وقد نقلناها لكم أحبننا بأمانه كما هي دون زيادة أو نقصان
أذكار الصباح والمساء
"اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور"
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
من أذكار الصَّباح والمساء ما جاء من حديث أبي هريرة قال: كان رسولُ الله ﷺ يُعلِّم أصحابَه يقول: إذا أصبح أحدُكم فليقل: اللهم بك أصبحنا، وبك أمسينا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك المصير، وإذا أمسى فليقل: اللهم بك أمسينا، وبك أصبحنا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك النُّشور[1].
أخرجه أبو داود، والترمذي، وسكت عنه أبو داود، وما سكت عنه فهو صالحٌ للاحتجاج عنده، وصححه الإمامُ النَّووي[2]، وابن دقيق العيد[3]، والحافظ ابن القيم[4]، والهيثمي[5]، والحافظ ابن حجر قال في موضعٍ: "صحيحٌ، غريبٌ"[6]، وهكذا أيضًا صححه من المعاصرين: سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز[7] -رحمه الله-، والشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله- قال مرةً: "حسنٌ، صحيحٌ"[8]، وقال مرةً: "صحيحٌ"[9]، وقال مرةً: "إسناده جيدٌ، رجاله ثقات، رجال مسلم"[10]، وقال مرةً: "إسناده صحيحٌ، رجاله ثقات، رجال مسلم"[11]، وفي موضعٍ حسَّن إسناده[12]، وممن حسَّن إسناده أيضًا الإمام البغوي[13]، وكذلك أيضًا الحافظ ابن حجر[14] في موضعٍ سوى الموضع، موضع آخر غير الموضع السَّابق، وكذلك أيضًا السيوطي[15] حسَّن إسناده.
كان رسولُ الله ﷺ يُعلِّم أصحابَه يقول: إذا أصبح أحدُكم فليقل، إذا أصبح أحدُكم يعني: دخل في الصَّباح، وعرفنا أنَّ الصباحَ يدخل بطلوع الفجر الصَّادق، وأنَّ الأفضلَ في هذه الأذكار أن تُقال بعد صلاة الفجر، وقبل طلوع الشمس في وقت الغدو، هذا هو أفضل هذه الأوقات.
إذا أصبح أحدُكم فليقل: اللهم بك أصبحنا، اللهم بك أصبحنا يحتمل أن يكون المعنى: بك أصبحنا أي: مُتلبِّسين بحفظك، أو مغمورين، أو مُشتغلين بذكرك، أو مُستعينين باسمك، أو مشمولين بتوفيقك، أو مُتحركين بحولك وقُوتك، ومُتقلبين بإرادتك، وما إلى ذلك من المعاني التي يحتملها هذا اللَّفظ.
بك أصبحنا فنحن حينما نُصبح بك أصبحنا بالله -تبارك وتعالى-، إذن الله -تبارك وتعالى- هو الذي أحيانا إلى هذا الصَّباح حتى دخلنا فيه، ونحن لا نستغني عن ألطافه، وبرِّه، وإحسانه، ومعونته طرفةَ عينٍ، فبه أصبحنا، ولولا ذلك لما دخلنا في هذا الصَّباح، ولما أدركناه، فإنما دخولنا فيه بإبقاء الله لنا، وبإعانته، وما إلى ذلك من حفظه وإنعامه وتوفيقه.
وبك أمسينا أي: أنا دخلنا في المساء، أو ندخل في المساء بإبقائك لنا، بحفظنا حتى نُدركه، بإعانتك، وما إلى ذلك، فالعبد إنما قيامه بالله -تبارك وتعالى-، وذكرنا هذا في بعض المناسبات في الكلام على معنى القيّوم، وقلنا: إنَّ القيومَ من أسمائه، يعني: أنَّه القائم بنفسه، المقيم غيره، فلا قيامَ للخلق إلا بإقامته لهم، وهو القائم على أرزاقهم، وآجالهم، وأعمالهم، فبه يُصبحون، وبه يُمسون، وبه يُظهرون -يدخلون في وقت الظَّهيرة-؛ ولهذا قال بعده: وبك نحيا، وبك نموت، بك نحيا يعني: بإحيائك، أنت الذي تُحيينا، وبك نموت فأنت الذي تقبض أرواحنا، وتتوفى نفوسنا.
وإليك النُّشور يعني: البعث بعد الموت، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي يبعث الخلائق: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِرُهَا [البقرة:259] على هذه القراءة المتواترة، فالله -تبارك وتعالى- يبعثها ويُحييها بعدما تفرَّقت وتحوَّلت إلى ترابٍ، فالله -تبارك وتعالى- إليه النُّشور، وليس إلى أحدٍ سواه، فهو القادر على ذلك، والخلق يُحشرون إليه؛ فيُجازيهم على أعمالهم، ويُحاسبهم على ما قدَّموا من خيرٍ وشرٍّ؛ ولهذا قال: وإليك المصير في المساء.
