آل راشد



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

آل راشد

آل راشد

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
آل راشد

ثقافى-اجتماعى

*** - اللَّهُمَّ اَنَكَ عَفْوٍ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعِفُو عَنَّا - *** - اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك . *** - اللَّهُمَّ اُرْزُقْنَا تَوْبَةً نَصُوحًا قَبْلَ الْمَوْتِ وَ ارْزُقْنَا حُسْنَ الْخَاتِمَةِ . *** -

إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا شَابَتْ عَبِيدَهُمْ.. .. فِي رِقِّهِمْ عَتَقُوهُمْ عِتْقَ أَبْرَارٍ .. .. وَأَنْتَ يَا خَالِقِيُّ أوْلَى بِذَا كَرَمًا.. .. قَدْ شُبْتُ فِي الرِّقِّ فَأَعْتَقَنِي مِنَ النَّارِ .

المواضيع الأخيرة

» عقيدة السلف الصالح للشيخ المحدث محمد الطيب بن إسحاق الأنصاري المدني
تاريخ الخلافة العباسية  Ooou110اليوم في 4:19 pm من طرف عبدالله الآحد

» أَسْرارُ اَلْمُسَبَّحَةِ اَوْ السُّبْحَةِ وَأَنْواعُها وَأَعْدادُها - - ( ( الجُزْءُ أَلْأَولٌ ) )
تاريخ الخلافة العباسية  Ooou110أمس في 6:20 pm من طرف صادق النور

» عظمة الله سبحانه وتعالى والتحذير من الاستهزاء بالله والعياذ بالله
تاريخ الخلافة العباسية  Ooou110أمس في 5:54 pm من طرف عبدالله الآحد

» أَسْرارُ اَلْمُسَبَّحَةِ اَوْ السُّبْحَةِ وَأَنْواعُها وَأَعْدادُها - - ( ( اَلْجُزْءُ الثَّانِي ))
تاريخ الخلافة العباسية  Ooou110أمس في 8:06 am من طرف صادق النور

» أقسام صفات الله
تاريخ الخلافة العباسية  Ooou110السبت أبريل 27, 2024 8:52 pm من طرف عبدالله الآحد

» اثبات أن الله يتكلم بالصوت والحرف وأن القرآن كلامه حقيقة
تاريخ الخلافة العباسية  Ooou110الجمعة أبريل 26, 2024 4:11 pm من طرف عبدالله الآحد

» الرياء شرك أصغر إن كان يسيرا
تاريخ الخلافة العباسية  Ooou110الخميس أبريل 25, 2024 4:39 pm من طرف عبدالله الآحد

» لم يصح تأويل صفة من صفات الله عن أحد من السلف
تاريخ الخلافة العباسية  Ooou110الأربعاء أبريل 24, 2024 5:12 pm من طرف عبدالله الآحد

» إثبات رؤية الله للمؤمنين في الجنة
تاريخ الخلافة العباسية  Ooou110الثلاثاء أبريل 23, 2024 7:24 am من طرف عبدالله الآحد

» الرد على من زعم أن أهل السنة وافقوا اليهود
تاريخ الخلافة العباسية  Ooou110الثلاثاء أبريل 23, 2024 5:40 am من طرف عبدالله الآحد

اهلا بكم

الثلاثاء نوفمبر 08, 2011 2:32 am من طرف mohamed yousef

تاريخ الخلافة العباسية  Ooousu10

المتواجدون الآن ؟

ككل هناك 47 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 47 زائر :: 1 روبوت الفهرسة في محركات البحث

لا أحد


أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 624 بتاريخ الأربعاء سبتمبر 15, 2021 4:26 am

احصائيات

أعضاؤنا قدموا 9635 مساهمة في هذا المنتدى في 3193 موضوع

هذا المنتدى يتوفر على 286 عُضو.

آخر عُضو مُسجل هو عبدالرحمن فمرحباً به.

دخول

لقد نسيت كلمة السر

أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى

أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع


    تاريخ الخلافة العباسية

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود تاريخ الخلافة العباسية

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس نوفمبر 03, 2011 11:19 am

    تاريخ الخلافة العباسية....

    تاريخ الخلافة العباسية  11449_image002

    بداية الدعوة العباسية
    كان بنو أمية يجلون آل البيت، ولكن تجاوزات بعض الولاة أساءت في بعض الأحيان إليهم.

    كان الوليد بن عبد الملك الخليفة يومئذ قد أقطع الحُميمة (بلدة في الأردن) لعلي بن عبد الله بن عباس فأقام واستقر بها.

    بعد زيارة قام بها عبد الله بن محمد (أبو هاشم) إلى الخليفة سليمان بن عبد الملك، الذي رحب به وأكرمه، شعر أبو هاشم بالمرض وأحس بدنو أجله، وأشاع الناس أن سليمان قد سمّه فعرج أبو هاشم على (الحميمة) ونقل ذلك إلى ابن عمه محمد بن على بن عبد الله بن عباس، وطلب منه أن يقتص من بني أمية وذلك عام 99هـ.

    لقي كلام أبو هاشم لابن عمه محمد موقعًا من نفسه، وكان رجلاً طموحًا وكان له أكثر من عشرين أخًا يدعمونه بالإضافة إلى أبنائه، فحمل محمد بن على الفكرة وهى: إزالة ملك بني أمية، وبدأ يعمل على تنفيذها.

    اختيار المكان
    اختار الكوفة وخراسان نقطتي انطلاق للدعوة وهو اختيار دقيق لأسباب منها:

    1- أكثر الناقمين على بني أمية من الكوفة.

    2- أن خراسان تقع في مشرق الدولة وإذا اضطرت الظروف يمكن أن يفر إلى بلاد الترك المجاورة.

    3 - وفي خراسان صراعات عصبية بين العرب (القيسية واليمانية) يمكن الاستفادة من هذا الصراع لصالحه.

    4 – وخراسان دولة حديثة عهد بالإسلام، فيمكن التأثير في نفوس أهلها من منطلق العاطفة والحب لآل البيت.

    5 – اختار الكوفة مركزًا للدعوة ويقيم فيها ما يسمى (بكبير الدعاة أو داعي الدعاة)، وتكون خراسان هي مجال انتشار الدعوة.

    تنظيم أمور الدعوة
    عمد كذلك إلى السرية التامة وكان حريصًا عليها، تنتقل المعلومات من خراسان إلى الكوفة إلى الحميمة، ويتحرك الدعاة على شكل تجار أو حجاج.

    أول كبير للدعاة في خراسان هو أبو عكرمة السراج (أبو محمد الصادق) الذي اختار اثني عشر نقيبًا كلهم من قبائل عربية، وهذا يرد على الادعاء بأن الدولة العباسية قامت على أكتاف الفرس. فكان كبير الدعاة يختار اثني عشر نقيبًا يأتمرون بأمره ولا يعرفون الإمام، ولكل نقيب سبعون عاملاً.

    بدأت الدعوة تؤتي ثمارها في خراسان، وبدأ يظهر رجالها، مما جعل والي خراسان يومئذ وهو أسد بن عبد الله القسري يقبض على أبي عكرمة السراج، وعدد من أصحابه فيقتلهم سنة 107هـ.

    وحتى سنة 118هـ استطاع أسد بن عبد الله (كان قد عزل ثم أعيد) بخبرته أن يكشف بعض قادة التنظيم العباسي واشتد عليهم فلجأت الدعوة العباسية إلى السرية التامة من جديد.

    ولأن رجال الدعوة قد عرفوا هناك كان لابد من تغيير، فتم اختيار عمار بن يزيد (خداش) داعية جديدًا في خراسان، ولكن لم يكن اختيارًا موفقًا إذ أظهر بعد ذلك الكفر وانكشف أمره، وقتل على يد أسد بن عبد الله أيضًا سنة 118هـ.

    شوهت أفعال خداش صورة الدعوة العباسية في أذهان الناس، ولم يثقوا في الداعية الجديد، إضافةً إلى شدة أسد بن عبد الله عليهم.

    وحتى سنة 122هـ كانت الدعوة تسير ببطء فلقد ظهر عائق جديد وهو ثورة زيد بن على بن زين العابدين بالكوفة.. وكان لا بُدَّ أثناءها وبعدها من الهدوء ليعود الجو إلى حالته الطبيعية.

    وفي سنة 125هـ توفي محمد بن علي وأوصى من بعده لابنه إبراهيم؛ ليقوم بمتابعة أمور الدعوة.

    وجاء الفرج في سنة 125هـ بعد وفاة هشام بن عبد الملك وانشغال الدولة الأموية بصراعاتها الداخلية.. بالإضافة إلى أن الدعوة العباسية بتوجيه من إمامها قررت استغلال الصراع القبلي القائم بخراسان؛ وذلك لأن والي خراسان يومئذ كان (نصر بن سيار) مضريًّا وأكثرية العرب هناك من اليمانية فكرهوه، فاتجهت الدعوة العباسية إلى اليمانية. وأثّر هذا الصراع القبلي على أحوال الناس ومصالحهم بكافة فصائلهم (اليمانيون، المضريون، أهل العلم، الفرس، الترك)، كل هذه الأحداث ساعدت الدعوة العباسية على الانتشاط من جديد.

    ظهور أبي مسلم الخراساني
    وفي سنة 128هـ ظهرت شخصية قوية هو أبو مسلم الخراساني (فارسي الأصل) أحد دعاة بني العباس منذ سنوات، لمح فيه إبراهيم بن محمد الذكاء والكفاءة، فقرر أن يرسله إلى خراسان حيث أمر الدعوة في نمو مطرد.

    وفي سنة 129هـ جاءت إلى أبي مسلم رسالة من الإمام تأمره بالظهور بالدعوة، ففعل، ووالي خراسان يومها مشغول بصراعات الدولة الداخلية، ولما كان يوم عيد الفطر صلى أبو مسلم بالناس.

    مرحلة الاشتباك المسلح
    وقع أول اشتباك بين قوة بني أمية وقوة بني العباس في خراسان، وانتصر فيها أبو مسلم على قوات نصر بن سيار، وكثر أتباع أبي مسلم فقد احتال حيلاً لطيفة في السيطرة على الأمر فكان يرسل إلى اليمانية يستميلهم، ويكتب إلى المضرية يستميلهم بقوله: (إن الإمام أوصاني بك خيرًا، ولست أعدو رأيه فيك).

    توترت الأحداث، وبعث مروان بن محمد في طلب إبراهيم بن محمد الإمام المقيم بالحميمة، فقيدوه وأرسلوه إلى الخليفة بدمشق فسجن.

    وفي سنة 131هـ ازداد تمكن أبي مسلم من الأمر، وفر نصر بن سيار وتوفي، فدانت خراسان كلها لأبي مسلم.

    وفي سنة 132هـ انتصرت قوات أبي مسلم على قوات العراق ثم توجه إلى الكوفة والتي كان قد خرج بها محمد بن خالد بن عبد الله القسري داعيًا لبني العباس.

    وفي سنة 132هـ مات إبراهيم بن محمد في سجن مروان بن محمد، وأوصى بالخلافة بعده لأخيه عبد الله بن محمد (السفاح)، وبالفعل اختير السفاح أول خليفة لبني العباس في ربيع الآخر سنة 132هـ.

    وفي 11 من جمادى الآخرة أرسل السفاح الجيوش لمنازلة الأمويين فسحقهم، واستتب الوضع لبني العباس عدا الأندلس.

    تاريخ الخلافة العباسية  11449_image003

    أول خلفاء بني العباس
    خلافة السفاح عبد الله بن محمد العباسي
    (من ربيع الآخر 132هـ حتى ذي الحجة 136هـ)

    ولد السفاح بالحميمة ونشأ بها، ثم لما أخذ مروان أخاه إبراهيم انتقل أهله إلى الكوفة فانتقل معهم، ويقال له أيضًا: المرتضى والقاسم. آلت إليه الخلافة كما رأينا واستقر بالكوفة.. بيد أنه واجه محاولات عديدة للخروج عليه، ولكنه استطاع أن يقضي عليها جميعًا مستعينًا بأبي مسلم الخراساني وفئة من أهله وعشيرته وكانوا كثرة، وكان شديد البطش والتنكيل بخصومه، فكان جُلُّ اعتماده على:

    1- أبو مسلم الخراساني بالمشرق.

    2- أخوه أبو جعفر المنصور بالجزيرة وأرمينية والعراق.

    3- عمه عبد الله بن على بالشام ومصر.

    وكان معظم ولاة السفاح من أعمامه وبني أعمامه.. وعَهِد السفاح من بعده إلى أخيه أبي جعفر المنصور ومن بعده إلى ابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي. ولم تطل أيامه، فقد أصيب بالجدري فمات، ولم تستقر له الأمور بصورة تامة.

    تاريخ الخلافة العباسية  11450_image002

    مخاطر على الدولة الناشئة
    لما تولى المنصور الخلافة (من ذي الحجة 136هـ حتى ذي الحجة 158هـ) وضع نصب عينيه مخاطر ثلاث لا بُدَّ أن يقضي عليها:

    1- منافسة عمه عبد الله بن علي له في الأمر، وقد كان موكلاً بتدبير جيوش الدولة من أهل خراسان والشام والجزيرة والموصل ليغزو بهم الروم (وكان رغم جلالة قدره عند بني العباس لكنه كان قليل الحزم).

    2- اتساع نفوذ أبي مسلم الخراساني، أحد أعمدة الدولة العباسية فكان أبو جعفر شديد الحنق عليه، لا يرضيه أن يكون له في الأمر شريك ذو سطوة وسلطان.

    3- بنو عمومته من آل علي بن أبي طالب الذين لا يزال لهم في قلوب الناس مكان، خاصة محمد بن عبد الله بن حسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فخاف أبو جعفر أن يحاول الخروج عليه.

    معالجته للخطر الأول
    فأما الخطر الأول: إزالة عمه:
    (يضرب عمه بأبي مسلم وأيهما زال فقد زال من طريقه).

    كان عبد الله بن على ينتظر أن تؤول إليه الخلافة لما كان له من يد طولى في القضاء على ملك بني أمية، فلما جاء الخبر باستخلاف أبي جعفر المنصور خلعه وأعلن البيعة لنفسه.. فأرسل إليه أبو جعفر جيشًا بقيادة أبي مسلم الخراساني فالتقوا عند حران ودارت معركة بين الفريقين لمدة ستة أشهر وظلت المعركة سجالاً ثم تحولت إلى أبي مسلم الذي انتصر، وفر عبد الله بن علي إلى البصرة عند أخيه سليمان فعلم بذلك أبو جعفر فبعث إلى أبي سليمان يأمره بإحضار عبد الله بن علي إليه، وأعطاه الأمان لعبد الله ما جعله يثق به، فجيء به إلى المنصور سنة 139هـ، فأمر بحبسه وحبس من كان معه وظل في حبسه حتى مات سنة 147هـ، وكانت هذه غدرة من المنصور.

    معالجته للخطر الثاني
    وأما الخطر الثاني: أبو مسلم الخراساني:

    أراد أبو جعفر أن يصطاد أبا مسلم قبل أن يعود إلى خراسان بعد هذه المعركة، ولم يكن يريد أن يظهر لأبي مسلم مراده.

    فكتب إلى أبي مسلم (إني قد وليتك مصر والشام فهي خير لك من خراسان.. تكون بقرب أمير المؤمنين، فإن أحب لقاءك أتيته من قريب).

    فغضب أبو مسلم، وقال: (يوليني الشام ومصر، وخراسان لي).

    وعزم على عدم تنفيذ الأمر والعودة إلى خراسان.

    قرر أبو جعفر استعمال الدهاء مع أبي مسلم وبدأت بينهما حرب مراسلات، حتى أرسل أبو جعفر إليه جرير بن يزيد بن جرير بن عبد الله البجلي، في جماعة من الأمراء وأمره أن يكلم أبا مسلم بألين ما يكلم به أحدًا، وأن يمنِّيه فإن أبى قال له: (هو بريء من العباس إن شققت العصا، وذهبت على وجهك ليدركنك بنفسه وليقاتلنك دون غيره، ولو خضت البحر الخضم لخاضه خلفك، حتى يدركك فيقتلك أو يموت قبل ذلك).

    وبالفعل يقابل الوفد أبا مسلم فيأبى أن يطيع، أو أن يأتي لمقابلة أبي جعفر، فيبلغاه الرسالة الأخيرة، وسبحان الله! فهذه الكلمات جعلت الجبار أبا مسلم يخنع ويجبن، ويزداد ترددًا وحيرة.

    كما كتب أبو جعفر إلى خليفته أبي مسلم على جند خراسان يعطيه إمامه خراسان ما عاش.. كل هذه الضغوط جعلت أبا مسلم يقرر الذهاب لمقابلة أبي جعفر المنصور الذي تمادى في المكر فأعطاه الأمان، وأظهر له عند دخوله المدائن الاحترام والتقدير ومراسم الاستقبال، ولكنه كان عازمًا على قتل أبي مسلم غدرًا، وبالفعل قتله وهو يكلمه آمنًا على يد بعض حراسه.

    روى البيهقي عن الحاكم بسنده أن عبد الله بن المبارك سئل عن أبي مسلم أهو خير أم الحجاج؟ فقال: لا أقول إن أبا مسلم كان خيرًا من أحد، ولكن كان الحجاج شرًّا منه، قد اتهمه بعضهم على الإسلام، ورموه بالزندقة، ولم أر فيما ذكروه عن أبي مسلم ما يدل على ذلك، بل على أنه كان ممن يخاف الله من ذنوبه، وقد ادعى التوبة فيما كان منه من سفك الدماء في إقامة الدولة العباسية، والله أعلم بأمره.

    معالجته للخطر الثالث
    الخطر الثالث: محمد بن عبد الله بن الحسن بن زيد:

    فقد زعموا أن بني هاشم انتخبوه للخلافة وبايعوه بها في أواخر عهد بني أمية، وكذلك بايعه أبو جعفر المنصور فلما جاءت الدولة العباسية لم يف أبو جعفر ببيعته له، ولذلك لم يبايع محمد لأبي العباس ولا لأبي جعفر.. واستخفى في زمن أبي جعفر وظل أبو جعفر يجري تحرياته عن محمد فلما لم يعثر عليه اعتقل المنصور أباه وصادر أمواله.

    ولا يزال المنصور يبحث عنه وأنفق كثيرًا من المال في هذه السبيل فلم يصل إلى شيء.. فاعتقل بني الحسن كلهم فلما علم محمد بذلك قال لأمه هند: (إني قد حملت أبي وعمومتي ما لا طاقة لهم به ولقد هممت أن أضع يدي في أيديهم فعسى أن يخلي عنهم). فتنكرت هند ثم جاءت السجن كهيئة الرسول فأذن لها، فلما رآها عبد الله أبو محمد عرفها فنهض إليها فأخبرته بما قال محمد فقالSadكلا بل نصبر، فوالله إني لأرجو أن يفتح الله به خيرًا، قولي له فليدع إلى أمره وليجِدَّ فيه فإن فرجنا بيد الله). فانصرفت، واستمر محمد على اختفائه.

    فاستعمل معهم المنصور أشد أنواع العذاب ونقلهم إلى سجن بالعراق، ومات أكثرهم في الحبس.

    نتيجة هذه الفظائع قرر محمد الظهور بالمدينة، وكان ذلك أول يوم من رجب سنة 145هـ، أعانه أهل المدينة وصعد منبر الحرم وخطب فيهم.

    والحقيقة أنه كان من مكر أبي جعفر الخليفة أنه كتب إلى محمد على ألسنة قواده يدعونه إلى الظهور ويخبرونه أنهم معه؛ مما جعل محمد يتوهم أن أغلب الأمصار معه، كما أن الحسن كان قد اتفق مع أخيه إبراهيم أن يظهر في نفس اليوم بالبصرة ليعظم ذلك على أبي جعفر ولكن أخاه مرض ولم يخرج.

    كما أنه حصر نفسه بالمدينة وهي ليست بمركز حربي يمكن للقائد أن يبقى فيه للدفاع طويلاً فحياة المدينة من خارجها فلا تحتمل الحصار إلا قليلاً.. وقد كان فحوصرت المدينة ودبّر أبو جعفر أمره تدبيرًا محكمًا.

    وتكررت تجربة ابن الزبير فقد انتقض الناس من حول محمد الذي قتل بعد أن أظهر شجاعة فائقة، وذلك في رمضان سنة 145هـ.

    وبمقتل محمد استتب الأمر لأبي جعفر وتوطدت أركان الدولة الناشئة، فلم يعد هناك في الأفق مخاطر داخلية.
    تاريخ الخلافة العباسية  11450_image004

    بناء بغداد
    شرع المنصور في بناء بغداد كمقر للخلافة العباسية، وأتم بناءها سنة 146هـ.

    وقالوا: إنه أنفق على بغداد ثمانية عشر ألف ألف دينار، قال الخطيب البغدادي: لم يكن لبغداد في الدنيا نظير في جلالة قدرها وفخامة أمرها وكثرة علمائها وأعلامها، وحشر إليها المنصور العلماء من كل بلد وإقليم، حتى صارت أم الدنيا وسيدة البلاد ومهد الحضارة الإسلامية في عهد الدولة العباسية، وأربى سكانها على مليونين.

    ذكر ما جاء في وصف المنصور وخصائصه وأخلاقه
    كان المنصور أعظم رجل من آل العباس شدة وبأسًا ويقظة وثباتًا، كان شغله في صدر النهار بالأمر والنهي، والولايات، والعزل، وشحن الثغور، وأمن السبل والنظر في الخراج، والنفقات، ومصلحة معاش الرعية.. فإذا صلى الظهر دخل منزله واستراح إلى العصر، فإذا صلى العصر جلس لأهل بيته ونظر في مصالحهم الخاصة، فإذا صلى العشاء نظر فيما ورد عليه من كتب الثغور والآفاق وشاور سُمّاره من ذلك فيما أرب، فإذا مضى ثلث الليل قام إلى فراشه وانصرف سماره، فإذا مضى الثلث الثاني قام من فراشه فأسبغ وضوءه وصف محرابه حتى يطلع الفجر، ثم يخرج فيصلي بالناس ثم يدخل فيجلس في إيوانه.

    كان المنصور في شبابه يطلب العلم من مظانه والحديث والفقه، فنال جانبا جيدًا وطرفًا صالحًا، وقد قيل له يومًا: يا أمير المؤمنين، هل بقي شيء من اللذات لم تنله؟ قال: شيء واحد. قالوا: وما هو؟ قال: قول المحدث للشيخ: من ذكرت رحمك الله.

    فاجتمع وزراؤه وكتابه وجلسوا حوله وقالوا: ليُملِ علينا أمير المؤمنين شيئًا من الحديث. فقال: لستم بهم، إنما هم الدنسة ثيابهم، المشققة أرجلهم، الطويلة شعورهم، رواد الآفاق وقطَّاع المسافات، تارة بالعراق وتارة بالحجاز، وتارة بالشام، وتارة باليمن، فهؤلاء نقلة الحديث.

    وقد ذكروا في مآثره وحلمه وعفوه وحسن تدبيره وتعهده ابنه المهدي وإعداده للخلافة مآثر طيبة، ولكن يؤخذ عليه غدره بأبي مسلم الخراساني وعمه عبد الله بن علي بعد أن أعطى كل واحدٍ منهما الأمان.


    تاريخ الخلافة العباسية  11450_image005

    ذكر الفتوحات
    لم تكن هناك فتوحات حاسمة في عهده، بل هي غزوات متكررة، بل ربما تجرأ الروم على المسلمين لانشغالهم بالصراعات الداخلية فهجموا على بعض الثغور، ودخل مَلِكُهم قسطنطين ملاطية عنوة وهدم سورها وتقدم في بلاد المسلمين.

    ولكن لما انتبه المنصور وانتهت إلى حد كبير الصراعات الداخلية، عاد الغزو من جديد واستعاد المسلمون سيطرتهم من ناحية بلاد الروم.

    كما بعث أبو جعفر ابنه المهدي لغزو طبرستان سنة 141هـ.

    وفي سنة 151هـ شرع أبو جعفر في بناء الرصافة لابنه المهدي، بعد مقدمه من خراسان، وهي في الجانب الشرقي من بغداد، وجعل لها سورًا وخندقًا، وفيها جدَّد المنصور البيعة لنفسه، ثم لولده المهدي من بعده ثم لعيسى بن موسى من بعدهما.

    موت أبي جعفر
    مات أبو جعفر سنة 158هـ في طريقه إلى الحج، ودفن بمكة، وقد كتم الربيع الحاجب موته حتى أخذ البيعة للمهدي من قادة بني هاشم ثم دفن.

    قالوا: وكان آخر ما تكلم به المنصور أن قال: "اللهم بارك لي في لقائك".

    """""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""

    أبقوا معنا سنأتيكم بالجديد
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: تاريخ الخلافة العباسية

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس نوفمبر 03, 2011 11:21 am

    خلافة محمد المهدي ... وموسى المهدى
    تولى الخلافة من ذي الحجة 158هـ حتى محرم 169هـ، وعمره 32 سنة.

    كانت خلافته مرفهة عن الناس فأمر بإطلاق من كان في سجن المنصور من المعارضين، وكان يجلس للمظالم بنفسه فسارت الأمور في عهده طبيعية مع توسع في العمران.. ومن آثاره زيادته في المسجد الحرام فأدخل فيه دورًا كثيرة مما يحيط به وأمر بمحو اسم الوليد بن عبد الملك من حائط المسجد النبوي وكتابة اسمه.

    والحق أن المنصور وطّد للمهدي الأوضاع، وأخضع له الرقاب فأراح مَن بعده وكان المهدي يرسل أبناءه للغزو.

    من الفتوحات في عهده
    وفي سنة 163هـ بعث ابنه هارون الرشيد على رأس قوة من بلاد خراسان ومعه خالد بن برمك، ونال من الأعداء نيلاً عظيمًا وأصبح بعد ذلك واليًا على الشطر الغربي من المملكة الإسلامية.



    ولم تحدث في عهده فتوح واسعة ولم تُضَم مدن كبيرة إلى بلاد الإسلام، إلا أن الانتصارات كانت كبيرة والغنائم كثيرة.

    وفي سنة 165هـ جهز المهدي ولده الرشيد لغزو بلاد الروم، وأنفذ معه من الجيوش عددًا كبيرًا فلما عاد سنة 166هـ من بلاد الروم دخل الرشيد بغداد في أبهة عظيمة، ومعه الروم يحملون الجزية من الذهب وغيره.

    وفي سنة 167هـ وجَّه المهدي ابنه موسى الهادي إلى جرجان في جيش كثيف لم يُرَ مثله.

    من مآثره وحسن سياسته
    ذكروا أنه هاجت ريح شديدة فدخل المهدي بيتًا في دار فألصق خده بالتراب وقال: "اللهم إن كنت أنا المطلوب بهذه العقوبة دون الناس فها أنا ذا بين يديك، اللهم لا تشمت بي الأعداء من أهل الأديان"، فلم يزل كذلك حتى انجلت.

    ودخل عليه رجل يومًا ومعه نعل فقال: هذه نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهديتها لك فقال: هاتها فناوله إياها، فقّبلها ووضعها على عينيه وأمر له بعشرة آلاف درهم، فلما انصرف، قال المهدي: والله إني لأعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير هذا النعل، فضلاً عن أن يلبسها ولكن لو رددته لذهب يقول للناس: أهديت إليه نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فردَّها على، فتُصدقه الناس؛ لأن العامة تميل إلى أمثالها، ومن شأنهم نصر الضعيف على القوى وإن كان ظالمًا، فاشترينا لسانه بعشرة آلاف درهم ورأينا هذا أرجح وأصلح.

    وكان يتتبع الزنادقة (المارقين عن الدين)، ويعاقبهم بالقتل.

    وبالجملة فإن للمهدي مآثر ومحاسن كثيرة يقصر المقام عن ذكرها ثم توفي -رحمه الله- وكان قد استخلف من بعده ابنه موسى الهادي.

    خلافة موسى الهادي
    تولى الحكم من محرم 169هـ حتى من ربيع 170هـ، وعمره 25 سنة، وكان يسير على هدي أبيه في محاربة الزنادقة.

    وقعة فخ
    وقامت في عهده محاولة للخروج عليه من قبل الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وكان بالمدينة، ولكنه قُتِل على يد جيش الهادي بعد تسعة أشهر وثمانية عشر يومًا وسميت هذه المعركة معركة فخ وأفلت من هذه المعركة إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب واتجه إلى مصر ومنها انطلق إلى المغرب حيث أسَّس دولة الأدارسة التي سيأتي ذكرها.

    من مآثره
    كان موسى الهادي شديد الغيرة على حرمه، وقد نهى أمه الخيزران أن يدخل عليها أحد من القواد أو رؤساء حكومته بعد أن كان لها نفوذ في عهد المهدي؛ ولذا يقولون إنها سمته لعزلها عن أمر الملك، ولأنه ضيَّق على الرشيد (الخليفة من بعده)؛ لأنه أراد أن يعدل عن استخلافه إلى استخلاف ابنه جعفر وفعل النمّامون وأصحاب النفوس الدنيئة فعلتهم في الإيقاع بينه وبين أخيه الرشيد.

    وكان الهادي شهمًا خبيرًا بالملك كريمًا، وكان من كلامه: ما أصلح الملك بمثل تعجيل العقوبة للجاني، والعفو عن الزلات؛ ليقل الطمع عن الملك.

    كان الهادي يرى أن الناس إنما يصلحهم عدم احتجاب خليفتهم عنهم، بل معايشتهم ومعايشة مشكلاتهم فكان يأمر حاجبه الفضل بن الربيع قائلاً: "لا تحجب عني الناس؛ فإن ذلك يزيل عني البركة". وكان قوي البأس، يثب على الدابة وعليه درعان.

    توفي الهادي في ربيع أول سنة 170هـ، وصلى عليه أخوه هارون.

    """""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""

    تابعونا جزاكم اللة خيرا
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: تاريخ الخلافة العباسية

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس نوفمبر 03, 2011 11:27 am

    تاريخ الخلافة العباسية  11453_image002

    خلافة هارون الرشيد ....

