المَبْحَثُ الأوَّلُ: قَصْرُ الصَّلاةِ في السَّفَرِ
قَصْر الصَّلاةِ: خلافُ الإتمامِ، وهو أنْ تُصلَّى الصَّلاةُ الرُّباعيَّةُ رَكعتينِ
المطلب الثاني: مشروعيَّةُ القَصْرِ في السَّفَرِ
يُشرَعُ قَصرُ الصَّلاةِ الرُّباعيَّةِ في السَّفرِ، في الجُملةِ.
الأدلَّة:أولًا: من الكِتاب
قال اللهُ تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا [النساء: 101]
ثانيًا: من السُّنَّة
1- عن يَعلَى بن أُميَّة رَضِيَ اللهُ عنه قال: (سألتُ عُمرَ بن الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه قلتُ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وقد أمَّن اللهُ الناسَ؟ فقال لي عُمرُ رَضِيَ اللهُ عنه: عجبتُ ممَّا عجبتَ منه، فسألتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ذلك فقال: ((صَدقَةٌ تَصدَّق اللهُ بها عليكم، فاقْبَلوا صَدقتَه ))
2- عن ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((صحبتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكان لا يَزيدُ في السَّفرِ على ركعتينِ، وأبا بكر وعُمرَ وعثمانَ كذلك، رَضِيَ اللهُ عنهم ))
3- عن عبدِ اللهِ بن عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ الله يحبُّ أن تُؤتَى رُخَصُه، كما يُحبُّ أن تُؤتَى عزائمُه ))
ثالثا: مِنَ الِإِجْماع
نقَل الإجماعَ على مشروعيَّة قَصْر الصَّلاةِ للمسافرِ: ابنُ المنذر، وابنُ عبد البَرِّ، وابنُ رُشد، وابنُ قُدامة، والنوويُّ، وابنُ تَيميَّة
فَرْع: حُكمُ مَن سافَرَ ليترخَّصَ
لا يجوزُ إنشاءُ السَّفرِ من أجْلِ الترخُّصِ برُخَص السَّفرِ، من الإفطارِ في رمضان، وقَصْرِ الصَّلاة، ومَن أنشأ السَّفرَ لذلك لم يُبَحْ له الترخُّصُ؛ نصَّ على هذا فقهاءُ الشافعيَّة، والحَنابِلَة، واختارَه ابنُ القيِّم، وابنُ عثيمين
وذلك للآتي:
أولًا: أنَّ السفرَ للترخُّصِ وسيلةٌ إلى الفِطرِ المحرَّمِ، وما كان وسيلةً إلى الحرامِ، فهو حرامٌ
ثانيًا: أنَّ التحيُّلَ على إسقاطِ الواجِبِ لا يُسقِطُه، كما أنَّ التحيُّلَ على المحرَّمِ لا يَجعله مباحًا
المطلب الثالث: ما لا يُشرَعُ قَصرُه من الصَّلوات
لا يُشرَعُ قَصرُ صلاةِ الصُّبحِ، ولا صلاةِ المَغربِ.
الدَّليل من الإجماع:
نقَل الإجماعَ على ذلك: ابنُ المنذر
، وابنُ حزم، وابنُ عبد البَرِّ، وابن بطَّال، والنوويُّ، وابن مُفلِح، والعينيُّ
المبحث الثاني: حُكم قَصْرِ الصَّلاةِ
وبه قال أكثرُ العلماءِ من السَّلَفِ والخَلَفِ
الأدلَّة: أولًا: من الكِتاب
قال الله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء: 101]
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ (لا جُناح) لا يُستعملُ إلَّا في المباح كما قال الشافعي؛ كقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة: 198] ، وقوله تعالى لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [البقرة: 236]
ثانيًا: من السُّنَّة
1- عن يَعلَى بن أُميَّة رَضِيَ اللهُ عنه قال: (سألتُ عُمرَ بن الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه قلت: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وقد أمَّن اللهُ الناسَ؟ فقال لي عُمرُ رَضِيَ اللهُ عنه: عجبتُ ممَّا عجبتَ منه، فسألتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ذلك فقال: ((صَدقَةٌ تَصدَّق اللهُ بها عليكم، فاقْبَلوا صَدقتَه))
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ قوله: ((صَدقةٌ تَصدَّق اللهُ بها عليكم)) دلَّ على أنَّ القَصرَ شُرِع في السَّفرِ رِفقًا بالعباد، وتخفيفًا عنهم، وأنَّه ليس بمعنى الحتْم، ولا إلزامَ فيه للمسافر؛ فقد أجمعتِ الأمَّة أنَّه لا يَلزم المُتصدَّقَ عليه قَبولُ الصَّدقةِ
2- عن عبدِ الرَّحمنِ بن يَزيدَ قال: ((صلَّى بنا عُثمانُ بمنًى أربعَ ركَعات، فقِيل ذلك لعبد الله بن مسعودٍ، فاسترجع، ثم قال: صليتُ مع رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمنًى ركعتينِ، ثم صليتُ مع أبي بكرٍ بمنى ركعتينِ، وصليتُ مع عُمرَ بمنًى ركعتينِ، فليتَ حظِّي من أربعِ ركَعاتٍ ركعتانِ مُتقبَّلتانِ ))
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه لو كان القَصرُ واجبًا لَمَا أتمَّ عثمانُ رَضِيَ اللهُ عنه، ولَمَا وافَقَه الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم على ذلِك
