع المسلمون دائرة الإغارة حتى إنهم وصلوا إلى شمال نهر (جالوت) وشمال الجيش الرومي، واستطاعوا أن يقطعوا الإمدادات القادمة من الشمال، وعند ذلك فكر الروم في مواجهة المسلمين.. واحتالوا على المسلمين في البداية بمحاولة هزيمتهم نفسيًّا، فقاموا بإرسال رسالة شديدة اللهجة، اعتقدوا أنها قد توهن في قلب المسلمين، فأرسلوا لأبي عبيدة يقولون: "اخرج أنت ومن معك من أصحابك، وأهل دينك من بلادنا، فلستم لها بأهل، وارجعوا إلى بلادكم بلاد البؤس والشقاء، وإلا أتيناكم بما لا قبل لكم به، ثم لا ننصرف عنكم وفيكم عين تطرف"..
    فأرسل إليهم أبو عبيدة قائلاً: "أما قولكم: اخرجوا من بلادنا فلستم لها بأهل; فَلَعَمْرِي ما كنا لنخرج منها، وقد أذلكم الله فيها بنا (يذكرهم بهزائمهم المتتالية) وأورثناها، ونزعها من أيديكم، وصيَّرها لنا، وإنما البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، والله مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء. أما قولكم في بلادنا: إنها بلاد البؤس والشقاء; فصدقتم، وما نجهل ما قلتم، إنها لكذلك، وإنا لنحمد الله، فقد أبدلنا خيرًا منها، بلاد العيش الرفيع، والأنهار الجارية، والثمار الكثيرة (إشارة إلى الشام أرض الروم، وهو بذلك يسخر منهم ويستفزهم أكثر)، فلا تحسبونا تاركيها، ولا منصرفين عنها حتى نفنيكم، ونخرجكم عنها، فأقيموا؛ فوالله لا نجشمكم: إن أنتم لم تأتونا إلا أن نأتيكم، وإن أنتم أقمتم لنا فلا نبرح حتى نبيد خضراءكم، ونستأصل شأفتكم إن شاء الله", وهكذا يرد عليهم ردًّا مليئًا بالقوة والعزة، وبمجرد وصول هذه الرسالة إلى الروم أصيبوا هم بالهزيمة النفسية، وهزهم الخطاب هزًّا شديدًا، لدرجة أنهم أرسلوا له رسالة أخرى، يقولون له فيها: "ألا ترسل لنا رسولاً من عندك نتفاهم معه؟".. فيرسل لهم أبو عبيدة معاذ بن جبل t، الذي يتجه إلى المعسكر الرومي ليحدثهم فيم يريدون..
    عبرة من مفاوضات الرسول :
    ومن المفيد أن نتذكر ما كان قبل ستة عشر عامًا، حيث كان رسول الله يفاوض الوفود القادمة لمكة للحج، يفاوضها على حماية المسلمين، أو الدخول في الإسلام، ونجد من الصحابة تطبيقًا عمليًّا واضحًا لهذه المفاوضات بعد ذلك، كما فعل من فاوضوا رستم قائد الفرس، ومن خلال ما فعل معاذ بن جبل مع الروم في هذه المفاوضات.
    مفاوضاته مع بني شيبان:
    جاء في هذه المفاوضات مفاوضات الرسول مع وفد بني شيبان (مفروق، وهانيء بن قبيصة، وكان فيه المثنى بن حارثة قبل إسلامه) وهم يعيشون في شمال الجزيرة العربية، حيث ذهب الرسول ومعه أبو بكرالصديق t، فسألهم: كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق (أحد عظمائهم): إنا لنزيد عن الألف.. ولن تغلب الألف من قلة، فسأله أبو بكر: وكيف المنعة فيكم؟ قال مفروق: علينا الجد والجهد، ولكل قومٍ حد، قال أبو بكر: وكيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ فقال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضبًا حين نلقى، وإنا لأشد ما نكون لقاءً حين نغضب، وإنا لنؤثرالجياد على الأولاد، وإنا لَنُؤْثِرُ السلاح على اللقاح، والنصر من عند الله يدلينا مرة، ويديل علينا أخرى، لعلك أخو قريش؟ (خُيَّل إليه أن أبا بكر هو رسول الله، وكانت قد وصلتهم أنباء عنه) فقال أبو بكر: أوبلغكم أنه رسول الله، فها هو ذا، وعرفهم برسول الله ، فقال مفروق: قد بلغنا أنه يذكر ذلك، فإلام تدعو يا أخا قريش؟ قال رسول الله : أدعو إلى شهادة ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأني رسول الله (فهذه هي القاعدة الأولى، التي يجب أن يتفق عليها معهم)، وإلى أن تؤوني وتنصروني، فإن قريشًا قد تظاهرت على أمر الله، وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق! والله هو الغني الحميد، فقال مفروق: وإلام تدعو أيضًا، يا أخا قريش؟ فتلا عليه رسول الله قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151]، ثم قال له مفروق: وإلام تدعو أيضًا يا أخا قريش؟ فتلا عليه رسول الله قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].
    فلما سمع مفروق ذلك كله، قال: دعوت يا أخا قريش والله إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد أَفِكَ (أي: خسر) قومٌ كذبوك وظاهروا عليك. وبذلك أبدى مفروق تعاطفًا مع رسول الله ، وهي نقطة مهمة في الدعوة، ومكسب للرسول، لأنه حتى هذه اللحظة، لم يكن أحدٌ من الوفود حول مكة قد دخل في الإسلام بعدُ، ولم يكن الرسول قد أرسل لأهل المدينة بعد، وكأن مفروق قد أحب أن يشرك أحد أفراد قبيلته في الأمر، وهو هانئ بن قبيصة، فقال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا، فقال هانئ: لقد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى إن تركنا ديننا، واتباعنا إياك على دينك لمجلسٍ جلسته إلينا، ليس له أول ولا آخر، لوهن في الرأي، وقلة نظر في العاقبة، (أي إنه يريد أن يفكر في الأمر، ويتريث) وإنما تكون الزلة في العجلة، ومن وراءنا قومٌ نكره أن نعقد عليهم عقدًا، ولكن ترجع ونرجع، وتنظر وننظر! (وكأنه أحب أن يشرك المثنى بن حارثة في الأمر) فقال له: وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا (وكان معروفًا بأنه أشد فرسان بني شيبان)، فقال المثنى: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب ما قال ابن قبيصة، في تركنا ديننا واتباعك في مجلس جلسناه إليك ليس له أول ولا آخر، ولكن إنما نزلنا بين صريين: بين اليمامة والسماوة"..
    فقال رسول الله : ما هذان الصريان؟ فقال: أنهار كسرى، ومياه العرب، فأما أنهار كسرى (أي كل ضرر يأتيك من كسرى) فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول، وأما ما كان من مياه العرب (أي مشكلات ضد العرب) فعذره مقبول، وذنبه مغفور، وإنما نزلنا على عهدٍ أخذه علينا كسرى، لا نحدث حدثًا، ولا نُؤْوِي محدثًا (ورسول الله عندهم محدث، لأنه أتى بشيء جديد) وإني لأرى أن هذا الأمر مما تكرهه الملوك (ويقصد بذلك كسرى)، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا. (وكان هذا العرض ثمينًا، في وقتٍ أشد ما يكون على المسلمين، حيث كان رسول الله خارجًا لِتَوِّه من حصار شعب أبي طالب، وكانت ذلك في عام الحزن).
    عودة إلى أرض الشام:
    مفاوضات معاذ بن جبل: وبهذا الفهم ينطلق معاذ بن جبل، وهو يعرف ما الحدود التي يستطيع أن يتفاوض فيها، والأمور التي لا يمكن أن يقبل التفاوض فيها، يدخل معاذ بن جبل على فرسه، ويصل إلى المعسكر الرومي، ويجد الروم يجلسون على وسائد من الحرير، ونمارق مبسوطة، والكثير من الرفاهية حتى في أرض المعركة! ويجلس أمراء جيشهم، وحولهم الخدم، ويقف هو بفرسه، وثيابه البسيطة، فينزل من على فرسه، وينظر إليهم، ويأتيه أحد الروم ويقول له: أعطني دابتك أمسكها لك، وادنُ أنت فاجلس مع هؤلاء الملوك، فإنه ليس كل أحد يقدر على ذلك.
    ولكن معاذًا يصر على أن يمسك دابته، ويقف على أول البسط، ويقول لهم (من خلال مترجم): إن نبينا أمرنا ألا نقوم لأحدٍ من خلق الله (يخبرهم أنه لا يقف تعظيمًا لهم)، ولا يكون قيامنا إلا لله، في الصلاة والعبادة، والرغبة إليه، فليس قيامي هذا لك إعظامًا، ولكني قمت هنا، إعظامًا للمشي على هذه البسط، والجلوس على هذه النمارق، التي استأثرتم بها على ضعفائكم، وإنما هي من زينة الدنيا وغرورها، وقد زَهَّد الله في الدنيا، وذمها، ونهى عن البغي والسَّرَف فيها، فأنا جالسٌ ها هنا على الأرض، وكلموني بحاجتكم من ها هنا.
    (هذا الأمر به معنى إسلامي واضح، وهو أن المسلمين يكرهون هذه الرفاهية كراهية شديدة، وقد كان من الممكن لسيدنا معاذ أن يتنازل، ويتحمل، ويجلس معهم، ولكن في هذا الأمر ذكاء، وبعد سياسي من معاذ t، بالإضافة إلى ورعه وتقواه، فبجلوسه في الخارج بهذا الوضع الغريب، سينقل الناس ذلك إلى من لم يشهدوه، وهو يريد أن يعلم الناس جميعًا أنه جلس على الأرض، ويتساءلون لم جلس كذلك؟ فيكون الرد ما قاله معاذ t، وهو (أنكم استأثرتم بهذه الأشياء على ضعفائكم) مما يحدث بلبلة في صفوف الجيش الرومي، ويشعرهم بالفارق الشاسع بين الجند وقادتهم، مما يؤدي إلى تصدع الصف، وأن الأمة الإسلامية التي تحاربهم ليس لديهم هذه التفرقة).
    فنظر بعضهم إلى بعض متعجبين، فيقولوا له: هل أنت أفضل أصحابك؟ (ذلك أن الزهد عندهم مَقْرون بالأنبياء، وانتهى منذ عهد المسيح عيسى بن مريم u وحوارييه، أما هم فقد نسوا كل هذا! فيتعجبون من اقتراب صفاته من صفات الأنبياء) فيقول لهم: عند الله، معاذَ الله أن أقول ذلك، وليتني لا أكون شرَّهم! (على الرغم من علو مكانته بين المسلمين، وأنه كان -كما قال عنه رسول الله- أعلم الأمة بالحلال والحرام، وإمام العلماء، إلا أنه كان يرى نفسه صغيرًا، وهكذا كان شأن صحابة رسول الله دائمًا).. فأخذوا يتناقشون ساعة، فلما ملَّ من الانتظار، طلب منهم الانصراف، فأوصلوا له مجموعة من الطلبات، فقالوا له: "أخبرونا ما تطلبون، وإلى أي شيءٍ تدعون؟ وما أدخلكم بلادنا، وتركتم أرض الحبشة، وليست منكم ببعيد، ولماذا تركتم أرض فارس، وقد هلك ملك فارس، وهلك ابنه، وإنما تملكهم اليوم النساء؟! (في ذلك الوقت ملك الفرس بوران بنت كسرى) ونحن ملكنا حي، وجنودنا عظيمة كبيرة، وإن فتحتم من مدائننا مدينة، أو من قرانا قرية، أو من حصوننا حصنًا، أو هزمتم لنا عسكرًا، أظننتم أنكم قد ظفرتم علينا، وأنكم قد قطعتم حربنا عنكم؟ أو فرغتم مما وراءنا منا، ونحن عدد نجوم السماء، وعدد حصى الأرض، وأخبرونا لم تستحلون قتالنا، وأنتم تؤمنون بنبينا، وكتابنا؟!".
    رد مُعاذ على الروم:
    فأخذ معاذ الورقة، فبدأ بأن يقول للترجمان: (بعض ما جاء فيه عن فتوح الشــام للأزدي) افهم عني أن أول ما أنا ذاكر حمد الله الذي لا إله إلا هو، والصلاة على محمد نبيه ، وأن أول ما أدعوكم إليه أن تؤمنوا بالله وحده وبمحمد ، وأن تصلوا صلاتنا، وتستقبلوا قبلتنا، وأن تستنوا بسنة نبينا ، (وهذا يشمل كل أمور الإسلام، ثم يضيف في اختياردقيق جدًّا) وتكسروا الصليب، وتجتنبوا شرب الخمر، وأكل لحم الخنزير (فلماذا اختص هذه الأمورالثلاثة، على الرغم من أنهم كانوا يفعلون الكثير من المحرمات غيرها، مثل استعباد الناس، والقتل، واستحلال الزنا، ذلك أنه -والله أعلم- اختار هذه الأمورالثلاثة لأمرين مهمين:
    الأول: أنهم كانوا يستحلون هذه الأمور، أما بقية الأمور فكانوا يُعاقِبون عليها، ولا يجدونها من المكارم، وإن كانوا يفعلونها!!
    الثاني: لشيوع ذلك الأمر لدى الروم من كبارهم حتى أسافلهم وعبيدهم).
    ثم أنتم منا ونحن منكم، وأنتم إخواننا في ديننا، لكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فأدُّوا الجزية إلينا في كل عام وأنتم صاغرون، ونكفُّ عنكم (هكذا يتحدث بكل عزة، ويطلب منهم الجزية، ويقول إنه سيدافع عنهم، هؤلاء العرب، سيدافعون عن الروم! أقوى قوة في العالم) وإن أنتم أبيتم هاتين الخصلتين فليس شيء مما خلق الله نحن قابلوه منكم، فابرزوا إلينا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين، فهذا ما نأمركم به وندعوكم إليه. وأما قولكم: "ما أدخلكم أرضنا، وتركتم أرض الحبشة؟ وليسوا منكم ببعيد", فذلك أنكم أقرب إلينا، وإننا سنأتيهم بعدكم، وإنما يقول ربنا في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 123]، فكنتم أقرب إلينا منهم فبدأنا بكم، وأما أهل فارس فقد أتاهم طائفة منا، وهم يقاتلونهم، ونرجو أن يظفروا عليهم، وأن يفتح الله على يديهم وينصرهم (والروم يعلمون انتصارات المسلمين في فارس، لكنهم يريدون لو انشغل المسلمون بفارس فقط!) وأما قولكم: "إن ملكنا حي، وإن جنودنا عظيمة، وإنا عدد نجوم السماء، وحصى الأرض" وتُيَئِّسوننا من الظهور عليكم، فإن الأمر في ذلك ليس إليكم، وإنما الأمور كلها إلى الله، وكل شيء في قبضته، فإذا أراد شيئًا قال له: كن فيكون، وإن يكن ملككم (هرقل)، فإن ملكنا (الله)..
    (وهذه مصدر عزة المسلم دائمًا، أيًّا كان الزعيم، أو العظيم الذي أمامه) وأميرنا رجل منا، إن عمل فينا بكتاب ديننا، وبسنة نبينا ، أقررناه علينا، وإن عمل بغير ذلك عزلناه، وإن هو سرق قطعنا يده، وإن هو زنا جلدناه (وهي أمور يذكرها معاذ بذكاء، حتى يقارنوا بينهم، وبين ما يحدث عندهم مع ملوكهم!!) وإن شتم رجلاً منا، شتمه كما شتمه، وإن جرحه أقاده من نفسه، ولا يحتجب منا، ولا يتكبر علينا، ولا يستأثر علينا في فيئنا، وهو كرجل منا.
    (وما كذب معاذ t، فقد كان أمراء المسلمين في هذه العصور المجيدة كذلك، لا فرق بين أميرهم وصغيرهم، قائدهم وجنودهم، ولكنَّ ذِكْرَ هذه الكلمات في هذا الموقف فيه إذلال شديد للروم)..
    وأما قولكم: "جنودنا كثيرة" فإنا لا نثق بها، ولا نتكل عليها، ولا نرجو النصر على عدونا بها، ولكن نتبرأ من الحول والقوة، ونتوكل على الله ، ونثق بربنا، فكم من فئة قليلة قد أعزها الله ونصرها، وكم من فئة كثيرة مثلكم قد أذلها الله وأهانها، وقال تبارك وتعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]، وأما قولكم: "كيف تستحلون قتالنا، وأنتم تؤمنون بكتابنا ونبينا؟!" فأنا أخبركم عن ذلك: نحن نؤمن بنبيكم ونشهد أنه عبدٌ من عبيد الله، وأنه رسولٌ من رسل الله، وأن مثله عند الله كمثل آدم، خلقه من ترابٍ ثم قال له: كن فيكون، ولا نقول: إنه الله، ولا نقول: إنه ثاني اثنين، ولا ثالث ثلاثة، ولا أن لله ولدًا، ولا أن لله صاحبة، ولا نرى معه آلهة أخرى.. تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا، وأنتم تقولون في عيسى قولاً عظيمًا، لو أنكم قلتم في عيسى ما نقول، وآمنتم بنبوة نبينا ، كما تجدونه في كتابكم، وكما نؤمن نحن بنبيكم، وأقررتم بما جاء به من عند الله، ووحدتم الله، ما قاتلناكم، بل كنا نسالمكم، ونواليكم، ونقاتل معكم عدوكم..
    عرض رومي مذهل:
    فلما فرغ معاذ من خطابه قالوا: ما نرى بيننا وبينك إلا متباعداً (شعروا أن هناك هوة بعيدة في المفاوضات، وأن كلامه لا يمكنهم القبول به! ومع ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب الشديد، وهزتهم هذه الكلمات)، وهذه خصلة نحن نعرضها عليكم، فإن قبلتموها منا فهو خير لكم، وإن أبيتم فهو شر لكم (ها هم يقدمون تنازلاً جديدًا) نعطيكم البلقاء وما إلى أرضكم من سواد الأرض، (وهو عرض غريب جدًّا، إذ به يتنازلون عن الجزء الجنوبي من الشام، ويطلبون أن يُبقي المسلمون الجزء الشمالي للروم!) ونكون معكم على حرب فارس (وهو عرض سياسي مغرٍ جدًّا، يتشابه مع العرض الذي كان مقدمًا للرسول من بني شيبان) وتنحُّوا عن بقية أرضنا وعن مدائننا، ونكتب لكم كتابًا نسمي فيه خياركم وصلحاءكم.
    أما معاذ بن جبل t فهو تلميذ رسول الله ، وأعلم أمته بالحلال والحرام، لم يكن همه الأرض وأشجار الزيتون، وإنما همه إبلاغ رسالة الإسلام للأرض قاطبة، فهو يعلم أن ما وراء البلقاء شعوب تُقْهَر على عبادة غير الله، ويجب عليه أن يصل برسالة الإسلام إليهم.
    قال معاذ: هذا الذي عرضتم علينا وتعطونه كله في أيدينا، ولو أعطيتمونا جميع ما في أيديكم مما لم نظهر عليه ومنعتمونا خصلة من الخصال الثلاث التي عرضتها عليكم (الإسلام أو الجزية أو القتال) ما فعلنا.
    فغضبوا عند ذلك غضبًا شديدًا، وقالوا: نتقرب إليك وتتباعد عنا؟ اذهب إلى أصحابك، إنا لنرجو أن نُفِرَّكم غدًا إلى الجبال.
    فقال معاذ: أما الجبال فلا، ولكن واللهِ لتَقْتُلُنَّنا عن آخرنا، أو لنخرجَنَّكم من أرضكم أذلةً وأنتم صاغرون.
    فانصرف معاذ إلى أبي عبيدة فأخبره بما قالوا، وبما رد عليهم.

    تابعونا جزانا وجزاكم اللة خير الجزاء
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: فتوحات الشام

    مُساهمة من طرف صادق النور الأحد أكتوبر 30, 2011 11:31 am

    فتوحات الشام 1744_image002

    موقعة بيسان ......................


    فشلت المفاوضات التي دارت بين معاذ بن جبل t والروم، ورفض الروم الأمور الثلاثة التي عرضها عليهم معاذ (الإسلام أو الجزية أو القتال)، وعرضوا أرض البلقاء، ومساعدة المسلمين في حرب الفرس، ورفض معاذ t ذلك كله.

    عاد معاذ t إلى أبي عبيدة t، فأرسل الروم في أعقابه رسولاً برسالة إلى أبي عبيدة، يقولون له: "لقد أرسلت إلينا رسولاً لا يريد الإنصاف، ونحن نعتقد أن هذا الرأي ليس رأيك".

    وأرادوا أن يتقدموا بطلباتهم إلى قائد المسلمين مباشرة، وهذا يوحي بأنهم سيقدمون تنازلاً جديدًا، فأخَّروا أمر القتال، وأرسلوا رسولاً من قادة الروم للحديث مع أبي عبيدةt، فدخل مع دليله، لكي يوصله إلى أمير المسلمين أبي عبيدة، فدخل عليهم، فلم يعرف أين أبو عبيدة؛ لأنه لا يتميز عمّن حوله، وهو أمر مختلف عما عند الروم، فسأل: أين أميركم؟ فأشاروا إليه، فوجد أحدهم يجلس على الأرض متنكبًا قوسه، فتعجب وقال: أهذا قائدكم؟ قالوا: نعم.

    فقال: وما يضيرك إذا وضعت تحتك وسادة؟ أهذا يضعك عند الله؟! فرد عليه أبو عبيدة t: "إن الله لا يستحي من الحق، ولأصدقنك عما قلت، والله ما أصبحت أملك دينارًا ولا درهمًا! ولا أملك إلا فرسي وسلاحي وسيفي، ولقد احتجت بالأمس إلى نفقة فلم يكن عندي، فاستقرضت من أخي هذا (وأشار إلى معاذ بن جبل)، ولو كان عندي أيضًا بساط، ما كنت لأجلس عليه دون إخواني وأصحابي، وأُجْلِسُ أخي المسلم -الذي لا أدري لعله عند الله خير مني- على الأرض، ونحن عباد الله نمشي على الأرض ونجلس على الأرض، ونأكل على الأرض، ونضطجع على الأرض، وليس ذلك بناقصنا عند الله شيئًا، بل يعظم الله به أجورنا، ويرفع درجاتنا، ونتواضع بذلك لربنا, هات حاجتك التي جئت بها".

    (وأبو عبيدة t لا يتصنع هذا الموقف، فالمسلمون في هذا الوقت، الذي نسأل الله أن يعيد المسلمين اليوم إليه، كانوا يكرهون حياة الرفاهية والدَّعَة، ولم يكونوا يحبونها؛ لأنهم يعلمون أن نهاية هذا الترف تكون نهاية وخيمة، ويعلمون قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16]. يقول ابن عباس في هذه الآية: أي أن الله يأمرهم بالطاعات، ولكنهم لا يستجيبون، وإنما يفسقون، ويتمادون في المعاصي، فيعذبهم الله, فمن يقوم بالفساد في الأرض -في كثير من الأحوال- هم المترفون؛ ولذلك ينصح عمر بن الخطاب t المسلمين جميعًا: "اخشوشنوا؛ فإن النعم لا تدوم".

    والإسلام لا يحرم امتلاك الثروات، والأموال، ولكن يكره ويحرم الإسراف والبذخ في أي شيء؛ لأن ذلك قد يعرض الإنسان لتجاوز الحد، والتفريط في دين الله، وكان الصحابة يكرهون هذا الترف، ولا شك في أن أمين هذه الأمة أبا عبيدة t كان من أورع وأزهد الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وهذا الأمر يوقع جيش الروم في هزيمة نفسية كبيرة، عندما يعود ذلك الرسول، ويحكي لهم ما رآه من تواضع قائدهم، فسيفقد الجنود الروم ولاءَهم لقائدهم ذاك، الذي لا يجلس معهم، وهو مفضل عنهم في كل شيء، لا يرى من ضيق عيشهم شيئًا، ولا يعاني معاناتهم، بل إن بعض الأمراء كان يأتي للحرب بكامل حليه وزينته!).

    عرض رومي جديد :
    فقال رسول الروم لأبي عبيدة t: نعرض عليكم الإنصاف, فعرض عليه أن يعطوهم البلقاء، وما وَالَى أرض المسلمين من فلسطين، ونساعدكم في حرب فارس، وسنعطي كل جندي من جنود المسلمين دينارين وثوبًا، وسنعطيك ألف دينار، وسنعطي الذي فوقك (يقصدون الخليفة عمر بن الخطاب) ألفي دينار (فلو جمعنا المبالغ التي يريدون أن يدفعوها تبلغ 70 ألف دينار و35 ألف ثوب، وهذا كثيرٌ جدًّا في هذا الوقت، لا يتوقعه أحد من المسلمين أبدًا).

    فشعر أبو عبيدة t أن الرجل لم يفهم قصد المسلمين حتى هذه اللحظة، فلم يكن منه إلا أن حمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، وصلَّى على رسوله، ثم قال: "إن الله بعث فينا رسولاً، وأنزل علينا كتابًا حكيمًا، وأمره أن يدعو الناس إلى عبادة ربهم؛ رحمة منه للعالمين، وقال لهم: إن الله واحد، عزيز مجيد، وهو خالق كل شيء، وليس كمثله شيء، وأمرهم أن يوحدوا الله الذي لا إله إلا هو، ولا يتخذوا له صاحبة، ولا ولدًا، ولا يتخذوا معه آلهة أخرى، وأن كل شيء يعبده الناس دونه فهو خَلَقَه، وأمرنا فقال: "إذا أتيتم المشركين فادعوهم إلى الإيمان بالله وبرسوله، وإلى الإقرار بما جاء من عند الله، فمن آمن وصدق فهو أخوكم في الله، له ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أَبَى فاعْرضوا عليه الجزية، حتى يؤدوها عن يدٍ وهم صاغرون، فإن أبَوْا أن يؤمنوا أو يؤدوا الجزية، فاقتلوهم وقاتلوهم، فإن قتيلكم في الجنة، وقتيل عدوِّكم في النار". فإن قبلتم ما سمعتم مني فهو لكم، وإن أبيتم فابرزوا إلينا حتى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين.

    ولا شكَّ أن هذه الكلمات قد هزَّتْ ذلك القائد الرومي، وهو من المترَفين المنعمين، حيث كان يأمر فيطاع، ولكنه وجد الآن واحدًا من العرب، من رَعَاع القوم (في نظره) يقول له هذا الكلام الشديد، فقال له: أنا والله على ذلك، وإني لأراكم تتمنون غدًا أنكم قبلتم منا دون ما عرضنا عليكم!! (أي أنه يرى أن المسلمين سيندمون على حربهم للروم، وأنهم سيُهزمون لا محالة، وسيتمنون حينها أقل مما كان الروم سيعطونهم لو لم يحاربوا)، ثم تركه وانصرف.

    بذلك انتهت المفاوضات مع الروم نهاية واضحة، وهي الحرب.

    رسالة أبي عبيدة إلى عمر:
    استعد جيش أبي عبيدة t للقتال، وبدأ في إعداد الصفوف، وأرسل إلى عمر t بأن الروم رفضوا الجزية، وأنهم سيبدءون في الحرب، وسلم هذه الرسالة إلى أحد نصارى الشام وكان عدَّاءً ماهرًا، وفي نهاية ذلك اليوم خرجت بعض القوات الإسلامية من فِحْل، للتحرش ببعض القوات الرومية التي خرجت من خلف المستنقع من "بيسان" لمناوشة المسلمين (كما أخبرتهم المخابرات الإسلامية بذلك)، فما كان منها إلا أن عادت بسرعة! وكان رسول أبي عبيدة قد انتظر حتى يرى ما حدث بعد خروج الجيش الإسلامي، ولم ينطلق برسالته إلا بعد أن عاد الجيش الإسلامي فرحًا بالهزيمة النفسية التي حققها لذلك الفريق الرومي، ووصل الرسول إلى عمر، وسلمه الرسالة من أبي عبيدة، فسأله عمر: وكيف تركت المسلمين؟ فأخبره بأنه ما تركهم حتى علم أمر ذلك الفريق، وأنه تركهم على خير حال، فعاتبه عمر لأنه تأخر في إيصال الرسالة، فقال له: علمت أنك سائلي عن ذلك. فأعجب عمر t بذكائه، وسأله ما دينك؟ فقال له: نصراني. فقال له عمر: ويحك! أسلم. فلم يكن من الرجل إلا أن قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.

    ونحتاج أن نتوقف قليلاً عند هذا الموقف المهم، إذ فيه يتجلى ملمح من ملامح الخليفة الفاروق عمر t، الذي لم يضيع فرصة وجود هذا النصراني، حتى دعاه إلى الإسلام، وحتى كان سببًا في نجاته من النار! فلم يكن تعامل الخليفة معه تعاملاً عاديًّا لكونه مجرَّد رسول من قائده، ولكنه يدعوه إلى الإسلام في هذا الوقت السريع المحدود، ويسلم الرجل فعلاً، وهكذا يجب على المسلم ألا يضيع وقتًا أو فرصة للدعوة إلى الله، فسيجد المسلم -في كل وقت- مَن هو أهلٌ لأن يدعوه، ويستنقذه من النار، ويدخله -بفضل الله ورحمته- الجنة، وذلك يكون حتى بين المسلمين أنفسهم، بأمره بطاعة، أو نهيه عن فعل معصية، كما أنه لا شكَّ أن لدى هذا الرجل قابلية منذ البدء للإسلام، فعمر لم يوضح له قواعد الإسلام أو ضوابطه، ولكن هذا الرجل -لا شك- قد رأى من جنود المسلمين بأرض الشام ما أعجبه، وما وجد فيه الفرق بين الإسلام وبين النصرانية، وبين تطبيق المسلمين للإسلام، وتطبيق النصارى للنصرانية؛ فلم يتبقَّ له إلا الشيء اليسير، الذي حركه في نفسه طلب خليفة المسلمين عمر.

    ونستفيد من ذلك أن لكل فرد عددًا من الأفراد ينقلونه من حال الكفر إلى الإيمان، أو من المعصية إلى الطاعة، نفترض أن لكل فرد مثلاً خمسة أشخاص، يحدثونه كل واحد على حدة، وفي أماكن مختلفة، ومواقف مختلفة، ولا يسلم أو لا يتغير إلا بعد جهد هؤلاء الخمسة، الذي اخْتُزِن في ذاكرته طويلاً، ولا يسلم إلا على يد الخامس هذا، وهذا -لا شك- لا ينقص من أجر الأربعة الذين سبقوه شيئًا، فعلى المسلم أن يسعى دائمًا، وليس عليه أن ينتظر النتائج، أو أن يرى النتائج أمامه!! وفي المقابل إذا أسلم على يده أحد، أو اهتدى على يده أحد، لا يبالغ بالافتخار بذلك، ويعتقد أنه هو الوحيد صاحب الفضل في ذلك، بل إنه مجرَّد الأخير، وقد سبقه -ولا شك- الكثيرون.

    المناوشات الأولى.. وبداية موقعة بيسان:
    خرج خالد بن الوليد بمقدمة الجيش في مناوشات أخرى مع مقدمة جيش الروم في 1500 من الفرسان، فقسم جيشه أقسامًا ثلاثة، وكان هو في قلبها، وعلى الميمنة قيس بن هبيرة، وعلى الميسرة ميسرة بن مسروق.

    تقدمت إحدى القوى الرومية، فخرج إليهم قيس بن هبيرة في مجموعة من الخيول، وصدهم صدًّا شديدًا، على الرغم من أن قوة الروم كانت أكبر بكثير، إلا أن قيسًا صبر كثيرًا، ولم يُقتَل الكثير من الطرفين، فعاد قيس وفريقه، وبعد قليل خرجت مجموعة، فخرج لهم ميسرة بن مسروق بمجموعته، وصدهم صدًّا شديدًا، فقُتل من الروم بعضُهم، ولم يُقتل من المسلمين أحدٌ، فعاد الطرفان، ثم خرج من الروم قوة أكبر، عليها قائد مقدمة الروم، فخرج إليها خالد بن الوليد بنفسه، وبعض جنده، فصدها صدًّا عنيفًا، وقتل منها كثيرًا فعادت، لكنـه لم يعد، واستمر بقواته، واقتحم مقدمة جيش الروم، على غير المألوف، فهجمت الطائفتان (الميمنة والميسرة) المسلمة على بقية الجيش الرومي، وأحدثت فيهم مقتلة عظيمة، لدرجة أنهم لم يكن لهم من هَمٍّ إلا الفرار!! وتتبعهم خالد بن الوليد حتى دخلوا معسكرهم، فعاد خالد بن الوليد وفرسانه، فرحين بما حصدوه من نصر، وما حصلوا عليه من غنائم، وبما أحدثوا من هزة نفسية شديدة للروم.
    ثم فكر خالد بن الوليد في هذه الليلة مع أبي عبيدة في كيفية مواجهة هذا الجيش الرومي الهائل، ويلهمه الله فكرةً ذكية، وهي أن جيش الروم الآن في أضعف لحظاته، وأن الهجوم عليهم يجب أن يكون في الصباح، ويوافقه أبو عبيدة على ذلك، ويبدأ أبو عبيدة في الثلث الأخير من الليل (في ذلك الوقت الشريف، حيث ينزل الله إلى السماء الدنيا، فيعطي كل سائلٍ مسألته) يصُفُّ المسلمين، ويدعون الله، ويجهزون صفوفهم لملاقاة عدوهم بعد صلاة الفجر.

    ساعة الصفر بعد الفجر:
    كان ذلك في 28 من ذي القعدة عام 13هـ (الموافق 23 من يناير 635م)، حيث متوسط درجة الحرارة في هذه المنطقة آنذاك 12 درجة مئوية، فجوُّ الحرب قارس البرودة عليهم، وهم لم يعتادوا على مثل تلك الأجواء، وخاصة أنهم قادمون من مناطق حارة (كالمدينة ومكة)، ومع ذلك تحملوا برودة الجو الشديدة، وأعدوا العدة والعتاد للحرب، يمرُّ أبو عبيدة على كل مجموعة، ويحمسهم للقتال في سبيل الله، قائلاً: "عباد الله، اِستوجِبُوا من الله النصر بالصبر، فإن الله مع الصابرين".

    ثم أردف قائلاً: "إني أبشر من قُتِل منكم بالشهادة، ومن بقي منكم بالنصر والغنيمة، ولكن وَطِّنوا أنفسكم على القتال، والطعن بالرماح، والضرب بالسيوف، والرمي بالنبال، ومعانقة الأقران، فإنه والله لا يُدْرَك ما عند الله إلا بطاعته، والصبر على ذلك في هذه المواطن المكروهة".

    ثم بدأ بعد صلاة الفجر مباشرة وقبل أن تطلع الشمس، في تحريك الجيوش الإسلامية من (فِحْل) عابرةً نهر الأردن، من الشرق إلى الغرب، من مخاضة كان ارتفاع المياه فيها نصف متر تقريبًا، ثم يُصفّ المسلمون صفوفهم في هذه الجهة، وعلى الجهة المقابلة كان الجيش الرومي بقيادة (سقلار) وهو من كبار قواد الروم، يظنُّ أن المسلمين سيكونون نائمين، ففكر أن يباغت المسلمين، وبدأت الجيوش تتحرك باتجاه الجيش المسلم، فوصل إلى جنوب المستنقعات، ففوجئ بوجود الجيوش الإسلامية مصفوفة على هيئة القتال، وكانت هذه مفاجأة قاسية لهم، ودليل على ضعف المخابرات الرومية آنذاك، إذ لم يكتشفوا تحرك المسلمين حتى ذلك الوقت!! فرأى خالد وجيشه أن الجيش الرومي عرضه كبير، لا يرى أوله من آخره، وهو جيشٌ ضخمٌ جدًّا، فأخذ خالد بن الوليد مقدمته (الألف وخمسمائة فارس)، وانطلق باتجاه الجيش الرومي، في جولة استطلاعية حتى يرى نظام الجيش الرومي وإعداده، فرأى لهم ترتيبًا عجيبًا آنذاك، حيث وجد أن للروم قلبًا وميمنة وميسرة، ولكن في القلب خليطًا من الجنود الفرسان والمشاة (على غير المعتاد، وقد كان المعتاد أن يكون الفرسان بمفردهم، والمشاة بمفردهم)، كما جعلوا كلَّ الخيل من جهة الميمنة راميًا ورامحًا، وذلك لحماية الجيش الرومي من الخيول الإسلامية، فرأى خالد أن هذا القلب بذلك في منتهى القوة؛ لأنه محميٌّ من الطرفين بالرماة والرماح، فلا يمكن أن يقترب منه الخيل المسلم إلا وأصيب! ويعلم خالد جيدًا أن الروم يعلمون تفوق الخيل العربي على خيل الروم، مهما كانت قوة هذا الخيل الرومي، وكان ذلك تجهيزًا ذكيًّا من الروم.

    كما أنه لاحظ أن الميمنة والميسرة كلها مشاة، لا خيول فيهم، وهذه هي نقاط ضعف الجيش الرومي، كما لاحظ أيضًا أن عرض الجيش ضخم جدًّا، لدرجة أنه لو هجم على المسلمين، وهو بهذه الضخامة، فمن الممكن أن يلتف حول المسلمين (مع فارق العدد الهائل)، كما وجد أن ظهر الجيش الرومي مفتوح، أي أنه لو هُزِم فسيكون الفرار يسيرًا لهم، ففكر على الفور في التغلب على هذه الخطة، فبدأ بالاقتراب من الروم، وكأنه سيقاتلهم، فتجرأ عليه الروم وهاجموه، كل ذلك والجيش الإسلامي كله لا يزال في مكانه مستقرًّا، فتتجرأ القوات الرومية، وتبدأ بحرب القوة التي مع (خالد) ويُظهِر خالد الفرار، وكأنه خشي من القوات الرومية، فيتجرأ الجيش الرومي في ملاحقته، حتى جعل الجيش الرومي يصل إلى المنطقة التي يكون من خلفه فيها المستنقعات، وبذلك تغلب على عامل الهرب، وحاصرهم من الخلف، مما يؤثر عليهم، كما أن هذا المكان ضيق، ولا يتسع لهذه الجيوش العريضة أن تقف أمام جيش المسلمين، فما كان منهم إلا أن صفوا صفوفهم أكثر، فقل عرض الجيش (لو افترضنا أن الجيش 100 ألف، ووقف كل ألف متجاورين، فإنهم يكونون 100 صف، أما إذا وقف في كل صف مائة، فإنهم يكونون ألف صف!!) وخالد يضمن كفاءة الصف المسلم، بتقليل أفراد الصف الرومي المقابل له، فيريد أن يقاتل كل رجل رجلاً من كل صف، ولا يتجمع في قتال كل مسلم أكثر من رومي، وبذلك لم يتبق أمامه إلا مشكلة قلب الجيش الرومي الذي يحيطه الرماة ويحمونه، فوضع الخطة مباشرة أن قسم المقدمة (الفرسان) إلى ثلاثة أقسام، كل قسم 500، ويجعل على الميمنة قيس بن هبيرة، ويجعل نفسه على الميسرة، ويضع ميسرة بن مسروق في قلب المقدمة، ثم يشير إلى قيس وينطلق بالميسرة معه، إلى أجناد الجيش الرومي الميمنة والميسرة (المشاة) فيبدأ في حربهم..

    وكان القتال عنيفًا أباد فيه المسلمون كثيرًا من الروم؛ لأن الروم مشاة، وقد اقتحم عليهم الفرسان المسلمون بخيولهم، وحقق المسلمون نصرًا سريعًا في البداية، وعلم خالد أن جيش الروم عندما يجد ما يحدث في الميمنة والميسرة من هزيمة كبيرة، ستتجه خيولهم مباشرة لنجدة الميمنة والميسرة، وهذا ما فعلته الجيوش الرومية، وبذلك فقدت قوتها فانكشف قلب جيش الروم، ثم قال خالد بن الوليد: الله أكبر! أخرجهم الله لكم من رَجَّالَتِهم (وهكذا ينسب الفضل كله إلى الله)، ثم يقول: شُدُّوا عليهم. فانقض ميسرة ناحية قلب الجيش الرومي المكشوف، وبدأ يحاربهم، وأتت الجيوش الرومية إلى خالد وقيس، وهما لم يعودا يخشيان هذه الخيول، بعد أن تركتهم تلك الحماية.

    كل ذلك يحدث، ولا يزال الجيش الإسلامي في مكانه ثابتًا، وخالد بن الوليد يجبر عدوه على التحرك، واتخاذ قرارات، ومواقف معينة، كما يريد هو؛ نتيجة لذلك يشتد القتال على أجناب جيش الروم من قبل قيس وخالد، ويتقدم ميسرة تجاه المقدمة.

    المسلمون في بيسان:
    وبدأ الجيش الإسلامي الموجود في هذه المنطقة يدرك خطة خالد بن الوليد، الذي كان قد بدأ في تنفيذها فورًا، فلم يسعفه الوقت حتى يستأذن، أو يخبر أبا عبيدة، بل كانت كل حركته في سرعة، ثم انطلقت جيوش المسلمين: معاذ بن جبل على الميمنة في ميسرة الروم وخلف خيولهم، وسعيد بن زيد يساعد ميسرة في القلب، وهاشم بن عتبة على الميسرة يهاجم ميمنة الروم، وخلف جنود الروم أيضًا، وهكذا حُصِرت ميمنة جنود الروم بين هاشم وخالد، وحصرت الخيول في الميسرة بين معاذ وقيس، وأبو عبيدة يحمي بفريقه مؤخرة المسلمين، واشتد القتال، واستعرت الحرب، حتى نزل عليهم الليل، ووقع الكثير من القتلى في صفوف الروم، حتى إن الرواة يذكرون أن جيش الروم كله قد أصيب (80 ألفًا)، ولم يفلت منهم إلا الشريد، أي أن الروم لما أدركتهم الهزيمة، بدءوا يتراجعون ففوجئوا بسقوطهم في المستنقعات، فتمكَّن المسلمون من اللحاق بهم، ووقع الكثير منهم في القتل.

    وكل هذا يدلنا على مدى قوة المسلمين، وصبرهم في ميدان الجهاد، فبحسابات الدنيا نجد أن جيش المسلمين (25 ألفًا) أمام جيش الروم (80 ألفًا)، أي أن المعركة غير متكافئة إطلاقًا، وعلى كل مسلم أن يقتل 3 من الروم، ولكنهم أخذوا بأسباب النصر، فكان توفيق الله حليفهم.

    نماذج عسكرية فذة في بيسان:
    ظهرت في هذه المعركة نماذج إسلامية كبرى، كان منهم خالد بن الوليد، الذي قاتل -كما يروي الرواة- في هذه المعركة قتالاً شديدًا، وكان عِبْرة لمن بعده من المسلمين -فأصبح يُضرب به المثل، فيقولون للمجاهد الذي قاتل بكفاءة عالية: قاتل كقتال خالد في بيسان- وقتل بنفسه أحدَ عشرَ قائدًا روميًّا، وكان حريصًا طوال المعركة على قتال الفرق القوية، وقتل القادة فيهم.
    ومنهم قيس بن هبيرة (ابن مكشوح)، الذي قاتل قتالاً عنيفًا حتى تكسرت في يده 3 أسياف وأحد عشر رمحًا، كلما كسر سيف أرسلوا إليه آخر، ورأى منه المسلمون موقفًا عظيمًا، وبذلك صَدَقَ أبا بكرٍ، عندما وعده فقال: "لئن أمدَّ اللهُ في عمرك وعمري، لأرينَّك وأُرِي المسلمين موقفًا يُرضي الله ورسوله". وبالفعل أطال الله في عمره، حتى رأى منه المسلمون مواقف جليلة.