    تولى هارون الرشيد الحكم من ربيع الأول 170هـ حتى جمادى الآخرة 194هـ، وعمره 25 سنة.
    من مناقبه
    - كان هارون كثير الصلاة.
    - حج تسع مرات خلال فترة حكمه سنة 170هـ، 173هـ، 174هـ، 175هـ، 177هـ، 180هـ، 181هـ، 186هـ، 188هـ.
    - وكان إذا حج حج معه من الفقهاء وأبنائهم جمع كبير، وإذا لم يحج يحج عنه ثلاثمائة رجل بالنفقة السابغة والكسوة الباهرة.
    - ومما اشتهر عنه أنه كان يحج عامًا ويغزو عامًا.
    قال الطبري: غزا سبع مرات، وجهز عشرين حملة للجهاد في البر والبحر.
    وفضائل الرشيد ومكارمه كثيرة جدًّا، وقد كان الفضيل بن عياض يقول: ليس موت أحد أعز علينا من موت الرشيد، لما أتخوف بعده من الحوادث، وإني لأدعو الله أن يزيد في عمره من عمري.
    قالوا: فلما مات الرشيد وظهرت تلك الفتن والحوادث والاختلافات وظهر القول بخلق القرآن، فعرفنا ما كان تخوفه الفضيل من ذلك.
    محنة البرامكة في عهد هارون الرشيد
    لما جاءت الدعوة العباسية إلى خراسان، كان خالد بن برمك من أكبر دعاتها فاستوزره أبو العباس السفاح..فما زال خالد بن برمك يتقلب في المناصب بحسن السيرة وكان ممدوح الولاية حتى مات سنة 163هـ.
    وكان ابنه يحيى بن خالد بن برمك من أرفع الناس أدبًا وفضلاً ونبلاً، تولى المناصب منذ عام 158هـ، وكان محبوبًا وهو الذي ربى هارون الرشيد، الذي بدوره كان لا يناديه إلا بـ (يا أبي)، ويحيى هو الذي مكّن هارون من الخلافة على غير رغبة الهادي.
    فلما تولى الرشيد الخلافة أمّر يحيى وزارته فكانت وزارة تفويض وقال له: (قلدتك أمر الرعية وأخرجته من حقي إليك، فاحكم في ذلك بما ترى من الصواب، واستعمل من رأيت، وأعزل من رأيت..).
    في سنة 184هـ بايع الرشيد لابنه عبد الله المأمون بولاية العهد بعد أخيه محمد الأمين وضمه إلى جعفر بن يحيى.
    لقد كانت هذه الأسرة مقربة إلى الرشيد، تساعده في القيام بمهام الدولة خير قيام.
    سماهم المؤرخون (زهرة الدولة العباسية كلها).. قادوا الجيوش، وسدوا الثغور، ودافعوا عن حياض الدولة.
    ولكن لماذا أوقع بهم الرشيد، وما الذي غير قلبه عليهم؟!
    الحقيقة في هذه المسألة غير أكيدة واختلف فيها المؤرخون، والأرجح أن هذه الأسرة الفاضلة قد بلغت من العز مبلغًا عظيمًا.. وهناك دائمًا الحاقدون وأصحاب القلوب المريضة الذين لا يحبون أن يروا الأمة مجتمعة إلى حين، ويغيظهم أن يصل غيرهم إلى تلك المنازل بجهد وبذل وتضحية وهم متفرجون، فيلجئون إلى الوشاية والوقيعة بحيلة ومكر.. لقد تغير قلب الرشيد تجاههم بفعل فاعل.
    ولعل أرجح ما قيل في ذلك ما ذكره بعض المؤرخين أن سبب ذلك قيام جعفر بن يحيى بتهريب يحي بن عبد الله بن الحسن (أخو إدريس)[1] من سجن الرشيد سرًّا؛ لأنه تعاطف معه لأنه من نسل آل البيت. وقد اتهم البرامكة بالتشيع من قبل بعض المؤرخين، وبلغ الخبر الفضل بن الربيع[2] من عين كانت له حيث كان يتحين فرصة يؤلب بها الرشيد على البرامكة، فأخبر الرشيد فقال له الرشيد: (ما لك وهذا لا أم لك، فلعل ذلك عن أمري). فانكسر الفضل، فلما جاء جعفر (حبيب الرشيد) دعا بالغداء فأكلا وتحادثا إلى أن كان آخر ما دار بينهما أن قال الرشيد: ما فعل يحيى بن عبد الله؟
    قال جعفر: بحاله يا أمير المؤمنين في الحبس والأكبال.
    قال الرشيد: بحياتي؟
    فأحجم جعفر وهجس في نفسه أنه قد علم بشيء من أمره.
    فقال: لا وحياتك يا سيدي، ولكن أطلقته وعلمت أنه لا حياة به ولا مكروه عنده. فقال الرشيد: نعمّا فعلت ما عدوت ما كان في نفسي فلما خرج اتبعه بصره ثم قال: قتلني الله بسيف الهدى على عمل الضلالة إن لم أقتلك فكان من أمره ما كان.
    كانت هذه الحادثة سببًا للوشاية بالبرامكة في أخص صفات الوزراء وهي الإخلاص لملوكهم، وذلك طعن مؤثر... ووقر في نفس الرشيد شيء من ذلك أن البرامكة يؤثرون مصلحة العلويين على مصلحته، وهذه التهمة أشد من تهمة الزندقة عند المهدي وانفرط عقد الثقة بين الخليفة الرشيد والبرامكة وهم أحباؤه وخلصاؤه، فتحمست أمامه عيوبهم وجعلته يستريب فيهم لأدنى شبهة.
    حتى كانت سنة 187هـ وفيها كان مهلك البرامكة على يدي الرشيد قتل جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي بطريقة بشعة، ودمر ديارهم وذهب صغارهم وكبارهم.
    ويبدو أن الرشيد قد ندم بعدها؛ فقد كان يقول: لعن الله من أغراني بالبرامكة، فما وجدت بعدهم لذة ولا رجاء، وددت والله أني شطرت نصف عمري وملكي، وأني تركتهم على حالهم.

    تاريخ الخلافة العباسية  11453_image003

    حاله مع الروم
    وفي عهده حكم الروم نقفور وقد بعث نقفور برسالة إلى الرشيد:
    من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد: فإن الملكة التي كانت قبلي[3] أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مكان البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقيًّا بحمل أمثاله إليها، لكن ذلك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد إلى ما حملته إليك من الأموال وافتد نفسك بما يقع به المصادرة لك، وإلا فالسيف بيننا وبينك.
    فلما قرأ الرشيد الكتاب استفزه الغضب، فكتب على ظهر الكتاب الذي جاءه:
    بسم الله الرحمن الرحيم من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه.
    فاجتاحت جيوش المسلمين بلاد الروم فاضطر نقفور إلى المسالمة على خراج يؤديه، فمكث نقفور يؤدي جزية قدرها 300 ألف دينار سنويًّا إلى بيت مال المسلمين.
    وعلى الجملة كانت قوة المسلمين في عهد الرشيد ظاهرة ظهورًا بينًا على الروم؛ لأن الرشيد كان يغزو ومعه عظماء القوا

    تاريخ الخلافة العباسية  11453_image004

    دولة الأدارسة وأثرها على الرشيد
    وفي عهده قامت دولة الأدارسة سنة 172هـ بالمغرب ومؤسسها هو: إدريس بن عبد الله بن الحسن الذي فر من وقعة الفخ أيام الهادي فأقام دولته في بلاد المغرب الأقصى، وهي أول دولة للعلويين.. وكان هارون في بداية خلافته يحسن إلى العلويين ولكنه بعد هذه الحادثة خافهم، وعاقب من مال إليهم أشد العقوبات.
    وفاة الرشيد
    وقد رأى رؤيا فيها موته وصدقها الواقع.. رأى كفًّا به تربة حمراء وقائل يقول: هذه تربة أمير المؤمنين، فلما سار يريد خراسان مَرّ بـ (طوس) فمرض بها، فقال لخادمه: ائتني بشيء من تربة هذه الأرض. فجاءه بتربة حمراء في يده، فلما رآها قال: والله هذه الكف التي رأيت، والتربة التي كانت فيها! فأمر بحفر قبره في حياته، وأن تُقرأ فيه ختمة للقرآن تامة، وحُمِل حتى نظر إلى قبره فجعل يقول: إلى هنا تصير يا ابن آدم! وبكى، ثم قبض بعد ثلاث ليال.
    الرخاء في عهد الرشيد
    كان الرشيد ينظر إلى السحابة المارة ويقول: (أمطري حيث شئت؛ فسيأتيني خراجك). وقد بلغت إيرادات الدولة العباسية في عهده (70 مليون و150 ألف دينار)، وقد زادت في عصر المأمون عن ذلك بكثير.
    وفي عهده قامت دولة الأغالبة سنة 184هـ.

    :::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::

    تابعونا ولكم ألأجر
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: تاريخ الخلافة العباسية

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس نوفمبر 03, 2011 11:30 am

    تاريخ الخلافة العباسية  11452_image002

    شبهة حول الخلفاء العباسين ..


    شبهة والرد عليها
    اتهم خلفاء الدولة العباسية وخاصة الرشيد بشرب النبيذ، وبمجالس الغناء والطرب والجواري...

    والرد على ذلك يكون من جوانب إن المؤرخين ذكروا أن هارون الرشيد كان يشرب نبيذ التمر. بل وذكروا أن أبا حنيفة كذلك كان يفعل.. وفي مذهب الإمام أبي حنيفة المعمول به في العراق أيام الرشيد أنه يحل شرب عصير التمر في حالتين:

    الحالة الأولى: إذا نقع أو طبخ طبخًا وشرب منه قبل أن يغلي ويشتد عصير التمر، فهو في هذه الحالة حلال بإجماع العلماء.

    الحالة الثانية: إذا طبخ طبخًا حتى غلا واشتد وشرب منه مقدار قليل يغلب على ظن الشارب أنه لا يسكره وكان شربه له لغرض التقوِّي لا بقصد اللهو والطرب، وهنا خلاف بين العلماء من مذهب أبي حنيفة. فإذا شرب من هذا العصير المطبوخ مقدارًا كبيرًا يسكر عادة فإنه يكون حرامًا بإجماع فقهاء المذهب وهذا كله في حالة الطبخ. أما إذا نقع وترك حتى غلا واشتد فإنه يكون حرامًا على الإطلاق بإجماعهم.

    والسؤال الآن: ماذا كان يشرب الرشيد؟ الأنواع المسكرة أم الأخرى؟

    يقول ابن خلدون: من ذلك ما يحكى من معاقرة الرشيد الخمر،اقتران سكره بالندمان، فحاشا لله! ما علمنا عليه من سوء، وأن هذا حال الرشيد، وقيامه بما يجب لمنصب الخلافة من الدين والعدالة، وما كان عليه من صحبة العلماء والأولياء، ومحاورته الفضيل بن عياض وابن السماك ومكاتبته سفيان الثوري، وبكائه من مواعظهم ودعائه بمكة في طوافه.. وعبادته وتنفله.

    حتى قال: وإنما كان الرشيد يشرب نبيذ التمر على مذهب أهل العراق، وفتاواهم فيها معروفة أما الخمر الصرف فلا سبيل إلى اتهامه بها.

    أما ما شاع من انتشار الخمر في عصره فإن واقع هذه الدولة وهذا العصر يكذبه، وخاصة إذا علمنا أن حاشية الرشيد كان على رأسها الأئمة الثقات أمثال: مالك بن أنس، أبو يوسف، الشافعي، الفضيل بن عياض، عبد الله بن المبارك وغيرهم فهل هؤلاء كانوا يسكتون إذا وجدت الخمر بهذه الصورة التي يذكرها المبطلون؟ أضف إلى ذلك أن هناك أنواعًا كثيرة من المشروبات كانت منتشرة في هذا العصر، وكلها يطلق عليها الشراب مثل: الماء، اللبن، الشربات، وهذه كانت تصنع من الماء المحلى بالسكر وتعطر بخلاصة البنفسج أو الموز أو الورد أو التوت ويطلق عليها الشراب.

    أما مجالس الغناء والطرب والجواري
    فالسؤال: كيف كان هذا الغناء في العهد العباسي؟ ثم ما هو حكم الغناء؟

    الأصل في الغناء الإباحة إلا إذا تسبب في فتنة كأن يحوي كلمات كفر أو مجون، يقول صاحب كتاب النجوم الزاهرة عن أشهر المغنين في عهد الرشيد:

    وفي عام 174هـ من الهجرة توفي منصور مولى عيسى بن جعفر بن منصور، وكان منصور هذا يلقب بزلزل، وكان مغنيًا يُضرب بغنائه المثل، وكان الغناء يوم ذلك غير الموسيقى الآن وإنما كانت زخمات عددية وأصوات مركبة في أنغام معروفة، وهو نوع من إنشاد زماننا على الضروب لإنشاد المداح والمواعظ.

    وهذه نماذج من الشعر الغنائي الذي كان موجودًا في ذلك العصر...
    نراع بذكر الموت ساعـة ذكره *** ونفتر بالدنيا فنلهو ونلعـب
    ونحن بنو الدنيـا خلقنـا لغيرها *** وما كنت فيه فهو شيء محبب

    وقولهم:
    المـرء في تأخيـر مدتـه *** كالثوب يبلـى بعد جدته
    عجبًا لمنتبـه يضيـع مـا *** يحتـاج فيه ليوم رقدتـه

    وأما موضوع الجواري وكثرتها لدى الرشيد، فهذا أمر صحيح يقول د. مؤيد فاضل صاحب كتاب شبهات في العصر العباسي الأول: وفي الحديث عن الجواري مثال آخر للاختلاف في التصور بيننا وبينهم[1]، فقد وصم الخلفاء بأنهم كانوا يتخذون العشيقات والخليلات من الجواري، وراحوا يتغزلون بهن شعرًا ونثرًا، فمفهومنا وتصورنا لهذا الغزل ولأولئك الجواري أوقعنا في هذا الوهم، حيث اعتبرنا ذلك نقيصة في الخلفاء، ولو أننا رجعنا إلى الشرع في موضوع الجواري لعلمنا أن الجارية ملك يمين يملك سيدها حق التمتع بها وحق الاستخدام.. وليس على السيد أن يعدل بين إمائه كما يعدل بين نسائه.

    وفي المغني لابن قدامه: يمكن للرجل أن يكون له عدد كبير من الإماء أو الجواري، يدخل عليهن كيف يشاء.

    مواقف
    ولمزيد من معرفة حال هذه النخبة من الخلفاء، فتأمل هذه المواقف:

    - عن مالك بن أنس قال: بعث أبو جعفر المنصور إلى ابن طاووس، فأتيناه فدخلنا عليه، فإذا به جالس على فرش قد نضدت، وبين يديه أنطاع قد بسطت، وجلاوزة (جمع جلواز وهو الشرطي) بأيديهم السيوف يضربون الأعناق، فأومأ إلينا أن اجلسا، فجلسنا، فأطرق عنا قليلاً ثم رفع رأسه والتفت إلى ابن طاووس فقال له حدثني عن أبيك، قال: نعم، سمعت أبي يقول: قال: رسول الله : "إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل أشركه الله في حكمه، فأدخل عليه الجور في عدله".

    قال مالك: فضممت ثيابي من ثيابه مخافة أن يملأني من دمه، ثم التفت إليه أبو جعفر فقال عظني. قال: نعم، إن الله I يقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد} [الفجر: 6-14]. قال مالك: فضممت ثيابي مخافة أن يملأها من دمه، فأمسك ساعة حتى اسودَّ ما بيننا وبينه.

    ثم قال: يا ابن طاووس، ناولني هذه الدواة، فأمسك عنه. ثم قال: ناولني هذه الدواة، فأمسك عنه. فقال: ما يمنعك أن تناولنيها؟ قال: أخشى أن تكتب بها معصية لله فأكون شريكك فيها. فلما سمع ذلك قال: قوما عني. فقال ابن طاووس: ذلك ما كنا نبغي، قال مالك: فما زلت أعرف لابن طاووس فضله.

    - حج أمير المؤمنين هارون الرشيد إحدى حجاته، فلما قضى اليوم الأول في منى سهر عنده وزيره الفضل بن الربيع، حتى إذا حان وقت النوم انصرف إلى خيمته، وبينما هو نائم بعد أن انقضى شطر من الليل سمع قرع الباب أمام خيمته فقال: من هذا؟ فقيل له: أجب أمير المؤمنين.

    فخرج مسرعًا فوجد هارون الرشيد على الباب فقال له: يا أمير المؤمنين، لو أرسلت لي أتيتك.

    فقال هارون: ويحك! قد حاك في نفسي شيء لا يخرجه إلا عالم، فانظر لي رجلاً أسأله عنه. فقال الفضل: هاهنا سفيان الهلالي العالم المحدث.

    قال هارون: امض بنا إليه.

    قال الفضل: فأتينا خيمة سفيان، فطرقنا عليه الباب فقال: من هذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين. فخرج مسرعًا، فلما وجد أمير المؤمنين بباب الخيمة قال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت لي أتيتك.

    فقال الرشيد: جد لنا ما جئنا له، وحادثه ساعة ثم سأله: أعليك دين؟

    قال: نعم. فقال الرشيد: يا أبا العباس، اقض دينه. وانصرفنا فقال لي أمير المؤمنين ونحن في الطريق: ما أغنى عني صاحبك، فانظر لي رجلاً أسأله.

    فقلت: هاهنا عبد الرزاق بن همام الحميري الصنعاني.

    قال امض بنا إليه. فأتيناه وقرعت الباب فقال: من هذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعًا فلما وجد نفسه بين يديه قال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلى أتيتك.

    فقال: جد لنا ما جئنا له وحادثه ساعة ثم قال له: أعليك دين؟ قال: نعم، فقال لي الرشيد: يا أبا العباس اقض دينه ولما انصرفنا قال أمير المؤمنين ما أغنى عني صاحبك شيئًا، فانظر لي رجلاً أسأله.

    فقلت: هاهنا الفضيل بن عياض التميمي، شيخ الحرم ومن أئمة الهدى فقال: امض بنا إليه. فأتيناه فإذا هو قائم يصلي في خيمته يتلو آية من كتاب الله ويرددها، فقرعت عليه فقال: من هذا، قلت: أجب أمير المؤمنين. قال: مالي ولأمير المؤمنين؟ فقلت: سبحان الله، أما تجب عليك طاعة؟

    ففتح الباب ثم أطفأ السراج والتجأ إلى زاوية في خيمته، فجعلنا نجول عليه بأيدينا، فسبقت كف الرشيد كفي إليه فقال الفضيل: أواه من كف ما ألينها إن نجت غدًا من عذاب الله. فقلت في نفسي ليكلمنه الليلة بكلام نقي من قلب تقي. فقال هارون: جد لنا ما جئنا له رحمك الله.

    فقال الفضيل: وفيم جئت؟ حملت على نفسك وجميع من معك حملوا عليك. حتى لو سألتهم أن يتحملوا عنك شقصا (أي جزءا) من ذنب ما فعلوا ولكان أشدهم حباًّ لك أشدهم هربًا منك. وسكت الفضيل هنيهة ثم استأنف كلامه في سكينة الظلام ورهبته -وكانت ضربات قلب الرشيد تكاد تسمعها أذناه كأنها ضربات الساعة- فقال: إن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله ورضي عنه -لما ولي الخلافة- دعا سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، ومحمد بن كعب القرظي، ورجاء بن حيوة، فقال لهم: (إني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا عليَّ). فعَدَّ الخلافة بلاء، وعددتها أنت وأصحابك نعمة.

    فقال له سالم: إن أردت النجاة غدًا من عذاب الله، فليكن كبير المسلمين عندك أبًا، وأوسطهم عندك أخًا، وأصغرهم عندك ولدًا. فبر أباك وارحم أخاك وتحنن على ولدك.

    وقال رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غدًا من عذاب الله فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، ثم مت متى شئت وإني أقول هذا، وأخاف عليك أشد الخوف يوم تزل الأقدام، فهل معك -رحمك الله - مثل هؤلاء القوم ومن يأمرك بمثل هذا؟

    فبكى هارون بكاء شديدًا، فقلت للفضيل: ارفق بأمير المؤمنين، فأجابني: يا ابن الربيع قتلته أنت وأصحابك وأرفق أنا به؟!

    ولما أفاق هارون قال للفضيل: زدني.

    فقال الفضيل: يا أمير المؤمنين، بلغني أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز -رحمه الله- شكا إليه سهرًا فكتب إليه عمر يقول: "يا أخي اذكر سهر أهل النار في النار وخلود الأبد، فإن ذلك يطرد بك إلى ربك نائمًا ويقظان، وإياك أن تزل قدمك عن هذا السبيل فيكون آخر العهد بك ومنقطع الرجاء منك" فلما قرأ العامل كتاب عمر بن عبد العزيز طوى البلاد حتى قدم عليه فقال له عمر: "ما أقدمك؟" فأجابه: "لقد خلعت قلبي بكتابك، لا وليت ولاية أبدًا حتى ألقى الله ".

    فبكى هارون بكاءً أشد من الأول، ثم قال للفضيل: زدني.

    فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباس عم النبي r جاء إليه فقال: يا رسول الله، أمرني إمارة. فقال النبي : "يا عباس، نفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها، إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة، فإن استطعت ألا تكون أميرًا فافعل".

    فبكى هارون أيضًا، ثم قال له: زدني يرحمك الله. فقال: يا حسن الوجه، أنت الذي يسألك الله عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل. وإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لرعيتك؛ فإن النبي r قال: "من أصبح غاشًّا لرعيته لم يرح رائحة الجنة". فبكى الرشيد بكاء شديدًا، ثم قال للفضيل: عليك دين؟ قال: نعم، دين لربي يحاسبني عليه، فالويل لي إن ناقشني، والويل لي إن سألني، والويل لي إن لم يلهمني حجتي.

    قال هارون: إنما أعني دين العباد. فقال الفضيل: ربي لم يأمرني بهذا، وإنما أمرني أن أصدق وعده وأطيع أمره. فقال هارون: هذه ألف دينار، فخذها وأنفقها على عيالك، وتقوَّ بها على عبادة ربك.

    قال الفضيل: سبحان الله! أنا أدلك على سبيل الرشاد، وأنت تكافئني بمثل هذا، سلمك الله ووفقك! ورفض أن يأخذها.

    قال الفضيل بن الربيع: ثم سكت ولم يكلمنا، فخرجنا من عنده، فقال الرشيد: إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا.

    - دعا أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين، أبا عمرو الأوزاعي فلبى دعوته، ولما سلم عليه، سأله أبو جعفر: ما الذي أبطأ بك عنا يا أوزاعي؟

    - وما الذي تريد يا أمير المؤمنين؟

    - أريد الأخذ منكم والاقتباس عنكم.

    - فانظر يا أمير المؤمنين ولا تجهل شيئًا مما أقول.

    - وكيف أجهله وأنا أسألك عنه، وقد وجهت فيه إليك؟

    - أن تسمعه ولا تعمل به.

    - فصاح الربيع بالأوزاعي، وأهوى بيده إلى السيف، فانتهره المنصور وقال: هذا مجلس مثوبة لا مجلس عقوبة.. فطابت نفس الأوزاعي وانبسط في الحديث فقال: يا أمير المؤمنين، حدثني مكحول عن ابن بسر، أن رسول الله r قال: "أيما عبد جاءته موعظة من الله في دينه، فهي نعمة من الله سيقت إليه إن قبلها بشكر، وإلا كانت حجة عليه من الله ليزداد بها آثمًا ويزداد الله بها عليه سخطًا". يا أمير المؤمنين، حدثني مكحول عن ابن بسر أن رسول الله r قال: "أيما والٍ بات غاشًّا لرعيته حرم الله عليه الجنة". يا أمير المؤمنين، من كره الحق فقد كره الله؛ لأن الله هو الحق المبين. يا أمير المؤمنين، قد كنت في شغل شاغل من خاصة نفسك عن عامة الناس الذين أصبحت تملكهم، أحمرهم وأسودهم، ومسلمهم وكافرهم، وكل له عليك نصيبه من العدل، فكيف إذا تبعك منهم وفد وراء وفد، ليس منهم أحد إلا وهو يشكو بلية أدخلتها عليه، أو ظلامة سقتها إليه؟

    يا أمير المؤمنين، لقد كان النبي بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا، مواسيًا بنفسه لهم في ذات يده، وكان فيهم بالقسط قائمًا، ولعوراتهم ساترًا، لم تغلق عليه دونهم أبواب، ولم يقم عليه دونهم الحجاب، يبتهج بالنعمة عندهم ويبتئس بما أصابهم.

    يا أمير المؤمنين، حدثني مكحول عن زياد بن جارية عن حبيب ابن مسلمة أن رسول الله دعا إلى القصاص من نفسه في خدشة خدشها أعرابيًّا لم يتعمدها، فأتاه جبريل فقال: يا محمد! إن الله لم يبعثك جبارًا ولا متكبرًا، فدعا النبي الأعرابي فقال: "اقتص مني". فقال الأعرابي: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما كنت لأفعل ذلك أبدًا، ولو أتيت على نفسي. فدعا له الرسول بخير.

    فكيف بمن شقَّق أبشار الناس، وسفك دماءهم، وخرب ديارهم وأجلاهم عن بلادهم، وغيبهم الخوف منه؟!

    يا أمير المؤمنين، رُض نفسك لنفسك، وخذ لها الأمان من ربك، وارغب في جنة عرضها السموات والأرض، قال فيها رسول الله : "لقاب قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها". يا أمير المؤمنين، الملك لو بقي لمن قبلك لم يصل إليك، وكذلك لا يبقى لك كما لم يبق لغيرك.

    يا أمير المؤمنين، أتدري ما جاء عن جدك في تأويل هذه الآية: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49]؟ قال: الصغيرة التبسم والكبيرة الضحك.. فكيف بما حدثته الألسن وعملته الأيدي؟!

    يا أمير المؤمنين، بلغني عن عمر بن الخطاب t أنه قال: لو ماتت سخلة على شاطئ الفرات ضيعة، لخفت أن يسألني الله عنها.. فكيف بمن حُرِم عدلك وهو على بساطك؟!

    يا أمير المؤمنين، إنك قد بليت بأمر عظيم، لو عرض على السموات والأرض والجبال لأبين أن يحملنه وأشفقن منه. حدثني يزيد عن جابر عن عبد الرحمن عن أبي عمرة الأنصاري أن عمر بن الخطاب استعمل رجلاً من الأنصار على الصدقة، فرآه بعد أيام مقيمًا، فقال له، ما منعك من الخروج إلى عملك؟ أما علمت أن لك مثل أجر المجاهدين في سبيل الله؟

    قال: لا. قال عمر: وكيف ذاك؟

    قال: لأنه بلغني أن رسول الله r قال: "ما من والٍ يلي من أمور الناس شيئًا، إلا أتي به يوم القيامة فيوقف على جسر من نار فينتفض به الجسر انتفاضًا يزيل كل عضو من موضعه، ثم يعاد فيحاسب، فإن كان محسنًا نجا بإحسانه، وإن كان مسيئًا انخرق به ذلك الجسر فهوي به في النار سبعين خريفًا" فقال له عمر: ممن سمعت هذا قال من أبي ذر وسلمان، فأرسل إليهما عمر، فسألهما فقالا: نعم، سمعناه من رسول الله r فقال عمر: واعمراه، من يتولاها بما فيها؟ فقال أبو ذر: من أسلت الله أنفه، وألصق خده بالأرض.

    فأخذ أبو جعفر المنديل، ووضعه على وجهه فبكى وانتحب حتى أبكى الأوزاعي... ثم مضى الأوزاعي ودمعه ينهمر:

    يا أمير المؤمنين، قد سأل جدك العباس النبي إمارة على مكة والطائف فقال له: "يا عباس، يا عم النبي، نفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها". وهي نصيحة منه لعمه، وشفقة منه عليه؛ لأنه لا يغني عنه من الله شيئًا، ولما أوحى الله I إليه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] فقال: "يا عباس، يا صفية عمة النبي، إني لست أغني عنكم من الله شيئًا، ألا لي عملي ولكم عملكم".

    وقد قال عمر t: لا يقيم أمر الناس إلا حصيف العقل، أريب العقدة، لا يطلع منه على عورة، ولا يحنو على حوَّية، ولا تأخذه في الله لومة لائم.

    وقال: السلطان أربعة أمراء: فأمير قوي ظلف نفسه وعماله فذاك المجاهد في سبيل الله، يد الله باسطة عليه الرحمة. وأمير ضعيف ظلف نفسه وأرتع عماله فضعف، فهو على شفا هلاك إلا أن يرحمه الله، وأمير ظلف عماله وأرتع نفسه فذلك الحطمة الذي قال رسول الله فيه: "شر الرعاء الحطمة" فهو الهالك وحده، وأمير أرتع نفسه وعماله فهلكوا جميعًا.

    وقد بلغني -يا أمير المؤمنين- أن عمر بن الخطاب قال: اللهم إن كنت تعلم أني أبالي إذا قعد الخصمان بين يدي على من كان الحق من قريب أو بعيد فلا تمهلني طرفة عين. يا أمير المؤمنين، إن أشد الشدة القيام لله بحقه، وإن أكرم الكرم عند الله التقوى.. إنه من طلب العز بطاعة الله رفعه الله، ومن طلبه بمعصية الله أذله الله ووضعه.

    هذه نصيحتي والسلام عليك.. ثم نهض فقال أبو جعفر: إلى أين؟ قال: إلى البلد والوطن بإذن أمير المؤمنين إن شاء الله.

    قال أبو جعفر: قد أذنت وشكرت لله نصيحتك، والله الموفق للخير والمعين عليه، فلا تحرمني من مطالعتك إياي بمثلها فإنك المقبول غير المتهم في النصيحة.

    - أفعل إن شاء الله. قال محمد بن مصعب: وأمر أمير المؤمنين للأوزاعي بمال يستعين به على خروجه فلم يقبله الأوزاعي، وقال: أنا في غنى عنه، وما كنت لأبيع نصيحتي بعرض الدنيا كلها.. وعرف المنصور مذهب الأوزاعي فلم يؤلمه أنه رد عطاءه.

    وبعد -أيها الأخ القارئ- فلا شك أنه قد وقعت بعض أخطاء من جانب هؤلاء الخلفاء، ولكن يجب عليك أن تقيِّم الأشخاص تقييمًا موضوعيًّا، وقد عرَّف علماء الإسلام المسلم العدل الثقة: أنه من غلبت حسناته سيئاته، فانتبه إلى ذلك، ولا تنساق خلف من يسلطون الأضواء على السيئات ويخفون المحاسن؛ ليهزوا ثقتنا في تاريخنا.


    ؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛

    تابعونا جزاكم اللة خيرا
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: تاريخ الخلافة العباسية

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس نوفمبر 03, 2011 11:32 am

    تاريخ الخلافة العباسية  11454_image002

    خلافة محمد الأمين بن هارون الرشيد
    تولى محمد الأمين الحكم من جمادى الآخرة 194هـ حتى من محرم 198هـ، وعمره 23 عامًا، وعهده كان قاصرًا على حادثة شنيعة فرقت الأمة، وذلك ما كان بينه وبين أخيه المأمون.

    أسباب الفتنة
    وسبب هذه الأحداث أن هارون الرشيد ولّى عهده أولاً محمد الأمين، والمأمون أسن منه، ولم يكن ما يزيد الأمين إلا أنه ابن زبيدة (زوجة الرشيد عالية النسب والحبيبة إلى قلبه).

    أراد الرشيد بعد ذلك معالجة هذه الغلطة ففعل ما يزيدها شرًا بتولية المأمون العهد بعد الأمين، ولم يقتصر على مجرد تولية العهد بل أعطاه من الامتيازات ما يجعله مستقلاًّ تمام الاستقلال بمنطقة خراسان والري عن أخيه الأمين.. فأصبح لكل من الأمين والمأمون جيشًا يتصرف فيه، ولم يقتصر الرشيد على ذلك بل أعطى أخًا لهم ثالثًا امتيازات أخرى وهي الجزيرة وأرمينية فأحس الأمين كأنه مقصوص الجناحين منزوعًا من سلطان أعظم بقاع الإسلام وأكثرها أعوانًا وجندًا.

    وزاد الأمر اشتعالاً وجود الفضل بن الربيع الذي جرّأ الرشيد على إفساد ملكه وقتل البرامكة... فكان في فئة الأمين وهو الذي أغراه بأخيه المأمون ولم يكن الأمين ينوي قتاله إنما فعل الفضل ذلك خوفًا على مصالحه.

    لقد وصل الخلاف بين الأخوين إلى الاقتتال، والحقيقة لم يكن للأمين حسن تدبير بل كان مشغولاً باللهو والعبث، وكان عنده ثقة أنه سيقهر أخاه، بينما كان المأمون مشغولاً بتدبير أمره يجمع إلى مجلسه العلماء والفقهاء ويجلس معهم، حتى أُشرِبت قلوبُهم محبته، وباختصار فقد انتهى الأمر بمقتل الأمين على يد أحد قواد المأمون وبايع الناس المأمون.

    خلافة المأمون بن هارون الرشيد
    لقد تم الأمر للمأمون من محرم 198هـ حتى رجب 218هـ بالعراق على يد قائدين مخلصين عظيمين هما: طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين.

    من فتنة واحدة إلى فتن أخرى
    وكان الذي يدبر الأمر مع المأمون بمرو الفضل بن سهل والذي يرى لنفسه الفضل الأكبر في تأسيس دولة المأمون، فأراد أن يستفيد من هذه الدولة فيستأثر بنفوذ الكلمة فيها، وليس يتم له ذلك والعراق بين يدي طاهر وهرثمة، فاحتال حتى عزل طاهر على لسان المأمون عن العراق وما حولها، وتعيين الحسن بن سهل فاستجاب طاهر، واستصدر أمرًا إلى هرثمة بالحضور إلى خراسان فاستجاب.