3- عن نافعٍ عن ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((صَلَّى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمِنًى ركعتينِ، وأبو بكرٍ بَعدَه، وعُمرُ بعدَ أبي بكرٍ، وعثمانُ صدرًا من خِلافتِه، ثم إنَّ عثمانَ صَلَّى بعدُ أربعًا، قال: فكان ابنُ عُمرَ إذا صلَّى مع الإمامِ صلَّى أربعًا، وإذا صلَّاها وَحدَه صلَّى رَكعتينِ ))
ثانيًا: أنَّ عامَّةَ العلماءِ- وحُكي فيه الإجماعُ- على أنَّ المسافرَ إذا اقتدَى بمقيمٍ، لزِمَه الإتمامُ، ولو كان الواجبُ ركعتينِ حتمًا لَمَا جازَ فِعلُها أربعًا خَلفَ مسافرٍ ولا حاضرٍ كالصُّبح
ثالثًا: أنَّه تخفيفٌ ورخصةٌ أُبيح للمسافِر، فجاز تركُه كسائرِ الرُّخَص
المَبحثُ الثالث: شُروطُ قَصْرِ الصَّلاةِ
المَطْلَبُ الأَوَّلُ: أن يكونَ السَّفرُ مسافةَ قَصرٍ
الفَرْع الأوَّل: مِقدارُ مَسافةِ القَصرِ
اختَلف أهلُ العِلمِ في مِقدارِ مَسافةِ السَّفرِ الذي تُقصَرُ فيه الصَّلاةُ على أقوالٍ عِدَّة
، أقواها قولان:
القول الأوّل: أنَّ المسافةَ التي تُقصَرُ فيها الصَّلاةُ: أربعةُ بُرُدٍ (88 كم تقريبًا)، وهذا مذهبُ الجمهور: المالِكيَّة، والشافعيَّة، والحَنابِلَة، وهو قولُ بَعضِ السَّلفِ، وقولُ أبي يُوسفَ من الحَنَفيَّة، وبه قال فُقهاءُ أصحابِ الحديثِ، واختارَه ابنُ بازٍ
الأَدِلَّة: أولًا: من الآثار
1- عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((يا أهلَ مَكَّةَ، لا تَقْصُروا في أقلَّ مِن أربعةِ بُرُد، وذلِك مِن مَكَّةَ إلى الطَّائفِ وعُسْفَانَ))
2- عن عَطاءٍ قال: (سُئِلَ ابنُ عَبَّاسٍ: أأَقْصُرُ الصَّلاةَ إلى عَرفَةَ؟ فقال: لا، ولكن إلى عُسْفانَ وإلى جُدَّة، وإلى الطَّائِفِ) قال مالكٌ: (بَينَ مَكَّةَ والطَّائِفِ وجُدَّة وعُسْفَانَ أَربعةُ بُرُدٍ)
3- عن عَطاءِ بنِ أبي رَبَاحٍ: (أنَّ ابنَ عُمرَ وابنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما كانَا يُصلِّيانِ رَكعتينِ، ويُفطِرانِ في أَربعةِ بُرُدٍ فما فَوقَ ذلِك)
4- عن سالِمٍ ونافعٍ، عن ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: (أنَّه كان لا يَقصُرُ إلَّا في اليومِ التامِّ- قال مالك: وذلك أَربعةُ بُرُد)
وَجْهُ الدَّلالةِ من هذِه الآثارِ:
أنَّ هذه أقوالُ صحابةٍ، وقول الصَّحابيِّ حُجَّةٌ، خُصوصًا إذا خالَفَ القِياسَ
ثانيًا: أنَّ في هذا القَدْرِ تَتكرَّرُ مَشقَّةُ الشدِّ والتَّرحالِ، وفيما دونه لا تَتكرَّرُ
ثالثًا: أنَّها مسافةٌ تَجمَعُ مَشقَّةَ السَّفَر، من الحَلِّ والشدِّ؛ فجازَ القصرُ فيها، كمسافةِ الثَّلاثةِ الأيَّام، ولم يَجُز فيما دونها؛ لأنَّه لم يثبُتْ دليلٌ يُوجِبُ القَصرَ فيها
القول الثاني: أنَّ القَصرَ يجوزُ في أيِّ سَفرٍ, ما دام يُسمَّى سَفرًا، طويلًا كان أمْ قصيرًا، ولا حَدَّ له، وهذا مذهبُ الظَّاهريَّة، وبعضِ الحَنابِلَةِ، واختارَه ابنُ قُدامةَ، وابنُ تَيميَّةَ، وابنُ القَيِّمِ، والشوكانيُّ، والشِّنقيطيُّ، وابنُ عُثيمين، والألبانيُّ
الأدلَّة: أولًا: من الكِتاب
قال اللهُ تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا [النساء: 101]
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الآيةَ مُطلقَةٌ في قَصْرِ الصَّلاةِ في كلِّ ضَرْبٍ في الأرضِ، وليس فيها تقييدٌ بالمسافةِ أو بالزَّمَنِ
ثانيًا: من السُّنَّة
1- عن يَعلَى بنِ أُميَّةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (سألتُ عُمرَ بنَ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه قلتُ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وقدْ أمَّنَ اللهُ الناسَ؟ فقال لي عُمرُ رَضِيَ اللهُ عنه: عجبتُ ممَّا عجبتَ منه! فسألتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ذلك فقال: ((صَدَقةٌ تَصدَّقَ اللهُ بها عَليكم، فاقْبَلُوا صَدقتَه))
2- عن ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((صَحِبتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكان لا يَزيدُ في السَّفرِ على رَكعتينِ، وأبا بَكرٍ وعُمرَ وعُثمانَ كذلِك رَضِيَ اللهُ عنهم ))
وجه الدَّلالةِ من هذه النُّصوصِ:
أنَّ الأحاديثَ مُطلقَةٌ وليس فيها تقييدُ القصرِ في السَّفرِ بمسافةٍ مُعيَّنة
ثالثًا: من الآثارِ
عن ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: (إنِّي لأُسافِرُ الساعةَ من النَّهارِ فأَقْصُر, يعني: الصَّلاةَ)، وعنه أيضًا: (لو خَرجتُ مِيلًا قصرتُ الصَّلاةَ)
