: أهل السنة والجماعة :
أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَة هم أكبر مجموعة دينية إسلامية من المسلمين في معظم الفترات من تاريخ الإسلام، وينتسب إليهم أغلب المسلمين،
ويُعرِّف بهم علماؤهم أنهم هم المجتمعون على اتباع منهج السنة النبوية وسنة الخلفاء الراشدين وأئمة الدين من الصحابة والتابعين وأصحاب المذاهب الفقهية المعتبرة من فقهاء أهل الرأي وأهل الحديث، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم وأخذ عنهم طريقتهم بالنقل والإسناد المتصل. ولم تكن هذه التسمية مصطلحا متعارفا عليه في بداية التاريخ الإسلامي حيث لم يكن هناك انقسام ولا تفرق،
وإنما ظهرت هذه التسمية تدريجياً بسبب ظهور الفرق المنشقة عن جماعة المسلمين تحت مسميات مختلفة،
وكان لقب أهل السنة يطلق على أهل العلم من أئمة الصحابة ومن تبع طريقتهم المسلوكة في الدين، حيث ورد في مقدمة صحيح مسلم عن ابن سيرين أنه لما وقعت أحداث مقتل الخليفة عثمان بن عفان، والتي يشير إليها باسم «الفتنة» أنه قال: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم»، فالأئمة في الدين من الصحابة ومن تبعهم بإحسان هم أهل السنة أي: أصحاب الطريقة المتبعة في الدين باعتبار أن طريقتهم التي كانوا عليها قائمة على اتباع منهاج الهدي النبوي حيث نقلوا علم الدين بعمومه، واستند عليه علمهم فيما بينوه وفيما استنبطوه وفق أصول الشريعة.
كان أخذ علم الدين مختصا بالحاملين له من الصحابة وكانوا في صدر الإسلام يسمونهم القراء لقراءتهم القرآن وعلمهم في الدين، وبحسب ما ذكر ابن خلدون أنه بعد تمكن الاستنباط الفقهي وكمل الفقه وصار علما بدلوا باسم الفقهاء والعلماء بدلا من القراء، وانتقل علم الصحابة إلى التابعين وأخذ عنهم الأئمة من بعدهم،
ثم انقسم الفقه فيهم إلى : طريقة أهل الرأي في العراق ومقدم جماعتهم الذي استقر المذهب فيه وفي أصحابه أبو حنيفة،
وطريقة أهل الحديث في الحجاز وإمامهم مالك بن أنس والشافعي من بعده.
بعد القرن الهجري الثاني بحسب ما ذكر ابن خلدون وغيره أن جماعة من السلف تعلقوا بظواهر نصوص متشابهة وبالغوا في إثبات الصفات فوقعوا في التجسيم، وبالمقابل فأن المعتزلة بالغوا في التنزيه فأنكروا صفات ثابتة،
وأما أهل السنة حينها فكان منهم جماعة مثل : أحمد بن حنبل وداود بن علي الأصفهاني وآخرون أخذوا بمنهج المتقدمين عليهم من أصحاب الحديث كمالك بن أنس وغيره
فقالوا في النصوص المتشابهة : نؤمن بها كما هي ولا نتعرض لتأويلها، وكان جماعة من أهل السنة في عصر السلف أيدوا عقائد السلف بحجج كلامية وبراهين أصولية.
بعد حدوث بدعة المعتزلة والمشبهة وغيرها وانتشار مقولاتهم في أواخر عصر السلف بحسب ما ذكر ابن خلدون وغيره قام أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتريدي بإيضاح عقائد السلف من أهل السنة ودفع الشبه عنها وتأييدها بالأدلة العقلية والنقلية بمناهج كلامية وكتبا عن مقالات الفِرق، فكان من ذلك تمايز هذه الفِرق التي كتب العلماء عنها في «كتب الفِرق» جلها في القرن الرابع الهجري ومنهم عبد القاهر البغدادي من فقهاء المذهب الشافعي في كتابه : «الفَرق بين الفِرق»، ذكر فيه أهل السنة والجماعة هي الفِرقة الثالثة والسبعون وأنهم جماعة واحدة من فريقي الرأي والحديث، وكلهم متفقون على قول واحد في أصول الدين،
وربما اختلفوا في بعض فروعها اختلافا لا يوجب تضليلا ولا تفسيقا، وكانت التسمية تطلق على أهل السنة والجماعة تمييزا لهم عن الخوارج والمعتزلة والمجسمة وفرق التشيع وغيرها من الفِرق.
والسُّنة لغةً الطريقة والسيرة، وتكون بمعنى الطريقة المسلوكة في الدين، أو المثال المتبع والإمام المؤتم به، أو في مقابل البدعة، ويختلف معنى السنة عند علماء الشريعة بحسب المقصود منها.