    استمر المأمون في خراسان إلى منتصف ولايته كما سنرى حتى سنة 204هـ، ثم قدم بغداد بعد ذلك.

    شاع بالعراق بعد خروج طاهر أن الفضل بن سهل قد غلب على المأمون، وأنزله قصرًا حجبه فيه، وأنه يبرم الأمور على هواه، فغضب لذلك أهل العراق واستخفوا بالحسن بن سهل، وهاجت الفتنة في الأمصار، ولم يجد الحسن بن سهل حوله أحدًا ينصره فأرسل إلى هرثمة بن أعين -الذي كان قد توجه إلى خراسان- يستنجد به فاستجاب هرثمة فقدم بغداد سنة 199هـ في شعبان واستطاع بعد عدة معارك أن يعيد الأمر إلى ما كان عليه في محرم سنة 200هـ.

    كانت أغلب الفتن التي حدثت بسبب العلويين؛ فخرج بالكوفة محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن على، وفي مكة كان حسين بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي يشيع العذاب في كل من له علاقة ببني العباس، حتى اتخذ دارًا سماها دار العذاب يعذب فيها الناس، فلما علم أن هرثمة قضى على العلويين بالعراق والكوفة اجتمع حسين وصحبه إلى محمد بن جعفر الصادق وكان شيخًا ورعًا محببًا في الناس مفارقًا لما عليه أكثر أهل بيته من قبح السيرة فأرادوا أن يبايعوه بالخلافة فأجاب بعد تردد وحشر إليه الناس فبايعوه طوعًا وكرهًا وسموه أمير المؤمنين... فأقام على ذلك أشهرًا وليس له من الأمر إلا اسمه، وابنه علىّ وحسين بن حسن أسوأ ما كانوا سيرة وأقبح ما كانوا فعلاً في الناس حتى تعدوا الأموال إلى الأعراض.

    فلما جاء بعث هرثمة استطاع أن يهزمهم، وطلب محمد بن جعفر الأمان له ولمن معه حتى يخرجوا من مكة ويذهبوا حيث شاءوا، فأجيبوا وأمهلوا ثلاثة أيام فلما انتهت دخلت جنود هرثمة مكة، وذهب كل فريق من العلويين في ناحية.

    لما فرغ هرثمة من تلك المهمة أراد أن يتوجه إلى المأمون بمرو ليطلعه على حقيقة الحال، وما ينكره الناس عليه، واستبداد الفضل بن سهل على أمره... ولكن الفضل كاد لهرثمة القائد المخلص، فأفهم المأمون أن هرثمة قد أفسد البلاد، وكان المأمون قد كتب إلى هرثمة وهو في الطريق إليه أن يرجع ويلي الشام والحجاز فأبى هرثمة أن يرجع حتى يرى أمير المؤمنين... فلما اقترب من مرو خشي هرثمة أن يكتم عن المأمون خبر قدومه فضرب الطبول كي يسمعها المأمون فلما سمعها سأل فقالوا: هرثمة جاء يرعد ويبرق. ولم يكن هرثمة يعلم أن المأمون قد تغير من ناحيته، فلما دخل على المأمون لم يسمع منه كلمة وأمر به فوجئ عنقه وديس بطنه وأخذوه إلى الحبس، ثم دسوا إليه فقتلوه، وقالوا إنه مات.

    لما بلغ أهل بغداد ما صنع بهرثمة، هاج الجند بها وثاروا على الحسن بن سهل واستخفوا بأمر المأمون واختاروا منصور بن المهدي أميرًا عليهم، ولأن بغداد كانت خالية من جيش قوي يأخذ على أيدي المفسدين، فانتشر الفساد الشديد على يد فساق الجند والشطَّار، وأظهروا الفسق وقطعوا الطريق وأخذوا النساء والغلمان علانية وأخذوا يفرضون الإتاوات قهرًا.. ولا أحد يمنعهم!

    رأى الناس شدة هذا البلاء وضعف السلطان عن حمايتهم فقام صُلَحاء كل منطقة فمشى بعضهم إلى بعض، واتفقوا على قمع هؤلاء الفساق، فقام رجل اسمه خالد الدريوش فدعا جيرانه وأهل محلته إلى أن يعاونوه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأجابوه إلى ذلك، وشد على من يليه من الفساق والشطار فمنعهم مما كانوا يصنعون، فامتنعوا عليه فقاتلهم وهزمهم، وأخذ بعضهم فضربهم وحبسهم ورفعهم إلى السلطان، وكان لا يرى من حقه الاعتداء على السلطان، وقام آخر اسمه سلامة بن سلامة الأنصاري ففعل مثله..

    كل ذلك والمأمون في مرو لا يصل إليه شيء من أخبار بغداد بفعل الفضل بن سهل، ومن عجيب ما فعله المأمون في تلك الآونة أنه اختار لولاية عهده واحدًا من آل بيت على، هو على بن موسى بن جعفر الصادق وسماه الرضا من آل محمد، وأمر الجند بطرح السواد شعار العباسيين، ولبس ثياب الخضرة كشعار جديد للدولة، ويبدو أن ذلك من تدبير الفضل بن سهل (فارسي الأصل) لأن الفرس يعجبهم أن يكون إمام المسلمين علويًا.. وساعد على ذلك ما كان يراه المأمون نفسه من تفضيل على على غيره من الخلفاء الراشدين، وأنه كان أحق بالخلافة منهم.... وهي فكرة اختمرت في رأسه نتيجة نشأته فقد كان في أول أمره في حجر جعفر البرمكي[1] ثم انتقل إلى الفضل بن سهل، وكلهم ممن تشيع.

    لم يرض ذلك آل العباس ببغداد فاتفقوا على مبايعة إبراهيم المهدي عم المأمون بالخلافة، وذلك سنة 202هـ.

    وأخيرًا وصلت الأخبار على حقيقتها إلى المأمون، ويقال إن الذي أبلغه بها ولي عهده على الرضا، فإنه أخبره بما فيه الناس من الفتنة منذ قتل أخوه، وأن الفضل بن سهل يستر عنه الأخبار وما كادوه من قتل هرثمة وغيره.

    لما تحقق المأمون أن الفضل قد كذَبه وغشَّه أمر بالرحيل إلى بغداد وقُتِل الفضل بن سهل في الطريق..ثم قُتِل على الرضا!!ولما وصل المأمون إلى النهروان، خرج إليه أهل بيته والقواد فسلموا عليه ووافاه طاهر بن الحسين القائد المعزول.

    استقرار الأمور
    وفي صفر سنة 204هـ دخل المأمون مدينة بغداد وقد فرَّ عمه واختبأ؛ خوفًا منه ولكنه عفا عنه، ونستطيع القول إن الملك الحقيقي للمأمون بدأ منذ عودته إلى بغداد... فقد تجلت مزاياه العالية وأخلاقه، وساس الناس سياسة لين لا يشوبه ضعف، وقوة لا يشوبها عنف، وأخذت بغداد تستعيد نضرتها التي كانت لها في عهد أبيه وعظمت بها الحركة العلمية كما سنرى إن شاء الله.

    وزراء المأمون في بغداد
    عيّن المأمون وزيرًا جديدًا له هو: أحمد بن أبي خالد، وأصله شامي فكان من خيار الوزراء وأخلصهم للمأمون.

    ذكر المأمون يومًا عمرو بن مَسْعَدة فاستبطأه وقال: يظن أني لا أعرف أخباره وما يحبب إليه وما يعامل به الناس.

    وكان أحمد حاضرًا هذا المجلس فذهب إلى عمرو وأخبره بما قاله عنه الخليفة.

    فأسرع عمرو إلى المأمون، فلما دخل عليه وضع سيفه بين يديه وقال: يا أمير المؤمنين، أنا أقلّ من أن يشكوني أمير المؤمنين إلى أحد، أو يُسِرَّ لي ضغنًا، يبعثه بعض الكلام على ظهاره ما يظهر منه، فقال المأمون: وما ذاك؟ فأخبره عمرو بما بلغه ولم يُسَمِّ له المخبر، فقال له المأمون: ليس لك عندي إلا ما تحب، فليفرج روعك، وليحسن ظنك.. وظهر في وجه المأمون الحياء والخجل، فلما غدا أحمد (الوزير) على المأمون قال له: أما لمجلسي حرمة؟! (ولم يكن المأمون يظن أن وزيره أحمد هو الذي بلَّغ عمرًا)، فقال أحمد: نعم، فأخبره المأمون أن بعض من حضر من بني هاشم هو الذي أفشى ما قاله، فقال أحمد: أنا يا أمير المؤمنين الذي أخبرت عَمْرًا، وليس أحد من بني هاشم، والذي حملني على ذلك الشكر لك والنصح والمحبة، وأن تتم نعمتك على أوليائك وخدمك، أعلم أن أمير المؤمنين يحب أن يصلح له الأعداء والبُعَداء، فكيف الأولياء والأقرباء، لا سيما مثل عمرو، في دنوه من الخدمة وموقعه من العمل، فلما سمعت أمير المؤمنين أنكر منه شيئًا، أخبرته به ليصلحه ويقوِّم من نفسه.. وإنما يكون ما فعلت مذمومًا لو أشعت سرًّا فيه قدح في السلطان أو نقص تدبير قد استتب..

    فنظر إليه المأمون مليًّا وقال: كيف قلت، فأعاد عليه ما قال، ثم قال أعد فأعاد فقال المأمون: أحسنت، لما أخبرتني به أحب إلى من ألف ألف وألف ألف وألف ألف وعقده خنصره وبنصره والوسطى وقال: أما ألف ألف فلنفيك عني سوء الظن، وأطلق وسطاه، وأما ألف ألف فلصدقك إياي من نفسك، وأطلق البنصر، وأما ألف ألف فلحسن جوابك وأطلق الخنصر.ومات أحمد بن أبي خالد سنة 211هـ.

    وكان من بعده أحمد بن يوسف وكان مخلصًا ولكن كان هناك من يحسده فلم يزل يكيد له حتى أقصاه المأمون.. ثم استوزر المأمون بعده القاضي يحيى بن أكثم وكان من جُلَّة العلماء الفقهاء، وكان قد تولى قضاء البصرة وسنه عشرون سنة، ثم عزله المأمون سنة 215هـ.

    فائدة
    أراد المأمون أن يعلن يومًا حل زواج المتعة وهو شيء نهى عنه عمر بن الخطاب، فدخل عليه يحيى وهو متغير، فسأله المأمون عن سبب تغيره، فقال: غم يا أمير المؤمنين لما حدث في الإسلام من نداء بتحليل الزنا. قال: الزنا.

    قال: نعم، المتعة زنا، قال: من أين؟ قال: من كتاب الله وحديث رسول الله ، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 5-7]. يا أمير المؤمنين، زوجة المتعة ملك يمين؟ قال: لا. قال: فهي الزوجة التي عند الله ترث وتورث وتلحق الولد لها شرائطها؟ قال: لا.

    قال: فقد صار من يتجاوز هذين من العادين، وهذا الزهري، يا أمير المؤمنين، روى عن عبد الله والحسن بن محمد بن الحنفية عن أبيهما على بن أبي طالب قال: "أمرني رسول الله أن أنادي بالنهي عن المتعة وتحريمها بعد أن كان قد أمر بها". فسأل المأمون عن حديث الزهري أهو محفوظ، فعلم أنه رواه مالك، فقال المأمون: أستغفر الله. وأمر فنودي بتحريم المتعة[2].

    ثم كان من بعد يحيى بن أكثم وزراء، ولكن في الحقيقة أنه بعد تجربة الرشيد مع البرامكة وتجربة المأمون الأولى من الاعتماد على الوزراء، لم يعط المأمون لوزرائه صلاحيات كبيرة، بل كان يتابع الأمور بنفسه كما كان يدقق في اختيار وزرائه.

    الخرميّة
    وفي سنة 201هـ ظهرت فرقة باطنية اسمها الخرَّمية[3] يدينون بما يريدون ويشتهون، وإنما لقبوا بذلك لإباحتهم المحرمات من الخمر وسائر الملذات ونكاح ذوات المحارم، وداعيها بابك الخرمي كان يخيف السبل ويعيث في الأرض فسادًا وقد انتصر بابك على جيوش المأمون في بعض المواقع، حتى أرسل إليه المأمون عام 218هـ إسحاق بن إبراهيم، غير أن المأمون قد توفي، ولم يعلم بالنصر الذي أحرزه على الخرمية، إلا أن أمرهم بقي قويًا حتى قُضى على فرقته سنة 223هـ في عهد المعتصم.

    الاهتمام بالعلم في زمن المأمون
    نشأ علم الكلام في زمنه وترعرع، وعلم الكلام علم يبحث في أصول الدين والعقائد ويعتمد على العقل، وظهرت المعتزلة وشيخهم إبراهيم بن سيار (النظام)[4].

    ونتيجة لذلك ظهر خلاف بين أهل السنة والجماعة الذين يعتمدون في علوم العقائد على النقل، وبين المعتزلة الذين يقدمون العقل على النقل ومنها المسألة المشهورة: هل القرآن كلام الله القديم أم هو مخلوق؟

    وهي مسألة على بساطتها لكنها سبب في ابتلاء كثير من العلماء على يد المأمون، ومن بعده على يد المعتصم، لاعتناقهما المذهب الذي يقول: إن القرآن مخلوق خلافًا لأهل السنة والجماعة..

    كان أصحاب المذاهب المخالفة لما عليه عامة الناس لا يستطيعون أن يظهروا آراءهم خوفًا من العامة، فلما جاء المأمون أفسح المجال للمتخالفين أن يتناظروا، فكان يجمع إليه العلماء من المتكلمين والفقهاء وأهل الحديث، ويجعل لهم مجالس مناظرة، وكان يهدف إلى أن يتفق هؤلاء العلماء على رأي فيما يعرض لهم من المسائل ليحمل الجمهور على ذلك الرأي، وتتفق كلمة الأمة خاصة فيما يتعلق بمباحث أصول الدين ومباحث الإمامة.

    ويُروى أنه تناظر في حضرته اثنان من أهل التشيع، أحدهما من الإمامية والآخر من الزيدية، وجرى الكلام بينهما إلى أن قال أحدهما للأخر: يا نبطي ما أنت والكلام، فقال المأمون: الشتم عمى والبذاءة لؤم، إنا قد أبحنا الكلام وأظهرنا المقالات، فمن قال بالحق حمدناه، ومن جهل ذلك وقفناه، فاجعلا بينكما أصلاً، فان الكلام فروع فإذا افترعتم شيئًا رجعتم إلى الأصول..

    وهذه القصة توضح لنا أن المأمون أباح المناظرات بحرية مطلقة فهذان الرجلان من أهل التشيع، كلاهما على مذهب إن صح أحدهما فهو كفيل أن يذهب بملك آل العباس، ومع ذلك ترك حرية القول.

    إيجابيات وسلبيات هذه الحرية في الحوار والتناظر بين العلماء بشتى مذاهبهم:
    1- كان من إيجابيتها ثراء العلوم الدينية من خلال الحوار والمناظرة خاصة في الجانب الفقهي الذي يتعلق بالأحكام العملية، فكانت ثروة للأمة.

    2- نشوء علم الكلام في حد ذاته لإثبات العقائد بالعقل والمنطق كان مناسبًا لمخاطبة الداخلين في الإسلام من الفرس، الذين يتحاجون بهذه الطرق، فمخاطبتهم بطريقتهم شيء مؤثر لاشك في ذلك.

    3- ولكن اعتماد العقل وحده في إثبات العقائد يؤدي إلى انحراف، لأن العقل محدود والعقائد تتعرض للغيبيات، والحجة فيها للنص الصحيح من القرآن أو السنة.. فحدث انحراف في مسائل كثيرة تمذهب بها فرق وأدت إلى تفرق بعض أجزاء الأمة.

    4- من هذه المسائل القول بخلق القرآن، ومن طول المناظرات اقتنع المأمون تمامًا بالقول بخلق القرآن مخالفًا بذلك جمهور علماء أهل السنة والجماعة، وكان يظن أنه حين يظهر رأيه للعلماء أنهم سيجيبونه إلى رضاهم بمذهبه، ولكن النتيجة كانت عكس ذلك، فتكلموا فيه واتهموه بالابتداع وغلا بعضهم في ذلك فقال بكفر من رأى خلق القرآن، وكان ذلك سنة 212هـ.

    وما زال الخلاف يتسع حتى كانت سنة 218هـ فرأى المأمون أن يستعين بسلطانه في إلزام الفقهاء برأيه، وهو غير محق في ذلك، وكان في هذه السنة غازيًا في بلاد الروم، فبعث إلى عامله في بغداد إسحاق بن إبراهيم أن يجمع الفقهاء، ويمتحنهم في آرائهم في هذه المسألة، فجمع إسحاق نحو ثلاثين رجلاً من العلماء فكان مما دار بينه وبينهم: قال لبشر بن الوليد: ما تقول في القرآن؟ قال: أقول القرآن كلام الله.

    قال: أسألك عن هذا أمخلوق هو؟ قال: الله خالق كل شيء. قال: أما القرآن شيء؟ قال: هو شيء، قال: فمخلوق هو؟ قال: ليس بخالق، قال: ليس أسألك عن هذا أمخلوق هو؟ قال: ما أحسن غير ما قلت لك، وقد استعهدت أمير المؤمنين ألا أتكلم فيه وليس عندي غير ما قلت، فبعث إسحاق بإجابات العلماء عالمًا عالمًا فاغتاظ المأمون منها، فأمره أن يأخذهم بالتهديد ففعل إسحاق فأجابوه جميعًا أن القرآن مخلوق، إلا أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح.

    يروي ابن كثير: "لما انتهت النوبة إلى امتحان أحمد بن حنبل قال له إسحاق: أتقول إن القرآن مخلوق؟ فقال: القرآن كلام الله لا أزيد على هذا" إلى أن قال: "وكان من الحاضرين من أجاب إلى القول بخلق القرآن مصانعة مكرهًا لأنهم كانوا يعزلون من لا يجيب عن وظائفه، وإن كان له رزق من بيت المال قُطع، وإن كان شيخ حديث روع عن الإسماع والأداء، ووقعت فتنة صماء ومحنة شنعاء وداهية دهياء فلا حول ولا قوة إلا بالله". فوجه بهما إسحاق إلى طرسوس حيث يغزو المأمون الروم.

    وإن من مفاخر التاريخ أن جميع الذين تهاونوا مع المأمون في مسألة خلق القرآن، أهمل المحدثون أمرهم وأنزلوا رتبهم وعدُّوا ذلك عيبًا من عيوبهم، لأن العالم الذي لا يتحمل الأذى أو الجود بالنفس في سبيل اعتقاده لا يُعَدُ عالمًا.. ومن ثم رأينا الذين ثبتوا في المحنة مثل الإمام أحمد بن حنبل نالوا من التكريم والعناية والفضل ما لا مزيد عليه وزادته المحنة تشريفًا وذكرًا في التاريخ.

    5- كان للمأمون وجهة نظر تبدو صائبة[5] في تعليله محاولة توحيد القوم على رأي واحد فيما اختلف فيه من المسائل، وقد كبر الخلاف في مسألة من أهون المسائل وأيسرها حلاًّ، ولكنه كان يقول: "إن أصغر المسائل متى كان أساسًا لنحلة أو سببًا لرياسة، فإن الخلاف يعظم بسببه، أما أعضل الأمور فإن الخلاف الشديد لا يجد إليه سبيلاً إذا لم يكن أساسًا لنحلة، أو سببًا لرياسة".

    كان يمكن للمأمون أن يكون من خيار الخلفاء، لولا هذه السقطة، وقوله بأفضلية على بن أبي طالب t على سائر الخلفاء الراشدين y، قال عنه ابن كثير بعد ذكر فضله وحسن سيرته: وقد كان فيه تشيع واعتزال وجهل بالسُّنَّة الصحيحة.
    [1] الذي قُتِل في عهد الرشيد، وهي قرينة أحرى تدل على تشيعه فهو الذي ربى المأمون.
    [2] انظر رحمك الله إلى خلفاء المسلمين وما كانوا عليه من العلم والعودة إلى الحق حينما يتبين لهم بالدليل الناصع، وحرصهم على أمور الدين. وانظر أيضًا إلى ذكاء هذا الوزير العالم كيف سلك مسلكًا لطيفًا في النصح والإرشاد.
    [3] نسبة إلى قرية بفارس اسمها خرمة، منها زعيمهم بابك الخرمي.
    [4] انظر فصل الفرق والجماعات.
    [5] والحقيقة أنها ليست صائبة لأن توحيد الآراء في الأمور الفرعية، وفيما يحتمل وجوهًا عدة هو ضرب من المستحيل، وهو مخالف لسنن الله، وقد كان أكابر العلماء لا يمتعضون من الخلاف في الفروع، ولا يرون حمل الأمة على رأي واحد، بل كانوا يقولون: من لم يعرف الخلاف لم يشم رائحة الفقه. أي من لم يعرف الآراء المتعددة في المسألة ووجهة نظر أصحابها لم يكن واسع الأفق أو الفقه.

    ======================================================================

    تابعونا بارك اللة فيكم
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: تاريخ الخلافة العباسية

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس نوفمبر 03, 2011 11:35 am

    تاريخ الخلافة العباسية  11455_image002

    خلافة المعتصم باللة .......

    تولى المعتصم بالله الخلافة من رجب 218 هـ حتى ربيع الأول 227هـ، وعمره تسعة وثلاثون عامًا، وتمت البيعة للمعتصم ببلاد الروم فعاد بالجند إلى بغداد.

    صفات المعتصم بالله
    كان المعتصم ذا شجاعة وقوة وهمة يحب الشجعان، قوته خارقة هائلة يحمل أرطالاً تعجز عنها الرجال ويمشي خطوات، ويثني الحديد مرات بعد عجز الأبطال عنه، يقول وزيره أحمد بن أبي دؤاد: كان المعتصم يخرج ساعده إلى ويقول: يا أبا عبد الله عض ساعدي بأكثر قوتك، فأقول: والله يا أمير المؤمنين ما تطيب نفسي بذلك.

    فيقول: إنه لا يضرني، فأروم ذلك، فإذا هو لا تعمل فيه الأسنة فضلاً عن الأسنان. وكان مع ذلك شفوقًا غير أنه إذا غضب لا يبالي من قتل.

    وكان يقول عن نفسه: قد علمت أني دون إخوتي في الأدب، لحب أمير المؤمنين لي، وميلي إلى اللعب وأنا حدث، فلم أنل ما نالوا. وسبب ذلك أنه كان مع المعتصم غلام في الكُتاَّب يتعلم معه، فمات الغلام، فقال له الرشيد: يا محمد مات غلامك. فقال: نعم يا سيدي واستراح من الكُتاَّب.

    قال الرشيد: وإن الكُتَّاب ليبلغ منك هذا المبلغ؟! دعوه حيث انتهى لا تعلموه شيئًا ولذلك ورد أنه (كان يكتب كتابة ضعيفة ويقرأ قراءة ضعيفة).

    وصية المأمون للمعتصم
    وكانت وصية المأمون للمعتصم: (احمل الناس على القول بخلق القرآن، والخرمية فاغزهم بقوة وحزم وجلد، واحشد لهم الأموال والسلاح والجنود من الفرسان والرجالة، فإن طالت مدتهم فتجرد لهم بمن معك من أنصارك وأوليائك، واعمل في ذلك عمل مقدم النية فيه، راجيًا ثواب الله عليه)؛ لذلك انصبت جهود المعتصم، وأموال الخلافة على القضاء على حركة بابك.

    جهاده ضد الخرمية
    كان بابك من أبطال زمانه وشجعانهم، عاث في البلاد وأفسد وأخاف الإسلام وأهله وغلب على أذربيجان وغيرها وأراد أن يقيم ملة المجوس، وادعى الألوهية وأراد تحويل المُلك من العرب المسلمين إلى الفرس، فأثار ومن تبعه حربًا شعواء على الإسلام والعرب.

    فأرسل المعتصم الأفشين أعظم قواده حينئذ لمقاتلة بابك والقضاء عليه.. بيد أن الأمر قد طال رغم أن المعتصم أنفق على هذه الحرب الكثير، وأقام المعتصم البريد على مسافات قريبة ليأتيه خبر المعركة كل يوم وكان جميع من قَتَل بابك في عشرين سنة 250000 إنسان. وكانت نهايته في هذه المعركة.


    تاريخ الخلافة العباسية  11455_image003

    فتح عمورية
    كان بابك قد كتب إلى حليفه تيوفيل ملك الروم، عندما ضيق عليه الأفشين، يستنصره ويقول له إن الفرصة مهيأة للانتصار على المسلمين.. تأخر ملك الروم في التحرك فلم يتحرك إلا بعد ما قتل بابك.. فتحرك ملك الروم سنة 223 هـ وانقض على مدينة زِبَطرة وأعمل فيها السيف، وقتل الصغير والكبير وسبى النساء بعد ذبح أطفالهن.

    وفي ابن خلدون: وبلغ الخبر إلى المعتصم فاستعظمه، وبلغه أن هاشمية صاحت وهي في أيدي الروم: وامعتصماه، فأجاب وهو على سريره: لبيك لبيك، ونادى بالنفير العام ونهض من ساعته.

    وعندما سار المعتصم باتجاه الثغور لتأديب تيوفيل تساءل قائلاً: أي بلاد الروم أمنع وأحصن؟ فقيل: عمورية، لم يعرض لها أحد من المسلمين منذ كان الإسلام، وهي أصل النصرانية وهي أشرف من القسطنطينية فسار باتجاهها بجهاز عظيم من السلاح والعدد وآلات الحصار والنفط ودارت المعركة بقيادة المعتصم وبعد حصار دام 55 يومًا، من سادس رمضان إلى أواخر شوال سنة 223 هـ. ودك عمورية واستنقذ المرأة الهاشمية.

    وأنشد بعدها أبو تمام قصيدته المشهورة في وصف المعركة وملابساتها:
    السيفُ أصدق أنباءً من الكتب *** في حدِّه الحد بين الجد واللعب

    وكان عدد جيش المسلمين 15 ألف فارس، وجيش الروم 200 ألف.

    تاريخ الخلافة العباسية  11455_image004

    المعتصم واعتماده على العنصر التركي
    لما جاء المعتصم ورأى أن من ببغداد من جنود لا يوثق بهم، لكثرة اضطرابهم وقيامهم على الخلفاء ورأى للأتراك من شدة البأس والنجدة فأراد أن يكون منهم جيشًا. فاستكثر من غلمان الأتراك وأحضر منهم عددًا عظيمًا فوق ما كان منهم في عهد المأمون وأسكنهم بغداد وكان هؤلاء القوم عُجمًا جفاة يركبون الدواب فيركضون في طرقات بغداد وشوارعها فيصدمون الرجل والمرأة والصبي فيقف لهم الجند من العرب ويجرحونهم.. حتى اشتكى الأتراك إلى المعتصم وتأذت العامة.. فاختط لهم مدينة تكون لهم معسكرًا سماها (سر من رأى) سامراء حاليًا، سكنها المعتصم مع العسكر.. وهي منطقة متميزة من بغداد..

    وكان من قواده الذين يعتمد عليهم: الأفشين حيدر بن كاوس، وهو تركي من أشروسنة، ومنهم إيتاخ وأشناس وعجيف بن عنبسة ووصيف وبغا الكبير أبو موسى، وغيرهم. كل هؤلاء القواد من الأتراك اختارهم المعتصم لشجاعتهم وسلَّمهم زمام ملك آبائه العرب، وأزال العرب عن قيادة الجيوش، وأسقط أسماءهم من الدواوين واعتز بهؤلاء المجلوبين، فجعل بذلك بنيه تحت سلطان هؤلاء الغلف قلوبهم، يتصرفون فيهم كما يشاءون ولم يكن لهم أنساب معروفة. حتى قال المؤرخون: "إن المعتصم وحده يتحمل تبعة أكثر ما حل بالعباسيين من بعده من اضطراب أمرهم وضعف سلطانهم وما حل بالأمة العربية من غلبة هؤلاء على الأمر. لم يكن الرجل بعيد النظر في العواقب، وإنما كان شجاعًا جسورًا يحب الشجعان ويعتز بهم مهما كان شأنهم، سواء كانت لهم أحساب يحمونها أم ليست لهم أحساب وسواء كان يهمهم شأن الدولة وبقاؤها أم لا؟".

    يروى أن أهل بغداد اشتكوا إلى المعتصم إساءة غلمان الأتراك وقالوا له: تحول عنا وإلا قاتلناك، قال: وكيف تقاتلوني وفي عسكري ثمانون ألف دارع!

    قالوا: نقاتلك بسهام الليل، وسهام الأسحار، فقال: لا طاقة لي بذلك.

    الإمام أحمد ومحنته في عهد المعتصم
    ينقل لنا عبد الله ابن الإمام أحمد على لسان أبيه ما ابتلى به في عهد المعتصم فيقول: لما أحضرني المعتصم من السجن زاد في قيودي، فلم أستطع أن أمشي بها فربطتها في التكة وحملتها بيدي، ثم جاءوني بدابة فحملت عليها فكدت أسقط على وجهي من ثقل القيود وليس معي أحد يمسكني، فسلم الله حتى جئنا المعتصم، فأُدخلت في بيت وأغلق على وليس عندي سراج، فأردت الوضوء فمددت يدي فإذا إناء فيه ماء فتوضأت منه، ثم قمت ولا أعرف القبلة، فلما أصبحت إذا أنا على القبلة ولله الحمد.

    ثم دعيت فأدخلت على المعتصم، فلما نظر إلى وعنده وزيره أبو دؤاد قال: أليس قد زعمتم أنه حدث السن وهذا شيخ مكهل؟ فلما دنوت منه وسلمت قال لي: ادنه، فلم يزل يدنيني حتى قربت منه ثم قال: اجلس، فجلست وقد أثقلني الحديد، فمكثت ساعة ثم قلت: يا أمير المؤمنين إلام دعا ابن عمك رسول الله ؟

    قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، قلت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، ثم تكلم ابن أبي دؤاد بكلام لم أفهمه، وذلك أني لم أتفقه كلامه ثم قال المعتصم: لولا أنك كنت في يد من كان قبلي لم أتعرض إليك، ثم قال: يا عبد الرحمن ألم آمرك أن ترفع المحنة؟ فقلت: الله أكبر، هذا فرج للمسلمين، ثم قال: ناظره يا عبد الرحمن، كلمه، فقال لي عبد الرحمن: ما تقول في القرآن؟ فلم أجبه، فقال المعتصم: أجبه. فقلت: ما تقول في العلم؟ فسكت، فقلت: القرآن من علم الله، ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله، فسكت، فقالوا فيما بينهم: يا أمير المؤمنين كفرك وكفرنا، فلم يلتفت إلى ذلك، فقال عبد الرحمن: كان الله ولا قرآن، فقلت: كان الله ولا علم؟ فسكت.

    فجعلوا يتكلمون من ههنا وههنا فقلت: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئًا من كتاب الله وسنة رسوله حتى أقول به، فقال ابن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا بهذا وهذا؟ فقلت: وهل يقوم الإسلام إلا بهما؟وجرت مناظرات طويلة، حتى قال ابن أبي دؤاد: هو والله يا أمير المؤمنين ضال مضل مبتدع، وهنا قضاتك والفقهاء فسلهم، فقال لهم: ما تقولون؟ فأجابوا بمثل ما قال ابن أبي دؤاد، ثم أحضروني في اليوم الثاني وناظروني أيضًا في اليوم الثالث وفي ذلك كله يعلو صوتي عليهم وتغلب حجتي حججهم.

    فإذا سكتوا فتح الكلام عليهم ابن أبي دؤاد وكان من أجهلهم بالعلم والكلام، وقد تنوعت بهم المسائل في المجادلة ولا علم لهم بالنقل، فجعلوا ينكرون الآثار ويردون الاحتجاج بها، وسمعت منهم مقالات لم أكن أظن أن أحدًا يقولها، وقد تكلم معي ابن غوث بكلام طويل ذكر فيه الجسم وغيره بما لا فائدة فيه، فقلت: لا أدري ما تقول، إلا أني أعلم أن الله أحد صمد، ليس كمثله شيء، فسكت عني.