رابعًا: أنَّ نُصوصَ الكتاب والسُّنَّة ليس فيها تفريقٌ بين سَفَرٍ طويلٍ وسفرٍ قصير؛ فمَن فرَّق بين هذا وهذا فقَدَ فرَّق بين ما جمَع الله بينه، فرقًا لا أصلَ له من كِتاب اللهِ ولا سُنَّة رسولِه، فالمرجعُ فيه إلى العُرْف، فما كان سَفرًا في عُرْف النَّاسِ فهو السَّفَرُ، الذي عَلَّقَ به الشارعُ الحُكمَ
خامسًا: أنَّ السَّفَر لو كان له حَدٌّ لَمَا أَغفَل بيانَه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
سادسًا: أنَّ حدَّه بالسَّيرِ أو بالأيَّام لا يَنضبِطُ؛ لأنَّه يتفاوتُ حسبَ سرعةِ الدَّابَّة ونوعِها، إلى غيرِ ذلك
سابعًا: أنَّه لا فَرْقَ بين سَفرِ أهل مكَّةَ إلى عرفةَ، حيث يَقصُرونَ الصلاةَ لذلك، وبين سَفرِ سائرِ المسلمينَ إلى قدْرِ ذلك من بلادِهم؛ فإنَّ هذه مسافةُ بَريدٍ، وقد ثبَت فيها جوازُ القَصرِ والجَمْعِ
الفَرْعُ الثَّاني: حُكمُ مَن شَكَّ في قَدْرِ المَسافةِ:
مَن شَكَّ في قَدْرِ المسافةِ؛ هل هي مسافةُ قَصْرٍ أمْ لا، لا يَقْصُر، ويَجِبُ عليه الإتمامُ؛ نصَّ على هذا فُقهاءُ الحَنابِلَةِ، وهو ظاهرُ مذهبِ المالِكيَّة، ونصَّ عليه الشافعيُّ
وذلك للآتي:
أولًا: أنَّ الأصلَ وُجوبُ الإتمامِ؛ فلا يزولُ بالشَّكِّ
ثانيًا: أنَّ الأصل هو الإقامةُ حتَّى نتحقَّق أنَّه يُسمَّى سفرًا
ثالثًا: أنَّ في الإتمامِ براءةً للذِّمَّة
رابعًا: أنَّه صلَّى شاكًّا في صِحَّةِ صلاتِه، فأَشبهَ ما لو صلَّى شاكًّا في دخولِ الوقتِ
الفَرعُ الثَّالِثُ: حُكمُ التائِهِ الذي لا يَقصِدُ مكانًا معينًا
يُشترَطُ لجوازِ القَصرِ أنْ يَقصِدَ قطْعَ مسافةِ قَصرٍ، فلو خرَج تائهًا أو لحاجةٍ من غيرِ قَصْدِ قَطْعِ مسافةِ القَصرِ، فإنَّه لا يَقصُرْ، وهذا باتِّفاقِ المذاهبِ الفِقهيَّةِ الأربعةِ: الحَنَفيَّة، والمالِكيَّة، والشافعيَّة، والحَنابِلَة
وذلك للآتي:
أولًا: أنَّه لم يقصدْ مسافةَ القَصرِ؛ فلم يُبَحْ له، كابتداءِ سَفرِه
ثانيًا: أنَّه اجتمَعَ في الصلاةِ ما يُوجِبُ الإتمامَ وما يُبيحُ الرُّخَصَ، فترجَّحَ الإتمامُ احتياطًا
المطلب الثاني: عدم نيةُ الإقَامَةِ في السَّفرِ
الفرع الأوَّل: حُكْمُ القَصْرِ لِمَن نوى الإقامَةَ
مَن نوَى الإقامةَ يَلزمُه الإتمامُ.
الدَّليل من الإجماع: نقَل الإجماعَ على ذلك: ابنُ عبد البرِّ
الفرع الثاني: مُدَّةُ الإقامةِ التي تَقطَعُ السَّفَرَ إذا نواها.
اختلَفَ العُلماءُ في مدَّة الإقامةِ التي تَقطَع السَّفَرَ إذا نَواها إلى عِدَّة أقوالٍ أقْواها ثلاثةٌ :
القولُ الأولُ: لا يَقْصُرُ المسافِرُ الصلاةَ إذا نوى الإقامةَ أربعةَ أيَّامٍ فأكثرَ، وهذا مذهبُ المالِكيَّة ، والشافعيَّة ، وروايةٌ عن أحمد ، وبه قال بعضُ السَّلَف ، واختارَه الطبريُّ ، وابنُ تيميَّةَ احتياطًا
الأدلَّة:أولًا: من السُّنَّة
1-عن العَلاءِ بنِ الحضرميِّ قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يُقيمُ المهاجرُ بمكَّةَ بعدَ قضاءِ نُسُكِه ثَلاثًا ))
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه كان يَحرُم على المهاجرين الإقامةُ بمكَّةَ؛ فالإذنُ في الثلاثةِ؛ ليقضوا حوائِجَهم، يدلُّ على بقاءِ حُكمِ السَّفرِ فيها، وأنَّ ثلاثةَ أيامٍ ليس لها حكمُ الإقامةِ، وأنَّ ما زاد عليها -وهي أربعةُ أيامٍ- تُعتبَرُ إقامةً لِمن نواها
ثانيًا: من الآثار
عن عُمرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه: (أنَّه أجْلَى اليهودَ مِن الحجازِ، ثم أذِنَ لِمَن قدِمَ منهم تاجرًا أن يُقيمَ ثلاثًا)
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الاقتصارَ في الإذنِ لهم للتجارةِ ثلاثًا بعدَ إجلائِهم منها يُشيرُ إلى أنَّ ذلك مقامُ السَّفر، وما جاوزه مقامُ الإقامةِ
ثالثًا: عمَلُ أهلِ المدينةِ:
نقَل الإمامُ مالكٌ: عمَلَ أهلِ المدينةِ على ذلك
القولُ الثاني: يَقصُرُ إذا أقامَ تِسعةَ عشَرَ يومًا، وإنْ زادَ أتمَّ، وهو قولٌ للشافعيِّ ، وهو قولُ ابن عَبَّاسٍ ، وإسحاق ابن راهَوَيه ، ووصَفَه الترمذيُّ بأقوى المذاهِبِ
الدَّليلُ مِنَ السُّنَّةِ
عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: (أَقَامَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تِسْعَةَ عَشَرَ يَقْصُرُ، فَنَحْنُ إذَا سَافَرْنَا تِسْعَةَ عَشَرَ قَصَرْنَا، وإنْ زِدْنَا أتْمَمْنَا.)
