الشيطان ورمضان
يقول عنه أبو هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دخل شهر رمضان، فُتِّحت أبواب الجنة، وغُلِّقَتْ أبواب النيران، وصُفِّدَتِ الشياطين))؛ رواه البخاري ومسلم.
إذًا أيها المسلمون، نَفْهَم مِن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ((وصُفِّدت الشياطين))، نفهم منه أنَّ لهذه المخلوقات الشِّريرة منَ القُوَّة، والغَلَبة، والتأثير السَّريع، ما يحتاج المسلم معه إلى أن يُصَفَّدوا عنه في هذا الشهر المبارك؛ لأجل ألاَّ يخلصوا فيه بِشَيء كما يخلصون في غيره؛ بل كما يقول ابن القيم - رحمه الله -: "لأنَّ في الصَّوم تَضْييق مجاري الشيطان منَ العبد، بتضييق مجاري الطَّعام والشَّراب"، انتهى كلامه - رحمه الله -.
فلا غَرْو إذًا أنْ نُيَمِّمَ الحديث في عُجالةٍ وإطنابٍ شديدينِ، عنِ الشيطان والشياطين، أعاذنا الله وإياكم مِن هَمَزاتهم، وأعاذنا الله أن يحضرونا.
الشياطين - يرعاكم الله - جمع شيطان، والشيطان هو كافِر الجن ومُتَمَرّدهم، فإنَّه لم يذكر في النُّصوص الشرعية إلاَّ في موطن الكفر والذَّم، وما في معناهما، ويُطْلق هذا الاسم على إبليس وذُريته، وهو الاسم العَلَم الذي عُرِف به، وهو أصل الجن، كما أن آدم - عليه السلام - أصل الإنس، بِذَلِكُم قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - وغيره منَ المُحققينَ، والمُطالِع لما جاء في نصوص الوحيينِ عنِ الشياطين والشيطان، يعلم أنهم خَلْقٌ خُلِقوا مِن نار، يعقلون ويسمعون، ويُدركون ويَتَحَرَّكون، وليسوا كما يقول بعض مَن لا عِلْم لَدَيْهم من مُتَفَلْسِفَة، أَلِدَّاء في الخِصام: إنَّهم رُوح الشَّر، مُتَمَثِّلينَ في غرائز الإنسان الحيوانيَّة، التي تَصْرِفهم عنِ المُثُل الرُّوحيَّة العُليا ونحوها، زعموا.
الشيطان - أيُّها المسلمون - له قُبْح في المَنْظر، ودَمَامة في الصُّورة مُرَوِّعة، وكفاكم من شَرٍّ سماعه، ولو لم يأتِ في ذلك إلاَّ أنَّ الله - جل وعلا - شَبَّه ثِمار شجرة الزَّقُّوم به، كما في قوله: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} (الصافات: 64، 65)، وفي صحيح مسلم عنِ ابن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تحرَّوا بِصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها، فإنها تطلع بِقَرْني شيطان)).
لقد خَلَق الله الشيطان منبعًا للشَّرِّ والآثام، وقائدًا إلى الهلاك الدنيوي، والخسران الأخروي بكل وسيلةٍ، {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (النور: 21)، ورَحِم الله ابن القيم حيثُ قال: "في خَلْق إبليس وجنوده منَ الحِكَم، ما لا يحيط بِتَفْصِيله إلا الله، {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} (الإسراء: 62)، فيا لله، إلى مدىً حَقَّقَ الشيطان مُرَادَه من بَنِي الإنسان؟!
إنَّ أولياء الشيطانِ لَتَعُجُّ بهمُ الحياة عند كُلِّ مَرْصد، قُعَّادًا بِكُل صراطٍ، يَعِدُونَ، ويَصُدُّون عن سبيل الله مَن آمَن يبغونها عوجًا، يرفعون رايتَه، ويشيعون مآرِبَه، ويَسْعَوْنَ في الأرض فسادًا، والله لا يحبُّ المُفْسِدينَ، ولقد صَدَق الله: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} (الإسراء: 64).
أمَا إنَّه لا أذل على مدى هذا التَّحقير، إلاَّ ما ثَبَتَ عند البخاري في صحيحه: ((أنَّ الله يأمُرُ آدم يوم القيامة، أن يُخْرِجَ مِن ذُريته بَعثَ النار، فيستَعْلِم آدم عَن هذا المقدار، فيقول له ربُّه: تسعة وتسعون إلى النار، وواحدٌ إلى الجنة))، وفي رواية: ((تسعمائة وتسعة وتسعون في النار، وواحد في الجنة)).
أَوَّاه، أَوَّاه - أيها المسلمون - ما أعظم المِحْنة، ولا إله إلا الله، ما أمْكَنه من نُفُوس بني آدم، {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (سبأ: 20).
يقول الله - جل وعلا -: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (فاطر: 6).
بِذَلكم - عِباد الله - يُبَيِّن الله جانِبينِ هامَّينِ:
أولهما: عَدَاوة الشَّيطان، إنَّها عداوة حقيقيَّة، لا يُخَالِجها شكٌّ أو ريبة، كَتَب الله لها الدوام إلى قيام الساعة؛ لكنه في الوقت نفسه لا تعدو كونها حقيقةً نظريَّة مُجَرَّدة، إن لم نحن نَلْتَفِت إلى الجانب الآخر المهم، وهو الجانب العملي التطبيقي، ألا وهو قوله - سبحانه -: {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}.