في الصَّباح: وإليك النُّشور، وفي المساء: وإليك المصير يعني: المرجع والمآب: إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى [العلق:8]، فكل الخلق يرجعون إليه ، والله -تبارك وتعالى- لما ذكر تفرّق الحجيج في يوم النفر الأول والثاني –يوم الثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجّة- قال: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203]، فهؤلاء الذين يتفرَّقون من منى لا يجتمعون إلى يوم القيامة، يذهبون إلى أقطار المعمورة، لا يمكن أن يجتمع هؤلاء جميعًا للحجِّ الآخر، أو لأي موسمٍ كان، نفس هؤلاء، فبعضهم يموت قبل أن يصل إلى بلده، وبعضهم يصل ويموت في بلده، وبعضهم لا يُمهل إلى العام الذي بعده، وبعضهم لا يتيسّر له الحجّ، وبعضهم يمرض، فالله هو الذي يحشر هؤلاء بعد أن يتفرَّقوا، لا يستطيع أحدٌ أن يجمعهم ثانيةً.
فهنا إلى الله -تبارك وتعالى- المصير، والنبي ﷺ قال في الصَّباح: وإليك النُّشور، وفي المساء: وإليك المصير، هذا على أظهر الرِّوايات، وإلا فقد جاء بعكس ذلك: بك أصبحنا، وبك أمسينا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك المصير، وفي المساء: وإليك النُّشور، لكن هذه الرِّواية هي الأظهر -والله تعالى أعلم-، وهذا في غاية المناسبة؛ وذلك أنَّ الصباحَ يُشبه النَّشر؛ نشر الأرواح: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر:42]، فحينما يتنفّس الصباحُ فهذا يومٌ جديدٌ بُعِثَ، هذا يومٌ خلقه الله -تبارك وتعالى-، وتُردّ الأرواح إلى الأجسام ثانيةً بعد أن فارقتها مُفارقةً جزئيةً يرتفع معها الإدراكُ بالنّوم، الوفاة الصُّغرى.
فحينما يُصبح يُناسِب أن يقول: وإليك النُّشور، فهذا يُذكره بالإحياء والبعث الأكبر حينما يموت الناس ويُبعثون يوم القيامة، فهذا بعثٌ جديدٌ، ويومٌ جديدٌ تُردّ فيه الأرواح، وينتشر فيه الناس، ويتنفّس هذا الصَّباح الجديد الذي خلقه الله ؛ ليكون شاهدًا على ابن آدم، وتكون أوقاته وآناؤه خزائن لأعمالنا.
وفي المساء حينما يتصرّم هذا اليوم، ويرجع الناسُ من أعمالهم وانتشارهم في مصالحهم ومعايشهم، يرجعون إلى دورهم، ويخلدون إلى الراحة بعد أن تفرَّقوا، فهنا هذا يُناسب قوله: وإليك المصير، انصرم هذا اليوم الجديد الذي رُدَّت فيه الأرواح إلى الأجساد: وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر:42]، ثم بعد ذلك يصيرون أيضًا إلى وفاةٍ أخرى، هكذا تتجدد في كل يومٍ وليلةٍ، فإلى الله -تبارك وتعالى- المرجع، والمآل، والمصير.
فهذا كلّه يُذكّر المؤمن حينما يُردده بأجله، يُذكره بعمله: أنَّ هذا يومٌ جديدٌ عليه أن يتَّقي الله فيه، وأن يكون شاهدًا له، لا شاهدًا عليه، وألا يقضي أوقاتَه في باطلٍ، أو في بطالةٍ، من غير عملٍ لا ينفعه: لا في الدنيا، ولا في الآخرة، الكل سيموتون، سينتقلون إلى الدار الآخرة، والآخرة دارٌ لا تصلح للمفاليس، وهذا الكدح، وهذه المزاولات والذَّهاب والمجيء والخطوات والأعمال التي نعملها هي الأرصدة التي نُرسلها، ثم بعد ذلك نجدها وافيةً، كاملةً، غير منقوصةٍ: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
فهناك يتذكر الإنسانُ ما سعى، يتذكر أعمالَه وسعيه، يتذكّر كسبَه وجدَّه وهزلَه وتقصيره، وما إلى ذلك مما كان يدَّخره لآخرته.
كل يومٍ يُرسِل هذه الأعمال، وهي مرصودة تنتظره، ولا يدري متى يُوافي، ثم بعد ذلك تكون هذه الأعمال: إمَّا مِهادٌ من النَّعيم، وإما مِهادٌ من الجحيم.
فهذه الحياة الحقيقية التي يحتاج الإنسانُ أن يسعى لها، وليست هذه الحياة الدُّنيا المليئة بالأكدار والمنغِّصات، فيُصبح العبدُ حاله مع ربِّه -تبارك وتعالى-، فهذا يُذكره في كل يومٍ بالنُّشور، ويُذكّره بالمصير، ويُذكّره أيضًا بأنَّه لا حولَ له، ولا طولَ، ولا قوّة، وأنَّه ضعيفٌ، فلا يحصل منه طُغيان، ولا بغي، ولا ظلمٌ لأحدٍ؛ لأنَّه يقول: بك أصبحنا، وبك أمسينا، وبك نحيا، وبك نموت، ما منا شيءٌ، فنحن أضعف من أن نُصبح بحولنا وقوّتنا وتدبيرنا وإرادتنا، أو أن نُمسي بذلك، إنما أنت الذي تُقيمنا، وأنت الذي تُعيننا، وأنت الذي تحفظنا، وأنت الذي تُحيينا، وأنت الذي تُميتنا.