    وقد أوردت لهم حديث الرؤية في الدار الآخرة فحاولوا أن يضعفوا إسناده ويلفقوا عن بعض المحدثين كلامًا يتسلقون به إلى الطعن فيه، وهيهات، وأني لهم التناوش من مكان بعيد؟ وفي أثناء ذلك كله يتلطف بي الخليفة ويقول: يا أحمد أجبني إلى هذا حتى أجعلك من خاصتي وممن يطأ بساطي.

    فأقول: يا أمير المؤمنين يأتوني بآية من كتاب الله أو سنة عن رسول الله حتى أجيبهم إليها. فلما أعيتهم الحجج قال إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد: يا أمير المؤمنين ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله ويغلب خليفتين، فعند ذلك حمى المعتصم واشتد غضبه وكان ألينهم عريكة وهو يظن أنهم على شيء فقال لي: لعنك الله، طمعت فيك أن تجيبني فلم تجيبني.

    ثم قال: خذوه واخلعوه واسحبوه.. فأخذت وسحبت وخلعت وجيء بالعقابين والسياط وأنا أنظر، وكان معي شعرات من شعر النبي مصرورة في ثوبي، فجردوني منه وصرت بين العقابين، فقلت: يا أمير المؤمنين أذكر وقوفك بين يدي الله كوقوفي بين يديك، فكأنه أمسك.

    ثم لم يزالوا يقولون له: يا أمير المؤمنين إنه ضال مضل كافر، فأمر بي فقمت بين العقابين وجيء بكرسي فأقمت عليه وأمرني بعضهم أن آخذ بيدي بأي الخشبتين فلم أفهم، فتخلعت يداي وجيء بالضرابين ومعهم السياط فجعل أحدهم يضربني سوطين ويقول له المعتصم: شد قطع الله يديك، ويجيء بالآخر فيضربني سوطين ثم الآخر كذلك، فضربوني أسواطًا فأغمى على وذهب عقلي مرارًا، فإذا سكن الضرب يعود على عقلي، وقام المعتصم يدعوني إلى قولهم فلم أجبه وجعلوا يقولون: ويحك! الخليفة على رأسك، فلم أقبل وأعادوا الضرب ثم عاد إلى فلم أجبه، فأعادوا الضرب ثم جاء إلى الثالثة، فدعاني فلم أعقل ما قاله من شدة الضرب، ثم أعادوا الضرب فذهب عقلي فلم أحس بالضرب، وأرعبه ذلك من أمري وأمر بي فأطلقت ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت، وقد أطلقت الأقياد من رجلي، وكان ذلك في اليوم الخامس والعشرين من رمضان في سنة 221هـ، وكان ثم أمر الخليفة بإطلاقي إلى أهلي)، وكان جملة ما ضرب نيفًا وثلاثين سوطًا وقيل ثمانين سوطًا، لكن كان ضربًا مبرحًا شديدًا.

    ولما حمل من دار الخلافة إلى دار إسحاق بن إبراهيم وهو صائم أتوه بسويق ليفطر فامتنع من ذلك وأتم صومه.

    ويروى أنه لما أقيم ليضرب انقطعت تكة سراويله، فخشي أن يسقط سراويله فتكشف عورته، فدعا الله: يا غياث المستغيثين، يا إله العالمين، إن كنت تعلم أني قائم لك بحق، فلا تهتك لي عورة. فعاد سراويله كما كان.

    ولما رجع إلى منزله جاءه الجرايحي فقطع لحمًا ميتًا من جسده وجعل يداويه والنائب في كل وقت يسأل عنه، وذلك أن المعتصم ندم على ما كان منه إلى أحمد ندمًا كثيرًا.. فلما عوفي فرح المعتصم والمسلمون بذلك. ولما شفاه الله تعالى جعل كل من آذاه في حل إلا أهل البدعة.

    وكان يقول: (ماذا ينفعك أن يُعذَّب أخوك المسلم بسببك؟).

    ثم توفي المعتصم 17من ربيع الأول سنة 227هـ، وولي عهده ابنه هارون.

    ////////////////////////////////////////////////////////////////////

    ومعكم يكون الخير تابعونا
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: تاريخ الخلافة العباسية

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس نوفمبر 03, 2011 11:38 am

    تاريخ الخلافة العباسية  11456_image002

    خلافة الواثق بالله أبي جعفر هارون بن المعتصم بالله
    تولى الواثق بالله الخلافة من ربيع أول 227هـ حتى ذي الحجة 232هـ، وعمره إحدى وأربعون سنة، وتوطدت أقدام القواد الأتراك الذين اصطنعهم المعتصم وصاروا أصحاب نفوذ عظيم، ولا سيما أشناس الذي توَّجَه الواثق وألبسه وشاحين بالجوهر في رمضان سنة 228هـ.

    بل وقام قواد الأتراك لأول مرة بأعظم الأعمال الحربية في جزيرة العرب نفسها وذلك للقضاء على فتنة قامت سنة 230هـ حيث خرجت بنو سُليم حول المدينة فعاثوا في الأرض فسادًا، وقاد هذه الحملة بغا الكبير أبو موسى التركي.

    وفتنة أخرى قامت سنة 232هـ حيث قامت قبيلة بني نمير باليمامة بالإفساد في الأرض، واستطاع أيضًا بغا الكبير أن يقضي على فتنتهم.

    عمل شنيع للواثق
    فقد سيطر عليه هو الآخر الفكر المعتزلي وتعصب له وكان يدعو إلى القول بخلق القرآن ليلاً ونهارًا، وفي عهده ارتكب جرمًا شنيعًا إذ قُتِل أحمد بن نصر بن مالك الذي كان من أهل العلم والديانة والعمل الصالح والاجتهاد في الخير، وكان من أئمة السنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وممن يخالف رأي الخليفة في القول في القرآن، وأبوه هو نصر بن مالك الذي بايعته العامة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند غلبة الفساد ببغداد سنة 201هـ.

    في غيبة المأمون بمرو، استدعاه الواثق وناظره فلم يفلح في إقناعه بما يعتقد فقتله الواثق بنفسه، وفُصل رأسه عن جسده وعُلِّق رأسه ببغداد في 28 من شعبان سنة 231هـ إلى 3 من شوال سنة 237هـ، ولم يغير أحمد عقيدته وثبت. وذكره الإمام أحمد بن حنبل يومًا فقال: رحمه الله ما كان أسخاه بنفسه لله، لقد جاد بنفسه لله وقال جعفر بن محمد الصائغ: بصرت عيناي وإلا فقئتا، وسمعت أذناي وإلا فصمتا أحمد بن نصر الخزاعي حين ضربت عنقه يقول رأسه: لا إله إلا الله. وقد سمعه بعض الناس وهو مصلوب على الجذع ورأسه يقرأ: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1، 2][1].

    فلما حكم المتوكل بعد الواثق وكان محبًّا لأهل السنة وفي سنة 237هـ أمر بإنزال رأسه والجمع بين رأسه وجسده وأن يُسلَّم لأوليائه، ففرح الناس بذلك فرحًا شديدًا، واجتمع في جنازته خلق كثير جدًا وجعلوا يتمسحون بها وبأعواد نعشه، وتوفي الواثق في 24 من ذي الحجة سنة 232هـ، ولم يعهد لأحد من بعده فاجتمع كبراء الدولة يومها وهم: أبو دؤاد القاضي ومحمد بن عبد الملك الوزير وإيتاخ من قواد الأتراك وغيرهم ليختاروا الخليفة، فاختاروا جعفر المتوكل على الله.


    تاريخ الخلافة العباسية  11456_image003

    خلافة المتوكل على الله ابن المعتصم
    (من ذي الحجة 232هـ حتى قتل في شوال 247هـ)
    عرف المتوكل دون سائر أهل بيته بكراهية على بن أبي طالب وأهل بيته، وهذا ما يعرف في العقائد بالنصب، وهو ضد التشيع، وهو الذي أمر بهدم قبر الحسين بن علي بن أبي طالب سنة 236هـ وما حوله من المنازل والدور، ونودي في الناس من وجد هنا بعد ثلاثة أيام ذهبت به إلى المطبق فلم يبق هناك بشر، واتخذ ذلك الموضع مزرعة تحرث وتستغل.

    ومع ذلك كتب المتوكل في الآفاق بالمنع عن الكلام في مسائل الكلام والكف عن القول بخلق القرآن، وأنه من تكلم بها فمأواه المطبق، وأمر الناس ألاَّ يشتغل أحد إلا بالكتاب والسنة لا غير، وأكرم الإمام أحمد بن حنبل، وكان لا يولي إلا بعد مشورته، وكانت ولاية يحيى بن أكثم قضاء القضاة مكان ابن أبي دؤاد عن مشورته، وقد كان يحيى بن أكثم من أئمة السنة.

    قال ابن كثير: "وكان المتوكل محببًا إلى رعيته، قائمًا في نصرة أهل السنة، وقد أظهر السنة بعد البدعة فرحمه الله".

    عبرة وعظة في هلاك الظالمين
    دخل عبد العزيز بن يحيى الكتاني أحد المقربين إلى المتوكل عليه فقال: "يا أمير المؤمنين، ما رأيت أعجب من الواثق، قتل أحمد بن نصر الخزاعي وكان لسانه يقرأ القرآن إلى أن دفن". فوجل المتوكل من كلامه، وساءه ما سمع في أخيه الواثق، فلما دخل عليه الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات قال له المتوكل: "في قلبي شيء من قتل أحمد بن نصر". فقال: يا أمير المؤمنين، أحرقني الله بالنار إنْ قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافرًا[2]، ودخل على المتوكل هرثمة فكلمه المتوكل في ذلك، فقال: "قطعني الله إربًا إربًا إن قتله إلا كافرًا".

    ودخل عليه القاضي أحمد بن أبي داؤد فقال له مثل ذلك، فقال: "ضربني الله بالفالج إن قتله الواثق إلا كافرًا". قال المتوكل: فأما ابن الزيات فأنا أحرقته بالنار[3]، وأما هرثمة فإنه هرب فاجتاز بقبيلة خزاعة، فعرفه رجل من الحي فقال: يا معشر خزاعة، هذا الذي قتل ابن عمكم أحمد بن نصر، فقطعوه. فقطعوه إربًا إربًا. وأما ابن أبي دؤاد فقد سجنه الله في جلده -يعني بالفالج- ضربه الله له قبل موته بأربع سنين.

    الدولة اليعفرية
    وفي عهد المتوكل قامت الدولة اليعفرية بصنعاء: ومؤسسها هو يعفر بن عبد الرحيم، واستمرت من سنة 247 إلى سنة 387هـ، ومدتها 140 سنة.

    مواجهة المتوكل لنفوذ الأتراك وأثر ذلك
    كان نفوذ الأتراك يزداد يومًا بعد يوم، وقد أحس المتوكل بتوغل الأتراك في الدولة، واستبدادهم بأمور الخلافة وإدارتها وجيشها، فحاول أن يقلل نفوذهم فبدأ بإيتاخ فدبر له مكيدة حتى قتل.

    وحاول المتوكل أن ينتقل بعاصمة الخلافة إلى دمشق -ربما ليستعين بسلطان العرب على الأتراك- ولكنه لم يتحمل البقاء بدمشق فعاد إلى بغداد.. وكان قد شاع أنه عزم على الفتك بوصيف وبغا وغيرهما من قواد الأتراك ووجوههم، ولكن لم يتأت له ذلك لأنهم سبقوه إلى الغدر به.

    وذلك: أن المتوكل قد ولى العهد من بعده لابنه عبد الله وكان ابنه الآخر المنتصر بالله حانقًا على أخيه وعلى أبيه من أجل ذلك، وكان الأتراك يميلون إلى المنتصر بالله، وكانوا يشمون رائحة الغدر بهم من ناحية المتوكل، فتحالف المنتصر بالله مع بعض جند الأتراك ودخلوا على المتوكل وهو عليل وقتلوه، وكان ذلك بداية لعهد تمكن نفوذ الأتراك.

    ^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^

    مازلنا بكم بخير تابعونا
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: تاريخ الخلافة العباسية

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس نوفمبر 03, 2011 11:40 am

    تاريخ الخلافة العباسية  11470_image002

    خلافة محمد المنتصر
    (من شوال 247هـ حتى ربيع الآخر 248هـ)
    زادت قوة الأتراك في الدولة؛ لأن أيديهم امتدت إلى حياة الخلفاء فقتلوا الخليفة وساقوا الخلافة إلى خليفة، فأنشبوا أظفارهم بذلك في جسم الدولة، وكانوا لا يحبون ولاية العهد للمعتز والمؤيد ابني المتوكل، فلم يزالوا بالمنتصر حتى أجبر أخويه على أن يكتبا طالبين أن يخلعا من ولاية العهد.

    وبذلك وصل عجز الخليفة مداه تحت ضغط عسكر الأتراك، ويبدو أنه ندم على قتل أبيه فإنه لا يزال يؤنب نفسه في يقظته ومنامه، ويبكي ليلاً ونهارًا ندمًا على فعلته، وهمَّ بالانتقام من قتلة أبيه ولكنه لم يستطع، ووافته المنية في 5 من ربيع آخر سنة 248هـ.


    تاريخ الخلافة العباسية  11470_image003

    خلافة المستعين بالله
    اختير من ربيع الآخر 248هـ حتى محرم 252هـ، بمعرفة قادة الأتراك (بغا الصغير وبغا الكبير وأتامش)، فلم يولوا أحدًا من أبناء المتوكل لئلا يغتالهم بدم أبيه، فكان أول خليفة من بني العباس لم يكن أبوه خليفة، بعد مؤسسي الدولة السفاح والمنصور، وأول خليفة تولى بعد ابن عمه.

    ضعف نفوذ الخليفة وتحكم الموالي من الأتراك، فهم يعينون الوزير فإذا غضبوا عليه عزلوه وصادروا أمواله.

    ثم تولى أتامش أحد قواد الأتراك الوزارة، وأصبح صاحب السلطان التام فحسده أصحابه من الأتراك، وصيف وبغا، فألبوا العسكر عليه فقتل أتامش وانتهبت داره.

    واستوزر الخليفة بعده أبا صالح عبد الله بن محمد، وولَّى بغا الصغير فلسطين وولَّى وصيفًا الأهواز، وفي سنة 251هـ اجتمع رأي المستعين وبغا الصغير ووصيف على قتل باغر التركي، وكان من قواد الأمراء الكبار الذين باشروا قتل المتوكل، وقد اتسع إقطاعه وكثرت عماله، فقتل ونهبت أمواله.

    الدولة الزيدية بطبرستان
    وفي عهد المستعين قامت الدولة الزيدية خرج الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بنواحي طبرستان، واستطاع أن يكون دولة عرفت بالدولة الزيدية بطبرستان (250هـ- 300هـ).

    فتنة عظيمة
    في سنة 251هـ وقعت فتنة عظيمة بين جند بغداد وجند سامراء، ودعا أهل سامراء إلى بيعة المعتز، وكان مسجونًا فأُخرِج، واستقر أمر أهل بغداد على بيعة المستعين، فصارت بغداد في جانب المستعين وسامراء في جانب المعتز، وأمر المستعين محمد بن عبد الله بن طاهر أن يحصن بغداد، وأدير حولها السور وحفرت حولها الخنادق ونصب على السور مجانيق وأسلحة كثيرة عظيمة، وبعث المعتز إلى محمد بن عبد الله بن طاهر يدعوه إلى الدخول معه، ويذكره بعهد أبيه المتوكل أن يبايع بعده المعتز، ولكن عبد الله لم يأبه لذلك.

    وانضم الأتراك إلى معسكر المعتز، وجرت بينهما حروب طويلة وفتنة مهولة جدًّا.

    ولما تفاقم الحال جعل ابن طاهر يضغط على المستعين حتى خلع المستعين نفسه، وأرسل بن طاهر بذلك مع جماعة من الأمراء إلى المعتز بسامراء، فلما قدموا عليه بذلك أكرمهم وخلع عليهم.

    الأحوال الخارجية للبلاد
    وبالطبع أثرت هذه الخلافات على الأحوال الخارجية للبلاد، واستطاعت الروم أن تنزل الهزائم بالمسلمين، وقتلوا قائدين عظيمين للمسلمين من قواد الثغور هما عمر بن عبد الله الأقطع، وعلي بن يحيى الأرمني.

    ّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّ%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%

    معكم نحن فرحيين .. تابعونا
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: تاريخ الخلافة العباسية

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس نوفمبر 03, 2011 11:42 am

    تاريخ الخلافة العباسية  11471_image002

    خلافة أبي عبد الله المعتز
    ولم يكن في مدة خلافة المعتز من المحرم 252هـ حتى رجب 255هـ، سوى مزيد من ضعف الخلافة العباسية وتنازع الجند الأتراك والمغاربة الأمر، فانتهى الأمر بخلعه بعد ثلاث سنوات ونصف.

    فعل شنيع بالمعتز
    لم تكن له كلمة مسموعة، وكان سبب خلعه أن الجند اجتمعوا فطلبوا منه أرزاقهم فلم يكن عنده ما يعطيهم.. فاجتمع الأتراك على خلعه فأرسلوا إليه ليخرج إليهم، فاعتذر بأنه شرب دواء وأن عنده ضعف، ولكن ليدخل إلى بعضكم، فدخل إليه بعض الأمراء فتناولوه يضربونه وجروا برجله وأخرجوه وعليه قميص مخرق لطخ بالدم، فأقاموه في وسط دار الخلافة في حر شديد حتى جعل يراوح بين رجليه من شدة الحر، وجعل بعضهم يلطمه وهو يبكي ويقول له الضارب: اخلعها والناس مجتمعون. ثم أدخلوه حجرة مضيقًا عليه، وما زالوا عليه بأنواع العذاب حتى خلع نفسه عن الخلافة وولى بعده المهتدي بالله.

    ثم سلموه إلى من يسومه سوء العذاب بأنواع المثلات، ومُنع من الطعام والشراب ثلاثة أيام، حتى جعل يطلب شربة من ماء فلم يُسق، ثم أدخلوه سَرَبًا فيه جص جير، فدسوه فيه فأصبح ميتًا، فاستلوه من الجص سليم الجسد، وأشهدوا عليه جماعة من الأعيان أنه مات وليس به أثر.


    تاريخ الخلافة العباسية  11471_image003

    خلافة محمد المهتدي بالله
    (من رجب 255هـ إلى أن خلع في رجب 256هـ)
    أحضر الأتراك محمد هذا ليخلف المعتز بالله، وكان المعتز قد نفاه إلى بغداد واعتقله، فلما جاء إلى سامراء تلقاه الموالي في الطريق، وعرضوا عليه الخلافة فأبى أن يقبلها قبل أن يرى المعتز ويسمع كلامه، فلما دخل على المعتز ورآه على الحالة التي وصفنا آنفًا، عانقه وجعل يسأله عن سوء حاله، وأراد محمد أن يصلح بينه وبين الأتراك، ولكن المعتز قال له: لا حاجة لي فيها ولا يرضون بي.

    خصاله الطيبة وأثر ذلك
    وكان المهتدي من صالح بني العباس يكره الظلم، بنى قبة لها أربعة أبواب وسماها قبة المظالم وجلس فيها للعام والخاص للمظالم، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وحرم الشراب ونهى عن القيان، وكان فيه ديانة وتقشف حتى أن الجند تأسوا به، ولكن أمور الدولة لا تزال يتحكم فيها الخلافات بين الأتراك

    ولخلاف دبَّ بين بعض القادة، ولأن المهتدي قد مال لصالح الدولة مع أحدهم أرادوا خلعه.. فانتشر الخبر في العامة، فكتبوا رقاعًا ألقوها في المسجد الجامع وفي الطرقات، ونص هذه الرقاع:

    (بسم الله الرحمن الرحيم.. يا معشر المسلمين، ادعوا الله لخليفتكم العدل الرضا أن ينصره الله على عدوه ويكفيه مؤنة ظالمه؛ فإن الموالي قد أخذوه بأن يخلع نفسه وهو يعذب منذ أيام، والمدبر لذلك فلان وفلان، رحم الله من أخلص النية ودعا، وصلى على محمد ).

    فلما بلغ ذلك الأتراك خافوا ثورة العامة، فأرسلوا إلى المهتدي يخبرونه أنهم يبذلون دماءهم دونه.. وشكوا مع ذلك سوء حالهم وتأخر أرزاقهم، وما صار من الإقطاعات إلى قوادهم، فوعدهم المهتدي خيرًا، ولكنه لا يملك الآن ما يعطيهم منه فأعادوا عليه الطلب، وأنهم سيصيرون إلى باب أمير المؤمنين حتى تقضى حوائجهم.

    لقد كانت ثورة من الجند على قادتهم، ولكنها غير منظمة ولو وجدت هذه الثورة خليفة قويًّا وانتهزها المهتدي لتخلص من نفوذ الأتراك، ولكنه لم يفعل، بل كان ظاهره مع الرؤساء وباطنه مع الجنود، ويظهر أنه أراد استعمال الحيلة في الخلاص منهم ولكنهم كشفوا أمره وقامت فتنة ومعركة، فريق الناقمين على الأتراك من العامة والموالي من غير الأتراك من ناحية، وبين الأتراك من ناحية أخرى، وخرج الخليفة المهتدي وفي عنقه مصحف يدعو الناس إلى نصرته، ولكن الأتراك انتصروا.

    وقبضوا على المهتدي وحملوه إلى داره مهانًا في 14 من رجب سنة 256هـ، ثم خلعوه لما أبى أن يخلع نفسه، ثم مات في 18 من رجب سنة 256هـ.

    ‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘

    تابعونا
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: تاريخ الخلافة العباسية

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس نوفمبر 03, 2011 11:44 am

    تاريخ الخلافة العباسية  11479_image002

    خلافة أحمد المعتمد على الله
    (من رجب 256هـ حتى رجب 279هـ)
    كان من مطالب الأتراك أن يتولى أمر الجيش أحد إخوة أمير المؤمنين المعتمد على الله، ولا يرأسهم واحد منهم لما كان بينهم من الخلاف والمنافسة، فولَّى المعتمد أمرهم إلى أخيه أبي أحمد طلحة بن المتوكل، فولاه أمر الجيش والولايات.

    فصار السلطان الحقيقي لأبي أحمد لا للخليفة، وصارت كلمة أبي أحمد هي العليا، على الأتراك وقوادهم فحسَّن ذلك الأحوال بعض التحسين ولكن المعتمد نفسه ساءت أحواله؛ لأنه لم يترك له شيء من التصرف حتى إنه احتاج في بعض الأحيان إلى ثلاثمائة دينار فلم يجدها، والمعتمد هو أول خليفة انتقل بعاصمة الخلافة من سامراء إلى بغداد ثانية منذ عهد المعتصم.

    صفات أبي أحمد طلحة
    كان أبو أحمد غزير العقل حسن التدبير، يجلس للمظالم وعنده القضاة، فينصف المظلوم، وكان عالمًا بالأدب والفقه وسياسة الملك، وله محاسن ومآثر كثيرة لقبه أخوه بالموفق بالله، ولما هزم صاحب الزنج لقبه الناس الناصر لدين الله.

    ثورة صاحب الزنج
    في رمضان سنة 255هـ قام دعي في آل علي لا يعرف له نسبٌ ولا رحمٌ، زعم أن اسمه علي بن محمد بن أحمد بن علي بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فادعى أنه عباسي، ودعا الناس إلى طاعته

    ظهرت فتنته أولاً بالبحرين، ثم تحول عنهم إلى البادية، ثم إلى البصرة سنة 254هـ.

    ثم مضى الدعيُّ ومن اتبعه حتى وصل بغداد، فأقام بها عامًا يستميل الناس سرًّا، ثم شخص إلى البصرة، ونزلوا بقصر قريب منها يعرف بقصر القرشي، وهناك استعان بالعبيد الذين كانوا يعملون بتلك النواحي في حمل السباخ وغيره لأهل البصرة، وهم كثيرو العدد يهمهم أن ينالوا الحرية ويخرجوا مما هم فيه فكيف لو وُعِدوا مع الحرية بالسيادة على مالكي رقابهم؟

    فأخذ هذا الدعيُّ منهم غلامًا اسمه ريحان بن صالح ووعده أن يكون قائدًا، وأمره أن يحتال للعبيد الذين يعرفهم حتى يجيبوه إلى نحلته، ويتركوا سادتهم وأعمالهم فاجتمع إليه كثير منهم فخطب فيهم ومناهم، ووعدهم وحلف لهم الأيمان الغلاظ ألا يغدر بهم، والتفت الزنوج حوله وراقتهم دعوته.

    وكان كل جيش يبعث من قبل الخليفة يهزمه، ومضى يعيث في الأرض فسادًا يحرق وينهب، واستفحل أمره، وعظم شره وخيف على الدولة منه فلم ير أبو أحمد الموفق إلا أن يحشد إليه الجموع ويتولى هو قيادتها بنفسه، واصطحب معه ابنه أبا العباس، وكان نائبه، وتطوع الناس لحرب هذا الدعي.

    وقد كانت لأبي أحمد معه وقائع مذهلة وخطوب جسام استمرت أعوامًا، استعان فيها الموفق بربه ودعاه وناداه وتحمل الشدائد حتى أنه أصيب بسهم، فمرض منه أيامًا، واضطرب الناس أثناء فترة مرضه، ولكنه كان يحثهم على المواصلة حتى شفاه الله فأتم له النصر على عدوِّه، وحملت إليه رأس الخبيث فلما تيقن منها خرَّ لله ساجدًا، وفرح المسلمون بذلك في المشارق والمغارب، وكان ذلك في صفر سنة 270هـ، فكانت أيام هذا الدعي من لحظة خروجه إلى مماته أربع عشرة سنة.

    وفي هذا العهد
    قامت الدولة الطولونية بمصر سنة 258هـ واستمرت حتى سنة 292هـ، ومؤسسها أحمد بن طولون كان مملوكًا تركيًّا، وسيأتي لها مزيد تفصيل.

    كما قامت في هذا العهد الدولة السامانية سنة 261هـ ببلاد ما وراء النهر واستمرت حتى سنة 389هـ، أي دامت قرابة مائة وسبعين سنة، وقامت على أيدي آل سبكتكين من جهة، والترك الخاقانية من جهة أخرى، وسيأتي مزيد من بيان ذلك.

    وفي عهده ظهر القرامطة بثلاثة مواضع بالبحرين والعراق والشام، وكذلك كان يشتغل دعاة الفاطميين باليمن وإفريقية، فكأن الدعوة الإسماعيلية رتبت أن يكون ظهورها في آن واحد بجميع الجهات الإسلامية حتى لا يكون لبني العباس قِبَل بملاقاة شرها وكذلك كان. ثم توفي المعتمد في 9 من رجب 279هـ.


    تاريخ الخلافة العباسية  11479_image003

    خلافة المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الموفق طلحة
    (من رجب 279هـ حتى ربيع آخر 289هـ)
    كان من خيار خلفاء بني العباس ورجالهم، وكان شهمًا جلدًا، موصوفًا بالرجولة، وقد لقي الحروب، وعرف فضله، فقام بالأمر أحسن قيام، وهابه الناس، وكانت أيامه طيبة، كثيرة الأمن والرخاء، وقد أسقط المكوس، ونشر العدل، وكان يسمي "السفاح الثاني"؛ لأنه جدد ملك بني العباسي، وكان قد خَلقَ وضعف، وكاد يزول، وكان في اضطراب منذ قُتل المتوكل.

    ومنع الوراقين من بيع كتب الفلاسفة، وما شاكلها، ومنع القصاص والمنجمين من القعود في الطريق، وكان يمسك عن صرف الأموال في غير وجهها؛ فلهذا كان يبخله بعض الناس.

    وفي أيام المعتضد بالله زاد الغزو في بلاد الروم، سواء أكان عن طريق الثغور الشامية وخاصة طرسوس التي غالبًا ما كانت بأيدي الطولونيين أم عن طريق ثغور الجزيرة. وكذلك فقد كان غزو بلاد الترك التي بعد ما وراء النهر حيث كان يقوم السامانيون بالغزو، وقد سار إسماعيل بن أحمد بن أسد الساماني عام 280هـ إلى بلاد الترك، وأسر ملكهم وزوجته خاتون، وجرى تبادل الأسرى بين المسلمين والروم عام 283هـ، وكان عدد الأسرى من المسلمين أربعة وخمسمائة وألفين.

    توفي ليلة الاثنين لثمانٍ بقين من ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين، وعهد بالولاية لابنه المكتفي.

    تابعونا
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: تاريخ الخلافة العباسية

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس نوفمبر 03, 2011 11:46 am

    تاريخ الخلافة العباسية  11481_image002


    خلافة المكتفي بالله علي بن المعتضد بالله
    انتكست البلاد في عهد المكتفي بالله من ربيع آخر 289هـ حتى ذي القعدة 295هـ، وازدادت الصراعات والمنافسات بين ذوي النفوذ بالدولة.

    أعماله
    قاتل القرامطة ونظف النواحي الشامية منهم في محرم سنة 291هـ، ولكن ذلك لم يكن للمذهب القرمطي.
    وضعف سلطان هذه الفرقة بالعراق بعد مقتل زكرويه[1] وأولاده وقتل أكثر دعاتهم، ولكن نفى أخطر دعاتهم وهو الجنابي بالبحرين، ولم يكن له في عهد المكتفي كبير عمل، وإنما كانت مصائبه ورزاياه في عهد المقتدر. وفي عهده انتهت دولة بني طولون بمصر سنة 292هـ على يد العباسيين، كما انتهت دولة الأغالبة بإفريقية على يد أبي عبيد الله الشيعي داعية الفاطميين بالمغرب، كما سيأتي ذكره.

    خلافة جعفر المقتدر بالله بن المعتضد بالله
    تولى الخلافة المقتدر بالله من ذي القعدة 295هـ حتى قتل في شوال 320هـ، وسنُّه 13 سنة عن عهد من أخيه لم يرق الأمر للناس لصغر سنه، فحدثت محاولة لخلعه من كبار القادة وتولية عبد الله بن المعتز، ولكنها فشلت.

    حكومة النساء
    والحقيقة أن هيبة الخلافة قد سقطت في عهد المقتدر فهو شاب صغير لا يعرف عن السياسة شيئًا، ولا من الشجاعة شيئًا وكانت له أم وقهرمانة صار لهما الحكم في كل ما يجرى من الشئون، وإليهما يتقرب بالرشوة من يريد عملاً أو وزارة، والمقتدر لاهٍ بما هو فيه من اللعب واللهو والسرف ولم يعد بيده شيء، تولى الوزارة في عهده اثنا عشر وزيرًا، منهم من تقلد الوزارة مرتين وثلاثًا وكانت تنال بالرشوة، وتدخل في أمر تعيين الوزراء النساء والخدم والحاشية، ولم يكن الصالح منهم يبقى في العمل كثيرًا لأن بقاءه يتبع رضا أم المقتدر وقهرمانته وخدم الدار، وهؤلاء لا يرضون إلا إذا حوبوا بالأموال الكثيرة التي بها تفسد المالية، وتختل موازنتها فمتى حصل التقصير عن دفع الأموال جيء بآخر يستطيع أن يدفع، وسرعان ما يقبض على الأول ويصادر ويعين الثاني.

    وفي سنة 301هـ قُتِل أبو سعيد الجنابي زعيم القرامطة وتولى ابنه سعيد إلا أن أخاه أبو طاهر سليمان الجنابي قد تغلب عليه وقاد القرامطة من بعده. وفي عهده فعل القرامطة الأفاعيل واشتد نفوذه وسار نحو الكوفة وتقدم ناحية العاصمة بغداد، وهم يهزمون جيوش الخلافة الواحد تلو الآخر.