إنَّنا - أيها المسلمون - لا نَخْشَى على النُّفُوس الكافِرة منَ الشَّيطان، فتِلْكمُ نُفُوسٌ مُظْلِمة، قد ضربَ الشيطان أطنابَه فيها ورتع، حتى تَوَلَّتْه وأَلِفته، ولكن الخوف كل الخوف، والخشية كل الخشية، على أنْفُسٍ مسلمة، لم تحسبْ للشيطان حسابًا في واقِعها، وباتَتْ غَافِلة عنه، غير آبِهة بِمَكْره وأَلاَعِيبه هو وجنده، وهي وإن كانت معترفة بِقَابليتها لِأَلاعِيبه وإغوائِه؛ لكونها غير معصومة، إلاَّ أنها نفوس اعتقد أهلُها أنهم مُعَقَّمُون عنِ الشيطان والشياطين بِمَصْل ضد مَكْره، مَحْمِيُّون عن آثارِه وإفساده، بعد أن كَوَّنُوا حولهم هالَةً زائفةً منَ الاطمئنان لأحوالهم وأوضاعهم الركيبة، على الاكتفاءِ بِظَواهر طفيفةٍ منَ الإسلام، حتى أمْسَوا وكأنَّما يحملونه هو الإسلام فحسب، مما يحرمهم ولا شك مِن إصلاح أَخْطائهم من جِهة، ومن الاستفادة منَ الصواب، الذي يأتي به الغَيْر من جهة أخرى.
ألا إنَّ مِن أمكر حِيَلِ الشيطان، أن يُقنعنا بِعَدم وجوده، ليس عدم وجودِه في عِلْم الواقع، بل عدم وجوده داخل أنفسنا، وهذا هو الشَّلَل الأخلاقي بِعَيْنه، وهو الارتضاعُ مِن ثَدْي الهوى بعد الفِطام، مع أنَّ الرضاع إنَّما هو للطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء، والذين يَتَضَوَّرُون على مَرارة الفطام، ولا جَرَم - عباد الله - فالهوى مكايد، وكم من صِنْديد في غُبار الحرب أُغْتِيل، كيف لا؟ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنَّ الشيطان يَجْري من ابن آدم مجرى الدَّم))؛ رواه البخاري ومسلم.
إنَّنا - أيها المسلمون - حينما نُحَذِّر منَ الشيطان وجنوده، ونُلْقِي الضَّوء على هُوَّة التَّبعات، وسوء المغَبَّات من جَرَّاء ذلك، فإننا لَنَذْكر بِصِدق على أن من قَوِي إيمانه، وأخلص لربِّه، كان قَهْره للشيطان قاب قوسينِ أو أدنى؛ لأنَّ كَيْد الشيطان كان ضعيفًا، وما أسرع ما يذل أمام القُوى، وما أعجل ما يَفِر مِن صاحب العزيمة وولي رَبِّه؛ لأن البقاء المستمر في طاعة الله، وذكره الدائم على كل حالٍ كفيلٌ بالتَّخفيف مِن ثورة الشيطان، أو إضعاف مَكْرِه وتَرَبصه على أقلِّ تقدير؛ بل وَحَوْر كوره.
ومن ثَمَّ تشخص أحداق المستقِي تعجُّبًا لِمَا يرى من ضَعْف الشيطان أمامه، فلا يلبس أن يوقنَ أنه إنَّما كان مُسْتَثْمِنًا ذا ورم، كان رجلٌ رديف النَّبي - صلى الله عليه وسلم - على دابَّة فعثرت الدابة بهما، فقال الرجل: تَعِس الشيطان، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقل: تَعِس الشيطان، فإنه عند ذلك يَتَعَاظَم حتى يكون مثل البيت، ولكن قل: بِسْم الله، فإنه يصغر عند ذلك، حتى يكون مثل الذباب))؛ رواه أحمد، وأبو داود.
وحكى ابن القيم - رحمه الله - عن بعض السَّلَف بأنهم قالوا: "إذا تَمَكَّن ذِكْر الله وخشيته مِن قلب المرء، فإن دنا منه الشيطان صرعه الإِنْسي، كما يُصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان، فيجتمع عليه الشياطين، فيقولون مال هذا؟ فيقال: قد مَسَّه الإنسي"، أتَعْجَبُون من كلام ابن القيم - عباد الله؟ ألا فاستمعوا إلى ما رَوَاه الإمام أحمد في مسنده، عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إنَّ المؤمن لينضي شيطانه كما ينضي أحدكم بَعِيرَه في السَّفَر))، قال ابن كثيرٍ - رحمه الله -: "معنى لينضي شيطانه: ليأخذ بناصيته فيغلبه ويقهره، كما يفعل بالبعير إذا شَرَد ثم غلبه.