القَولُ الثَّالِثُ: ليس للسفَرِ مُدَّةٌ محدَّدةٌ إذا لم يُجمِعْ على إقامةٍ أو اسْتيطانٍ ، وهذا قَولُ ابنِ تيميَّةَ ، وابنِ القَيِّمِ ، وعبدِ الرَّحمنِ بنِ سَعديٍّ ، وابنِ عُثَيمين
الأدِلَّةُ:أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
1- قَولُه تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [النساء: 43]
2- قَولُه تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 184]
3- قَولُه تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء: 101]
وَجهُ الدَّلالةِ مِنَ الآياتِ:
أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى لم يُفَرِّقْ بين سَفَرٍ طويلٍ وسَفَرٍ قَصيرٍ. وهذا الفَرقُ لا أصلَ له في كتابِ اللهِ ولا في سُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بل الأحكامُ التي علَّقَها اللهُ بالسَّفَرِ عَلَّقَها به مُطلَقًا
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (جَعَلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثَلاثَةَ أيَّامٍ ولَيالِيَهُنَّ لِلْمُسافِرِ، ويَوْمًا ولَيْلَةً لِلْمُقِيمِ)
2- عن أبي موسى الأَشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (إذَا مَرِضَ العَبْدُ، أوْ سَافَرَ، كُتِبَ له مِثْلُ ما كانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا)
3- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ العَذَابِ، يَمْنَعُ أحَدَكُمْ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ ونَوْمَهُ، فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ، فَلْيُعَجِّلْ إلى أهْلِهِ)
وَجهُ الدَّلالةِ مِنَ الأحاديثِ:
في هذه الأحاديثِ لم يُفَرَّقْ بين سَفَرٍ طويلٍ وسَفَرٍ قصيرٍ، وهذا الفَرقُ لا أصلَ له في كتابِ اللهِ ولا في سُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بل الأحكامُ التي علَّقها اللهُ بالسَّفَرِ عَلَّقَها به مُطلَقًا
4- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: (الصَّلاَةُ أَوَّلُ مَا فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلاَةُ السَّفَرِ، وَأُتِمَّتْ صَلاَةُ الحَضَرِ)
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَشرَعْ للمُسافِرِ أن يصلِّيَ إلَّا ركعتيِن ولم يَحُدَّ السَّفَرَ بزَمانٍ أو بمكانٍ، ولا حَدَّ الإقامةَ أيضًا بزمنٍ محدودٍ؛ لا ثلاثةٌ، ولا أربعةٌ، ولا اثنا عَشَرَ، ولا خمسةَ عَشَرَ
ثالثًا: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أقام هو وأصحابُه بعد فتحِ مكَّةَ قريبًا من عشرينَ يومًا يَقصُرون الصَّلاةَ، وأقاموا بمكَّةَ عَشَرةَ أيامٍ يُفطِرون في رمضانَ، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا فتح مكَّةَ يَعلَمُ أنَّه يحتاجُ أن يُقيمَ بها أكثَرَ مِن أربعةِ أيَّامٍ. وإذا كان التحديدُ لا أصلَ له فما دام المسافِرُ مُسافِرًا يَقصُرُ الصَّلاةَ ولو أقام في مكانٍ شُهورًا
رابعًا: لَمَّا عَلَّق الشَّارعُ القَصْرَ بمسَمَّى السَّفَرِ، فهي تتعلَّقُ بكُلِّ سَفَرٍ سواءٌ كان ذلك السَّفَرُ طويلًا أو قصيًرا، كما علَّق الطَّهارةَ بمسَمَّى الماءِ في قَولِه: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء: 43] ، ولم يُفَرِّقْ بين ماءٍ وماءٍ
الفرع الثالث: مَن حُبِسَ ولم يَنوِ الإقامةَ، أو مَكَثَ لقضاءِ حاجتِه
مَن مكَثَ لقضاءِ حاجتِه ولم يُجْمِعْ على الإقامةِ، فإنَّ له قَصرَ الصَّلاةِ، وإنْ طالتْ مدَّةُ إقامتِه.