فهنا تكون عبوديةُ القلب تامَّةً، ومُتوجّهةً للمالك المعبود ؛ فيعظم افتقارُ العبد إلى ربِّه -جلَّ جلاله، وتقدَّست أسماؤه-.
وهنا يتذكّر العبدُ نعمةَ الله عليه؛ أن أمهله إلى هذا اليوم الجديد الذي هو بعثٌ جديدٌ، ويتذكّر أنَّه ستأفل شمسُه وتغيب بما أُودع فيه؛ فيُحاسِب نفسَه من أول لحظةٍ: بك أصبحنا، وبك أمسينا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك النُّشور، هكذا يُردده على نفسه في آخر النَّهار، دروسٌ يتلقَّنها المسلمُ، ومُذاكرة يذكر بها نفسَه.
فلو كنا نعي مثل هذه الأذكار لتغيرت قلوبنا، وتغيرت أعمالنا، وتغير واقعنا، وتغيرت نظرتنا للحياة؛ فأصبح الإنسانُ في حالٍ من الصِّلة بالله ، وحُسن الصِّلة بإخوانه المسلمين، والإحسان إليهم، والإحسان مع ربِّه -تبارك وتعالى-، كل هذا يتذكّره بمثل هذه الأذكار التي يُرددها صباح مساء.
هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.
والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
--------------------------------------------------------
أخرجه أبو داود: أبواب النوم، باب ما يقول إذا أصبح، برقم (5068)، والترمذي: أبواب الدَّعوات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في الدُّعاء إذا أصبح وإذا أمسى، برقم (3391).
"الأذكار" للنووي، ط. ابن حزم (ص158)، برقم (433).
"الاقتراح في بيان الاصطلاح" (ص118).
"زاد المعاد في هدي خير العباد" (2/337).
"مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (10/114)، برقم (16993).
انظر: "نتائج الأفكار" (2/330-331).
"مجموع فتاوى ابن باز" (26/27).
"تخريج الكلم الطيب" (ص69).
"صحيح الأدب المفرد" (ص465)، برقم (1199).
"سلسلة الأحاديث الصَّحيحة وشيء من فقهها وفوائدها" (1/526)، برقم (263)، وهذا لفظ ابن ماجه.
"سلسلة الأحاديث الصَّحيحة وشيء من فقهها وفوائدها" (1/525)، برقم (262).
"صحيح الجامع"، برقم (353).
انظر: "شرح السنة" للبغوي (5/112)، برقم (1325).
انظر: "نتائج الأفكار" (2/330-331).
لم أقف عليه.
#########################################
أذكار الصباح والمساء
"اللهم أنت ربي خلقتني وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ..."
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
سنُواصل الحديث في الكلام على الأحاديث الواردة عن النبي ﷺ في الصباح والمساء، ومن ذلك ما جاء عن شداد بن أوس ، عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنَّه قال: سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ، أعوذ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي، فإنَّه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت، قال: مَن قالها من النَّهار مُوقنًا بها، فمات من يومه قبل أن يُمسي؛ فهو من أهل الجنَّة، ومَن قالها من الليل وهو مُوقِنٌ بها، فمات قبل أن يُصبح؛ فهو من أهل الجنَّة[1]. أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله- في "صحيحه".
وقوله ﷺ: سيد الاستغفار السَّيد في كلام العرب يُقال للرئيس المقدّم الذي يُقصد في الحوائج، وهذا الحديث قيل له: سيد الاستغفار -والله تعالى أعلم- بالنَّظر إلى ما تضمّنه من المعاني العظيمة التي سيأتي الحديثُ عنها، فإذا ما قُورن بقول العبد: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، أو نحو ذلك؛ فإنَّ هذا الحديثَ أو ما جاء في هذا الحديث بلا ريبٍ أتمّ وأوفى من جهة المعنى والمضمون؛ لما فيه من الإقرار للمعبود -تبارك وتعالى- بجملةٍ من الأمور العظيمة، وكذلك أيضًا إقرار العبد بأمورٍ على نفسه، مع ذكر رجوعه إلى ربِّه، واعترافه بنعمته، كلّ هذا سيأتي بيانُه إن شاء الله.
فقوله: اللهم أنت ربي فـ(اللهم) يعني: يا الله، اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني، وأنا عبدك هنا يتذلل العبدُ لربِّه -تبارك وتعالى-، ويخضع، وينكسر بين يديه، فهو يُقرّ له -تبارك وتعالى- بربوبيَّته: أنت ربي، وإلهيته، فكأنَّه يقول: أنت ربي، لا ربَّ لي سواك، ولا خالقَ غيرك، فالربُّ هو السَّيد، المدبّر، المربِّي خلقه بما يغذوهم به من النِّعَم الظَّاهرة والباطنة، الحسيَّة والمعنوية، كلّ هذا داخلٌ فيه، فهو يصرفهم ويُدبّر شؤونهم.
فهذا العبد يعترف يقول: يا الله، أنت ربي، أنت سيدي ومولاي، أنت مُدبر شؤوني، أنت خالقي، أنت الذي تتصرف بي كيف شئتَ، فهذا إقرارٌ بتوحيد الربوبية، ثم أعقبه بعد ذلك بالإقرار بتوحيد الإلهية؛ لأنَّ مَن كان مُتصرفًا، مُدبِّرًا، خالقًا، مُحييًا، مُميتًا، رازقًا؛ فإنَّه ينبغي أن تتوجّه إليه القلوب والنُّفوس والأرواح بكُليتها، فتُقرّ له بالإلهية؛ أنَّه المعبود وحده دون مَن سواه، إذا كان الذي يملك هذا جميعًا لا ينبغي أن يتوجّه إلى أحدٍ سواه.