وروى الحاكم والبَيْهَقِي بإسناد حَسَن أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّ الله - تعالى -مع القاضي ما لم يجر، فإذا جارَ تَبَرَّأ منه، وألزمه الشيطان))، ورضي الله عن الفاروق خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول له قدوته: ((والذي نفسي بيده ما لقيكَ الشيطان سالِكًا فَجًّا، إلاَّ سَلَكَ فَجًّا غير فَجِّك))، والذي عليه إجماعُ الأمةٍ - قاطبة - أنَّ عُمَر - رضي الله عنه - لم يكن على شريعةٍ غير شريعة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن نبيًّا مُرْسَلاً، ولا مَلَكًا مُقَرَّبًا؛ ولكنه إيمان ويقينٌ، وقوة في الحق، ودحر للباطِل، والله الهادي إلى سواء السبيل.
:
لَمَّا عَلِمَتِ الشياطينُ أنَّ المدارَ في أمور العِبَاد على قُلُوبهم، والاعتماد عليها بعد الله في قُرْبهم وبُعْدهم منَ الخير أوِ الشَّر، أجلبوا عليهم بالوساوس، وأقْبَلُوا بِوُجوه الشهوات إليهم، وأمدُّوهم بما يقطعهم عَنْ أسباب التَّوفيق، ونصبوا لهم منَ المصائدِ والحبائلِ ما لو سلموا من الوقوع فيها، لم يسلموا مِن أن يحصُلَ لهم بها التَّعويق؛ فيوقعوهم في متاهاتِ الوساوس، والشُّكوك في العبادات ومعاملات الناس، والعبادة أخطر وأَدْهى.
فكم هم صَرْعى الشياطين في هذا الميدان، وكم هم أهل الوَسَاوس، الذين بُلُوا بهم في عباداتهم وقربهم، فلِلَّه كم من مُوَسْوس لا يَثِق في أحدٍ، ولا يُصَدِّق أحدًا، يظن كل نواة تمر لغمًا، ويحسب كلَّ صيحة عليه، يألم منَ اللَّمز، ويجزع منَ الهمز، يعامِل الناس طرًّا بعين طبعه، يظن أنَّ كلَّ الناس أَلِدَّاء مثله، أو ظَلَمة مثله، أو كذبة مثله، أو غَشَشة مثله.
ولله كم من مُوَسوس يأخذ اللَّحظات الطوال، من أجل أن يحسنَ عقد النية لِكُل عبادة، ولله كم من موسوس أرْهَقَهُ النصب في كثرة ما يعيد من صلاته، أو قراءته، أو عمرته، وحجه، وأما الوضوء فحَدِّثُوا عن ذلك ولا حرج، طول وقت، وكثرة إعادة، وإسراف مشين، حتى إن أحدهم لَيَتَوَضَّأ بما يغتسل به الجماعة، صَبًّا صَبًّا، ودَلكًا دلكًا تعذيبًا لأنفسهم، وقد أعيتهم الشياطين عَن أن يفقهوا قول ابن عباس - رضي الله عنهما -: "الشيطان جاسِمٌ على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله خنث".
ناهِيكم عن إعيائهم عن أن يفقهوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يَتَوَضَّأ بالمُد، ويغتسل بالصاع، بل قد يبلغ الأمر بِبَعْضهم أن يرى أنه لو تَوَضَّأ وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضوؤه باطِل.
دخل العَلاَّمَة الفقيه أبو الوفاء بن عقيل - رحمه الله - على أناسٍ في رباطٍ، فَتَوَضَّأ، فضحكوا لقِلَّة استعماله الماء، فسأله رجل موسوس، فقال: إنِّي لأنغمس في النهر، ثم أخرج منه، وأشك أن وضوئي قد صَحَّ، فقال له: سقطت عنك الصلاة؛ لأنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((رُفِع القلم عن ثلاثة)) وذكر منهم: ((المجنون حتى يُفِيق)).
كل ذلك - أيها المسلمون - من استيلاء الشياطين على الموسوسينَ، حتى إنهم أجابوهم إلى ما يُشْبه الجُنُون، أعاذنا الله وإياكم من شَرِّ الوسواس الخَنَّاس، الذي يُوَسْوِس في صدور الناس منَ الجنة والناس.
اتَّقوا الله - أيها المسلمون - واعْلَمُوا أنَّ ثَمَّ مِحورًا آخر، مما يلحق بني آدم منَ الشياطين ومَرَدة الجانّ، وذلك - عباد الله - مِن خلال الأذى المُتَواصِل في النفس والبدن، إذ لا يكفون خطواتهم على أجساد العباد، حتى آذَوا وآنَوا، فبُلِيَ أقوام ليسوا قلة بألوان مِنَ الأذى والضَّنْك من خلال الإصابة بِمَسِّ مَرَدة الجان والشياطين، ودخولهم أجساد بعض بني آدم، والتَّلَبُّس بهم مما هو مُشاهَد في أرض الواقع، ولا ينكره إلا غر المكابِر، فلنُحَكم نصوص الكتاب والسنة في مثل قوله - تعالى -: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (البقرة: 275).
وفي مثلِ ما صَحَّ عند الترمذي، وابن ماجَهْ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يَتَعَوَّذ من أعين الجان، ثمَّ مِن أعين الإنس، فلما نزلتِ المعوذتان أخذهما، وترك ما سوى ذلك.