قال الشافعي : «إطلاق السنة يتناول سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم». وسنة الرسول منهج لكل المسلمين، فهو إمام الأمة وأولى الناس بأمته ومعلمهم الأول، والمقصود بالسنة التي دلت نصوص الشرع على لزومها ووجوب اتباعها هي الطريقة النبوية المشار إليها في النصوص إشارة نوعية لا شخصية،
قال العيني : السُّنَّة «طريقة النبي صلى الله عليه وسلم» وسنته طريقته في الدين وسبيله إلى الله وعلمه ومنهجه وهديه الذي كان عليه هو وأصحابه، فإنهم أخذوا عنه علم الدين واهتدوا بهديه وكانوا من بعده قدوة للأمة، فالسنة هي الطريقة المسلوكة في الدين التي كان عليها هو وأصحابه والخلفاء الراشدون من بعده في الهدى والعلم والعمل والاعتقاد، وهذه الطريقة عند أئمة أهل السنة والجماعة هي المثال المتبع في الدين، الذي كان عليه الخلفاء الراشدون وأئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان،
فيشمل سنة الخلفاء الراشدين ومن سار سيرتهم من أئمة الإسلام المجتهدين في الأحكام فإنهم خلفاؤه من بعده المبلغون عنه الحاملون لهديه، واتباع طريقتهم في الدين عند الاختلاف هو اتباع لطريقته في الرجوع إليهم فيما أشكل من الأمور، واتباعهم فيما اجتهدوا فيه واجتمعوا عليه بعد عصر النبوة، لكونه اتباعا لسنة ثبتت عندهم لم تنقل إلينا، أو اجتهادا مجتمعا عليه منهم أو من خلفائهم؛ فإن إجماعهم إجماع.
ويدخل كل ما حدث منهم مثل جمع القرآن في مصحف واحد وتدوين الدواوين وكتب العلم وغير ذلك من الأمور لكونها موافقة لأصول الدين وإن أحدثت بعد عصر النبوة. قال الله تعالى ﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله... الآية﴾ [النساء:80] وقال تعالى ﴿ يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم... الآية﴾ [النساء:59].
فالسنة عند أئمة أهل السنة والجماعة هي هذه الطريقة المأمور في الشرع باتباعها على أساس أن اتباع هؤلاء الأئمة قائم على اتباع هدي النبوة الذي هو سبيل الاهتداء إلى الصراط المستقيم. والمتفقون على هذه الطريقة هم الجماعة وهم أهل العلم الشرعي.
والجماعة في هذه التسمية تشير إلى جماعة أهل السنة والجماعة من معنى الاجتماع على هذه الطريقة.
وقد جاء في الحديث الأمر باتباع السنة واجتناب البدعة، وأهل السنة والجماعة يفسرون البدعة بمعناها الشرعي بأنها البدعة في الدين التي لا أصل لها في الشريعة، وهي التي ورد في الشرع ذمها ووصف صاحبها بالضلال والموعود عليها بالنار،
وهي عندهم تشمل صنوف البدع التي استحدثتها الفرق التي ظهرت في العصور المتقدمة من التاريخ الإسلامي،
مثل : بدع الخوارج ومن تبعهم والقدرية والمجسمة وغيرهم، وكانت أول بدعة ظهرت في الإسلام فتنة الخوارج الذين انشقوا عن جماعة المسلمين وأعلنوا خروجهم عن علي بن أبي طالب، وغالوا في الوعيد فقالوا بتكفير العصاة وتخليدهم في النار،
واتخذوا من تكفير المسلمين مبررا للخروج على ولاة الأمر واستباحوا بذلك دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم بغير حق، وقصروا الإيمان على جماعتهم، وتشعبت منهم فرق كثيرة.
وأهل السنة والجماعة هم السواد الأعظم من أهل العلم الشرعي أصحاب المذاهب الفقهية الأئمة المجتهدون وعلماء الشريعة عبر التاريخ الإسلامي، ويدخل فيهم من سواهم ممن تبعهم ووافقهم من المسلمين، واستقر الفقه عندهم في عصور المتأخرين على تقليد المذاهب الأربعة في الأمصار وعمل كل مقلد بمذهب من قلده، وأئمتهم المتقدمون قد اتفقوا على قول واحد في أصول الاعتقاد،
وعلى صحة خلافة الخلفاء الأربعة الأوائل: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ويؤمنون بعدالة كل الصحابة، وبوجوب السكوت عما جرى بين الصحابة، وإثبات أجر الاجتهاد لهم، ولا يكفرون أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه، واتفقوا على وجوب السمع والطاعة لولاة الأمور وعدم جواز الخروج عليهم.
وإن كانوا عصاة، قال النووي: «وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين».