    ومعاذ بن جبل كان من أشد المسلمين قتالاً في هذه الموقعة، وكان من أمضى الناس سيوفًا في رقاب الروم، وكان من أحرص الناس على إخوانه المسلمين، وعلى الرغم من أن ما نعرفه عن معاذ بن جبل، أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام وهو إمام العلماء، كان هذا الإمام الورع -على علمه وزهده وتقواه- خبيرًا بالحرب والعسكرية، وهو يقدِّم الصورة الحقيقة للمسلم، فالمسلم الحق هو من يؤدي الفريضة في وقتها، ففي وقت الجهاد تغدو ساحة القتال أفضل من ساحة المسجد، فترك دروس العلم، وذهب للجهاد في سبيل الله.

    كذلك كان عمرو بن سعيد من أشد الناس قتالاً في هذه الموقعة، وهو -كما نعلم من تاريخه- حريصٌ على الجهاد في سبيل الله، وكان أول من قام لما استنفر أبو بكر وعمر المسلمين للجهاد في الشام، حتى إنه استشهد في هذه الموقعة، وكان من القلائل الذين استشهدوا فيها، وكان لاستشهاده قصة؛ إذ إنه لضراوة قتاله، وشدة بأسه في قتالهم، كَوَّن له الروم فريقًا من الجنود لقتله، ورآه أحد المسلمين من على بُعْدٍ، وقد سال الدم من عينيه، وقد فَقَدَ كلتا عينيه، وقبل أن يصل إليه أخوه المسلم قطعوه بأسيافهم، فكان بجسده أكثر من ثلاثين ضربة!! واستشهد.

    وقد أجزل الله العطاء للشهيد في سبيل الله؛ لما يبذله في أرض المعركة من بذل وتضحية، ولما يلقاه من أهوال وصعوبات، ولا يَقْوى على الصمود فيها إلا من ثبته الله، ومن وفقه الله لهذه الدرجة العالية.

    وما يطمئننا أن رسول الله يقول: "مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ الْقَتْلِ إِلاَّ كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ الْقَرْصَةِ". رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح غريب.

    فكل ما على المجاهد أن يثبت فقط حتى يستشهد، فهذه هي الفترة الصعبة في حياته، وكفى به فتنة أنه يرى الموت تحت ظلال السيوف، فالشهيد في سبيل الله لا يُفتنُ في قبره، ولا يُفتنُ يوم القيامة في الحساب، بل يدخل الجنة دون حساب، ويُغْفَرُ له من أول دفعة من دمه، ويغفر له جميع الذنوب إلا الدَّيْن.
    يقول ابن القيِّم في "إغاثة اللهفان" عن الشهادة في سبيل الله: "وتلك أشرف الموتات وأسهلها، فإنه لا يجد الشهيد من الألم إلا كما في ألم القرصة، فليس في قتل الشهيد مصيبة زائدة على المعتاد في موت بني آدم، فمَنْ عدَّ مصيبة هذا القتل أعظم من مصيبة الموت على الفراش فهو جاهل، بل موت الشهيد من أيسر الموتات وأفضلها، وأعلاها، ولكن الفارَّ يظن أنه بفراره يطول عمره، فيتمتع بالعيش، وقد كذَّب الله هذا الظن حيث قال: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب: 16]، فأخبر الله سبحانه أن الفرار من الموت لا ينفع بشيء، وأنه حتى إن نفع، فسيكون هذا الشيء قليلاً، ثم قال سبحانه: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} [الأحزاب: 17]، فإذا أراد الله للمرء سوءًا فإنه لا محالة لاقيه! {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون: 11].

    وكانت هذه المعركة من المعارك العظيمة في الإسلام، والتي هُضِم حقُّها في التاريخ؛ إذ نجد قليلاً من المسلمين مَن يعلمون أمر هذه المعركة العظيمة، بل إنه حتى أهل (بيسان) اليوم ربما لا يعرفون هذه الموقعة، فيجب أن يعرف المسلمون كل هذه المواقع الإسلامية المهمَّة، والتي فَصَل الله بها بين الحق والباطل، ومهّدت لفتح أرض الشام أمام المسلمين.

    ملاحظات على المعركة :
    كانت هذه الموقعة دليلاً على كفاءة المسلمين، لاحظنا فيها تأييد الله للمسلمين، وهذا سبب كافٍ، ولكننا يجب أن نذكر أن ذلك التأييد من الله استحقه المسلمون آنذاك؛ لما تمسكوا بكتاب الله، وسنة نبيه.

    كما كان القائد في هذه الموقعة -كما بدا- هو خالد بن الوليد، وإن كان أبو عبيدة هو القائد الرسمي، إلا أننا لمسنا براعته العسكرية، ومهارته في القيادة، ولاحظنا كيف تمكّن من استدراج جيش الروم إلى المنطقة التي يريد أن يحاربهم فيها، كل ذلك التخطيط البارع وجدناه عند خالد، في مقابله وجدنا القائد الرومي يرتبك، وتفشل كل مخططاته للحفاظ على جيشه، مما أدى إلى تلك الهزيمة النكراء!! وكما يقول الرواة: "إن الله نصر المسلمين بما كانوا يكرهون", فقد كره المسلمون ذلك المستنقع، الذي وضعه الروم لعرقلتهم، فإذا به يتحول إلى الفخ الذي تسقط فيه فلول الجيش الرومي؛ كل ذلك لإثبات أن النصر إنما يكون من عند الله، ينصرهم كيف يشاء.

    كما تميز الجيش الإسلامي في هذه المعركة بخفة الحركة، وسرعة الأداء، وهذا ما اعترف به حتى المؤرخون النصارى، إذ أسرع المسلمون، منذ اللحظة الأولى في التحرك، والاستجابة لتعليمات خالد بن الوليد، وباغتوا الروم أكثر من مرة؛ مما كان له عظيم الأثر في انتصارهم.

    كما تمتعوا بكفاءة قتالية عالية، وصبرهم على القتال من الفجر حتى الظلام كان أمرًا لافتًا للأنظار، كذلك لا ننسى دور المخابرات الإسلامية في هذه المعركة، على عكس المخابرات الرومية، وكذلك الروح المعنوية العالية للمسلمين، فهم يقاتلون وليس أمامهم إلا إحدى الحسنيين: إمّا النصر، وإمّا الشهادة.

    وبعد الانتصار كتب أبو عبيدة لعمر بن الخطاب يبشره بالنصر، وأرسل الرسالة مع سعيد بن عامر، وذلك أن سعيدًا تاقت نفسه إلى حج بيت الله الحرام، فطلب من أبي عبيدة أن يرسله إلى عمر y جميعًا، وبدأ المسلمون يتسلمون الأردن وفلسطين من أهلها.

    تابعونا أعزنا وأعزكم اللة
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: فتوحات الشام

    مُساهمة من طرف صادق النور الأحد أكتوبر 30, 2011 11:34 am

    فتح دمشق ...........................

    سيطر المسلمون على منطقة الأردن وفلسطين، بعد هروب جيش الروم إِثْرَ هزيمتهم النكراء في "بيسان"، ومن لم يقاتل منهم استسلم، ورضي بدفع الجزية للمسلمين، عدا ثلاث مدن: هي (القدس) و(عكَّا) و(حيفا) فلم تستسلم في هذا الوقت، وكان للقدس أسوار عظيمة، حالت دون دخول المسلمين إليها آنذاك، ثبَّت المسلمون أقدامهم في الأردن لمدة 3 شهور، منذ انتصارهم في ذي القعدة، حتى منتصف ربيع الأول عام 14هـ.
    بعد أن تم استسلام هذه المنطقة، فكَّر المسلمون في المرحلة التالية، ولم يكن أمامهم من عقبة سوى مدينة دمشق، التي لا تزال تتمتع بوجود أكبر حامية رومية فيها، فبدأ الجيش الإسلامي يتجه لحرب الروم في دمشق، وتجدر الإشارة هنا إلى أن المسلمين تركوا (القدس /مدينة إيلياء آنذاك)، واتجهوا إلى دمشق، على الرغم من وجود المسجد الأقصى في القدس، وأنه مسرى الرسول ، وكان من المفترض أن يهتموا بفتحه، إلا أن المسلمين، مع عظم قدر المسجد الأقصى في قلوبهم، إلا أن همهم الأكبر لم يكن المباني والمنشآت وإنما إيصال دعوة الله إلى الأرض، ومنطقة القدس لم يكن بها الكثير من السكان، في حين كانت دمشق عامرة بالسكان، ومحصنة، وبها أكبر حامية للروم آنذاك، فآثر المسلمون أن يتركوا القدس، وينتقلوا إلى دمشق، حتى يكسروا شوكة الروم في هذا المكان، وينشروا الإسلام في هذه المنطقة..
    وهذا المفهوم في الحقيقة يجب أن يحرص عليه المسلمون دائمًا، فلا تتعارض رغبتنا في استرداد فلسطين، والقدس كأراضٍ مسلمة شريفة مع تعبيد الناس إلى الله ، ونشر الإسلام في أرجاء المعمورة، فغرضنا الأساسي أن تكون الأرض إسلامية، وأن يكون مَنْ عليها مِنَ المسلمين، ولا يحول بينهم وبين العبادة طاغوت مثل الروم، أو غيرهم. (فلا نرضى بأن نسترد القدس، وتقوم على أرضه دولة علمانية مثلاً، وإنما همُّنا الأول أن يكون من فيها يعبدون الله).
    انتقل المسلمون بقيادة أبي عبيدة من منطقة الأردن وبيسان إلى دمشق، آخذين الطريق الأقصر إليها، وكان هذا الحصار الرابع لدمشق، (كان الحصار الأول عندما جاءهم خالد من العراق، ثم انتقل لفتح بصرى، والثاني بعد عودته من فتح بصرى، ثم انطلق إلى أجنادين، وعاد بعدها مرة أخرى إلى حصاردمشق، حينما عزل خالد، ووليَ الأمرَ أبو عبيدة، ثم تركها وذهب إلى بيسان), وهذا يؤكد أنها مدينة حصينة، وأن حامية الروم فيها قوية، ولكن هذه المرة تختلف حيث إن البلاد التي خلف المسلمين الآن أصبحت كلها إسلامية، فلا خوف من أن يأتيهم جيش رومي من خلفهم، وقد كان اهتمام الروم بدمشق راجعًا لأهميتها الخاصة، وهو ما يرصده لنا القزويني في (آثار البلاد وأخبار العباد) إذ يقول: "قصبة بلاد الشام (أي عاصمتها أو مدينتها الأساسية) وجنة الأرض لما فيها من النضارة وحسن العمارة، ونزاهة الرقعة وسعة البقعة وكثرة المياه والأشجار ورخص الفواكه والثمار".
    قال أبو بكر الخوارزمي كما جاء في آثار البلاد للقزويني، وفي معجم البلدان للحموي: "جنان الدنيا أربع: غُوطة دمشق، وصِغد سمرقند، وشعب بَوَّان، وجزيرة الأبلة، وقد رأيتها كلها فأفضلها غوطة دمشق.
    ويقول الإصطخري: أَجَلُّ مدن الشام كلها دمشق وليس بالمغرب مكان أنزه منه (ويعدها من مدن المغرب لأنه من إيران)، ولهذا اهتم الروم بمدينة دمشق، ووضعوا حولها حصون ضخمة وعظيمة، حتى إن سور دمشق حتى اليوم لا تزال آثاره باقية، لِعِظمه وضخامة بناءه، وكان ارتفاع السور 6 أمتار، وعرضه 4 أمتار ونصف، وهو مبني بالحجارة السميكة، وبه أبراج يبعد كل برج عن الآخر 15 مترًا، وهذه الأبراج بها عيون يقذف منها الجنود الرماح والأسهم على من يقترب منها، وكان حول سور دمشق خندق عظيم، يحيط بدمشق كلها، إحاطة السوار بالمعصم، وكان هذا الخندق عريضًا بحيث يتعذر قفز الخيول من فوقه!! وكان عميقًا أيضًا..
    كما كان لذلك السور العظيم سبعة أبواب، (وقد تم استحداث 3 أبواب بعد الفتح الإسلامي) الباب الشرقي (العراقي) الذي اعتاد خالد بن الوليد النزول عنده، وعلى بعد ميل منه كان يوجد (دير صليبة) للنصارى، وعرف ذلك الدير لكثرة نزول خالد بالقرب منه باسم (دير خالد)، ونعتقد أنه الدير الوحيد بالعالم الذي يحمل اسمًا إسلاميًّا..
    معاهدة مكذوبة:
    تورد بعض كتب التاريخ (مثل كتاب تاريخ دمشق لابن عساكر) نصًّا آخر للمعاهدة، هذا النص لا نجوزه، ومع ذلك فقد انتشر في كتب المسلمين، ونشره المستشرقون، وفي سند هذه الوثيقة ثمانية مجهولون، واثنان ضعفاء، كما أن العهد ورد في صيغته أنه من الروم لأبي عبيدة، يقول في بداية العهد: (هذا من قائد الروم ومدينة دمشق إلى أبي عبيدة، أنه علينا) وهي أمور يقومون بها للمسلمين، وهذا مخالف لكل الصيغ التي جاءت في تاريخ الحروب الإسلامية، في الروم وفارس.. فقد كانت الصيغة تأتي دائمًا من الجانب المنتصر (المسلمين) للمهزوم (الروم). وقد ذكرنا هذا العهد ورفضناه، لأنه قد ورد فيه بعض الأمور التي تتعارض مع الشريعة الإسلامية، مثل ما ورد على لسان الروم (ونقوم لهم من المجالس، إذا أرادوا المجالس) أي أن الروم يقومون للمسلمين من المجالس، وهو ليس من الأصول الإسلامية في شيء!!، وحتى إن كان هذا قدْ تمَّ، فمن الصعب أن يكتب مثل هذا الأمر التافه البسيط في معاهدة بين دولتين.
    كما يذكرون: (ولا نعلم أولادنا القرآن) وهذا يتنقض من هدف هذه الفتوحات أصلاً، وهو نشر الإسلام، ونشر تعاليم الإسلام، وتعليم الناس القرآن، فكيف يوافق المسلمون على أن تكتب وثيقة يتعهد فيها الروم أنهم لن يعلموا أولادهم القرآن؟!! حتى إن ذلك يتعارض مع أصل عدم الإكراه في الدين في الإسلام، فإذا لم يريدوا أن يعلموا أنفسهم، ولا أولادهم القرآن فلا حرج عليهم، ولكن لا يكتب ذلك في وثيقة، بحيث إنه إذا علم أحد الروم ابنه القرآن يكون قد خالف عهد المسلمين، وهو أمر يخالف ما جاء في القرآن الكريم: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6]. فهدف القتال مع هؤلاء المشركين هو توصيل رسالة الله I إليهم، وليس السيطرة أو امتلاك الأراضي..
    ويذكرون أيضًا في هذه المعاهدة المختلقة: (ولا نظهر شركًا في نادي المسلمين)، وليس من المعقول أن يقول النصارى على أنفسهم أنهم (يظهرون شركًا)، إذ إنهم لا يعترفون -أصلاً- بأنهم مشركون.. بل يرون أنهم على الحق، ويقولون: (ولا ننقش خواتيمنا بالعربية), أي أنهم لن يكتبوا بالعربية، وهذا مخالف للأصول الإسلامية، فإنه كان من أهداف المسلمين نشر اللغة العربية في البلاد المفتوحة، حتى يقربهم ذلك من فهم القرآن الكريم، والسنة النبوية..
    فلذلك كله يجب التنبيه على أن هذا العهد موضوع على المسلمين (إما وضعه بعض النصارى واليهود)، والغرض منه إظهار المسلمين أنهم يحاولون إذلال الآخرين، وليس همهم الدعوة، أو أنه وضعه بعض المسلمين الجهلاء، الذين ظنوا أن عزة الإسلام في ذل الآخرين!! وإنما تكون عزة الإسلام بنشره بين الناس، وبطاعتهم لله سبحانه.
    عودة إلى دمشق:
    يقضي المسلمون الشتاء في دمشق، ويوطدون أمورهم فيها، وفي المناطق المحيطة، ثم ينتقلون بعد ذلك بنحو 7 أشهر إلى المرحلة القادمة من جهادهم.
    دمشـق.. تُفتَح صُلْحًا:
    حتى يأتي الله في ليلة 14 من رجب عام 14هـ بالنصر من عنده، بعد أن أعد المسلمون العدة كاملة، من العبادة وقيام الليل، والاستعداد المادي والمعنوي، في هذا الوقت يولد مولود لـ(نسطورس) قائد الحامية الرومية، فيقيم احتفالاً كبيرًا بهذه المناسبة ويذهب إليه كل جنود الروم، وكل شعب دمشق الموجود داخل الأسوار، وانهمكوا في احتفالهم، وشربهم للخمر، ولا يزال المسلمون حول الأسوار، لم يعلموا بما يحدث إلا خالد بن الوليد t، الذي كان لا ينام، ولا يُنيم -كما يقول عنه الرواة- وكان له عيون في كل مكان، فلما سمع هذه الضجة، والأصوات العالية، استشرف الأمر، وإذا بالأسقف الذي وقع معه المعاهدة يرسل له رجلاً يخبره بأن أهل دمشق قد أقاموا ذلك الاحتفال بمولود قائدهم، وأن كثيرًا من الجنود في ذلك الحفل، يدرك خالد عندئذٍ قلة الحراسة عند الأبواب، وكان قد أعد (سلالمَ وحبالاً) أخذها من الدير القريب منه، على أن يخفف عن صاحب الدير الجزاء إذا فتحت دمشق، وكذلك أعد القِرَبَ التي تمكن المسلمين الذين لا يجيدون السباحة من عبور المياه، وتجاوز هذا الخندق الكبير الذي يحيط أسوار دمشق، يعبر هذا الخندق خالد والقعقاع بن عمرو والمذعور العجلي، وهؤلاء الثلاثة كانوا قادة المسلمين في حروب الفرس، فلم يكلوا هذا الأمر إلى صغار الجنود، بل تولاه هو، ونائبه القعقاع وأحد كبار قواده المذعور بن عدي، فعبروا الخندق، وألقوا بالسلالم والحبال على الأسوار، وتمكنوا من تسلق السور، وكانوا أول من نزل داخل الأراضي الدمشقية، وقالوا للمسلمين: إن علامة دخولكم أرض دمشق "التكبير"، ولم يكن هناك إلا عدد قليل من الحراس، قاتل خالد حراس الباب الشرقي، وقتلهم، وأشار إلى رجال فوق السور، ليكبروا، فهجمت القوات الإسلامية على الباب، وفتحته، وقطعوا الحبال التي تمنع فتحه، وتدفقت الجيوش الإسلامية تدفقًا عظيمًا على الباب الشرقي (9 آلاف مجاهد) من دمشق بعد منتصف الليل (وتذكر بعض الروايات أن ذلك كان قبيل الفجر), وكان ذلك في 3 من سبتمبر 653م في مطلع الشتاء, ودخل الجيوش الإسلامية دمشق، ويعلم الروم بدخولهم فيسرعون لتدارك موقفهم، ولكن المفاجأة أذهلتهم، وسقط منهم كثير من القتلى، ودار القتال في شوارع دمشق، وكان قتالاً صعبًا على المسلمين، لأنهم لا يعرفون تفاصيل الشوارع، ومع ذلك فقد انتصر المسلمون، وكتب الله لهم النصر في البداية!
    حيلة نسطورس:
    لما علم قائد الروم بذلك، قام بحيلة ذكية، بأن فتح الباب الغربي (باب الجابية) لأبي عبيدة، والباب الصغير ليزيد، وباب الفراديس لشرحبيل، وهي الأبواب الثلاثة البعيدة عن خالد بن الوليد، وقال لأبي عبيدة: إني قد عاهدتك على الصلح، ولم يكن أبو عبيدة يعلم أن خالدًا قد دخل من الباب الشرقي في ذلك الوقت، (وربما يرجع ذلك لسرعته، ولأنه خشي أن يستأذنه فتضيع الفرصة منه)، فلما خرجت الجيوش الرومية إلى أبي عبيدة، ويزيد، وشرحبيل تطلب الصلح (وهو ما أراده المسلمون منذ البداية) لم يكن منهم إلا أن يوافقوا وأعطاهم أبو عبيدة الأمان، إلا أنه كان متعجبًا لوقت هذا الصلح!!.
    ودخلت الجيوش الإسلامية من غرب دمشق ومن شمالها صلحًا، حتى وصلوا إلى جيش خالد بن الوليد وهو يقاتل، فلم يكن منهم إلا أن اجتمعوا (وبدا أن جيش خالد دخل قبل أن يعقدوا الصلح مع المسلمين، وأن نسطورس قام بهذه الحيلة لكي يحفظ دماء قومه بإعطاء الجزية، لكن المسلمين لم يتأكدوا من ذلك). فقالوا: والله إن أخذنا ما ليس لنا فسَفَكْنا الدماءَ، وأخذنا الأموال لَنَأْثمَنَّ، ولئن تركنا بعض ما لنا، لا نأثم, فأخذوا بالسلامة إيثارًا للعدل، فأنفذوه صلحًا مع دمشق!!...
    وهو أمر عجيب أن المسلمين يتحرجون من أن يظلموا أهل دمشق والروم إلى هذا الحَدِّ، على الرغم من أن الروم كانوا حريصين على قتالهم، إلى آخر لحظة.
    وهم بذلك إنما يتبرأون من الشبهة عملاً بقول رسول الله : من حديث النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ -وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ: "إِنَّ الْحَلالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ, فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ, كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ, أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ أَلا, وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ" رواه مسلم.
    يقول ابن رجب في شرح هذا الحديث: "إن صحابة رسول الله ، كانوا يتركون تسعة أعشار الحلال، مخافة الوقوع في الحرام إذا كان فيه شبهة". وبذلك سادوا، وبذلك نصرهم الله I في دمشق، وفي المواقع السابقة، والمواقع التالية. إذ إنهم يعملون وكل غايتهم إرضاء الله أولاً وأخيرًا، وليس كسب المغانم من أرض دمشق، وثمارها، وأنهارها، وإنما الغاية الوحيدة رضا الله ، بنشر الإسلام في هذه البلاد، وغيرها.
    ويُقر أهلُ دمشق على العهد، فيأتي أسقف دمشق، ويحضر معه العهد الذي كان قد أمضاه خالد بن الوليد، فيتعجب المسلمون من هذا العهد، ويقولوا: كيف يعطي خالد عهدًا وهو ليس بأمير؟!! إن هذا لا نجوِّزُه، فيقول أبو عبيدة: "إنني من المسلمين، وأجيز على أدنى رجلٍ من المسلمين".
    وتلك المقولة من أبي عبيدة لها عدة أسباب أهمها ثقته الكبيرة في خالد بن الوليد، وعلو مكانته عنده، وأن هذه هي طبيعة أبي عبيدة، إذ كان يتسم بالحكمة، والذكاء الشديدين، كما أنه كان هينًا لينًا سهلاً، لا ينتصر لنفسه، كما قال عنه الصديق: "إذا ظُلِمَ لم يَظلِم، إذا أُسيءَ إليه غَفر، وإذا قُطِعَ وَصل", وهذا ما فعله من قبل مع عمرو بن العاص في ذات السلاسل، وهذا ما يجب أن يفعله المسلمون، إذا أعطى أحدهم عهدًا أو أمانًا ينفذه أمير المسلمين..
    وبذلك أجاز المسلمون عهد خالد بن الوليد.


    وقفة مع أبي الدرداء:.........................

    المتابع لسيرة أبي الدرداء t يلحظ أنه كان رجلاً حريصًا على العبادة، والصلاة، وليس له اهتمام يذكر بالجهاد، وقد قرأنا من أقوال لأبي الدرداء توحي بذلك، إذ يدعو الله: "اللهم إني أعوذ بك من شتات القلب، سئل، وما شتات القلب يا أبا الدرداء؟، قال: أن يكون لي في كل واد مال", أي أن يكون له تجارة، تجعل قلبه معلقًا بهذه الأموال، وتبعده عن عبادة الله حق عبادته، وكان ذلك ديدنه t دائمًا بعد إسلامه، إذ إنه كان تاجرًا عظيمًا قبل إسلامه، لم يبق من تجارته بعد إسلامه إلا القليل، كان يقول: "أسلمت مع النبـي وأنا تاجر، وأردت أن تجتمع لي العبـادة والتجارة فلم يجتمعا، فرفضـت التجارة وأقبلت على العبادة، وما يسرنـي اليوم أن أبيع وأشتري فأربح كل يوم ثلاثمائة دينار، حتى لو يكون حانوتي على باب المسجد، ألا إني لا أقول لكم: إن اللـه حرم البيع، ولكني أحب أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله"، وقد صدَّق في أفعاله كلها هذه الكلمات، فاكتفى بقليل التجارة، حتى لا تلهيه عن ذكر الله، بل وكان t يقول لمن حوله: "ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند باريكم، وأنماها في درجاتكم، وخير من أن تغزو عدوكم، فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم، وخير من الدراهم والدنانير.. ذكر الله، ولذكر الله أكبر", ورد موقوفًا في موطأ مالك، ومرفوعًا إلى النبي في الترمذي, (وكان شأنه في ذلك شأن معاذ بن جبل، الذي أوصى أصحابه عند وفاته أن يلتمسوا العلم عند أبي الدرداء)، كل تلك الأقوال توحي إلينا أنه لا يرى فضلاً عن ذكر الله، وعبادته، ويجعلنا نتعجب من أن يكون قد خرج للجهاد في سبيل الله، ويؤمره أبو عبيدة على هذه الفرقة في دمشق، ونفهم من ذلك أن أبا الدرداء t، وإن كان يولي ذكر الله وعبادته كل اهتمامه، إلا إنه يعرف (عبادة الوقت)، ففي وقت الجهاد، لا شيء يعدل الجهاد في سبيل الله، فلما دعي t للجهاد ترك العبادة، وترك مسجد رسول الله، والمسجد الحرام، وخرج إلى الجهاد، ولا يزال على عهده مع الله، ومع نفسه، في أرض الجهاد يذكر الله في كل حين، شأنه في ذلك شأن غيره من صحابة رسول الله ، وأفراد الجيش الإسلامي كله.. وعلى ذلك يجب أن يكون المسلم في كل وقت..
    ثم يرسل أبو عبيدة t ذو الكُلاعِ الحِمْيَرِيّ إلى مسافة 45 كلم في الشمال، في اتجاه حمص، يعسكر بقوة أخرى، لحماية المنطقة أكثر، وهكذا أصبح لدى المسلمين قوتان في الشمال لصد أي هجمات رومية محتملة، وقطع المدد والتموين عن الحامية الرومية في دمشق، وبذلك صعبت المهمة على الروم صعوبة شديدة..
    حصــار.. ومعاهدة:
    استمر حصار المسلمين للروم لمدة أربعة أشهر (وتذكر بعض الروايات أنها بلغت 6 أشهر)، وفي أثناء ذلك الحصار يرسل الروم اثنين من الجواسيس العرب، للاندساس في جيش المسلمين، مثلما فعلوا قُبَيْلَ موقعة أجنادين فذهبا، ثم عادا لقائد حامية دمشق الرومي نسطورس يقولان له: وجدناهم على طول قيام بالليل، وصبر على الجهاد والتدريب بالنهار، وإذا وجد أحدهم شيئًا كالنعل أو الغزل، وضعه في الغنائم، فإذا سأله صاحب الغنائم: أي شيء هذا؟ قال: لا نستحِلُّه إلا بحِلِّه. (أي أن جميع الجيش الإسلامي لا يَغُلُّ، أو يأخذ ما ليس له، مهما كان حقيرًا أو بسيطًا)..
    يروي أبوداود أن رجلاً مات يوم خيبر، من أصحاب رسول الله، فبلغ النبي، فقال: "صلوا على صاحبكم"، ولم يصلِّ عليه، فتغيرت وجوه الناس، فقال : "إن صاحبكم غَلَّ في سبيل الله", أي أخذ شيئًا من الغنائم ليس من حقه، ففتشوا متاعه فوجدوا خرزًا من خرز اليهود، لا يساوي درهمين!! (تسبب في حرمانه من صلاة الرسول عليه في ذلك اليوم)، وروى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: كان على ثقل النبي (أي على حماية الغنائم) رجل يقال له: كَرْكَرَة، فمات، فقال النبي : "هو في النار", فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة في متاعه!!! (جعلته في النار، فهذه أصول إسلامية، تعلمها المسلمون، وتربوا عليها) وكان رد نسطورس قائد دمشق آنذاك: إن كانوا على هذه الحال، فليس لنا بهم من طاقة!! (مثلما قاله قائد الروم باهان في أجنادين)... وهكذا يدخل المسلمون الحرب بهذه النفسية، وبهذة الثقة أن الله معهم، ومن كان الله معه، فمن عليه؟!!. وفي المقابل نلحظ نفسية القائد الرومي، وبالتالي جيشه، الذي يدخل الحرب، وفي يقينه أنه لا طاقة له بمثل هؤلاء المجاهدين الصادقين!! فقد ألقى الله I في قلوبهم الرعب.
    في هذه الأثناء، كان لخالد بن الوليد عيون داخل دمشق، وكان منهم أحد أساقفة دمشق، الذي يمده بالمعلومات، وقامت بينه وبين خالد t علاقة وطيدة، إلا أنه لم يُسْلِم، حتى جاء يوم، وهو يحدثه قال له: إني أرى أن الغلبة ستكون لكم، فقال له خالد: صالِحْني (ولم يكن خالد آنذاك أميرَ الجيوش) وكتب عهدًا معه يقول فيه: هذا كتاب من خالد بن الوليد إلى أهل دمشق، أني أمنتهم على ديارهم، وأموالهم، وكنائسهم، ألا تُسْكَنَ، ولا تهدم، لا يُعرض لهم إلا بخير إذا أعطوا الجزية.. وأمَّنَ هذا الأسقف، (ولم يكن من صلاحيات خالد، وهو قائد على واحد من جيوش المسلمين فحسب أن يفعل ذلك، ولكنه أراد أن يستغلَّ هذه الفرصة التي قد تزلزل أهل دمشق، وتشجعهم على الاستسلام في نفس الوقت)، وهناك رواية أخرى تذكر أن يزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة رضي الله عنهما شهدا على هذا العقد، وإذا صحَّتْ هذه الرواية، فلا شك أن أبا عبيدة قد وصله أمر هذه المعاهدة، ويزول اللبس أو الإشكال حول هذا الأمر. أما إذا لم يصح، فإن حله أن خالد قد آثر أن يأخذ هذا العهد لكي يوهن من نفسية أهل دمشق, وقد تم هذا العهد ولم يعلم القائد الرومي نسطورس عنه شيئًا، إذ كان تصرفًا فرديًّا من أسقف دمشق.
    ويأتي مدد آخر للروم من طريق حمص، ويتصدى له ذو الكلاع الحميري، ويقضي على هذا المدد، وبذلك أيس الروم داخل حصون دمشق من أن يصلهم أي مدد، أو يفك عنهم الحصار.
    جيش المسلمين يحـاصر دمشق:
    توجه أبو عبيدة بالجيوش، وفي مقدمتها خالد بن الوليد إلى حصون دمشق، واستعاد ترتيب جيشه، فنزل خالد بن الوليد t في مكانه المعتاد (الباب الشرقي)، ثم نزل على باب الجابية أبو عبيدة بن الجراح، وكان من الواضح أن جيشي أبي عبيدة وخالد، هما أقوى جيوش المسلمين، وكان قوام جيش خالد 9 آلاف مقاتل، وجيش أبي عبيدة 7 آلاف مقاتل، ثم حاصر جيش يزيد المنطقة الجنوبية، حول بابي (كيسان والصغير)، في حين حاصر جيش عمرو باب (توما) في الشمال، وحاصر جيش شرحبيل باب الفراديس، وتُرِكَ باب السلامة لصعوبة الطريق إليه..
    كما بثَّ المسلمون العيون في كل منطقة، تحسبًا لقدوم قوات رومية من خلف الجبال، إذ تقع دمشق في سفح جبل قاسيون، وقد قدمت القوات الرومية من حمص -كما ذكرنا سابقًا- مستترة خلف هذه الجبال، حتى وصلت إلى بيسان، وفعلاً حدث ما توقعه المسلمون، إذ علموا بوصول قوة رومية قادمة من حمص، متجهة نحو دمشق مددًا للحامية الرومية، فخرجت فرقة صغيرة لمقاتلة هذه القوة، وكانت بقيادة الصَّلْت بن الأسود الكندي، فطاردت تلك القوة التي كانت أكبر من فرقته، ولكنها فرَّتْ، فتعقبها حتى دخل حمص وراءها (وكانت المسافة من دمشق إلى حمص نحو 225 كلم) فهي مسافة كبيرة، ولكن الفرقة الإسلامية تتبعتها كل تلك المسافة، وتجاوزت حمص، وفتحت حمص دون أي مجهود يذكر من المسلمين، وطلب أهل حمص الأمان من المسلمين، فأمَّنوهم، ثم عادت القوة الإسلامية مرة أخرى إلى دمشق، بعد فرار القوة الرومية، ومعاهدة أهل حمص على الأمان..
    ووضع المسلمون جيشًا إسلاميًّا (حامية) في اتجاه الشمال، تجنبًا لحدوث مثل ذلك مرة أخرى، ووضوعوا على رأسها أبو الدرداء t، وكانت على بعد 5 كلم شمال دمشق، في سفح جبل قاسيون، عند قرية تسمى قرية برزة، للتصدي لأي قوى رومية تأتي في اتجاه دمشق من هذه المنطقة.

    تابعونا بارك اللة فيكم ...................
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: فتوحات الشام