وقد جاءتِ امرأةٌ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بابنٍ لها، قد أصابه لَمَم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((اخُرْج عدوَّ الله، أنا رسول الله، فبرئ الصَّبي))؛ رواه الإمام أحمد.
ناهيكَ - أيُّها المسلمون - عمَّا هو أسوأ من ذلك حين نرى الدَّجَاجِلَة الأَفَّاكِين، والسَّحَرة والكَهَنة والعَرَّافِينَ، الذين هم إخوان الشياطين، ممن يَدَّعون علم ما لا يعلموا؛ كادِّعاء الغيب، وأمثالهم ممن تَخْدِمهم الشياطين، بعد أن يَتَقَرَّبُوا إليهم بما يحبُّونه منَ الكُفْر أوِ الشِّرْك بالله، كأن يكتبوا كلام الله بالنجاسة أو بالدم، أو يَذْبَحُوا للشياطين، أو يسجدوا لهم، أو يطؤوا على المصحف، وقد يَتَظَاهَر بعضهم بالصَّلاح والتَّقوى، وهم في الحقيقة أضلُّ الناس، وأفسق الناس، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - عمن يَدَّعي الولاية يقال له الحَلاَّج، وكان صاحب سِحْر وشياطين تَخْدمه أحيانًا، كان معه بعض أتباعه على جبل أبي قُبَيب بمكة، فطلبوا منه حَلاوة، فذهب إلى مكان قريبٍ، وجاء بِصَحْن حلوى، فكَشَفُوا الأمر، فوجدوا ذلك قد سُرِق من دُكَّان حَلواني باليمن، حَمَله شيطان تلك البُقْعة.
ومثل هذا يَحْدُث كثيرًا للحَلاَّج، ومَن على شاكلته ممن لهم أحوال شيطانيَّة، أمَّا الكُهَّان فهم عُبَّاد الشياطين يتلبسون بهم، وينطقون على لِسَانهم، يقول الخَطَّابي - رحمه الله -: "الكهنة قوم لهم أذهان حادَّة، ونفوس شريرة، وطباع ناريَّة، فَأَلِفَتْهم الشياطين لما بينهم من التَّناسُب في هذه الأمور، وساعدتهم بِكُل ما تصل قدرتهم إليه"، وقد ذكر المحققونَ مِن أهل العلم أنه كان للأسود العَنسِي - الذي ادَّعى النبوة - شياطين يُخْبرونه ببعض الأمور المغيبة، وكذلك مُسَيْلمة الكَذَّاب، كان معه منَ الشياطين من يُعينه على ذلك.
وأول منِ ادَّعى في الإسلام أنَّ الأرواح تنزل عليه وتُخَاطِبه، المختار بن أبي عبيد الثقفي، وقد قِيلَ لابن عمر، وابن عباس - رضي الله عنهم -: إنَّ المختار يزعم أنه يُنْزل عليه، فقال: "صدق، قال الله - تعالى -: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} (الشعراء: 221 - 223).
قد يقول قائلٌ: إن هؤلاء العَرَّافين والكهان يُحَدِّثونا بأشياء تَصْدُق أحيانًا، فيقال لهم: حسبكم إجابة النبي - صلى الله عليه وسلم - تَمَسَّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنَّواجِذ، فقد سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنِ الكُهَّان، فقال: ((ليسوا بشيء))، فقالوا يا رسول الله: إنهم يحدثونا أحيانًا بالشيء يكون حقًّا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((تلك الكلمة من الحق، يخطفها الجني، فيُقَرْقِرُها في أُذُن وَلِيِّه كَقَرْقَرَة الدَّجَاج، فيخلطون معها أكثر مِن مائة كذبة))؛ رواه البخاري.
ألا لقد صَدَق الله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (الأنعام: 121).
فهذه بعض الحِكَم الظاهرة، والشَّذرات المُتَنَاثِرة، تَمَّ لَمُّها ولَفُّها؛ لِيَسْتَرْشِد مسترشد، ويرجع زائغ، ويهتدي ضالٌّ، وما لم نذْكُره أكثر مما ذكرناه، فَدُونكم تصفيد الشياطين في هذا الشهر المبارَك، فاللهَ اللهَ أن تفوتكم الفرصة، {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (الأنعام: 128).
اللهُمَّ صَلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمد، كما صَلَّيْت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيدٌ، وبارِكْ على محمدٍ، وعلى آل محمد، كما بارَكْتَ على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نسالكم الدعاء
يقول عنه أبو هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دخل شهر رمضان، فُتِّحت أبواب الجنة، وغُلِّقَتْ أبواب النيران، وصُفِّدَتِ الشياطين))؛ رواه البخاري ومسلم.
إذًا أيها المسلمون، نَفْهَم مِن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ((وصُفِّدت الشياطين))، نفهم منه أنَّ لهذه المخلوقات الشِّريرة منَ القُوَّة، والغَلَبة، والتأثير السَّريع، ما يحتاج المسلم معه إلى أن يُصَفَّدوا عنه في هذا الشهر المبارك؛ لأجل ألاَّ يخلصوا فيه بِشَيء كما يخلصون في غيره؛ بل كما يقول ابن القيم - رحمه الله -: "لأنَّ في الصَّوم تَضْييق مجاري الشيطان منَ العبد، بتضييق مجاري الطَّعام والشَّراب"، انتهى كلامه - رحمه الله -.