الأدلَّة: أولًا: من السُّنَّة
عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((أقامَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تِسْعةَ عَشَرَ يَقْصُرُ ))
ثانيًا: مِنَ الِإِجْماع
نقَل الإجماعَ على أنَّ للمُسافرِ أن يَقصُرَ ما لم يَجمعْ إقامةً، وإنْ طالتْ مُدَّةُ إقامتِه: الترمذيُّ، وابنُ عبد البَرِّ، وابنُ رُشدٍ
الفرع الرابع: الملَّاحُ الذي معه أهلُه لا يَنوي الإقامةَ ببلدٍ
الملَّاحُ مسافِرٌ وله قَصرُ الصَّلاةِ، ولو كان أهلُه معه، ما دامَ أنَّه ليس قريبًا من وطنِه، وهذا مذهبُ الجمهور: الحَنَفيَّة، والمالِكيَّة، والشافعيَّة، وهو قول داودَ
الأدلَّة: أولًا: من السُّنَّة
عن ابنِ عبَّاسٍ قال: (فرَضَ اللهُ الصَّلاةَ على لِسانِ نبيِّكم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الحضَرِ أربعًا، وفي السَّفَرِ ركعتينِ، وفي الخوف ركعةً)
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الملَّاحَ في البحرِ مسافرٌ؛ فله حُكمُه
ثانيًا: أنَّه مسافرٌ؛ فله الترخُّصُ برُخَصِ السَّفرِ، وكونُ أهلِه معه لا يَمنَعُ الترخُّصَ، كالجَمَّالِ
المَطلَبُ الثالث: أن يكونَ السَّفرُ مُباحًا
اختَلَف أهلُ العِلمِ في الترخُّصِ برُخَصِ السَّفر في سفرِ المعصيةِ، على قولين:
القول الأول: يُشترَطُ في الترخُّصِ برُخَصِ السَّفرِ، كقَصْرِ الصَّلاةِ، والإفطارِ في رمضانَ: أنْ يكونَ السفرُ مباحًا، فإنْ كان في سَفرِ معصيةٍ لم يُبَحْ له الترخُّصُ، وهذا مذهبُ الجمهور: المالِكيَّة والشافعيَّة، والحَنابِلَة
الأدلَّة: أولًا: من الكِتاب
قال اللهُ تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ [المائدة: 3]
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه شرَطَ في الترخيصِ بالاضطرارِ إلى أكْلِ المَيتةِ كونَه غيرَ متجانفٍ لإثمٍ، ويُفهَمُ منه أنَّ المتجانِفَ لإثمٍ لا رُخصةَ له، والعاصي بسَفرِه متجانِفٌ لإثم، وهو أَوْلى بالمنعِ من المضطرِّ في المَخْمَصةِ
ثانيًا: أنَّ المعصيةَ لا تكونُ سببَ الرُّخصةِ، كما أنَّ السُّكرَ لا يُسقِطُ التكاليفَ
ثالثًا: أنَّ رُخَصَ السفر متعلِّقةٌ بالسَّفرِ، ومنوطةٌ به، فلمَّا كان سفرُ المعصيةِ ممنوعًا منه لأجْل المعصيةِ، وجَبَ أن يكونَ ما تَعلَّق به من الرُّخَص ممنوعًا منه لأجْل المعصيةِ
رابعًا: أنَّ في جوازِ الرُّخَصِ في سفرِ المعصيةِ والتخفيفِ عليه إعانةً له على معصيتِه
خامسًا: أنَّ ما يتعلَّقُ بالسفرِ من رُخصةِ تخفيفٍ من الله سبحانه على عباده لِمَا يَلحقُهم من المشقَّةِ فيه؛ ليكون ذلك معونةً لهم وقوةً على سفرهم، والعاصي لا يستحقُّ المعونةَ؛ فلم يَجُزْ أن يَستبيحَ الرُّخصةَ
سادسًا: أنَّ السببَ المحظور لا يُسقِطُ شيئًا من فَرْض الصَّلاةِ، كالخوف بالقِتال المحظورِ لا يُبيحُ صلاةَ شِدَّةِ الخوفِ
سابعًا: أنَّ النُّصوصَ وردتْ في حقِّ الصَّحابةِ، وكانت أسفارُهم مباحةً؛ فلا يَثبُتُ الحُكمُ في سفرٍ مخالفٍ لسفرِهم؛ لأنَّه رُخصةٌ، فتتقيَّدُ بمحلِّها الذي وردتْ فيه
القول الثاني: كلُّ مسافرٍ له الترخُّصُ برُخَصِ السَّفرِ، من غيرِ تفريقٍ بين السَّفرِ المباحِ، وبين سَفرِ المعصيةِ، وهذا مذهبُ الحَنَفيَّة، ورواية عن مالك، وبه قال طائفةٌ من السَّلفِ، واختاره ابنُ حزمٍ، وابنُ تيميَّة، والشوكانيُّ، والسعديُّ، وابنُ باز, وقوَّاه ابنُ عُثَيمين
الأدلَّة: أولًا: من الكِتاب
قال اللهُ تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا [النساء: 101]
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ عمومَ الآيةِ تَقتضي الرُّخْصةَ في كلِّ ضاربٍ في الأرضِ من طائعٍ أو عاصٍ
ثانيًا: من السُّنَّة
1- عن يَعلَى بنِ أُميَّة رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سألتُ عُمرَ بنَ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه قلتُ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وقدْ أمَّن اللهُ الناسَ؟ فقال لي عُمرُ رَضِيَ اللهُ عنه: عجبتُ ممَّا عجبتَ منه! فسألتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ذلك، فقال: ((صدَقةٌ تصدَّق اللهُ بها عليكم، فاقبَلوا صدقَتَه))