    وورد الخبر بذلك إلى بغداد فخاف الخاص والعام من القرامطة خوفًا شديدًا، وعزموا على الهرب إلى حلوان وهمذان..كل ذلك وعدد القرامطة لا يزيد عن 2700 حتى أنه لما علم المقتدر بعددهم قال: (لعن الله نيفًا وثمانين ألفًا يعجزون عن ألفين وسبعمائة!!).

    وفي سنة 312هـ اعترض القرمطي أبو طاهر الحسين بن سعيد الجنابي للحجيج وهم راجعون من بيت الله الحرام.. فلما حاولوا أن يدافعوا عن أنفسهم وأموالهم وأعراضهم قتل منهم خلقًا كثيرًا وأسر من نسائهم وأبنائهم، ثم بعث الخليفة بجيش بقيادة مؤنس الخادم لقتال القرامطة وأنفق على خروجه ألف ألف دينار فخافه أبو طاهر وأطلق من كان معه من أسرى الحجيج.. فسكن الأمر وانصلحت الأحوال.

    وفي عهد المقتدر أعلن عبد الرحمن الناصر أمير الأندلس نفسه أميرًا للمؤمنين.

    وفي إفريقية قامت الدولة الفاطمية سنة 279هـ قضت على دولة الأدارسة من المغرب الأقصى والأغالبة من إفريقية وجعلت مقرها مدينة المهدية التي أسسها عبيد الله المهدي بالقرب من القيروان، وسيأتي ذكر الدولة الفاطمية في فصل خاص.

    وفي الموصل ابتدأت دولة آل حمدان ولكن لم يتمكن سلطانهم، في عهد المقتدر، قامت سنة 293هـ واستمرت حتى 380هـ وسيأتي بيان هذه الدولة..

    نهاية شنيعة
    كانت نهاية المقتدر بائسة، شغب الجند واستاء القادة وحصل مواجهة بينه وبين أحد أكبر القادة في عصره وأعظمهم نفوذًا وهو مؤنس الخادم الملقب بالمظفر قائد عام الجيوش وهُزِم الخليفة وقتل على يد بعض الجند وذبحوه، ثم رفعوا رأسه على خشبة وهم يكبرون ويلعنونه، وأخذوا جميع ما عليه، حتى سراويله، وتركوه مكشوفًا إلى أن مر به رجل فستره بحشيش ثم حفر له موضعه ودفن وكان عمره حين قتل 38 عامًا.

    خلافة أبو محمد القاهر بن المعتضد
    جاء أبو محمد القاهر من شوال 320هـ حتى خلع في جمادى الأولى 322هـ، باختيار مؤنس قائد الجيش، وكان أول ما فعله هو إحضار أم المقتدر وتعذيبها، وكانت مريضة ليعرف أين كان مالها وجواهرها فاستلب جميع ما تملك.

    وكان القاهر شريرًا خبيث النية سرعان ما غدر بمؤنس، وأمر بالقبض عليه وكل من أجلسوه على كرسي الخلافة ولما تمكن منهم القاهر أمر بقتلهم وأما من بقى منهم فقد أخذ يخطط للتخلص من القاهر فقبضوا عليه وسملوا عينيه فقضوا عليه وخلعوه بتخطيط من وزيره ابن مقلة.

    خلافة الراضي أبو العباس بن أحمد المقتدر
    اختاره القادة وعينوه خليفة من جمادى الأولى 322هـ حتى ربيع أول سنة 329هـ، كالعادة كانت الكلمة العليا في أول عهده لمن ساعده وهو الوزير بن مقلة وحاجبه محمد بن ياقوت ولكن سرعان ما انقلب على ابن ياقوت، الذي توفي مسجونًا ثم انقلب على ابن مقلة وسجنه.

    واضطربت الأحوال فاضطر الراضي أن يرسل إلى محمد بن رائق وهو بواسط يعرض عليه الولاية ببغداد، فقلده الراضي لقب أمير الأمراء وولاه الدواوين، ومن ذلك الوقت بطلت الدواوين وبطلت الوزارة وانتقل السلطان الحقيقي لابن رائق وصارت الوزارة شكلية..

    حقيقة منصب أمير الأمراء
    عجبًا : كان ابن رائق وكاتبه ينظران في الأمور جميعها وكذلك كل من تولى إمرة الأمراء بعده، وصارت الأموال تُحمَلُ إلى خزائنهم فيتصرفون فيها كما يريدون، ويطلقون للخليفة ما يريدون وبطلت بيوت الأموال.

    ودارت صراعات ونزاعات للفوز بهذا المنصب -الذي لم يدم طويلاً لابن رائق- كلٌ يريد أن تكون له إمارة الأمراء ببغداد، والأعداء ينتقصون في كل يوم من أرض الخلافة جزءًا ولم يعد لها شيء من الهيبة ولا نفوذ الكلمة.

    ظهرت في عهد الراضي الدولة الإخشيدية بمصر على يد مؤسسها محمد بن طغج الإخشيدي وهو من موالي آل طولون وكان ملكه مصر سنة 323هـ إلى سنة 358هـ، وهم الذين تسلم منهم الفاطميون مصر.

    ختم الراضي الخلفاء في أشياء منها
    أنه آخر خليفة دون له شعر- وآخر خليفة انفرد بتدبير الملك- وآخر خليفة خطب على منبر يوم الجمعة- وآخر خليفة جالس الندماء ووصل إليه العلماء- وآخر خليفة كانت مراتبه وجوائزه وخدمه وحجابه تجري على قواعد الخلفاء المتقدمين، وفي أيامه حدث اسم أمير الأمراء في بغداد، وصار إلى أمير الأمراء الحل والعقد، والخليفة يأتمر بأمره، وليس له من نفوذ الكلمة ولا سلطان الخلافة شيء.
    خلافة إبراهيم المتقي لله بن المعتمد
    عين القادة المتقي لله من ربيع أول 329هـ حتى خلع في صفر 333هـ، والوزراء ولم يكن له من الأمر شيء، واشتد الصراع على منصب أمير الأمراء ولم يكن يستقر الحال لأحدهم طويلاً:

    (ابن رائق - بجكم - البريدي - ناصر الدولة ابن حمدان - توزون)، واستمر الحال على ذلك حتى خلعه توزون، وسمل عينيه وأدخله بغداد وهو على هذه الحال، وأرغمه على بيعة المستكفي، ثم سجن في جزيرة بالنهر، وبقي في سجنه مدة خمس وعشرين سنة حتى توفي عام 357هـ. وفي أيام المتقي هاجم الروم المسلمين ووصلوا إلى نصيبين، فقتلوا وسبوا ما شاء لهم هواهم أن يفعلوا.


    معكم تابعونا
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: تاريخ الخلافة العباسية

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس نوفمبر 03, 2011 11:48 am

    تاريخ الخلافة العباسية  11482_image002

    دور جديد للدولة العباسية
    يبتدئ هذا الدور من سنة 334هـ حتى سنة 447هـ، تولى فيه الخلافة خمسة خلفاء أوَّلهم:

    خلافة المستكفي أبي القاسم عبد الله بن المكتفي بن المعتضد
    (من صفر 333هـ حتى خلع في جمادى الآخرة 334هـ)
    ويرتبط هذا الدور بتاريخ آل بويه الديلميين، الذين كانوا أصحاب النفوذ الحقيقي والسلطان الفعلي في العراق.

    استيلاء البويهيين على عاصمة الخلافة
    بلاد الديلم تقع في الجنوب الغربي من شاطئ بحر الخزر.. كانت في القديم إحدى الولايات الفارسية، إلا أن أهلها لم يكونوا من العنصر الفارسي، بل عنصر ممتاز يطلق عليه اسم الديالمة أو الجيل.

    فتحت بلاد الديلم في عهد عمر بن الخطاب، وخضعت للحكم الإسلامي مع بقائهم على وثنيتهم.. وكانت تجاورهم بلاد طبرستان وأكثر أهلها دانوا بالإسلام، وكان بين الديالمة والطبريين سلم وموادعة.

    واستمر الحال على ذلك بعد قيام الدولة العباسية، فلا الديالمة تحدثهم أنفسهم بالخروج إلى بلاد المسلمين، ولا المسلمون يحدثون أنفسهم بالتوغل إلى بلادهم، حتى عهد المستعين الذي أرسل محمد بن طاهر ليحكم تلك البلاد -كان ذلك سنة 250هـ- ولكن أهل طبرستان امتنعوا وأعلنوا العصيان لمحمد بن طاهر، وجعلوا عليهم الحسن بن زيد (الدولة الزيدية)، وطلبوا من الديلم أن يساعدوهم على عمال ابن طاهر ففعلوا.

    وظل الحسن يحكم مدن طبرستان ثم الري وجرجان حتى مات سنة 271هـ، ثم تولى أخوه محمد بن زيد وكانت مدته مضطربة حتى قتل سنة 287هـ، وكان وجود الحسن ومحمد من أسباب شيوع الإسلام في أهل الديلم.

    ثم دخل بلاد الديلم الحسن بن علي الملقب بالأطروش سنة 301هـ وأقام بينهم 13سنة يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم منهم خلق كثيرون واجتمعوا عليه وبنى في بلادهم المساجد.. ولكن إسلامهم ملتبس بتشيع.. ثم بعد فترة استطاع الأطروش بمساعدة الديلم أن يستولي على طبرستان وجرجان من السامانيين.. ثم توفي الأطروش سنة 304هـ. وتطورت الأحوال بمرور الأيام حتى سنة 323هـ، صارت القوى الكبرى بهذه البلاد على النحو التالي:

    قوة على بن بويه بفارس والري.

    وقوة السامانيين بخراسان وما وراء النهر.

    وكان بنو بويه ثلاثة هم: علي والحسن وأحمد، فلما ضعف سلطان الخليفة خطر ببال عليِّ بن بويه أن يرسل أخاه الأصغر أحمد ليمد سلطانه إلى الأهواز والعراق.

    واستطاع أحمد أن يسيطر على الأهواز بعد حروب بينه وبين بجكم الرائقي، وانهزم بجكم وفر إلى واسط.


    تاريخ الخلافة العباسية  11482_image003

    وكاتب قواد بغداد أحمد بن بويه يطلبون إليه المسير نحوهم للاستيلاء على بغداد فوصلها في 11 من جمادى الأولى سنة 334هـ، والخليفة هو المستكفي بالله، فقابله واحتفى به وبايعه أحمد، وحلف كل منهما لصاحبه، هذا بالخلافة وذاك بالسلطنة، وفي هذا اليوم شرّف الخليفة بني بويه بالألقاب:
    فلقب عليًّا صاحب بلاد فارس (عماد الدولة).
    والحسن صاحب الري والجبل (ركن الدولة).
    ولقب أحمد صاحب العراق (معز الدولة).
    وأمر أن تضرب ألقابهم وكُناهم على النقود.

    وهذا اليوم هو تاريخ الدور الثاني للخلافة العباسية وهو تاريخ سقوط السلطان الحقيقي من أيديهم، وصيرورة الخليفة منهم رئيسًا دينيًّا لا أمر له ولا نهى ولا وزير، وإنما له كاتب يدبر إقطاعياته وإخراجاته لا غير، وصارت الوزارة لمعز الدولة يستوزر لنفسه من يشاء.

    خطر ببال معز الدولة أن يزيل اسم الخلافة أيضًا عن بني العباس ويوليها علويًّا؛ لأن معز الدولة كان من قوم انتشرت فيهم تعاليم الشيعة الزيدية كما رأينا، فكانوا يعتقدون أن بني العباس قد غصبوا الخلافة وأخذوها من مستحقيها، ولكن بعض خواصه أشار عليه ألاَّ يفعل وقال له:

    إنك اليوم مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنه ليس من أهل الخلافة، ومتى قتلته أجلست بعض العلويين خليفة اعتقدت أنت وأصحابك صحة خلافته، فلو أمرهم بقتلك لفعلوا. فأعرض عما كان قد عزم عليه.

    ما وصلت إليه الأمة الإسلامية في ذلك الوقت
    - الأندلس يحكمها عبد الرحمن الناصر أمير المؤمنين.

    - بلاد إفريقية ويحكمها الفاطميون.

    - أقصى المغرب ويحكمها الأدارسة والقائم بالأمر منهم إسماعيل المنصور، وهو ثاني خلفائهم ويلقب بأمير المؤمنين.

    - مصر والشام ويحكمها الإخشيديون، ويخطبون باسم الخليفة العباسي.

    - حلب والثغور لسيف الدولة علي بن عبد الله بن حمدان الشيباني، ويخطبون باسم الخليفة العباسي.

    - الجزيرة الفراتية لناصر الدولة الحسن بن علي بن عبد الله بن حمدان، ويخطب باسم الخليفة العباسي.

    - العراق للديلم والسلطان منهم معز الدولة أحمد بن بويه، ويخطب على منابره باسم الخليفة العباسي ثم باسم معز الدولة من بعده.

    - عمان واليمن والبحرين وبادية البصرة للقرامطة، ويخطبون باسم المهدي الفاطمي.

    - فارس والأهواز لعليِّ بن بويه الملقب بعماد الدولة، ويخطب باسم الخليفة العباسي، وكان يلقب بأمير الأمراء؛ لأنه أكبر بني بويه.

    - الجبل والري لحسن بن بويه الملقب ركن الدولة، ويخطب باسم الخليفة العباسي، وجرجان وطبرستان عليها نزاع بين آل سامان وركن الدولة.

    - خراسان وما وراء النهر لآل سامان، ومقر ملكهم مدينة بخارى، ويخطبون للخليفة العباسي.

    هذه هي المدن الكبرى التي كانت لأسر مملوكة في الرقعة الإسلامية، فقد تفرق هذا الملك الواسع تفرقًا غريبًا بعد أن كان متماسك الأعضاء، ويرجع كله إلى خلافة واحدة كبرى تجمع شتاته.

    وقفة
    ومما يستحق النظر أن العنصر العربي لم يبق له شيء من الملك، إلا ما كان لناصر الدولة وأخيه سيف الدولة من آل حمدان فإنهما من عنصر عربي، ومع هذا فقد كان النفوذ والسلطان فيما يليانه من البلاد لقواد من الأتراك ولم يكن لهما استقلال سياسي، بل كان أمر بني بويه فوقهما، وكانا يذكران اسم معز الدولة في الخطبة بعد ذكر الخليفة العباسي.

    خلع المستكفي
    لم يمكث المستكفي في الخلافة بعد استيلاء معز الدولة إلا أربعين يومًا وخُلِع؛ لأن معز الدولة اتهمه بالتدبير عليهم، وذلك في جمادى الآخرة سنة 334هـ.

    تابعونا
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: تاريخ الخلافة العباسية

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس نوفمبر 03, 2011 11:49 am

    خلافة الفضل المطيع لله بن المقتدر
    (من جمادى الآخرة 334هـ حتى خلع في ذي القعدة 363هـ)
    عانى من شغب الجند عليه فاضطر إلى استرضائهم بإقطاع القواد والجند إقطاعات السلطان وأصحاب الأملاك فخربت البلاد لذلك، وعم الغلاء والنهب.. ولم تمض سنة على بغداد حتى اشتد الغلاء فأكل الناس الميتة والكلاب، وأكل الناس خروب الشوك، وكانوا يسلقون حبه ويأكلونه فلحق الناس أمراض وأورام في أحشائهم، وكثر فيهم الموت حتى عجز الناس عن دفن الموتى فكانت الكلاب تأكل لحومهم، وانحدر كثير من أهل بغداد إلى البصرة، فمات أكثرهم في الطريق وبيعت الدور والعقارات بالخبز.

    فكان نظام الإقطاعات أول فساد بالعراق، لأنه أضعف همة الفلاحين الذين يقومون بزرع الأرض وإصلاحها.

    نزاع بين الجند
    ظهر كذلك لون من النزاع العنصري بين الأجناد من الديلم والأتراك، وقد حاولت الديلم خلع معز الدولة، ولكن الأتراك وقفوا معه وأفسدوا هذه المحاولة، فمال إليهم معز الدولة دون الديلم، وأطلق يد الأتراك فخربوا البلاد ونهبوا الأموال.

    البويهيون على خُطا العبيديين
    كان أهل بغداد قبل تحكم البويهية على مذهب أهل السنة والجماعة، يحترمون جميع الصحابة، ويفضلون الشيخين على سائرها ولا يقدحون في معاوية، ولا غيره من سلف المسلمين، فلما جاءت هذه الدولة وهي متشيعة: نما مذهب الشيعية ببغداد ووجد له دعمًا من الحكومة، حتى إنه أمر بالكتابة على المساجد سنة 351هـ: "لعن الله معاوية بن أبي سفيان، ولعن من غصب فاطمة رضي الله عنها، ومن منع أن يدفن الحسن عند قبر جده u...". فلما كان الليل حكه بعض الناس، ولكن المعز أعاد كتابته.

    وفي 10 من محرم سنة 352هـ أمر معز الدولة بالإضراب عن العمل، وإظهار النياحة ولبس القباب وعملوها كالمسوح وأن يخرج النساء مسودات الوجه وقد شققن ثيابهن يدرن في البلد بالنوائح على الحسين بن علي t، ففعل الناس ذلك ولم يكن للسنية قدرة على المنع لكثرة الشيعة؛ ولأن السلطان معهم.

    وفي من 18 ذي الحجة لنفس العام أمر بإظهار الزينة وإشعال النيران وإظهار الفرح احتفالاً بعيد الغدير (غدير خم)، وهو الموضع الذي يروى أن رسول الله قال فيه عن علي: "من كنت مولاه فعليُّ مولاه، اللهمَّ والِ من والاه، وعاد من عاداه"، وكان يومًا مشهودًا.

    فتن وحروب
    حصلت حروب بين معز الدولة البويهي وناصر الدولة العربي، لم تهدأ الحروب بين الطرفين فاشتغلا بها عن كل مصلحة، وكان ذلك سببًا فيما يأتي ذكره من الضعف أمام الروم.

    توفي معز الدولة 13من ربيع آخر سنة 356هـ، وتولى بعده عز الدولة بختيار بن أحمد بن بويه فظل في السلطة حتى خلعه ابن عمه سنة 367هـ. وكانت مدته عبثًا واشتغالاً باللهو والنساء، ولم يحسن معاملة من حوله حتى استوحشوا منه. وفي هذه الفترة، استطاع الروم أن يستردوا جميع الثغور الإسلامية الكبرى، وصارت لهم الهيبة في قلوب المسلمين من أهل الجزيرة والشام، بينما بنو بويه وبنو حمدان يغزو بعضهم بعضًا، وعن عدوهم مشتغلون.

    موقف يوضح ما وصل إليه الحال
    سنة 361هـ أغار ملك الروم على الرها ونواحيها وساروا في الجزيرة حتى بلغوا نصيبين، فحرقوا البلاد وخربوها، فسار جماعة أهل تلك البلاد إلى بغداد مستنصرين، وقاموا في الجوامع والمشاهد واستنفروا المسلمين، وذكروا ما فعله الروم من النهب والقتل والأسر والسبي، فاستعظم الناس ذلك، فسار معهم أهل بغداد، وقصدوا دار الخليفة وأرادوا الهجوم عليه، فمنعوا من ذلك، وكان بختيار يصطاد بنواحي الكوفة، فخرج إليه وجوه أهل بغداد مستغيثين منكرين عليه اشتغاله بالصيد، وقتال عمران بن شاهين صاحب البطيحة -وهو مسلم- وترك جهاد الروم، ومنعهم عن ديار الإسلام فوعدهم بالتجهيز للجهاد، وأرسل إلى سبكتكين يأمره بالتجهيز وأن يستنفر العامة، فاجتمع معه عدد كثير لا يحصون.

    وكتب بختيار إلى أبي تغلب بن حمدان صاحب الموصل يأمره بإعداد الميرة والعلوفات، ويعرفه عزمه على الجهاد والغزو فأجابه بإظهار السرور.. ثم أرسل بختيار إلى المطيع لله يطلب منه مالاً، فقال المطيع: إن الغزو والنفقة عليه وعلى غيره من مصالح المسلمين تلزمني إذا كانت الدنيا في يدي وتجبي إلى الأموال، وأما إذا كانت حالي هذه فلا يلزمني شيء، وإنما يلزم من البلاد في يده وليس لي إلا الخطبة، فإن شئتم أن أعتزل فعلت.

    وترددت الرسائل بينهما حتى وصل الحال إلى تهديد الخليفة فبذل المطيع 400 ألف درهم، فاحتاج إلى بيع ثيابه، وأنقاض داره، وغير ذلك. وشاع بين الناس من أهل العراق وخراسان وغيرهم، أن الخليفة قد صودر ماله. فلما قبض بختيار المال صرفة في مصالحة، وبطل حديث الغزو‍‍‍‍.

    وفي سنة 361هـ انتقل خلفاء الفاطميين إلى مصر، بعد استيلاء جوهر الصقلي عليها في عهد الخليفة المعز لدين الله الفاطمي.

    وفي 15 ذي القعدة سنة 363هـ اعتزل المطيع، ولم يكن له أثر يذكر.

    خلافة أبي الفضل عبد الكريم الطائع لله بن المطيع
    (من ذي القعدة 363هـ حتى رجب 381هـ)
    كانت للفتنة التي قامت ببغداد بين أهل السنة والشيعة أثر كبير في إثارة الاضطرابات والفوضى ببغداد، فسفكت الدماء، وأحرقت الكرخ، التي كانت محلة الشيعة.. ولم يستطع بختيار أن يسيطر على مقاليد الأمور.

    شهدت هذه الفترة صراعًا بين بختيار وعضد الدولة ابن عمه على بغداد انتهى لصالح الأخير سنة 366هـ، فتمكن من بغداد، ثم سار إلى الموصل فملكها وأزال عنها الدولة الحمدانية، واتسعت أملاكه فصار له العراق والجزيرة، والأهواز وفارس والجبال والري ثم جرجان.

    كان عضد الدولة من أعقلِ آل بويه، حسن السياسة شديد الهيبة معطاء، وكان يختار على أساس الكفاءة لا الشفاعة.. توفي سنة 372هـ في شوال.

    اختير بعده ابنه كاليجار المرزبان الملقب صمصام الدولة، فاضطربت في عهده الأحوال، وتقلص الملك الذي ورثه عن أبيه، حتى ضعف أمره ودخل في ولاية أخيه شرف الدولة من سنة 376هـ حتى توفي سنة 379هـ.

    ثم تولى بعده بهاء الدولة أبو نصر، أخو شرف الدولة، وفي سنة 381هـ قبض بهاء الدولة على الطائع لله للاستيلاء على أمواله؛ طمعًا فيها ثم خلع.

    وفي هذه الفترة قامت الدولة السبكتكينية (الغزنوية) من سنة 366هـ إلى سنة 582هـ، على يد سبكتكين كما سيأتي ذكره.

    خلافة أبي العباس أحمد القادر بالله بن إسحاق بن المقتدر
    (من رمضان 381هـ حتى توفي في ذي الحجة 422هـ)
    تم اختياره بمعرفة آل بويه وقد كان هاربًا في زمن الطائع، فأتى به إلى بغداد واستقبل استقبالاً طيبًا من بهاء الدولة، لم يكن للخليفة شيء من السلطان كمن مضى في عهد سلاطين بني بويه، إلا أن ضعفهم أحيا للخليفة شيئًا من الكلمة والنفوذ، وكان القادر فيه من خلال الخير ما يساعد على ذلك، فقد كان حليمًا كريمًا يحب الخير وأهله، ويأمر به وينهى عن الشر، وكان حسن الاعتقاد، وصنف كتابًا على مذهب أهل السنة والجماعة ثم توفي سنة 422هـ.

    خلافة أبي جعفر عبد الله القائم بأمر الله
    (من ذي الحجة سنة 422هـ حتى 13 من شعبان سنة 467هـ)
    وفي أول عهده ضعفت الخلافة والسلطنة جميعًا ببغداد وعمت الفوضى وشغب الجند، وكثر النزاع بين الديلم عنصر السلطان، وبين الأتراك قدماء العهد ببغداد، والعجيب أن آخر سلطان بويهي، وهو أبو نصر فنا خسرو، في ظل هذا الضعف البيِّن يطلب من الخليفة أن يلقب بالملك الرحيم، فأبى الخليفة ذلك ولكنه أصر حتى كان ذلك لقبه..!!

    واستمر سلطانًا حتى قضى عليه السلطان طغرل بك السلجوقي، وبذلك انقضت مدة آل بويه التي لم تترك أثرًا صالحًا في عهد الدولة العباسية، إلا مزيدًا من الفساد والتشتت بما أظهرته من التشيع في بغداد، مع أن غالبية أهلها أهل سنة وجماعة.

    تابعونا وحسرةالقلب على حال المسلمين
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: تاريخ الخلافة العباسية

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس نوفمبر 03, 2011 11:51 am

    تاريخ الخلافة العباسية  11493_image002

    وصول آل سلجوق إلى السلطنة
    يعود أصل آل سلجوق إلى الغز من الترك وهي عشيرة كانت تقيم في بلاد تركستان تحت حكم ملك الترك.

    تنسب إلى سلجوق بن تقاق توفي عن عمر 170 سنة، ظهرت عليه علامات النجابة فقربه ملك الترك إليه ثم خافَه وأحس سلجوق بذلك فجمع عشيرته وهاجر إلى ديار الإسلام واعتنق الإسلام وصار يشن غارات على بلاد الترك واستعان السامانيون بسلجوق في رد غارات الترك على بلادهم.

    استمر الحال حتى كان من أحفاده طغرل بك محمد، وداود جعفر بك، اللذين أصبح لهما السلطان بعد ذلك على عشيرتهما فانتقلا بمن معهما إلى قرب بخاري، حيث أقاموا هناك، ولكن أمير بخاري خافهما فسارا إلى تركستان عند ملكها بوغراخان، ثم حدث بينهم خلاف انتهى باعتقال طغرل بك، ولكن داود استطاع أن يداهم بوغراخان ويستنقذ أخاه طغرل بك، ثم انتقلوا إلى بلاد الدولة السامانية حيث استقروا هناك، ولكن الدولة السامانية كانت في آخر أيامها، وقد برزت قوة جديدة هي قوة الغزنويين فاصطدموا معهم... وانتهى الصدام بًاسر أرسلان سلجوق عم طغرل بك، ثم حدث صلح بين السلاجقة والغزنويين، بحيث تولى عماد السلاجقة إمرة بعض المدن والمناطق وأطلق سراح عمهم أرسلان.

    وفي سنة 429هـ رجع الخلاف بين الغزنويين والسلاجقة وتمكن طغرل بك أن يستولي على مرو، وذكروا اسمه في خطبة الجمعة باسم ملك الملوك.

    وفي سنة 432هـ استولى طغرل بك على نيسابور وعلى جرجان وطبرستان، ثم في سنة 433هـ ضم كرمان وبلاد الديلم.

    وفي سنة 434هـ استولى على خوارزم، وانتقل الصراع فأصبح مع البويهيين، فدخل طغرل بك أصبهان، ثم تم الاتفاق معهم وتزوج طغرل بك ابنة أبى كاليجار البويهي، كما تزوج أبو منصور ابن أبي كاليجار ابنة داود أخو طغرل بك سنة 439هـ.

    انتقل طغرل بك إلى الصراع مع الروم فقاتلهم وانتصر عليهم، وعقد معهم هدنة، واشترط فيها أن يبني مسجد بالقسطنطينية فبنوه، وأقيمت فيه الصلاه وخطب لطغرل بك فيه.

    تقاسم السلاجقه البلاد الواسعة التي بحوزتهم فيما بينهم، وانتخب ملكًا عليهم جميعًا طغرل بك، ولم يكن له أولاد واتخذ مدينة الري حاضرة له، وقد اختير ابن اخيه ألب أرسلان بن داود ليكون مع عمه طغرل بك مساعدًا له، ونتيجة ما قدَّم طغرل بك من خدمات ونتيجة مراسلاته مع الخليفة فقد ذكر اسمه في الخطبة وعلى السكة قبل السلطان البويهي، ثم استأذن طغرل بك على الخليفة القائم ودخل مدينة بغداد سنة 447هـ، وطلب الخليفة القائم من السلطان البويهي أن يتبع ويخضع لطغرل بك، وبذا انتهى عهد البويهيين وجاء دور السلاجقة.

    كان الخليفة قد تزوج خديجة بنت داود أخي طغرل بك سنة 454هـ، ثم خطب طغرل بك ابنة الخليفة وتزوجها بعد امتناع من الخليفة، واتجه طغرل بك إلى الري فمرض في الطريق، ثم توفي سنة 455هـ بعد أن وصل إلى الري.

    لقد استطاعت هذه العشيرة أن تستولي على جُلِّ ما ملكه المسلمون، وقد انقسمت إلى خمسة بيوت.

    صراع الشيعة والسنة
    في صفر سنة 443هـ وقعت حرب بين الشيعة والسنة، فقتل من الفريقين خلق كثير، وذلك أن الشيعة نصبوا أبراجًا وكتبوا عليها بالذهب: (محمد وعلي خير البشر، فمن رضي فقد شكر، ومن أبي فقد كفر). فأنكرت السنة إقران على مع محمد في هذا، فنشبت الحرب بينهم واستمر القتال بينهم إلى ربيع الأول، وأحرقت قبور بني بويه وقبر جعفر بن المنصور، ومحمد الأمين، وأمه زبيدة، وقبور كثيرة جدًّا، وانتشرت الفتنة وتجاوزوا الحدود، وقد قابلهم أولئك الرافضة الشيعة أيضًا بمفاسد كثيرة، وبعثروا قبورًا قديمة وأحرقوا من فيها من الصالحين، وكادوا أن يحرقوا قبر الإمام أحمد، وتسلط على الرافضة عيار يقال له القطيعي، وكان يتبع رءوسهم وكبارهم فيقتلهم جهارًا وغيلة، وعظمت المحنة بسببه جدًّا، ولم يقدر عليه أحد، وكان في غاية الشجاعة والبأس والمكر.

    استمر الحال حتى سنة 448هـ، وهي السنة التي بدأ فيها ملك آل سلجوق.

    يقول ابن كثير: "...وفي هذه السنة ألزم الروافض بترك الأذان (بحي على خير العمل) وهي بدعة أحدثوها، وأمروا أن ينادى مؤذنهم في أذان الصبح، بعد حي على الفلاح: الصلاة خير من النوم مرتين، وأزيل ما كان على المساجد من كتابة: (محمد وعلي خير البشر)، ودخل المنشدون من باب البصرة إلى باب الكرخ (الكرخ معقل الرافضة) ينشدون بالقصائد التي فيها مدح الصحابة، وقد كانوا لا يستطيعون ذلك؛ لأن بني بويه كانوا حكامًا، وكانوا يقوون الشيعة وينصرونهم، فزالوا وبادوا وذهبت دولتهم، وجاء بعدهم قوم آخرون من الأتراك السلجوقية الذين يحبون أهل السنة ويوالونهم ويرفعون قدرهم والله المحمود، أبدًا على طول المدى".

    فتنة البساسيري
    ظهرت فتنة عظيمة سنة 450هـ، وهي محاولة الفاطميين الاستيلاء على بغداد، ونفي الخليفة العباسي إلى حديث عانة بمساعدة أرسلان أبو الحارس البساسيري التركي.

    كان البساسيري من مماليك بهاء الدولة، وكان أولاً مملوكًا لرجل من أهل مدينة بسا، فنسب إليها فقيل له البساسيري، وتلقب بالملك المظفر ثم كان مقدمًا كبيرًا عند الخليفة القائم بأمر الله، لا يقطع أمرًا دونه، وخطب له على منابر العراق كلها، ثم طغى وبغى وتمرد، وخرج على الخليفة والمسلمين، وفي هذه الفترة كان هناك نزاع بين الملك طغرل بك وأخيه إبراهيم، في نفس الوقت كان البساسيري هذا ومعه قريش بن بدران أمير العرب يتوجهان إلى الموصل، ونجحا في أخذها.. فسار إليها طغرل بك سريعًا فاستردها، وهربا منه فتبعهما إلى نصيبين، وهرب إبراهيم أخو طغرل إلى همذان وعصى عليه، فسار طغرل وراء أخيه وترك عساكره وراءه، فتفرقوا وقلَّ من لحقه منهم.