فلا غَرْو إذًا أنْ نُيَمِّمَ الحديث في عُجالةٍ وإطنابٍ شديدينِ، عنِ الشيطان والشياطين، أعاذنا الله وإياكم مِن هَمَزاتهم، وأعاذنا الله أن يحضرونا.
الشياطين - يرعاكم الله - جمع شيطان، والشيطان هو كافِر الجن ومُتَمَرّدهم، فإنَّه لم يذكر في النُّصوص الشرعية إلاَّ في موطن الكفر والذَّم، وما في معناهما، ويُطْلق هذا الاسم على إبليس وذُريته، وهو الاسم العَلَم الذي عُرِف به، وهو أصل الجن، كما أن آدم - عليه السلام - أصل الإنس، بِذَلِكُم قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - وغيره منَ المُحققينَ، والمُطالِع لما جاء في نصوص الوحيينِ عنِ الشياطين والشيطان، يعلم أنهم خَلْقٌ خُلِقوا مِن نار، يعقلون ويسمعون، ويُدركون ويَتَحَرَّكون، وليسوا كما يقول بعض مَن لا عِلْم لَدَيْهم من مُتَفَلْسِفَة، أَلِدَّاء في الخِصام: إنَّهم رُوح الشَّر، مُتَمَثِّلينَ في غرائز الإنسان الحيوانيَّة، التي تَصْرِفهم عنِ المُثُل الرُّوحيَّة العُليا ونحوها، زعموا.
الشيطان - أيُّها المسلمون - له قُبْح في المَنْظر، ودَمَامة في الصُّورة مُرَوِّعة، وكفاكم من شَرٍّ سماعه، ولو لم يأتِ في ذلك إلاَّ أنَّ الله - جل وعلا - شَبَّه ثِمار شجرة الزَّقُّوم به، كما في قوله: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} (الصافات: 64، 65)، وفي صحيح مسلم عنِ ابن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تحرَّوا بِصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها، فإنها تطلع بِقَرْني شيطان)).
لقد خَلَق الله الشيطان منبعًا للشَّرِّ والآثام، وقائدًا إلى الهلاك الدنيوي، والخسران الأخروي بكل وسيلةٍ، {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (النور: 21)، ورَحِم الله ابن القيم حيثُ قال: "في خَلْق إبليس وجنوده منَ الحِكَم، ما لا يحيط بِتَفْصِيله إلا الله، {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} (الإسراء: 62)، فيا لله، إلى مدىً حَقَّقَ الشيطان مُرَادَه من بَنِي الإنسان؟!
إنَّ أولياء الشيطانِ لَتَعُجُّ بهمُ الحياة عند كُلِّ مَرْصد، قُعَّادًا بِكُل صراطٍ، يَعِدُونَ، ويَصُدُّون عن سبيل الله مَن آمَن يبغونها عوجًا، يرفعون رايتَه، ويشيعون مآرِبَه، ويَسْعَوْنَ في الأرض فسادًا، والله لا يحبُّ المُفْسِدينَ، ولقد صَدَق الله: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} (الإسراء: 64).
أمَا إنَّه لا أذل على مدى هذا التَّحقير، إلاَّ ما ثَبَتَ عند البخاري في صحيحه: ((أنَّ الله يأمُرُ آدم يوم القيامة، أن يُخْرِجَ مِن ذُريته بَعثَ النار، فيستَعْلِم آدم عَن هذا المقدار، فيقول له ربُّه: تسعة وتسعون إلى النار، وواحدٌ إلى الجنة))، وفي رواية: ((تسعمائة وتسعة وتسعون في النار، وواحد في الجنة)).
أَوَّاه، أَوَّاه - أيها المسلمون - ما أعظم المِحْنة، ولا إله إلا الله، ما أمْكَنه من نُفُوس بني آدم، {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (سبأ: 20).
يقول الله - جل وعلا -: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (فاطر: 6).
بِذَلكم - عِباد الله - يُبَيِّن الله جانِبينِ هامَّينِ:
أولهما: عَدَاوة الشَّيطان، إنَّها عداوة حقيقيَّة، لا يُخَالِجها شكٌّ أو ريبة، كَتَب الله لها الدوام إلى قيام الساعة؛ لكنه في الوقت نفسه لا تعدو كونها حقيقةً نظريَّة مُجَرَّدة، إن لم نحن نَلْتَفِت إلى الجانب الآخر المهم، وهو الجانب العملي التطبيقي، ألا وهو قوله - سبحانه -: {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}.