    مُساهمة من طرف صادق النور الأحد أكتوبر 30, 2011 11:36 am

    فتح بعلبك وحمص ...............ز

    فتوحات الشام 1727_image002

    مكَّن الله المسلمين من فتح دمشق، بعد حصار عنيف طويل، ودخلوا هذه المدينة فتحًا من الباب الشرقي، وصلحًا من بقية الأبواب!!...
    كان دخول خالد بن الوليد لدمشق في 15 من رجب عام 14هـ، وهو شهر من الأشهر الحرم، فهل يجوز للمسلمين أن يقاتلوا في الأشهر الحرم؟
    لا شك أن ذلك له ضوابط: فالقاعدة أن الله حرم القتال في الأشهر الحرم، ولكن هناك استثناء، وهو أحد أمرين: إما أن يبدأ المشركون القتال، فلا بد أن يقاتلهم المسلمين عندئذٍ حتى إذا كان ذلك في شهر من الأشهر الحرم.
    الآخر (وهو الذي حدث في فتح دمشق): أن يكون القتال قد بدأ قبل الشهر الحرام، ويأتي الشهر الحرام، وهم في هذا القتال، فليس عليهم أن يقطعوه، بل يجب أن يستمر القتال دون توقف.
    سرية عبد الله بن جحش:
    قتلت أحد الكفار في شهر من الأشهر الحرم، وكان قتله في آخر ليلة من شهر رجب حيث خشوا إن تركوا القافلة هذه الليلة انتظارًا لانقضاء الشهر الحرام أن تفلت وتدخل مكة البلد الحرام -أيضًا-وتضيع الفرصة في الاستيلاء عليها، فأنكر الكفار على رسول الله ذلك، فأنزل الله : {يسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217]، فالله I يوضح في هذه الآية أن القتال في الأشهر الحرم من الكبائر، ولكن ما فعله المشركون مع المسلمين من طرد وإيذاء وتعذيب، كل هذا أكبر من القتل في الأشهر الحرم، أي أن المشركين فعلوا أكثر، وأقبح من القتل في الأشهر الحرم..
    وكثير من معارك المسلمين مع الفرس والروم تمت في الأشهر الحرم، وذلك لأنها بدأت قبل هذه الأشهر، وتخللتها هذه الأشهر.
    خطب رسول الله ، في حجة الوداع، فقال: "يا أيها الناس إنما النسيء زيادة في الكفر، يُضَلُّ به الذين كفروا، يحلُّونه عامًا ويحرمونه عامًا"، (قال ابن كثير: فكانوا قد أحدثوا قبل الإسلام بمدة تحليل المحرم وتأخيره إلى صفر، فيحلون الشهر الحرام، ويحرمون الشهر الحلال، ليواطئوا عدة الأشهر الأربعة)، ثم قال : "وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض، منها أربعة حرم: ثلاثٌ متواليات، وواحد فرد (ذو القعدة وذو الحجة ومحرم) و( رجب الذي بين جمادى وشعبان) ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد". وقد وردت بعض الأحاديث الضعيفة على أن تحريم هذه الأشهر قد نُسِخ، ولكنها غير صحيحة، فالتحريمُ مُحْكَمٌ غير منسوخ.
    خالد يتوجه إلى بعلبك:
    بعد انتصار المسلمين، وفتح دمشق -كما ذكرنا- مكث المسلمون في دمشق فترة الشتاء، يستريحون ويعدون أنفسهم وجيوشهم، حتى انقضى فصل الشتاء، فقرروا التوجه إلى حمص، وهي القوة الكبرى التالية لدمشق، بعد أن غدا كل ما هو جنوبيَّ دمشق إسلاميًّا، باستثناء بيت المقدس، والحصون الساحلية (عكا، وحيفا).
    والطريق من دمشق إلى حمص تمتد نحو 225 كلم، ولها طريقان: أحدهما (صحراوي) على حدود صحراء السماوة (بين الشام والعراق)، والآخر داخلي، يمر من خلال بعلبك، ويقع بين سلسلتي جبال لبنان الشاهقتين، وهو الذي هرب منه من قبلُ وردان عندما اتجه من حمص إلى دمشق، ذاهبًا إلى أجنادين فقرر أبو عبيدة أن يرسل مقدمة جيش المسلمين بقيادة خالد لفتح حمص، فاتجه خالد بن الوليد إلى حمص من خلال طريق بعلبك؛ وذلك لأنهم كانوا قد سيطروا على المنطقة الجنوبية، فلم يعد يخشى من مجيء قوات رومية من خلفه، والأهم من ذلك لكي يهاجم القوة الرومية الموجودة في بعلبك، وهو يعلم بوجودها هناك، وقد أدرك هذا الطريق وأبعاده، كما خشي أن يهرب منه أهل حمص إذا وصل من خلال الطريق الصحراوي الأبعد، فاتجه إلى بعلبك الواقعة في سهل البقاع بين سلسلتي جبال لبنان..
    وهي مدينة مبنية فوق جبل داخل سهل البقاع، فهي مدينة حصينة جدًّا طبيعيًّا، كما أنها مزودة بأسوار وحصون مادية عديدة، بقي منها آثار حتى اليوم[1].
    ويبدأ أبو عبيدة في تنظيم جيشه، فيرسل عمرو بن العاص بجيشه إلى فلسطين، وشرحبيل بن حسنة إلى الأردن، ويبقى هو ويزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهما في دمشق.
    يصل خالد بن الوليد إلى أطراف بعلبك، فتواجهه قوة رومية صغيرة، يبدو أنها كانت إحدى فرق الاستطلاع، وليست الجيش الأصلي، فيرسل إليها خالد خمسين فارسًا بقيادة ميسرة بن مسروق، فيهاجموها، وينتصروا عليها، ويقحموها داخل حصن بعلبك، ويتقدم الجيش الإسلامي كله لمحاصرة بعلبك، وفي أقل من يوم واحد، يعلن أهل بعلبك الاستسلام، وطلب الصلح مع المسلمين.
    وكان هذا الأمر عجيبًا جدًّا، إذ إنها مدينة حصينة جدًّا، فما الذي يدفعها للاستسلام بهذا اليسر؟!! وكيف يتخلَّى عنها الروم بهذه الصورة رغم أنهم كانوا يستطيعون اتخاذها قاعدة لقتال المسلمين، ومن ثَمَّ يزيدون في تحصينها لتصمد أمام هجوم المسلمين!!
    دخل المسلمون وعاهدوا أهل بعلبك وجاء في نص المعاهدة: (هذا كتاب أمان لأهل بعلبك: رومها وفرسها وعربها (ويبدو أنه كان فيها فرس وروم، وهذا أمر عجيب للخلاف الذي بين الدولتين!!) على أنفسهم وأموالهم، وكنائسهم، ودورهم داخل المدينة وخارجها، وعلى رحائهم ( طواحينهم )، وللروم أن يرعوا سرحهم، ما بينهم وبين 15 ميلاً، فإذا مضى شهر ربيع (أي ربيع الثاني) وجمادى الأولى، ساروا إلى حيث شاءوا، ومن أسلم منهم، فله ما لنا، وعليه ما علينا (أي أنهم أعطوهم شهرين مهلة) وعلى من أقام منهم الجزية.
    ونلاحظ في هذه المعاهدة السماحة الإسلامية الواضحة، على الرغم من أن الدولة الإسلامية منتصرة، إلا أنها تعطي المهزومين، أو المستسلمين كثيرًا من الصلاحيات: أولها مهلة الشهرين للخروج من المدينة، أو الجزية، أو الإسلام، كما أنهم سمحوا لهم بالتجول حول بعلبك لرعي الماشية مسافة 15 ميل (أي نحو 22 كلم) حرصًا على حياة ماشيتهم؛ لقلة المرعى داخل المدينة، على الرغم من أنهم في حالة حرب مع المسلمين!!، وأن ذلك قد يكون فيه خطر على المسلمين، كما يستطيع تجار هذه المدينة الذهاب إلى أي مدينة من المدن التي صُولح عليها المسلمين وهم لا يزالوا على دينهم.
    وهذا كله يوضح لنا كيف تعامل المسلمون في فتوحاتهم، ويرد على أي شبهة يبثها المستشرقون في محاولاتهم الدائمة لتشويه صورة الفتوحات الإسلامية.
    وقفة مع الجزية:
    عقد الذمة بين المسلمين وأي دولة يحاربونها هو عقد بين المسلمين والكفار، أقرهم المسلمون على كفرهم، ولكن بشروط، فعلى أهل الكتاب التزامات في المعاهدة، هذه الالتزامات هي:
    1- أن يلتزموا بأحكام الإسلام في الجملة: وهذا يتعلق بأمرين: الأول: المعاملات المالية، فيجب أن تكون على أساس شرعي إسلامي، فتُحرَّم عليهم عقودُ الرِّبا.
    الثاني: أن تُطبَّق عليهم العقوبات المقررة على المسلمين (الحدود)، فإذا زنا أحدهم (ولو بواحدة ممن على ديانته) يقام عليه الحد، (مثلما رجم رسول الله يهوديًّا ويهودية زنيا، وكانا محصنان) وكذلك حد السرقة، والحرابة, وعهد الذمة ليس معاهدة بين دولة وأخرى، وإنما معاهدة بين دولة منتصرة مسيطرة، ودولة منهزمة، رضيت بشيء حتى تأمن جانب المسلمين.
    2- أن يدفعوا الجزية: يدفع أهل هذه البلدة، مقدارًا معينًا من المال نظير حماية المسلمين لهم، وتأمينهم على أموالهم وأعراضهم، وكنائسهم، ودور عبادتهم، وعلى رحائهم، فالمسلمون يدافعون عنهم، وتُعَدُّ مقابل ما يدفعه المسلمون من زكاة، وربما تكون أقل، إذ إنهم يدفعون مقدار (دينار أو أربعة دينار عن البالغ في السنة)، ويقول مالك: إنها حسب الطاقة، ويقررها الوالي، وقد جعل الرسول الجزية على أهل اليمن (دينار)، وعلى أهل الشام (أربعة دنانير)، وسئل عن ذلك فقال: ذلك من اليسار (أي ليُسْرِ أهل الشام وكثرة أموالهم حدد عليهم جزية أعلى من الآخرين), والحكم العام أن الوالي لا يجوز له أن يكلف أهل الكتاب أو أهل الذمة ما لا يطيقون، يقول الرسول : "من ظلم معاهدًا أو كلفه فوق طاقته، فأنا حجيجه", أي أن الرسول يدافع عن هذا الكافر أمام الله ، إذا ظلمه مسلم، وهكذا نرى كيف يحفظ المسلمون حقوق أهل الذمة.
    ولهذا الأمر الكثير من التطبيقات في حياة المسلمين، على مدار الفتوحات الإسلامية كلها..
    وهذه المعاهدات تجوز مع أي فئة من غير المسلمين (حتى ولو لم يكونوا أهل ذمة، أو أهل كتاب) فقد جاءت السنة بأن رسول الله أخذ الجزية من مجوس البحرين، ومجوس هجر، وبعد ذلك أخذ المسلمون الجزية من أهل فارس وهم مجوس، فقال بعض الفقهاء (كالشافعي) أنه يجوز أخذ الجزية من أهل الكتاب ومن المجوس، ولا يجوز أخذها من عبدة الأوثان، وقال غيره من الفقهاء: إنه يجوز أخذها من أي طائفة من غير المسلمين، حتى وإن كانوا من عبدة الأوثان..
    وحقَّق ذلك ابن القيم رحمه الله، تحقيقًا عظيمًا فذكر أن رسول الله لم يأخذها من عبدة الأوثان، لأن كل أهل الجزيرة العربية من العرب أسلموا قبل أن تفرض الجزية (فرضت بعد غزوة تبوك 9هـ)، فلم يأخذها الرسول من اليهود من قبل ولو كان فيهم عبدة أوثان لأخذها منهم، كما يذكر ابن القيم..
    ثم يقول: إن المجوس أفجر من عبدة الأوثان، فالمجوس عبدة نار، يقولون: إن الدنيا لها صانعان: صانع للخير، وصانع للشر، أما عبدة الأوثان فهم على كفرهم، يُقِرُّون لله بالربوبية، وينكرون ألوهيته، وإنما يتخذوا هذه الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى (كما يزعمون)، فإذا جاز أخذها من المجوس، جاز أخذها من عبدة الأوثان.
    وتفرض هذه الجزية على كل محتلم بلغ الحلم (أي بلغ سنَّ التكليف)، فلا تُفْرَضُ على الصغير، ولا المجنون، ولا النساء، ولا العبيد، ولا على غير المستطيع، فلم يأخذ المسلمون الجزية من الفقراء، وهذا عدل من الله ، طبقه المسلمون، وفي ذلك ردٌّ على أية مزاعم استشراقية بأن المسلمين يستغلون أهل البلاد المفتوحة، أو أنهم يعاملونهم بقسوة وظلم.
    فلو قارنَّا الجزية بالزكاة سنجدها أقل، ولو قارناها بما كانوا يدفعونه للروم من ضرائب لوجدنا أن الجزية أقل بكثير، وكان هذا رحمة من الله I بهم.
    حمص وموقف له وقفة:
    بدأ الجيش الإسلامي بقيادة خالد بن الوليد t في الاتجاه نحو مدينة حمص التي يقول الإصطخري (أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجريين) في المسالك والممالك عنهـا:
    من أصح بلاد الشام تربة، في أهلها جمال مفرط، وليس بها عقارب ولا حيات، ولها مياه وأشجار وزروع كثيرة، وبها كنيسة من أعظم كنائس الشام، ويأتي القزويني بعده بـ 400 سنة في القرن السابع الهجري ليصفها في (آثار البلاد وأخبار العباد) بأنها: "مدينة حصينة بأرض الشام، أصح بلاد الشام هواءً وتربة، وهي كثيرة المياه والأشجار، وأهلها موصوفون بالجمال المفرط"، ويذكر ابن بطوطة في (تحـفـة النـظـار) أنها: "مدينة مليحة، أرجاؤها مونقة، وأشجارها مورقة، وأنهارها متدفقة، وأسواقها فسيحة، وأهل حمص عرب، لهم فضلٌ وكرم".
    اتجه الجيش الإسلامي من بعلبك إلى حمص، وعلى أبواب حمص يُخرِجُ لهم الروم قوة كبيرة نسبيًّا، تقابل المسلمين في بلدة تسمى (جوسيه) على بعد 30 كلم جنوب غربي حمص، فيقابلهم المسلمون، ويحمسهم خالد بن الوليد، قائلاً: يا أهل الإسلام الشدة، الشدة.. فانطلقت أسياف المسلمين تعمل في رقاب الروم، فهُزِمَ الرومُ هزيمةً نكراء، وفروا إلى داخل الحصن، فتتبعهم المسلمون.
    كان أحد المسلمين واسمه شرحبيل الحميري فارسًا من فرسان المسلمين، طارد مجموعة من الروم، فشرد عن جيش المسلمين، حتى وصل في مطاردته إلى نهر صغير، فوقف على أطراف النهر يسقي فرسه، ثم جاءه 30 فارسًا روميًّا على الضفة الأخرى؛ فلما رآهم ضرب فرسه ليعبر لهم النهر، فعبره، وهجم على الفرسان الثلاثين، حتى تمكن من قتل أحد عشر فارسًا منهم، وفر بقية الروم..
    وهذا الموقف لا يمكن أن يمر علينا بسهولة، إذ إن ما حدث يتنافى تمامًا مع المنطق العقلي، ومع طبيعة الأمور، إذ كيف يمكن لرجل واحد أن يتغلب بمفرده على ثلاثين فارسًا؟!! فالكثرة -كما يقولون- تغلب الشجاعة، ولكن هذا المنطق لا ينطبق مع المسلمين، إذ مع المسلمين يغلب الإيمان الكثرة، فهذا المجاهد المسلم (الذي استُشهِد بعد ذلك)، الذي هجم عليهم، وقتل منهم أحد عشر فارسًا، أيده الله ، وألقى الهزيمة النفسية في قلوب أعداءه الثلاثين الذين لو التفوا حوله لقتلوه، فمن المستحيل أن يتخيل العقل أن يقاتل واحد عشرة بمفرده، فما بالك بثلاثين؟!! فالهزيمة النفسية التي عند الروم، والرعب الذي ألقاه الله في قلوبهم كان أشد عليهم، ولذلك هربوا من الفارس المسلم.
    والجدير بالذكر في هذا الصدد أن هذا الأمر ليس خاصًّا بالكفار فقط، وإنما يشمل المسلمين أيضًا، فإذا ابتعد المسلمون عن طريق الله I، واقترفوا المعاصي، وانشغلوا بالدنيا وتركوا الجهاد في سبيل الله؛ فإن الله سيلقي في قلوبهم الوهن، والرعب من الكفار!! ومن ثَمَّ سيُسْلِمون رقابهم لأعدائهم، وهذا واقع، حدث في فترات الضعف للمسلمين، كما حدث أثناء حروب التتار مع المسلمين في بغداد، فقد كان التتار يقتلون المسلمين: واحًدا واحدًا، والمسلمون لا يدافعون عن أنفسهم، بل وفعل ذلك نساء التتر المقاتلات! حتى كان التتري يأمر المسلمين بالوقوف حتى يذهب ويأتي بسيفه، ثم يعود ليقتلهم، وهم لا يتحركون من أماكنهم، من شدة الخوف!!!
    ولا شك أن المسلمين اليوم مستضعفون من جميع الدول والقُوى، وهم يعيشون في دول مستضعفة ومتخلفة!!، تسمى دول العالم الثالث كتسمية مهذبة بدلاً من نعتها بالمتخلفة، وهو أمر لا ينكر، فإذا أردنا أن نغير الواقع، يجب علينا العودة إلى الأصول، إذا لم يكن لدينا الإيمان، وكان لدينا قوة عظيمة، وأعداد ضخمة، (مثلما كان المسلمون وقت اجتياح التتار)، فإننا لن ننتصر إلا بالقوة الرُّوحية، قوة الإيمان بالله ، فلو تمكنت العقيدة من القلوب، وأحب المسلمون الجهاد أكثر من حب الدنيا، وتاقت أنفسنا إلى الجنة، فإن الله سينعم علينا بالنصر، وهذا أمر من الأصول الإسلامية.
    فهذا الرجل المجاهد المسلم شرحبيل الحميري من الغرباء الذين يجهلهم الناس، ولكن الله يعرفهم، وقد دخل بعد ذلك أحد الأديرة، فأُلقيت عليه حجارة من البيوت، ولم يستطع أحدٌ أن يقاتله سيفًا بسيف، فقتل شهيدًا t وأرضاه.
    المسلمون في حـمـص واستكمال الفتح:
    بعد أن حقق المسلمون هذا النصر على هذه القوة الرومية التي قابلتهم على أبواب حمص، وفَرَّ بقية الروم، إلى داخل الحصن، ذهب المسلمون وحاصروا حمص، وكان حصنًا شديدًا منيعًا، وعلى قوته، فقد حاصره المسلمون 18 يومًا، ثم أعلن أهل حمص الاستسلام للمسلمين، وقبول المعاهدة، ودفع الجزية وسلموا حمص للجيش الإسلامي، وتخلت بذلك الحامية الرومية مرة ثانية عن مدينة من أقوى المدن الشامية التي ظلت حصينة حتى القرن السابع الهجري, ولا بد أن يكون لذلك تفسير، ومبرر، إذ كيف يستسلمون هكذا بكل يسر، وقد قاتلوهم من قبل بشدة في أجنادين، وصبروا على حصارهم 4 أشهر في دمشق!! وقاتلوهم في أجنادين وبيسان، فكيف يتركون لهم هذه المدن الحصينة؟؟؟!!
    بعد أن دخل المسلمون مدينة حمص، قدموا معاهدة لأهلها، كما فعلوا مع أهل بعلبك، وطالبوهم بدفع الجزية، التي بلغت 170 ألف دينار في السنة، (4 دنانير لكل شخص، مما يدل أنه كان بها أكثر من 40 ألف نسمة) وقد كانت من البلاد الكبيرة.
    أبو عبيدة يستكمل الفتح:
    وبعد أن سيطر المسلمون على مدينة حمص مباشرة، أرسل أبو عبيدة بن الجراح قوة إسلامية نحو الشرق بقيادة شرحبيل بن الصَّلْت إلى الجزيرة "بلاد فارس"، وأرسل قوة أخرى من حمص إلى الشمال، بقيادة ميسرة بن مسروق لفتح حلب، في أقصى شمال الشام، وبعد أن أرسل هاتين القوتين، أرسل رسالة إلى عمر بن الخطاب t، يبشره فيها بالنصر، كان مما جاء فيها: "الحمد لله الذي أفاء علينا وعليك يا أمير المؤمنين، أفضل كورة في الشام، أهلاً وقلاعًا، وأكثرهم عددًا وجمعًا وخراجًا، وكانت أيسرهم على المسلمين فتحًا".. وختم رسالته بقوله: "ونسأل الله مالك الملوك وناصر الجنود أن يعز المسلمين بنصره، وأن يُسلمَ المشركَ الخاطئَ بذنبه", وهذا مفهوم راقٍ جدًّا من أبي عبيدة t، فهو يعلم أن هذا المشرك قد سلمه الله للمسلمين، لخطأ هذا المشرك بذنبه، وأن المسلمين يعبدون الله I، هذا هو ما جعل المسلمين ينتصرون..
    أثر الطاعة والمعصية في النصر:
    ونذكر وصية عمر لسعد بن أبي وقاص في حرب فارس، جاء فيها: "وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم. فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم. وإنما ينُصَرُ المسلمون بمعصية عدوهم لله، وطاعتهم هم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، فعددنا ليس كعددهم، وعُدتنا ليست كعُدتهم، فإن استوينا في المعصية، كان لهم الفضل علينا في القوة.. وإلا نُنْصرْ عليهم بفضلنا، لم نغلبْهم بقوتنا، فاعلموا أن عليكم في داركم حفظةً من الله، ولا تقولوا: إن عدونا شرٌ منا فلن يُسلَّطَ علينا، فرُبَّ قومٍ سُلِّطَ عليهم شَرٌّ منهم، وقد سَلَّطَ الله المجوسَ عبدةَ النارِ على بني إسرائيل، وكانوا شرًّا منهم، فجاسوا خلال الديار وكان وعدًا مفعولاً، وذلك لمَّا عملت بنو إسرائيل بمعاصي الله".. وكذلك الحال في كل عصر من العصور، إذا عصى المسلمون ربهم ، وابتعدوا عن دينه، فإن الله يسلط عليهم من هو شر منهم (وليس ما يحدث في فلسطين منا ببعيد) يسلط علينا المجوس، أو اليهود... فيقتلوا إخواننا، ويستحيوا نساءنا، ويحرقوا المساجد، ويفعلوا كل شيء بالمسلمين، والمسلمون يشهدون أنه لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويفعلوا بعض الخيرات، ومع ذلك يكتب الله النصر لأعدائهم، وذلك لانشغال المسلمين بالدنيا، وتعلقهم بها، وانهماكهم في المعاصي، والموبقات!! فاستَوَوْا هم والكفار في المعصية، فلم يؤيدهم الله بنصره.
    من هذا المنطلق نستطيع أن نفهم أن تضييع صلاة الفجر قد يُؤخِّر النصر، وأن النظرة الحرام قد تؤخر النصر، وأن عدم ارتداء النساء البالغات للحجاب قد يؤخر النصر!! ولا يقول أحدنا: إنه واحد، ويظن أن الله لن ينزل عذابه على المسلمين؛ لأنه هو بمفرده يعصي الله I، فإنما الأمة مجموعة من الرجال!! حتى وإن كان فيها بعض الصالحين، كما سأل الصحابة رسول الله : أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: "نعم، إذا كثر الخبث!!", في صحيح البخاري من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها وقد كَثُر، فيجب أن ننظر لأنفسنا، ونحاسبها، ونستحي من معاصينا، أن تكون سببًا في تأخر النصر الذي نستحقه، إن نحن فعلنا ما أوجبه الله علينا، وتكون لنا العزة في الدنيا والآخـرة.
    ويذكر أبو عبيدة للفاروق عمر في آخر رسالته أنه أرسل فرقة إلى ملك الروم وفرقة إلى الجزيرة.
    تصل الرسالة إلى عمر بن الخطاب، فيقرؤها، ويصدر أوامره..
    [1] سميت باسم الصنم "بَعْل" الذي كان يعبده أهل هذه البلد، وأُرسِل إليهم سيدنا إلياس u، جاء في سورة (الصافات): {أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين} الآيـة.

    تابعونا أحباب اللة ............

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: فتوحات الشام

    مُساهمة من طرف صادق النور الأحد أكتوبر 30, 2011 11:38 am

    فتوحات الشام 1728_image002

    ألأنسحاب من حمص ......................


    تلقى أبو عبيدة رسالة من عمر بن الخطاب يأمره فيها برد جيشيه اللذين كان قد أرسلهما إلى حلب، وإلى المنطقة الشرقية، وأن يقيم في حمص حتى يمر العام، ويرى رأيه، وكان ذلك في ربيع الأول عام 15 هـ، فما الذي دفع عمر بن الخطاب t إلى أن يوقف حركة الفتح في الشام، في هذه الفترة على الرغم من أن المسلمين في أشد لحظات الانتصار، والروم يسلمونهم البلاد بيسر، بدون قتال؟ لكي نعرف السبب، علينا أن ننظر إلى الجهة الأخرى، الجبهة الشرقية حيث يحارب الجيش الإسلامي الفرس..

    كان المسلمون قد تحركوا إلى القادسية لمعركة فاصلة بين الفرس والمسلمين، بعد عدد من المعارك بقيادة خالد بن الوليد، ثم المثنى بن حارثة، ثم أبي عبيد بن مسعود، ثم المثنى بن حارثة مرة أخرى، ثم أمَّرَ عمر بن الخطاب t سعد بن أبي وقاص على عدد كبير من الجيوش بلغ 32 ألف مجاهد، وبلغ عدد الجيوش الفارسية 120 ألف مقاتل، و120 ألف احتياطي، وكان عليهم رسـتم أعظم قواد الفرس في تاريخهم، واستعد الفرس لمعركة فاصلة مع المسلمين.

    وهكذا كان يرى عمر أن الجيش الإسلامي في فارس 32 ألف في مقابل نحو 240 ألف فارسي، أمر خطير، فرأى أن تقف حركة الفتوح في الشام في ذلك الوقت، حتى لا يشتت الجيوش الإسلامية في أكثر من مجال، وينتظر حتى يرى ماذا سيفعل المسلمون في أرض فارس، فإذا تمَّ لهم النصر، أَذِن لجيوش الشام بمواصلة الفتح، وإن احتاجوا لمدد استطاع أن يبعثوا لهم به.

    وهذه فائدة وجود قائد ذي نظرة ثاقبة، بعيدة المدى، مثل الفاروق t، يرى الأمور في الجبهتين، ويراقبها جيدًا.

    فأرسل أبو عبيدة رسالة إلى "ميسرة بن مسروق" الذي كان على رأس الجيش المتجه لفتح حلب، وأمره بالعودة، فعاد إلى حمص، واجتمع بأبي عبيدة وكل القادة الموجودين بحمص، ويخبره أبو عبيدة بأوامر الخليفة عمر بن الخطاب بوقف حركة الفتح، فيستجيبوا لذلك جميعًا.
    وينظم أبو عبيدة جيوشه في الشام، فيرسل خالد بن الوليد إلى دمشق، وكان عليها يزيد بن أبي سفيان، وكان عمرو بن العاص في فلسطين، وشرحبيل ين حسنة في البلقاء بالأردن، فاستدعى شرحبيل معه في حمص، وأمَّرَ عمرو بن العاص على كل منطقة فلسطين والأردن.

    المسلمون يقررون الانسـحـاب:
    وماكان لهذا الجمع الضخم أن يتجمع خفية عن المسلمين، وخاصة أن عيون المسلمين ومخابراتهم كانت منتشرة، وفي منتهى القوة، فأدركت على الفور أن "هرقل" يفعل ما لم يفعله أحد من قبل، للمسلمين أو لغيرهم، فوصلت الأخبار لأبي عبيدة في حمص، فما كان منه إلا أن جمع مستشاريه وكان فيهم شرحبيل بن حسنة فقط من قادته, وفكروا فيما يفعلونه لمواجهة هذه القوات الضخمة المتجمعة لمواجهة المسلمين.

    دار بين المسلمين حوار طويل، كان الرأي الأخير فيه لـ(شرحبيل) إذ رأى: أن تنسحب القوات الإسلامية من حمص، ومن كل الشام، وتبقى على أطراف الجزيرة العربية، ليقاتلوا الروم على أطراف الشام، فإذا هُزِموا رجعوا إلى الصحراء فيتعذر على الروم ملاحقتهم، وإذا جاءهم مدد يكونون قريبين منه، وكان أبو عبيدة مختلفًا عنه في هذا الرأي، إذ كَرِهَ t أن يترك المسلمون أرضًا امتلكوها، ويرى أن يبقوا في حمص، لكن الشورى اجتمعت على أن يترك المسلمون هذا المكان، فقرر أبو عبيدة أن يرضى بقرار الشورى بالانسحاب، وقالوا: ننسحب غدًا بعد صلاة الفجر، فإذا مرُّوا على خالد ويزيد بدمشق، أخذوهما معهم، حتى أطراف الشام، وأرسل أبو عبيدة بذلك رسالة إلى عمر بن الخطاب في المدينة، يخبره بإجماعهم على الانسحاب، لكي يقاتل المسلمون الروم على أطراف الشام..

    و أمر أبو عبيدة صاحب الجزية حبيب بن مسلمة أن رُدَّ على أهل حمص كل ما أخذته من أموال الجزية؛ لأنهم لن يدافعوا عنهم بذلك الانسحاب، وقل لهم:

    "نحن على ما كنا عليه فيما بيننا وبينكم من الصلح، لا نرجع فيه إلا أن ترجعوا عنه".

    وهكذا رد المسلمون الجزية لأهل حمص، وقد تعجب أهل حمص من هذا الموقف تعجبًا شديدًا، إذ إنه في الدولة المادية (التي لا تقوم على شرع الله) صعب أن يتخيل الناس أن جيشًا منتصرًا أخذ الجزية والأموال، ويملك القوة والجيش، يعيد الجزية لأهل البلد، لأنه لن يستطيع أن يدافع عنهم ضد أهلهم الروم!.

    فقالوا لهم: "رَدَّكُمُ اللهُ إلينا، ولَعَنَ اللهُ الذين كانوا يملكوننا من الروم، ولكن والله لو كانوا هم علينا ما ردُّوا علينا، ولكن غصبونا، وأخذوا ما قدَرُوا عليه من أموالنا، لَوِلايتُكُم وعدلُكم أحبُّ إلينا مما كنا فيه من الظلم والغُشْم".

    صلَّى المسلمون الفجر في حمص، وانطلقوا عائدين في اتجاه دمشق، ووصلت الرسالة إلى عمر بن الخطاب، فصرخ في وجه سفيان بن عوف قائلاً: ويحك، ما فعل المسلمون؟ فيقول له: تركتهم وهم يقولون: "نصلي الفجر ثم نرحل إلى دمشق"، وقد أجمع رأيهم على ذلك.

    فكره عمر ذلك، ولم يعجبه، فقال: ما رجوعُهم عن عدوهم؟ وقد أظفرهم الله بهم في غير موطن من مواطنهم، وما تركُهم أرضًا قد احتووها، وفتحها الله عليهم وصارت في أيديهم، وإني أخاف أن يكونوا قد أساءوا الرأي، وجرَّأُوا عدوَّهم عليهم!!.

    فقال سفيان: أصلحك الله، إن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، وإن صاحب الروم قد جمع لنا جموعًا، لم يجمعها هو، ولا أحد كان قبله لأحدٍ كان قبلنا! وقد أخبرنا بعض عيوننا أن عسكرًا واحدًا من عساكرهم (جيوشهم)، مرُّوا بالعسكر من أصل جبل، فهبطوا من الثنية نصف النهار إلى عسكرهم (كناية على كثرة العدد)، فما ظنك بما بقي منهم!! فلم يقتنع عمر، وقال: أخبرني: أجمع رأيهم جميعًا على التحويل؟ (أي الانسحاب)

    فقال سفيان: نعم. فقال عمر: الحمد لله على ذلك، فإني أرجو أن يكون الله قد جمع رأيهم على الخير إن شاء الله. (على الرغم من أنه يكره هذا الرأي).

    ويعود أبو عبيدة إلى دمشق، ويلتقي بخالد بن الوليد، ويتباحث معه الأمر, فيقول خالد: والله ليس هذا بالرأي!! ولكن إن اجتمعتم، فأرجو أن يجعل الله فيه الخير.

    وقفــة مع الشورى في الإسلام:
    كره القائد العام لجيش المسلمين في الشام، أمين الأمة أبو عبيدة بن الجراح t، أمر الانسحاب من حمص، ولكنه نزل عند رأي المسلمين، وكذلك خليفة المسلمين t، كره ما قاموا به، ولكنه ما إن يعلم بأنهم اجتمعوا على ذلك بعد شورى، حتى يدعو لهم بالتوفيق.

    و حتى لما قدم أبو عبيدة إلى خالد بن الوليد، كره خالد ما فعله المسلمون، ولكنه تفاءل بالخير لاجتماع المسلمين عليه.

    وذلك يوضح لنا قدر الشورى في الإسلام، وكيف كان الصحابة رضوان الله عليهم يفهمونها، ويقدرونها..

    لذا يجب أن نتوقف عند الشورى، ماهي؟ وما أصولها؟

    الشورى أن يشترك مجموعة في الاجتهاد للوصول إلى حلٍّ في مسألة مختلف فيها، تحتمل أكثر من رأي، وللشورى في الإسلام إضافة مهمة، وهي أن الأمور التي أقرها الله بوضوح لا تجوز فيها الشورى، فلا يجوز أن نتناقش ونتشاور في حكم أقره الله ، أو ثبت في سنة رسوله ، فلا يجوز لنا أن نتشاور حول قانون في قضية مثل الزنـا –مثلاً- يذكر القانون (الذي اجتمعت عليه الشورى في مصر) أنه: إذا زنا رجل بفتاة أكبر من 18 عامًا، بإرادتها، فهذه ليست جريمة، ما دامت تلك الفتاة لا تتخذ ذلك الأمر (الزنـا) تجارة، فهذه ليست جريمة، وإن شهد عليهم عشرة، أو عشرون (وليسوا أربعة)!! والمتزوجة إذا زنت بإرادتها، ووافق زوجها أو سامحها، أو طلقها، يسقط حق الحكومة في معاقبتها!.

    وهذا كله مخالف للشريعة الإسلامية، التي تقضي برجم المحصَنَة، إذا كان ذلك بإرادتها، وذلك بشهود أربعة، كما أن الحق ليس للزوج، وإنما حق التطبيق في هذا الأمر للشريعة الإسلامية، والشورى واجبة؛ لأمر الله بها لرسوله ، ووصفه للمؤمنين به، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159]، كما أن الشورى ضرورية في الأمور الاجتهادية للوصول إلى أفضل الآراء.

    وقد فرض الإسلام الشورى، ولكنه ترك وسيلتها للمسلمين يحددونها حسب اجتهادهم في كل عصر؛ لذا كان اختيار الخليفة بعد رسول الله بطريقة مختلفة في كل مرة؛ لاختلاف الاجتهاد.

    كما أن الشورى في الإسلام مُلزمة لكل الأطراف، بداية من الحاكم وحتى جميع الناس.

    عودة إلى الميدان:
    ويعود أبو عبيدة إلى دمشق، ويلتقي بخالد بن الوليد، ويتباحث معه الأمر.. فيقول خالد: والله ليس هذا بالرأي!! ولكن إن اجتمعتم، فأرجو أن يجعل الله فيه الخير.

    ويبدأ الأمراء الخمسة (يزيد، وأبو عبيدة، وخالد، وشرحبيل، ومعهم معاذ بن جبل) يتشاورون من جديد حول الانسحاب، لما رأوا اختلاف المسلمين فيه.

    الروم يعدون العـدة للمواجـهـة:
    وجد هرقل أن الجيش الإسلامي ينتصر في كل المعارك التي جرت بينهم، ويهلك عدد كبير من الجيش الرومي، ويفر الباقي، حدث ذلك في كل المعارك في الشام، باستثناء معركة "مَرْجُ الصُّفَّر"، ففكر في أن يجمع كل الجيوش الرومية في جيش واحد ضخم، يواجه به المسلمين في معركة فاصلة، وهو نفس التفكير الذي فكر فيه يَزْدَجِرْد في الفرس، إبَّان موقعة القادسية بعد سلسلة طويلة من الهزائم في الحروب الفارسية..

    فهرقل يفعل ما فعله يزدجرد، ولذلك لم يترك الجيش الرومي الموجود في بعلبك والجيش الرومي الموجود في حمص لُيقضَى عليهما في هذه المعارك الجزئية، بل آثر أن يسحب تلك الحاميات، ويضمها إلى الجيش الضخم الذي يعده لمواجهة المسلمين بقوة، واتخذ هرقل عددًا من الخطوات لإعداد ذلك الجيش، تمثلت في التالي:

    1- بدأ في التنقل بنفسه داخل المدن الرومية الكبرى -بعد أن كان يصدر أوامره من موقعه بأنطاكية- لكي يجمع الجيوش بنفسه، ويستحثَّ الناس على حرب المسلمين في معركة واحدة فاصلة.

    2- أرسل رسائل إلى جميع أطراف المملكة الرومية، تأمر القواد بتجنيد كل الروم الذين يستطيعون تجنيدهم من البالغ حتى الشيخ الكببير، تجنيدًا إجباريًّا.

    3- أرسل رسالة إلى رومـا[1]يستنجدهم على اعتبار أن هذه الحرب حرب دينية، وأنه يجب أن ينصر الروم الموجودين في هذه المنطقة، على اختلافهم معهم في كثير من الأمور العقائدية، وفعلاً أرسل له القيصر مددًا ونصرة عن طريق البحر.

    4- أمر بإحضار القساوسة، والرهبان المُفَوَّهين من كل الأماكن وأدخلهم في الجيش، حتى يحمسوا الجيش، ويرفعوا من معنوياته بعد الهزيمة النفسية الشديدة التي مني بها الروم، جرَّاء انتصارات المسلمين المتلاحقة.

    5- جمع أفضل قواده، وأحضر أعظم قواد الروم على الإطلاق (باهان)، حتى يتولى قيادة ذلك الجيش الضخم.

    6- أعد لذلك الجيش ميزانية خاصة، ضخمة جدًّا، كان من ضمنها مائتا ألف درهم تُعْطَى لباهان قبل المعركة، ووَعْدٌ بمثلها إن انتصر، ومائة ألف درهم لكل قائد من الروم قبل المعركة، وبذلك فعل ما لم يفعله أحد قبله.

    واستطاع أن يجمع مائتي ألف مقاتل لهذا الجيش في أصح الروايات (فالروايات تتراوح بين 120 ألفًا، إلى 400 ألف).

    تابعونا احباب رسول اللة صلى اللة علية وسلم ...............
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: فتوحات الشام

    مُساهمة من طرف صادق النور الأحد أكتوبر 30, 2011 11:40 am

    فتوحات الشام 1729_image002

    ألأستعداد لمعركة اليرموك ..............

    من الذي حمل الرسالة؟ إنه سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص، كان قائدًا من قُوَّاد المسلمين في الأردن، وهو من كان يخلف سيدنا عمرو بن العاص مباشرة في إمارة الأردن، وذلك بتولية من سيدنا أبي عبيدة بن الجراح. ومن يطالع سيرة سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص يتعجب من كونه من قواد المسلمين في هذا الجهاد مع سيرته هذه، فما وجه العجب في ذلك؟!!
    الأمر أن سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص كان مشهورًا بين الصحابة بالعبادة والزهد والركون إلى المسجد وكان لا يأكل إلا ما يكفيه فقط للعيش، ثم يذهب ويعبد الله I ويصلِّي ويتنسَّك ويذكر الله I كثيرًا حتى شقَّ على نفسه لدرجة أنه بلغ رسول الله هذا الأمر عنه؛ فاستدعاه وقال له: "ألم أُخْبرَ أنك تصوم النهار لا تفطر، وتصلى الليل لا تنام؟!! فحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام"؛ فقال عبد الله: والله يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك؛ فقال: "فحسبك أن تصوم من كل جمعة يومين", وفي رواية: "فحسبك أن تصوم الاثنين والخميس"؛ فقال عبد الله: إني أطيق أكثر من ذلك؛ فقال رسول الله : "فهل لك في خير الصيام؟! صيام داود: كان يصوم يومًا ويفطر يومًا"؛ فلبث عليه عبد الله بن عمرو بن العاص (أصبح يصوم يومًا، ويفطر يومًا طوال حياته), ثم عاد رسول الله يسأله: "علمت أنك تجمع القرآن في ليلة (يقرأ القرآن كله كل ليلة) وإني أخشى أن يطول بك العمر وأن تمَلَّ قراءته؛ اقرأه في كل شهر مرة", فقال: إني أطيق أكثر من ذلك؛ فقال: "اقرأه في كل عشرة أيام مرة"؛ فقال: إني أطيق أكثر من ذلك؛ فقال: "اقرأه في كل ثلاث مرة" (وهذا أقلُّ وقت للقراءة)؛ فلبث على ذلك؛ فقال رسول الله : "إني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتى فليس مني", ولقد عُمِّرَ عبدُ الله بن عمرو بن العاص طويلاً فكان من معمري الصحابة، حتى أصبح شيخًا كبيرًا وساعتها كان يشُقُّ عليه الصيام (كان يصوم يومًا ويفطر يومًا)، وقراءة القرآن كل ثلاثة أيام؛ فقال: ليتنى قبلت رخصة رسول الله (لا يريد أن يتنازل عما أخبر الرسول به). وهذا يؤكد أن أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قلَّ، لكن ليس معنى ذلك أن تقلِّل من قراءة القرآن فتقرأ سورة كل شهر أو شهرين مثلاً؛ لتضمن الاستمرار في الكِبر؛ فالله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].
    هذا الناسك العابد كان أبوه سيدنا عمرو بن العاص يذهب ويشتكيه لرسول الله من كثرة عبادته لله I، يراه يصلي كثيرًا، ويصوم كثيرًا، فكان قلب عمرو بن العاص يشفق على ابنه من كثرة العبادة؛ فذهب إلى رسول الله يشكو إليه ابنه؛ فقال رسول الله لسيدنا عبد الله: "افعل ما أمَرتُك, (أي صيام داود، وقراءة القرآن كل ثلاثة أيام)، وأطَعْ أباك". (أي في هذا الأمر). وقد انبنى على هذه الكلمة (أطع أباك) من رسول الله لعبد الله بن عمرو بن العاص أشياء كثيرة أخرى في التاريخ الإسلامي سنأتي لها -إن شاء الله- في حينها.
    هذا الناسك العابد عندما جاء الجهاد كان في طليعة المجاهدين، وكان قائدًا من قواد المسلمين في الأردن، وكان أشد المحمسين للناس على القتال وترك المسجد وترك أجر ألف صلاة للصلاة الواحدة في المسجد النبوي كما تحدثنا من قبل عن أبي الدرداء، وكما تحدثنا من قبل عن كثير من الصحابة اشتُهِروا بالعبادة، واشتهروا بالذكر، واشتهروا بالصيام والصلاة والصدقة ومع ذلك عندما يأتي وقت الجهاد كانوا يتركون كل هذا ويذهبون إلى الجهاد، ويذكرون الله I في أرض المعركة في أشرف الأماكن، وهذا يوضح لنا مفهوم الإسلام الشامل، وأن الإسلام ليس مجرد عبادات أو طقوس تُنفَّذ، ولكنه يحتوي أشياء كثيرة: منها العبادة ومنها العقيدة ومنها المعاملات ومنها الجهاد في سبيل الله.
    أبو سفيان والمشورة النافعة :

    وأثناء هذا الحوار وهم جالسون في خيمة يزيد بن أبي سفيان، كان أبو سفيان بن حرب مارًّا أمام الخيمة, وهو طبعًا مشهور في الجاهلية، إذ كان من قادة قريش في الحروب، وهو الذي قاد الجيش المشرك في أُحُد والأحزاب، وكان من القادة المفكرين، وقد أسلم بعد عام الفتح وحَسُنَ إسلامه، وخرج للجهاد في أرض الشام في هذه المعركة، وكان من الذين يحمسون المسلمين للقتال، وكما سنرى بعد ذلك في موقعة اليرموك هو الذي كان معينًا لحثِّ المسلمين على القتال؛ فيدور على القبائل ويحمسها..
    فعرف أن داخل الخيمة قادة المسلمين يتفاهمون في الأمر، فمن قادة المسلمين؟ إنهم (خالد بن الوليد ويزيد بن أبى سفيان, كلهم في سن أبنائه، بل فيهم ابنه بالفعل) فيقول: ما كنت أظن أني أبقى حتى أرى غِلْمَةً من قريش يذكرون أمر حربهم، ويكيدون عدوهم في حضرتي ولا يُحْضِرونني!! فسمعه سيدنا أبو عبيدة وهو داخل الخيمة؛ فقال: ما رأيكم؟ فقالوا: فلْيدخلْ؛ فقال: دعه؛ فدخل عليهم أبو سفيان t؛ فقال: ما الخبر؟ فأخبروه بأمر الجيش الرومي وأنه على بُعد نصف ليلة، فكان أول ما نظر سيدنا أبو سفيان للأمر أن قال: إن معسكركم هذا ليس بمعسكر -أي أنكم إذا بقيتم في مكانكم؛ فسيكتسحكم الرومان- إني أخاف أن يأتيكم أهل فلسطين والأردن؛ فيَحُولُوا بينكم وبين مددكم من المدينة؛ فتكونوا بين عسكرهم (لأن الجيش الإسلامي موجود في الجابية وفيها بعض الرومان، والجيش الرومي قادم من الغرب إلى الشرق في اتجاه الجابية، وهو خائف من أن يلتف الجيش الرومي حولهم من جنوب الجابية؛ فيُحْصَرَ المسلمون في شمال الشام، ويمنع عنهم المدد) فيقول لهم: فارتحلوا حتى تجعلوا (أذرعات) خلف جيشكم، و(أذرعات) هذه مدينة في جنوب الجابية اسمها الآن (دِرْعة) في الأردن.
    فاستحسن المسلمون هذا الرأي؛ وقالوا: نِعْمَ الرأيُ أبا سفيان، وعلى الفور بدأوا يجهزون أنفسهم كي يأمروا الجيوش بالتحرك إلى (أذرعات)، وهذا ليس انسحابًا كما كان الكلام في المشاورة، بل هو اختيار لأرض المعركة كما كان يفعل المسلمون دائمًا في كل المعارك السابقة، حتى يرغموا عدوهم على القتال بها؛ فتكون لهم الغلبة.
    عندما وافق القادة على ذلك الرأي تحمس وتشجع، وقال لهم: إذا قبلتم هذا الرأي مني؛ فخذوا رأيًا آخر: فأمِّرُوا خالد بن الوليد على الخيول (وكان يعرف أن خالد بن الوليد أُمِّر على الجيوش كلها، لكن قال: أمِّروه على الخيول), ومُروه بالوقوف مما يلى نهر الرِّقاد -يعنى: اجعلوا خالد بن الوليد يقف بالخيول بينكم وبين الجيش الرومي- وأَمِّرُوا رجلاً على الرماة، (أيَّ رجلٍ آخر تختارونه، المهم أن يكون خالد على الخيل)؛ وأخرجوا إليه كل نابض بوتر –يعني كل من يجيد الرمي، ومروه بالوقوف بين العسكرين؛ ليحمي خالدًا, لماذا هذه الوقفة؟ فإنه سيكون لرحيل العسكر (المتحرك من الجابية إلى أذرعات) صوت عالٍ في السَّحَر (يريدهم أن يتحركوا وقت السحر قُبيل الفجر بقليل؛ حتى لا ينتبه الجيش الرومي لتحركاتهم)؛ فقال: "فإن أقبلوا يريدون ذلك طمعًا فيكم لقيتهم الخيول بخالد وكفَّتْ عنهم الرماة", فاستحسنوا هذا الرأي أيضًا، وجعلوا خالد بن الوليد يقف بالخيول، ومعه مجموعة من الرماة وقفوا بينه وبين الجيش، وبدأ الجيش الإسلامى يتحرك في السَّحَرِ بالفعل من الجابية إلى أذرعات، وعندما علم الرومان بهذا الأمر، وسمعوا ضجة تحرك الجيش الإسلامي خرجت الخيول الرومية مباشرةً؛ لتقطع الطريق على الجيش الإسلامي؛ فلقيها خالد والرماة وكفُّّوهم، تمامًا كما توقع أبو سفيان بن حرب t، فخشي الرومان الدخول في معركة أثناء الليل، وانسحبت جيوشهم دون حدوث أي اشتباك بين الطرفين، وبالفعل انتقل المسلمون من الجابية إلى منطقة أذرعات وعسكروا بها.
    على ضفتي اليرموك :
    عندما وجد الجيش الرومي الجيش الإسلامي ينتقل إلى أذرعات، انتقل هو أيضًا إلى الجنوب، وعسكر في مكان يسمى (دير أيوب)، ويفصل بين دير أيوب (الذي يعسكر به الجيش الروماني)، وبين أذرعات (التي يعسكر بها الجيش الإسلامي) نهر اليرموك.
    وبدأنا نسمع كلمه اليرموك، إذن فقد اقتربنا من الموقعة الكبيرة بإذن الله، والكل مستعد للقتال، وقد قرر المسلمون الثبات والبقاء بعد أن وصل تعدادهم إلى 33 ألفًا: 32 ألفًا
    النصر قادم بإذن الله :
    القصة والقضية كلها هي مَنِ الجيش الذي سينصر هذا الإسلام؟ ومَنِ الأفراد الذين سيقيمون هذه الدولة؟ الأستاذ سيد قطب في تعليقه على هذه الآية: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51], يوضح لنا أن النصر لا ينحصر في تحقيق نصر جيش على جيش في فترة من الزمان، ولكنه نصر الدعوة بصورة عامة. قد يكون هذا في عصرك وقد يكون في عصر آخر، ولا يُضيرُك أنت في عصر ما أن تجاهد في سبيل الله، وتسعى حق السعي إلى سيادة الدولة الإسلامية في العالم، ثم لا يتحقق لك ذلك، ولا يمكِّن الله لك ذلك في ذاك العصر، ولكن إن نَصَرَ الله I الدعوة بعد موتك بسنين وسنين، وقرون وقرون، وكنت أنت سببًا في ذلك فهذا نصر لدعوتك، لقد نُصِرْتَ أنت مع أنك مِتَّ، ولم يمُكَّنْ لك، يقول سيد قطب في هذا المقال: "وكم من شهيد ماكان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام، كما نصرها باستشهاده", أي أن استشهاده نصر دعوته بأشد مما كان يستطيع أن يفعل خلال ألف عام من الدعوة المستمرة, وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة، ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة بخطبة مثل خطبته الأخيرة التى كتبها بدمه فتبقى حافزًا محركًا للأبناء والأحفاد وتُنصَرُ الدعوةُ ولو بعد حين, سبحان الله إن ما يجعل لهذا الكلام صدقًا وصدى وانتشارًا في العالم أنه سيكون آخر خطبة كتبها سيد قطب نفسه بدمه، وآخر كلماته في الحياة، وقد لقى الله I شهيدًا بسبب هذه الكلمات. صدق الله I فصدقه الله I وأعطاه الشهادة، وهذا هو المفهوم الذي يجب أن يرسخ في نفوسنا: أنه لابد أن نكافح من أجل إقامة خلافة الإسلام ودولة الإسلام في الأرض، ونثبت للعالم كله أن الإسلام هو الدين الذي يجب أن يسود، لكن نفهم أنه ليس ضروريًّا أن يتم هذا في عصرنا.
    بشارات نبوية:
    يجب ألا نستبعد النصر ونقول: أين المسلمون من أمريكا وأوربا واليابان وغيرهم؟ كلهم سبقونا بعصوركثيرة وهم أقوى منا الآن بطبيعة الحال، بل علينا أن نقول: لو رجعنا وتمسكنا بديننا فسينصر الله I هذا الدين لا محالة، وعْدٌ من الله I أنه سيستخلف المؤمنين لقيادة هذه الدنيا، لكن ليس مهمًّا أن تكون واحدًا من هؤلاء الخلفاء أو أن نكون نحن بعض أفراد هذا الجيش المنتصر، وإنما من الممكن أن نكون نواة لنصر هذا الجيش، نقول: إن الذي عنده شك في هذا النصر وأنه سيتحقق لا محالة، وأنه إن شاء الله رب العالمين سيأتي اليوم الذي يدفع فيه الغرب والشرق الجزية للمسلمين، أو يدخلون في الإسلام، أو يقاتلهم المسلمون فينتصرون عليهم، من لديه شك في هذا الأمر فليراجع أحاديث رسول الله ؛ يقول الرسول : "ليبلغنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليل والنهار (أي أنَّ أي مكان يصله الليل والنهار سيصله الإسلام، أي سيبلغ كل الدنيا), ولا يترك الله بيت مدرٍ ولا وبرٍ (مدر هو الحجر، والوبر أي الشعر، يعني ما من بيت في البادية ولا بيت في المدينة يعني كل الدنيا) إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزًّا يعز الله به الاسلام، وذلاًّ يذل الله به الكفر". رواه ابن حبان وصححه الألباني.
    يقول الرسول : "إن الله زَوَى لي (يعني جمع وضمَّ) الأرض؛ فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوِيَ لي منها". رواه مسلم, (يعني: أن ملك المسلمين سيبلغ ما زُوِي للرسول وقد زوي له مشارق الأرض ومغاربها)، ويقول الرسول في الحديث اللطيف المبشِّر الذي رواه عبد الله بن عمرو بن العاص المقاتل في جيش المسلمين في الشام ضد جيش الرومان ولهذا معنى لطيف يقول أبو قُبَيْل: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص وسُئِل: أي المدينتين تفتح أولاً: القسطنطينية أم رومية, القسطنطينية عاصمة الدولة الرومانية الشرقية بيزنطة، ومكانها الآن إسطنبول ورومية هي عاصمه الدولة الرومية الغربية ومكانها الآن روما عاصمة إيطاليا؟ يقول: فدعا عبد الله بن عمرو بن العاص بصندوقٍ له حِلَق؛ فأخرج منه كتابًا؛ فقال: بينما نحن حول رسول الله نكتب إذْ سُئِل رسول الله : أي المدينتين تفتح أولا: القسطنطينية أم رومية؟ فقال رسول الله : "مدينة هرقل تُفتحُ أولاً". أي: القسطنطينية, وقد فُتِحَتْ بحمد الله في عصر الدولة العثمانية على يد محمد بن مراد الملقب بمحمد الفاتح، وتحققت نبوءة الرسول في الجزئية الأولى، وستتحقق -لا محالة في الجزئية الثانية- هذا أمر لا يقبل الشك، سيدخل المسلمون إن شاء الله رب العالمين روما عاصمة إيطاليا فاتحين.
    من مآثر خالد بن الوليد t :
    وكان سيدنا أبو عبيدة حيران، يرى سيدنا خالد بن الوليد ساكتًا ولا يدلي بدلوه، وسيدنا خالد بن الوليد ساكت تتناوله الهموم مكتئبًا حزينًا، (حمص) وبعدها (بعلبك) وبعدها (الجابية)، إلى أين سنظل ننسحب هكذ؟ وكان سيدنا خالد بن الوليد -كما يقول الرواة- يرى الرومان أهون عليه من الذباب، ثم يرى الجيش الإسلامي ينسحب خطوة وراء خطوة من أمامهم، فهو معترض على ما يجري، ولا يقبل بأن تُطرح القضية للمناقشة أصلاً، ففي رأيه يجب أن يثبت المسلمون لقتال الرومان؛ فيقول له سيدنا أبو عبيدة: يا خالد ماذا ترى أنت؟ فقال: أرى -والله- إن كنا نقاتل بالكثرة والقوة فهم أكثر منا وأقوى علينا، ومالنا بهم إذن من طاقة، وإن كنا نقاتلهم بالله ولله فما إنَّ جماعتهم ولوكانوا أهل الأرض جميعًا أنها تغني عنهم من شيء (وليس مائتي ألف فقط)، ثم التفت إلى أبي عبيدة وأمسكه وهزه وصرخ فيه، وقال له: أتطيعني أنا إذا أمرتك (أي: أستسمع كلامي إذا أشرت عليك؟), فقال أبو عبيدة وكله ثقة في سيدنا خالد بن الوليد، يعلم أن الحق معه، وأن له نظرًا ثاقبًا في الأمور، ويعلم إخلاص نيته؛ فيقول له: نعم. والله أطيعك. ماذا تقول؟ فقال: فوَلِّني ما وراء بابك (أَمِّرني على الجيوش كلها) فولِّني ما وراء بابك، وخلِّني والقوم؛ فإني لأرجو أن ينصرني اللهُ عليهم؛ فقال أبوعبيدة: قد فعلتُ. (وافق مباشرة أن يولي سيدنا خالد بن الوليد؛ فأُمِّرَ خالد بن الوليد على الجيوش الإسلامية في الشام، وعادت له القيادة من جديد، طبعًا هذا الأمر كله من صلاحيات سيدنا أبي عبيدة بن الجراح فهو لم يؤمِّرْه على الشام، وإنما أَمَّرَه على قيادة الجيش الإسلامي في هذه المعركة، وهذا من صلاحياته؛ لأن أمر سيدنا عمر بن الخطاب أن يُعْزَل سيدنا خالد، ويُعين سيدنا أبو عبيدة ابن الجراح أميرًا على الشام، لكنَّ الجيش الإسلامي في هذه المعركة -كما يرى أبو عبيدة- يحتاج رجلاً مثل خالد بن الوليد t، وهو يثق فيه تمام الثقة؛ فقال له: قد فعلت، وأَمَّرَه على ذلك الجيش.
    يقول الرواة عن سيدنا خالد بن الوليد في هذا الأمر: وقد كان معلومًا أن خالد بن الوليد من أعظم الناس بلاءً، وأحسنِهم غَنَاءً، وأعظمِهم بركةً، وأيمنهم نقيبةً، وكان الرومان أهون عليه من الذباب، فكان هو الرجل المناسب في المكان المناسب.
    في هذا الوقت وهم جالسون يتشاورون وصلهم الخبر أن الجيش الرومي على بُعد أقل من نصف ليلة من الجيش الإسلامي في (الجابية)، ومن الممكن أن يحدث القتال بعد أقل من 12 ساعة. إذن ماذا يفعلون؟
    رسالة من أبي عبيدة إلى أمير المؤمنين عمر :