فهنا يقول: أنت ربي الذي خلقتني، ليس لي خالقٌ سواك، لا إله إلا أنت؛ ولذلك نجد كثيرًا في القرآن تقرير توحيد الربوبية، من أجل التَّوصل بذلك إلى الإلزام بتوحيد الإلهية الذي خالف فيه مَن خالف من أعداء الرسل، فهنا يقول: لا إله إلا أنت لا معبودَ بحقٍّ سواك، فأنت وحدك المستحقّ للعبادة، فهو يُعلن توحيدَ الإلهية؛ ولهذا قال بعده: وأنا عبدك أنا عابدٌ لك، مُتوجِّهٌ إليك بأعمالي مما أتقرّب به، فأنت المعبود بحقٍّ، لا معبودَ بحقٍّ سواك، أنت ربي، لا إله إلا أنت، لا معبودَ سواك، وأنا عبدك.
فهو يُضيف الربوبية إلى الربِّ، ويُعلن أنَّه مربوبٌ، وأنَّ الله هو الذي خلقه؛ فيصرف طاعته وعبادته إلى مَن خلق ورزق وأعطى وأنعم، فهذا توحيد الإلهية؛ ولذلك كان الشركُ بالله أظلم الظُّلم؛ لأنَّه يصرف عبادته وشُكره إلى غير مَن خلقه؛ ولذلك نجد كثيرًا في القرآن الرَّبط بين العبادة والخلق، أول أمرٍ في القرآن: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، هذا أول أمرٍ، ولو تتبعتَ ذلك في القرآن لوجدتَه كثيرًا يأمر بالعبادة، ويُضيف ذلك ويُعلل هذا الأمر بأنَّ الخالقَ هو الذي ينبغي أن تُصرف له العبادة دون مَن سواه؛ يخلق، ويرزق، ويُعطي، ويُنعِم، ثم يُصرف الشُّكر لغيره، فهذا لا يليق بحالٍ من الأحوال، وهو أظلم الظُّلم: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].
ثم يقول بعد ذلك: وأنا على عهدك ووعدك يعني: أنا على عهدك، أي: مُقيمٌ على الوفاء بعهدك، ما هذا العهد؟
بعض أهل العلم قال: عهد الميثاق: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172]، وقد استخرج اللهُ من صُلب آدم ذُريته كهيئة الذَّر، وأشهدهم، وأخذ عليهم الميثاق، فبعض أهل العلم حمله على هذا: أنا على عهدك ووعدك، وفسَّروا الوعدَ بيوم الحشر والبعث والنُّشور، هكذا قال بعضُ أهل العلم.
وأحسن من هذا ما قاله الحافظُ ابن القيم -رحمه الله-: بأنَّ المقصودَ بالعهد والوعد أنَّ ذلك يعني إعلانه أنه مُلتزمٌ بشرعه وأمره ودينه، وهو عهده الذي عهده إلى عباده، وهو مُصدِّقٌ بوعده، وهو جزاؤه وثوابه، فتضمّن ذلك التزام الأمر، والتَّصديق بالموعود؛ وهو الإيمان بهذا العهد والاحتساب، وذلك بالنَّظر إلى الوعد، ويحتسب جزاء ذلك من الثَّواب والجنَّة، وما إلى ذلك.
ثم لما علم العبدُ أنَّه لا يستطيع أن يُوفي هذا المقام حقَّه الذي يصلح له بما يليق بالمعبود علَّق ذلك بالاستطاعة والقُدرة، فقال: ما استطعت يعني: بقدر طاقتي، بقدر جهدي، بقدر إمكاني، فأنا مقيمٌ على ذلك من الإيمان والإخلاص بما أستطيع، مُتمسِّكٌ بذلك، مُحتسبٌ الأجر والثَّواب والجزاء عندك، لكن هو في ضمن ذلك يعترف بعجزه وضعفه عن القيام بحقِّ ربِّه ومالكه ومعبوده ، ويقول: أنا لا أقدر أن أعبدك حقَّ عبادتك، لكن بقدر طاقتي.
وهذا المعنى الذي ذكره الحافظُ ابن القيم[2] أوضح مما قاله ابنُ الأثير[3] -رحم الله الجميع-؛ من أنَّ المقصودَ من قوله: ما استطعت يعني: ما جرى به القدر ألا يقع ولا يتحقق فذلك لا يكون، فاستثنى ذلك، والأول أحسن.
ومثل الذي قال الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- ذكر شيخُ الإسلام ابن تيمية[4] -رحمه الله-؛ يقول: "أنا أقوم بذلك بقدر استطاعتي، لا بقدر ما تستحقّ، فأنا لا أُطيق هذا، ولا أُوفي حقَّك مهما بذلتُ، ومهما عملتُ، ومهما اجتهدتُ".
يقول: أنا على عهدك، أنا مُقيمٌ على عهدك ووعدك ما استطعتُ، قدر استطاعتي.