إنَّنا - أيها المسلمون - لا نَخْشَى على النُّفُوس الكافِرة منَ الشَّيطان، فتِلْكمُ نُفُوسٌ مُظْلِمة، قد ضربَ الشيطان أطنابَه فيها ورتع، حتى تَوَلَّتْه وأَلِفته، ولكن الخوف كل الخوف، والخشية كل الخشية، على أنْفُسٍ مسلمة، لم تحسبْ للشيطان حسابًا في واقِعها، وباتَتْ غَافِلة عنه، غير آبِهة بِمَكْره وأَلاَعِيبه هو وجنده، وهي وإن كانت معترفة بِقَابليتها لِأَلاعِيبه وإغوائِه؛ لكونها غير معصومة، إلاَّ أنها نفوس اعتقد أهلُها أنهم مُعَقَّمُون عنِ الشيطان والشياطين بِمَصْل ضد مَكْره، مَحْمِيُّون عن آثارِه وإفساده، بعد أن كَوَّنُوا حولهم هالَةً زائفةً منَ الاطمئنان لأحوالهم وأوضاعهم الركيبة، على الاكتفاءِ بِظَواهر طفيفةٍ منَ الإسلام، حتى أمْسَوا وكأنَّما يحملونه هو الإسلام فحسب، مما يحرمهم ولا شك مِن إصلاح أَخْطائهم من جِهة، ومن الاستفادة منَ الصواب، الذي يأتي به الغَيْر من جهة أخرى.
ألا إنَّ مِن أمكر حِيَلِ الشيطان، أن يُقنعنا بِعَدم وجوده، ليس عدم وجودِه في عِلْم الواقع، بل عدم وجوده داخل أنفسنا، وهذا هو الشَّلَل الأخلاقي بِعَيْنه، وهو الارتضاعُ مِن ثَدْي الهوى بعد الفِطام، مع أنَّ الرضاع إنَّما هو للطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء، والذين يَتَضَوَّرُون على مَرارة الفطام، ولا جَرَم - عباد الله - فالهوى مكايد، وكم من صِنْديد في غُبار الحرب أُغْتِيل، كيف لا؟ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنَّ الشيطان يَجْري من ابن آدم مجرى الدَّم))؛ رواه البخاري ومسلم.
إنَّنا - أيها المسلمون - حينما نُحَذِّر منَ الشيطان وجنوده، ونُلْقِي الضَّوء على هُوَّة التَّبعات، وسوء المغَبَّات من جَرَّاء ذلك، فإننا لَنَذْكر بِصِدق على أن من قَوِي إيمانه، وأخلص لربِّه، كان قَهْره للشيطان قاب قوسينِ أو أدنى؛ لأنَّ كَيْد الشيطان كان ضعيفًا، وما أسرع ما يذل أمام القُوى، وما أعجل ما يَفِر مِن صاحب العزيمة وولي رَبِّه؛ لأن البقاء المستمر في طاعة الله، وذكره الدائم على كل حالٍ كفيلٌ بالتَّخفيف مِن ثورة الشيطان، أو إضعاف مَكْرِه وتَرَبصه على أقلِّ تقدير؛ بل وَحَوْر كوره.
ومن ثَمَّ تشخص أحداق المستقِي تعجُّبًا لِمَا يرى من ضَعْف الشيطان أمامه، فلا يلبس أن يوقنَ أنه إنَّما كان مُسْتَثْمِنًا ذا ورم، كان رجلٌ رديف النَّبي - صلى الله عليه وسلم - على دابَّة فعثرت الدابة بهما، فقال الرجل: تَعِس الشيطان، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقل: تَعِس الشيطان، فإنه عند ذلك يَتَعَاظَم حتى يكون مثل البيت، ولكن قل: بِسْم الله، فإنه يصغر عند ذلك، حتى يكون مثل الذباب))؛ رواه أحمد، وأبو داود.
وحكى ابن القيم - رحمه الله - عن بعض السَّلَف بأنهم قالوا: "إذا تَمَكَّن ذِكْر الله وخشيته مِن قلب المرء، فإن دنا منه الشيطان صرعه الإِنْسي، كما يُصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان، فيجتمع عليه الشياطين، فيقولون مال هذا؟ فيقال: قد مَسَّه الإنسي"، أتَعْجَبُون من كلام ابن القيم - عباد الله؟ ألا فاستمعوا إلى ما رَوَاه الإمام أحمد في مسنده، عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إنَّ المؤمن لينضي شيطانه كما ينضي أحدكم بَعِيرَه في السَّفَر))، قال ابن كثيرٍ - رحمه الله -: "معنى لينضي شيطانه: ليأخذ بناصيته فيغلبه ويقهره، كما يفعل بالبعير إذا شَرَد ثم غلبه.
وروى الحاكم والبَيْهَقِي بإسناد حَسَن أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّ الله - تعالى -مع القاضي ما لم يجر، فإذا جارَ تَبَرَّأ منه، وألزمه الشيطان))، ورضي الله عن الفاروق خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول له قدوته: ((والذي نفسي بيده ما لقيكَ الشيطان سالِكًا فَجًّا، إلاَّ سَلَكَ فَجًّا غير فَجِّك))، والذي عليه إجماعُ الأمةٍ - قاطبة - أنَّ عُمَر - رضي الله عنه - لم يكن على شريعةٍ غير شريعة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن نبيًّا مُرْسَلاً، ولا مَلَكًا مُقَرَّبًا؛ ولكنه إيمان ويقينٌ، وقوة في الحق، ودحر للباطِل، والله الهادي إلى سواء السبيل.