    انتهز البساسيري هذه الفرصة وقصد بغداد وليس بها أحد من المقاتلة، ولما علم الناس بقدومه تنادى الناس: من أراد الرحيل من بغداد فليرحل، فانزعج الناس وبكى الرجال والنساء والأطفال.. حتى إن الخليفة نفسه قد هم بالرحيل ولكنه آثر البقاء في قصره مع النصح له بأن الأفضل أن يرحل لعدم المقاتلة.. حتى كان يوم 8 من ذي القعدة سنة 450هـ جاء البساسيري إلى بغداد، ومعه الرايات البيض المصرية، وعلى رأسه أعلام مكتوب عليها اسم الخليفة الفاطمي، فتلقاه الشيعة أهل الكرخ، وجمع البساسيري اللصوص ومنّاهم بنهب دار الخليفة، ونَهَب الشيعة دور أهل السُّنَّة، وأعيدت عادات الشيعة وبدعهم.. ووجد الخليفة نفسه محاصرًا وحوله زمرة قليلة من العباسيين، فطلب الأمان من أمير العرب قريش فأمّنه.

    ولما علم بذلك البساسيري اغتاظ ولامه لومًا عنيفًا على إعطائه الأمان للخليفة، ثم اتفقا على إخراج الخليفة من بغداد إلى أمير حديثة عانة[1]، وهو مهارش بن مجلي الندوي وهي من بني عم قريش بن بدران، وعبثًا ألح الخليفة على قريش أن لا يخرجه من بغداد فلم يفد ذلك شيئًا، وأخرج الخليفة في هودج إلى حديثة عانة، فكان عند مهارش عامًا كاملاً، وليس معه أحد من أهله وذلك في ذي القعدة سنة 450هـ.

    وأمر البساسيري بالخطبة للخليفة المصري، والروافض في غاية السرور وانتقم البساسيري من أعيان أهل بغداد انتقامًا عظيمًا.

    القضاء على البساسيري
    ودخلت سنة 451هـ والحال على ما هي عليه، بيد أن السلطان طغرل قد انتهى من منازعة أخيه إبراهيم وقتله، وتفرغ للقضاء على البساسيري. فأرسل إلى أمير العرب يتهدد ويتوعد، فتحالف معه على البساسيري.. وتوجه السلطان طغرل إلى بغداد، وكان يوم دخوله إليها يومًا مشهودًا، وأرسل السلطان إلى الخليفة مراكب كثيرة، فلما وصل الخليفة النهروان خرج السلطان لتلقيه، فلما دخل سرادق الخليفة قبَّل الأرض بين يد الخليفة سبع مرات، وكان يومًا عظيمًا.

    ثم خرج السلطان خلف البساسيري الذي هرب إلى واسط، فاقتتلوا هنالك وانهزم أصحاب البساسيري، وتبعه بعض الغلمان فقتلوه، وحملت رأسه إلى بغداد وانتهت بذلك فتنته.

    معركة ملاذ كرت
    توفي طغرل بك سنة 455هـ في خلافة القائم وتولى الأمر بعده السلطان عضد الدولة أبي شجاع ألب أرسلان محمد بن داود بن ميكائيل بن سلجوق.

    وفي سنة 463هـ أقبل ملك الروم أرمانوس في جحافل أمثال الجبال من الروم والكرخ والفرنج، وعدد عظيم بلغ مائتي ألف وعُدَد، ومن عزمه -قبحه الله- أن يبيد الإسلام وأهله، أقطع بطارقته البلاد حتى بغداد واستوصى نائبها بالخليفة خيرًا... والقدر يقول: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]، فالتقاه السلطان ألب أرسلان في جيشه وهم قريب من عشرين ألفًا بمكان يقال له الزهوة في يوم الأربعاء 25من ذي القعدة، وخاف السلطان من كثرة جند الروم، فأشار عليه الفقيه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري بأن يكون وقت الوقعة يوم الجمعة بعد الزوال، حين يكون الخطباء يدعون للمجاهدين، فلما كان ذلك الوقت وتواجه الفريقان، نزل السلطان عن فرسه وسجد لله عز وجل، ومرَّغ وجهه في التراب ودعا الله واستنصره، فأنزل نصره على المسلمين ومنحهم أكتافهم فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا وأسر ملكهم أرمانوس، أسره غلام رومي!!

    مميزات عهد ألب أرسلان
    كان عهد ألب أرسلان كله عهد نمو وارتقاء في دولة السلاجقة لا بالبسيف وحده، بل للعلم أيضًا، فإن الملك أسس في عهده أول المدارس النظامية ببغداد، وقد تم بناؤها سنة 458هـ، ودرس فيها شيخ الشافعية بالعراق بل وبغيرها وهو الشيخ أبو إسحاق الشيرازي.

    وفاة ألب أرسلان
    وفي سنة 465هـ توجه ألب أرسلان قاصدًا بلاد الترك فعبر نهر جيجون، ولكن عاجلته منيته، حُكِيَ أنه قال وهو يقرب من الموت:

    "ما كنت قط في وجه قصدته ولا عدو أردته إلا توكلت على الله وطلبت منه النصر، وأما في هذه النوبة، فإني أشرفت من تل عالٍ فرأيت عسكري فقلت أين من له قدرة بمصارعتي ومعارضتي، وإني أصل بهذا العسكر إلى بلاد الصين، فكان ما أراد الله..".

    وفاة الخليفة القائم
    ثم تولى بعده جلال الدولة أبو الفتح ملك شاه، وفي 13من شعبان سنة 467هـ توفي الخليفة القائم بأمر الله.

    يقول ابن كثير في وصف القائم: (…ولم يبلغ أحد قبله هذه المدة، كان فصيحًا ورعًا زاهدًا كثير الإحسان إلى الناس رحمه الله، وقد كان من خيار بني العباس دينًا واعتقادًا ودولة، وقد امتحن من بينهم بفتنة البساسيري التي اقتضت إخراجه من داره ومفارقته لأهله وأولاده ووطنه، فأقام بحديث عانه سنة كاملة ثم أعاد الله تعالى عليه نعمته وخلافته…).

    تابعونا
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: تاريخ الخلافة العباسية

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس نوفمبر 03, 2011 11:52 am

    تاريخ الخلافة العباسية  11494_image002

    خلافة المقتدي بأمر الله بن الأمير ذخيرة الدين
    تولى المقتدي بأمر الله الخلافة من شعبان 467هـ حتى محرم 487هـ، وعمره عشرون عامًا نشأ في حجر جده القائم بأمر الله يربيه بما يليق بأمثاله، وكان المقتدي شجاعًا شهمًا أيامه كلها مباركة، والرزق دار والخلافة معظمة جدًّا، وتصاغرت الملوك له وتضاءلوا بين يديه، خُطِب له بالحرمين وبيت المقدس والشام كلها، واسترجع المسلمون الرها وأنطاكية من أيدي العدو، وعمرت بغداد وغيرها من البلاد، وكان وزراؤه وقضاته من خيار الناس، وفي أول سنوات حكمه أخرج المفسِدات من بغداد وأمرهن أن ينادين على أنفسهن بالعار والفضيحة، وخرب الخمارات ودور الزواني والمغاني.

    السلطان ملك شاه
    توافر لهذا الزمن اكتمال السعادة فقد كان ملك شاه السلجوقي أيضًا سلطانًا عادلاً مقدامًا لا يتوجه إلى إقليم إلا فتحه وخضع له ملوك الشرق والغرب، وخطب له من حدود الصين إلى آخر الشام ومن أقاصي بلاد الإسلام في الشمال إلى آخر بلاد اليمن وحملت إليه الروم الجزية ولم يفته مطلب.

    الوزير قوام الدين نظام الملك
    كذلك كان الوزير قوام الدين نظام الملك أبي على الحسن بن علي بن إسحاق رضي أمير المؤمنين، كان معدودًا من العلماء الأجواد، وكان محبًّا للعلم، مجلسه دائمًا معمور بالقراء والفقهاء وأئمة المسلمين وأهل الخير والصلاح، أمر ببناء المدارس المعروفة بالنظامية في سائر الأمصار والبلاد وأسقط في زمنه كثير من المكوس والضرائب.

    وعلى الجملة فقد كان هذا الوزير غرة في جبين آل سلجوق، وهو قرين أبو حامد الغزالي حجة الإسلام في طلب العلم.

    بيد أن الوشاة وأصحاب المصالح لا يريدون لهذه الأمة أمثال هذا الود وهؤلاء الوزراء والسلاطين، فسعوا بينه وبين السلطان، حتى استوحش منه السلطان واستطال مدته وكانت تسعة وعشرين عامًا في الوزارة، وقتل. ومن عجائب القدر أن يموت السلطان بعده بخمسة وثلاثين يومًا، وبموتهما انتهت سعادة البيت السلجوقي، ووقعت بين رؤسائه الفتن وحكموا بينهم السيف.

    وكان ملكشاه له أربعة بنين وهم بركيارق ومحمد وسنجر ومحمود فتولى بركيارق، ولكن الخليفة مات فجأة قبل أن يوقع تقليده السلطنة.

    خلافة أبي العباس أحمد المستظهر بالله
    (من محرم 487هـ حتى ربيع آخر 512هـ)
    كان المستظهر لين الجانب، كريم الأخلاق، مسارعًا في أعمال البر، وكانت أيامه أيام سرور لرعيته. تولى ملك العراق في عهده بركيارق بن ملكشاه الذي لم يحسن اختيار معاونيه، مما جرّأ عمه تُتُش بن ألب أرسلان صاحب دمشق أن يطلب السلطنة لنفسه، وقامت بينهما معارك انتهت بقتل تتش سنة 487هـ، واستقام الأمر لبركيارق بعد أن كاد يضمحل.

    طلب السلطنة كذلك أخو بركيارق محمد بن ملك شاه فكان ذلك فاتحة شر مستطير على هذين الأخوين، بل على البيت السلجوقي كله، بل على الإسلام جميعًا، فقد ظلت نيران الحرب بينهما مستعرة من سنة 492هـ حتى سنة 497هـ، أي خمس سنين، فتحرك الإفرنج من مرابضهم للإغارة على البلاد الإسلامية لتخليص البيت المقدس كما زعموا، وملوك الإسلام وهم من بيت واحد وأبناء رجل واحد يتطاحنون ويتخاصمون، حتى تم الصلح بينهما كلٌّ على البلاد التي تحت يديه، فزال الخلف والشغب، ولكن لم تطل مدة بركيارق بعد هذا الصلح فإنه توفي في 2 من ربيع الآخر سنة 497هـ، وتم الأمر من بعده لأخيه محمد الذي لم يكن موفقًا في اختيار وزرائه وولاته فكثر التغيير والاضطراب في عهده، واستمر ملك محمد إلى سنة 511هـ، وكان عادلاً حسن السيرة شجاعًا.. واختير للملك بعده ابنه السلطان مغيث الدنيا والدين أبو القاسم محمود بن محمد بن ملك شاه، وبعدها بأربعة أشهر توفي الخليفة المستظهر بالله.

    خلافة أبي منصور الفضل المسترشد بالله بن المستظهر
    (من ربيع آخر 512هـ حتى قتل في ذي القعدة 529هـ)
    كان شهمًا شجاعًا كثير الإقدام بعيد الهمة وكان بليغًا حسن الخط، يقول عنه ابن الأثير: "ولقد حاول أن يعيد شيئًا من مجد أهل بيته، فحالت الأقدار بينه وبين ما أراد".

    كان سلطان العراق لأول عهده: السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه، ولكن عمه سنجر بن ملكشاه (وكان ملك خراسان وما إليها من بلاد ما وراء النهر) لم يرضه هذا الوضع، فتوجه إلى العراق والتقيا بجيوشهما؛ محمود وعمه سنجر عند الري، وانتصر سنجر وخطب على المنابر له، وكان يقيم بالأهواز ثم تصالحا على أن يخطب لمحمود من بعد عمه، وردَّ عليه جميع ما أخذ منه سوى الري.

    وفي سنة 514هـ قام ضد محمود أخوه مسعود بن محمد (وكان له الموصل وأذريبجان)، فتقاتلا فانهزم عسكر مسعود، ثم تصالحا.

    هذا النزاع بين عظماء السلاجقة جعل الخليفة المسترشد يحاول أن يعيد هيبة الخلافة، فقاد الجيوش بنفسه لمحاربة المخالفين، ولم يكن للخلفاء عهد بذلك منذ زمن طويل، ولا شك أن الملوك السلجوقيين لا يعجبهم ذلك، فإنهم يرون ذلك تقليصًا لدورهم وخطرًا على نفوذهم، ولذا عزم محمود بن محمد بن ملكشاه أن يدخل بغداد ولم يكن مقيمًا بها، ولكن الخليفة وقف له وحاول منعه بالقوة، فلما رأى إصرار محمود آثر الصلح، فدخل محمود بغداد سنة 521هـ وأقام بها بضعة أشهر، ثم فارقها بعد أن حمل إليه الخليفة الخُلَع والدواب الكثيرة.

    وفي سنة 524هـ استطاع محمود أن يستولي على قلعة الموت من يد صاحبها الحسن بن الصباح الاسماعيلي الباطني.

    وفي سنة 525هـ توفي السلطان محمود فاضطرب الأمر من بعده حتى ولي أخوه مسعود الملقب بـ(غياث الدنيا والدين).

    محاولة ثانية للخليفة
    مرة أخرى حاول الخليفة المسترشد أن يعيد هيبة الخليفة، وأن يتحرر من نفوذ السلاجقة باستعمال القوة معهم؛ مما سبب نفرة بينه وبين السلطان مسعود أدت إلى أن أمر الخليفة بقطع خطبة مسعود من منابر بغداد، وجهز جيشًا لحرب مسعود ومعه جنود كثيرة، لكنها لم تكن ذات عصبية تصدق عند اللقاء، لذا لما تواجه الطرفان تحول كثير من عسكر الخليفة الأتراك إلى السلطان مسعود، فانهزم جند الخليفة، وثبت الخليفة حتى أُسر وقتل في 16من ذي القعدة سنة 529هـ.

    خلافة الراشد أبو جعفر المنصور
    وتولى بعده ابنه الراشد أبو جعفر المنصور في 27 من ذي القعدة سنة 529هـ، الذي دخل في مواجهة مباشرة مع السلطان مسعود، فخلع بعد 11 شهرًا و11 يومًا.

    تابعونا
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: تاريخ الخلافة العباسية

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس نوفمبر 03, 2011 11:52 am

    خلافة المقتفي لأمر الله بن المستظهر
    اختار السلطانُ مسعود المقتفيَ من ذي الحجة 530هـ حتى ربيع أول 555هـ، ولما توفي السلطان مسعود سنة 547هـ بهمذان ماتت معه سعادة البيت السلجوقي، فلم تقم له بعده راية يعتد بها.

    تولى بعده محمد بن محمود الذي توفي سنة 554هـ بهمذان ثم كان الأمر من بعده لأرسلان بن طغرل، ثم توفي الخليفة في 2 ربيع أول سنة 555هـ، وهو أول من استبد بالعراق منفردًا عن السلاجقة، وأول خليفة تمكن من الخلافة، كان شجاعًا مقدامًا مباشرًا للحروب بنفسه، وكان عادلاً حسن السيرة من الرجال ذوي الرأي والعقل والكبير.

    خلافة المستنجد بالله بن المقتفي لأمر الله
    (من ربيع أول 555هـ حتى ربيع آخر 566هـ)
    كان المستنجد بالله يعد من خيرة الخلفاء العباسيين رفع المكوس والمظالم ولم يترك منها شيئًا، وكان شديدًا على أهل العبث والفساد والسعاية بالناس، سجن رجلاً كان يسعي بالناس فسادًا مدة، وقد شفع له بعض أصحابه، وبذل فيه عشرة آلاف دينار، فقال له الخليفة: أنا أعطيك عشرة آلاف دينار ودلني على آخر مثله لأحبسه وأكف شره عن الناس.

    وفي أيامه اتسعت رقعة ميدان القتال بين المسلمين والصليبيين وكانت الساحة بلاد الشام ومصر؛ ويقود القتال محمود نور الدين في كلا الساحتين، حيث ضعفت الدولة الفاطمية لدرجة كبيرة، وهذا ما جعل نور الدين محمود يتولي أمر الدفاع عن مصر.

    وكان ملك السلاجقة في عهده أرسلان بن محمد بن ملكشاه، ولم يكن له شيء من السلطان في بلاد العراق.

    خلافة المستضيء بأمر الله بن المستنجد بالله
    (من ربيع الآخر 566هـ حتى ذي القعدة 575هـ)
    كان المستضيء بأمر الله عادلاً حسن السيرة في الرعية، عاش حميدًا ومات سعيدًا. يقول ابن الأثير في تاريخه: وقد طالعت سير الملوك المتقدمين فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن من سيرته، ولا أكثر تحريًا للعدل منه، وله أخبار حسان ألفت فيها كتب خاصة.

    وانقرضت في عهده الدولة الفاطمية في محرم سنة 567هـ على يد الدولة الأيوبية، وخطب للمستضيء في بلاد اليمن، هذا بالإضافة إلى مصر وإفريقية والشام.

    خلافة الناصر لدين الله بن المستضيء
    وهو أطول خلفاء بني العباس مدة من ذي القعدة 575هـ حتى رمضان 622هـ، وفي عهده انتهى ملك السلجوقيين بالعراق سنة 590هـ بقتل طغرل بن أرسلان على يد خوارزمشاه علاء الدين تكش، الذي اتسع ملكه جدًّا، فصار ملكه ممتدًا من أقاصي بلاد ما وراء النهر شرقًا إلى بلاد الري التي أخذها بعد القضاء على السلاجقة، وكان هوى خوارزمشاه أن يذكر اسمه على منابر بغداد فيخطب له بدل السلاجقة، ولكن الخليفة أبى، فاشتدت العداوة بينهما حتى قطع خوارزمشاه خطبة الناصر من منابر بلاده.

    تابعونا
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: تاريخ الخلافة العباسية

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس نوفمبر 03, 2011 11:54 am

    تاريخ الخلافة العباسية  11496_image002

    ظهور التتار

    من هم التتر؟
    التتار شعب بدوي يعيش على أطراف صحراء غوبي بأطراف بلاد الصين وهم سكان براري، ومشهورون بالشر والغدر، حياتهم رعوية، ونظامهم قبلي، يطيعون رؤساءهم طاعة كبيرة، ويحبون الحرب والسلب ويعبدون الكواكب، ويسجدون للشمس أثناء شروقها، ويأكلون لحوم جميع الحيوانات حتى الكلاب، وتنتشر عندهم الإباحية، وتعرف ديانتهم القديمة بالشامانية، يقدمون الأضاحي لبعض الحيوانات الشريرة ويقدسون أرواح الأجداد.

    والتتار هم أصل القبائل المتفرعة عنهم جميعًا من مغول وترك وسلاجفة وغيرهم وقد يكون سيطرة قبيلة المغول على التتار في مرحلة من مراحل تاريخها هو الذي جعل اسم المغول يطلق على الجميع. وهناك من يقول: إن التتار والمغول أخوان، وقد سيطر المغول مع الفرعين عندما قام جنكيز خان يدك الدول. وعلى كلٍّ، فإن كلمة تتار اليوم تطلق على القبائل الموجودة في روسيا وسيبريا وشبه جزيرة القرم. على حين تطلق كلمة المغول على القبائل الموجودة في الصين وأفغانستان. وكان المغول هم المسيطرون أيام جنكيز خان واسمهم يعم القبائل جميعها، والتتار هم الذين سيطروا أيام تيمورلنك وشمل أسمهم القبائل كلها.

    جنكيز خان
    كان جنكيز خان ذا همة عالية وكان قومه متفرقين مغلوبين من منافسيهم من التتر، فعمل على لم شعثهم فنجح في ذلك فحارب جميع القبائل التركية وانتصر عليهم جميعًا، بعد حروب شديدة، وكون مملكة واسعة مسكونة بتلك الأمم التي لا يعلم عددها إلا الله، وعاصمة ملكه مدينة قراقروم.

    ثم فكر في وضع قانون لهذه الأمة العظيمة، يكون لهم دينًا يسيرون على مقتضاه، فوضع لهم (اليساق) أو (إلياسة)، وهي كتابهم الذي يرجعون إليه في معاملاتهم وأحكامهم، وكانت عندهم كالقرآن عند المسلمين.

    أسباب اتجاه التتار إلى البلاد الإسلامية
    يقول المؤرخون: إن الخلاف الذي قام بين الخليفة الناصر وخوارزمشاه علاء الدين تكش، جعل الخليفة يستدعي التتر للخروج إلى مملكة خوارزمشاه كي ينشغل بهم عن مراده أن تكون السلطنة له.

    لم يكن الخليفة يقصد ما تبع فعلته من أحداث، كان كل ما يريد هو ألا يعود من جديد نفوذ لغير دولة الخلافة، ولم يكن الخليفة كذلك يظن أن التتار بهذه القوة، وأن خوارزمشاه بهذا الضعف.

    والحقيقة أن جنكيز خان لم يكن يرى أن ذلك سبب كاف للهجوم على دولة خوارزمشاه، وكان هناك وفاق بينه وبين خوارزمشاه، حتى كانت سنة 615هـ لما سافر تجار من بلاد جنكيز خان حتى وصلوا إلى بلدة بثغر خوارزمشاه بساحل سيمون، وبها والٍ من قبل خوارزمشاه، فلما ورد عليه هؤلاء التجار وكانوا زهاء 400 نفس ومعهم أموال جسيمة، طمع ذلك الوالي في أخذ أموالهم، فأرسل قاصدًا إلى خوارزمشاه يخبره أن جواسيس جنكيز خان قد قاموا في زي تجار، فأمره بقتلهم وأخذ أموالهم، ففعل.

    فلما بلغ ذلك جنكيز خان أرسل إلى خوارزمشاه أن يبعث إليه الوالي الذي فعل هذه الفعلة ليقتص منه، ولكن خوارزمشاه قتل الرسول مما دعا جنكيز خان للخروج لمحاربته.

    وبدأ خوارزمشاه بالعدوان وهجم على بلاد عدوه فلقي هناك جموعًا قليلة، إذ كانوا يحاربون أحد الأمراء، فقتل من وجد من الأطفال وسبي النساء، وعاد التتار وعلموا وهم في الطريق بالخبر فجد والسير فأدركوا خوارزمشاه ولم يغادر ديارهم بعد، فوقعت بينهما معركة رهيبة، كادت تفنيهما لما صبروا، وغادر كل صاحبه يائسًا من الحرب لما ناله، ورجع خوارزمشاه إلى بخارى وبدأ يستعد للقتال، فحصن بخارى وسمرقند، وسار يجمع الجند من خوارزم وخراسان.

    زحفت جيوش جنكيز خان الجرارة وعبر نهر سيحون وسار حتى أتى بخارى، وكان بها عشرون ألفًا من الجنود الخوارزمية، وخوارزمشاه غائب للاستعداد، فهربوا وتركوا المدينة بلا حامية.

    وفي 4 من ذي الحجة سنة 616هـ دخل التتار بخارى وأمر جنكيزخان التجار أن يأتوا بما استلبوه من تجارة، وأخرج رؤساء البلد منها وانتهبت الأموال وتقاسم الجند من بقي من الناس، وأصبحت بخارى تلك المدينة العظيمة خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس، وكذلك فعلوا بسمرقند في محرم سنة 620هـ.

    في طلب خوارزمشاه
    ثم اختار جنكيز خان عشرين ألفًا من أشداء جنوده، وأمرهم أن يطلبوا خوارزمشاه أين كان، ولو تعلق بالسماء ففعلوا وكلما هموا أن يوقعوا به هرب منهم، وقد أصابه الهلع والرعب، حتى وصل إلى قلعة له في البحر، فلما نزل هو وأصحابه في السفن يئس التتر من اللحاق به فعادوا عنه، وكان ذلك آخر العهد به حيث توفي في جزيرة ببحر الخزر سنة 62هـ.

    فلما عادوا استولوا على كل قرية يمرون بها (مازندران، الري، همذان، قزوين) حتى وصلوا إلى البلاد الشمالية وهي دشت القفجاق وفيها أمم تركية كثيرة فأمعنوا فيهم قتلاً وسبيًا فتفرقوا في جميع الأقطار وكان هذا أول ورود المماليك القفجاقية على البلاد المصرية فاشترى منهم الصالح نجم الدين أيوب مماليكه البحرية ملوك مصر بعد الدولة الأيوبية، ومنهم المعز أيبك والمظفر قطز والمنصور قلاوون وغيرهم.

    ثم دخل التتر بلاد الروس ثم بلغار لكن البلغار انتصروا عليهم، وقتلوا كثيرًا من التتر أواخر سنة 620هـ.

    استطاعت هذه الفئة القليلة التي خرجت تطلب خوارزمشاه أن تثير الرعب والنهب والخراب، ثم أرسل جنكيز جيوشه تستولي على البلدان الواحدة تلو الأخرى فتم له مملكة عظيمة واسعة مترامية الأطراف تبتدئ شرقًا من بلاد الصين وتنتهي غربًا إلى بلاد العراق وبحر الخزر وبلاد الروس وجنوبًا ببلاد الهند وشمالاً بالبحر الشمالي، كل ذلك تم له في مدة قصيرة.

    ولما أحس بقرب منيته قسَّم الممالك الجنكيزية إلى أربعة أقسام بين أبنائه الأربعة كما سيأتي بيانه.

    وفاة جنكيز خان
    كان التتار يفسدون في الأرض والخليفة الناصر مشغول عن ذلك بلهوه وعبثه، ظالمًا للناس وسلب الأموال، وتوفي جنكيز خان سنة 624هـ، فكان قبيح السيرة، وبقي في أواخر أيامه ثلاث سنين معطلاً عن الحركة، وقد ذهبت إحدى عينيه، والأخرى يبصر بها إبصارًا ضعيفًا حتى وافته المنية.

    تابعونا
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: تاريخ الخلافة العباسية

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس نوفمبر 03, 2011 11:56 am

    تاريخ الخلافة العباسية  11497_image002

    يقوط بغداد ونهاية الخلافة العباسية

    خلافة الظاهر بأمر الله بن الناصر
    (من شوال 622هـ حتى رجب 623هـ)
    كان الظاهر بأمر الله عادلاً محسنًا قالوا إنه أعاد سنة العُمَرين، وكانت تأتيه الأخبار عن الناس والأحوال على عادة من قبله فيردها ويقول: أي غرض لنا في معرفة أحوال الناس في بيوتهم، فلا يكتب أحد لنا إلا ما يتعلق بمصالح دولتنا، فقيل له: إن العامة يفسدها ذلك ويعظم شرها، قال إنا ندعو الله أن يصلحهم، ولم يزل كل يوم يزداد من الخير والإحسان إلى الرعية، فجدد من العدل ما كان دارسًا، وأذكر من الإحسان ما كان منسيًّا حتى توفاه الله.

    خلافة المستنصر بالله بن الظاهر
    بويع المستنصر بالله بالخلافة من رجب 623 حتى جمادى الآخرة 640هـ بعد وفاة أبيه الظاهر بأمر الله، فنشر العدل بين الرعية، وبذل الإنصاف في القضايا، وقرب أهل العلم والدين، وبنى المساجد والمدارس، وقد وضع ببغداد المدرسة المستنصرية للمذاهب الأربعة، وجعل فيها دار حديث وحمامًا ودار طب، وجمع الجيوش لنصرة الإسلام، وأحبه الناس، وكان له ذا شجاعة وإقدام، وقد هزم جنود التتار في الوقت الذي خافهم البشر، وكان أخ شجاع أيضًا صاحب همة عالية يقال له الخفاجي، فكان يقول: لئن وُلّيت لأعبرن بالعسكر نهر جيحون، وآخذ البلاد من أيدي التتار وأستأصلهم. غير أنه لم يتول، وإنما تولى المستعصم بعد أبيه المستنصر.

    وكان المستنصر جميل الصورة حسن السريرة جيد السيرة، كثير الصدقات والبر والصلات محسنًا إلى الرعية بكل ما يقدر عليه. وكان يبني الربُط والقناطر والخانات والقناطر في الطرقات من سائر الجهات، وقد عمل بكل محلة من محال بغداد دار ضيافة للفقراء، لا سيما في شهر رمضان. وقد أوقف كتبًا نفيسة على المدرسة المستنصرية، توفي المستنصر في العاشر من جمادي الآخرة من عام 640 فكان عمره ثلاثًا وخمسين سنة.

    آخر خلفاء العباسيين ببغداد
    خلافة أبي أحمد عبد الله المستعصم بالله بن المستنصر
    بويع المستعصم بالله بالخلافة في جمادى الآخرة 640هـ، حتى قتل بين يدي هولاكو خان في محرم 656هـ.

    ففي آبائه سبعة عشر خليفة لم يغنوا عنه من الله شيئًا. وبقتله انتهت الخلافة العباسية ببغداد.

    كان خيرًا متدينًا عفيف اللسان والفَرْج وكان يتقن تلاوة القرآن حفظًا وتجويدًا، خرج له الشرف الدمياطي 40 حديثًا، وأجيز له بالحديث، وأجاز جماعة بالحديث عنه، إلا أنه كان مستضعف الرأي ضعيف البطش.

    وزيره مؤيد الدين محمد بن العلقمي صاحب التوجه الشيعي الناقم على الدولة العباسية وقيل إنه يهودي الأصل، وهو الذي كان يوافي التتار بأخبار المسلمين ويمنع أخبارهم من الوصول إلى المستعصم.

    تاريخ الخلافة العباسية  15081_image002

    دخول التتار بغداد
    يقول ابن كثير في وصف كيفية دخول التتار بغداد: ثم دخلت سنة 656هـ فيها أخذت التتار بغداد وقتلوا أكثر أهلها، حتى الخليفة، وانقضت دولة بني العباس منها، استهلت هذه السنة وجنود التتار قد نازلت بغداد صحبة الأميرين اللذين على مقدمة عساكر سلطان التتار، هولاكوخان، وجاءت إليهم أمداد صاحب الموصل[1] يساعدونهم على البغاددة وميرته وهداياه وتحفه، وكل ذلك خوفًا على نفسه من التتار ومصانعة لهم قبحهم الله تعالى، وقد سترت بغداد ونصبت فيها المجانيق وغيرها من آلات الممانعة التي لا ترد من قدر الله سبحانه وتعالى شيئًا، كما ورد في الأثر "لا يغني حذر من قدر"، وكما قال تعالى: {إنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ} [نوح: 4].

    وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب حتى أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حظاياه، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك فزعًا شديدًا، وأحضر السهم الذي أصابها بين يديه فإذا عليه مكتوب: إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، أذهب من ذوي العقول عقولهم. فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز، وكثرت الستائر على دار الخلافة.

    وكان قدوم هولاكو خان بجنوده كلها -وكانوا نحو مائتي ألف مقاتل- إلى بغداد في ثاني عشر المحرم من هذه السنة، وهو شديد الحنق على الخليفة؛ بسبب ما كان تقدم من الأمر الذي قدره الله وقضاه وأنفذه وأمضاه، وهو أن هولاكو لما كان أول بروزه من همدان متوجهًا إلى العراق أشار الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي على الخليفة بأن يبعث إليه بهدايا سَنِيَّة؛ ليكون ذلك مداراة له عما يريده من قصد بلادهم، فخذل الخليفة عن ذلك دويداره الصغير أيبك وغيره، وقالوا: إن الوزير إنما يريد بهذا مصانعة ملك التتار بما يبعثه إليه من الأموال، وأشار بأن يبعث بشيء يسير، فأرسل شيئًا من الهدايا فاحتقرها هولاكو خان، وأرسل إلى الخليفة يطلب منه دويداره المذكور، وسليمان شاه، فلم يبعثهما إليه، ووصل بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة، ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فأحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية الشرقية، وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة، ولا يبلغون عشرة آلاف فارس وهم بقية الجيش، كلهم قد صرفوا عن إقطاعاتهم، حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجد، وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم ويحزنون على الإسلام وأهله.