ثم يقول: أعوذ بك من شرِّ ما صنعتُ، والعوذ بمعنى الالتجاء إلى مَن يحتمي به، مَن يعتصم بالله -تبارك وتعالى- من شرِّ الذي صنع؛ من شرّ مغبَّته وسُوء عاقبته، من حلول نقمته، يعوذ بالله من ذلك كلِّه، كما أنَّه يعوذ بالله -تبارك وتعالى- من الرجوع إلى ذلك ومُعاودته، أو الاستمرار والإصرار عليه.
هو يستعيذ بذلك من هذه الأمور والمدنِّسات والمساوئ التي تصدر منه، يستعيذ بالله منها؛ لأنَّها تهبط بالعبد في الدنيا، وتهبط بمرتبته في الآخرة، وقد تكون سببًا للتَّسليط عليه في الدنيا، كما تكون سببًا أيضًا للعذاب في الآخرة، فيستعيذ بالله من ذلك.
ثم يقول: أبوء لك يعني: أرجع وأُقرّ وألتزم، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي هنا يعترف أولاً بأنَّ الله مُنعِمٌ عليه، فهو خاضعٌ له -تبارك وتعالى-، لا ينسى إنعامَ الله -تبارك وتعالى- عليه، ونِعَم الله كثيرةٌ لا تُحصى ولا تُعدّ، وكما جاء عن بعض السَّلف: "إن أردتَ أن تعلم قدر ما أنعم الله عليك فَغَمِّضْ عينيك"[5]، يعني: حتى تستحضر بعض هذه النِّعَم انظر إلى البصر وحده: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53].
فهنا يعترف بأنَّ الله أنعم عليه، ولم يُقيد ذلك: أبوء لك بنعمتك، والنِّعمة مفردٌ مُضافٌ، فهذا للعموم، يعني: يشمل جميع النِّعَم، مُقرٌّ بجميع النِّعَم الظَّاهرة والباطنة، ما علمتُ، وما لم أعلم، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأيضًا هذا يتضمن الاعتراف بالتَّقصير؛ لكونه لا يُؤدي شُكرها.
وكذلك أيضًا: وأبوء بذنبي يعترف بذنوبه، مع أنَّ الله -تبارك وتعالى- أكرمه، وأعطاه، وأولاه، وأنعم عليه، وهو ربّه، ومولاه، وخالقه، ومع ذلك تقع منه الذنوبُ بأنواعها؛ بفعل المعاصي، وكذلك أيضًا بالتَّقصير في أداء الطَّاعات، لا يأتي بها على الوجه اللَّائق بجلال الله وعظمته، فهو يقول: يا ربّ، أنا مُعترفٌ لك بإنعامك عليَّ، وأني أنا المذنب، فمنك الإحسان، ومني الإساءة، فأنا أحمدك على نعمك، وأنت أهلٌ لأن تُحْمَد، وأستغفر ذنبي.
تصور الإنسان يشهد هذه المعاني والحقائق، وتقوم بقلبه في كل صباحٍ، وفي كل مساءٍ، كيف يكون حالُه مع ربِّه -تبارك وتعالى-؟! كيف يكون هذا الإنسانُ في سلوكه وعمله؟! كيف يكون قلبُه؟! كيف يكون لسانُه؟! كيف يكون بصرُه؟! كيف يكون تعامُله مع هذه النِّعَم؟!
هذا لا يمكن أن يصدر منه الأشرُ، ولا البطرُ، ولا يمكن أن يحصل منه البغيُ، ولا يمكن أن يُجاهر بمعصية الله -تبارك وتعالى-، ولا يمكن أن يحصل عنده تعاظمٌ، أو التفاتٌ إلى عمله؛ فيحصل له العُجب بالعمل، أو يحصل عنده الكِبر، أو يحصل عنده الزَّهو، أو نحو ذلك، يقول: أنا المقصّر، أنا الضَّعيف، أنا العاجز، أنا المذنب، وأنت الربّ المنعِم المتفضّل، كلّ ذلك يستحضره بقلبه.
فمتى شهد العبدُ هذين الأمرين كما يقول شيخُ الإسلام[6] ابن تيمية -رحمه الله- استقامت له العبودية، وترقَّى في درجات المعرفة والإيمان، وتصاغرت إليه نفسُه، وتواضع لربِّه -تبارك وتعالى-، وهذا هو كمال العبوديَّة، به يبرأ من العُجب، والالتفات إلى النَّفس، والتَّزين بالعمل، والكِبر، والتَّعاظم، وما إلى ذلك.
ثم يقول بعد أن يبوء ويعترف بهذه النِّعَم، ويرجع من ذنوبه، وهذه توبة، يقول: فاغفر لي، فبعد هذه المقدّمة كلّها الاعتراف بالتوحيد، وبإنعام الله وإفضاله، وتقصير العبد، والإخبار عن نفسه أنه مُقيمٌ على عهده ووعده بقدر استطاعته، والاعتراف بالنِّعَم، والاعتراف بالذُّنوب.
ثم يقول: فاغفر لي والفاء هنا تدلّ على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، أنا مُعترفٌ بهذا كلِّه، أنا مُقصِّرٌ، أنا مُقيمٌ على طاعتك، أنا أُوحدك، أنا أعبدك، أنت ربي، أنت إلهي، فاغفر لي، اغفر جميع الذُّنوب، فإنَّ رحمتك واسعة، أنت صاحب العفو، لا يتعاظمك ذنبٌ، أنت الغفور، الرَّحيم، الرؤوف.