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلام لم يَخصَّ سفرًا من سفرٍ، بل عمَّ، فلا يجوزُ لأحدٍ تخصيصُ ذلك، ولم يجُزْ ردُّ صدقةِ اللهِ تعالى التي أمَر- عليه السَّلامُ- بقَبولِها؛ فيكون مَن لا يَقبَلُها عاصيًا
2- عنِ ابنِ عبَّاسٍ قال: فرَضَ اللهُ الصَّلاةَ على لِسانِ نبيِّكم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الحَضَر أربعًا، وفي السَّفَرِ ركعتينِ، وفي الخوفِ ركعةً
وجْه الدَّلالةِ من هذه النُّصوصِ:
أنَّها عامَّةٌ في كلِّ سفرٍ، ولم تُقيَّدْ بسَفرِ الطَّاعةِ دون سفرِ المعصيةِ
ثالثًا: أنَّ كلَّ صلاةٍ جاز الاقتصارُ فيها على ركعتينِ، استوى في فِعلها الطائعُ والعاصي كالجُمُعةِ
رابعًا: أنَّ للمقيمِ رُخصةً وللمسافرِ رُخصةً، فلو مَنَعتِ المعصيةُ من رُخصةِ المسافِرِ لَمَنَعتْ من رُخصةِ المقيمِ، فلمَّا جازَ للمقيمِ أن يترخَّص أيضًا، وإنْ كان عاصيًا، جاز للمسافِرِ أن يترخَّصَ أيضًا وإنْ كان عاصيًا
خامسًا: أنَّه لو أنشأَ سفرًا في طاعةٍ من حجٍّ، أو جهاد، ثم جعَلَه معصيةً لسعيهِ بالفسادِ جازَ أن يَستبيحَ رُخَصَ السَّفرِ، كذلك إذا أنشأ سفرَه عاصيًا
سادسًا: أنَّه لَمَّا جازَ للعاصي أن يتيمَّمَ في سفرِه إجماعًا، ولم تمنعْه المعصيةُ من التيمُّم، فكذلك لا تَمْنَعُه من سائرِ الرُّخَصِ كالقَصرِ وغيرِه
سابعًا: أنَّ نفْس السَّفرِ ليس بمعصيةٍ، وإنَّما المعصيةُ ما يكونُ بَعدَه أو يُجاوِرُه، فصَلَحَ أن تتعلَّقَ به الرُّخصةُ
ثامنًا: أنَّ القُبحَ المجاوِرَ لا يعدمُ المشروعيَّةَ
المَطْلَب الرابع: أن يكونَ قد فارَق بلَدَه
يُشترَطُ في قَصْر الصَّلاة في السَّفَر أنْ يكونَ قد خرَج من بيوتِ بلدِه، وفارَق عمرانَها، وترَكها وراءَ ظَهرِه
، وهذا باتِّفاقِ المذاهبِ الفِقهيَّةِ الأربعةِ: الحَنَفيَّة، والمالِكيَّة، والشافعيَّة، والحَنابِلَة، وحُكيَ الإجماعُ على ذلك
الأدلَّة: أولًا: من الكِتاب
قال اللهُ تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا [النساء: 101]
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه رتَّب القصرَ على الضَّرْبِ في الأرضِ، والكائنُ في البُيوتِ ليس بضاربٍ في الأرضِ؛ فلا يَقصُر
ثانيًا: من السُّنَّة
عن أَنسِ بن مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلَّى الظُّهَر بالمدينةِ أربعًا، وصلَّى العصرَ بذِي الحُلَيفةِ رَكعتينِ
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه من المعلومِ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قدَّم النيَّةَ لسفرِه قبلَ الزَّوالِ، ثم أتمَّ الظهرَ؛ لأنَّه صلَّاها قبل خُروجِه، ولم يَقصُرْ حتى خرجَ من المدينةِ
ثالثًا: أنَّ الإقامة تتعلَّقُ بدخولِ بيوتِ البَلدِ فيتعلَّقُ السَّفرُ بالخروجِ عنها
رابعًا: أنَّه لَمَّا وجب عليه الإتمامُ إذا دخَلَ بنيانَ بلدِه عند قدومِه من سَفرِه إجماعًا، وجَب أنْ لا يجوزَ له القَصرُ في ابتداءِ خُروجِه قبلَ مُفارقةِ بُنيانِ بلدِه
خامسًا: أنَّ المقيمَ في بلدِه وإنْ خرَج عن منزلِه لا يُسمَّى مسافرًا؛ لأنَّ المقيم قد يَخرُج من منزلِه للتصرُّفِ في أشغالِه، فلمْ يجُزْ له القصرُ؛ لعدمِ الشَّرْطِ المبيحِ له
المَطلَبُ الخامس: دخولُ وقتِ الصَّلاةِ وهو في السَّفَرِ
لا يُشترَطُ لقصرِ الصَّلاةِ في السَّفرِ أن يكونَ قد دخَلَ عليه الوقتُ وهو في سفَرٍ، فمَن سافَر بعدَ دُخولِ الوقتِ فله قصرُ الصَّلاةِ، وهذا مذهبُ الجمهور: الحَنَفيَّة، والمالِكيَّة، والشافعيَّة، وروايةٌ عن أحمد، وحُكيَ الإجماع على ذلك
وذلك للآتي:
أولًا: أنَّ الاعتبارَ في صِفةِ الصَّلاةِ بحالِ الأداءِ لا بحالِ الوجوبِ، وهذا في حالِ الأداءِ مسافرٌ؛ فوَجَب أن يَقصُرَ
ثانيًا: أنَّه سافرَ قبلَ خروجِ وقتِها، أشبَهَ ما لو سافَرَ قبل وجوبِها
المَطلبُ السادس: مَن أحْرَم في الحضرِ ثمَّ سافَر، أو العَكْس
الفَرعُ الأوَّل: مَن أحْرَمَ بالصَّلاةِ في الحضَرِ ثمَّ سافَرَ
مَن أَحْرَمَ بالصَّلاةِ في الحضرِ ثم سافَرَ ، وجَب عليه أن يُتِمَّ الصلاةَ كالمُقيمِ.