    وذلك كله عن آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي، وذلك أنه لما كان في السنة الماضية كان بين أهل السنة والرافضة حرب عظيمة نهبت فيها الكرخ ومحلة الرافضة، حتى نهبت دور قرابات الوزير، فاشتد حنقه على ذلك، فكان هذا مما أهاجه على أن دبر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغداد وإلى هذه الأوقات، ولهذا كان أول من برز إلى التتار هو، فخرج بأهله وأصحابه وخدمه وحشمه، فاجتمع بالسلطان هولاكو خان، لعنه الله، ثم عاد فأشار على الخليفة بالخروج إليه والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم ونصفه للخليفة، فاحتاج الخليفة إلى أن خرج في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية ورءوس الأمراء والدولة والأعيان، فلما اقتربوا من منزل السلطان هولاكو خان حجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفسًا، فخلص الخليفة بهؤلاء المذكورين، وأنزل الباقون عن مراكبهم ونهبت وقتلوا عن آخرهم، وأحضر الخليفة بين يدي هولاكو فسأله عن أشياء كثيرة، فيقال إنه اضطرب كلام الخليفة من هول ما رأى من الإهانة والجبروت، ثم عاد إلى بغداد وفي صحبته خواجة نصير الدين الطوسي، والوزير ابن العلقمي وغيرهما، والخليفة تحت الحوطة والمصادرة، فأحضر من دار الخلافة شيئًا كثيرًا من الذهب والحلي والمصاغ والجواهر والأشياء النفيسة.

    وقد أشار أولئك الملأ من الرافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو ألا يصالح الخليفة، وقال الوزير: متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عامًا أو عامين، ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك!! وحسَّنوا له قتل الخليفة، فلما عاد الخليفة إلى السلطان هولاكو أمر بقتله، ويقال إن الذي أشار بقتله الوزير ابن العلقمي، والمولى نصير الدين الطوسي، وكان نصير عند هولاكو قد استصحبه في خدمته لما فتح قلاع الألموت، وانتزعها من أيدي الإسماعيلية، وانتخب هولاكو نصير ليكون في خدمته كالوزير المشير، فلما قدم هولاكو وتهيب من قتل الخليفة، هوَّن عليه الوزير ذلك فقتلوه رفسًا، وهو في جوالق لئلاَّ يقع على الأرض شيء من دمه، خافوا أن يؤخذ بثأره فيما قيل لهم، وقيل بل خنق، ويقال: بل أغرق، فالله أعلم. فباءوا بإثمه وإثم من كان معه من سادات العلماء والقضاة والأكابر والرؤساء والأمراء وأولي الحل والعقد ببلاده، ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش، وقني الوسخ، وكمنوا كذلك أيامًا لا يظهرون، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

    وكذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم، وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي وطائفة من التجار أخذوا لهم أمانًا، بذلوا عليه أموالاً جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم.

    وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة، وكان الوزير ابن العلقمي قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش وإسقاط اسمهم من الديوان، فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريبًا من مائة ألف مقاتل، منهم من الأمراء من هو كالملوك الأكابر الأكاسر، فلم يزل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف، ثم كاتب التتار وأطمعهم في أخذ البلاد، وسهل عليهم ذلك، وحكي لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال، وذلك كله طمعًا منه أن يزيل السنة بالكلية، وأن يظهر البدعة الرافضة وأن يقيم خليفة من الفاطميين، وأن يبيد العلماء والمفتيين، والله غالب على أمره، وقد رد كيده في نحره، وأذله بعد العزة القعساء، وجعله حوشكاشًا للتتار بعدما كان وزيرًا للخلفاء، واكتسب إثم من قتل ببغداد من الرجال والنساء والأطفال فالحكم لله العلي الكبير رب الأرض والسماء.

    وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة، فقيل ثمانمائة ألف، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغت القتلى ألفي ألف نفس، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

    وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم، وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يومًا، وكان قتل الخليفة المستعصم بالله أمير المؤمنين يوم الأربعاء رابع عشر صفر وعفى قبره، وكان عمره يومئذ 46 سنة وأربعة أشهر، ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيام، وقتل معه ولده الأكبر أبو العباس أحمد، وله 25 سنة، ثم قتل ولده الأوسط أبو الفضل عبد الرحمن وله ثلاث وعشرون سنة، وأسر ولده الأصغر مبارك وأسرت أخواته الثلاث فاطمة وخديجة ومريم، وأسر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألف بكر فيما قيل والله أعلم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

    وقتل أستاذ دار الخلافة الشيخ محي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي، وكان عدو الوزير، وقتل أولاده الثلاثة: عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الكريم، وأكابر الدولة واحدًا بعد واحد، منهم الدويدار الصغير مجاهد الدين أيبك، وشهاب الدين سليمان شاه، وجماعة من أمراء السنة وأكابر البلد، وكان الرجل يستدعي به من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه فيذهب به إلى مقبرة الخلال، تجاه المنظرة فيذبح كما يذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه، وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين على ابن النيار، وقتل الخطباء والأئمة، وحملة القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد، وأراد الوزير ابن العلقمي -قبحه الله ولعنه- أن يعطل المساجد والمدارس والربط ببغداد ويستمر بالمشاهد ومحال الرفض، وأن يبني للرافضة مدرسة هائلة ينشرون عملهم وعلمهم بها وعليها، فلم يقدره الله تعالى من ذلك، بل أزال نعمته عنه وقصف عمره بعد شهور يسيرة من هذه الحادثة، وأتبعه بولده، فاجتمعا -والله أعلم- بالدرك الأسفل من النار.

    ولما انقضى الأمراء المقدر وانقضت الأربعون يومًا بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

    ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقني والمقابر، وكأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضًا فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى، وكان رحيل السلطان المسلط هولاكو خان عن بغداد في جمادى الأولى من هذه السنة إلى مقر ملكه، أما الوزير ابن العلقمي فلم يمهله الله ولا أهمله، بل أخذه أخذ عزيز مقتدر، في مستهل جمادى الآخرة عن ثلاث وستين سنة، وكان عنده فضيلة في الإنشاء ولديه فضيلة في الأدب، ولكنه كان شيعيًّا جلدًا رافضيًا خبيثًا، فمات جهدًا وغمًّا وحزنًا وندمًا، وإلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، فولى الوزارة ولده عز الدين بن الفضل محمد، فألحقه الله بأبيه في بقية هذا العام، ولله الحمد والمنة.

    وذكر أبو شامة وشيخنا أبو عبد الله الذهبي وقطب الدين اليونيني أنه أصاب الناس في هذه السنة بالشام وباء شديد، وذكروا أن سبب ذلك من فساد الهواء والجو، فسد من كثرة القتلى ببلاد العراق وانتشر حتى تعدى إلى بلاد الشام، فالله أعلم.
    [1] صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ، كان بدر الدين هذا أرمينيًّا اشتراه رجل خياط إلى الملك نور الدين أرسلان شاه بن عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي أقسنقر، وكان مليح الصورة ذو عقل ودهاء، فحظي عنده وتقدم في دولته إلى أن صارت الكلمة العليا له ثم إنه عمل قتل أولاد أستاذه غيلة واحدًا تلو الآخر إلى أن لم يبق معه أحد منهم، فاستقل بالملك، فملك الموصل نحوًا من خمسين عامًا، وكان شيعيًّا يبعث في كله سنة إلى مشهد عليِّ قنديلاً ذهبًا زنته ألف دينار، ولما خرج هولاكو من بغداد سار لؤلؤ إلى خدمته طاعة له.
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    محمد عبد الموجود رد: تاريخ الخلافة العباسية

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس نوفمبر 03, 2011 11:58 am

    مختصر قصة الخلافة العباسية


    الخلافة العباسية وأساسها السياسي
    قامت الدولة العباسية على أنقاض الخلافة الأموية، وقد كانت جهود الدعاة العباسيين أحد العوامل الرئيسية في إسقاطها، وإقامة صرح الدولة العباسية على أيدي الموالي في خراسان خاصة.
    يعَدُّ قيام الدولة العباسية بالطريقة التي قامت بها انقلابًا في مسيرة التاريخ الإسلامي؛ إذ إن الخلافة الراشدة قد قامت على أساس الشورى، ثم قامت الدولة الأموية - في نشأتها - على نفس الأساس بعد تنازل الحسن بن علي لمعاوية رضي الله عنهم جميعًا، ولكن الدولة العباسية قامت بالخروج المسلح على الحاكم القائم دون شورى من المسلمين، كما كانت دماء المسلمين الأمويين هي وقود نار الثورة العباسية، وذلك أمر غير مسبوق في الإسلام.
    وقد حاول المؤرِّخون كشف مكنونات هذا التحول وتفسيره منطلقين من مفاهيم مختلفة، فقد رأى فيه بعضهم:
    1- ثورة الفرس على الحكم العربي.
    2- في حين علَّلَه بعضُهم بأنه مجرد ثورة على حكم بني أمية لإزاحتهم عن الحكم وإحلال العباسيين مكانهم.
    3- وقال فريق آخر بحتمية هذا التحول نتيجة التطورات التي شهدها العالم الإسلامي خلال القرن الأول الهجري.
    4- ويرى فريق آخر بأنه اجتهاد فقهي خاطئ، فالشيعة يقولون بأولوية آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم بالخلافة، وأحق آل البيت هو عليٌّ كرم الله وجهه، وأن عليًّا رضي الله عنه هو الذي عينه صلوات الله وسلامه عليه بنصوص ينقلونها، ويُؤَوِّلونها على مقتضى مذهبهم الفاسد، لا يعرفها جهابذةُ أهل السنة، ولا نَقَلَةُ الشريعة. ومن هنا نشأت فكرة الوصية، ولُقِّبَ عليٌّ رضي الله عنه بالوصي، يريدون أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى لعلي بالخلافة من بعده، وهكذا كلُّ إمام وصيُّ من قبله. وعندما قامت الدولة العباسية لم يَرُقْ للعلويين أن يظفر العباسيون بالخلافة دونهم، واعتبروا أن العباسيين خدعوهم؛ إذ لولا اتحادهم معهم ضد الأمويين لما مهد الطريق أمامهم إلى الخلافة.
    5- ويرى البعض بأنها حركة شيعية في ثوب سني.
    والصواب أنها هذه الأسباب جميعًا.

    قامت الفتوحات الإسلامية الأولى على سواعد العرب, وقد استقر أعداد من الفاتحين في المناطق التي دخلوها، بل إن قبائل وبطونًا كاملة قد استقرت في جهة معينة نتيجة وجود كثيرٍ من الفاتحين من أبنائها، وأما وجودهم في مراكز القيادة فهذا أمر طبيعي بصفتهم الفاتحين، وحيث الخلفاء من العرب، ويعتمدون على من يعرفون، وكما حدث هذا عند الأمويين حدث عند العباسيين.
    وقد كانت العصبية بين القيسية واليمنية العربيتين أشد بكثير من العصبية بين العرب والفرس، وإن الخلاف بين الشاميين والحجازيين في الأندلس كان أشد مما هو بين العرب والبربر.
    انطلاق الدعوة العباسية من الكوفة وقيامها
    اتخذت الدعوة العباسية من الكوفة مركزًا لها بصفة أن أنصار آل البيت فيها كثيرون, ومنها يمكن التوجه نحو خراسان والاتصال فيها بسهولة ويسر، ثم إن الدعاة والإمام قد رأوا ضرورة التركيز على الدعوة في خراسان، لا لأنها مركز ثقل بالنسبة إلى الفرس أو إلى الترك، وإنما لقيام الصراع على أشده بين القيسية واليمنية من العرب؛ إذ يمكن الإفادة من هذا الصراع وكسب العناصر المحايدة التي ضاقت ذرعًا به, أو كسب اليمنية التي تشكل أكثرية المجموع العربية هناك، والتي تعادي والي خراسان نصر بن سيار الذي يعتمد على القيسية ويتعصب لها. وقد وجد الدعاة العباسيون - فعلاً - آذانًا مصغية في خراسان، وتمكنوا من النشاط حتى تمَّ لهم الأمر، ولم تكن خراسان لتختلف عن غيرها من الأمصار الإسلامية.
    وهناك نقطة يمكن أن نلاحظها وهي أن سكان خُراسان ليسوا من الفُرس، وإنما هم من الأتراك، ومعروف أن حاضرتها كانت مدينة مرو، وهي ضمن بلاد التركمان التي تخضع اليوم للروس، وأن خراسان التي كانت تشمل ما يقع الآن في شمال بلاد الأفغان، وتشمل شرقي إيران، وبلاد التركمان، إن هذه المناطق تضم اليوم سكانًا من الترك بأكثريتهم، وكذا كانت يومذاك، وإن ضمت - إضافة إلى ذلك - مجموعاتٍ من الفُرْسِ من السكان الأصليين ومجموعات من العرب والفرس جاءوا فاتحين واستقروا فيها، إلا أن ارتباط قيام الدعوة العباسية بخراسان, وارتباط تلك الدولة في أذهاننا بالفُرس قد جعلنا نتصور دائمًا سكان خراسان من الفرس، وهو الأمر المفهوم لدى أكثرية الناس، وقامت عصبية على الوهم ضد الفرس، هذا بالإضافة إلى أن الرجل الذي قامت الدولة على كاهله، أبا مسلم الخراساني، قد نُسِبَ إلى خراسان، والواقع أنه ليس من خراسان وإنما من فارس، كما أن اسمه هذا إنما هو اسم حركي، أمّا اسمه الحقيقي فإبراهيم بن عثمان.
    * قيام الدولة العباسية
    قامت الدولة العباسية نتيجة التخطيط والسرية على أيدي سكان خراسان، سواء كانوا عربًا أم فرسًا أم تُركًا، وشكلٌ طبيعي أن يحصل هؤلاء على مراكز كبيرة ومناصب عالية في الدولة، وكان من جملة هؤلاء أعداد من الفرس ـ مع أنهم أقل من غيرهم ـ ما داموا يشكلون جزءًا من السكان، وبرز منهم فئة، وظن بعضهم أن الدولة أصبحت لهم ما دام منهم كبير القادة وهو أبو مسلم الخراساني، ثم لم يلبث أن حدث نزاع بينهم وبين الخلفاء العباسيين الذين لا يريدون أن يستأثر غيرهم بالسُّلطة سواءٌ أكان عربيًّا أم فارسيًّا أم تركيًّا, وكما تخلصوا من أبي مسلم الخراساني فإنهم قد تخلصوا أيضًا من عبد الله بن علي بن العباس الهاشمي عم الخليفة، وقائد الدولة، بل إن الخليفة المنصور قد ضرب أحدهما بالآخر، فلماذا ركَّز أصحاب العصبيات على أبي مسلم وأغفلوا التخلص من عبد الله بن علي؟
    فكلاهما صاحب أطماعٍ بغضِّالنظر عن فارسية الأول وعربية الثاني.
    وبالرغم من خطورة الفتنة الكبرى التي تمت بين الصحابة إلا أنها كانت أرحم بكثير من الفتنة التي صاحبت قيام الدولة العباسية، وذلك بسبب:
    - انتهاء جيل الصحابة.
    - أنَّ الصحابة كانوا مجتهدين؛ فمنهم من أصاب ومنهم من أخطأ ولكلٍّ أجره. ولكن هنا كانت الدنيا محرِّكة لأطراف كثيرة في الصراع إلى حد كبير.

    تميز تاريخ الدولة العباسية بشيوع الاضطرابات والثورات طوال تاريخ الدولة تقريبًا، وإن كانت هذه الاضطرابات تحدث في عصر خليفة قوي أحيانًا، وفي عصور خلفاء ضعافٍ أحيانًا أخرى كثيرة.
    بدأت الدولة العباسية بعصر التأسيس الذي شمل عصر أول خلفائهم أبي العباس السفاح، ثم أخيه أبي جعفر المنصور، وقد شُغِلوا في هذه الفترة بتوطيد أركان الدولة، والقضاء على بعض العناصر التي أرادت اختطاف الثورة لصالحها، والتمكين لنفسها على حساب العباسيين كأبي سَلَمة الخلاَّل وأبي مسلم الخراساني، كما شملت القضاء على رغبة الطالبيين (آل علي بن أبي طالب رضي الله عنه) الذين خدعهم العباسيون في بداية الثورة بأن الدولة ستكون دولتهم.
    الخلافة العباسية في عهد هارون الرشيد
    تُعْتَبَر خلافة هارون الرشيد بداية عصر القوة في الدولة العباسية، ويشمل ذلك العصر خلافة ابنه المأمون، ثم المعتصم بن الرشيد، فالواثق بن المعتصم؛ حيث تميز هذا العهد بقوة السلطة المركزية، وبالتنظيمات الإدارية، والإصلاحات.
    كما تميز أيضًا بالفتوحات العظيمة، وارتفاع شأن الخلافة الإسلامية، وصيرورتها القوة العظمى الوحيدة في العالم، وخضوع أقاليم الدولة لسيادتها - ما عدا الأندلس التي تمكن عبد الرحمن الداخل من الوصول إليها، وإقامة خلافة أموية هناك، ولم يستطع العباسيون المساس بجنابها -، وإِن حفل هذا العصر - عصر القوة - بعديد من الثورات التي استطاعت الخلافة القضاء على أكثرها، واستمر بعضها طوال عهد الدولة العباسية، كما جرى فيه صراع داخلي كبير على السلطة بين الأخوين: الأمين والمأمون وليي عهد الرشيد، وجرت بينهما الحرب التي أسفرت عن مقتل الأمين الذي اعتمد على العرب، وانتصار المأمون الذي اعتمد على الفُرس، وتولِّيه الخلافة.
    العصر العباسي الأول
    مميزات العصر العباسي الأول:
    *سيطرة شبه كاملة للفرس على الجهازين العسكري والإداري:
    عندما قامت الخلافة العباسية كان للفُرس اليد العليا في قيامها وخاصة الخراسانيين، وقد سنحت الفرصة لهؤلاء للاستئثار بالسلطة وتولي الحكم، وساعد على ذلك شدة ميل العباسيين إلى الفرس، وإيثارهم بالمناصب المدنية والعسكرية، وقد أثار ذلك كراهية العرب بتقريب الفرس إليهم؛ لذا لا نعجب من انصراف العرب عن العباسيين، فقد دَبَّ في نفوسهم دبيبُ الكراهية لهم وللفرس الذي استأثروا بالسلطة دونهم؛ لممالأة العباسيين لهم واعتمادهم على ولائهم، فقامت الفتن والثورات في البلاد الإسلامية.
    وكان من أثر ذلك الميل الذي أبداه العباسيون نحو الفرس وتلك الرعاية التي حاطوهم بها، أن أصبح نظام الحكم عند العباسيين مماثلاً لما كان عليه في بلاد الفرس أيام آل ساسان، قال "بالمر" في كتابه "هارون الرشيد": "ولما كان العباسيون يدينون بقيام دولتهم للنفوذ الفارسي، كان طبيعيًّا أن تسيطر الآراء الفارسية؛ ولهذا نجد وزيرًا من أصل فارسي على رأس الحكومة، كما نجد أيضًا أن الخلافة تدار بنفس النظام الذي كانت تدار به إمبراطورية آل ساسان".
    كما اتخذ الخلفاء الموالي من الخراسانيين حرسًا لهم لاعتمادهم على ولائهم وإخلاصهم، واستبد هؤلاء الخلفاء بالسلطة، وتسلطوا على أرواح الرعية كما كان يفعل ملوك آل ساسان من قبل، وظهرت الأزياء الفارسية في البلاط العباسي.
    وطبيعي أن يميل العباسيون إلى الفرس، الذين ساعدوهم على تأسيس دولتهم، وقاموا في وجه أعدائهم الأمويين، وإن مثل هذا الميل إلى الفرس، وتلك الكراهة التي أضمرها العباسيون للأمويين لتتمثل في تلك الخطب التي ألقاها داود بن علي وأبو جعفر المنصور وغيرهما، يشيدون فيها بمآثر الفرس، وما بذلوه من جهود في سبيل قيام الدولة العباسية.

    *الوزارة:
    عندما انتقلت الخلافة إلى العباسيين، اتخذوا نظم الحكم عن الفرس ومنها الوزارة، وكان أول وزير للعباسيين أبا سلمة الخلال، لكن معالمها لم تتحدد في عهده؛ ولأن الدعوة العباسية قد قامت على أيدي الفرس وبمساعدتهم فمن الطبيعي أن يكون وزراء العصر العباسي الأول من الأعاجم مثل: البرامكة وبني سهل، وعلى أيدي هؤلاء اكتسبت الوزرة شكلها النهائي في أواخر العصر العباسي الأول، وكان الوزير في أيام العباسيين:
    ـ ساعد الخليفة الأيمن.
    ـ نائبًا عنه في حكم البلاد.
    ـ يعين الولاة.
    ـ يشرف على الضرائب.
    ـ يجمع في شخصه السلطتين: المدنية والحربية.
    ـ صاحب المشورة التي يسترشد بها الخليفة.
    وكان الوزراء في العصر العباسي الأول يتجنبون تسمية أنفسهم باسم "وزير"، على الرغم من قيامهم بأعمال الوزارة ومهامهم، فإليهم يرجع الفضل في ضبط أمور الدولة، ونشر لواء الأمن والعدل بين الرعية، ومَرَدُّ ذلك إلى تخوف الوزراء من الخلفاء بعد أن لقي البعض منهم حتفه على أيديهم, ولكن هذا لم يمنع الوزراء من الإقبال على اكتساب الألقاب المنسوبة إلى الدولة، مثل:
    عماد الدولة، وعز الدولة، وركن الدولة.
    وكانت الوزارة أيام العباسيين ضعيفة أمام قوة الخلافة، قوية كلما ضعفت الخلافة؛ لذا تطرق الفساد إلى منصب الوزارة في عهد الخليفة المقتدر 295- 320هـ/ 908- 932م لاتباعه سياسة خرقاء في تعيين وزرائه وعزلهم، حتى تقلَّد الوزارة في عهده اثنا عشر وزيرًا، عُزِل بعضُهم أكثر من مرة، وكان لضعف الوزراء في ذلك العصر وازدياد نفوذ القواد أن ضاعت هيبة الوزارة فلم يبق للوزراء شيء من النفوذ؛ فاقتصرت وظيفتهم على الحضور إلى دار الخلافة في أيام المواكب مُرتَدِين السواد متقلدين السيوف والمناطق وغيرها من شعارات الوزارة، وأصبح تعيين الوزراء وعزلهم بيد أمير الأمراء الذي هيمن على شئون الخلافة والوزارة والدولة جميعًا, وبخاصة في عصر البويهيين والسلاجقة.
    * بروز الكُتَّاب:
    اتسعت الدولة العربية الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين وضمت شعوبًا وطوائف عديدة من الناس، فكان لا بُدَّ لهذه الدولة من أن ينشأ فيها جهاز وظيفي يتولى أعمال الكتابة التي يوجهها الخليفة إلى الوزير أو القضاة والولاة في الأقاليم، وتسجيل الرسائل الواردة من الولاة والقضاة إلى الخلافة، وكذلك في سائر الدواوين كانت هناك الحاجة إلى من يتولى الأعمال الكتابية فيها.
    وفي العصر الأموي والعصر العباسي استمرت تلك الحاجة إلى مجموعة من الموظفين أو الكتاب للقيام بالأعمال الكتابية، خاصة في العصر العباسي الأول بعدما تعددت الدواوين لمساعدة الوزير في أعماله الواسعة، وللإشراف على هذه الدواوين المختلفة وإدارة شئونها، فاقتضى طبقًا لذلك أن يكون لكل وزير كاتب أو كتَّاب يساعدونه، وأن يكون لكل والٍ من ولاة الأقاليم ورجال الدولة كاتب أو أكثر.
    ويرأس جماعة الكتّاب الوزير، وأحيانًا كثيرة كان بعض الكتاب يتدرجون في الرقي إلى أن يتولوا الوزارة معتمدين على كفايتهم الكتابية وبلاغة أقلامهم.
    وتولى الأعمال الكتابية في الخلافة العباسية الفرس؛ لأن الفرس كانت لهم القدرة الفائقة في الكتابة، بينما كان العرب يفخرون بالسيف لا بالقلم، لذا نجد كثيرًا من الكتاب في العصر العباسي يحذون حذوَ أجدادهم الفرس، حتى في مظهرهم الخارجي، وكان لامتلاك بعض الكتاب ثقافةً أوسعَ من ثقافة غيرهم، ودائرة معارفهم الواسعة، ودرايتهم بأحوال الناس الاجتماعية, وتقاليدهم الكبيرة الفضلُ في سيطرة الفُرس على ميدان الكتابة، هذا فضلاً عن إن إجادتهم عملهم كان يتطلب دراية في اللغة والأدب وعلوم الدين والفلسفة والتاريخ والجغرافيا، إلى جوانب كثيرة قد تعرض في مسائل للخليفة أو الوزير أو الوالي.
    ولما كانت الأعمال الكتابية مهمة وخطيرة يجب على من يتولاها أن يتحلى بأخلاق حميدة وثقافة واسعة ودقيقة، فقد تعددت الكتب التي أُلِّفَتْ لجماعة الكُتَّاب بصفة خاصة، فأَلَّف ابنُ قتيبة كتابًا اسمه "أدب الكاتب"، أوضح فيه الكثير من ألوان المعرفة التي اعتقد "ابن قتيبة" أن الكاتب بحاجة إليها، كما أَلَّف أبو بكر الصولي كتاب "أدب الكاتب" توسَّع فيه في شرح أمور كثيرة لم يعرض لها ابن قتيبة، ونصح "عبد الحميد الكاتب" الكُتّاب فقال: "فنافسوا معشرَ الكتَّاب في صنوف العلم والأدب، وتفقهوا في الدين، وابدءوا بعلم كتاب الله عز وجل والفرائض, ثم العربية فإنها ثقافة ألسنتكم, وأجيدوا الخط فإنه حلية كتبكم، وارووا الأشعار، واعرفوا غريبها ومعانيها، وأيام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها؛ فإن ذلك معين لكم على ما تسعون إليه، ولا يضعفن نظركم في الحساب؛ فإن قوام كتاب الخراج منكم".
    تنوع الكتَّاب تبعًا لتنوع الدواوين في ذلك العصر، فكان منهم كتاب الرسائل وكتاب الخراج وكتاب الجند وكتاب الشرطة وكتاب القاضي, وقد كان صاحب ديوان الرسائل الكاتب الأهم والأعلى شأنًا من غيره، إذ كان عليه إذاعة المراسيم وإبراءات وتحرير الرسائل السياسية، وختمها بخاتم الخلافة بعد اعتمادها من الخليفة، ومراجعة الرسائل الرسمية ووضعها في صيغتها النهائية، وكانت مهمة كاتب الرسائل تشبه وزارة الخارجية اليوم؛ فكان يتولى مكاتبة الملوك والأمراء عن الخليفة بأسلوب عذب بليغ؛ لذا روعي في الكاتب رصانة الأسلوب، وسعة العلم فضلاً عن عراقة الأصل.
    وقد زَخَرَ العصر العباسي الأول بطائفة من الكتاب لم يسمح الدهر بمثلهم، فقد اشتُهِرَ يحيى بن خالد البرمكي، والفضل بن الربيع في عهد هارون الرشيد، واشتهر الفضل والحسن ابنا سهل، وأحمد بن يوسف في عهد المأمون, واشتهر محمد بن عبد الملك الزيات، والحسن بن وهب، وأحمد بن المدبر في عهد المعتصم والواثق.
    الحركة العلمية
    شهد عصر القوة العباسي نهضة علمية بالغة القوة والتنوع، ويتحدث الأستاذ "نيكلسون" عن النهضة الثقافية في العصر العباسي قائلاً: "وكان لانبساط رقعة الدولة العباسية ووفرة ثروتها، ورواج تجارتها أثر كبير في إنشاء نهضة ثقافية لم يشهدها الشرق من قبل، حتى لقد بدا أن الناس جميعًا من الخليفة إلى أقل الأفراد شأنًا غدوا فجأة طلابًا للعلم، أو على الأقل أنصارًا للأدب. وفي عهد الدولة العباسية كان الناس يجوبون ثلاث قارات سعيًا إلى موارد العلم والعرفان؛ ليعودوا إلى بلادهم كالنحل يحملون الشهد إلى جموع التلاميذ المتلهفين, ثم يصنِّفون بفضل ما بذلوه من جهد متصل هذه المصنفات التي هي أشبه شيء بدوائر للمعارف، والتي كان لها أكبر الفضل في إيصال هذه العلوم الحديثة إلينا بصورة لم تكن متوقعةً من قبل".

    *اشتغال الموالي بالعلم:
    مما يسترعي نظر الباحث في تاريخ الثقافة الإسلامية أن السواد الأعظم من الذين اشتغلوا بالعلم كانوا من الموالي، وخاصة الفرس، وكانت اللغة العربية هي الوسيلة الوحيدة للتفاهم بين المسلمين إلى أن أزال المغول الخلافة العباسية من بغداد في القرن السابع الهجري.