فإنَّه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت، اغفر لي فإنَّه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت، الفاء هذه تدلّ على التَّعليل، هذا الذي يُسمَّى بدلالة الإيماء والتَّنبيه عند الأصوليين، بما أنَّه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت فاغفر لي، إنَّه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت.
والله -تبارك وتعالى- يقول: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، فهؤلاء هم الذين وعدهم بالمغفرة: أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ [آل عمران:136]، فنكَّر المغفرة هنا للتَّعظيم.
فهنا فإنَّه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت، يقول: مَن قالها من النَّهار يعني: في بعض أجزائها من النَّهار، والنَّهار يبدأ من طلوع الشَّمس إلى غروبها، كلّ هذا يُقال له: نهار، وينقسم إلى قسمين: صباح ومساء، اليوم يبدأ من طلوع الفجر شرعًا، وينتهي بغروب الشمس، وليلته تسبقه، فاليوم والليلة: اليوم يبدأ من الفجر إلى غروب الشمس، والليلة تسبقه: من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، يعني: نحن اليوم انصرم يوم الاثنين، لا يصحّ أن نقول: "يوم الاثنين" بعد العشاء الآن، وإنما نقول: "ليلة الثلاثاء"، يوم الاثنين طُوِيَ بغروب الشَّمس هذا اليوم، وليلته هي التي مضت، فابتدأت ليلةُ الثلاثاء من غروب الشمس، فإذا طلع الفجرُ فهذا يوم الثلاثاء، فإذا طلعت الشمسُ فهذا النَّهار، فيستمرّ اليوم إلى غروب الشمس، والنَّهار من طلوعها إلى غروبها.
فهنا يقول النبيُّ ﷺ: مَن قالها من النَّهار، قال سيد الاستغفار هذا من النَّهار، من طلوع الشمس إلى غروبها، فهذا بأي جزءٍ من أجزائه، يعني: يُقال في أول النَّهار، في وسطه، بعد الظهر، بعد العصر، فهذا أعمّ من أن يكون من أذكار الصَّباح والمساء، وإنما يصلح أن يكون من أذكار اليوم والليلة، هذا يصلح مثالاً على أذكار اليوم والليلة.
وهناك فرقٌ بين أذكار الصَّباح والمساء، وأذكار اليوم والليلة على ما ذكرنا في الكلام على المساء في مبدئه ومُنتهاه.
فهنا يقول: مَن قالها من النَّهار يعني: في أي جزءٍ من أجزائه، مُوقِنًا بها بما تضمّنته من أنواع التوحيد، والتَّوبة، والإقرار بالذَّنب، والاعتراف بالتَّقصير في شُكر النِّعمة من الله -تبارك وتعالى-، فاعتقد جميع مدلول هذه الكلمة إجمالاً وتفصيلاً: فمات من يومه يعني: قبل غروب الشمس، فهو من أهل الجنَّة، هذا وعدٌ من الصَّادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى ﷺ.
ومَن قالها من الليل وهو مُوقِنٌ بها، فمات قبل أن يُصبح؛ فهو من أهل الجنَّة، فالليل يبدأ من غروب الشمس، وإذا قلتَها بعد المغرب، قلتَها بعد العشاء، قلتَها الساعة الثانية عشرة، السَّاعة الواحدة، لكن يحرص الإنسانُ على أن يقولها من أول الليل؛ لأنَّه لا يدري في أي لحظةٍ يموت، ويقولها من أول النَّهار؛ لأنَّه لا يدري بأيِّ لحظةٍ يموت.
فإذا حافظ المؤمنُ على مثل هذا، فلا شكَّ أنَّ ذلك من التَّوفيق للعبد، وهذا الجزاء المرتّب على ذلك.
وللحديث بقية في الكلام على كون هذا سيد الاستغفار.
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.
والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
أخرجه البخاري: كتاب الدَّعوات، باب أفضل الاستغفار، برقم (6306).
"الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص7)، و"طريق الهجرتين وباب السعادتين" (ص95).
"النهاية في غريب الحديث والأثر" (3/324).
"مجموع الفتاوى" (10/88)، وانظر: "الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص7).
أخرجه ابن أبي الدنيا "الشكر" (182)، والبيهقي "شعب الإيمان" (4151)، عن بكر بن عبد الله المزني.
انظر: "مجموع الفتاوى" (14/32).
##################################################
أذكار الصباح والمساء
وجه تسمية دعاء اللهم أنت ربي بـ (سيد الاستغفار)..
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
لا يزال الحديثُ عن قوله ﷺ: سيدُ الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ، أعوذ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي، فإنَّه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت، قال: ومَن قالها من النَّهار مُوقِنًا بها، فمات من يومه قبل أن يُمسي؛ فهو من أهل الجنَّة، ومَن قالها من الليل وهو مُوقِنٌ بها، فمات قبل أن يُصبح؛ فهو من أهل الجنَّة[1]. أخرجه البخاري.