    علم المسلمون بذلك أن الجيش الرومي على أبواب (الجابية) وأن الجيش الإسلامي لم يصلها بعدُ، فالجيشان يتسابقان عليها؛ فقال سيدنا معاذ بن جبل لسيدنا أبي عبيدة بن الجراح: اكتب رسالة إلى عمر بن الخطاب أخبره بالأمر، واطلب منه المدد؛ فأسرع سيدنا أبوعبيدة بن الجراح يكتب رسالة يقول فيها: " أما بعد.. أُخْبرُ أمير المؤمنين -أكرمه الله- أن الروم نفرت للمسلمين برًّا وبحرًا ولم يخلِّفوا وراءهم رجلاً يطيق حمل السلاح إلا جاشوا به علينا، وخرجوا معهم بالقسيسين ونزل إليهم الرهبان من الصوامع (حتى المنقطعين للعبادة نزلوا يقاتلون معهم) واستجاشوا بأهل أرمينيا وأهل الجزيرة (في العراق )، وجاءونا وهم نحو أربعمائة ألف رجل (ويبدو أن هذه كانت أخبارًا مبالغًا فيها نشرها باهان بين جنود الروم لكي يحمسهم بأنهم أربعمائة ألف، فيبدو أن هذه الأخبار جاءت من داخل الجيش الرومي، لكن في واقع الأمر كان الجيش 200 ألف فقط، وهذا عدد ضخم أيضًا)، وأنه لما بلغنى ذلك من أمرهم كرهت أن أغُرَّ المسلمين من أنفسهم، وأن أكتمهم ما بلغني عنهم؛ فكشفت لهم عن الخبر؛ فأخبرتهم بقدر حجم الجيش الرومي، وشرحت لهم الأمر، وسألتهم عن الرأي فرأى المسلمون أن يتنحوا إلى أرض من أرض الشام، ثم نضم إلينا أطرافنا وقواصينا، فالعَجَلَ العَجَلَ -يا أمير المؤمنين- بالرجال بعد الرجال، وإلا -وانتبهوا للاستثناء الذي سيستثنيه لو لم يأتِ المدد بسرعة- وإلا فاحتسب أنفس المؤمنين إن هم أقاموا (لو ظل المسلمون يقاتلونهم سيهلكون)، واحتسب دينهم إن هم فارقوا (لو فَرُّوا من أرض القتال خسروا دينهم لأنهم فرُّوا من المعركة، فلا تضع المسلمين في هذا الموقف: موقف أن يفقدوا أرواحهم كله، ويُبادُ الجيشُ الإسلاميُّ، أويَفرُّوا من المعركة ويفقدوا دينهم، فقد جاءهم ما لا قبل لهم به، ثم يضيف استثناءً آخر مهمًّا) إلا أن يمدهم الله بملائكته ويأتيهم بغياث من قِبَلِه، والسلام عليك".
    (أي أنه بالحسابات المادية لن ننتصر؛ لأن الجيش الذي أمامنا أقوى منا بكثير، فإما أن ترسل إلينا مددًا ننتصر به عليهم، أو تحتسب أنفس المسلمين، أو يُحتَمَل أن يَفِرَّ المسلمون من المعركة، ويخسروا دينهم، ولن ينتصر المسلمون في هذه المعركة بالأسباب المادية وحدها كما يقول إلا أن يأتيهم الله بغياث من عنده، أو يمدهم الله بالملائكة. وهذا الأمر ليس في أيدينا، فإذا فعله الله تعالى؛ فالنصر للمسلمين لا محالة)، أراد أبو عبيدة أن يحمس عمرَ بن الخطَّاب بهذا الخِطَاب، وأرسله مع عبد الله بن قِرْط t، وعندما يذهب عبد الله بن قرط، ويُعْلِم عمر بن الخطاب بالموقف يشتد الأمر على ابن الخطاب، ولما يعلم المسلمون في المدينة بهذا الأمر يزداد بكاؤهم حتى يُسْمَع صوتُ بكاء المسلمين من كل بيت من بيوتهم، يبكون على هذا الجيش الضخم من المسلمين 32 ألف مسلم موجودين في أرض الشام مُعرَّضين للهلكة تمامًا، وتشتد الشفقة عليهم، وتُرْفَع الأيدي بالدعاء إلى الله I أن يُنجِّي الجيش، ويكون أشد الناس خشية عبد الرحمن بن عوف t، ويقول لعمر بن الخطاب: سِرْ بنا يا أمير المؤمنين فإنك إن قدمت الشام فقد شدَّد الله قلوب المؤمنين وأرعب قلوب الكافرين، فكان يرى أن يخرج أمير المؤمنين عمر بنفسه على رأس الجيش إلى الروم.
    في نفس الوقت كان سعد بن أبي وقاص منتظرًا قتال الجيش الفارسي الضخم: مائتين وأربعين ألف جندي، والجيش المسلم المكون من 32 ألف جندي موجود على أبواب القادسية، وقبل أن يتحرك الجيش الإسلامي الذاهب إلى القادسية كان بعض المسلمين يريدون خروج عمر بن الخطاب على رأس الجيش؛ فاجتمع كبار الصحابة وأصروا على عدم خروج عمر؛ فأَمَّر بدلاً منه سيدنا سعد بن أبى وقاص.
    والآن يتكرر نفس الموقف في أرض الروم فيجتمع الصحابة، ويقولون: لا يخرج عمر، فإن هلك عمر هلك المسلمون (أي بفقدان الخليفة واضطراب الأوضاع)؛ فقالوا: يظل عمر في المدينة، ويرسل الجيوش بعد الجيوش، ويدير الأمور من المدينة، حتى لا يطمع الناس في المدينة نفسها. فما دامت الجيوش الإسلامية تقاتل على جبهتين فالموقف يحتاج شخصًا في المدينة المنورة كعمر بن الخطاب يوازن بين الأمور، ويرسل الجيوش هنا وهناك حسب ما يرى.
    يقين ثابت وإيمان لا يتزعزع :
    ثم يعطي هذه الرسالة إلى عبد الله بن قرط t، ويقول له: "أسرع إلى أبي عبيدة، وقل له: إن عمر يُقْرِؤُكم السلام، ثم اذهب أنت بنفسك إلى الجيوش وقل لهم: إن عمر يقرؤكم السلام، ويقول لكم: يا أهل الإسلام اصدقوا اللقاء، وشدوا عليهم شد الليوث، واضربوا هامتهم بالسيوف، وليكونوا أهون عليكم من الذَّرِّ (النمل أو الحشرات الهوام) فإنا قد علمنا -انظر يقين سيدنا عمر- أنكم منصورون، فإنا قد علمنا أنكم منصورون، فلا تهولنكم كثرة عدوكم، ولا تستوحشوا بمن لم يلحق بكم منكم" هذا الكلام من سيدنا عمر بن الخطاب لا يجب أن يمر ببساطة، فقد قال جملتين بنفس المعنى: واحدة لسيدنا أبي عبيدة، وواحدة إلى سيدنا عبد الله بن قرط لا بد أن نقف عليها وهى: "وإنكم منصورون إن شاء الله على كل حال", ويقول لعبد الله بن قرط ليخبر الجيوش: "إنا قد علمنا أنكم منصورون", يقين كامل من سيدنا عمر بن الخطاب أن النصر سيكون للمسلمين، من أين أتاه هذا اليقين؟!! هذه حقيقة ثابتة في الكتاب والسنة. إن الله I سيكتب النصر للمسلمين في كل العصور، إن الله I سيكتب النصر للمسلمين على كل حال. إن هم آمنوا وأقاموا الإسلام سيُكتب لهم النصر حتى إذا كانت قوتهم أضعف كثيرًا من القوى المعادية لهم، هذا في عصر الرسول وفي عصر الصحابة وفي عصرنا وحتى يوم القيامة، هذا وعد الله تعالى. وعد ثابت لا يتغير، يقول الله I: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55], هذا هو الشرط:{يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55], متى تحققت العبادة لله I تحقق النصر والتمكين لله في الأرض، وتكون الخلافة الإسلامية إن شاء الله رب العالمين.
    مفهوم العبادة الصحيح :
    لكن لابد أن نفهم العبادة فهمًا صحيحًا، لا بد أن نوسع مفهوم العبادة كما كان يفهمه سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص، وكما كان يفهمه سيدنا أبو الدرداء t، فالعبادة ليست مجرد خمس صلوات تُقام، وشهر يُصام، وبعض الصدقات، وبعض أمور الخير التى نفعلها لكن العبادة منهج حياة كامل، الإسلام دين شامل ينظم الحياة؛ فإنك تعبد الله I بصلاتك وزكاتك، وتعبد الله I بمعاملاتك مع الناس، وتعبد الله I بجهادك في أرض المعركة، وتعبد الله I بأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، وتعبد الله I بإتقانك في عملك وبراعتك فيه وإثبات أن المسلمين قادرون على أن يقوموا بأمورهم ولا يحتاجون إلى غيرهم. هذا الأمر كله داخل في مفهوم العبادة. ليست العبادة أن نصلي ونصوم فقط حتى نظن أن الله I لن ينزل علينا النصر إلا في الوقت الذي نصلي فيه، بل لابد أن نأخذ بكل الأسباب الدنيوية والمادية لتحقيق النصر، يقول الله I في بدايات سورة القصص: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4], فبنو إسرائيل في أشد حالات الضعف، وأشد حالات الاستعباد من فرعون، ولكن يأتي مباشرة خلف هذه الآية التي تعلن استعلاء فرعون في الأرض قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5].
    إذن فالله I قادر على كل شيء، لكن لا بد أن تكون هذه الطائفة مستحقة لنصر الله I؛ فإذا آمنت بالله I، وعبدته كما ينبغي له أن يُعبد أتاها نصر الله لا محالة {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21]، والآية الأخرى في سورة غافر، يقول الله I: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51], لكي لا يظن أحد أن الرسل فقط هم المنصورون ولكن أيضًا {والذين آمنوا} وليس النصر في الآخرة فقط، بل {في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} لابد أن يأتي.
    ذكاء عمرو بن العاص وحسن تدبيره :
    يأتي عبد الله بن عمرو بن العاص بالرسالة إلى أبي عبيدة، ويخبره أن أهل الأردن وفلسطين انتقضوا وبدأوا يفكرون في الهجوم على جيش عمرو بن العاص الموجود في الأردن، فماذا ترى يقول عمرو بن العاص في رسالته؟ إنه يقول: هل آتيك في أي مكان أنت فيه، أو أنتظرك وتأتينى بالمدد؟ فأرسل أبو عبيدة بن الجراح له رسالة: أن انتظر مكانك واصبرْ، فإنا إن شاء الله قادمون.
    الجيش الإسلامى مُتَّفَقٌ أنه سينزل إلى الجنوب، فليس هناك داعٍ لأنْ يصعد عمرو بن العاص وبعد ذلك يعود للنزول، ووصَّى أبو عبيدة بن الجراح سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص أن يكون في جانب من الجيش يحمس الناس، وأن يحمس أبوه الجانب الآخر، عندما أتت هذه الأوامر إلى سيدنا عمرو بن العاص بأن يظل في مكانه وينتظر جيش سيدنا أبي عبيدة بن الجراح، خاف سيدنا عمرو بن العاص أن يقوم أهل الأردن وفلسطين أو الجيوش الرومية بثورة عليه، خاصة أن جيش سيدنا عمرو بن العاص صغير جدًّا. فماذا يفعل سيدنا عمرو بن العاص؟ في الحقيقة كان لدى سيدنا عمرو حكمة وذكاء شديد وقد اشتُهِرَ بذلك في التاريخ الإسلامى في كل المواقع تقريبًا؛ لذا فالخطوة الأولى فيما صنعه أن جمع أهل الأردن جميعًا، وقال لهم: إنه بلغني أن أحدكم قد نقض عهده وخبَّأ جنودًا من الرومان؛ فأخرجوا لي هؤلاء الجنود وإلا نقضنا العهد الذي بيننا وبينكم، وجمع الناس كلهم وأخرجهم خارج البلد ووضعهم في مكان معين، وعيَّن عليهم سرية من السرايا، وأمَّر عليهم سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص ليحرسهم في هذا المكان، وهكذا جرَّد أهل الأردن من السلاح لكثرتهم؛ وذلك لأنهم يخبئون بعض جيوش الرومان، وقد كان هذا حقيقيًّا بالفعل، وكان هناك جنود ومقاتلون كثيرون قد تسربوا إلى الأردن وفلسطين، وقد فعل سيدنا عمرو بن العاص ذلك ليمنع وجود قوة متجمعة لهم في مكان واحد.
    الخطوة الثانية: أنه أعلن أنه سيذهب إلى قتال حصن ( إيلياء) الموجود فيه تجمُّع الرومان؛ فخاف أهل (إيلياء) من الخروج لقتال سيدنا عمرو بن العاص؛ لمِا رأوا من إقدامه على القتال والهجوم، وقالوا: نتحصن في حصننا، ولم يكن سيدنا عمرو بن العاص يفكر في قتال أهل ( إيلياء )، لكنه أعلن هذا الأمر وهو يعلم أن عيون أهل (إيلياء) سوف تصل بالخبر إليهم؛ حتى يضطروا إلى البقاء في حصونهم ولا يخرجوا للمسلمين، وهذا ما حدث بالفعل فقد وصلت الأخبار الى أهل (إيلياء) أن عمرو بن العاص يفكر في الهجوم عليهم؛ فقالوا: ما دام القتال واقعًا لا محالة، فنظل في حصوننا في انتظاره بدلاً من أن نقاتله في العراء.
    الخطوة الثالثة: لكي يؤكد نيته في الهجوم على إيلياء ولا يكتفي بالعيون كتب خطابًا شديد اللهجة موجهًا إلى أ هل إيلياء قال فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم من عمرو بن العاص إلى بطارقة إيلياء -البطارقة هم قواد الجيش، ومفردها: بطريق-، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله العظيم الذي لا إله إلا هو ومحمد رسول الله , وكأنه يعني بذلك: لا سلام عليكم فلو اكتفي بقوله: "السلام على من اتبع الهدى" قد يدعي كل واحد أنه على الهدى والصواب، ولكنه يكمل: وآمن بالله العظيم الذي لا إله إلا هو وآمن بمحمد فهذا هو السلام عليه أما غير ذلك فليس ثَمَّ سلامٌ, فإننا نُثْني على ربنا خيرًا، ونحمده حمدًا كثيرًا كما رحمنا بنبيه، وشرفنا برسالته، وأكرمنا بدينه، وأعزنا بطاعته، وأكرمنا بتوحيده والإخلاص بمعرفته، فلسنا -والحمد لله- نجعل له ندًّا، ولا نتخذ من دون الله إلهًا، لقد قلنا إذًا شططًا. سبحانه وبحمده جلَّ ثناؤه..
    وكل هذه الأمور على خلاف العقيدة النصرانية، فهو يطعنهم في هذه العقيدة وفي نفسياتهم بتبيان ضلالهم، وهداية المسلمين, ثم يقول: الحمد لله الذي جعلكم شيعًا، وجعلكم في دينكم أحزابًا بكفركم بربكم فكل حزب فرحون: فمنكم من يزعم أن لله ولدًا، ومنكم من يزعم أن الله ثانى اثنين، ومنكم من يزعم أن الله ثالث ثلاثة؛ فبُعدًا لمن أشرك بالله وسُحقًا, يفتُّ في عضد الجيش الرومي بتذكيرهم باختلاف عقائدهم ومللهم رغم أنهم في جيش واحد، ثم يذكرهم بالتاريخ الإسلامى في هذه المنطقة؛ فيقول: والحمد لله الذي قتل بطارقتكم، وأذل عزكم، وطردكم من هذه البلاد، وأورثنا أرضكم ودياركم وأموالكم وأذلكم بكفركم بالله، وتركِكُم ما دعوناكم إليه من الإيمان بالله ورسوله؛ فأعقبكم الله الخوف والجوع بما كنتم تصنعون، فإذا أتاكم كتابي هذا فأسلموا تسلموا، وإلا فأقبلوا إلينا حتى أكتب لكم كتابًا أمانًا على دمائكم وأموالكم وأعقد لكم عقدًا تؤدُّون إليَّ الجزية عن يد وأنتم صاغرون, وهذه منتهى الشدة في الكلام, ثم وإلا فوالله الذي لا إله الا هو لأرمينَّكم بالخيل بعد الخيل، وبالرجال بعد الرجال، ثم لأقلعنكم حتى أقتل المقاتلة، وأسبي الذرية، وتكونون كأمة كانت ثم لم تكن", أي أصبحت غير موجودة. سبحان الله العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، فعمرو بن العاص في منتهى العزة، وفي منتهى القوة، وفي منتهى رباطة الجأش.

    تابعونا أحبكم اللة ..................
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: فتوحات الشام

    مُساهمة من طرف صادق النور الأحد أكتوبر 30, 2011 11:42 am

    فتوحات الشام 1730_image002

    مباحاثات ما قبل اليرموك .............