    *تقسيم العلوم:
    لقد ميز كُتَّابُ المسلمين بين العلوم التي تتصل بالقرآن الكريم وبين العلوم التي أخذها العرب عن غيرهم من الأمم، ويُطلَق على الأولى: العلوم النقلية أو الشرعية، وعلى الثانية: العلوم العقلية أو الحكمية، ويطلق عليها أحيانًا علوم العجم، أو العلوم القديمة. وتشمل العلوم النقلية: علم التفسير، وعلم القراءات، وعلم الحديث، والفقه، وعلم الكلام، والنحو واللغة، والبيان، والأدب. وتشمل العلوم العقلية: الفلسفة، والهندسة، وعلم النجوم، والموسيقى، والطب، والكيمياء، والتاريخ، والجغرافيا.
    وفي العصر العباسي الأول اشتغل الناس بالعلوم الدينية، وظهر المتكلمون, وتكلم الناس في مسألة خلق القرآن، وتدخل الخليفة المأمون في ذلك؛ فأوجد مجالس للمناظرة بين العلماء في حضرته، ولهذا عاب الناس عليه تدخله في الأمور الدينية، كما عابوا عليه تفضيله علي بن أبي طالب على سائر الخلفاء الراشدين، وذهب البعض إلى أن المأمون أراد بعقد هذه المجالس إزالة الخلاف بين المتناظرين في المسائل الدينية، وتثبيت عقائد من زاغوا عن الدين، وبذلك تتفق كلمة الأمة في المسائل الدينية التي كانت مصدر ضعفهم، وكان "المأمون" يميل إلى الأخذ بمذهب المعتزلة؛ لأنه أكثر انفلاتًا من الشرع، وأكثر اعتمادًا على العقل في الأمور التي لا يصل إليها، فقرَّب أتباع هذا المذهب إليه؛ ومن ثَمَّ أصبحوا ذوي نفوذ كبير في قصر الخلافة.
    أ- العلوم النقلية:
    1ـ علم القراءات:
    ومن العلوم التي اشتغل بها العباسيون علم القراءات، ويعتبر المرحلة الأولى لتفسير القرآن. وقد وجدت سبعة طرق في القراءات، تمثل كل طريقة منها مدرسة معترف بها ترجع قراءتها إلى إمام ترتبط باسمه، ويرجع أغلب الاختلافات في القراءات إلى رجال موثوق بهم ممن عاشوا في القرن الأول كابن عباس، وعائشة، وعثمان صاحب القراءة وابنه أبان، وإلى قُرَّاء معترف بهم كعبد الله بن مسعود، وأُبيّ بن كعب، وهؤلاء قد أثنى عليهم التابعون وغيرهم.
    ومن أشهر أصحاب القراءات في العصر العباسي الأول يحيى بن الحارث الذماري المتوفى سنة 145هـ/ 763م، وحمزة بن حبيب الزيات المتوفى سنة 156هـ/ 773م، وأبو عبد الرحمن المقرئ المتوفى سنة 213هـ/ 829م، وخلف بن هشام البزار المتوفى سنة 229هـ/844م.
    2ـ التفسير:
    اتجه المفسرون في تفسير القرآن اتجاهين: يعرف أولهما باسم التفسير بالمأثور: وهو ما أُثِر عن الرسول صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة رضوان الله عليهم، ويعرف ثانيهم باسم التفسير بالرأي: وهو ما كان يعتمد على العقل أكثر من اعتماده على النقل، ومن أشهر مفسري هذا النوع المعتزلة والباطنية.
    على أن النوع الأول من التفسير وهو التفسير بالمأثور، قد اتسع على مر الزمن بما أدخل عليه من آراء أهل الكتاب الذين دخلوا في الإسلام، والذين كانت لهم آراء أخذوها عن التوراة والإنجيل مثل: كعب الأحبار اليهودي، وعبد الله بن سلام، وابن جريج، ولقد كان إسلام هؤلاء فوق التهمة والكذب, ورفعوا إلى درجة أهل العلم الموثوق بهم.
    ولما كان الحديث يشغل كل عناية المسلمين في صدر الإسلام اعتُبر التفسير جزءًا من الحديث أو فرعًا من فروعه، حتى إن التفسير في ذلك العهد كان تفسيرًا لآيات مبعثرة غير مرتبة حسب ترتيب السور والآيات إلا تفسير ابن عباس، ولو أن كثيرين يشككون في نسبته إليه.
    أمَّا الطريقة المنظمة في تفسير القرآن فإنها لم تحدث إلا في العصر العباسي، فقد روى "ابن النديم" في "الفهرست": "أن عمر بن بكير كان من أصحاب الفرَّاء صاحب كتاب (معاني القرآن) المتوفى سنة 207هـ/ 823م, وكان منقطعًا إلى الحسن بن سهل، فكتب إلى الفرَّاء: إن الأمير الحسن بن سهل ربما سألني عن الشيء بعد الشيء من القرآن فلا يحضرني فيه جواب، فإن رأيت أن تجمع لي أصولاً، أو تجعل في ذلك كتابًا أرجع إليه فعلت. فقال الفراء لأصحابه: اجتمعوا حتى أملي عليكم كتابًا في القرآن. وجعل لهم يومًا، فلما خرج إليهم وكان في المسجد رجل يؤذن ويقرأ بالناس في الصلاة، فالتفت إليه الفراء فقال له: اقرأ. وبدأ بفاتحة الكتاب ففسرها، ثم استوفى الكتاب كله، فيقرأ الرجل، ويفسر الفراء، فقال أبو العباس: لم يعمل أحد قبله مثله، ولا أحسب أن أحدًا يزيد عليه".
    ومن ذلك نرى أن القرآن الكريم قد أصبح منبعًا لكثير من العلوم التي اشتغل بها المسلمون في العصر العباسي، فعلماء النحو اتخذوا منه مادة خصبة يعتمدون عليها في استنباط قواعد اللغة العربية، كما ساعد "الإعراب" على تفسير القرآن وكشف غوامض بعض الآيات القرآنية، حتى لقد وضع علماؤهم كالكسائي والمبرد والفراء وخلف النحوي كتبًا أطلقوا عليها "معاني القرآن"، كما اعتمد الفقهاء في آرائهم الفقهية على القرآن أساسًا للتدليل على صحة ما ذهبوا إليه، وأَلَّفوا في المذاهب المختلفة كتبًا سموها "أحكام القرآن"، ومن هؤلاء الشافعي وأبو بكر الرازي، أضف إلى ذلك ما كتبه المؤرخون من تفسير الآيات القرآنية التاريخية من حيث صلتها بتاريخ الأمم الأخرى، وغير خافٍ أن القرآن الكريم من أهم المصادر التاريخية على الإطلاق؛ لأنه أقدمها وأصدقها وأوسعها مجالاً.
    3ـ الحديث:
    ومن أهم مصادر التشريع الإسلامي "الحديث"، وهو ما أُثِرَ عن النبي صلى الله عيه وسلم من قول أو فعل أو تقرير لشيء رآه، ويأتي في الأهمية بعد القرآن الكريم.
    وكانت دراسة علوم القرآن الكريم باعثًا قويًّا على ظهور علوم الحديث الشريف؛ وذلك لأنه يفصل ما أجمله القرآن الكريم، ويفسر ما يصعب على الناس فهمه، فقد شرح الحديث الكثير من الآيات القرآنية، ولم يُدوَّن الحديث الشريف تدوينًا شاملاً منظمًا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم, وفي عهد صدر الإسلام. ويُروَى أن الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم نهى عن تدوين الحديث حتى لا يختلط بالقرآن الكريم حيث قال: "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار".
    وقد ظهرت بدايات تدوين الحديث الشريف في عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز الذي كلف بعض من يثق بهم من علماء الحديث بجمعها، فقال لأبي بكر بن محمد بن حزم (ت120هـ/ 738م) عندما كلفه بهذه المهمة ما نصه: "انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سنة ماضية، أو حديث عمرة فاكتبه؛ فإني خشيت دروس العلم، وذهاب أهله".
    فكتب الأحاديث في دفاتر، وأُرْسِلَتْ منها نسخ إلى أنحاء الدولة الإسلامية.
    حتى إذا جاء القرن الثاني للهجرة أخذ المسلمون يدونون الأحاديث النبوية، وأتاحوا الفرصة لظهور طائفة من أئمة الحديث الذين ظهروا في العصر العباسي، واشتهر منهم سفيان الثوري (ت161هـ/ 778م)ـ أمير المؤمنين في الحديث ـ وله من الكتب "الجامع الكبير"و"الجامع الصغير"،كلاهما في الحديث.
    والإمام مالك بن أنس (ت 179هـ/ 796م) أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، وجَّه إليه الرشيد العباسي ليأتيه فيحدثه، فقال: العلم يُؤتَى. فقصد الرشيد منزله واستند إلى الجدار، فقال مالك: يا أمير المؤمنين، من إجلال رسول الله إجلال العلم. فجلس بين يديه فحدّثه، ومن مؤلفاته كتاب "الموطأ".
    وسفيان بن عيينة (ت 198هـ/ 814م) كان حافظًا ثقة، واسع العلم، قال عنه الشافعي: لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز. له كتاب "الجامع" في الحديث. والإمام أحمد بن حنبل (ت241هـ/ 856م) صاحب كتاب "المسند" الذي اشتمل على أربعين ألف حديث تكرر فيها عشرة آلاف، ويعدّ هذا الكتاب من الكتب المعتمدة في علم الحديث.
    وشهد علم الحديث في القرن الثالث الهجري نشاطًا كبيرًا عندما اتسعت حركة الجمع, واستقر نقد الحديث للتمييز بين الصحيح والضعيف، وجمعت الأحاديث في كتب خاصة، وأفردت عن الشروح الفقهية، فظهرت المصنفات الصحيحة وأشهرها صحيح البخاري (ت256هـ/870م)، وصحيح مسلم (ت261هـ/ 875م)، وسنن ابن ماجه (ت273هـ/887م)، وسنن أبي داود (ت275هـ/ 889م)، وجامع الترمذي (ت279هـ/ 893م)، وتسمى هذه الكتب (بالصحاح الستة)، وأشهرها توثيقًا صحيحا البخاري ومسلم.
    4- الفقه:
    كان اختلاف أئمة الفقه في بعض النصوص الفقهية، واستنباط الأحكام منها قد أدى إلى تعدد المذاهب الفقهية، واشتهر من هذه المذاهب أربعة هي: مذهب مالك إمام أهل الحجاز، وزعيم الفقهاء الذين يأخذون بطريقة أهل الحديث. ومذهب أبي حنيفة إمام أهل العراق، وزعيم الفقهاء الذين يأخذون بطريقة الرأي والقياس. ومذهب الشافعي وكان يسير أولاً على طريقة أهل الحجاز، ثم جعل مذهبه وسطًَا بين الطريقتين. ومذهب أحمد بن حنبل، وكان من كبار المحدثين، واختص هو وأصحابه بالمذهب الحنبلي الذي يبعد عن الاجتهاد؛ مما أدى إلى قلة عدد المتمسكين بمذهبه.
    * ظهور المدارس الفقهيه
    ظهرت في ميدان الفقه مدرستان: مدرسة أهل الحديث في المدينة وعلى رأسها الإمام مالك الذي كان يأخذ بمبدأ التوسع في النقل عن السنة، ومدرسة أهل الرأي في العراق وعلى رأسها الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت المولود بالكوفة سنة 80هـ/ 700م، ومات ببغداد سنة 150هـ/ 767م. وقيل: إنه حج وهو في السادسة عشرة من عمره مع أبيه، وشهد عبد الله بن الحارث أحد الصحابة يحدّث بما سمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما روي أيضًا أنه سمع مالك بن أنس، وكان أبو حنيفة بجانب اشتغاله بالعلم يحترف التجارة؛ فيبيع الخز، ويجلس في الأسواق مما أكسبه خبرة عظيمة, وجعله يعرف حقيقة ما يجري في الأسواق من معاملات الناس في البيع والشراء.
    وقد تعلم أبو حنيفة الفقه في مدرسة الكوفة، وأخذ عن عطاء بن أبي رباح، وهشام بن عروة، ونافع مولى عبد الله بن عمر، ولكنه أخذ أكثر علمه عن أستاذه حماد بن أبي سليمان الأشعري، وكان أبو حنيفة يتشدد في قبول الحديث، ويتحرَّى عنه وعن رجاله.
    ولم يصل إلينا أي كتاب في الفقه لأبي حنيفة، غير أن ابن النديم ذكر من بين كتبه كتاب الفقه الأكبر ـ وهو في العقائد ـ ورسالته إلى البُستي، وكتاب الرد على القدرية، والعلم برًّا وبحرًا شرقًا وغربًا بعدًا وقربًا.
    ومن فقهاء ذاك العصر مالك بن أنس الذي قضى حياته بالمدينة المنورة، روي أنه أخذ قراءة القرآن عن نافع بن أبي نعيم، وأخذ العلم عن ربيعة الرأي، وسمع الحديث من كثير من شيوخ المدينة كابن شهاب الزهري، ونافع مولى عبد الله بن عمر، وروى عنه الأوزاعي.
    ومن أشهر أئمة هذا العصر أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي الذي جمع بين مدرستي النقل والعقل بما آتاه الله من سعة العقل والقدرة على الابتكار، وهو أول من تكلم في أصول الفقه، وأول من أخذ في وضع مبادئه، وكان الشافعي مُعظِّمًا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه إذا أراد أن يحُدِّث توضأ وجلس على صدر فراشه, وسرح لحيته, وتمكن في جلوسه بوقار وهيبة.
    قال عنه أحمد بن حنبل رحمه الله: ما عرفت ناسخ الحديث من منسوخه حتى جالست الشافعي. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: أي رجل كان الشافعي؟! فإني سمعتك تكثر من الدعاء له. فقال: يا بني, كان الشافعي كالشمس للدنيا, وكالعافية للبدن، هل لهذين من خلف أو عنهما من عوض؟
    ومن هؤلاء الأئمة أحمد بن حنبل رحمه الله الذي قال عنه الإمام الشافعي رحمه الله عندما خرج من بغداد إلى مصر: "خرجت من بغداد وما خلَّفتُ بها أتقى ولا أفقه من ابن حنبل". غير أن مذهبه قليل الأتباع، وأكثرهم بالشام ونجد والبحرين، وقد شهد له أئمة عصره بالانفراد بالزهد والورع والتقوى، وموقفه من مشكلة خلق القرآن يدل على قوة عزيمته, وشدة تمسكه بالدين.
    ومن فقهاء ذلك العصر أبو يوسف (ت182هـ/ 798م)، وقد تولى القضاء للمهدي والهادي والرشيد، وكان في أيام الرشيد يتقلد منصب قاضي القضاة. وكان أبو يوسف من أكبر تلاميذ أبي حنيفة، أخذ عنه الفقه، وعمل على نشر مذهبه ومبادئه بعد أن تقلد قضاء بغداد. ومن مؤلفات أبي يوسف كتاب "الخراج" الذي ألفه للرشيد, وتعرض فيه لأهم أمور الدولة المالية التي لا يستطيع الإلمام بها إلا من كان في مثل منصبه, وقربه من الخلفاء, وتضلعه في الفقه الإسلامي.
    ومن أشهر فقهاء هذا العصر - كذلك - الليث بمصر، وقد أطنب العلماء في الإشادة بعلمه، روي عن الشافعي أنه قال: إن الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به. وقال ابن وهب: ما رأينا أحدًا قَطُّ أفقه من الليث (ت 157هـ/ 774م).
    5- علم الكلام:
    من العلوم التي اشتغل بها العباسيون علم الكلام، ويقصد به الأقوال التي كانت تُصاغ على نمط منطقي أو جدلي للدفاع عن عقيدة المتكلم، كما يسمى المشتغلون بهذا العلم "المتكلمين"، وكان يطلق هذا اللفظ أول الأمر على من يشتغلون بالعقائد الدينية، غير أنه أصبح يطلق على من يخالفون المعتزلة ويتبعون أهل السنة والجماعة.
    وكان من أثر ذلك أن أخذت كل فرقة تدافع عن عقيدتها، وتعمل على دحض الأدلة التي وردت في عقائد مخالفيها، وكانت المناظرات تعقد بين المتكلمين في قصور الخلفاء، وفي المعاهد الدينية كالمساجد، وغير الدينية كبيوت الحكمة. ومن أشهر المتكلمين: واصل بن عطاء، وأبو الهذيل العلاف، وإبراهيم النظام، وعمرو بن بحر الجاحظ، وبشر بن غياث، وثمامة بن أشرس.
    وقد ظهر في عهد المأمون جماعة من كبار العلماء والمتكلمين الذين تناولوا أصول الدين والعقائد، وحَكَّموا عقولهم في البحث، ونشأت بسبب ذلك اعتقادات تخالف اعتقادات عامة المسلمين، وجمهور علمائهم المعروفين بأهل الحديث، وكان اعتماد المتكلمين في مباحثهم على العقل دون النقل، ومال المأمون إلى الأخذ بمذهب المعتزلة الفاسد، القائم على نبذ الشرع وتقديم العقل عليه؛ فقرَّب أتباع هذا المذهب إليه، ومن ثَمَّ أصبحوا ذوي نفوذ كبير في قصر الخلافة ببغداد, ووافقهم فيما ذهبوا إليه من أن القرآن مخلوق وهي بدعة ضالة، وعمد إلى تسخير قوة الدولة لحمل الناس على القول بخلق القرآن؛ ربما لفساد عقيدته, وربما لشغل الناس عن القضايا السياسية ومحاسبة الحكام، كما يرى بعض الباحثين.
    وصفوة القول: إن بعض خلفاء العصر العباسي الأول، كالمأمون والمعتصم والواثق شجَّع بعض الآراء الفلسفية والبحث العقلي في المسائل الدينية، وأن هؤلاء الخلفاء وقعوا فيما وقع فيه الروم من قبل، فأخذوا ببعض هذه الآراء واضطهدوا المعارضين لها، وعضدوا علماء الكلام فيما ذهبوا إليه من المسائل الدينية، وبخاصة مسألة خلق القرآن التي شغلت عقول الخلفاء وعلماء الكلام نحو خمس عشرة سنة (218- 232هـ/ 833- 847م).
    6- النحو:
    نشأ علم النحو في البصرة والكوفة اللتين صارتا من أهم مراكز الثقافة في القرن الأول الهجري، وفي هاتين المدينتين كانت تقيم جاليات عربية تُنسَب إلى قبائل عربية مختلفة ذات لهجات متعددة، وآلاف من الصُّنّاع والموالي الذين كانوا يتكلمون الفارسية، ومن ثَمَّ تعرضت العبارات العربية السليمة إلى شيء غير قليل من الفساد, ودعت الضرورة إلى تقويم اللسان العربي؛ حتى لا يتعرض القرآن الكريم للتحريف، وكان أبو الأسود الدؤلي أول من اشتغل بالنحو في عهد الأمويين، وقد قيل: إنه تلقى أصول هذا العلم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
    ومن علماء البصرة المبرزين في العصر العباسي الأول أبو عمرو بن العلاء (ت 153هـ/770م)، والخليل بن أحمد (ت 174هـ/ 791م) واضع علم العروض، وصاحب كتاب "العين" الذي يُعتَبر أول معجم وُضِعَ في اللغة العربية, وسيبويه الفارسي، ويعرف كتابه باسم "كتاب سيبويه"، والمبرد صاحب كتاب "الكامل"، ومن أشهر علماء الكوفة الكسائي الذي عهد إليه هارون الرشيد بتهذيب ابنيه الأمين والمأمون، وتلميذه الفراء المتوفى سنة 207هـ/ 823م.
    ويعدّ الرؤاسي (ت235هـ/ 850م) مؤسس مدرسة الكوفة ورأس علمائها، قد غلبت عليه الناحية الصرفية التي اهتم بها الكوفيون, وتقدموا بها على أهل البصرة حتى عَدَّهم المؤرخون الواضعين لعلم الصرف.
    وعندما تأسست مدينة بغداد وانتقلت الحركة العلمية إليها تكونت فيها مدرسة جديدة للنحو وقفت بين مدرستي البصرة والكوفة، وشجع الخلفاء العباسيون المناظرات العلمية بين علماء المدرستين، وأشهرها مناظرة الكسائي إمام الكوفة وسيبويه إمام البصرة، وفيها تغلب الكسائي فكان ذلك فوزًا لمدرسة الكوفة في بغداد، وقد أدى الخلاف بين المدرستين إلى بلورة علم النحو.
    7- الأدب:
    لقد شهد العصر العباسي ثورة ضخمة في الشعر، وظهر كثير من الشعراء الذين نهجوا بالشعر مناهج جديدة في الموضوعات والمعاني والأساليب والألفاظ حتى فاقوا في كل ذلك من سبقهم من الشعراء الإسلاميين والمخضرمين والجاهليين، ونشأت فيه أغراض لم تكن موجودة من قبل، وذهبت أخرى؛ فقد ضعف الشعر السياسي والحماسي والغزل العذري، وقوي شعر المدح والرثاء، وازداد الشعر الحكمي، وظهر الشعر الزهدي والصوفي والفلسفي والتعليمي والقصصي، وأسرف الشعراء المتأخرون في استعمال ضروب البديع من جناس وطباق، واهتموا بتزويق اللفظ.
    وقد ازدهرت الحركة الشعرية والأدبية في العصر العباسي بفعل عملية الامتزاج بين المجتمعات والعناصر المختلفة وانتقال الثقافات الأجنبية عن طريق الترجمة، وتبلور الخلافات السياسية والمذهبية بين الفرق الإسلامية مع بعضها البعض من جهة، ومع غيرها من جهة أخرى، فضلاً عن تشجيع الخلفاء والحكام للشعراء في بغداد والمدن الأخرى، ولمع في سماء الأدب العباسي شعراء عديدون كبار أمثال: بشار بن برد (ت168هـ/ 785م)، وأبي نواس (ت198هـ/ 814م)، وأبي تمام حبيب بن أوس الطائي (ت228هـ/ 843م).
    (أ) الشعر
    نال الشعر من الاهتمام ما لم ينله أي لون أي لون من ألوان الأدب العربي؛ لما عرف عن صلة العرب بالشعر، فقد قيل: "الشعر ديوان العرب". وكان الشعر والأدب ينقل شفهيًّا منذ العصر الجاهلي رغم ضياع أكثره، وفي إطار هذا الجهد التدويني للشعر الجاهلي ظهرت مجموعات شعرية مهمة كالمعلقات والمفضليات والأصمعيات، فالمعلقات هي أقدم ما بقي لنا من مجموعات الشعر الجاهلي، وهي سبع قصائد طوال لسبعة من شعراء الجاهلية المشهورين، جمعها حماد الراوية (ت156هـ/ 773م) وسماها المعلقات، والمفضَّليات هي المجموعة الشعرية الثانية للمفضل بن محمد الضبي الكوفي (ت164هـ/ 781م)، والأصمعيات لعبد الملك بن قُرَيْب الأصمعي (ت216هـ/ 831م)، وهناك مجموعات شعرية أخرى كديوان الحماسة لأبي تمام (ت231هـ/ 846م)، وطبقات الشعراء لابن سلام (ت231هـ/ 846م)، وغيرها من المصنفات التي دونت أهم ما حفظته ذاكرة الرواة من الشعر الجاهلي بعد الإسلام؛ فصانته لنا من الضياع.
    وكان للفرق الدينية كالشيعة والمعتزلة التي نشأت في القرن الأول الهجري، ونمت في العصر العباسي الأول، شعراء يدافعون عن مبدئِهم, ويحفزون أتباعهم لمقاومة كل اعتداء يحيق بهم من خلفاء ذلك العصر.
    وقد حفَّزت الانتصارات المتوالية التي ظفر بها الخلفاء العباسيون على الروم كثيرًا من الشعراء إلى إنشاد القصائد الرائعة للإشادة ببطولتهم, وما أحرزوه من نصر وظفر في سبيل دفع خطر الأعداء عن المسلمين. من ذلك ما قاله أبو العتاهية في مطلع قصيدته التي نظمها على أثر انتصار الرشيد على الروم في هرقلة:
    ألا نادت هرقلة بالخرابمن الملك الموفق بالصواب

    ومدح أبو تمام الخليفة المعتصم على أثر انتصاره في عمورية بقصيدته التي قال فيها:
    فتح الفتوح تعالى أن يحيط بهنظم من الشعر أو نثر من الخطب
    (ب) النثر:
    أمّا النثر فلم يكن أقل ثراءً وخصبًا من الشعر، فقد بدأ النثر في صدر الإسلام بسيطًا مباشرًا موجز العبارة، وبأشكال عديدة منها: الرسائل والخطب والأحاديث والأمثال والقصص، وبتقدم الحياة الاجتماعية والعقلية تقدم النثر وتنوعت موضوعاته، وتعددت فنونه؛ فظهرت صنعة الكتابة، ومن أبرز الكُتَّاب "عبد الحميد الكاتب" الذي يُعتَبَر شيخ صناعة الكتابة، والذي قيل فيه: بدأت الكتابة بعبد الحميد وانتهت بابن العميد.
    حركة التعريب والترجمة والتأليف
    ـ التعريب: نقل الكتب والنصوص من لغة أجنبية إلى اللغة العربية.
    ـ الترجمة: نقل الكتب وترجمتها من لغة إلى لغة أخرى.
    ففي عصر المأمون (عصر الازدهار العلمي) أصبحت بغداد أعظم منارة للعلم والمعرفة في العصور الوسطى، وكان التعريب من كل اللغات، وقدم لكل مترجم قُبالة كل كتاب عرَّبه زنته ذهبًا.
    وعندما انتصر المأمون على تيوفيل ملك الروم سنة 215هـ/ 831م علم بأن اليونان كانوا قد جمعوا كتب الفلسفة من المكتبات، وألقوا بها في السراديب عندما انتشرت النصرانية في بلادهم، فطلب المأمون من تيوفيل أن يعطيه هذه الكتب مكان الغرامة التي كان قد فرضها عليه؛ فقبل تيوفيل بذلك وعدَّه كسبًا كبيرًا له لنجاة أمته من أدران الفلسفة اليونانية العقيمة الفاسدة. أمّا المأمون فعدَّ ذلك نعمة عظيمة عليه، بينما كانت – في الواقع – نقمة كبيرةً على المسلمين؛ إذ تسببت تلك الكتب في إشغال المسلمين بالجدل فيما لا طائل وراءه، بل أدخلت في الإسلام عقائد وثنية مما كان يؤمن به فلاسفة الملل الأخرى كعقيدة الحلول والاتحاد، ووحدة الوجود، والعقول العشرة، وغيرها.
    ومن المترجمين في هذه الفترة شيخ المترجمين حنين بن إسحاق، وثابت بن قرَّة، والحجاج بن مطر.
    ضعف وسقوط الخلافة العباسية
    كان هذا هو الوضع في عصر القوة في الخلافة العباسية، وكانت هذه هي سماته، وقد انقلب الوضع في عصر الضعف، وهو الذي يشمل بقية خلفاء الدولة حتى سقوط بغداد عاصمة الخلافة على أيدي التتار، وقتل الخليفة المستعصم عام 656هـ/ 1258م. فما أهم سماته؟
    إن من أهم سمات عصر الضعف بالخلافة العباسية ما يلي:
    1- سيطرة القادة والجند الترك على الخلفاء:
    إذا كان عصر القوة العباسي الأول قويًّا فلم تقم فيه سيطرة عسكرية أو زعامة ذات قوة تعتمد عليها في حكمها للمنطقة، وإذا ما تمَّ وحدَّثت نفسُ بعض القادة بذلك فقد كان يُقضَى عليها بسرعة، وهذا ما حدث لعبد الله بن علي، وأبي مسلم الخراساني، ولم تقم في ذلك العصر سوى دولة واحدة هي دولة الأغالبة في تونس، إذ كان إبراهيم بن الأغلب أمير المنطقة، واعتمد على نفوذه، وجنده فأسس دولته، وسكت عنه العباسيون لتقف إمارته هذه في وجه الإمارات الأخرى الخارجة على العباسيين، والمخالفة لهم، وهي إمارات الخوارج في "تاهرت" و"سِجِلْماسة"، وإمارة الأدارسة في المغرب الأقصى في فاس، ودولة الأمويين في الأندلس، وبهذا فلم تقم سوى دولة واحدة في عصر القوة العباسي اعتمدت على الجند.
    وشعر الخليفة المأمون أن بعض القادة الذين أصبح لهم نفوذ لم يعد بالإمكان وضع حدٍّ لهم بسهولة، وخاف مغبة الأمر؛ لذا فقد طلب من أخيه المعتصم الإكثار من جلب الأتراك من بلاد ما وراء النهر على شكل مماليك، فحياة المدن لم تُفسد طباعَهم بعدُ، ويمكن تدريبهم تدريبًا عسكريًّا كي يكونوا أداةً طيعةً بيد الخليفة تحمي بهم الثغور، وتضرب بهم خصوم الدولة في الداخل، وبدأت أفواج الترك تفد إلى بغداد حتى ضَجَّ منهم سكانها، وما أن أصبحوا جنودًا لهم نفوذ حتى كثرت تعدياتهم فقد أفسدتهم حياتهم الجديدة، وحدث الخلاف بينهم وبين البغداديين، واضطر المعتصم إلى بناء مدينة "سامراء" والانتقال بهم هناك، ومع الزمن أصبح منهم قادة اشتهر منهم "الأفشين" و"بغا" و"وصيف" وغيرهم, وزاد نفوذهم في الدولة, وأخيرًا تآمروا مع المنتصر على قتل أبيه المتوكل عام 247هـ/ 862م.
    ومع مجيء هؤلاء الجند إلى مركز السلطة أصبحت الأمور بأيديهم، وبقي الخليفة اسمًا أو صورة في قصره ليس عليه سوى التوقيع على التعليمات في كثير من الأحيان, أو إصدار الأوامر حسب رأي القادة، حتى وصف الخليفة أحد الشعراء فقال:
    خليفة في قفـصٍبين وصيـف وبُغا
    يقول ما قالا له كما تقول البَبُّغا
    وأصبح الحكم بالسيف لا بالرأي, والتنفيذ بالسوط لا بالحكمة، والناس مجبرون على الخضوع سواءٌ أكان الأمر حقًّا أم باطلاً، وقد قال أحد الشعراء معبرًا عن هذا الوضع:
    لله دَرُّ عصــابةٍ تـركيةٍ جعلوا نوائب دهرهم بالسـيف
    قتلوا الخليفة أحمد بن محمد وكسوا جميع الناس ثوب الخوف

    وهكذا فسد الوضع فلم يأمن الناس بعد ذلك على أرواحهم، ولا على أموالهم، ولا على أعراضهم، وهُدِرَت الكرامة، وفَقَدَ الناس حريتهم، وضاعت العزة، وأصاب الأمة الذل، ومتى وقع ذلك فقدت الأمة مقوماتها، ولم تعد قادرة على القتال، ولا على المجابهة، وأصبح المجتمع مضطرًّا للخضوع للقادة المتسلطين، وقبول كل رأي يقوله العسكريون، وهذا ما يريدونه عادة، ولم يعرفوا نتائجه، وإنما يعرفون مصالحهم، وبسط نفوذهم وسيطرتهم, وإشباع رغبات نفوسهم؛ هذا في الداخل، وهو نفسه ما يريده أعداء الإسلام في الخارج، ولا يختلف الوضع العسكري في أي زمان ولا أي مكان عن هذا أبدًا.
    وليس معنى هذا أنه لا يوجد قادة عسكريون صالحون على مدار التاريخ، فقد وُجِدَ أمثال: نور الدين محمود زنكي، وصلاح الدين الأيوبي وغيرهما، ولكن هذه نسبة قليلة، وما أن ينتهي الضابط الصالح حتى يرجع العرف العسكري، بل إن العسكري الصالح قلَّما يطول أمره لأنه يقف أمام أهواء الذين دونه، فيشعرون بالضغط والكبت فيعملون على إزاحته بصورة أو بأخرى، ومن هنا كان أصحاب القوة من العسكريين في العصر العباسي الثاني من أسباب الضعف الذي أصاب الأمة سواءٌ أكانوا عربًا أم تُركًا أم فُرسًا، فالسيف واحد بأية يدٍ كان.
    2- انغماس المجتمع في الترف:
    بينما كان العصر العباسي الأول عصر فتوحات عظيمة، وتوسعت بالدولة إلى آفاق غير متخيَّلة، وأصبح المستوى المادي طاغيًا؛ ويبدأ المجتمع في التمتع بثمارها، وبالنعيم الدنيوي الذي صنعه لهم المال الوفير، ووفرته لهم القصور الشاهقة، والحدائق الغنَّاء، والجواري الحسان؛ فانزلقوا إلى اللهو والمجون والفساد، وازدهرت صنعة الغناء بدل الجهاد، وصار المغنون أشهر من العلماء، وطغى حب الدنيا في القلوب، وكان من الطبيعي - والحال هكذا - أن تتوقف الفتوحات، ويركن الناس إلى الدنيا؛ فيصير الأمر إلى زوال.
    وقد نشأ على إثر حالة المجون هذه حركة مضادة تدعو للزهد في الدنيا ومتاعها، برز فيها الشاعر الكبير أبو العتاهية، لكن موجة الفساد كانت طاغية؛ فغمرت الدولة العباسية حتى أسقطتها، كما أسقطت من قبلُ الإمبراطورية الفارسية.
    3- ازدهار الشعوبية:
    الشعوبية قوم متعصبون ضد العرب مفضِّلون عليهم العجم، ظهرت دعوتهم بعد عصر الخلفاء بدخول أجيال كثيرة من الفرس والترك والنبط في خدمة الدولة الإسلامية، فنشأت العداوات بين العرب أصحاب الدولة، وبين العجم الذين انتحلوا الإسلام، وكما حدثت هذه المفاضلة بين العرب والعجم، حدثت أيضًا بين العرب أنفسهم في صيغة أخرى، وهي: قيس ويمن، هذا مع أن هدي الكتاب العزيز يقول: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"[1]إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ"[2]. وقد قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في حِجة الوداع: "أيها الناس، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بالآباء، ليس لعربي على عجمي فخر إلا بالتقوى، كلكم لآدم، وآدم من تراب".، و"
    ويقال على الجملة: إن الإسلام الذي جاء لإسقاط الجنسية، حاول بعضهم - للحرية التي استمتعوا بها على عهد عز العرب - أن يعيدوا نغمتها، وألَّف الشعوبيون رسائل وكتبًا، وصنَّفوا المسامرات والخطب، وراجت أسواق الممادح والمقابح، ورد العرب على العجم برفق لئلاَّ ينفِّروهم، وكانوا يرمون إلى تأليف القلوب لا إلى تمزيقها، شأن الأمم العاقلة التي ترمي أبدًا إلى تكثير سوادها، وجمع القلوب على حبها، تتحاشى العبث بمقدسات الناس، وتحفظ لهم حرمتهم وكرامتهم.

    تابعونا

      الوقت/التاريخ الآن هو الإثنين أبريل 29, 2024 6:44 pm