سبق الكلامُ على ما تضمنه هذا الحديث من المعاني، وبقي الكلامُ على وجه كون هذا الذكر هو سيد الاستغفار، فقد ذكر أهلُ العلم كلامًا يُوضِّح هذا المعنى، فقالوا: بأنَّ هذا الحديثَ لما كان جامعًا لمعاني التوبة، مُشتملاً على حقائق الإيمان، مُتضمنًا لمحض العبودية، وتمام الذل والافتقار؛ فاق سائر الصِّيغ الواردة في الاستغفار من جهة الفضيلة، وتميز بهذه المضامين التي مضى الكلامُ عليها.
فالنبي ﷺ بدأه بالثَّناء على الله -تبارك وتعالى-، والاعتراف بأنَّه عبدٌ لله، مربوبٌ، مخلوقٌ له ، وأنَّه -تبارك وتعالى- هو المعبود بحقٍّ، لا معبودَ بحقٍّ سواه: لا إله إلا أنت، وأنه مُقيمٌ على الوعد: وأنا على عهدك ووعدك ثابتٌ على العهد: من الإيمان به، وبكتابه، وسائر أنبيائه ورسله بحسب طاقته واستطاعته.
ثم استعاذ به سبحانه من كل شرٍّ صنعه: أعوذ بك من شرِّ ما صنعتُ من التَّقصير في طاعته، أو الجرأة على معصيته، وهكذا أيضًا التَّقصير في شُكر إنعامه وإفضاله.
ثم أقرَّ بترادف نِعَم الله عليه، وتوالي العطايا والمنن والإفضال، واعترف بما يجنيه ويُقارفه من الذنوب والمعاصي: أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، ثم سأله المغفرة من ذلك كلّه، مُعترفًا بأنَّه لا يغفر الذنوبَ سواه.
فهذا حينما يقول المؤمنُ هذه الجُمَل مُستيقنًا بها، يفتتح نهاره بذلك، ويختتمه بالتوحيد بأنواعه؛ فإنَّه مع هذا الاعتراف بالمنَّة، والنِّعمة، ومُطالعة عيب النَّفس وتقصيرها، وطلب العفو والمغفرة من الله -تبارك وتعالى-، مع الذلِّ والانكسار والخضوع، فهذا يكون جزاؤه إن مات من يومه دخل الجنَّة، وإن مات من ليلته فهو أيضًا من أهل الجنة.
فهذا الحديث كما يقول شيخُ الإسلام ابن تيمية[2] -رحمه الله- قد اشتمل على هذه المعارف الجليلة التي استحقّ من أجلها أن يكون سيد الاستغفار، فهو كما سمعتُم بما تضمّنه وما صدر به هذا الذكر من أنواع التوحيد إلى غير ذلك.
وهكذا أيضًا ما ذكره الحافظُ ابن القيم[3] -رحمه الله- من كون هذا الذكر مُتضمنًا للاعتراف بربوبية الله وأُلوهيَّته وتوحيده، والاعتراف بأنَّه خالقه، العالِـم به، إذ أنشأه نشأةً تستلزم عجزه عن أداء حقِّه، وتقصيره مع التَّقصير فيه، ثم التزام الدُّخول تحت عهده، وهو أمره ونهيه الذي عهده إليه على لسان رسوله ﷺ، وأنَّ ذلك بحسب الاستطاعة، لا بحسب أداء الحقِّ كما ينبغي لله -تبارك وتعالى-، فذلك من غير المقدور للبشر؛ فإننا لا نستطيع أن نُوفي حقَّه على الوجه الكامل كما هو معلومٌ، إنما هو جهد المقلّ، وقدر الطَّاقة، يقول: ومع ذلك فأنا مُصدِّقٌ بوعدك الذي وعدته لأهل الطَّاعة بالثَّواب، ولأهل المعصية بالعقاب، فأنا مُقيمٌ على عهدك، مُصدِّقٌ بوعدك.
ثم هو أيضًا يفزع إلى الاعتصام به -تبارك وتعالى- من شرِّ ما فرَّط فيه من أمر الله ونهيه، يقول: فإن لم تعذن من شرِّه، وإلا أحاطت بي الهلكة، فإنَّ إضاعة حقِّك سبب الهلاك، وأنا أُقرّ لك، وألتزم بنعمتك عليَّ، وأُقرّ وألتزم بذنبي، وأرجع عنه، فمنك النِّعمة والإحسان والفضل، ومني الذَّنب والإساءة والتَّقصير، فأسألك أن تغفر لي بمحو ذنبي، وأن تعفني من شرِّه، إنَّه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت، يقول: "فلهذا كان هذا الدُّعاءُ سيد الاستغفار"[4].
حينما نُقارن هذا الذكر، هذا الاستغفار بهذه الصِّيغة في أوَّله وآخره نُقارنه بقول: (أستغفر الله)، فهذا استغفارٌ، ولكن بين الاستغفارين بونٌ شاسعٌ، فكان له هذه المزيّة؛ ولذلك يُقال: بأنَّ العبدَ يستغفر ربَّه -تبارك وتعالى- صباح مساء، يُكثر من الاستغفار، النبي ﷺ كان يستغفر الله ويتوب إليه كثيرًا، لربما استغفر ربَّه -تبارك وتعالى- وتاب إليه في المجلس الواحد نحوًا من سبعين مرَّة[5]، ولربما استغفر في يومه -عليه الصَّلاة والسَّلام- نحوًا من مئة مرَّة[6]، وقد غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر.