    انتقل المسلمون من الجابية إلى أذرعات، وانتقل جيش الروم فورًا من الجابية إلى منطقة تسمى دير أيوب على الضفة الأخرى من نهر اليرموك، فأصبح يفصل بين الجيشين نهر اليرموك أو فرع من فروعه يسمى: نهر الحرير، ومكث الجيشان في هذا المكان في انتظار القتال، وبدأ كل جيش يُعِدُّ العُدَّة للقاء الجيش الآخر.
    وقد كانت إمدادات الجيشين سهلة: فإمدادات الجيش الرومي كانت سهلة لأنها كانت تأتيه من الشمال حيث لم يَعُد المسلمون يقيمون في شمال الشام نهائيًّا، بالإضافة إلى أن البحر قريب منه؛ فكانت الإمدادات تأتيه عن طريق البحر الأبيض المتوسط أيضًا، والمسلمون -من ناحية أخرى- كانت إمداداتهم سهلة؛ لأن كل الأردن وفلسطين في أيديهم، وهذه المنطقة كانت ذات خيرات كثيرة، والطريق إلى الجيش آمنة؛ فلم تكن هناك مشكلة من المطاولة والانتظار، وحينما وجد الجيش الرومي الوضع على هذه الحال، حاول أن يقصر الفترة بإجبار الجيش الإسلامي على القتال؛ فدفع بفرقة من الفرسان خلف الجيش الإسلامي لقطع الإمدادات، ولكن كانت عيون الجيش الإسلامي منتبهة ومتيقظة؛ فقام سيدنا خالد بن الوليد بنفسه على رأس ألفين من الفرسان، وقاتل هؤلاء الفرسان الروم مقاتلة شديدة، وقتل منهم الكثير؛ ففروا مرةً أخرى إلى دير أيوب وبقي المسلمون في أذرعات.
    باهان يعرض الصلح والمسلمون يرفضون:
    لما رأى باهان رئيس الروم هذا الوضع بدأ يفكر في صلح جديد (الروم عددهم مائتا ألف أو يزيد، وعدد المسلمين حتى الآن 33 ألفًا فقط، ومع ذلك فالروم يُلقِي اللهُ في قلوبهم الرعب، ويريدون أن يصالحوا المسلمين، ويعقدوا معاهدة معهم حتى بعد أن اصطفَّ الجيشان للقتال)، فأرسل باهان إلى سيدنا خالد بن الوليد يعرض عليه عرضًا جديدًا (لقد كان آخر عرض عرضوه للصلح أيام موقعة بيسان، وقد عرضوا على سيدنا معاذ بن جبل وقتها أن يعطوا الأمير ألف دينار، ويعطوا الرئيس الأعلى منه ألفي دينار، وكل جندي دينارًا، ولو حسبنا المبلغ سنجده سبعين ألف دينارٍ أو يزيد، وهذا مبلغ ضخم في ذلك الوقت، وكان الروم على استعداد لدفع هذا المبلغ للمسلمين) أما هذه المرة فعندما أصرَّ المسلمون على القتال أرسل باهان خطابًا إلى سيدنا خالد بن الوليد الأمير الجديد على الجيش يقول فيه: "قد علمنا أن الذي أخرجكم من دياركم غلاء السعر وضيق الأمر بكم، وإني قد رأيت أن أعطي كل رجل منكم عشرة دنانير, ضاعف المبلغ بنسبة500% من دينارين لعشرة مرة واحدة، عشرة دنانير في 33 ألفًا, أي: 330 ألف دينار وهذا مبلغ ضخم جدًّا في ذلك الوقت، ليس هذا فقط، بل بالإضافة إلى ذلك (وراحلة تحمل حملها من الطعام والكسوة والأدم لكل جنديٍّ) أي أنه سيعطي كل جنديٍّ جملاً، أو أي دابة عليها طعام وكسوة وجلود فترجعون بها إلى بلدكم، وتُعيِّشون بها أهاليكم سنتكم هذه (وكأن ما أخرج المسلمين-في ظنه- أنهم لا يجدون الطعام فخرجوا يبحثون عنه في الشام) فإن كان قابل (العام القادم) أرسلتم إليَّ؛ فأرسل لكم مثلها", إنه تنازل كبير جدًّا، ولو كان المسلمون يريدون الدنيا فقد أتتهم فهذه العروض بالنسبة للعرب مبالغ ضخمة، ولكن سيدنا خالد بن الوليد لم يردَّ إلا ردًّا قصيرًا جدًّا؛ فقد قال لهم: "الإسلام أو الجزية أو القتال", وهي العروض الثلاثة التي يعرضها المسلمون في كل موقعة من المواقع، ولكن الروم لا يفهمون هذا العرض فأخذوا يكررون عروضهم كل مرة، والمسلمون يرفضون؛ فعرف أن القتال واقع لا محالة.
    الروم يخشون القتال ويعرضون الصلح:
    فعاد الروم إلى جيشهم، وأخذوا يتلاومون على الهرب من المسلمين رغم قلة أعدادهم؛ فقال باهان: والله إني عندي الرأي؛ فقالوا له: قل؛ فقال: أرى أن هؤلاء القوم وقد طعموا من طعامكم ولبسوا من لباسكم ورأوا عيشتكم؛ الموت عندهم أحب من ترك هذه الأشياء (لم يفهم بعدُ أن المسلمين إنما خرجوا لنشر دعوة الإسلام، ولقتال من ناوأها وعاداها، ولم يخرجوا لمغنم)، وقد رأيت أن نسألهم أن يبعثوا إلينا رجلاً فنتفاوض معه ونُطمعهم في شيء يرجعون به إلى أهلهم فلعلنا ندفع خطر الوقعة، ونقي أنفسنا القتال؛ فقالوا له: نِعْمَ الرأي ما رأيت؛ فأرسل الروم رجلاً يطلب أحد المسلمين للمفاوضات؛ فأرسل المسلمون خالد بن الوليد نفسه ليفاوض باهان، وقبل أن يذهب خالد بن الوليد أخبرهم أنه هو القادم للقائهم، وأخذ خيمته معه (وكانت خيمة حمراء ذات شكل مميز) وأمر مجموعة من الحرس أن يذهبوا وينصبوا هذه الخيمة في معسكر الروم ويقولوا لهم: إن خالدًا سينتظر في هذه الخيمة؛ فذهب العسكر المسلمون وأقاموا الخيمة داخل المعسكر الرومي، هذا الأمر وإن كان ظاهره بسيطًا إلا أنه معناه أن الأرض أرض المسلمين نتصرف فيها كيف نشاء، ونضع خيامنا حيث نشاء، لكي لا ننتظر ملككم، ولا نكون رهنًا لمشيئته، وانتقل خالد بن الوليد ومعه الحارث بن عبد الله فقط وسط كل الجيش الضخم: مائتي الألف جنديٍّ فيهم أعظم قواد الروم؛ فلما ذهبا جلس خالد في خيمته، ومكث فيها ساعة حتى جاءه بعض الجنود من جيش الروم يقولون له: إن الأمير مستعد للقائك فخرج خالد بن الوليد من خيمته فوجدهم قد أعدوا له طريقًا يمشى به: على ميمنة الطريق عشرة صفوف من الفرسان، وعلى الميسرة عشرة صفوف أخرى شاهرين السيوف لا يُرَى من الفرسان إلا الحِدَق من كثرة الدروع، ووراء هذه الصفوف العشرة ما لا يحُصى من الخيل، يحاولون إلقاء الرهبة والرعب في قلب هذا الذي جاء يحادثهم، وهيهات فهم عنده أهون من الذباب، وبالفعل مشى سيدنا خالد بن الوليد في هذا الطريق حتى أقبل على باهان.
    مفاوضات خالد وباهان:
    كان باهان قائد الروم يُكِنُّ في نفسه إعجابًا عميقًا بخالد بن الوليد، ولا يخفي هذا الإعجاب عن جيشه، بل لا يخفيه عن خالد نفسه، فهو يقدِّر هذه العبقرية التي فعلت الأفاعيل في أرض الفرس ثم عادت وفعلتها في أرض الروم، وفي نفس الوقت كان باهان يريد أن يؤثر على سيدنا خالد بن الوليد ويضمه إلى صفه ويُلِين قناته ليترك أمر الجهاد والحرب، ويخدم به أهدافه؛ لذا حاول بقدر الإمكان أن يُكرمه ويتخذه صديقًا؛ فقام له، ورحب به ترحيبًا شديدًا، وقال له: اجلس معي هنا إني علمت أنك من أحساب العرب ومن شجعانهم، ونحن نحب ذا الحسب الشجاع، ولكن سيدنا خالد بن الوليد لم تنطلِ عليه تلك المحاولات، فقد كان فاهمًا لمقصود باهان ولكنه جلس يستمع منه؛ فقال باهان لخالد: قد ذُكِرَ لي أن لك عقلاً ووفاءً، والعاقل ينفعك كلامه، وذو الوفاء يصدق قولُه ويُوثق بعهده؛ فقال خالد بن الوليد: إن كنتُ أوتيتُ العقل, فالله تعالى المحمود على ذلك, والوفاء لا يكون إلا بالعقل, فمن لم يكن له عقل فليس له وفاء, ومن لا وفاء له لا عقل له؛ فقال باهان: أنت أعقل من في الأرض (يحاول تملقه ليكسبه في صفه) وما يتكلم بكلامك ولا يبصره ولا يفطن إليه إلا الفائق من الرجال، ثم أراد باهان أن يستوثق من أن خالدًا بيده مقاليد الأمور في الجيش وأنه إذا اتفق معه على أمر فسيخضع له بقية القادة والجنود؛ فقال له: أتحتاج إلى مشورة هذا الذي معك (يقصد الحارث بن عبد الله؟) فقال خالد بن الوليد بتعجب: إن في عسكرنا هذا أكثر من ألفي رجل لا أستغني عن مشورتهم فكيف بهذا الذي معي؟!!
    فارتبك باهان وعلم أنه يتعامل مع عقليات كثيرة وليس مع عقلية نادرة في قومها كما كان يظن؛ فقال لخالد بن الوليد: ما كنا نظن أن عندكم ذلك؛ فقال له سيدنا خالد بن الوليد: ما كل ما تظنون وما نظن يكون صوابًا؛ فقال باهان: صدقت, فقال باهان: أول ما أدعوك إليه، وأكلمك به أن أدعوك إلى خُلَّتي (صداقتي)، وطبعًا هذا عرض يتمناه أهل الأرض جميعًا في ذلك الوقت, فباهان هذا قائد أعظم دولة في العالم، ويقول لواحد من العرب -الذين هم في ظن الرومان رعاة أغنام: أريد أن أكون صديقك من وسط الناس، فقال له سيدنا خالد بن الوليد: كيف ذلك وقد جمعتني وإياك بلدة لا أريد أنا ولا تريد أنت نفترق عنها إلا أخذناها؟!! فقال باهان: فلعل الله أن يصلح بيننا دون قتال أو دون أن يراق دم, فقال خالد بن الوليد: إن شاء الله فعل ذلك. فقال باهان: إني أريد أن ألقي الحشمة بيني وبينك (سأفعل شيئًا يزيل الحرج والتكليف) فإني قد أعجبتني قبتك (الخيمة الحمراء) ووالله إني ما رأيت أحسن منها, فإن شئت أن تهبها لي وتأخذ ما شئت من أموالنا ومن حاجاتنا فعلت.
    وطبعًا هذه رشوة مقنعة؛ فالخيمة لا تساوي شيئًا أمام ما يجلسون هم عليه من السُّرُر والبُسُط والحرائر، وهو منتظر أن يطلب منه خالد بن الوليد مبلغًا طائلاً ولن يرفض فهو يريد أن يرشيه رشوة في صورة مهذبة؛ فقال سيدنا خالد بن الوليد: هي لك. خذها ولا أريد شيئًا من متاعك، وأعطاها له؛ فأخذها باهان، ولم يحزن لفشل مسعاه بل ظل يحاول أن ينجح مع سيدنا خالد؛ فقال له: إن شئت بدأناك بالكلام وإن شئت أنت فتكلم؛ فيرد خالد بن الوليد ردًّا في منتهى الحكمة ومنتهى العقل, ويطعن هذا الرومي طعنًا شديدًا في قلبه: فيقول له: ما أبالي أي ذلك كان، ولكني أعلم أنك تعرف ما ندعو إليه وقد جاءك بذلك أصحابك من أجنادين ومن بيسان ومن فِحْل ومن دمشق ومن حمص ومن بعلبك وجاءك ذلك من كل مدائنكم وحصونكم (وذكره بكل هزائم الرومان أمام المسلمين) فلا فائدة أن أبدأ الكلام؛ فاصفرَّ وجهُ باهان وشعر أنه يتحدث مع رجل متمكن، فبدأ باهان يتحدث؛ فقال في بداية الكلام: الحمد لله الذي جعل نبينا أفضل الأنبياء، وملكنا أفضل الملوك وأمتنا خير الأمم,لم يعجب هذا الكلام سيدنا خالدًا فقاطعه وقال: الحمد لله الذي جعلنا نؤمن بنبينا ونبيكم وجميع الأنبياء وجعل الأمير الذي ولَّيْناه أمورنا كرجل منا, فلو زعم أنه ملك علينا لعزلناه عنَّا, ولسنا نرى أن له على رجل من المسلمين فضلاً إلا أن يكون أتقى منه عند الله وأبرَّ، والحمد لله الذي جعل أمتنا أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتُقِرُّ بالذنب وتستغفر الله وتعبد الله وحده ولا تشرك به شيئًا (يلمح له سيدنا خالد بما حدث في معسكرهم من انتهاك للحرمات وقتل للنفس ظلمًا وعدوانًا، وقد عَلِمَه سيدنا خالد من عيونه في جيش الروم)؛ قل الآن ما بدا لك؛ فسكت باهان برهة وكأنه نسِي ما يريد أن يقول، ثم بدأ يتكلم من جديد ليمجد أمته؛ فبدأ بحمد الله ولكن بطريقة أخرى؛ فقال: الحمد لله الذي أبلانا فأحسن البلاء عندنا، وأغنانا من الفقر، ونصرنا على الأمم، وأعزنا فلا نذل، ومنعنا من الضيم ولسنا فيما أعزنا الله به وأعطانا من ديننا ببطرين ولا باغين على الناس. (طبعا هذا كله كذب فكيف يكون الروم غير بطرين بما أنعم الله عليهم ولا باغين على الناس وقد فعلت جيوشهم الفواحش في كل الأمم حتى في أمتهم نفسها)، ثم يقول في الجزئية الثانية التي تخص المسلمين.
    خالد والتقسيم المبتكر للجيش:
    كان هذا الموقف في 25 من جُمَادى الآخرة سنة 15هـ، والجيش الإسلامي الآن مواجه للجيش الرومي، والمسافة بينهما إلى حد ما بعيدة بعرض هذه المنطقة التي يحاربون فيها، وهي على الأقل عشرة كيلومترات، أما طولها فيزيد عن 15 كيلو مترًا، فالمسافة بينهما -إذن- إلى حد ما بعيدة، والجيوش في حرية حركة إلى حد ما أيضًا.
    وعندما أراد سيدنا خالد بن الوليد أن يضع خطة المعركة وترتيب الجيوش استحدث في هذا اليوم استحداثًا جديدًا على المعارك الإسلامية، وعلى المعارك بصفة عامة في هذا الوقت، فكان من المعروف أن الجيوش تقاتل على شكل ميمنة وقلب وميسرة، وكان هذا ما خطط له سيدنا خالد بن الوليد في البداية، لكن كان المعتاد أن الميمنة عبارة عن جيش من الجيوش، والميسرة جيش والقلب جيش، جيش سيدنا يزيد في منطقة، وجيش سيدنا شرحبيل في منطقة، وجيش سيدنا عمرو في منطقة، ولكن سيدنا خالد بن الوليد رأى أن مساحة الأرض واسعة، وأعداد الروم كبيرة، وهو يريد أن يعطي الجيش مرونة في الحركة، لكي لا يبقى مقيدًا في مكان واحد وعليه قائد واحد فتصعب الأوامر من هذا القائد على هذا الجيش الضخم من المسلمين 33 ألف جنديٍّ، وليس هناك في هذا الزمن وسائل اتصال تمكِّن القادة من تبليغ الأوامر للجنود بسهولة ويسر؛ فيجمع سيدنا خالد الجنود جميعًا، ويقول لهم: إن هذا اليوم لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي (يعني القتال من أجل القبلية والعصبية)؛ ولذلك فإني سأفرقكم حيث يريد الله ويريد رسوله (يعني ما فيه الخير)..
    وقد كان معتادًا أن تمثل كل مجموعه قبيلة، أو تتشكل فرقة كاملة من قبيلة واحدة فتقاتل حتى لا يقال: إن الجيش أُتِي من قِبَلِ قبيلة كذا أو كذا، فيقول: إن هذا قد يرجع مرجع الفخر، لكننا لا نريد ذلك هذه المرة، وسنفرق الناس، ولن يعتمد التشكيل الحربي على القبلية، وبدأ بالفعل يقسم الجيش الإسلامي إلى 38 جزءًا (هناك روايات تقول 36، وروايات أخرى تقول 40، والأغلب أنها 38 جزءًا)، وسمَّى كل جزء: كردوسًا، والكردوس هو القطعة العظيمة من الجيش فقسم الجيش إلى 38 جزءًا تقريبا، الجزء يعني 800 أو 900 أو 1000 حسب الجيش، وجعل على رأس كل وحدة منها واحدًا فتصبح الصورة النهائية للجيش كالآتى:
    خالد بن الوليد t القائد العام للجيوش، والجيش مُقَسَّم إلى أربعة أرباع: وهناك إدارة عليا هم سيدنا عمرو بن العاص وسيدنا شرحبيل بن حسنة وسيدنا أبو عبيدة وسيدنا يزيد بن أبي سفيان، هؤلاء يعتبرون إدارة عليا يتسلمون الأوامر من سيدنا خالد بن الوليد، ويبلغونها للجيش ويتناقشون سويًّا في الخطة، فهم ليسوا مشتركين فعليًّا في القتال، وإنما يرتبون الخطة، وينقلون الأوامر، وهم بهذا الترتيب سيدنا عمرو في اليمين وسيدنا شرحبيل بن حسنة وسيدنا أبو عبيدة في القلب وسيدنا يزيد في الميسرة، ثم جعل قائد جنود الميمنة سيدنا معاذ بن جبل وتحته عشرة كراديس.
    أبطال في صفوف المسلمين:
    ومن الأسماء المشهورة تحت قيادة سيدنا معاذ بن جبل: الصمت بن الأسود وذو القلاع الحميري وقد مرَّ ذكرهما قبل ذلك: فالصمت بن الأسود هو الذي لاحَقَ الجيوش الرومية في اتجاه حمص بعد فتح دمشق، وذو القلاع الحِمْيرَِي هو أول مسلم من اليمن تطوع لدخول الحرب في الشام، أما سيدنا هاشم بن عتبة بن أبي وقاص فهو قائد القلب وتحته 18 كردوسًا على كل كردوس قائد مستقل تمامًا بهذا الكردوس، لا يتلقى أوامره إلا من سيدنا هاشم مباشرة، وبعد ذلك من سيدنا خالد بن الوليد، وكان من ضمن الأسماء تحت قيادته: القعقاع بن عمرو التميمي ومذعور بن عدي، وعياض بن غنم كان هؤلاء الثلاثة مع سيدنا خالد بن الوليد في العراق، وجاءوا معه عندما جاء من العراق إلى أرض الشام، وكان من القواد أيضا: عكرمة بن أبى جهل، وسهيل بن عمرو الذي حادث الرسول في صلح الحديبية وكان في صفوف المشركين وقتها، ها هو الآن في صفوف المسلمين يقاتل لإعلاء كلمة الله، عبد الرحمن بن خالد بن الوليد على رأس كردوس من الكراديس وكان يبلغ 18 سنة، وصفوان بن أمية وكان من أشد المشركين -قبل إسلامه- عنادًا وسطوة على المسلمين، ومع ذلك مَنَّ الله سبحانه وتعالى عليه بالإسلام وها هو الآن يقف على رأس كردوس من الكراديس، سعيد بن خالد بن سعيد وكان أبوه من أوائل الناس الذين تطوعوا للخروج إلى الشام، وأصبح ابنه الآن قائد كردوس من الكراديس، الميسرة عليها قباث بن أشيم وتحته عشرة كراديس أخرى، ومن الأسماء التي تحت قيادة قباث اسم كبير جدًّا هو الزبير بن العوام، الزبير بن العوام على رأس كردوس من الكراديس، وضرار بن الأزور وعصمة بن عبد الله ممن كانوا في جيش سيدنا خالد بن الوليد في العراق، وعتبة بن ربيعة من أهل بدر، وبعدما قسم الجيش 38 كردوسًا وجعل القيادة بهذه الصورة أعطى قدرًا كبيرًا من الصلاحية لكل كردوس؛ فأصبح عنده شيء من المرونة في إطار الخطة العامة التي سينفذها سيدنا خالد بن الوليد، ثم جعل القاضي فيما يحدث بين الناس من خلافات في هذه المعركة أو في هذه الأيام أبو الدرداء t، والقاص (وهو الذي يحمس الناس للقتال) هو أبو سفيان بن حرب، وسبحان الله فالإسلام يعز أهله ويذل الكفار، هذا أبو سفيان بعد الإسلام. انظروا إلى موقف أبي سفيان -قبل إسلامه- مع هرقل وهو يحاول أن يطعن في رسول الله ولا يستطيع، وهرقل يستجوبه بعدما ألقى جنوده القبض عليه، وأتوا به إليه وهو يحاول أن يستعطفه في الكلمات، وكما رأينا ذلته في حواره مع هرقل, ها هو الآن بعد أن أسلم يتولى تحميس الجيوش الإسلامية لقتال الجيش الرومي الذي كانت العرب تعظمه تعظيمًا لا حدَّ له، الآن هو الذي يحمس الناس للقيام بالجهاد، وتقسيم الغنائم بعد أن تأتى الغنائم إن شاء الله رب العالمين وهذا من التفاؤل الشديد للمسلمين فالموضوع بسيط جدًّا: إن شاء الله سيكون هناك نصر وستوجد غنائم. فمن سيقسمها؟ وإن لم يأتِ النصر فستكون هناك شهادة ويصير المسلمون إلى الجنة، إذن في حالة وجود نصر وغنيمة من سيقسمها؟ سيدنا عبد الله بن مسعود t وأرضاه، إنها أسماء ضخمة جدًّا عظيمة جدًّا في أرض اليرموك، فالقارئ الذي سيقرأ سورة الجهاد على المسلمين هو سيدنا المقداد بن عمرو الذي كان عمر بن الخطاب يقول عنه: رجل بألف رجل، والزبير بن العوام أيضا قال عنه عمر بن الخطاب: رجل بألف رجل؛ فالمقداد بن عمرو كان يمر على الكراديس: واحد تلو الآخر، ويقرأ عليهم سورة الجهاد التي هي سورة الأنفال وهذا ما كان يحدث في أرض القادسية (وسنجري مقارنة بين موقعة القادسية وموقعة اليرموك بعد الانتهاء منها بإذن الله وسنرى حجم التشابه مع أن المسافة بعيدة بين الفريقين، لكن الإيمانيات في الجيشين واحدة؛ فنتج هذا التشابه) جيش المسلمين كان قوامه 33 ألفًا في أصحِّ الروايات منهم ألف صحابي من بينهم مائة بدري، وكل من شهد بدرًا كانوا 313 أو 314 منهم مائة شهدوا اليرموك وسبعون كانوا موجودين في القادسية في نفس الوقت، وطبعًا هناك كثير من أهل بدر استشهدوا في موقعة اليمامة التي كانت مع مرتدِّي بني حنيفة.
    بعد أن رتَّب خالد بن الوليد هذه الجيوش مرَّ بنفسه على كل الكراديس يقول لهم: "يا أهل الإسلام إن الصبر عِزٌّ، وإن الفشل عبس، وإن مع الصبر تنصرون فإن الصابرين هم الأعلون، وإن المُحِقَّ لا يفشل, يعلم أن الله معه يذب عنه ويقاتل، وإنه إن قدم على الله أكرم منزلته وشكر سعيه إنه شاكر يحب الشاكرين".
    يمر سيدنا خالد بن الوليد على كل كردوس يقول لهم هذه المقالة؛ ليحمس الناس ويشجعهم على القتال فازدادت حمية الجيش، وبدأت النفوس تتشوف إلى الجنة وإلى الجهاد في سبيل الله وأصبح الجنود مستعدين للقتال الآن.
    المبارزة مفتاح النصر:
    من المتعارف عليه في ذلك الوقت من الزمان أن تبدأ المعارك بالمبارزة بين بعض أفراد الجيشين المتحاربين، ثم يبدأ القتال، وهنا اختار سيدنا خالد أربع مجموعات من الفرسان للمبارزة.
    إن الله لا يصلح عمل المفسدين:
    في هذا الوقت تحدث قصة في المعسكر الرومي -سنرويها لإظهار الفرق بين سيرة أمراء المسلمين مع الرعية والناس، وسيرة أمراء الروم مع رعيتهم- حيث عاث الجيش الرومي وهو قادم من أنطاكية حتى وصل نهر اليرموك فسادًا في أرض قومهم، فوقعوا على النساء ونهبوا الأموال وأخذوا الديار وسرقوا الماشية وذبحوها وأكلوها بغير حقها، كل هذا يفعلونه في قومهم، وفي أهل دينهم (وقد حدث مثل هذا تمامًا من الجيش الفارسي الذي جاء من المدائن إلى القادسية ليقاتل المسلمين؛ فعاثوا في قومهم الفُرس فسادًا وإجرامًا)، فالموقف يتكرر في كل عصر وكل مكان، فأي جيش من جيوش الطواغيت لا يدين بالإسلام ولا يلتزم به عندما يتملك السلطة لا يقف أمامه شيء؛ فما دامت لديه السلطة وهو مجرد من الإيمان فهو يفعل ما يشاء في العباد حتى لو كان هؤلاء العباد هم عامة الشعب التي يُفترَض أنه يحميها، فلما فعلوا ذلك جاء الناس، واشتكوا وضجُّوا بالشكوى إلى باهان، وباهان قائد الجيش كان معروفًا بالشرف والنُّبل والعظمة، وبكونه رجلاً كريمًا لا يقبل هذه الأمور بتاتًا، كما كان يشتهر بذلك رستم قائد الفرس، ونذكر أنه لما حدث ذلك في الطريق إلى القادسية قام رستم وخطب خطبة عظيمة عن أن هذا لا يجوز في حق المجاهدين والمقاتلين، مع أن الفُرْسَ يعبدون النار، فيقوم باهان أيضا ويخطب خطبة في الناس؛ فيقول: "يا معشر أهل هذا الدين إن حجة الله عليكم عظيمة، إنه قد بعث إليكم رسولاً، وأنزل إليكم كتابًا، وكان رسولكم لا يريد الدنيا وزهَّدَكم فيها، وأمركم ألا ترغبوا فيها، وألا تظلموا أحدًا، فإن الله لا يحب الظالمين، فأنتم الآن تظلمون فما عذركم غدًا عند الله وقد تركتم أمر نبيكم، وما آتاكم من كتاب ربكم؟ وهذا عدوكم قد نزل بكم يقتل مقاتلتكم، ويسبي ذراريكم، وأنتم تعملون بالمعاصي فلا تنزعون عنها خشية العقاب فإن نزع الله سلطانكم من أيديكم، وأظهر عليكم عدوكم فمن الظالم إلا أنتم؟ فاتقوا الله وانصرفوا عن ظلم الناس. طبعًا خطبة عظيمة ورجل جليل؛ فقال له واحد: ما دمت تقول هذا الكلام فإن لديَّ مظلمة؛ فانصرني فيها؛ فقال له: قل لي حاجتك، فقال: كانت لي غنم، وكانت ترعى هذه الغنم زوجتي وابني، فجاء جيش الروم وعليه عظيم من عظماء الروم (يعنى فرقة من فرق الروم، وعليها واحد من العظماء) فجاء هذا العظيم وأخذ حاجته من هذه الأغنام ثم أخذ الباقي ووزعه على أصحابه؛ فذهبت زوجة الرجل إلى هذا العظيم وقالت له: خذ حاجتك من الأغنام التي استوليت عليها ورُدَّ عليَّ ما أعطيت لأصحابك (فيصبح نصف الظلم بدلاً من الظلم كله) ورَضِيَتْ بذلك، فأَمر بها أن تُدخَل خيمته؛ فدخلت خيمته ودخل معها، وطال مكثهما؛ فاقترب ابنها من الخيمة؛ فوجد الرجل يراودها عن نفسها وهي تبكي؛ فصرخ الغلام, فأُمِر به (الغلام) فَقُتِل؛ فخُبرِّ بذلك أبو الغلام؛ فذهب إلى العظيم وقال له: قد سمعت أنك فعلت ذلك بزوجتي وقتلت ابني؛ فقام إليه أشراف من أصحاب هذا العظيم يريدون قتله؛ فقال الرجل: فاتقيتهم بيدي؛ فقطعوها بالسيف، وها هي مظلمتي أشكوها لك؛ فقال له باهان: هل تعرف هذا الرجل؟ فقال: نعم؛ وأشار إلى واحد من عظماء القوم الجالسين في حضرة باهان؛ فقال باهان للرجل العظيم: ما دعاك إلى أن تفعل ذلك؟ فقال: إنما هو عبدي، وهي أمتي, أتريد أن لا أقضي لذتي من أَمَتي، وأن تقتلني بعبدي؛ ثم قام مجموعة من الأشراف بعد أن قال هذه الكلمة وانطلقوا إلى الرجل الذي جاء بالمظلمة؛ وقتلوه أمام باهان نفسه وفي حضرته؛ فقام باهان بعد هذا الأمر، وخطب خطبة ثانية؛ فقال: أما أنتم فقد أتيتم أمرًا عظيمًا، وعصيتم ربكم، وأغضبتموه عليكم، وإذا غضب على قوم فهو ينتقم منهم، والعجب كل العجب كيف لا تُهَدُّ الجبالُ ولا تتفجر البحار ولا تزول الأرض ولا ترعد السماء لهذه الخطيئة التي عملتموها وأنا أنظر إلى أعمالكم العظام (أي تقومون بها أمام سمعي وبصري) إن كنتم تؤمنون بأن لهؤلاء المستضعفين المظلومين إلهًا ينتصر لهم، وينصف المظلوم على الظالم؛ فأَيْقِنوا بالقصاص ومن الآن يُعجَّل لكم بالهلاك، وإن كنتم لا تؤمنون بذلك فأنتم والله عندي شر من الكلاب وشر من الحمير، ولعمري إنكم لتعملون أعمال قومٍ لا يؤمنون، وأما أنا فأشهد أني بريء من أعمالكم، وسوف ترون عاقبة الظلم، ولأي مصير تصيرون، ثم نزل وكفَّ عنهم, ولم يعاقبهم).
    قد يظن البعض من هذه الخطب الرنانة التي يقوم بها القادة الرومان -وهم مشهورون بهذه الخطب ومولعون بها- أن أعمالهم على قدر ما تتضمنه هذه الخطب من عظائم الأعمال، لكن -في الحقيقة-كل هذه الخطب نظرية وليس فيها ما يُطَبَّق في أرض الواقع، فهذا الرجل الشريف الذي خطب كل هذه الخطب، وقال كل هذه المواعظ، ويبدو عليه التمسك بالدين لم يفعل شيئًا لهذا العظيم ولم يقتصَّ منه، رغم أنه يملك القوة فهذا الرجل (باهان) أمير كل الجيوش، وأعظم قائد في الدولة الرومية، وقد حدث هذا في حضرته، وحدث مثل ذلك الكثير في حضرة هرقل ذاته ولم يفعل شيئًا.
    خالد يختار القادة:
    إذن بعد هذه الحادثة بات (باهان) مقتنعًا بأن جيشه يستحق الهزيمة، ولكنه ليست له سيطرة عليه، وعظماء الروم يعيثون في الأرض فسادًا، والله سبحانه وتعالى لا ينصر أمثال هؤلاء بمعصيتهم، بل يُلقِي في قلوبهم الرعب، فجيش الرومان جيش مهزوز، جيش قابل للهروب في أية لحظة، بينما جيش المسلمين جيش ثابت ومؤيَّد بالإيمان وهذا الجيش كله يرغب في الموت أكثر منه رغبة في الحياة كما يقول سيدنا خالد بن الوليد، في هذا الوضع يبدأ سيدنا خالد بن الوليد في ترتيب الجيش بحيث يكون جاهزًا للقتال في أية لحظة؛ لأنه علم أن القتال قد يأتي في أية لحظة بعد توقف المفاوضات برد سيدنا خالد على باهان؛ فقام سيدنا خالد بن الوليد، وذهب إلى خيمة سيدنا أبي عبيدة بن الجراح يحدثه -رغم أنه قائد الجيوش كلها- ويقول له في منتهى الأدب ومنتهى اللطف: يا أبا عبيدة من كنت تجعل على ميمنتك؟ فقال: معاذ بن جبل (وكان سيدنا خالد بن الوليد يعلم هذا الأمر، ولكنه يريد أن يشرك أبا عبيدة في الأمر، ولا يشعره أنه انفرد بالإمارة وأصبح أمير الجيش، وأنه أهمل رأيه رغم أنه الأمير العام للجيوش الإسلامية كلها)؛ فيقول سيدنا خالد بن الوليد: أهل ذلك فوَلِّهِ؛ فجعل سيدنا معاذ بن جبل على الميمنة، ثم قال له: من كنت تجعل على الميسرة؟ قال: غير واحد (كل مرة شخصًا مختلفًا)؛ فقال سيدنا خالد: فولهِّا قباث بن أَشْيَم؛ فيقول أبو عبيدة: قد فعلت؛ فيقول خالد: وأنا على الخيل، وَوَلِّ مَن شئت على الرَّجَّالة (المشاة)؛ فقال أبو عبيدة: أُوَلِّيها إن شاء الله من لا يخُاف نكُوله ولا صدوره عند البأس (لا يهرب من المعركة أبدًا) سيدنا هاشم بن عتبة بن أبى وقَّاص (ابن أخي سيدنا سعد بن أبي وقاص الذي سميناه: المنقذ، عندما جاء مددًا لجيش الشام، وبعد ذلك سيذهب مددًا لجيش القادسية عندما سيحتاج المسلمون هناك إلى المدد)؛ فيولِّيها بالفعل سيدنا هاشم بن عتبة ابن أبي وقاص؛ فيقول سيدنا خالد لسيدنا أبي عبيدة بن الجراح: وُفِّقتَ ورَشدت، ثم يقول سيدنا خالد بن الوليد: أرسل إلى كل راية فَمُرْهم أن يطيعوني (لكي يعرف المسلمون أنه الأمير؛ فلا تتأخر الاستجابة لأوامره في أرض المعركة)؛ فيفعل سيدنا أبو عبيدة بن الجراح ويرسل سيدنا الضحاك بن قيس يمر على كل فرقة وكل كتيبة فيقول لهم: إن أميركم (أبا عبيدة بن الجراح) يأمركم أن تطيعوا خالد بن الوليد فكلما ذهب إلى فرقة قالوا له: سمعنا وأطعنا. سمعنا وأطعنا، ولا يهم الجنود هُوِيَّة القائد، ما دامت القيادة قد اتفقت على أنه قائد معين فكل الجنود يعملون تحت إمرة هذا القائد دون النظر إلى كونهم يحبون هذا القائد أكثر من غيره، فليس هناك جيوب ولا ولاءات داخلية داخل الجيش، فكل الجيش قال: سمعنا وأطعنا؛ فلما مرَّ الضحاك بن قيس بمعاذ بن جبل حدث بينهما حوار لطيف نذكره لدلالاته وعبره.
    الأُخُوَّة في الله :
    يقول الضحاك بن قيس: لما مررت بمعاذ بن جبل وقلت له: إن أميركم أبا عبيدة بن الجراح يأمركم أن تطيعوا خالد بن الوليد قال معاذ بن جبل: سمعنا وأطعنا ثم التفت إلى الكتيبة التي وراءه وقال لهم: إنكم إن أطعتموه (لو أطعتم خالد بن الوليد) لَتطيعون مبارك الأمر ميمون النقيبة عظيم الغَناء حسن الحسبة والنية.
    هذا رأى سيدنا معاذ بن جبل في سيدنا خالد بن الوليد؛ فلما سمع الضحاك بن قيس من معاذ بن جبل هذه الكلمات أعجبته فذهب إلى سيدنا خالد بن الوليد وقال له: لقد قلت قولاً أمام معاذ بن جبل: أن أطيعوا خالد بن الوليد فقال هذه الكلمات، فيقول سيدنا خالد بن الوليد في تواضع: رحم الله أخي معاذًا أما والله إن أحبني فإني لأحبه في الله، لقد سبقت له ولأصحابه سوابق لا ندركها ولا نبلغها ولا ننالها فهنيئًا لهم ما خصَّهم الله بذلك (كان سيدنا معاذ من أوائل من أسلم من الناس، وأسلم سيدنا خالد بن الوليد سنة 7هـ، ونحن الآن في سنة 15هـ)، فلما سمع الضحاك بن قيس هذه الكلمات رجع لمعاذ بن جبل وقال له: لقد قال خالد بن الوليد هذا الكلام؛ فقال معاذ بن جبل: أما إني لأرجو أن يكون الله قد أعطاه -بصبره على جهاد المشركين وشدته عليهم وجهاده إياهم مع حسن نيته بإعزاز دينه- أحسن الثواب، وأن يكون من أفضلنا بذلك عملاً.
    فهو يَعُدُّ خالد بن الوليد بفضل جهاده -مع أنه أسلم متأخرًا- من أفضل المسلمين عملاً؛ فذهب الضحاك بن قيس إلى خالد بن الوليد وقال له: إن معاذ بن جبل يقول: إنك من أفضل الناس عملاً؛ فقال خالد بن الوليد: ما شيء على الله بعزيز.
    فهناك نوع من الحب الشديد بين الجيش الإسلامي يجعل المطَّلِعَ يشعر أنهم عائلة واحدة، وليسوا مجموعات متشرذمة جُمِعت بالقهر والسطوة والغلبة كجنود الجيش الرومي وجِيءَ بهم عن طريق التجنيد الإجباري على كل الناس من البالغ حتى الشيخ الفاني كما يحدث في هذه العصور، فالجيوش التي تسمى جيوشًا إسلامية كلها تُجَنَّد تجنيدًا إجباريًّا ليس فيها من يذهب للجهاد برغبته، بل يحاول الشاب أن يدفع عدة آلاف من الجنيهات ليتجنب التجنيد، أو يبحث عن الواسطة التي تجنبه التجنيد وتصرفه عن أرض الجهاد.
    ولكن يختلف المفهوم هنا اختلافًا كليًّا، وهدف الجيش مختلف، وقائد الجيش مختلف، والمبادئ التي يقوم عليها الجيش مختلفة، ونفس الشخص الذاهب إلى المعركة مختلف، فهذه المواقف لا يمكن قياسها على حالة الجيش الإسلامي في اليرموك.
    إذن كان الحب منتشرًا بين أفراد الجيش الإسلامي، وهناك ترابط وأُخوَّة وثيقة نغبطهم عليها، كما نرى موقف الضحاك بن قيس الذي ما إن سمع كلمة طيبة من مسلم في حق أخٍ له إلا وأسرع بنقلها لذلك الأخ؛ لينشر المحبة بين المسلمين، وهذا من أصولنا الإسلامية أن ننقل الكلام الذي يزرع وينمي المحبة بين المسلمين. فهذا واقع الجيش الإسلامي مقارنة بالجيش الرومي.
    هرقل يحاول منع جيشه من الهروب:
    على الناحية الأخرى يقف قادة الجيش الرومي خائفين من هروب الجنود؛ لأن الجنود غير منسجمين مع القائد، ولا منسجمين مع أنفسهم ولا يوجد بينهم حب ولا في قلوبهم ولاء لجيشهم أو قادتهم أو دينهم، فالاحتمال قائم في هروب الجيش مع أن تعداده 200 ألف والجيش الإسلامي 33 ألفًا فقط، ولا توجد مقارنة.
    ومن أجل تفادي احتمال هروب الجيش أرسل هرقل-وهو في أنطاكية- رسالة إلى باهان الموجود في دير أيوب يقول له فيها: انزلوا بالروم منزلاً واسع العطن (العطن: هو مَبْرك الإبل في المكان الذي تشرب فيه) فهو يريد وضع الجيش في منطقة واسعة جدًّا يستطيع المناورة فيها، ومع ذلك ضيقة المهرب لكي يضطر جيشه للقتال ويمنعه من الهرب وهذا أمر قد نستغربه، لكن باهان يفكر في الرسالة فيجد أن تنفيذ هذا الأمر يتطلب أن ينتقل بجيشه من منطقة دير أيوب على ساحل اليرموك غربًا إلى المنطقة المحصورة بين نهر اليرموك ونهر الرِّقاد، وهذه المنطقة في شمال نهر اليرموك عبارة عن منطقة مربعة جنوبها نهر اليرموك الذي يسير من الغرب إلى الشرق، وشرقها وادي (عِلاَّن) وهو وادٍ منخفض، وغربها والشمال الغربي منها نهر اسمه (الرِّقاد)، وبالإضافة إلى ذلك فإن هذه المنطقة المحصورة بين الأنهار هضبة عالية، والناحية الغربية منها منحدر عميق جدًّا وتسمى الواقوصة (والواقوصة هي التي توقص الرجال يعني تهلكهم) أي أن خلفية هذه المنطقه هاوية سحيقة، وليس لها مخرج غير الشمال الشرقي وهي منطقة ضيقة للغاية، فأمر باهان جيشه أن يتوجه من دير أيوب إلى هذه الهضبة الموجودة في شمال نهر اليرموك ويجعل وجهته ناحية الشمال الشرقي فيصبح على يمين الجيوش نهر اليرموك، وعلى شمالها نهر الرقاد وفي خلفها الهاوية (الواقوصة) بحيث لا يستطيع الجيش أن يهرب، ويضطر للوقوف والثبات أمام المسلمين للقتال، ليس هذا فقط, بل هناك أوامر من هرقل بتقييد كل عشرة من الجيش في سلسلة، كما فعل الفرس قبل ذلك في موقعة ذات السلاسل، وحدث مثل ذلك في موقعة القادسية.

    لا تملوا وتابعونا أعزكم اللة ..............
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: فتوحات الشام

    مُساهمة من طرف صادق النور الأحد أكتوبر 30, 2011 11:43 am

    فتوحات الشام 1731_image002

    يوم الجهاد يوم عظيم من أيام الله I، وكل أيام الجهاد أيام عظيمة وكل ساعات الجهاد ساعات عظيمة، ولكن الله I يفضل أيامًا على أيام ويفضل أمكنة على أمكنة، و هذا اليوم يوم اليرموك من أعظم الأيام في تاريخ الإسلام على الإطلاق، فإن الله I شاء في ذلك اليوم أن يغير من خريطة التاريخ، حيث من الممكن أن ينتصر المسلمون في موقعة والثانية والثالثة ولكن تأتي موقعة بعينها فتغير التاريخ وتغير معها معالم الدولة الإسلامية ومعالم الدولة الرومية أو الدولة الفارسية، وقد مرَّ المسلمون في فتح الشام بمعارك كثيرة ذكرناها بالتفصيل منها: أجنادين ومنها موقعة بيسان وفتح دمشق وفتح بعلبك وحمص ومنها معركة مَرْج الصُّفَّر الأولى والثانية والآن يصل المسلمون إلى موقعة فصل الخطاب وهي من المواقع التاريخية الكبيرة.

    والحقيقة أن مقدمات هذه الموقعة كانت ضخمة وقد يعلم البعض أن فتح الشام قد جاء عن طريق موقعة اليرموك فقط، ولكننا ما زِلْنا نتحدث في تاريخ فتح الشام منذ ثلاث سنوات من سنة 12هـ إلى 15هـ حتى أتت موقعة اليرموك فالتاريخ طويل وصعب وعسير قبل موقعة اليرموك والدماء كانت كثيرة..

    والآن يلتقي الجيش الإسلامي مع الجيش الرومي في موقعة اليرموك في أرضٍ شمال نهر اليرموك كما تحدثنا من قبل، واضطر الروم إلى قبول الحرب ورفضوا دفع الجزية وقبل المسلمون الحرب أيضًا والتقت الصفوف وهي على أهبة الاستعداد كما ذكرنا من قبل.

    وقد مرت الأيام في صف الصفوف والتجهيز للجيشين: الإسلامي والرومي حتى استغرقت من 25 جمادى الآخرة سنة 15هـ إلى 4 رجب سنة 15هـ أى تسعة أيام يصف المسلمون صفوفهم ويصف الروم صفوفهم، ثم أتى يوم 4 رجب فخرج الفريقان ووجد المسلمون أن الجيوش الرومية تتقدم ناحيتهم رغم أن هذا اليوم كان يومًا شديد المطر، ومع ذلك تقدمت الجيوش الرومية فتشاور المسلمون فى الأمر واجتمع مجلس شورى المسلمين وقرروا عدم بدء الحرب لأن الجو غير مناسب، ولم يكن الجيش الإسلامي معتادًا على هذا المطر في أرض الصحراء بالجزيرة العربية؛ فلذلك قرروا الانتظار ولكن إذا بدأهم الروم بالقتال ردوا عليهم وإذا لم يبدأوهم لم يقاتلوهم في هذا الجو الصعب وهذه حكمة من الجيش الإسلامي وحكمة من مجلس الشورى فليس الغرض إلقاء الجيش فى التهلكة ولكن الغرض السعي بقدر الإمكان إلى تحقيق النصر فإن لم يكن النصر فالشهادة.

    إسلام جورجه :
    ثم خرج من عند الروم قائد عظيم من قوادهم وهو (جورجه) وفي روايات اسمه (جرجه) وقيل: إن اسمه (جورج)، ولكن هذا الرجل العظيم المشهور في التاريخ الإسلامي خرج وطلب خالد بن الوليد، فخرج له خالد أمير الجيوش كلها؛ فلما اقتربا، وكل منهما رافع سيفه وماسك درعه، طلب جورجه الأمان من سيدنا خالد بن الوليد؛ فأمنه خالد وخفض سيفه، فخفض الآخر سيفه ولكن احتمى كل منهما بدرعه يخشى الخيانة من الآخر، واقترب جورجه وخالد بن الوليد في وسط الأرض، بين الجيش المسلم وبين الجيش الرومي ودار بينهما حوار عجيب:

    قال جورجه: يا خالد اصدقني؛ فإن الحرَّ لا يكذب، ولا تخدعني؛ فإن الكريم لا يخدع، هل أنزل الله على نبيكم سيفًا من السماء فأعطاكه فلا تسُلَّه على أحد إلا هزمته؟

    فقال خالد: لا لم ينزل الله علينا سيفًا من السماء.

    فقال جورجه: فبم سُمِّيت سيف الله؟

    فقال خالد: إن الله بعث فينا نبيه فدعانا؛ فنفرنا عنه، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه، وبعضنا باعده وقاتله وكذبه، فكنت ممن باعده وقاتله وكذبه، ثم إن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به فتابعناه؛ فقال لي رسول الله : أنت سيف من سيوف الله سلَّه على المشركين، ودعا لي بالنصر فسميت سيف الله بذلك؛ فأنا من أشد المسلمين على المشركين بدعوة رسول الله لي بالنصر، وبتسميته لي أنني سيف من سيوف الله.. (سيف الله المسلول).

    فقال جورجه: صدقتني.. ثم قال: يا خالد إلام تدعوني؟

    فقال خالد: أدعوك إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، والإقرار بما جاء من عند الله.

    فقال جورجه: فمن لم يجبكم إلى ذلك؟

    قال خالد: فعليه الجزية ونمنعه.

    فقال جورجه: فإن لم يعطِها؟

    قال خالد: نؤذنه بحرب ثم نقاتله.

    فقال جورجه: فما منزلة الذي يدخل فيكم ويجيبكم على هذا الأمر اليوم؟

    قال خالد: منزلتنا واحدة، فيما افترض الله علينا: شريفنا ووضيعنا، وأولنا وآخرنا.

    فقال جورجه: هل لمن دخل فيكم اليوم يا خالد مثل ما لكم من الأجر والذُّخْر؟

    فقال خالد: نعم وأفضل..

    فتعجب جورجه وقال: كيف يساويكم وقد سبقتموه؟

    فقال خالد: إنا دخلنا في هذا الأمر وبايعنا نبينا وهو حيّ بين أظهرنا تأتيه أخبار السماء، ويخبرنا بالكتب ويرينا الآيات، وحُقَّ لمن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع، وأنكم وأنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج فمن دخل منكم في هذا الأمر بحقيقة ونية كان أفضل منا عند الله..(وهكذا يبين الرسول في الحديث أن الذى يتمسك بدينه في هذا الزمان: زمان الصَّدِّ عن سبيل الله كالقابض على الجمر، وأجره كأجر خمسين؛ فسأله الصحابة: يا رسول الله خمسين منا أم منهم؟ (أى أجر خمسين من الصحابة أم أجر خمسين من زمانهم) فقال: "بل منكم"، فالقابض على دينه في هذا الزمان والذي يجاهد في سبيل الله ويتقي الله في هذا العصر المليء بالفتن ولا نحسب أن هناك عصرًا أشد فتنة على المسلمين منه حتى هذه اللحظة، والله أعلم بالمستقبل وبالطبع ستكون الفتنة أشدُّ، فالقابض على دينه في ذلك العصر له أجر خمسين من صحابة الرسول بنص الحديث).

    فيقول جورجه: بالله لقد صدقتني ولم تخدعني؟

    فقال خالد: بالله لقد صدقتك.. وما بي إليك ولا لأحد منكم من حاجة وإن الله لوليُّ ما سألت عنه.

    فقال جورجه: صدقتني..

    ثم قلب ترسه وقال: يا خالد علِّمني الإسلام..

    فأخذه خالد بن الوليد وأسرع به إلى خيمته وشنَّ عليه الماء من قِرْبَة (أي تخفف الرجل من لباسه بعض الشيء وصبَّ عليه الماء ليغتسل من كفره) فعلمه الصلاة.

    كل ذلك والجيشان مصطفَّان أمام بعضهما لم يحدث بينهما قتال؛ فعلمه الصلاة فصلَّى ركعتين دخل بهما الإسلام ثم انطلق بعد ذلك يقاتل يوم اليرموك بجوار خالد طوال المعركة، حتى منَّ الله عليه بالشهادة في نهاية المعركة.. فاستشهد في هذه المعركة في آخرها وكان في أولها كافرًا, فقال خالد: سبحان الله عَمِلَ قليلاً وأُجِرَ كثيرًا، هذا فضل الله يؤتيه من يشاء..

    كل الخير الذى فعله في حياته يوم واحد فقط كان يوم جهاد في سبيل الله فسَبَقَ عليه الكتاب فعمل بعمل أهل الجنة فدخلها، سبحان الله!!

    و لا نظن أن ذلك كان بسبب الكلمتين اللتين قالهما له سيدنا خالد فى البداية فقط بل كانت سيرة المسلمين في الشام محمِّسة لكثير من الناس للدخول فى الإسلام، فهذا الرجل كانت تحادثه نفسه من قبل ذلك: يدخل في الإسلام أو لا يدخل, حتى حانت له فرصة وخاطب خالد بن الوليد وثَبَتَ على الإيمان، حتى إن هناك بعض الروايات تقول: إن هذا الرجل (جورجه) هو الذي أتى المسلمين قبل موقعة اليرموك إلى سيدنا أبي عبيدة يقول له: أرسل رجلاً إلى باهان يفاوضه، فذهب خالد بن الوليد بعد ذلك.

    غلمان المسلمين يطلبون الشهادة في سبيل الله:
    ثم خرج رجل من الروم يطلب المبارزة من المسلمين، ونحن نعلم أنه توجد مجموعة من صناديد المسلمين واقفة تنتظر الأمر بالمبارزة، وأثناء وقوف هؤلاء الأبطال خرج هذا الرجل يطلب المبارزة؛ فوجد المسلمون غلامًا من الأزد لا يعرفه أحد وهو دون العشرين، يجري ناحية سيدنا أبي عبيدة بن الجراح ويقول له: يا أبا عبيدة إني أردت أن أشفي قلبي، وأجاهد عدوي وعدو الإسلام، وأبذل نفسي في سبيل الله تعالى لعلي أرزق بالشهادة فهل تأذن لي؟
    لم يكن من هؤلاء الرجال الذين نادى عليهم سيدنا خالد بن الوليد، وهو غلام دون العشرين، ولا يعرف اسمه أحد، ولكن الله I يعرفه، فقال: هل تأذن لي أن أخرج فأقاتل هذا الرجل؟

    فهزت الكلمات قلب سيدنا أبا عبيدة بن الجراح، وقال له: اخرج فخرج، وعندما همَّ بالخروج التفت إلى سيدنا أبى عبيدة بن الجراح، وقال له كلمة بكى منها أبو عبيدة بن الجراح قال له: يا أبا عبيدة هل لك إلى رسول الله من حاجة؟ (فهو ذاهب للشهادة فبكى سيدنا أبو عبيدة بن الجراح حتى اخْضَلَّت لحيته).

    فقال أبو عبيدة: أَقْرِأ رسول الله مني السلام وأخبره أنَّا وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا.

    فانطلق الغلام المجهول الذي لا يعرفه أحد ولكن الله I يعرفه، كما قال عمر من قبل عندما ذكروا له فتح فارس ومن قتل من المسلمين فقالوا: قُتِلَ فلان وفلان وفلان وأخذوا يَعُدُّون له عظماء الصحابة، ثم قالوا له: وخلق كثير لا تعلمهم، فقال: وما ضرهم ألا يعلمهم عمر يكفيهم أن الله يعلمهم..

    وخرج هذا الغلام لهذا الرجل البطل من أبطال الروم فخرج وهو يقول:

    لابد من طعن وضرب صائب *** بكل لدن وحسام قابض

    عسى أن أفوز بالمواهب *** في جنة الفـردوس والمراتـب

    (اللدن: الرمح اللين الذي لا ينكسر، أي فيمسك بالرمح ويضرب به وبالسيف)

    وانطلق وقاتل هذا الرجل الرومي حتى قتله، وأخذ فرسه وسلاحه وسلمهما إلى المسلمين وعاد من جديد وقال: هل من مبارز؟

    فخرج له ثاني فقتله، والثالث فقتله، ثم الرابع فقتله، فخرج له خامس فحقق له أمنيته، لقاء الرسول فقطع رقبته؛ فطارت رقبة الغلام على الأرض، واستُشهِد في سبيل الله وطارت روحه الطاهرة إلى السماء في حواصل طير خضر تبلغ رسول الله سلام أبي عبيدة ورسالته..

    ثم قام أبو عبيدة؛ فقال: أليس لهذا الرجل من رجل؟ فتحمس معاذ بن جبل وقال: أنا له (ونحن نعلم أن معاذ بن جبل t هو قائد الميمنة) فأمسك به سيدنا أبو عبيدة بن الجراح وقال له: الزم مكانك، سألتك بحق رسول الله أن تثبت، وأن تلزم الراية فلزومك الراية أحب إليَّ من قتالك هذا الرجل؛ فيتحمس سيدنا معاذ بن جبل ويقول: إذن أنزل من على فرسي، وقال: ألا يريد هذا الفرس وهذا السلاح رجل من المسلمين يقاتل به هذا الفارس؟ فتقدم له عبد الرحمن بن معاذ بن جبل، ابنه، وكان حدثًا، قيل: لم يحتلم وقيل: في أول احتلامه كان عمره 13 أو 14 سنة، وكان عُمْر سيدنا معاذ بن جبل 30 سنة في هذه الموقعة، وهذا أكبر أبنائه عنده 13 سنة؛ فقام عبد الرحمن بن معاذ بن جبل وقال: يا أبت إني لأرجو أن أكون فارسًا أعظم غناء عن المسلمين منِّي راجلاً -ومع أن أباه كان قائد الميمنة إلا أنه كان من المشاة- فأعطني الفرس؛ فأعطاه الفرس والسلاح، وقال: وفقني الله وإياك يا بُني، فقال عبد الرحمن: يا أبتِ إنْ أنا صبرت فلله المنّة عليَّ، وإن أنا قُتِلت فالسلام عليك، ثم همَّ بالخروج، ولكنه عاد يسأل أباه كما سأل الغلام الأزدي، فقال: يا أبتِ أليست لك حاجة عند رسول الله ؟

    فقال له سيدنا معاذ بن جبل t وأرضاه: يا بني أقرأه منِّي السلام، وقل له: جزاك الله عن أمتك خيرًا..

    وألقى بابنه في أحضان الموت ثم خرج عبد الرحمن بن معاذ بن جبل واقتتل مع الرومي فاختلفا ضربتين فمال الرومي؛ فطاشت ضربة عبد الرحمن وأصابت ضربة الرومي، ونزلت على رأس عبد الرحمن بن معاذ بن جبل فشجتها شجًّا عميقًا، فغطَّى الدم وجهه وظنَّ أنه يموت، وظن الرومي كذلك أنه يموت فعاد إلى أبيه وقال: يا أبتِ قتلني الرومي، فقال معاذ بن جبل والدموع في عينيه: يا بُنيَّ وماذا تريد من الدنيا؟!! فعاد ابنه مرة أخرى بالفرس إلى الرجل ولكن سبحان الله لم تمهله ساعات أجله فسقط شهيدًا من على فرسه، وكان ثاني شهداء المسلمين عبد الرحمن بن معاذ بن جبل وعمره 13 سنة، وذهب إلى رسول الله يبلغه تحية أبيه معاذ بن جبل؛ فقال أبو عبيدة: فمن له منكم؟ فخرج عامر بن الطفيل الدوسي (عامر الذي تنبأ له أبوه بالشهادة في يوم ما) فخرج عمرو بن الطفيل وما هي إلا لحظات حتى كانت أمعاء الرومي مبعثرة في الأرض، وانتقم من هذا الرومي وكبَّر المسلمون في ساحة المعركة.

    الاستعدادات النهائية للمعركة:
    بعد صلاة الفجر يقترب الجيش الرومي من الجيش الإسلامي ويبدأ الاستعداد للقتال في اليوم الثاني 5 من رجب سنة 15هـ, وكان هذا اليوم صحوًا ليس فيه مطر؛ فعَلِمَ المسلمون أن القتال سيدور في هذا اليوم، وأتى الروم في جموع كالسَّيْل والليل كما يقول الرواة، وهذا تشبيه صائب ودقيق؛ لأننا ذكرنا أن الجيش الرومي اصطف في أرض مساحتها حوالى 10 كيلومترات، وقد صفَّه قادته صفوفًا؛ فصفوف المشاة عشرون، وعددهم كان 120 ألف جنديٍّ من المشاة، إذًا عرض الجيش الرومي 6000 فرد في عشرين في العمق, ولو حسبنا أن لكل واحد من الجنود مترًا ونصفا يتحرك فيه فمعنى ذلك أن عرض الجيش الرومي 9 كيلومترات، أي 9000 متر؛ فأقبلوا على المسلمين كالسيل لا يُرَى أوله من آخره، وفرسان الروم كانوا 80 ألف فارس، هذا في أصح الروايات، ولكن بعض الروايات تذكر أن الجيش الرومى كان 240 ألف وليس 200 ألف فقط، وروايات أخرى تذكر أنهم 400 ألف, وهذه الروايات جاءت على لسان باهان قائد الروم نفسه عندما كان يخاطب جيشه فيقول لهم: أنتم 400 ألف, أنتم عشرة أضعافهم، ويبدو -والله أعلم- أنه كان يحمِّس جيشه، ولكن الصحيح -والله أعلم- أن عدد الجيش الرومي كان 200 ألف مقاتل: 80 ألف فارس و120 ألفًا من المشاة؛ منهم 30 ألف جنديٍّ من المشاة مسلسلين في القيود: كل عشرة في قيد وذلك ليمنعوا هروبهم وفرارهم من المعركة، ويبدو أن هؤلاء الـ 30 ألفًا هم من جُمِعُوا بالقوة والإجبار والإكراه وليسوا ممن تطوع لمحاربة المسلمين فى هذه المعركة.

    وأقبل الروم ولهم دويٌّ كدوي الرعد وأثاروا غبارًا شديدًا، وجاءوا بأعداد ضخمة رافعين الصلبان وواضعين على مقدمتهم القساوسة والرهبان الذين جعلوا يحمسون الجنود، ويقولون لهم: إن هذه معركة بين الإسلام والمسيحية؛ لِيُلقوا في قلوبهم الحمية لقتال المسلمين، وهم يعلمون أن هؤلاء الرهبان ذاتهم قد فرُّوا من المسلمين من قبل في كثير من المواقع وليس في موقعة واحدة، ويتقدم الجيش الرومي ناحية الجيش المسلم في وقع يهز أشد القلوب جسارة، وأشد النفوس قوة، ولكن يبدو -وسبحان الله- أن الجيش الإسلامي ليس من البشر، فما حوله لا يهزه ولا يحرِّك له ساكنًا؛ فثبت المسلمون ولم يلتفتوا إلى هذه الأعداد الضخمة الرهيبة القادمة من ناحية الروم بل زادتهم إيمانًا {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران 173: 175].