الأدلَّة:أولًا: مِنَ الِإِجْماع
نقَل الإجماعَ على ذلك: الماورديُّ، والنوويُّ
ثانيًا: لأنَّها عبادةٌ اجتمع لها حُكمُ الحَضرِ والسَّفرِ؛ فغُلِّبَ حُكمُ الحَضرِ
ثالثًا: أنَّه ابتداءٌ للصَّلاةِ في حالٍ يَلزمُه إتمامُها، فلزِمَه الإتمامُ
الفَرْعُ الثَّاني: مَن أَحْرَم في السَّفر ثمَّ أقام
مَن أحْرَم في السَّفرِ ثمَّ أقامَ، وجَبَ أن يُتمَّها صلاةَ مقيمٍ؛ نصَّ على هذا فُقهاءُ الحَنَفيَّة، والشافعيَّة، والحَنابِلَة، وحُكِيَ الإجماع على ذلك؛ وذلك لأنَّها عبادةٌ اجتَمَع لها حُكمُ الحضَر والسَّفر؛ فغُلِّب حُكمُ الحَضَرِ
المَطلَبُ السابع: نِيَّةُ القَصرِ
اختَلفَ أهلُ العِلمِ في اشتراطِ نيَّة القَصرِ لجوازِ قَصْرِ الصَّلاةِ، على قولين:
القول الأوّل: أنَّ نيَّة القصرِ عند تكبيرةِ الإحرام شَرْطٌ لجوازِه، وهذا مذهبُ الشافعيَّة
، والحَنابِلَة، وأحد القولين للمالكيَّة، وبه قال أكثرُ الفقهاء؛ وذلك لأنَّ الأصلَ الإتمامُ، فإذا لم يَنوِ القصرَ انعقَدَ إحرامُه على الإتمامِ؛ فلم يجُزْ القصرُ كالمُقيمِ
القول الثاني: أنَّ القصرَ لا يَفتقِرُ إلى نيَّة، وهذا مذهبُ الحَنَفيَّة، وأحدُ القولينِ للمالكيَّة، وروايةٌ عن أحمدَ، واختاره ابنُ تَيميَّة، وابن عُثيمين
وذلك للآتي:
أولًا: أنَّ قَصرَ الصلاةِ في السَّفرِ هو الأصلُ؛ فلم يَفتقرْ إلى نيَّة
ثانيًا: وأنَّه كما أنَّ المقيمَ لا يَلزمُه نِيَّةُ الإتمام، كذا المسافرُ لا يَلزمه نيَّةُ القصرِ
ثالثًا: ولأنَّه لم يَنقُلْ قطُّ أحدٌ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه أمَرَ أصحابَه لا بِنيَّةِ قصْرٍ، ولا نِيَّة جمْع، ولا كان خلفاؤه وأصحابُه ولا التابعون يأمرون بذلك مَن يُصلِّي خَلفَهم مع أنَّ المأمومين- أو أكثرهم- لا يَعرِفون ما يَفعلُه الإمامُ
المَبحثُ الرابع: قضاءُ صَلاةِ السَّفرِ في الحضَرِ، أو العَكْس
المطلب الأوَّل: قضاءُ صلاةِ الحضرِ في السَّفرِ
مَن فاتتْه صلاةٌ في الحضَرِ قضاها في السَّفرِ تامَّةً، وهذا باتِّفاقِ المذاهبِ الفقهيَّة الأربعة: الحَنَفيَّة
، والمالِكيَّة، والشافعيَّة، والحَنابِلَة، وحُكي الإجماعُ على ذلك
وذلك للآتي:
أولًا: أنَّ القضاء يَحكِي الأداءَ
ثانيًا: أنَّها وجبتْ في الوقتِ كذلك، وفاتتْه كذلك، فيُراعَى وقتُ الوجوبِ لا وقتُ القَضاءِ
ثالثًا: أنَّها ثبتَتْ في ذِمَّتِه تامَّةً؛ فيَجبُ قضاؤُها كذلك
المطلب الثاني: قضاءُ صلاةِ السَّفرِ في الحضَرِ
اختَلَف أهلُ العِلمِ فيمَنْ فاتتْه صلاةٌ في السَّفرِ فأراد قضاءَها في الحضَرِ على قولين:
القول الأوّل: مَن فاتتْه صلاةٌ في السَّفرِ قضاها في الحضَرِ مقصورةً، وهذا مذهبُ الحَنَفيَّة
، والمالِكيَّة، وبه قال الشافعيُّ في القديمِ، وهو قولُ سفيانَ الثوريِّ، واختارَه ابنُ عثيمين
الأدلَّة: أولًا: من السُّنَّة
عن أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن نَسِيَ صَلاةً أو نام عنها فكفَّارتُها أن يُصلِّيَها إذا ذَكرَها
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الحديثَ يدلُّ على أنَّه يُصلِّي تلك الصَّلاةَ التي نسِيَها أو نام عنها بعينِها ووصْفِها، إنْ كانتْ مقصورةً فمقصورةً، وإنْ كانتْ غيرَ مقصورةٍ فغيرَ مقصورةٍ
ثانيًا: أنَّ القضاءَ يَحكي الأداءَ
ثالثًا: أنَّها وجبتْ في الوقتِ كذلك، وفاتتْه كذلك، فيُراعَى وقتُ الوجوبِ لا وقتُ القَضاءِ
رابعًا: أنَّها صلاةُ سفرٍ؛ فكان قضاؤُها كأدائها في العدَد كما لو فاتتْه في الحضَر فقَضاها في السَّفرِ
خامسًا: أنَّه إنما يَقضِي ما فاتَه، ولم يفته إلا ركعتان
القول الثاني: أنَّ مَن فاتتْه صلاةٌ في السَّفرِ فقَضاها في الحضرِ، وجَب عليه أن يُتمَّها، وهذا مذهبُ الشافعيَّة على الأصحِّ، والحَنابِلَة، وبه قال الأوزاعيُّ، وداود الظاهريُّ، واختاره ابنُ باز
الأدلَّة:أولًا: من السُّنَّة
عن أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عنه أن نبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن نسِي صلاةً أو نامَ عنها فكفَّارتُها أنْ يُصلِّيَها إذا ذكَرَها
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الأمرَ بصلاتها إذا ذكرَها يدلُّ على أنَّه إنما وجبَتْ عليه في الحضَرِ حين ذكرَها، فيُتمُّها أربعًا
ثانيًا: أنَّه تخفيفٌ تعلَّق بعُذرٍ، فزال بزوالِ العُذرِ كالقُعودِ في صلاةِ المريضِ
ثالثًا: أنَّه اجتمَع ما يَقتضي القصرَ والإتمامَ، فغُلِّب جانبُ الإتمام، كما لو أقام المسافِرُ