:
لَمَّا عَلِمَتِ الشياطينُ أنَّ المدارَ في أمور العِبَاد على قُلُوبهم، والاعتماد عليها بعد الله في قُرْبهم وبُعْدهم منَ الخير أوِ الشَّر، أجلبوا عليهم بالوساوس، وأقْبَلُوا بِوُجوه الشهوات إليهم، وأمدُّوهم بما يقطعهم عَنْ أسباب التَّوفيق، ونصبوا لهم منَ المصائدِ والحبائلِ ما لو سلموا من الوقوع فيها، لم يسلموا مِن أن يحصُلَ لهم بها التَّعويق؛ فيوقعوهم في متاهاتِ الوساوس، والشُّكوك في العبادات ومعاملات الناس، والعبادة أخطر وأَدْهى.
فكم هم صَرْعى الشياطين في هذا الميدان، وكم هم أهل الوَسَاوس، الذين بُلُوا بهم في عباداتهم وقربهم، فلِلَّه كم من مُوَسْوس لا يَثِق في أحدٍ، ولا يُصَدِّق أحدًا، يظن كل نواة تمر لغمًا، ويحسب كلَّ صيحة عليه، يألم منَ اللَّمز، ويجزع منَ الهمز، يعامِل الناس طرًّا بعين طبعه، يظن أنَّ كلَّ الناس أَلِدَّاء مثله، أو ظَلَمة مثله، أو كذبة مثله، أو غَشَشة مثله.
ولله كم من مُوَسوس يأخذ اللَّحظات الطوال، من أجل أن يحسنَ عقد النية لِكُل عبادة، ولله كم من موسوس أرْهَقَهُ النصب في كثرة ما يعيد من صلاته، أو قراءته، أو عمرته، وحجه، وأما الوضوء فحَدِّثُوا عن ذلك ولا حرج، طول وقت، وكثرة إعادة، وإسراف مشين، حتى إن أحدهم لَيَتَوَضَّأ بما يغتسل به الجماعة، صَبًّا صَبًّا، ودَلكًا دلكًا تعذيبًا لأنفسهم، وقد أعيتهم الشياطين عَن أن يفقهوا قول ابن عباس - رضي الله عنهما -: "الشيطان جاسِمٌ على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله خنث".
ناهِيكم عن إعيائهم عن أن يفقهوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يَتَوَضَّأ بالمُد، ويغتسل بالصاع، بل قد يبلغ الأمر بِبَعْضهم أن يرى أنه لو تَوَضَّأ وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضوؤه باطِل.
دخل العَلاَّمَة الفقيه أبو الوفاء بن عقيل - رحمه الله - على أناسٍ في رباطٍ، فَتَوَضَّأ، فضحكوا لقِلَّة استعماله الماء، فسأله رجل موسوس، فقال: إنِّي لأنغمس في النهر، ثم أخرج منه، وأشك أن وضوئي قد صَحَّ، فقال له: سقطت عنك الصلاة؛ لأنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((رُفِع القلم عن ثلاثة)) وذكر منهم: ((المجنون حتى يُفِيق)).
كل ذلك - أيها المسلمون - من استيلاء الشياطين على الموسوسينَ، حتى إنهم أجابوهم إلى ما يُشْبه الجُنُون، أعاذنا الله وإياكم من شَرِّ الوسواس الخَنَّاس، الذي يُوَسْوِس في صدور الناس منَ الجنة والناس.
اتَّقوا الله - أيها المسلمون - واعْلَمُوا أنَّ ثَمَّ مِحورًا آخر، مما يلحق بني آدم منَ الشياطين ومَرَدة الجانّ، وذلك - عباد الله - مِن خلال الأذى المُتَواصِل في النفس والبدن، إذ لا يكفون خطواتهم على أجساد العباد، حتى آذَوا وآنَوا، فبُلِيَ أقوام ليسوا قلة بألوان مِنَ الأذى والضَّنْك من خلال الإصابة بِمَسِّ مَرَدة الجان والشياطين، ودخولهم أجساد بعض بني آدم، والتَّلَبُّس بهم مما هو مُشاهَد في أرض الواقع، ولا ينكره إلا غر المكابِر، فلنُحَكم نصوص الكتاب والسنة في مثل قوله - تعالى -: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (البقرة: 275).
وفي مثلِ ما صَحَّ عند الترمذي، وابن ماجَهْ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يَتَعَوَّذ من أعين الجان، ثمَّ مِن أعين الإنس، فلما نزلتِ المعوذتان أخذهما، وترك ما سوى ذلك.
وقد جاءتِ امرأةٌ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بابنٍ لها، قد أصابه لَمَم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((اخُرْج عدوَّ الله، أنا رسول الله، فبرئ الصَّبي))؛ رواه الإمام أحمد.