    غرس الحماسة في قلوب المسلمين:
    يسمع خالد بن الوليد وهو على رأس الجيش مقولة من أحد الجنود لم تعجبه (ويبدو أنه كان مضطربًا ولا يعرف كيف يزن الأمور)؛ فقال الجندى: ما أَكثر الرومَ، وما أقلَّ المسلمين! 200 ألف ضد 33 ألف, 1:6 أي لا بد للمسلم أن يهزم ستة من أجل أن يحقق النصر فى المعركة، فغضب خالد غضبًا شديدًا، واحمرَّ وجهه، واهتز وهو يقول له: بل ما أقلَّ الروم، وأكثر المسلمين!! لا يُنصَرُ الناسُ بالعدد، وإنما يُنصَرون بنصر الله I لهم، ويُخذَلون بخذلان الله I لهم، واللهِ لوددتُ أن الأشقرَ بَرَاءٌ (الأشقر هذا هو فرس سيدنا خالد بن الوليد، وهو الذي حارب عليه في كل فتوح العراق، وكان مريضًا فى هذه الموقعة فلم يحارب عليه فيها) وأنهم ضوعفوا في العدد -يعني أصبحوا 400 ألف بدلاً من 200 ألف فى سبيل أن يكون الأشقر سليمًا، فهو يَعُدُّ الأشقر بـ 200 ألف رومي- أتخوفونني بالروم, وكانوا عنده كالذباب لا يمثلون أي شيء، وأشار سيدنا خالد إلى الدعاة أن انطلقوا وحَمِّسوا الناس؛ لأنه شعر أن بعض الأفراد قد هزتهم هذه الكثرة، فانطلق الدعاة يحمسون الناس ويرغبونهم في الجنة فقام سيدنا أبو عبيدة بن الجراح t وأرضاه أمين هذه الأمة؛ فقال: يا عباد الله، انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم فإنَّ وعد الله حق، يا معشر المسلمين اصبروا فإن الصبر منجاة من الكفر، ومرضاة للرب، ومدحضة للعار، فلا تبرحوا مصافَّكم، ولا تخطوا إليهم خطوة، ولا تبدأوهم بقتال، واشرعوا الرماح واستتروا بالدرق -أي الدروع- والزموا الصمت، إلا من ذكر الله، وسبحان الله كان هذا الصمت له فعل شديد على القلوب الرومية فقد هزهم هذا الصمت، فهذا الجيش يقف ساكنًا لا ينادي بكلمات الجزع، ولا يهرب ولا يفكر في الهرب وهو صامت، وكأن شيئًا لا يعنيه، وكأنهم لا يرون هذه الجموع الرومية كلها إلا كالذباب، كانت هذه خطبة سيدنا أبي عبيدة في اليرموك، وانتقل بها من مكان إلى مكان ينشرها بين الناس، ثم قام سيدنا معاذ بن جبل t وأرضاه أعلم أمة محمد بالحلال والحرام وإمام العلماء يوم القيامة يقول: يا قُرَّاءَ القرآنِ، ومستحفظي الكتاب، وأنصار الهدى، وأولياء الحق، إنَّ رحمة الله -والله- لا تُنال، وجنته لا تُدخَل بالأماني، ولا يؤتي اللهُ المغفرةَ، والرحمة الواسعة إلا الصادقين المصدقين بما وعدهم الله عزَّ وجلَّ، ألم تسمعوا قول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]، أنتم إن شاء الله منصورون فأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين، واستحيوا من ربكم أن يراكم فرارًا من عدوكم وأنتم في قبضته ورحمته، وليس لأحد منكم ملجأ من دونه وليس فيكم متعزِّز بغير الله، كانت هذه خطبة معاذ بن جبل قالها فى ميمنته ودار بها على الجيش يقولها ويحمس الناس، ثم قام سيدنا عمرو بن العاص؛ فقال: يا أيها الناس، اشرعوا الرماح والزموا مراكزكم ومصافكم, فإذا حمل عليكم عدوكم فأمهلوهم حتى إذا ركبوا أطراف الأسنة فَثِبُوا في وجوههم وُثُوبَ الأسد.. (يعني لا تبدأوا بالهجوم إلا إذا اقتربوا منكم وصاروا قريبين جدًّا من أسنة الرماح) فوالذي يرضَى الصدقَ ويُثيب عليه، ويمقت الكذبَ ويعاقب عليه، ويجازِي بالإحسان، لقد بلغني أن المسلمين سيفتحونها كَفْرًا كَفْرًا (يعني بلدًا بلدًا) وقصرًا قصرًا، سمع ذلك من رسول الله ، وبشرهم الله I بفتح هذه البلاد في غزوة الأحزاب، والمسلمون محصورون في المدينة، سبحان الله فلا يهولنَّكم جمعُهم ولا عددُهم فإنكم لو صدقتموهم الشدة لتطايروا تطاير أولاد الحجر -بعض الطيور الصغيرة عندما تهش تطير أي وهم كذلك يطيرون، ولا يقفوا لكم ولا يثبتوا أمامكم- ثم قام القاص (والقاص هو الذي يحمس الناس) وهو سيدنا أبو سفيان صخر بن حرب t فيقول: يا معشر المسلمين لا ينجيكم اللهُ منهم اليوم وتبلغون رضوانه إلا بصدق اللقاء والصبر في المواطن المكروهة، ألا إنها سُنَّةٌ لازمة، سنة لازمة أن يحارب المسلمون الكفار وأن يثبت المسلمون في المواطن المكروهة فيحقق الله I لهم النصر، وإن الأرض وراءكم بينكم وبين أمير المؤمنين وجماعة المسلمين صحاري وبَرارٍ (بينكم وبين أمير المؤمنين والمدد مسافات بعيدة جدًّا فلا تطمعوا فى مدد) ليس لأحد فيها معقل إلا الصبر، ورجاء ما عند الله فهوخير معوَّل، فيقول: فاحتفظوا بسيوفكم وتقرَّبوا بها إلى خالقكم ولتكن هي الحصون التي تلجأون إليها وبها تمتنعون، الله الله إنكم أنصار الإسلام وهم أنصار الشرك.

    عودة إلى اليرموك:
    جاءت الجيوش الرومية وعلى مقدمتها جبلة بن الأيهم الغساني، وتقترب من الجيش الإسلامي والمطر لا يتوقف، فتقف الجيوش ساعة منتظرين القتال ولكن الجيش الرومي يفكر في الانسحاب وعدم القتال؛ فيطمئن المسلمون لذلك ولا يبدأون بالقتال حتى ينسحب الجيش الرومي مرة أخرى ويعود إلى معسكره في انتظار توقف المطر..

    سيمر هذا اليوم دون قتال، يوم 4 من رجب سنة 15هـ، و هذه الليلة ليلة 5 من رجب سنة 15هـ يقضي كل الجيش الإسلامي النصف الأول من الليل في قيام الليل وسبحان الله في هذا الجو العصيب, وفي هذه الأخطار المحدقة بالمسلمين وفي الترصد من الروم للجيش الإسلامي, وعلى الرغم من ذلك كل الجيش الإسلامي يقف ويصلي قيامًا لله I..

    والحقيقة أننا لا نستطيع أن نفهم ذلك إلا إذا فهمنا أن قيام الليل هذا لبنة من اللبنات المكونة للمجاهد، فتركيب المجاهد تركيب صعب، بناء المجاهد بناء صعب، فليس من السهل أن يصبح المرء مجاهدًا، فقيام الليل لهذا المجاهد لبنة من اللبنات التي تقيم ذلك البناء الصعب، وصلاة الفجر، و قراءة القرآن لبنة من لبنات المجاهد، وحب الخير للناس والسعي لنشر هذا الخير، والجهاد في سبيله لبنة من لبنات المجاهد، وعدم الخوف من أحد غير الله I وعدم الخوف على الرزق وعدم الخوف على الأجل كل هذا لبنة من لبنات المجاهد, وهذه الأمور جميعًا إذا اجتمعت تكوِّن المجاهد، لذلك تستطيع أن تجد فقيهًا ولكنه ليس مجاهدًا وتستطيع أن تجد قارئًا للقرآن ولكنه ليس مجاهدًا، قد تستطيع أن تجد عالمًا أو ناسكًا أو داعيًا لله ولكنه ليس مجاهدًا، ولكن من الصعب أن تجد مجاهدًا في سبيل الله ليس فيه هذه الصفات، فالمجاهد جمع كل هذه الصفات؛ ولذلك جعل الرسول الجهاد ذروة سنام الإسلام، لأنه جمع كل خصال الخير، فإذا كنت تريد أن تكون مجاهدًا فاعلم أن الطريق طويل وأن البذل كثير وأن الأجر إن شاء الله تعالى على قدر المشقة وعلى قدر الجهد..

    بُشْرَى بنصر المسلمين وتشاؤم عند الروم:
    تعالوا نعش مع الجيش الإسلامي في هذا اليوم أو هذه الليلة العظيمة، فبعد انقضاء النصف الأول من الليل في صلاة القيام، كان النصف الثاني كله تجهيزًا للجيش الإسلامي، فقد وقف القادة أمام الصفوف يرتبونها ويشجعون الجنود حتى حان موعد صلاة الفجر فاصطفَّ المسلمون لصلاة الفجر، وصلى بهم سيدنا أبو عبيدة بن الجراح لأنه هو الأمير العام للجيوش الإسلامية، فوقف سيدنا أبو عبيدة وقرأ في الركعة الأولى سورة (الفجر): {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر 1: 14], وأكمل أبو عبيدة الآيات إلى آخر السورة واستمع إلى الآيات راشد بن عبد الرحمن الأزدى أحد المجاهدين من قبيلة الأزد وعندما وصل سيدنا أبو عبيدة إلى هذه الآيات قال: والله لقد ظهرنا على القوم، لَلَّذي أجرى على لسانه هذه الآيات هو الذي ينصرنا إن شاء الله رب العالمين، وعلمت أن الله I سوف يصب عليهم سوط عذاب، فهؤلاء كعاد مثلهم كمثلهم، يعني نفس الروم مثل قوم عاد بالضبط أكثروا في الأرض الفساد وأن الله I سيصب عليهم سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد، واطمأن لذلك راشد بن عبد الرحمن، ثم بدأ الركعة الثانية فقرأ سورة (الشمس) حتى وصل إلى هذه الآيات: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس 11: 15], فقال راشد في نفسه: والله هذه أخرى إن الله I سوف يدمدم عليهم بذنبهم فيسويها على أيدينا؛ لأنهم فعلوا مثلما فعل قوم ثمود من قبل، وهكذا سبحان الله انظروا إلى معايشة المسلم للقرآن فالمسلم الذي يقرأ القرآن باستمرار, ويحاول أن يطبق القرآن في كل مواقف حياته سيجد دائمًا في كل موقف من مواقف حياته آية توجهه توجيهًا معينًا، وتنصحه نصيحة معينة، وتثبته تثبيتًا معينًا، ولذلك لا يصح لأحد المسلمين أن يكون لا يدري معاني كلمات القرآن الكريم، حتى لا يضيع الهدف من قراءة القرآن الكريم وهو أخذ الحكمة وأخذ العبرة وأخذ المنهاج الذي يسير عليه في الدنيا حتى يصل في الأخرة إن شاء الله إلى رضوان الله وجنته.

    وتنتهي الصلاة وبعد الصلاة يلتفت سيدنا أبو عبيدة بن الجراح إلى المسلمين ويقول لهم: أيها الناس أبشروا فإني رأيت في ليلتي هذه فيما يرى النائم، وبدأ يقص عليهم هذه الرؤيا؛ ففي صحيح البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ يَقُولُ: "إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا يُحِبُّهَا فَإِنَّمَا هِيَ مِن اللَّهِ فَلْيَحْمَد اللَّهَ عَلَيْهَا وَلْيُحَدِّثْ بِهَا, وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ فَإِنَّمَا هِيَ مِن الشَّيْطَانِ فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا وَلا يَذْكُرْهَا لأَحَدٍ فَإِنَّهَا لا تَضُرُّهُ".

    فلقد رأى سيدنا أبو عبيدة بن الجراح رؤيا فيها بشرى؛ وأراد أن يبشر المسلمين بها؛ فقال لهم: "رأيت فيما يرى النائم كأن رجالاً أتوني فحفوا بي، وعلي ثياب بيض ثم دعوا لي رجالاً منكم أعرفهم، ثم قالوا لنا: أقدموا على عدوكم ولا تهابوهم فإنكم أنتم الأعلون، ثم مضينا إلى عسكر عدونا فلما رأونا قاصدين إليهم انفرجوا لنا وجئنا حتى دخلنا عسكرهم فوَلَّوا مدبرين"؛ ففرح المسلمون بذلك وقالوا: بشرك الله إن هذه بشرى من الله، واطمأن المسلمون لهذه البشرى وتفاءلوا بها، فقال أبو مرثد الخولاني بعد أن سمع هذه الرؤيا من سيدنا أبى عبيدة بن الجراح: والله إني رأيت أنا الآخر رؤيا؛ فقال أبو عبيدة: فحدِّثْ بها؛ فقال: "إني قد رأيت كأنا خرجنا إلى عدونا فلما توقفنا صَبَّ الله عليهم طيرًا بِيضًا عظامًا لها مخالب كمخالب الأسد وهي تنقضُّ من السماء انقضاض العُقْبَان؛ فإذا حازت بالرجل من المشركين ضربته ضربة يخِرُّ منها منقطعًا، وكان الناس يقولون: أبشروا معاشر المسلمين فقد أيَّدكُمُ الله عليهم بالملائكة "؛ فقال أبو عبيدة بن الجراح: بشَّرَك الله بالخير، هذه والله بشرى من الله..

    و على الفور أمر سيدنا أبو عبيدة أن تصل هاتين الرؤيتين.

    الأعراب على مقدمة الجيش الرومي:
    تتقدم الجيوش الرومية نحو المسلمين، واللافت للنظر فى ترتيب الجيش الرومي أن الميمنة عليها رجل يسمى (جورجير)، والميسرة عليها رجل يسمى (درنجر) وكان هذا الرجل ناسكًا من الزهاد العباد ومع ذلك فهو فارس مغوار, فلذلك أجبره هرقل على الخروج على ميسرة الجيش الرومي وكان يكره قتال المسلمين وكان يرى أن الحق معهم، ومع ذلك أُجبر على الخروج فخرج على رأس ميسرة الجيش الرومي.

    ومما يلفت النظر أيضًا في تركيبة الجيش الرومي أن الميمنة والميسرة كانتا من الروم، أما القلب ومقدمة الجيش الرومي فكانتا من الأعراب، وكان على مقدمة الأعراب جبلة بن الأيهم الغساني من قبيلة غسان، والحقيقة أن هذا الموقف لا يجوز أن يمر علينا دون أن نقف أمامه لحظة حيث نلاحظ أن الجيش الرومي قد وضع الأعراب أو العرب الموجودين في منطقة الشام في مقدمة الجيوش ليفتدوا الجيش الرومي بأرواحهم وتضيع بذلك دنياهم وآخرتهم، وكان هذا ديدن الجيش الرومي في أرض اليرموك وفي المواقع التى خاضها مع المسلمين، وكان هذا أيضًا ديدن الجيش الفارسي مع المسلمين وعندما تحدثنا عن موقعة (عين التمر) ذكرنا أنه كان فيها خليط من الفرس والأعراب أو من القبائل العربية الموالية للفرس، وقد جعل الفرس الأعراب في مقدمة الجيوش للتضحية بهم، حتى إذا التقت الجيوش الرومية أو الفارسية مع أعدائها كانت الجيوش العربية أو الموالية لهما فى المقدمة فتسقط صريعة فداءً للجيش الرومي أو الفارسي..

    الحقيقة أن هذه ليست أمورا تاريخية فحسب، ولكنها أحداث تتكرر في كل وقت وزمان، وهذه سنة الله I..

    ومن والى العدو فعليه ذنبه ومصيبته، فقد تكرر هذا من قريب كما نذكر جميعًا منذ خمس سنوات فقط، وفي حرب الخليج الثانية أثناء عملية تحرير الكويت فقد كانت الجيوش العربية في مقدمة الجيش الأمريكي وكانت القوات البرية العربية بأكملها فى المقدمة فى أكثر المواقع خطورة، أما الجيوش الأمريكية والإنجليزية والفرنسية فقد كانت فى الخلف تحارب بالريموت كنترول عن طريق الطائرات أو الصواريخ بعيدة المدى ولا يوجد أي اختلاط بين القوات العربية البرية والجيوش الأجنبية المعادية.

    وهذه عبرة من التاريخ تتكرر كثيرًا فيجب علينا أن نتعظ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51].

    ثم نجد الله I في الآية التالية يقول: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 52].

    أي إنهم عندما يوالون هؤلاء الكفار وهؤلاء اليهود والنصارى فإنهم لا يوالونهم حبًّا لهم وإنما لأنهم يرون أن لهم الغلبة، فهؤلاء يرون أنه ليس من المعقول أن نحارب الروم أو الفرس، وليس من المعقول أيضًا أن نحارب أمريكا، فهذا إهلاك للنفوس، وتخريب للبلاد في نظرتهم السقيمة.

    ولكن بإذن الله سيأتى الفتح من عند الله I كما قال في سورة المائدة وفى كثير من الآيات..

    تابعونا وما النصر إلا من عند اللة .................
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: فتوحات الشام

    مُساهمة من طرف صادق النور الأحد أكتوبر 30, 2011 11:45 am

    فتوحات الشام 1732_image002

    اليرموك اليوم الثانى .....................


    تجمع المسلمون والروم عند منطقة اليرموك, وبعد أن التقت القوات الرومية مع القوات الإسلامية في (5 من رجب 15هـ)، بدأ المسلمون يخرجون بعض أبطالهم للمبارزة، التي نتج عنها استشهاد 4 من المسلمين، وقتل خمسة من الروم..
    شعر خالد بن الوليد بقلة جيشه (33 ألفًا، مقابل 200 ألف)، وأنه يجب أن يغيروا خطة الحرب، فأتى أبا عبيدة فقال:والله يا أبا عبيدة إن هؤلاء قد أقبلوا بعدد وجَدٍّ وحدٍّ وإن لهم لشدة لا يردها شيء، وليست خيلي بالكثيرة، ولا والله لا قامت خيلي لشدة خيلهم ورجالهم أبدًا (وخيله يومئذ أمام صفوف المسلمين ثلاثة) فقال خالد: قد رأيت أن أفرق خيلي فأكون في أحد الخيلين، وقيس بن هبيرة في الخيل الأخرى (يريد أن يقسم خيله نصفين، كل منهما ألف فارس) ثم تقف خيلنا من وراء الميمنة والميسرة (ميمنة المسلمين بقيادة معاذ بن جبل t، والميسرة عليها قباث بن أشيم) فإذا حملوا على الناس، فإن ثبت المسلمون فالله ثبتهم وثبت أقدامهم، وإن كانت الأخرى حملت خيولنا عليهم وهي جامَّة (أي مستريحة) وهم قد انتهت شدتهم وتفرقت جماعتهم، ثم نحمل عليهم وهم كذلك، فأرجو عندها أن يظفرنا الله بهم ويجعل دائرة السوء عليهم، وقد رأيت أن يجلس سعيد بن زيد (وكان في مؤخرة الجيش ) مجلسك هذا (في المقدمة مكان أبي عبيدة، ويرجع أبو عبيدة إلى المؤخرة) ويقف من ورائك بحذائك مائتان أو ثلاثمائة من الفرسان ذوي الوجوه يكونون للناس ردءًا وأراد من ذلك أنه إذا حاول أحد المسلمين الفرار، فإنه يستحي من أبي عبيدة عندما يراه في الخلف، فيعود مرة أخرى للقتال.. (وليس إجبارًا على القتال، كما يفعل الروم)، قالوا: فقبل أبو عبيدة مشورته وقال: افعل ما أراك الله، وأنا فاعل ما أردت.
    كما أشار عليه أن يجعل صفوف المسلمين ثلاثة صفوف فقط، حتى يغطي المساحة عرضًا أمام الجيش الرومي، الذي يبلغ عمقه 20 صفًّا، وعرضه 6 آلاف جندي، أي أن عرضه 9 كلم تقريبًا، يريد خالد أن يغطي مساحة العرض، حتى لا يجعل لهم فرصة في الالتفاف على جيش المسلمين، وهو أمر صعب تكتيكيًّا في القتال، لا يستطيع أن يقوم به إلا المجاهدون المسلمون الأقوياء..
    كذلك ذهب إلى معسكر النساء رضي الله عنهن من شرق المنطقة إلى وسط الجيش، يقول لهن: إذا أتاكم أحد المسلمين، فذكروه بالدفاع عنكن، وعن أولادكن (ورد في تاريخ دمشق قوله: يا نساء المسلمين، أيما رجل أقبل إليكنَّ منهزمًا فاقتلنه)، كما أخذ يذكر المسلمين أن نساءهم وبناتهم، إن هم فرُّوا، سيقعن سبايا في أيدي الروم، وهذا سلاح نفسي جديد..
    فكان هذا أسلوب خالد t في منع الفرار: بدأ في البداية بأسلوب الخطابة، والموعظة، وقراءة القرآن في الجيش كله (قراءة سورة الأنفال على كل فريق من المسلمين)، كما أرسل إلى جيوش المسلمين الكثير من الخطباء الذين وعظوا الناس، وثبتوهم في هذا المكان.
    كما استعمل السلاح النفسي بوضع النساء خلف الجيش، وكذلك بجعل أبي عبيدة في المؤخرة..
    الروم يولون الأدبــار!!
    واقترب موعد صلاة المغرب، والهجوم كاسح من المسلمين، يقابله تراجع غير محسوب من الروم، واقتراب عنيف من الهاوية، وجاءت الأوامر أن يؤخر المسلمون صلاة المغرب مع العشاء، حتى يصلوها "بعد الفتح"، (وذلك حتى لا ينسى أحد المجاهدين نية "جمع التأخير" فتضيع عليه الفريضة، وهو أمر مثير للاستغراب، فمع كل ذلك القتال العنيف، إلا أن الصلاة تكون دائمًا في أذهانهم)..
    ويأتي الليل، ويسود الظلام، فيخترق أحد المسلمين جيش الروم ويصل إلى باهان قائد الروم العظيم، ويقاتله قتالاً قصيرًا، فيقتله..
    ويؤثر قتل باهان على نفسية الروم تأثيرًا شديدًا، وتنهار معنوياتهم تمامًا، ويرفع أبو سفيان صوته بالنداء: (يا نصر الله اقترب، الثبات الثبات يا معشر المسلمين) على الرغم من أنه أصبح كفيفًا إلا أنه لا يزال يحمس المسلمين، بإرادة تهد الجبال. (وكأنه يريد أن يمحو حروب سنين طويلة ضد رسول الله)..
    يقول الرواة: فكأن الروم حائط، قد هدَّه المسلمون فوقع..
    وأظلم الليل، وكانت ليلة ضبابية، فلم يعد المسلمون قادرين على رؤية أحد من الروم، إلا الصف الأول فقط، ويلاحظون أنه يهرب منهم.. حتى أظلم الليل تمامًا، فلم يعد المسلمون يرون أحدًا من الروم..
    فتوقف المسلمون عن القتال بعد صلاة العشاء، ووقفت بعض الفرق للحراسة، ولم يكونوا يعلمون من تبقى من الروم، وبدأوا يضمدون جراحهم.
    وكان ممن يضمد جراحه عكرمة بن أبي جهل، وكان في اللحظات الأخيرة من حياته، يطلب ماءً ليشرب، فلما جيء له بالماء، سمع أحد المسلمين يطلب الماء، فيقول: اذهب إليه بالماء لعله أحوج إليه مني، فيذهب الرجل ويترك عكرمة، إلى هذا الرجل الثاني، الذي ما إن يصل إليه حتى يسمع استغاثة رجل آخر يطلب الماء، فيقول له: اذهب إليه واسقه، لعله أحوج مني بالماء، فيذهب إليه، ويجده قد مات، قبل أن يشرب؛ فيعود إلى عكرمة فيجده قد مات قبل أن يشرب أيضًا!!! رحمه الله ورضي عنه وأرضاه، فيذهب للثاني فيجده قد مات، فماتوا جميعًا عطشى في الدنيا، ولكنهم يوم القيامة يسقيهم رسول الله ..
    يقوم أبو عبيدة بن الجراح t بنفسه بحراسة القوم في هذه الليلة، ويتفقد الجيش الإسلامي، خشية أن يباغتهم الروم في الظلام، وفي مروره يجد فارسين، يتفقدهما، فإذا هما الزبير بن العوام، وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، يدوران حول المعسكر لحمايته، فيقول: يا ابن عمة رسول الله (ويقصد الزبير) ما الذي أخرجكما؟ فيقول الزبير: نحرس المسلمين، ذلك أن أسماء قالت: إن المسلمين مشتغلون بأنفسهم هذه الليلة عن الحراسة، لما لحقهم من التعب والجهاد طوال يومهم، فهل لك أن تساعدني على حراسة المسلمين؟ فأجبتها إلى ذلك.
    فعزم عليهما أبو عبيدة أن يرجعا، إلى أماكنهم، فرفضا، وظلا من الليل، حتى صبيحة اليوم التالي، ساهرين في سبيل الله..
    ويمر الليل كله بلا اضطرابات، ويصلي المسلمون الفجر، وبعد الفجر يبدأ النور في الظهور، ويتطلع المسلمون لأرض المعركة، فيُفاجأون مفاجأة مذهلة، إذ يجدون القتلى من الروم نحو 50 ألف قتيل، ويجدون في الواقوصة (80 ألف) رومي، أو أكثر ساقطين فيها، إذ تعدهم بعض الروايات 120 ألف رومي، عدهم ابن أخي حسان بن ثابت: شداد بن أوس، أي أن قتلاهم بلغ 130 ألفًا وهرب منهم في بداية المعركة 30 ألفًا، فهناك 40 ألفًا إذاً قد اختفوا.
    وهكذا لقي المسلمون أعظم انتصار على أقوى جيش أعده الروم منذ بدأت حروبهم، على الرغم من كل الإعدادات والقساوسة والرهبان، الذين أعدهم (هرقل)، فانتصر المسلمون عليهم انتصارًا رائعًا..
    وكان شهداء المسلمين 3 آلاف شهيد فقط.. روت دماؤهم الزكية أرض اليرموك، وفازوا ورب الكعبـة..
    { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 169- 175].
    دور المرأة المسلمة في المعركة:
    وكان ممن قاتل مع المسلمين أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، وأيضًا جويرية بنت أبي سفيان, فبذلك تكون عائلة أبي سفيان t كلها في المعركة، وهند بنت عتبة –زوجته- تحمس الجيش من الخلف.
    بل إن واحدة من المسلمات لا يُعلم اسمها، شوهدت في هذا اليوم، تجري بفرسها وراء رومي، وهو يفر منها، حتى لحقته وقتلته، وقالت بعد أن قتلته: "هذا بيان نصر الله للمسلمين", فإذا وصلت الحرب إلى أن نساء المسلمين يقتلن رجال الروم، فإن في ذلك دلالة على نصر الله للمسلمين.
    وفي هذه الأثناء يستقر سهمٌ آخر في العين الأخرى لأبي سفيان t، فيعمى تمامًا، وكثرت الإصابات في أعين المسلمين في ذلك اليوم، حتى أصيبت 700 عين -كما ورد في الطبري- حتى سمي يوم اليرموك في التاريخ بـ "يوم التعوير".
    (فعل المسلمون ذلك في الأنبار، وفتح المدائن).
    وهكذا سالت كثير من الدماء، والجراحات، واشتد الأمر تمامًا على المسلمين، ومرت الظهيرة، واقترب وقت العصر، كل ذلك، ولا يزال خالد بن الوليد t، خلف الميمنة، وقيس بن هبيرة خلف الميسرة، بقواتهما لا يقاتلان، والمسلمون يتحملون أشد أنواع الحرب من الروم، بكل صبر..
    تغير في موازين القوى:
    بعد كل ذلك يتمكن الروم من ضغط ميسرة المسلمين وميمنتهم إلى القلب، وتصبح لديهم الفرصة مواتية للالتفاف على الجيش الإسلامي، وبدأت قوات الروم تتسرب خلف الجيش الإسلامي: من الميمنة، ومن الميسرة، وخالد بن الوليد يراقب عن كَثَب، حتى تسربت القوات الرومية فعلاً وطوقت الجيش الإسلامي من خلفه، وأصبحت قريبة من معسكر النساء، وكانت قوتهم تبلغ 20 ألف مقاتل رومي.
    عندئذٍ تحرك "سيف الله المسلول" خالد بن الوليد t، وقال: يا أهل الإسلام،لم يبقَ عند القوم من الجلد والقتال والقوة إلا ما قد رأيتم، فالشدةَ الشدةَ، فوالذي نفسي بيده، ليعطينَّكم الله النصر عليهم الساعة، إني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم. (في كل خطاباته يظل حريصًا على أن ينسب الفضل لله ).
    ويعطي الإذن بالبدء في القتال لفرقته المكونة من ألف فارس. ولفرقة قيس بن هبيرة المكونة من ألف فارس..
    فانطلق المسلمون بعد إذن خالد بن الوليد، وكأنهم سيل هادر كان محتجزًا خلف صخرة، رافعين أيديهم بالسيوف، وأصواتهم بالتكبير على ميمنة وميسرة الجيش الرومي يدكونه دكًّا، وبوغت الروم بهذا التحرك مباغتةً شديدة، على الرغم من أن الميمنة والميسرة تبلغ (100 ألف مقاتل) تواجه (ألفي مجاهد)، ولكنهم كانوا غير مرهقين، لم يحاربوا بعد، فكان نشاطهم شديدًا، واشتياقهم للقتال، والأخذ بثأر إخوانهم أكبر، كما أنهم راغبون في الشهادة في سبيل الله، بينما الروم مرهقون أشد الإرهاق، وخائفون من المسلمين، ومباغَتون من هذا الهجوم، الذي باغتهم به خالد بن الوليد، بل كانوا يعتقدون أنهم بمجرد إزاحة الميمنة إلى القلب، والانطلاق خلفها، قد انتصروا، أو تأكدوا من هزيمة المسلمين!!.
    فارتطم خالد بن الوليد ارتطامًا شديدًا بميسرة الروم، واقتحم قيس بن هبيرة كذلك بميمنة الروم، وكان نتيجة ذلك نتائج لم يتوقعها أحدهما، إذ إنه في أول هجمة للمسلمين قُتِلَ على الفور (10 آلاف) مقاتل من الروم!!!... {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17], ففوجئ الروم بذلك مفاجأة عظيمة، وأيقن فرسان الروم بالهلاك، وشعروا بأنهم مقتولون لا محالة فلم يكن منهم إلا أن فكروا في الهرب..
    ورأى خالد بن الوليد أنهم يجهزون أنفسهم، حتى يستطيعوا الالتفاف من خلف خالد والهروب من المهرب الوحيد خلف الجيش الإسلامي، فلم يكن من خالد بن الوليد إلا أن فكر بواقعية، ولم يغتر بمقتل عشرة آلاف رومي، وإنما ترك لهم فرصة لكي يهرب فرسانهم الآلاف الخمسين، ويتبقى له بقية الجيش، يمكنه التغلب عليه..
    فنادى بصوت مرتفع للمسلمين: " أفسحوا لهم الطريق، اتركوهم، ولا تُكرهوهم على القتال"، فهرب في هذه اللحظة (ثلاثون ألف) فارس من الروم، (عشرون ألف من الميسرة المواجهة لخالد، و10 آلاف من القلب).. كل ذلك في الهجمة الأولى..
    وكانت النتيجة الثالثة لهذه الهجمة المباغتة أن قائد الميسرة الرومي (درنجر) المتنسك العابد (الذي كان يعلم أنه لا يقاتل على حق) لما رأى ذلك، علم أن ما كان يشعر به كان صوابًا، وتيقن أن النصر حليف المسلمين، وأنه إنما يقاتل القدر، ولا يمكنه أن ينتصر أبدًا، ففعل ما لم يتوقعه أحد من المسلمين، ولا الروم، فجاء بثوب، ولفه حول رأسه، وجلس في أرض القتال، وقال: لا أريد أن أرى هذا اليوم المشئوم!!..
    فقد تملك الرعب قلبه، وخانته رجلاه عن الهرب، وجلس ينتظر من يقطع رقبته، الذي سرعان ما جاء فجز رأسه في ثوبه، لِيَمُوت هذا القائد ميتة لم يمتها قائد من قبل!!
    بعد ذلك بدأ المسلمون في الضغط على بقية الجيش الرومي، فهجم المسلمون هجومًا شديدًا وحاصروا الروم في المكان الضيق من أرض اليرموك، (تجاه الواقوصة)، وحاربهم المسلمون حربًا شديدًا، وزادت الحمية في قلوب المؤمنين، وارتفعت معنوياتهم بشدة، وظهرت النماذج الفريدة، وأرسل خالد بن الوليد رسائل خاصة؛ فأرسل للزبير بن العوام: أن هذا وقت الاقتحام، والهجوم المضاد، ورسالة إلى القعقاع بن عمرو التميمي، وكان في مقدمة المسلمين، وهاشم بن عتبة، وإلى معاذ بن جبل وإلى شرحبيل بن حسنة، وإلى أبو عبيدة بن الجراح والأشتر النخعي، ويزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وقباث بن أشيم وهاشم بن مرّ وقيس بن مرّ وضرار بن الأزور والمقداد بن عمرو والمذعور بن عدي وعياض بن غنم وعكرمة بن أبي جهل..
    يمر خالد على الناس ويحفزهم، ويقول: أيها المسلمون إن عدوكم يألم كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون.
    التحام الجيشين من جديد:
    تقترب الجيوش الرومية من الجيش الإسلامي، ويرتب خالد t جيشه، واستعد للقتال، ووضح من تحركات الجيش الرومي أنه سيهجم بميسرته (وقائدها درنجر القائد المتنسك)، على ميمنة المسلمين بقيادة معاذ بن جبل، وهو الذي سيبدأ الهجوم، والضربة الأولى ستتحملها الميمنة عليه، فلما رأى معاذ جيوش الرماة تقترب منه صاح في جنده: "يا معشر أهل الإسلام إنهم قد تهيئوا للشدة ولا والله لا يردهم إلا الصدق عند اللقاء والصبر عند القراع".
    ثم هجمت الكثرة الرومية على القلة المؤمنة، وكان قتالاً شديدًا، استمر فترة طويلة من الزمن، وثبت المسلمون ثباتًا عجيبًا، لا يفهمه الدنيويون..!! ويشتد البأس من قبل الروم، ويبدءون في الضغط على الجيش الإسلامي، والمسلمون ثابتون لا يتحركون، وخالد وفرقته يرون ما يحدث للمسلمين وهم خلف الميمنة، ولا يتحركون؛ لأن الخطة ألا يتحركوا حتى يجهد الروم تمامًا.
    وربما كان صبر خالد ومن معه -وهم يرون إخوانهم يتلقون سيوف الروم، ويُقتَلون بها أمامهم، وتروي دماؤهم أرض اليرموك، ولا يتحركون!!- أشد من صبر هؤلاء الذين يتحملون ضربات الروم، وهذا من بُعد نظر خالد t، إذ كان يُصَبِّرهُم، ويقول لهم: "رويدًا رويدًا".
    أُرْهِقَ بعض المسلمون في الميمنة من شدة القتال، وبدءوا يتراجعون بظهورهم، وإن كانت بعض الجزر الإسلامية ما زالت تقاتل، فتأتي النساء من الخلف، وكان فيهن السيدة خَوْلة بنت ثعلبة الأنصارية، كانت من المجاهدات في اليرموك، فقالت:
    يا هاربًا عن نسـوة تقيـات *** ميت بالسهم وبالمنيات
    فعن قليلٍ ما ترى سبيـات *** ولا حصيات ولا رضيـات
    فثبت المسلمون، وعادوا إلى أماكنهم...
    وكان أشد الضرب في الميمنة على قبيلة "دوس"، التي قتل منها في بداية المعركة عمرو بن الطفيل وابنه جندب بن عمرو، إذ كان أكثر الشهداء في الميمنة منهم، فقام أبو هريرة t وهو من قبيلة دوس، وقال: تزينوا للحور العين، وارغبوا في جوار ربكم، في جنات النعيم، فما أنتم إلى ربكم في موطن من مواطن الخير أحب إليه منكم في هذا الموطن (يذكرهم بأن هذا المكان: أرض الجهاد، أحب إلى الله حتى من المسجد الحرام، والمسجد النبوي، ومن كل الأماكن المقدسة؛ لأن الجهاد قد فرض عليهم في هذا الوقت) ألا وإن للصابرين فضلهم، وحرمة دم المسلم، خير عند الله تعالى من حرمة الكعبة.
    الصلاة وسط صليل السيوف:
    وحانت الظهيرة (وكان الالتحام قد بدأ عند الشروق) وهي فترة نحو 6: 7 ساعات، والجيش المسلم يحارب أمام سيول متدفقة من الجيش الرومي، ثم تأتي الأوامر بعد الظهر أن يصلي المسلمون الظهر والعصر جمع تقديم، إيماءً على الخيول، بوجوههم فقط..
    أي جيشٍ هذا!! وأي قوم هؤلاء، الذين بين صليل السيوف، وتساقط الرءوس، وشدة الحرب، يثبتون، ويهتمون بالصلاة، ولا يتوقفون عن القتال.
    يشعر المرء أن الصلاة عندهم كالتنفس، أو كضربات القلب، ليس لها أي ثقل على النفس.
    ويصف عبد الأعلى بن سراقة، أحد المجاهدين في الميمنة، موقف المسلمين آنذاك، فيقول: وركب المسلمين أمثال الجبال من الروم، فوالله الذي لا إله إلا هو، لقد رأينا الروم تدور بالمسلمين كما تدور الرحى، فما رأيت موطنًا أكثر قحفًا ساقطًا (القحف هو عظم الجمجمة عندما يطير بالسيف) أو معصمًا نادرًا (زائلاً عن موضعه) أوكفًّا طائحة، من هذا الموطن.. ( أي أن أرض هذا المكان امتلأت بأشلاء القتلى، من عظام الرأس، والأيدي والمعاصم) والناس يضطربون تحت القسطل (أي الغبار الشديد) وقد والله أوحلناهم شرًّا وأوحلونا، حتى لقينا من قتالهم مالم يلقَ أحد من قبلنا من مثلهم قطُّ!!
    في أثناء هذا الهجوم العنيف، يصدر (باهان) الأمر الثاني، بتحرك ميمنة الجيش الرومي تجاه ميسرة المسلمين، وترتطم ميمنة الروم ارتطامًا شديدًا بالميسرة المسلمة على رأسها قباث بن أشيم t، وكان هو أشد الناس قتالاً في الميسرة، وكان في المقدمة دائمًا حتى إنه كَسَرَ في الروم ثلاثة رماح وسيفين، وكان كلما كسر رمح من رماحه أو سيف من سيوفه، يقول: من يعير سيفًا في سبيل الله، رجلاً قد حبس نفسه مع أولياء الله، وقد عاهد الله لا يفر، ولا يبرح.
    فيعيره المسلمون أحد السيوف، فيقوم، ويقاتل، حتى يكسر سيفه، فيعيد مقولته، فيعيره أحد المسلمين سيفًا آخر، فيذهب ويقاتل... وهكذا..
    كما كان يزيد بن أبي سفيان t من أشد الناس قتالاً أيضًا في هذا اليوم، على الرغم من أنه المشرف العام لميسرة المسلمين، يقول حبيب بن مسلمة: كان يزيد بن سفيان من أعظم الناس غَنَاءً، وأحسنهم بلاءً، هو وأبوه جميعًا، فقد كان أبو سفيان t يقاتل تحت راية ابنه يزيد، وهو يقاتل بعين واحدة وكان قد فقد إحدى عينيه في حصار الطائف عام 9هـ, وكان يمر به فيقول له: يا بني عليك بتقوى الله والصبر فإنه ليس رجل بهذا الوادي من المسلمين إلا محفوفًا بالقتال, فكيف بك وبأشباهك الذين ولوا أمور المسلمين أولئك أحق الناس بالجهاد والنصيحة, فاتق الله يا بني والزم في أمرك ولا يكونن أحد من إخوانك بأرغب في الأجر والصبر في الحرب ولا أجرأ على عدو الإسلام منك.
    قال: أفعل.
    فقاتل يومئذ في الجانب الذي كان فيه واقفًا قتالاً شديدًا[1]..
    وعلى الميمنة كان الموقف لا يزال شديدًا، وبدأ المسلمون يتراجعون ببطء، ويثبت فيهم عمرو بن العاص t، وقد كان قائد الميمنة، فكل القادة في هذه الحروب يكونون أشد الناس قتالاً، ومن هنا تظهر لنا حكمة اختيار هؤلاء كقادة، لأنهم أقدر على القتال، وليس لمجرد الأفضلية، وإنما الأصلح للمكان...
    فيثبت عمرو وجماعة معه، ويشتد عليهم ضغط الروم، فإذا بهم يتراجعون ومعهم عمرو، ولكنهم لا يولون الأدبار، فلما بدأ يتراجع، وشعر نساء المسلمين بأنهم يتراجعون، أسرعت أم حبيبة بنت العاص (أخت عمرو)، فوقفت وراءه، وقالت: قبَّح الله رجلاً يَفرُّ عن حليلته (زوجته)، قبح الله رجلاً يفر عن كريمته (بنته، أو أخته)، فلما قالت ذلك ثبت المسلمون مرة أخرى، وحملوا على الروم حملة شديدة، وكان من أشد المحمُّسات هند بنت عتبة التي كانت تقول: قاتلوا أيها المسلمون، فلستم ببعولتنا إن لم تمنعونا.
    أما القلب، قلب جيش المسلمين، فقد جاءت الأوامر من باهان بالتقدم أيضًا للهجوم عليه، وبذلك التحم الجيش الرومي بكامله، مع الجيش الإسلامي.. ولم يكن القتال في القلب بأفضل مما هو عليه في غيره، بل كان على أشد ما يكون، وكان على جزء من المقدمة سعيد بن زيد، وعلى الجزء الآخر هاشم بن عتبة رضي الله عنهما، وكوَّن شرحبيل بن حسنة وهو قائد القطاع الأوسط "القلب" مع سعيد جبهة يقاتلون فيها فلم يكن أحد يقاتل مثلهم، وهم من القادة، وكان سعيد بن زيد يخطب في المسلمين، يقول: {إنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} [التوبة: 111].
    الاستراتيجية العسكرية لخالد بن الوليد:
    في المقابل بذل الروم جهودًا أخرى لمنع جنودهم من الفرار، فوضعوا الجيش أمام (الواقوصة) وهي هاوية عمقها أربعمائة متر من هوى فيها مات، كما ربطوا 30 ألف مقاتل منهم بالسلاسل، يضعون كل 10 في سلسلة، حتى يمنعوهم من الهرب!!، هذا بالإضافة إلى الوعود المادية الكثيرة، وقليل منهم من يفكر في الأموال في هذا الموقف؛ فالروح أعز وأهم، فيظلون متشبثين بالحياة، ويفكرون في الفرار طويلاً..
    وهذا هو الفرق بين الجيش الإيماني، جيش العقيدة، وجيش دنيوي، مما يضع أمامنا بعض مفاتيح النصر..
    ونتوقف لنقرأ تحليل أحد المحللين العسكريين الألمان المعاصرين (كلاوس فيتز) في القرن التاسع عشر، الذي كان أقوى محلل عسكري في ذلك الوقت، ويذكر في كتابه (في الحرب): أن أروع لحظات الدفاع هي لحظة الانتقال السريع والقوي إلى الهجوم كضربة ثأر بسيف بتار، والطرف الذي لا يفكر في هذه اللحظة منذ البداية، ولا يدخلها عند نشوب العمليات في مفهوم دفاعه، لا يمكن أن يفهم أبدًا تفوق الدفاع.
    يرى أن الدفاع خير وسيلة للهجوم، فيظل الجيش في الدفاع، حتى يستهلك العدو قوته، ثم يبدأ الهجوم، وهذه أروع لحظات المعركة، وفيها تُشَلُّ قوة العدو.
    وقد وضعها في القرن 19 الميلادي، ثم جاء محلل آخر يدعى (ليدل هاد) يسمونه: نبي الاستراتيجية العسكرية في القرن العشرين؛ فنقض نظرية الألماني في جزء منها، فقال:
    إن الهدف من المعركة هو إحداث صدمة تربك تفكير العدو، بتوجيه ضربة له في مكان لا يتوقعه، وإحداث خسارة مادية تؤثر على نفسية العدو.
    (وبذلك فهو يرى أن الأجدى ليس الدفاع، وإنما توجيه ضربة للعدو لا يتوقعها، تحدث خسارة مادية، تكون نتيجتها انهيار معنويات العدو).
    ثم يقول: وحاول أن تخلق الفوضى في صفوف عدوك، إذا كنت تنوي ضربه الضربة الساحـقة، ويؤيد (كلاوس فيتز) في جزئية أخرى، تخص ما نحن بصدد الحديث عنه هنا، فيقول: إذا كان عدد الجنود في معسكرك يقل عن عدد الجنود في معسكر العدو (كموقف المسلمين في موقعة اليرموك) فحاول مؤقتًا أن تعطيه فرصة للهجوم على معسكرك، ولا تهجم عليه.
    وأكبر الظن أنك ستواجه ناحية ضعيفة في معسكر العدو، لتفاجئه أنت بالهجوم، عندئذٍ استجمع كل قوتك، واعزم على النصر، وسيكون النصر حليفك.
    ولو نظرنا لخطة خالد بن الوليد t، ثم قارناها بما يقوله خبراء العسكرية بعده بقرون، لوجدنا خالدًا في الجزء الأول من المعركة في اليرموك كان عازمًا على الأخذ بخطة "كلاوس فيتز" الأولى، وهي أنه يدافع حتى تنهك قوى الجيش الرومي، ثم يقتحم بعد ذلك، ويهجم عليهم، وفي الجزء الثاني من المعركة، أراد أن يفاجئ جيش الروم بضربة تحدث خسارة مادية واضحة، وتؤثر على نفسيتهم، ومعنوياتهم.
    وبذلك استعمل خالد t النظريتين معًا في هذه المعركة، قبل خبراء العسكرية بنحو 13 قرنًا، وهاتان النظريتان يدرسان في الكليات العسكرية الآن، ولا يشار بأي كلمة إلى أن هناك قائدًا مسلمًا طبَّق هذه النظريات في موقعة واحدة، هو سيف الله المسلول t وأرضاه.
    وللأسف الشديد لم نقدر نحن سيدنا خالد قدره، فلم نقم حتى بتدريس هذه النظريات العسكرية الإسلامية المبتكرة في مدارسنا، أو كلياتنا العسكرية!!