فإذا قال العبدُ: ما الأكمل في الاستغفار؟
نقول: أن يأتي بهذه الصِّيغة ويُرددها، فهذا هو الأكمل، كما نقول في الصَّلاة على النبي ﷺ خارج الصَّلاة، يعني: ليس الذي بعد التَّشهد، وإنما مثلاً في أوقاتٍ أخرى، وكذا من الإكثار في ليلة الجمعة، وفي يوم الجمعة، يمكن أن يقول: (اللهم صلِّ على محمدٍ)، ويمكن أن يقول الصِّيغة التي جاءت وعلَّمنا إياها النبيُّ ﷺ، لما قالوا: كيف نُصلِّي عليك؟ يقول: (اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما صليتَ على إبراهيم)، كما يقول في صلاته بعد التَّشهد، فهذا أكمل في الصَّلاة على النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام-، فحينما يُردده ليلة الجمعة، يُردده يوم الجمعة، فهذا أكمل وأعظم في الصِّيغة والفضل والثَّواب؛ لأنَّ الصيغة إذا كانت كاملةً كان الجزاءُ أوفى وأتمّ، فكذلك هنا فيما يقوله من الاستغفار.
فنحن مُطالبون بأن نُكثر من الاستغفار، وأن يكون هذا الاستغفارُ بصيغةٍ أدعى إلى المغفرة، وما يترتّب عليه من دخول الجنَّة، فالنبي ﷺ علَّمنا هذا، والنبي ﷺ لم يذكر فيه التَّكرار، فمَن قاله مرةً واحدةً في أول اليوم، أو في أي وقتٍ من ساعات النَّهار وآنائه، فمات من ذلك اليوم؛ دخل الجنةَ، وإن قاله من ليلته، في أي ساعةٍ منها، فمات؛ فإنَّه يكون من أهل الجنَّة، فهذا فضلٌ عظيمٌ، فكيف بالذي يُكرره ويُردده ويُكثر منه ويتَّخذ ذلك ديدنه؟!
فهذا لا شكَّ أنَّه أعظم وأفضل، فالحمد لله الذي أرسل إلينا رسولَه ﷺ، وعلَّمنا هذا الهدى، علَّمنا الكتابَ والحكمة، علَّمنا ما لم نكن نعلم.
ونسأله -تبارك وتعالى- أن يمنّ علينا بالتَّوفيق والعمل بما تعلّمنا، وأن يتقبّل منا، وأن يجعل أعمالنا خالصةً لوجهه الكريم، مُقرّبةً إلى مرضاته.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم ارحم موتانا، اللهم لا تدع لنا في هذا المجلس ذنبًا إلا غفرتَه، ولا دَيْنًا إلا قضيته، ولا كربًا إلا نفَّستَه، ولا حاجةً من حوائج الدُّنيا والآخرة إلا أعنتنا على قضائها ويسَّرتها برحمتك يا أرحم الراحمين، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين.
والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
-------------------------------------------------
أخرجه البخاري: كتاب الدَّعوات، باب أفضل الاستغفار، برقم (6306).
انظر: "أمراض القلوب وشفاؤها" (ص79)، و"مجموع الفتاوى" (10/88).
"طريق الهجرتين وباب السَّعادتين" (ص167)، و"مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين" (1/237).
انظر: "مدارج السالكين" (1/237).
أخرجه البخاري: كتاب الدعوات، باب استغفار النبي -صلى الله عليه وسلم- في اليوم والليلة، برقم (6307).
أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه، برقم (2702).
####################
تابعونا جزاكم الله خيرا
::
لا تنسونا من صالح دعائكم
اليوم في 6:20 pm من طرف صادق النور
» عظمة الله سبحانه وتعالى والتحذير من الاستهزاء بالله والعياذ بالله
اليوم في 5:54 pm من طرف عبدالله الآحد
» أَسْرارُ اَلْمُسَبَّحَةِ اَوْ السُّبْحَةِ وَأَنْواعُها وَأَعْدادُها - - ( ( اَلْجُزْءُ الثَّانِي ))
اليوم في 8:06 am من طرف صادق النور
» أقسام صفات الله
أمس في 8:52 pm من طرف عبدالله الآحد
» اثبات أن الله يتكلم بالصوت والحرف وأن القرآن كلامه حقيقة
الجمعة أبريل 26, 2024 4:11 pm من طرف عبدالله الآحد
» الرياء شرك أصغر إن كان يسيرا
الخميس أبريل 25, 2024 4:39 pm من طرف عبدالله الآحد
» لم يصح تأويل صفة من صفات الله عن أحد من السلف
الأربعاء أبريل 24, 2024 5:12 pm من طرف عبدالله الآحد
» إثبات رؤية الله للمؤمنين في الجنة
الثلاثاء أبريل 23, 2024 7:24 am من طرف عبدالله الآحد
» الرد على من زعم أن أهل السنة وافقوا اليهود
الثلاثاء أبريل 23, 2024 5:40 am من طرف عبدالله الآحد
» طائِفُهُ الصَّفْوِيِّينَ - - اَلْدوَلهُ الصِّفْوِيهُ
الإثنين أبريل 22, 2024 11:18 am من طرف صادق النور