ناهيكَ - أيُّها المسلمون - عمَّا هو أسوأ من ذلك حين نرى الدَّجَاجِلَة الأَفَّاكِين، والسَّحَرة والكَهَنة والعَرَّافِينَ، الذين هم إخوان الشياطين، ممن يَدَّعون علم ما لا يعلموا؛ كادِّعاء الغيب، وأمثالهم ممن تَخْدِمهم الشياطين، بعد أن يَتَقَرَّبُوا إليهم بما يحبُّونه منَ الكُفْر أوِ الشِّرْك بالله، كأن يكتبوا كلام الله بالنجاسة أو بالدم، أو يَذْبَحُوا للشياطين، أو يسجدوا لهم، أو يطؤوا على المصحف، وقد يَتَظَاهَر بعضهم بالصَّلاح والتَّقوى، وهم في الحقيقة أضلُّ الناس، وأفسق الناس، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - عمن يَدَّعي الولاية يقال له الحَلاَّج، وكان صاحب سِحْر وشياطين تَخْدمه أحيانًا، كان معه بعض أتباعه على جبل أبي قُبَيب بمكة، فطلبوا منه حَلاوة، فذهب إلى مكان قريبٍ، وجاء بِصَحْن حلوى، فكَشَفُوا الأمر، فوجدوا ذلك قد سُرِق من دُكَّان حَلواني باليمن، حَمَله شيطان تلك البُقْعة.
ومثل هذا يَحْدُث كثيرًا للحَلاَّج، ومَن على شاكلته ممن لهم أحوال شيطانيَّة، أمَّا الكُهَّان فهم عُبَّاد الشياطين يتلبسون بهم، وينطقون على لِسَانهم، يقول الخَطَّابي - رحمه الله -: "الكهنة قوم لهم أذهان حادَّة، ونفوس شريرة، وطباع ناريَّة، فَأَلِفَتْهم الشياطين لما بينهم من التَّناسُب في هذه الأمور، وساعدتهم بِكُل ما تصل قدرتهم إليه"، وقد ذكر المحققونَ مِن أهل العلم أنه كان للأسود العَنسِي - الذي ادَّعى النبوة - شياطين يُخْبرونه ببعض الأمور المغيبة، وكذلك مُسَيْلمة الكَذَّاب، كان معه منَ الشياطين من يُعينه على ذلك.
وأول منِ ادَّعى في الإسلام أنَّ الأرواح تنزل عليه وتُخَاطِبه، المختار بن أبي عبيد الثقفي، وقد قِيلَ لابن عمر، وابن عباس - رضي الله عنهم -: إنَّ المختار يزعم أنه يُنْزل عليه، فقال: "صدق، قال الله - تعالى -: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} (الشعراء: 221 - 223).
قد يقول قائلٌ: إن هؤلاء العَرَّافين والكهان يُحَدِّثونا بأشياء تَصْدُق أحيانًا، فيقال لهم: حسبكم إجابة النبي - صلى الله عليه وسلم - تَمَسَّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنَّواجِذ، فقد سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنِ الكُهَّان، فقال: ((ليسوا بشيء))، فقالوا يا رسول الله: إنهم يحدثونا أحيانًا بالشيء يكون حقًّا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((تلك الكلمة من الحق، يخطفها الجني، فيُقَرْقِرُها في أُذُن وَلِيِّه كَقَرْقَرَة الدَّجَاج، فيخلطون معها أكثر مِن مائة كذبة))؛ رواه البخاري.
ألا لقد صَدَق الله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (الأنعام: 121).
فهذه بعض الحِكَم الظاهرة، والشَّذرات المُتَنَاثِرة، تَمَّ لَمُّها ولَفُّها؛ لِيَسْتَرْشِد مسترشد، ويرجع زائغ، ويهتدي ضالٌّ، وما لم نذْكُره أكثر مما ذكرناه، فَدُونكم تصفيد الشياطين في هذا الشهر المبارَك، فاللهَ اللهَ أن تفوتكم الفرصة، {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (الأنعام: 128).
اللهُمَّ صَلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمد، كما صَلَّيْت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيدٌ، وبارِكْ على محمدٍ، وعلى آل محمد، كما بارَكْتَ على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نسالكم الدعاء
أمس في 2:54 pm من طرف عبدالله الآحد
» الآيات الناهية عن دعاء غير الله سبحانه وتعالى
الثلاثاء نوفمبر 26, 2024 3:16 pm من طرف عبدالله الآحد
» ما جاء في أن دعاء غير الله والإستعاذة بغيره سبحانه شرك أكبر
الإثنين نوفمبر 25, 2024 2:14 pm من طرف عبدالله الآحد
» خطر الشرك والخوف من الوقوع فيه
الأحد نوفمبر 24, 2024 3:17 pm من طرف عبدالله الآحد
» -(( 3 -))- خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
الأحد نوفمبر 24, 2024 12:53 pm من طرف صادق النور
» إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن الشرك سيظهر في هذه الأمة بعد إخفائه واندحاره
السبت نوفمبر 23, 2024 2:19 pm من طرف عبدالله الآحد
» فضل توحيد الله سبحانه
الجمعة نوفمبر 22, 2024 3:20 pm من طرف عبدالله الآحد
» وجوب الدعوة إلى توحيد الله سبحانه
الخميس نوفمبر 21, 2024 3:00 pm من طرف عبدالله الآحد
» كتاب الترجيح في مسائل الطهارة والصلاة
الأربعاء نوفمبر 20, 2024 9:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» وجوب التوكل على الله وخده لا شريك له
الأربعاء نوفمبر 20, 2024 3:26 pm من طرف عبدالله الآحد