    تابعونا بارك اللة فيكم ....................
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: فتوحات الشام

    مُساهمة من طرف صادق النور الأحد أكتوبر 30, 2011 11:48 am

    بين اليرموك والقادسية ..................

    بعد انتصار المسلمين في موقعة اليرموك، وانهزام جيش الروم هزيمة نكراء، وهروب 70 ألف مقاتل، (30 ألفًا أثناء القتال، و40 ألفًا بعد ذلك).
    كانت قوة الجيش الإسلامي آنذاك 30 ألف مجاهد، وقد اعتادوا أن يلاحقوا الفارِّين بعد كل معركة، فخرجت قوة مكونة من 5 آلاف مجاهد، بقيادة "خالد بن الوليد" t لتعقب الفارين، حتى لا يعودوا للقتال مرة أخرى، وبالطبع فإن 5 آلاف قادرين على ردع الـ 70 ألف، لاختلاف الدوافع عند كل منهم، واختلاف العوامل النفسية، بين فارين منهزمين، ومنتصرين أقوياء..
    فيخرج خالد بن الوليد في إثرهم، عن طريق دمشق، ويقابل في الطريق بعض فلول الجيش الرومي، فيقاتلهم، ويبيدهم عن آخرهم، في معركة قصيرة جدًّا، ثم يصل إلى دمشق (100 كلم) بعد يوم صعب من القتال، فخرج له أهل دمشق، واستقبلوه، وقالوا له: إنهم على العهد معه (الصلح)، وأنهم سيدفعون الجزية، فأقرهم خالد على ذلك، وقبل منهم نفس العهد السابق، وأخذ منهم الجزية، واتجه فورًا في اتجاه حمص في إثر بقية الفلول الرومية الهاربة، وقابل في طريقه إلى حمص مجموعة أخرى من الروم في ثنية العقاب، فحاربهم وانتصر عليهم انتصارًا سريعًا، وأبلى فيها الأشتر النخعي بلاءً حسنًا.
    ثم انطلق باتجاه حمص (نحو 225 كلم)، وهناك وجد أهل حمص –كذلك- يخرجون إليه، يؤكدون أنهم على العهد، لرضاهم بالجيش الإسلامي، فقبل منهم خالد، وأخذ منهم الجزية، وبقي في حمص في انتظار الأوامر من أبي عبيدة t.
    وبعد أن عرف أبو عبيدة بوصول خالد إلى حمص ترك فرقة في اليرموك على رأسها بشير بن كعب، وتوجه إلى دمشق, وأرسل من هناك رسالة لعمر بن الخطاب t، يبشره فيها بالفتح والنصر! ومعها خمس الغنائم، فقال في رسالته: "لعبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، من أبي عبيدة بن الجراح، سلامٌ عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فالحمد لله الذي أهلك المشركين، ونصر المسلمين، وقديمًا ما تولَّى اللهُ أمرهم، وأظهر نصرهم، وأَعَزَّ دعوتهم، فتبارك الله رب العالمين، أُخبرُ أمير المؤمنين أنا لاقينا الروم في جموع لم تلق العرب مثلها قَطُّ، فأتوا وقد علموا أنه لا غالب لهم اليوم من الناس أحد، فقاتلوا المسلمين قتالاً شديدًا ما قُوتل المسلمون مثله في موطن قط، ورزق الله المسلمين الصبر، وأنزل عليهم النصر، فقتلهم الله في كل قرية، وكل شعب، وكل واد، وكل جبل، وسهل، وغنم المسلمون عسكرهم، وما كان فيه من أموالهم، ومتاعهم، ثم إني اتبعتهم بالمسلمين حتى أني بلغت أقاصي بلاد الشام حمص، وقد بعثت إلى أهل الشام عمالي، وقد بعثت إلى أهل إيلياء أدعوهم إلى الإسلام -أي القدس- فإن قبلوا وإلا فليؤدوا إلينا الجزية عن يَدٍ وهم صاغرون، فإن أبوا سرت إليهم حتى أنزل بهم، ثم لا أزايلهم حتى يفتح الله على المسلمين إن شاء الله، والسلام عليكم".
    ففي هذه الرسالة بشر أبو عبيدة عمر بالنصر والفتح، وأخبره بتوجهاته التالية، وهي إرسال جيوشه إلى أقاصي الشام، ورسله من اليرموك إلى القدس (إيلياء)، وهي لم تُفْتَحْ بعدُ.
    ولما وصلت الرسالة إلى عمر بن الخطاب t فرح بها فرحًا شديدًا، ولم تنم المدينة ليلتها، بل باتوا فرحين يهنئ بعضهم بعضًا بالنصر، ثم أرسل عمر رده إلى أبي عبيدة، يقول له: "من عبد الله أمير المؤمنين إلى أبي عبيدة بن الجراح، سلامٌ عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد،
    فقد أتاني كتابك وفهمت ما ذكرت فيه من إهلاك الله للمشركين، ونصره للمؤمنين وما صنع لأوليائه وأهل طاعته، فأحمد الله على حسن صنيعه إلينا، واستتم الله ذلك بشكره، ثم اعلموا أنكم لم تظهروا على عدوكم بعدد ولا عدة ولا حول ولا قوة، ولكنه بعون الله ونصره، ومنه وفضله، فلله المنُّ والطَّوْل، والفضل العظيم، والسلام عليكم ".
    فهذه رسالة عمر بن الخطاب في وقتٍ غدا هو فيه رئيس أعظم دولة في العالم آنذاك، ومع ذلك نلمح في خطابه التواضع، ونسبة الفضل كله لله، وأن النصر كله من عند الله ، وأنهم جند الله، ليس لهم من الأمر شيء.
    بعد توجه أبي عبيدة إلى دمشق واستقراره فيها، تأتيه خطبتان متشابهتان لمعركتين مختلفتين:
    في القادسية:
    خطبة سعد في القادسية جاء فيها: "إن الله هو الحق وحده لا شريك له في الملك، وليس لقوله خلف، وهو يقصد قول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون} [الأنبياء: 105]. وقال في آخرها: فإن تزهدوا في الدنيا، وترغبوا في الآخرة، جمع الله لكم الدنيا والآخرة، ولا يقرب ذلك أحدًا إلى أجله, وإن تهنوا وتفشلوا وتضعفوا، تذهب ريحكم، وتوبقوا آخرتكم".
    وجاء في خطبة عاصم بن عمرو في القادسية أيضًا: "إن صبرتم، وصدقتموهم الطعن والضرب، فلكم أموالهم ونساؤهم وأبناؤهم وبلادهم، وإن خرتم وفشلتم، والله لكم جار وحافظ، لم يبق من هذا الجمع منكم باقية", ثم يقول: "اجعلوا الآخرة همكم، يا معاشر العرب إنكم تخاطرون بالجنة، وهم يخاطرون بالدنيا، فلا يكونُنَّ على دنياهم أحوط منكم على آخرتكم، لا تحدثوا أمرًا تكونوا به شينًا على العرب غدًا".
    وفي اليرموك:
    جاء في خطبة أبي عبيدة: "يا عباد الله انصروا الله ينصركم، ويثبت أقدامكم، فإن وعد الله حق، يا معشر المسلمين اصبروا، فإن الصبر منجاة من الكفر، ومرضاة للرب، ومضحدة للعار، فلا تبرحوا مصافكم، ولا تخطوا إليهم خطوة، ولا تبدأوهم بقتال، والزموا الصمت إلا من ذكر الله".
    ولمعاذ بن جبل: استشهد بقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55], وقال: "أنتم إن شاء الله منصورون، فأطيعوا الله ورسوله، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين، واستحيوا من ربكم، أن يراكم فرارًا من عدوكم، وأنتم في قبضته، ورحمته، وليس لأحدٍ منكم ملجأ من دونه، وليس فيكم متعززٌ بغير الله سبحانه"[1].
    - في الخطبتين نلاحظ الحث على الصبر، ووحدة الصف الإسلامي، والرغبة في الآخرة، وحتمية انتصار المسلمين، إن شاء الله، وتركيبة الجيش المسلم النفسية واحدة، مما أنتج هذا التشابه.
    من هذا التشابه الموجود في المعركتين، يطرأ سؤال، هل سنجد موقعة، أو معركة حربية كبرى قريبة ينتصر فيها المسلمون، ويمكنون في الأرض؟
    والإجابة بالتأكيد بالإيجاب؛ لأن الله I وعد بذلك، فنحن لا يهمنا الزمان، ولا المكان، وإنما نحن على يقين، بأن معركة ما قريبة، سينتصر فيها المسلمون -لا شَكَّ- على أعدائهم، ولكن ما يهمنا هو صفة هذا الجيش المسلم، وهو أنهم فرسان بالليل رهبان في النهار.
    ثم نعود بعد ذلك إلى أرض الشام، حيث يبدأ أبو عبيدة في تقسيم الشام إلى قطاعات أربع، يولي على كل قطاع رجلاً من المسلمين، وفي كل قطاع تتم تصفية جميع الجيوب الرومية المتبقية.
    هناك أقوال أنها كانت عام 13هـ.فتوحات الشام 1733_image002

    أوجه المقارنة والشبه بين اليرموك والقادسية:
    على ذكر القادسية، وتوجه المسلمين من الشام إلى العراق، نعقد مقارنة بين الجيشين، والمعركتين، وخاصة أنه هناك عدد من نقاط التشابه بينهما، (مثلما قدم ابن تيمية مقارنة بين الأحزاب، وبين حروب التتار) فعوامل النصر ثابتة، ولو تكررت هذه العوامل في جيش من الجيوش لا بد من تكرر النتائج.
    وكذلك فإن عوامل الهزيمة لو توفرت (حتى لو كان جيشًا مسلمًا) فإن النتيجة ستتحقق، فإذا تذكرنا هزيمة المسلمين الوحيدة في الشام التي كانت في مَرْج الصُّفَّر الأولى، وهزيمتهم الوحيدة في فارس التي كانت في موقعة الجسر، نجد أن أسباب الهزيمة متقاربة، أهمها: اختيار قائد غير محنَّك في القيادة، على الرغم من تميزه بالشجاعة والإيمان، (خالد بن سعيد في مرج الصفر، وأبي عبيد بن مسعود في الجسر), لكنهما افتقدا المهارة في القيادة، ولذلك اعترض البعض على توليهما إمارة الجيوش.
    جدول المقارنة :
    يفصل بين الموقعتين مئات الأميال، ولكن الشبه قريب بينهما:
    اليرموك - القـادسيـة
    الجيش الإسلامي: 32 ألف مجاهد - 32 ألف مجاهد.
    المدد: ألف بقيادة سعيد بن عامر - 6آلاف بقيادة هاشم بن عتبة.
    المـجـموع: 33 ألف - 38 ألف (من اليوم الثاني في القتال).
    القائـد العـام: أبو عبيدة بن الجراح - سعد بن أبي وقاص
    (وكلاهما من العشرة المبشرين بالجنة، ومن أوائل من أسلم من المسلمين، على يد أبي بكر الصديق t).
    قائد المعـركـة: خـالد بن الولـيد - خالد بن عرفطة
    لثقة أبي عبيدة في قيادته - (لأن سعد t كان مريضًا، وتملأ جسمه الدمامل؛ فارتفع فوق حصن يراقب المعركة، وهو نائم على بطنه).
    أهل بـدر: 100 منهم - 70 منهم يشاركون في المعركة.
    تقسيم الجيش: 38 كردوسًا (الكردوس من800 إلى ألف) - 10 أقسام.
    صفة الجيش الإسلامي: رهبـان في اللـيل، فرسـان في الـنهـــــار (وهي شهادة الأعداء قبل المسلمين، فهي شهادة الجواسيس المرسَلين من قِبَلِ الفرس والروم، في أرض المعركة) وهذه الصفة لو تحققت في أي جيش، وفي أي عصر من العصور، لتحقق لهم النصر دائمًا.
    طريقة تجميع الجيش: التـطـوع - يدعوهم الخليفة للجهاد، فيخرج من يريد منهم، وذكرنا ما حدث من نفور المسلمين في البداية من الخروج.. وكلهم يرجو الشهادة في سبيل الله.
    بعض الصحابة: الزبير بن العوام، سعيد بن زيد - سلمان الفارسي، النعمان بن مقرن، وإخوته العشرة (الأعراب). معاذ بن جبل، أبو هريرة، أبو الدرداء، عبد الله بن مسعود - عبد الله بن أم مكتوم (على الرغم من أنه ضرير) عمرو بن العاص، المقداد بن عمرو، أبو ذر الغفاري - وقد استشهد في اليوم الثالث من القتال. وعبد الله بن سلام (اليهودي الذي أسلم) - ربعي بن عامر (ومعروف حديثه مع رستم)، زيد بن صوحان (رجل تسبقه يده إلى الجنة). حنظلة بن الربيع، سعد بن عبيد، عطارد بن حاجب، سهيل بن عدي، أرطأة بن كعب (استشهد).
    ومن الصحابيات: هند بنت عتبة، أسماء بنت أبي بكر - الخنسـاء
    خولة بنت ثعلبة، جويرية بنت أبي سفيان.
    واشترك في المعركتين: القعقاع بن عمرو، وهاشم بن عتبة، المغيرة بن شعبة، عمرو بن معديكرب، قيس بن هبيرة، عياض بن غنم.
    جيش الأعداء: 200 ألف رومي - 240 ألف فارسي.
    نوعهم: روم وعـرب - فرس وعرب.
    القائد في المعركة: بـاهـان (أعظم قوادهم) - رسـتـم (أعظم قوادهم).
    وقُتِلا في أرض المعركة من خلال جندي غير معروف من المسلمين.
    أقوى أسلحتهم: الفـرسـان 80 ألف - الفِيَلَة (33 فيلاً).
    صفـة الجيشين: الإفسـاد في الأرض، والتسلط على الجنود.
    وهذا ديدن كل جيش، أو سلطة لا تُبْنى على عقيدة، أو إيمان، حتى وإن كان مسلمًا في ظاهره.
    طريقـة تجميع الجيش: الحديد والنار، إجباريًّا على كل بالغ حتى الشيخ الفاني!! ويسلسلون من يخشون هروبه.

    تابعونا ولا تفارقونا ...............
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: فتوحات الشام

    مُساهمة من طرف صادق النور الأحد أكتوبر 30, 2011 11:50 am

    فتح القدس ...............


    بعد أن انتصر المسلمون في اليرموك، أمر أبو عبيدة خالدًا أن يخرج في إثر الروم إلى أن وصل حمص، وأخذ أبو عبيدة جيشه إلى دمشق.
    قسم أبو عبيدة t منطقة الشام إلى مناطق أربعة، كالتالي:
    الأولى: دمشق وما حولها بإمارة يزيد بن أبي سفيان.
    الثانية: منطـقـة فلسطين بإمرة عمرو بن العاص.
    الثالثة: منطـقـة الأردن بإمرة شُرَحْبِيل بن حسنة.
    الرابعة: حمص وما حولها، بإمرته هو.
    وأخذ خالد معه إلى قطاع حمص؛ لأن بقية شمال الشام لم يفتح بعد، بالإضافة إلى أنه كره أن يعطيه إمرة أحد قطاعات الشام فيغضب عمر لذلك (لأن عمر قرر عزله، حتى لا يفتن الناس به).
    وكانت مهمة كل قائد في كل منطقة أن يطهر المنطقة من جنود الروم وأتباعهم، فبدأ كل أمير بتنفيذ تلك المهمة في قطاعه، وقضوا بقية رجب في ذلك..
    عمر بن الخطاب يتسلم مفاتيح القـدس:
    لما استسلم أهل (إيلياء / القدس) للمسلمين، اشترطوا عليهم أنهم لن يسلموا مفاتيح القدس إلا لرجل تنطبق عليه مواصفات خاصة، اختلف فيها في كتب التاريخ، وقيل إنها لم تكن من طلبات أهل القدس، ولكن ذكرت مواصفات جسمية لرجل معين، وأن اسمه يتكون من ثلاثة حروف، فوجد المسلمون أن هذه المواصفات لا تنطبق إلا على الفاروق عمر بن الخطاب t وأرضاه.
    فجاء عمر t، من المدينة المنورة ليتسلم مفاتيح القدس، واستخلف عليًّا t على المسلمين في المدينة المنورة. (يرد في كتب التاريخ أنه استشار عثمان، وعليًّا، فأشار عليه عثمان بألا يذهب، وأشار عليه علي بأن يذهب، وأخذ برأي علي).
    وهناك احتمال آخر، أن يكونوا قد أخذتهم العزة، ألا يسلموا تلك المدينة الحصينة، ذات القيمة العالية عندهم للجيش الإسلامي، فأحبوا أن يسلموها إلى أعلى قيادة في المسلمين، حتى يظل معلومًا أنها استعصت على جميع الجيوش الإسلامية، وبقيت حتى جاءها أمير المسلمين بنفسه، وتسلم مفاتيحها.
    وهناك رأي (رواية ثالثة) تذكر أن أهل القدس لم يطلبوا مجيء عمر، ولكن أبا عبيدة لما رأى صعوبة فتحها أرسل إلى عمر، لكي يأتيه بمدد يعينهم.
    في كل الأحوال، فإن الثابت تاريخيًّا أن عمر جاء من المدينة المنورة لفتح القدس بنفسه.
    وكانت الهيئة التي جاء بها عمر t مختلَفًا فيها أيضًا، هناك رواية مشهورة جدًّا نعلمها جميعًا، على الرغم من أنها رواية ضعيفة، لا توجد حتى في تاريخ ابن كثير، تذكر هذه الرواية، أنه جاء هو وغلامه على دابة وحده (وهو أمر مُستغرَب، لأن الدولة الإسلامية كانت غنية جدًّا آنذاك، بعد فتح الفرس، وانتصارات المسلمين المتوالية في الشام)، وكانا يتناوبان الركوب على الدابة، حتى وصلا إلى أرض الشام، واقتربا من الجيش الإسلامي، ورآهم الجيش، وبعض أهل القدس، فاعترضتهم مخاضة (أي وحل)، وكان دور عمر في المشي، ودور الغلام في الركوب، فأَصَرَّ عمر على أن يمشي، ويترك الغلام راكبًا دابته، ودخل هذه المخاضة بقدميه، خالعًا نعله.
    لما رأى سخرنيوس بطريرك القدس ذلك التصرف، قال: "إن دولتكم باقية على الدهر، وقال: فدولة الظلم ساعة، ودولة العدل إلى قيام الساعة".
    وهناك رواية أخرى تذكر أن أبا عبيدة بن الجراح لما رأى ذلك، ورآه يرتدي ملابس قديمة، فأسرع إليه، وقال له: يا عمر قد صنعت اليوم صنيعًا عظيمًا عند أهل الأرض، صنعت كذا، وكذا، (وقال له: إنك دخلت البلد بهذه الهيئة الرَّثَّة، ومشيت على الوحل) وأن هذا لا يليق بوالي المسلمين.
    فضربه عمر بن الخطاب t في صدره، وقال له: ولو كان غيرك قالها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذل الناس، وأحقر الناس، وأقل الناس، فأعزكم الله بالإسلام، فمهما تبتغون العزة في غيره، أذلكم الله!!.
    إذ لا يؤمن عمر بهذه المظاهر، والوجاهة الفارغة التي يهتم بها الروم، وإنما العزة لله وللمسلمين.
    وقد وردت هذه الرواية في كتاب لابن الجوزي، في سيرة عمر بن الخطاب t، ولم توجد عند العديد من المؤرخين، حتى إن رواية ابن كثير المشابهة لهذه الرواية، يذكر فيها أن عمر جاء على ناقته، فاعترضته مخاضة، فنزل من ناقته حتى يعبر على قدمه، ثم عاد وركبها مرة أخرى، ولم يأتِ ذكر الغلام.
    وهناك روايات أخرى (أعتقد أنها رواية الطبري في تاريخ الرسل والملوك)، تزعم أنه جاء t، بجيش لنجدة المسلمين، وقالوا: إنه كان على مقدمة هذا الجيش العباس بن عبد المطلب t، وأن هذا الجيش ذهب مستعدًا لفتح القدس ومحاصرتها مع الجيش الإسلامي الموجود في الشام.
    وبين هذين الرأيين أقوال كثيرة، وهناك من لم يتعرض لهيئة مجيء عمر أصلاً، ويذهبون إلى أن ذلك دلالة على أنه جاء في هيئة حسنة، لا تثير الاستغراب!
    لم يدخل عمر إلى القدس مباشرة، وإنما ذهب إلى منطقة الجابية وكان المسلمون هناك مستعدين لاستقباله، مع أبي عبيدة بن الجراح، وخالد، ويزيد، فرحبوا به ترحيبًا عظيمًا، وهمَّ أبو عبيدة أن يقبل يدَ عمر بن الخطاب، فهَمَّ عمر أن يقبل قدم أبي عبيدة, (وردت في الطبري) فكفَّ أبو عبيدة، فكفَّ عمر.
    وهو موقف يوضح لنا درجة التواضع التي كانوا عليها، رضوان الله عليهم أجمعين.
    وقام في الجابية يخطب خطبة طويلة عصماء، جاء فيها:
    "أيها الناسُ أصلحوا سرائركم تَصلُحْ علانيتكم، واعملوا لآخرتكم تُكْفَوْا أَمْرَ دنياكم"، وقال فيها أيضا: "فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد"، وقال أيضا: "ولا يخلون أحدكم بامرأة فإن الشيطان ثالثهما".
    نص العهدة العمرية:
    حضر والي القدس بعد الأرطبون من القدس إلى الجابية (وكان يُدعَى: العَوَّام)، واتفقا على صلح القدس، وكتب عمر بن الخطاب (العهدة العمرية)، التي حفظها التاريخ، وأجمع عليها صحابة رسول الله ، وهذا نصها:
    "بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحيمِ، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان -وإيلياء هي القدس- أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرَهون على دينهم، ولا يُضَارّ أحدٌ منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود, (نعم أيها المسلمون، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود, كان هذا طلب أهل القدس أنفسهم؛ لأنهم كانوا يكرهون اليهود بشدة -وكان اليهود يذبحون أسرى النصارى عند الفرس- حتى إنه في رواية أخرى للمعاهدة (ولو مرَّ بها يهوديٌّ، لا يبيت فيها ليلة) لأنهم كانوا يعادون اليهود عداءً حقيقيًّا), وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يخرِجُوا منها الروم، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصُلُبَهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا أمنهم، ومن أقام منهم فعليه مثل ما على أهل إيلياء، ومن شاء أن يسير مع الروم، سار مع الروم وهو آمن، ومن شاء أن يرجع إلى أهله، رجع إلى أهله، وهو آمن، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية، شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان وكُتِبَ وحُضِرَ سنة خمس عشرة".
    وهكذا كان صلحًا في غاية التسامح مع أهل المدينة، وكل من يسكن معهم فيها.
    وبذلك سُلِّمَتْ مفاتيحُ القدس لعمر بن الخطاب نفسه، وبدأت نفوس المسلمين في الجابية تشتاق إلى دخول الأرض المقدسة, ورؤية المسجد الأقصى، ورؤية مسرى رسول الله ، واستعدَّ المسلمون، وتحركت الجيوش لدخول القدس فتحًا.
    قطاع حمص:

    خرج أبو عبيدة من حمص إلى حماة، ففتحها، ثم اتجه إلى حلب، وحاصرها بضعة أيام، ثم نزل أهل حلب على العهد، وصالحوه على الجزية، وفُتِحَتْ بذلك حلب صلحًا، ثم توجه بعد ذلك إلى المنطقة المهمة مدينة أنطاكية، وهي مهمة؛ لأن هرقل اتخذها مقرًّا له في الشام، وذلك حتى يكون قريبًا من جيشه، وبعيدًا عن أراضي المعارك، (وهي مدينة من الشام، أخذها الاستعمار وأعطاها لتركيا).
    وكان هرقل قد فكر في الفرار بعد هزيمة الروم في اليرموك، وعلمه أن المسلمين يتجهون لحمص، ويستعدون لفتح شمال الشام.
    إلا أن الروايات اختلفت فيما فعله، البعض يذهب إلى أنه توجه إلى منطقة الرها شمالي الجزيرة (بين الفرات ودجلة)، حينما عرض نصارى تلك المنطقة مساعدته، فلما توجه إلى هذه المنطقة، وعلم عمر بذلك، أرسل رسالة إلى سعد بن أبي وقاص في القادسية، وأمره بأن يرسل من جيشه من يحاربه، فأرسل سعد عمر بن مالك t، ففتح عمر مدينة هيف، وقرقسياء ووصل قرب هرقل، فهرب هرقل إلى القسطنطينية.!!
    وهناك رواية أخرى تذهب إلى أنه ترك أنطاكية مباشرة، إلى القسطنطينية.
    وكان هرقل يحب سوريا جدًّا، حتى إنه عندما كان يذهب للحج في بيت المقدس، كان يمر على سوريا في طريق عودته، وكان يقف على تلٍّ عالٍ هناك ويقول:
    "عليكِ السلام يا سوريا، تسليم مودعٍ لم يقضِ منك وطرًا، وهو عائد!", أما هذه المرة فيقف على نفس هذه التلة، ويقول: "قد كنت سلمتُ عليكِ من قبل تسليم المسافر، أما اليوم فعليك السلام يا سوريا، تسليم المفارق، سلام مودع لا يرى أنه يرجع إليك أبدًا، لا يعود روميٌّ إليكِ أبدًا إلا خائفًا، عليك يا سوريا السلامُ ونعم البلدُ هذا للعدو"..
    وهكذا يودع هرقل سوريا وداعًا نهائيًّا، وكان يود لو لم يحارب المسلمين، وسلَّم الشام كلها دون قتال، إلا أن وزراءه أبوا عليه إلا الحرب!!.
    قبل أن يصل أبو عبيدة إلى أنطاكية، وعلى بعد نحو 5 أميال شرق أنطاكية، يلتقي بقوات رومية في منطقة مهروبة ويدور بينهما قتال سريع ينتصر فيه أبو عبيدة، وتتراجع القوات إلى حصون أنطاكية، وأنطاكية بها جبل يحيطها شرقًا، ومن الجهة الأخرى سورٌ عالٍ جدًّا، ولا شك أن هذا من أسباب جَعْلِ هرقل منها مقرًّا له، فيحاصر أبو عبيدة أنطاكية، ولا تصمد كثيرًا؛ فتستسلم، وتقبل الجزية..
    بعد أن فتح أبو عبيدة أنطاكية، تصله معلومات أن هناك مجموعة من القوات الرومية تجمعت في منطقة مَعَرَّة نصرين شمال شرقي حلب، فأخذ جيشه من أنطاكية إلى معرة نصرين فيدور هناك قتال سريع، وتُفتح معرة نصرين في النهاية..
    ثم ينتقل شمالاً إلى قورس ويفتحها صلحًا، وهي مدينة على الحدود السورية التركية، وبذلك يكون قد طَهَّرَ الشام كله من الروم، ولا يكتفي بذلك بل يأخذ جيوشه ويتجه شرقًا حتى يصل إلى منبج على نهر الفرات، فيفتحها صلحًا، ثم يتجه جنوبًا إلى مدينة بالس فيفتحها صلحًا.
    وبذلك ينتهي عام 15هـ، وقد تطهر شمال وشرق الشام تمامًا من الجيوش الرومية..
    في هذا الوقت تأتيه الأنباء أن عمرو بن العاص قد استعصى عليه فتح مدينة القدس، وكذلك يافا وقيسرية، ويكون في حمص بعض المدن التي لم تفتح بعد، فيُؤَمِّر أبو عبيدة بعضًا من قواده، ليتوجهوا إلى فتح بقية البلاد الحمصية، ويتجه هو إلى مدينة القدس.
    تخرج قوة من حلب تفتح مدينة بوقة، وتخرج قوة أخرى تفتح مدينة خُنَاصِرَة، وثالثة تفتح مدينة سرمين، ثم يستخلف أبو عبيدة على مدينة حمص عُبَادة بن الصَّامِت t وأرضاه (الذي قال عنه عمر: إنه رجلٌ بألف رجل), ويوصيه بثلاث مدن اللاذقية، وجبلة، وطرطوس، وكلها مدن ساحلية.
    فيتجه عبادة إلى اللاذقية، ويحاصرها فتستعصي عليه، ويأتي أهلَها مددٌ، فيحتال عبادة t لفتحها، فيَصُفَّ نصف جيشه صفوفًا أمام المدينة، ويجعل النصف الآخر مختبئًا خلفه، يحفر حفرًا عميقة، وخنادق طويلة، وأهل اللاذقية لا يعلمون عن ذلك شيئًا، ثم لما حفر تلك الحفر والخنادق، أخذ جيشه، في النهار، وتوجه باتجاه حمص، موهمًا أهل اللاذقية أنه ينسحب، ولما جَنَّ الليل عاد مرة أخرى..
    فتح بيت المقدس:

    بعد أن فتح عمرو بن العاص رفح، وانتهى من هذه المنطقة توجه بجيشه إلى القدس، وحاصرها، ومكث في حصارها مدة طويلة، وللقدس أهمية عظمى عند المسلمين كما نعلم؛ لأن فيها أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، وهي مسرى رسول الله ، وهي أرض إسلامية يحرص المسلمون على استعادتها دائمًا.
    بعد أن أعيت عمرو بن العاص t كل الحيل، على الرغم من أنه داهية العرب الذي قال عنه عمر بن الخطاب: "لقد رمينا أرطبون الروم، بأرطبون العرب، فانظروا عَمَّ تنفرج"، فكر في أن يحتال للأمر، فقام بدخول القدس بنفسه، باعتباره رسولاً من رسل المسلمين إلى أرطبون حتى يفاوضه، وغرضه أن يدخل فيبحث عن نقطة ضعف تمكنه من اقتحام تلك المدينة الحصينة، فذهب بنفسه، وبمفرده لأرطبون، وتحدثا سويًّا حديثًا طويلاً لم يرد في كتب التاريخ! ولكن يبدو أنه كان فيه مباراة ذكاء قوية جدًّا، لدرجة أن أرطبون الروم قال بعد انتهاء المناقشة: "والله إن هذا لعمرو، أو الذي يأخذ عمرو برأيه"؛ لأنه يعرف عمرو بن العاص، ويسمع عن دهائه ومكره، أو الذي يستشيره عمرو، ففكر في قتله، وقال: إنه لن يصيب المسلمين مصيبة أعظم من هذه، فأمر أحدَهم سرًّا أن يقتله، وشعر عمرو بفطنته بذلك، (وهناك من روى أن أحد العرب أَسَرَّ له بأنه سيقتل)، ففكر, كيف يخرج من هذا المأزق؟ فقال لأرطبون: إنني واحد من عشرة أرسلنا عمر بن الخطاب، لنعاون هذا الوالي (يقصد عمرو بن العاص) فإن أردت أن أذهب، وأعود إليك بالعشرة فتسمع منهم ويسمعوا منك، فإن وافقوا على رأيك، كان هو الرأي، وإن رفضوا عرفت أمرك! ففكر أرطبون أن عشرة أفضل من واحد، فتركه يخرج، فخرج عمرو، وبمجرد خروجه كبر المسلمون تكبيرًا شديدًا، فتعجب الروم، وعلموا أنه (عمرو بن العاص)، وقال أرطبون: "خدعني الرجل، والله إنه لأدهى الخلق".
    وحمد عمرو بن العاص الله على عودته، وقال: "واللهِ لا أعودُ لمثلها أبدًا"، إذ كان ذلك جرأة كبيرة منه، وكان بعد ذلك إذا أقسم قال: "والذي أنجاني من أرطبون"..
    أرسل عمرو إلى أبي عبيدة، ينبئه بتعذر فتح القدس عليه، فجاءه أبو عبيدة من مدينة بالس حتى يحاصر معه مدينة القدس، ثم جاء شرحبيل بن حسنة، ثم خالد بن الوليد من قنسرين حتى يحاصر معهم القدس، وحاصروها حصارًا شديدًا لشهور طويلة.
    ووجد أهل المدينة أن المسلمين مستمرون في الحصار، فلم يكن من أرطبون إلا أن هرب من القدس، وتوجه إلى مصر، ومكث هناك فترة طويلة، مع حامية الروم هناك، حتى جاءه بعد ذلك عمرو بن العاص في فتح مصر.
    (هذا القائد المحنك على الرغم من ذكائه، وسعة حيلته، إلا أنه يخاف على نفسه، فإذا به ينجو بنفسه، ويترك قومه للهلكة!! وفي المقابل نجد قادة المسلمين يضحون بأنفسهم، حتى يبحث عن نقطة ضعف العدو، وخالد، الذي كان يجعل علامة بدء القتال أن يبدأ هو، وكانوا دائمًا في مقدمة الصفوف، ولم يكونوا ليتراجعوا في أحلك الظروف، ارجع لموقعة الجسر مثلاً (إذ كان آخر المسلمين انسحابًا هو قائدهم).
    قطاع فلسطين:

    توجه عمرو بن العاص t من بيسان إلى مدينة سبطية شمال غرب نابلس، ( ويذكر أن فيها قبر سيدنا زكريا u)، ثم يتجه منها إلى نابلس، ثم جنوب غرب، يفتح مدينة اللد ومدينة عمواس، ثم توجه جنوبًا إلى بيت جبرين، مرورًا بأجنادين، ثم اتجه جنوبًا وفتح رفح، واتجه شمالاً مرة أخرى ففتح عسقلان على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، ثم يافا، وقيل: إنها استعصت عليه!! ثم توجه إلى قيسرية فحاصرها فترة واستعصت عليه، ولم يستطع أن يفتحها.
    وهكذا فإن في النصف الثاني من عام 15هـ استطاع عمرو بن العاص أن يفتح فلسطين كلها، باستثناء 3 مدن، هي (قيسيرية، ويافا، وأهمهم القدس, أولى القبلتين، ومسرى رسول الله ), استعصت تلك المدن على عمرو.
    وكانت أسوار القدس عالية، وكانت حاميتها -على الرغم من صغر عددها- صابرة على القتال، وكان قائد الروم عليها رجلاً يُضْرَبُ به المثل في الدهاء والمكر، وهو أرطبون وهو ذائع الصيت، يعرفه العرب حتى قبل الفتوحات، وضربوا به المثل في المكر والحيلة والدهاء.
    قطاع الأردن:

    فتح شرحبيل بن حسنة t مدينة سيفيه ثم مدينة جرش، ثم اتجه شمالاً وفتح مدينة أفيق، ثم فتح منطقة الجولان شمال شرق بحيرة طبرية، (هذه المدن التي كانت أرضًا للجهاد، ثم ها هي مدينة جرش اليوم، يقام فيها احتفالات غنائية، وسينمائية، في حين نجد الجولان في يد اليهود!!).
    أصعب مناطق الشام كان قطاع حمص: وفيه أرسل أبو عبيدة خالد بن الوليد لفتح قنسرين، وقال: إنه سيتوجه لفتح حلب، وكان في قنسرين على الرغم من صغرها حامية رومية قوية جدًّا، وفيها حصن ضخم، على رأسها، قائد من كبار قادة الروم، يدعى ميناس، وكان وزير هرقل، واتخذ من قنسرين مقرًّا له، فتوجه إليه خالد بن الوليد، ودار بينهما قتال شديد خارج حدود قنسرين، واستمر القتال فترة طويلة، وصبر الروم، حتى قُتِلَ ميناس، وعلى غير عادتهم ظلوا يقاتلون بعد مقتل قائدهم، (وهي المعركة الوحيدة التي صمدوا فيها) وفَنَوْا عن آخرهم! لم يتبق منهم أحد، ولم يفر منهم أحد، وكان شهداء المسلمين (في المقابل) قليلين جدًّا، فانتصر خالد انتصارًا عظيمًا في هذه المنطقة.
    كان هناك بعض العرب الموالين للروم في قنسرين، ولما هزم الروم، وقُتل قائدُهم هربوا، فحاصر خالد الحصن، ورفض القوم الخروج منه، فقال خالد: "لو كنتم في السحاب لحملنا اللهُ إليكم، أو لأنزلكم إلينا ", لما سمعوا هذا الكلام، ألقى الله في قلوبهم الرعب، فلم يكن منهم إلا أن استسلموا، وطلبوا الأمان، ومصالحة المسلمين على الجزية، فقبل منهم خالد ذلك، ولما بلغ ذلك عمر بن الخطاب t تعجب، وقال: "أَمَّرَ خالدٌ نفسه، يرحم الله أبا بكر، كان أعلم بالرجال مني! إني لم أعزله عن ريبة، لكن الناس عَظَّموه، فخشيتُ أن يُوكَلُوا إليه"، أي أن أداءه يفرض عليه أن يجعله أميرًا، ولم يكن عزله إلا أنه خاف أن يفتن به الناس، ويظنوا أن النصر من عند خالد، يقول ذلك بعد أن عزله بعامين، رضي الله عنهما، وأُمِّرَ على منطقة قنسرين، وبقي فيها t.
    قطاع دمشق:

    توجه يزيد من دمشق غربًا إلى بيروت، وعبر الجبال الشاهقة، (طريق وعر وشاق) وفتحها، ثم اتجه جنوبًا وفتح صيدا، ثم عاد لبيروت، واتجه منها شمالاً جبيل ثم توجه إلى طرابلس التي استعصت عليه، فتركها، وتوجه إلى عرقة على بحر الروم..
    وكان في مقدمة جيشه معاوية بن أبي سفيان t، لأول مرة، وهو الذي فتح طرابلس بعد ذلك، وساحل البحر الأبيض المتوسط كله، وينتهي به المطاف إلى ولاية الشام, وكانت منطقة دمشق من أسهل المناطق فتوحًا بشكل عام.

    اللهم أفتح علينا القدس كما فتحتة على أسلافنا ..

    تابعونا
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: فتوحات الشام

    مُساهمة من طرف صادق النور الأحد أكتوبر 30, 2011 11:53 am

    فتوحات الشام 1735_image002

    دخول عمر بن الخطاب القدس وأستكمال فتح الشام ....

    بعد أن عقد عمر t صلحًا مع أهل القدس، وأعطاهم الأمان، ما عدا اليهود؛ توجه t بجيشه من الجابية لدخول القدس، فلما اقترب منها، ورآها من بعيد صعد على جبل، وكبر، فكبر المسلمون، وسمي هذا الجبل بجبل المكبر، ودخل عمر t القدس ليلاً، وحينما دخل بحث عن كعب الأحبار t (الذي كان يهوديًّا ثم أسلم) وسأله عن مكان الصخرة (أي المسجد الأقصى) (وكان أمير القدس قد حاول أن يضلله عن مكانه) عن تاريخ الطبري: فقال: يا أمير المؤمنين اذرع من وادي جهنم كذا وكذا ذراعًا فهي ثَمَّ (هناك)؛ فذرعوا فوجدوها وقد اتخذها النصارى مزبلة كما فعلت اليهود بمكان القمامة وهو المكان الذي صلب فيه المصلوب الذي شبه بعيسى فاعتقدت النصارى واليهود أنه المسيح وقد كذبوا في اعتقادهم هذا كما نص الله تعالى على خطئهم في ذلك, والمقصود أن النصارى لما حكموا على بيت المقدس قبل البعثة بنحو من ثلاثمائة سنة طهروا مكان القمامة واتخذوه كنيسة هائلة بنتها أم الملك قسطنطين باني المدينة المنسوبة إليه واسم أمه هيلانة الحرانية البندقانية وأمرت ابنها فبنى للنصارى بيت لحم على موضع الميلاد وبنت هي على موضع القبر فيما يزعمون والغرض أنهم اتخذوا مكان قبلة اليهود مزبلة أيضًا في مقابلة ما صنعوا في قديم الزمان وحديثه فلما فتح عمر بيت المقدس وتحقق موضع الصخرة أمر بإزالة ما عليها من الكناسة حتى قيل: إنه كنسها بردائه، (وفعل ذلك معه الصحابة والتابعين) حتى طهر الباب فدخلوا إلى الساحة وصلى عمر t في محراب داود ركعتين تحية المسجد، ثم انقضى الليل، وجاء الفجر، فأَذَّنَ المؤذن لصلاة الفجر، وهي أول مرة يُؤَذَّن فيها في القدس الشريف.

    وصَلَّى عمر بن الخطاب بالناس، وصلى الركعة الأولى بسورة (ص) وسجد فيها سجدة داود، وصلى في الركعة الثانية بصدر سورة الإسراء، وبعد الصلاة عادوا لتنظيف بقية أنحاء المسجد، ثم قرر المسلمون بناء المسجد الأقصى، لأنه كان مجرد سور، بداخله مساحة واسعة فقط، فاستشار عمر بن الخطاب كعبًا: أين يضع المسجد؟ فأشار عليه بأن يجعله وراء الصخرة، (القدس شمال مكة، فلو بنى المسجد خلف الصخرة، عندئذٍ من يتجه نحو القبلة في البيت الحرام، ستكون الصخرة حائلاً بينه وبين القبلة) فضرب في صدره وقال: يا ابن أم كعب ضارعت اليهود (أي أن كعبًا كان يريد أن يجعل قبلة اليهود والمسلمين واحدة، إلى الصخرة!!) وأمر ببنائه في مُقَدِّم بيت المقدس "أمام الصخرة".

    تاريخ المسـجـد الأقصـى:
    تاريخ بناء المسجد الأقصى يعود إلى قديم الزمان، إذ بُني بعد المسجد الحرام بنحو 40 عامًا، لحديث أَبَي ذَرٍّ يَقُولُ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ أَوَّلِ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ؟ قال: "الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ".