المَبحثُ الخامس: إتمامُ المُسافِرِ إذا صلَّى خلْفَ مُقيمٍ
إذا ائتمَّ مسافرٌ بمقيمٍ وجَبَ عليه الإتمامُ، وهذا باتِّفاقِ المذاهبِ الفقهيَّة الأربعة: الحَنَفيَّة
، والمالِكيَّة، والشافعيَّة، والحَنابِلَة، وهو مذهبُ عامَّة الفقهاءِ، وحُكِي الإجماعُ على ذلك
الأدلَّة:أولًا: من السُّنَّة
1- عن مُوسَى بنِ سَلمةَ قال: (كنَّا مع ابن عبَّاسٍ بمَكَّةَ، فقلتُ: إنَّا إذا كنَّا معكم صلَّيْنا أربعًا، وإذا رجَعْنا إلى رِحالنا صَلَّيْنا ركعتينِ، قال: تِلك سُنَّةُ أبي القاسِمِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم )
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ قوله (السُّنة) يَنصرِفُ إلى سُنَّة رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
2- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّما جُعِلَ الإمامُ ليُؤتمَّ به؛ فلا تَختَلِفُوا عليه ))
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ مفارقةَ إمامِه اختلافٌ عليه، فلم يَجُزْ مع إمكانِ مُتابعتِه
3- عن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يقول: ((إذا أُقيمتِ الصَّلاةُ فلا تأتوها تَسعَوْنَ، وأتُوها تَمشُونَ وعليكم السَّكينةُ؛ فما أدركتُم فصلُّوا، وما فاتَكم فأتمُّوا ))
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ عُمومَ الحديثِ يدلُّ على مُتابعةِ الإمامِ
ثانيًا: من الآثارِ
عن نافِعٍ قال: (كان ابنُ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنه إذا صلَّى مع الإمامِ صلَّاها أربعًا، وإذا صلَّى وحْدَه صلَّاها رَكعتينِ)
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ هذا فِعلُ ابن عُمرَ، وكذلك ورد عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ولا مخالفَ لهم من الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم
ثالثًا: أنَّ قصْد الاقتداءِ من المسافِر بالمقيم يكونُ بمنزلةِ نيَّة الإقامةِ في حقِّ وجوبِ التَّكميلِ
رابعًا: أنَّه اجتمع ما يَقتضي القصرَ والتَّمامَ، فغُلِّب التمامُ، كما لو أحْرَم بها في السَّفرِ ثم أقام
اختلَف أهلُ العِلم في إتمام المسافِر وقصره للصلاة إذا ائتمَّ بمَن يشكُّ فيه؛ هل هو مسافرٌ أو مُقيمٌ؟ على قولين:
القول الأول: إذا ائتمَّ مسافرٌ بمَن يشكُّ في حاله؛ هل هو مسافرٌ أو مقيم، وجَب عليه الإتمامُ، وهذا مذهبُ الشافعيَّة، والحَنابِلَة
وذلك للآتي:
أولًا: عدَم الجزمِ بكونه مسافرًا عندَ الإحرامِ
ثانيًا: أنَّ الأصلَ وجوبُ الصَّلاةِ تامَّةً، فليس له نِيَّةُ قَصْرِها مع الشكِّ في وجوبِ إتمامِها
القول الثاني: أنَّه يلزمُه الإتمامُ إذا أتَمَّ إمامُه، أمَّا إذا قصَر الإمامُ فلا يلزمه الإتمامُ، وهذا وجهٌ عندَ الشافعيَّة، واختارَه ابنُ عثيمين؛ وذلك لأنَّ الأصلَ في صلاةِ المسافِرِ القَصرُ، ولا يَلزَمُه الإتمامُ خَلْفَ الإمامِ إلَّا إذا أتمَّ الإمامُ، وهنا لم يُتمَّ الإمامُ
---------------------------------------------------------------------------------
وما زلنا احبابنا
تابعونا جزاكم الله خيرا
لا تنسونا من صالح دعائكم
عدل سابقا من قبل sadekalnour في الخميس أكتوبر 20, 2022 9:14 pm عدل 2 مرات
أمس في 3:20 pm من طرف عبدالله الآحد
» وجوب الدعوة إلى توحيد الله سبحانه
الخميس نوفمبر 21, 2024 3:00 pm من طرف عبدالله الآحد
» كتاب الترجيح في مسائل الطهارة والصلاة
الأربعاء نوفمبر 20, 2024 9:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» وجوب التوكل على الله وخده لا شريك له
الأربعاء نوفمبر 20, 2024 3:26 pm من طرف عبدالله الآحد
» أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 5:24 pm من طرف عبدالله الآحد
» العبادة وأركانها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 2:55 pm من طرف عبدالله الآحد
» الراجح من أقوال العلماء أن جلسة الاستراحة سنة في الصلاة
الإثنين نوفمبر 18, 2024 2:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» -(( 3 -))- خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
الأحد نوفمبر 17, 2024 10:15 pm من طرف صادق النور
» لا يعلم الغيب إلا الله وحده لا شريك له
الأحد نوفمبر 17, 2024 3:12 pm من طرف عبدالله الآحد
» تابع زبدة التوحيد لنعمان بن عبد الكريم الوتر
السبت نوفمبر 16, 2024 2:15 pm من طرف عبدالله الآحد