    قُلْتُ: ثُمَّ أَي؟ قَالَ: "الْمَسْجِدُ الأَقْصَى". قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: "أَرْبَعُونَ عَامًا, ثُمَّ الأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ فَحَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاةُ فَصَلِّ". رواه مسلم

    والذي بنى المسجد الأقصى هو إبراهيم u غالبًا، ولم يُصَرَّحْ بذلك بوضوح، ولكن يُعْرَف من هذا الحديث؛ لأن إبراهيم u كان يعيش في أرض فلسطين، وهذا البناء بني في عصر سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

    كان دخول عمر بن الخطاب القدس في رجب من عام 16هـ، وهذا ربما يلفت أنظارنا أن حادثة الإسراء والمعراج حدثت في نفس الشهر عام 10 قبل البعثة، فيتكرر دخول عمر بن الخطاب القدس لتحريرها من الروم في نفس الشهر الذي أسري به الرسول إلى المسجد الأقصى، وربما يكون في ذلك إشارة (كما أن صلاح الدين الأيوبي فتح القدس في 27 رجب، وحررها بعد 91 سنة من احتلال الصليبيين).. وإن شاء الله يتكرر ذلك قريبًا.

    للمسجد الأقصى خاصية أنه يمكن للمسلم أن يسافر، ويشد الرحال إليه، وأنه مسرى رسول الله ، وأنه أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، وهذا تشريف كبير له، فلا يجوز أن يسافر المسلم من بلد لآخر بغرض الصلاة في أي مسجد غير هذه المساجد الثلاثة.

    عُرِفَ المسجدُ الأقصى في التاريخ ببيت المقدس، وأول مرة يسمى فيها بـ (المسجد الأقصى) عندما نزلت الآية الكريمة: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء: 1], فالله I هو الذي سماه هذا الاسم، والأقصى بمعنى الأبعد، أي الأبعد عن مكة، وهي أول مرة يذكر فيها، وبعدها عرف عند المسلمين بهذا الاسم.

    بذلك تسلم عمر بن الخطاب المقاليد، وتم فتح القدس، بعد نحو 4 أعوام من الحروب والمعارك المتلاحقة داخل أراضي الشام، وأصبحت أرض فلسطين منذ ذلك الحين أرضًا إسلامية.

    حقيقة الأرض الإسلامية:
    أي أرض حُكِمَتْ في فترة من الزمان، ولو ليوم واحد بالإسلام، أصبحت أرضًا إسلامية، حتى لو بَعُدَ هذا الزمان عنَّا بألف عام، تظل أرضًا إسلامية، ولا يهمنا في هذا الصدد التقسيمات الجديدة، وسيادة الدول على الحدود المصطنعة، فالدولة الإسلامية حدودها تصل إلى كل دولة حكمت بالإسلام، في وقت مـا، سواء كان ذلك من عام مضى أو من عامين أو من ألف وأربعمائة عام.

    فهذا ما نعتقده، وهذا ما نؤمن به، فأرض فلسطين كلها إسلامية، وليست مدينة القدس فحسب، على ما لها من أهمية أكبر، لوجود المسجد الأقصى بها، ولكن بقية المدن الموجودة في فلسطين كلها أرض إسلامية، بل حتى "تل أبيب" أرض إسلامية؛ لأنها مدينة مبنية على أرض إسلامية، يجب أن تحرر ممن يسكنها، سواء كان من يسكنها أحفاد القردة والخنازير، أو غيرهم.

    وعليه فإن الأندلس (إسبانيا) أرض إسلامية، مهما عاش فيها عُبَّادُ الصليب، أو عباد المسيح، ألف عام فهي أرض إسلامية، يجب على المسلمين تحريرها، فرض عين عليهم، ما دامت قد حكمت يومًا واحدًا بالإسلام، فكيف يكون الأمر إذا حكمت 8 قرون!!

    وكذلك أرض الهند أرض إسلامية، حتى لو عاش فيها عباد البقر ألف عام، أو ألفي عام، لن نتهاون في تحريرها، ولا يهمنا في هذا الصدد القانون الدولي الجديد، ولا النظام الدولي الجديد، ولا يهمنا القوانين والتشريعات التي وضعها اليهود، والنصارى، والملحدون، ومن شايعهم! ولا يهمنا في ذلك الولايات المتحدة أمريكية كانت أو غير أمريكية، ولا يهمنا في ذلك شرقٌ أو غرب! ولا يهمنا في ذلك شياطين الإنس والجن، هذا شرع الله I، ثابت لا يتغير, وجند الله ملتزمون بشرعه، ينفذونه في كل عصر وفي كل مكان..

    وهذا ليس أحلامًا ولا أوهامًا، وإنما هي عقيدة ومبادئ، سيحققها الله I يومًا مـا، ستحرر هذه الأراضي إن شاء الله كلها بالكامل، ستحرر الهند، وفلسطين، والأندلس, ستحرر كل البلاد التي حُكِمت بالإسلام من قبل, وسيأتي يوم تحرر فيه هذه البلاد جميعها، {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88].

    لكن لن يحرر هذه البلاد عميل خائن باع نفسه للشيطان، ولن يحررها قائدٌ متسلط، حمل البندقية ووجهها إلى صدر إخوانه وأهله!! لن يحررها قائد تخلى عن شرف القيادة، ولكن يحررها جيش عقيدة، كهذه الجيوش التي فتحتها، جيش يجعل من الإيمان السلاح الأول، ويجعل وجهته إلى الله I لا إلى الشرق، ولا إلى الغرب، مهما كانت قوة الشرق والغرب، ذلك الجيش الذي يحقق سلاح الإيمان بالله أولاً، ثم يسعى بعد ذلك إلى السلاح المادي، ويحققه، هذا هو الجيش الذي سيحررها، مهما ضعفت الإمكانيات، حتى إن كان سلاحه الحجارة، ستحرر هذه البلاد، ولو بحجارة من سجيل..

    فالله قادر على تحقيق ذلك، ولكن المهم أن يُوجَدَ جُندُ الله، الراغبون في تحرير هذه البلاد، وهي ستتحرر ولا شَكَّ..

    لم يتبق للمسلمين غير "قيسارية" و"يافا" في فلسطين، وكذلك الشام لم يتبق فيه إلا "طرابلس" ليصبح الشام كله مسلمًا، وبعد فتح القدس، عاد أبو عبيدة إلى حمص، وعاد خليفة المسلمين عمر بن الخطاب t إلى المدينة، وشرحبيل بن حسنة إلى الأردن، ويزيد بن أبي سفيان إلى دمشق، وظل عمرو بن العاص في فلسطين.

    في بقية هذا العام 16هـ يفتح معاوية بن أبي سفيان مدينة طرابلس، وكان على مقدمة جيش يزيد بأمر عمر بن الخطاب t.

    محاولات رومية لاسترداد حمص وصمود قيسارية:
    يأتي عام 17هـ ويكون أبو عبيدة في حمص آنذاك، وتفكر مجموعة من نصارى العرب، والروم الموجودين في الجزيرة (الموجودة بين دجلة والفرات) في الهجوم على المسلمين، فيتوجهوا بقوة لحصار حمص، وبها أبو عبيدة، فيقاتلهم أبو عبيدة وهو في حصنه، ويطول بينهما القتال، ولا يستطيع أن يفك الحصار، فتصل المعلومات إلى عمر بن الخطاب t، فيوجه الأوامر مباشرة إلى سعد بن أبي وقاص أمير العراق أن يرسل قوة من عنده لإنقاذ أبي عبيدة (وهذه فائدة أن تكون الدولة الإسلامية متحدة، وأن تعرف القيادة المركزية ظروف كل منطقة)..

    يرسل سعد بن أبي وقاص قوتين: الأولى لمحاربة منطقة الجزيرة نفسها، التي خرج منها المقاتلون، فأرسل ثلاثة جيوش، بقيادة سهيل بن عدي t، وعبد الله بن عبد الله بن عتبان، وعياض بن غنم، الذي قاد الجيوش الثلاثة، حتى الجزيرة، لكي يقطع المدد عن الجيش الذي يحاصر حمص، وأرسل قوة أخرى إلى حمص مباشرة، على رأسها القعقاع بن عمرو t القائد المنقذ, الذي قبل أن يصل إلى حمص بثلاثة أيام، بلغه نبأ انتصار المسلمين على الروم، وتمكَّن أبو عبيدة وجيشه من هزيمة الروم، وقتل عدد كبير منهم، وفرار الباقين.

    احتار المسلمين عندئذٍ كيف يوزعون الغنائم، وقد وصلهم جيش القعقاع بعد انتصارهم، أيشركون عَمْرًا في الغنيمة أم لا؟، فأرسلوا بذلك إلى عمر بن الخطاب, فرأى أن يُقْسَمَ له من الغنائم؛ لأن مجرد وجودهم قد أرهب الروم، كما أنهم لم يأت بهم إلا الجهاد، ونجدة المسلمين، وقسم لهم فعلاً من الغنائم.

    صمود قيساريــة:
    ولا يزال عمرو بن العاص t محاصرًا لقيسارية، وهي مستعصية على الفتح، منذ عام 16هـ، وذلك لأنها كانت من المدن الحصينة، وهي على حدود البحر الأبيض المتوسط، وبها حامية قوية جدًّا: 120 ألف مقاتل، تجمعوا بعد اليرموك، وكان الروم حريصين على بقاء جزء منهم داخل الأراضي الشامية، حتى يستطيعوا الدخول منه لحرب المسلمين، لكن بعد هزيمة الروم في حمص (الهزيمة الثانية)، لم يفكر الروم في الهجوم على المسلمين مطلقًا حتى هذه اللحظة، لكن قوة (قيسارية) التي لا تستسلم، ولا تهزم هي الوحيدة التي استعصت على المسلمين، وكانت (يافا) قد فتحت على يد معاوية بن أبي سفيان، بعد أن جاءت أوامر من المدينة ليزيد بذلك.

    وتنتهي سنة 17هـ دون سقوط قيسارية، وأصبحت هي المدينة الوحيدة في الشام كله التي لم تُفْتَحْ!!

    طاعون عمواس:
    وبحلول عام 18هـ يحدث حدث مروع، كارثة تحدث للمسلمين في أرض الشام، لم يسبق لها مثيل في تاريخهم..

    تلك هي (طـاعون عمواس) ذلك الذي أصاب كثيرًا من المسلمين، وكل من يصاب به يموت فورًا بعد 5 أيام على الأكثر، ولم يفلح أي نوع من الأدوية والعلاجات في علاج هذا الوباء الخطير.

    والطاعون في لغة العرب يحمل أي نوع من الوباء (لا يُشترط أن يكون المرض المعروف الذي تنقله الفئران والبراغيث) ولكن مِن وَصْفِ هذا المرض على لسان من رأوه، يغلب على الظن أنه هو المرض المعروف الآن باسم (الطاعون)، وقد انقرض الآن من الدنيا والحمد لله، (لكنه عاد في الهند) ينتقل عن طريق الفئران والبراغيث، وظل الطاعون في أرض الشام شهورًا، بل إنه انتشر من عمواس إلى مدن أخرى كثيرة، حتى إنه وصل إلى مدينة البصرة في العراق, ومات خلق كثير.

    كان عدد المسلمين في أرض الشام بعد الفتوحات، وبعد إسلام بعض أهل الشام، بين 30 و36 ألف مسلم، وقد توفي منهم في هذا الوباء الخطير ما بين 25 و30 ألف مسلم!! أي أن نسبة الوفاة بلغت 80 بالمائة من الجيش الإسلامي الموجود في الشام، فكانت كارثة عظيمة على المسلمين، لا تقارن بعدد شهداء المسلمين منذ بدء الحروب مع الكفار (من بدر) حتى لحظتهم هذه!!

    لما علم خليفة المسلمين عمر بن الخطاب t بهذه الكارثة أراد أن يستنقذ أبا عبيدة بن الجراح t، الذي كان قائد المسلمين في الشام، وكان يرى أنه لو مات أبو عبيدة، فسيكون ذلك مشكلة كبيرة لبقية الجيش الإسلامي الموجود في الشام،

    وكانت فتوحات المسلمين في فارس مستمرة، ولكنه أراد أن يستنقذ أبا عبيدة، حتى يحافظ عليه قائدًا لجيش المسلمين في أرض الشام، فأرسل له رسالة: "سلامٌ عليك، فإني قد عرضت إليَّ فيك حاجة، وأود أن أشافهك بها، فعزمتُ عليك، إذا نظرت في كتابي هذا ألا تضعه من يدك حتى تقبل إليَّ، فإن أتاك ليلاً، فلا تصبحْ حتى تركب إلي، وإن أتاك نهارًا، فلا تُمْسِ حتى تركب إليَّ".

    ولكن أبا عبيدة فهم رسالة عمر، وقال: "غفر الله لأمير المؤمنين"، وأرسل له رسالة، يقول له فيها: "يا أمير المؤمنين، إني قد عرفتُ حاجتك إليَّ، وإني في جندٍ من المسلمين، لا أجد لنفسي رغبة عنهم، فلست أريد فراقهم حتى يقضي الله فيَّ وفيهم أمره وقضاءه، فَخَلِّني من عزمتك يا أمير المؤمنين، ودعني في جندي".

    هذا هو أبو عبيدة أمين هذه الأمة، ونذكر ما قاله عنه الصديق t أثناء توديعه لحروب الشام، عندما قال له: ما دعوتك إلا أني أردت أن أخبرك بمنزلتك عند رسول الله ، فإني والله، بعد أن علمت هذه المنزلة، لا أعدل على الأرض أحدًا بك، أو بهذا الرجل (وأشار إلى عمر بن الخطاب) ونعلم ما فعله كذلك يوم السقيفة، حينما خَيَّر المسلمين بين أبي عبيدة، وعمر بن الخطاب، أن يبايعا أحدهما.

    فلما قرأ عمر بن الخطاب كتابه بكى، فسأله المسلمون، وهم يخشون أن يكون قد مات أبا عبيدة، فقال لهم: "لا، ولكن قـد..!!" أي إنه على وشك أن يموت!

    وهناك رواية أن عمر ذهب بنفسه إلى الشام، حول مدينة عمواس، وقد انتشر الوباء في أكثر من مدينة، فخرج إليه أبو عبيدة، ورفض عمر أن يدخل المدينة الموبوءة، فقال له أبو عبيدة: أتفِرُّ من قدر الله يا عمر؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة!، إنما نفر من قدر الله إلى قدر الله.

    أي إنه إنما يأخذ بالأسباب، فقضاء الله نافذٌ لا محالة، ولكن عمر لم يدخل مدينة عمواس، ورفض أبو عبيدة أن يعود معه، وعاد إلى داخل المدينة..

    وأرسل عمر إلى أبي عبيدة رضي الله عنهما رسالة أخرى فقال له: "سلامٌ عليك، أما بعد، فإنك أنزلت الناس أرضًا عميقة، فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة"..

    يرى أن الحل ربما يكون في تغير المكان، فلما وصلت الرسالة أبا عبيدة، استدعى أحد علماء الأرض، ومن الأدلة في أرض الشام وهو طارق بن شهاب البجلي، فقال له: اختر لنا منزلاً، فعاد طارق إلى بيته ليعد راحلته، فوجد زوجته قد أصيبت بالطاعون، وماتت، فرجع يبكي لأبي عبيدة، ويقول له: لقد أصيبت زوجتي بالطاعون، وماتت.

    وفاة أبي عبيدة ومعاذ ويزيد وشرحبيل رضى الله عنهم:
    فعزَّاه أبو عبيدة، ولكن ما إن ينظر طارق إليه حتى يجده قد أصيب في رجله وفي كفه بالطاعون، فعلم أنه أصيب، فسأله عن هذه الآثار، فعلم أبو عبيدة أنه قد أصيب، (وهذا ما كان يخشاه عمر)؛ فجمع أبو عبيدة الناس، وقام فيهم خطيبًا فقال: "إني موصيكم بوصية إن قبلتموها لن تزالوا بخير، أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا شهر رمضان وتصدقوا وحجوا واعتمروا وتواصوا, وانصحوا لأمرائكم ولاتغشوهم, ولا تلهكم الدنيا فإن امرءا لو عُمِّرَ ألفَ حَوْلٍ ما كان له بُدٌّ من أن يصير إلى مصرعي هذا الذي ترون، إن الله كتب الموت على بني آدم فهم ميتون، وأكيسُهم أطوعهم لربه وأعلمهم ليوم معاده والسلام عليكم". صَلِّ بالناس يا معاذ، ورد في خطبة أبي عبيدة في كتب التاريخ: أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة من ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم لنا حظًّا منه فطعن، فمات.

    استخلاف معاذ t:
    واستخلف معاذ بن جبل، ومات t وأرضاه، عن عمر يناهز ثمانية وخمسين عامًا..

    وكان قد أوصى أن يُدْفن في بيت المقدس، ثم عدَّل فيها، وقال: ادفنوني حيث مِتُّ، خوفًا أن تصبح سنة.

    وفاة معاذ:
    وقام معاذ بن جبل؛ فقال للناس: "يا أيها الناس توبوا إلى الله من ذنوبكم توبة نصوحًا فإن عبدًا لا يلقى الله تائبًا من ذنبه إلا كان حقًّا على الله أن يغفر له, من كان عليه دين فليقضه، فإن العبد يُرتهن بدينه, ومن أصبح منكم مهاجرًا أخاه فليصالحه، ولا ينبغي لمسلم أن يهجر أخاه أكثر من ثلاث وهو الذنب العظيم، إنكم أيها المسلمون قد فُجِعْتُم برجل ما أزعم أني رأيت عبدًا أبرَّ صدرًا , ولا أبعد من الغائلة (من الحقد للناس) ولا أشد حبًّا للعامة, ولا أنصح للعامة منه؛ فترحموا عليه رحمه الله واحضروا الصلاة عليه".

    فَصَلَّى عليه المسلمون، ودُفن t في أرض الشام في صباح هذا اليوم، ويسمع معاذ حينها مقولة تسري بين المسلمين، أن هذا الوباء "طوفان ورِجْز"، أي كالذي عُذِّبَ به آل فرعون، فغضب معاذ لذلك غضبًا شديدًا؛ لأن هذا ليس عذابًا من الله I، فجمع الناس جميعًا (في نهاية هذا اليوم، وهناك روايات أنه بعدها) فقال لهم: أيها الناس لو أعلم أني أقوم فيكم بعد مقامي هذا ما تكلفت اليوم القيام فيكم (أي أنه يخشى أن يموت قبل أن يبلغهم ما يريد، ويخشى أن يكون قد أصيب بالطاعون، وقد أُصِيبَ فعلاً) وقد بلغني أنكم تقولون هذا الذي وقع فيكم طوفان ورجز, والله ما هو طوفان ولا رجز، وإنما الطوفان والرجز كان عَذَّب الله به الأمم, ولكنها شهادة أهداها الله لكم، واستجاب فيكم دعوة نبيكم (أن تُوهب الشهادة لقومه؛ لأن الرسول يقول: إن المطعون شهيد، فقد مات أبو عبيدة شهيدًا، وكل من مات في هذا الطاعون شهداء).

    ومات معاذ بن جبل t، في يومه ذاك، وهو لم يبلغ الثامنة والثلاثين من عمره (وفي روايات 33 فقط) فلم يتأَمَّر على الشام إلا يومًا واحدًا في أصح الأقوال.

    ووصلت الأنباء إلى عمر بن الخطاب t في المدينة، فحزن حزنًا شديدًا، وبكى بكاءً طويلاً، حتى اخضلَّت لحيته بالدموع t، واحتار في الأمر، ثم كتب كتابًا، وأمر على المسلمين يزيد بن أبي سفيان، فأصبح يزيد أمير الشام كلها، وكان آنذاك لا يزال محاصرًا لقيسارية، بعد أن تركها له عمرو بن العاص، وكان معه في هذا الحصار معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، فتولى أمر المسلمين، وهو لا يزال حول قيسارية.

    وفاة يزيد وشرحبيل:
    وما هي إلا أيام حتى أصيب يزيد بن أبي سفيان t بالطاعون أيضًا، فسقط شهيدًا t، وهو أمير المسلمين الثالث، في غضون أقل من شهر.

    فتصل الأنباء إلى عمر، فيزداد حزنه، ويقرر أن يقسم الشام إلى قسمين: شمالي وجنوبي، جعل على القسم الشمالي معاوية بن أبي سفيان، وعلى القسم الجنوبي شرحبيل بن حسنة رضي الله عنهما، وما هي إلا أيام ويسقط شرحبيل بن حسنة t شهيدًا صريعًا للطاعون!!

    وجمع عمر إمرة الشام كله لمعاوية بن أبي سفيان، وكان ذلك عام 18هـ، وبقيت في يده بأمر عمر حتى خلافة الحسن بن علي t، وأحداث الفتنة, حتى أصبح أميرًا للمؤمنين عام 40هـ.

    لما عمَّ هذا البلاء على المسلمين، قام عمرو بن العاص خطيبًا في فلسطين، وقال: أيها الناس إن هذا البلاء ليس له حل إلا أن تهربوا في الشعاب، والأودية، والجبال..

    (لم يبق من المسلمين إلا 6 آلاف على أكثر تقدير)؛ فغضب لمقولته كثير من الصحابة، حتى إن أحدهم، واسمه أبو وائل الهذيلي t، قام لعمرو بن العاص وقال له: كذبت والله.

    عمر يرجع إلى الشام:
    خشي المسلمون بعد ذلك -لقلة أعدادهم- من بطش الأعداء، بعد هذا الطاعون، وخاصة أن الروم ذوو أعداد كبيرة، وعتاد ضخم، فداخل قيسارية يوجد120 ألف رومي!! وسبحان الذي ألقى في قلوبهم الرعب، ولم يخرجوا للمسلمين حتى هذه اللحظة، ولكن عمر بن الخطاب خشي على بقية الجيش الإسلامي، من أن يهاجمهم الروم، فبحث لهم عن المدد، وأعد لهم العدة، وذهب بنفسه t إلى الشام، فانقمعت بذلك قلوب الأعداء -كما يذكر ابن كثير- لأنه كان ذا رهبة كبيرة في قلوب الأعداء، وكان قد ذهب لهدفين رئيسيين:

    الأول: إرهاب الأعداء حتى لا يأتوا بالقوة لأرض المسلمين، بعد تهديدهم بهذه الكارثة الرهيبة.

    والثاني: هدف شرعي، وهو الفصل في تقسيم المواريث بين المسلمين، لأنهم احتاروا في تقسيم مواريث (25 إلى 30 ألفًا) متوفى، وقسم مواريث 25 ألف متوفى بنفسه، ومكث فترة في أرض الشام، في أواخر عام 18هـ، حتى زاد المدد، وازدادت شوكة المسلمين.

    ولم يحدث في هذا العام أي هجوم على المسلمين من الروم، على الرغم من أنها كانت فرصة سانحة، ومواتية تمامًا للقضاء على من تبقى من المسلمين.

    وممن استشهد في الطاعون: ابن عم رسول الله الفضل بن العباس t، وكذلك أبو جندل ابن سهيل بن عمرو t، الذي جاء إلى رسول الله بعد صلح الحديبية، وطلب أن يدخل في حلف المسلمين بعد أن أسلم، فرده رسول الله إلى أبيه..
    وكذلك الحارث بن هشام t، وهو أخو أبو جهل عمرو بن هشام، أسلم في فتح مكة، خرج للجهاد في الشام، في فتح الشام كما ذكرنا في اليرموك، وخرج في سبعين من أهله، فاستشهدوا جميعًا في طاعون عمواس، إلا أربعة..

    وتوفي أبو مالك الأشعري، ومات الكثير من أبناء خالد بن الوليد t, وابنا معاذ بن جبل وزوجته.

    معاوية يفتح قيسارية:
    بعد انقطاع الطاعون في أواخر عام 18هـ، بقي للمسلمين مدينة واحدة فقط لم تفتح حتى هذه اللحظة، وهي مدينة قيسارية، فيذهب إليها معاوية بن أبي سفيان بنفسه، وحاصرها مدة طويلة (بلغت 6 سنوات)..

    ويأتيه في ليلة من الليالي رجل من اليهود، اسمه يوسف، يقول له: أَمِّنِّي على نفسي، وأهلي ومالي، وأنا أدلُّك كيف تدخل هذه المدينة، فيُؤَمنه معاوية، فَدَلَّه على سرداب، تحت الأرض فيه المياه إلى حِقْوِ الرجل، وأخبره أن هذا المجرى من الماء يصل إلى داخل الحصون.

    فدخل معاوية وجيشه من خلال هذا السرداب ليلاً، ولما دخل الجيش كله، كبر معاوية؛ فكبر المسلمون، وقام أهل المدينة فزعين، وفوجئوا بوجود المسلمين داخل الحصن، فأسرعوا ليفروا عن طريق السرداب، فوجدوا المسلمين عنده، ودارت معركة قاسية جدًّا، ولم يكن جيش المسلمين يتجاوز الـ 17 ألف مجاهد، مقابل 120 ألف رومي!!! وكتب الله النصر للمسلمين، وسقط من القتلى داخل الحصن 80 ألف رومي، ولم يُسْتَشهد عدد يذكر من المسلمين، وهرب الباقون، فلاحقهم المسلمون، وقتلوا منهم 20 ألفًا آخرين.

    وتصل الأنباء إلى المدينة المنورة ليلاً، فيكبر عمر، ويكبر المسلمون فرحًا بهذا النصر المبين، بعد هذه المصيبة التي كانت قد ألمت بالمسلمين في أرض الشام، وتكون أول ليلة من الفرح، بعد ليال طويلة من الحزن لما حدث في طاعون عمواس.

    وبذلك تسقط آخر مدينة من مدن الشام، وأصبح الشام كله مسلمًا عام 19هـ.

    النصر قادم يأ1ن اللة ..................

    تابعونا
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: فتوحات الشام

    مُساهمة من طرف صادق النور الأحد أكتوبر 30, 2011 11:55 am

    فتوحات الشام 1737_image002

    ملخص فتح الشام ... وعبر وعظات ........

    نعود بالتاريخ إلى الصورة التي كان عليها الصحابة رضوان الله عليهم من قبلُ، ونقارن بينها، وبين ما وصلوا إليه في فتوح الشام، فنعود إلى غزوة الخندق في شوال عام 5هـ حينما اجتمعت الأحزاب من الجزيرة العربية وكان عددهم نحو 10 آلاف مشركٍ، وحاصروا المدينة المنورة، وقام الرسول مع الصحابة بعد مشورة سلمان الفارسي t بحفر الخندق، وكان الأمر شديدًا على المسلمين، وكان الحفر شاقًّا، والرسول يشارك الصحابة في الحفر، ولما استعصت عليهم بعض الأحجار طلبوا مساعدته، فأخذ الرسول المعول، ويضرب ضربة، ويقول: "بسم الله، الله أكبر، أُعطِيتُ مفاتيحَ الشام، والله إني لأنظر إلى قصورها الحُمْرِ"..
    وبشَّرَ الصحابة في ذلك الموقف شديد الصعوبة، بفتح الشام، ثم ضرب الثانية؛ فكسر آخر، وقال: "الله أكبر أُعطيتُ فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الآن"، ثم ضرب الثالثة، فقال: "بسم الله, الله أكبر"، فقطع بقية الحجر، فقال: "أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا", وتحصَّن المسلمون داخل المدينة، ولم يحدث قتالٌ يُذْكَرُ في هذه الغزوة؛ لأن المسلمين لم يخرجوا إليهم، لكثرة عددهم، وعتادهم، فلم يحدث إلا قتال يسير، لم تكن الصعوبة في حفر الخندق، وتحزب الكفار فحسب، وإنما الجوع، نتيجة ذلك الحصار، حتى إن رسول الله كان يربط حجرين على بطنه من شدة الجوع.. حتى إن أهل الخندق كانوا يُؤْتوْن بملء كفي شعير في اليوم.. بل كانوا يخشون للخروج لقضاء الحاجة!!، يصف الله حالتهم تلك، فيقول: {وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10، 11].

    وانتهت بنصر الله للمسلمين، ومن عودة قريش، قال رسول الله: "الآن نغزوهم، ولا يغزوننا"، منذ تلك اللحظة، وقد تقرر أن المسلمين هم الذين سيسيرون في أرض الله، يفتحون الفتوحات، وينشرون دين الله، فبعدها بعام يأتي صلح الحديبية، الذي يُعَدُّ الفتحَ الأول للمسلمين، وجاء بعد بيعة الرضوان التي كان عدد المسلمين فيها ألفًا وأربعمائة؛ فأَمِنَ الناس في الجزيرة العربية من القتال، وبدأ المسلمون ينتشرون للدعوة إلى الله، وبدأت القبائل تدخل في الإسلام بأعداد كبيرة، وأولى خطوات الرسول في الاتجاه نحو الشام كان في غزوة خيبر عام 7هـ، ولم يكن المقصود آنذاك فتح الشام، ولكنه أراد أن ينهي الوجود اليهودي في الجزيرة العربية، لأنه كان يُؤَلِّبُ كل الجزيرة العربية على المسلمين.

    كذلك أسلم في 7هـ خالد بن الوليد وعمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال عنهما رسول الله: "ألقت إليكم مكة بفلذات أكبادها"، وكان إسلامهما نصرًا عظيمًا للإسلام، وخذلانًا للشرك، وبعد إسلامهما بدأت في 8هـ أحداث أخرى مهمة، من تنفيذ علنية الدعوة، وإرسال رسائل إلى ملوك العالم تدعوهم إلى الإسلام، فأرسل إلى هرقل عظيم الروم، وكان هرقل يرى الحق مع الرسول إلا أن حاشيته ووزراءه صَدُّوه عن الإسلام، بعد هذه الرسل كان عام الوفود، ومقتل رسل الرسول في ذات أطلاح، ثم معركة مؤتـة عام 8هـ، وظهور خالد بن الوليد في قيادة الجيش، وتسمية رسول الله له بـ (سيف الله المسلول)، ومواجهته للروم، وانتصاره عليهم، وجمعه منهم الغنائم والسبي، وكان ذلك أول لقاء بين المسلمين 3 آلاف والروم 200 ألف!!

    بعد ذلك أرسل الرسول سرية ذات السلاسل بإمرة عمرو بن العاص، التي دوَّخَ عمرو فيها الروم، وانتصر انتصارات متكررة، وفي ذلك العام فتحت مكة، وبفتحها تسارعت الجزيرة العربية إلى الإسلام، وأسلم أبو سفيان وأبناؤه، وفي عام 9هـ وقعت غزوة تبوك، وقد سميت بغزوة العسرة، التي لم يحدث فيها قتال، وكانت العسرة في تجهيز الجيش, وقد فرَّ منه الروم.

    في صلح الحديبية وغزوة خيبر: المسلمون 1400

    في غزوة مؤتـة 8هـ: بلغ عددهم 3 آلاف. (تضاعف العدد)

    في رمضان 8هـ فتح مكة: 10 آلاف مسلم.

    وبعده بشهور في تبوك، بلغ عدد المسلمين 30 ألفًا!!!

    وهكذا دانت الجزيرة العربية، وكل شمالها لرسول الله ، وفي عام 10هـ أصبحت كل الجزيرة العربية إسلامية.

    وذهب رسول الله إلى الحج في حجة الوداع بـ (130 ألف مسلم ).

    عبر وعظـات من فتح الـشــام :
    - أهمية وجود دولة إسلامية، تقوم على أمر نشر دعوة الإسلام في أرض الله، فالجهاد في الإسلام ليس للدفاع عن أراضي المسلمين فحسب، وإنما لنشر دعوة الله في البلاد التي لم يصل إليها الإسلام، فإن وافقوا على الإسلام، فبها ونِعْمَتْ، وإن رفضوا فليس أمامهم إلا أحد أمرين: إما الجزية، وإما القتال.

    وهذا ليس معناه انتشار الإسلام بالسيف، وإنما هو إزالة هذه الحكومات الظالمة التي تحكم هذه البلاد وتمنع الناس من حرية العقيدة سواءً باختيار الإسلام أو غيره، وإبلاغ رسالة الله للناس كافة، وبعد ذلك {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29].

    - ومكونات الدولة الإسلامية، قائد وشعب، للقائد دور كبير، لمسناه في تلك الحروب، ويجب أن يخشى الله ويتقيه، ويعدل بين جنوده، ويتصرف بحكمة، ويتمتع بالدهاء العسكري والسياسي، يحب جنوده، ويهتم بهم، ولا يحملهم فوق طاقتهم، ولا يتميز بينهم, كأبي عبيدة وخالد وعمرو ومعاوية.

    يمتلك نظرة ثاقبة، لو فاوض المشركين لا يخدعونه، ماهر في اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، غير متردد، شجاع لا يهاب الموت، يعلم أن الله هو المتكفل بالرزق، وهو المتكفل بالأجل، يستطيع أن يواجه جيشًا أكبر من جيشه بأضعاف مضاعفة، يثق في نصر الله له، مادام آخذًا بالأسباب.

    فنجد أن فكرة القائد، ورحمة القائد، وخطة القائد كان لها دور كبير في النصر، ولكن القائد الناجح لا يستطيع أن يقود شعبًا فاشلاً، إن الشعب الناجح أهم من القائد الناجح، فلكي يخرج قائد ناجح، يجب أن يكون الشعب ناجحًا، مربى على الإسلام، فالشعب الذي يثور ويغضب لغياب رغيف الخبز، ولا يثور، ولا يغضب لغياب الشريعة الإسلامية، هو شعب فاشل!!

    الشعب الذي يبكي زعماء وعظماء ليسوا في ميزان الله في شيء (مثل نجوم الغناء والسياسة الزائفين!!) ولا يتأثر باستشهاد أعداد غفيرة من المسلمين في كل بقعة من أراضي المسلمين (أفغانستان، وكشمير، والعراق، وفلسطين، وغيرها!!!) هو شعبٌ فاشــل!!

    ذلك الشعب لا يمكن أن يكون فيه قائد ناجح، والقائد الناجح لا يمكن أن يقود شعبًا كهذا!! ونحن نريد شعبًا ناجحًا، شعبًا يضع الإسلام في مقدمة أولوياته، نصب عينيه، نرى في خالد بن الوليد ذلك القائد الناجح البارع عسكريًّا، وهو قائد تقي، يخشى الله ، نراه في موقعة اليرموك ينتصر بفضل الله، ثم بمهارة الجنود المسلمين البارعين في القتال، الواثقين بنصر الله ، المطيعين لقائدهم, فخطته اعتمدت اعتمادًا أساسيًّا على ثبات المسلمين، وصبرهم، وقوة تحملهم، الذين من دونهم ما كان لابن الوليد أن يحقق ذلك النصر العظيم.

    وفي المقابل، نجد قائدًا من أنجح قواد العالم، منذ بدء الخلق، النبي الموحى إليه، كليم الله (موسى) u، ووزيره نبي الله (هارون)، لديه مقومات يستحيل توفرها في أي قائد من القادة، ومع ذلك قاد شعبًا فاشلاً (بني إسرائيل)، فاستعصت عليه قيادة هذا الشعب الفاشل، لما أنجاهم الله من الغرق، وأنجاهم الله من فرعون، خرجوا فوجدوا قومًا يعبدون عجلاً، فقالوا له: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]!! وقالوا له: {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} [الأعراف: 129]، وقالوا له: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]!! وأمرهم بدخول القرية للجهاد، فقالوا له: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]!!، تركهم وذهب إلى ربه، فعبدوا العجل في وجود نبي الله هارون بينهم، إنه شعب فاشل، أمة منحطة، هي أمة اليهود، بذل معهم نبي الله موسى u كل ما في وسعه، ورغم ذلك استعصت عليه قيادة هذا الشعب الفاشل!!

    ولا ينبغي أن نقلل من أهمية القائد، فقد رأينا في موقعة مرج الصفر الأولى كيف أن المسلمين قد هُزِمُوا فيها لغياب الحكمة في القيادة، وهُزِمُوا في موقعة الجسر بأرض فارس لغياب القائد المحنك، فالقائد الناجح مهم، ولكن الأهم من القائد الناجح الشعب الناجح، الذي يخرج منه ذلك القائد الناجح، وخالد بن الوليد خير مثال على ذلك، لم ينتصر على المسلمين في أحد إلا بخطأ المسلمين، ولم نرَه يتتبع المسلمين ويحاربهم بعد ذلك خارج حدود المدينة، بل تتبع المسلمون المشركين في اليوم التالي في حمراء الأسد، وفَرَّ المشركون من أمامهم، ولم يظهر خالد بن الوليد في كل هذه الأثناء، ولم يبد أنه ذلك القائد البارع المظفر، إلا بعدما قاد جيشًا قويًّا ناجحًا، هو جيش المسلمين..

    كذلك الأمر مع عمرو بن العاص t، قبل إسلامه قضى 57 سنة في الجاهلية، عُرِفَ فيها بالدهاء والحكمة، ولكنه لم يبرز في التاريخ إلا بعد أن أسلم، وأصبح من قادة المسلمين..

    أبو جهل كان من كبار القواد في مكة، إلا أنه لم يُذكَر في التاريخ، وكذلك أبو سفيان، نراه وهو مشرك، يقف أمام "هرقل" ذليلاً، يحاول أن يطعن في رسول الله، فيعجز، فلما أسلم كان من الذين يحمسون المسلمين.

    وفـاة الرسول وبداية الفتوحـات :
    في بداية عام 11هـ تحدث مصيبة وفاة رسول الله, ثم خلافة أبي بكر، وإنفاذ بعث أسامة بن زيد, فحروب الردة, وموقعة اليمامة, ثم القضاء على المرتدين تمامًا, ثم تبدأ حرب المسلمين مباشرة في فارس أواخر عام 11هـ, حروب فارس وبدأت حروب فارس في محرم 12هـ، التي فَتحَ جنوبها خالد بن الوليد، وكل العراق بعد ذلك، حتى رجب 12هـ.

    - بعد خروج المسلمين لحرب الفرس بنحو 5 أشهر، في رجب 12هـ تبدأ فتوح الشام، بجيوش يزيد بن أبي سفيان، ثم شرحبيل بن حسنة، ثم جيش "أبو عبيدة بن الجراح" متتالية، وتوجهوا إلى منطقة الشام، وعسكروا شرقيها، وحاصروها على مراحل مختلفة، ثم دارت عدد من المعارك منذ شعبان 12هـ حتى نهاية هذا العام، موقعتي العربة وداثنة، وانتصر فيهما المسلمون، ثم موقعة مرج الصفر الأولى التي هزم فيها المسلمون، وكان على رأس المسلمين فيها خالد بن سعيد t، (وكانت هذه الهزيمة بسبب اختيار قائد غير ماهر في القيادة، على الرغم من شجاعته وبأسه) فمن بداية شهر شعبان، حتى نهاية عام 12هـ نحو 5 شهور، هناك انتصاران صغيران وهزيمة، فلم تكن البدايات قوية، كما كانت في فارس، ثم رأى أبو بكر أن يوجه خالد بن الوليد لنصرة المسلمين ومساندتهم في الشام.

    في حين اختلف معه عمر بن الخطاب في ذلك، ورأى أن خالدًا يجب عزله، لأن المسلمين فُتِنُوا به، ولأن في سيفه رهقًا.

    تحرك خالد بجيشه 9 آلاف من الحيرة في صفر 13هـ، إلى دمشق، متخذًا طريقًا وعرًا وسريعًا هو (صحراء السماوة)، وبمجرد وصوله لأرض الشام، وقبل أن ينضم لجيوش المسلمين، قام بفتح كل المدن التي واجهته، وكانت (أرك) و(تدمر) و(القريتين) و(حواريين)، ثم (مرج راهط)، فانتصر في خمس مواقع متتالية في شهر صفر من هذا العام المهم جدًّا في فتح الشام.

    ويصل إلى مرج راهط، وتأتيه العيون بالأخبار عن تجمع الروم بكثرة في أكثر من منطقة، فأراد أن يقابلهم في (بُصْرَى)، حيث الحامية الرومية قوية، مستعصية أمام شرحبيل بن حسنة t، فرأى أن يجمع كل جيوش المسلمين المتفرقة، ليلتقوا في بصرى، وبالفعل تتجمع كل الجيوش في بصرى، وتتقابل لأول مرة، وتلتقي مع الجيش الذي وصل للشام بقيادة عمرو بن العاص، وتجتمع الجيوش الأربعة، بإمرة أبي عبيدة، فلما جاء خالد، سُلِّمَتْ له الإمارة بأمر أبي بكر الصديق t، فأصبح منذ هذه اللحظة (من صفر 13هـ) أمير أمراء فتح الشام، الجيوش الخمسة، والتقى المسلمون في موقعة بُصرى مع الروم، وانتصر المسلمون بفضل الله I.

    وقبل فتح الحصن استسلم الروم، وصالحوا المسلمين على الجزية، في ربيع الأول، بعد ذلك تجمعت قوات أخرى للروم في أكثر من مكان، وكان أشهر التجمعات في (جِلَّق)، شمالي فلسطين، واختارها خالد بن الوليد ليبدأ بها القتال، إذ إنها كانت أكبر المجموعات، بلغ قوامها 100 ألف مقاتل، في حين كان إجماليُّ جيوش المسلمين 33 ألف مجاهد.

    فذهب ليقابلهم في (جلق)، ولكنهم تحركوا للقاء المسلمين، فتقابل الجيشان في (أجنادين) ودارت رحى معركة من أهم، وأقوى معارك المسلمين، والتي كتب الله فيها للمسلمين نصرًا عزيزًا مؤزرًا.
    بعد أجنادين يعود خالد بجيشه، ويفكر في حصار دمشق، وفي طريق عودته يلتقي بجيش رومي (40 ألف مقاتل)، فيهزمهم شر هزيمة في (مرج الصفر الثانية).

    وينتصر المسلمون نصرًا عظيمًا يمحون به مرارة هزيمتهم في نفس المكان من قبل.

    ثم ذهب خالد مع جيوش المسلمين لحصار دمشق للمرة الأولى، وفي جمادى الآخرة من عام 13هـ، يحدث حدث مهم جدًّا عند المسلمين، بعيدًا عن الشام، وهو وفاة الخليفة الصديق (أبو بكر) t في المدينة.

    ويخلفه عمر بن الخطاب الفاروق t، الذي يأمر بعزل خالد بمجرد توليه الخلافة، وتولية أبي عبيدة قيادة جيوش الشام، ولكنَّ أبا عبيدة يرجئ هذا العزل قليلاً، ثم يتولى أبو عبيدة قيادة الجيوش، حتى نهاية 13هـ، حيث موقعة بيسان التي كان خالد في مقدمة جيش المسلمين فيها، وهو الذي وضع خطة هذه المعركة، على الرغم من أن الجيوش كانت تحت إمرة أبي عبيدة، رضي الله عنهما، واستطاع بحكمته ودهائه أن يستدرج الروم إلى منطقة يصعب عليهم القتال والفرار منها، ونفذ خطة حكيمة للغاية، واستطاع بجيش قوامه 25 ألف مجاهد، أن يتغلب على أكثر من 80 ألف رومي، في 28 من ذي القعدة عام 13هـ، وفي هذه الموقعة لم يفلت من الروم إلا الشريد.

    13هـ: انتقل خالد بن الوليد من العراق إلى الشام، وفتحه لخمس مدن متتالية صغيرة، فتح بصرى، انتصار أجنادين، ثم انتصار مرج الصفر الثانية، ثم عزل خالد، ثم تولية أبي عبيدة، ثم موقعة بيسان.

    العام التالي (14هـ) كان أهم أحداثه: فتح دمشق التي استعصت على المسلمين كثيرًا، وفُتِحَتْ بعد 4 شهور.

    تم بحمد اللة

    لا تنسونا بصالح دعائكم بارك اللة فيكم ...................

    فتوحات الشام 97a5ea936d

      الوقت/التاريخ الآن هو الإثنين أبريل 29, 2024 6:52 pm