: التسمية :
أهل السنة والجماعة لقب جرى استعماله منذ فترات متقدمة من تاريخ الإسلام للدلالة على أصحاب الطريقة المسلوكة في الدين التي كان عليها الخلفاء الراشدون والأئمة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم من فقهاء أهل الرأي وأهل الحديث ومن تبعهم وسار على طريقتهم، ولم يكن لقب أهل السنة والجماعة اصطلاحا متعارفا عليه في بداية التاريخ الإسلامي،
حيث لم يكن هناك انقسام ولا تفرق بين المسلمين، فلم يكونوا بحاجة لتسمية تميزهم حيث لم يكونوا متفرقين ولا مختلفين في أصول الدين وكلياته،
وإن وقع اختلاف بين الأئمة المجتهدين في غير ذلك من المسائل الفرعية فهو أمر أقره الشرع، وغالبا ما كان ينتهي بالإجماع،
وكلهم مجتمعون على هدي النبوة، وكان يطلق على عموم المؤمنين بدين الإسلام اسم: «المسلمين» أو أهل الإسلام،
وكان يطلق على الأئمة منهم أهل العلم أو القراء أي : المتعلمون أو الفقهاء بمعنى علماء الدين، وإنما بدأت التسمية تظهر تدريجيا بسبب ظهور الفرق المنشقة عن جماعة المسلمين تحت مسميات مختلفة، فالأمة الإسلامية أمة واحدة منذ نشأتها وهذا ما أكده الله في القرآن بقوله ﴿ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ٥٢﴾ [المؤمنون:52]،
وقوله تعالى ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ١٥٣﴾ [الأنعام:153]. وصراط الله المستقيم طريق دين الإسلام الذي لا اعوجاج فيه، والسبل المتفرقة طرق الضلال.
وأصل التسمية قبل أن تكون لقبا متعارفا عليه قد جرى استعمالها عند أئمة أهل السنة في عصر السلف، حيث كانوا يستعملون عبارة : أهل السنة بمعنى : أصحاب الطريقة المتبعة في الدين وهم الأئمة أهل العلم الشرعي الذي يحمله من كل خلف عدوله،
وكانوا يستعملون كلمة : السنة بمعنى العلم في الدين عموما، فيقولون مثلا : فلان أعلمهم بالسنة، والمقصود من هذا هو العلم بالشريعة،
ولما وقعت الفتنة التي ظهرت أحداثها بالخروج على الخليفة عثمان بن عفان ثالث الخلفاء وأدت إلى مقتله بدء ظهور استعمال تسمية أهل السنة في تلك الفترة، وبحسب ما جاء عن ابن سيرين أن لقب أهل السنة يراد به أئمة علماء الدين وحملة الشريعة، تمييزا لهم عن المخالفين لهم، وكان سبب ذلك أن وقوع تلك الفتنة المشار إليها حمل ظواهر غريبة تمثلت فيمن انتسب إلى علم الشريعة من غير أهلها،
وجرى استنكار ذلك ووضع شروط معينة لنقل ورواية الحديث من أهمها الإسناد والعدالة، ففي صحيح مسلم :
عن محمد بن سيرين قال : « إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم» عن ابن سيرين قال - « لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا - سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم».
وفي رواية للترمذي في العلل = عن ابن سيرين قال = «كان في الزمان الأول لا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة سألوا عن الإسناد، لكي يأخذوا حديث أهل السنة، ويدعوا حديث أهل البدع».
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة يقول = "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - «يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم»". فالسنة التي جاءت في كلامه بمعنى الطريقة المسلوكة في الدين التي كان عليها الخلفاء الراشدون والأئمة من الصحابة ومن تبعهم بإحسان في الهدى والعلم والعمل والاعتقاد،
وأهل السنة هم أهل العلم في الدين رواية ودراية، فالرواية نقل نصوص القرآن والحديث وأقوال الأئمة، والدرية العلم في الدين، فأهل السنة يراد بهم أهل العلم المشتمل على الرواية والدراية معا،
وقد ذكر ابن سيرين أهل السنة في مقابل أهل البدعة، وأهل السنة كانوا في حينها يفسرون أهل البدعة بأنه يشمل جميع أهل الزيغ والأهواء الذين ابتدعوا في الدين ما ليس منه مما لا أصل له في الشريعة، كالخوارج والقدرية وغيرهم من الفرق التي ظهرت في العصور السابقة، فإنهم تكلموا في الدين بأهوائهم، روى البخاري في صحيحه تعليقا في وصف الخوارج ما نصه: «وكان ابن عمر يراهم شرار خلق الله وقال = إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين».
من المهم جدا معرفة الألفاظ المستعملة عند أئمة السلف، ففي عبارة ابن سيرين عند قوله = «حديث أهل السنة» تفيد أن رواية الحديث لم تكن مقصورة على أهل السنة، بل إن من وصفهم بالبدعة كذلك يروون الحديث، وأن الحديث جزء من تعريف أهل السنة، إذ المراد بهم أهل العلم الشرعي، وهو ما دلت عليه نصوص أئمة السلف من أنهم لا يقصدون بأهل السنة رواة الحديث، بل يقصدون بذلك أهل العلم المشتمل على رواية الحديث.
كان أئمة الصحابة والتابعين لهم ومن تبعهم بإحسان مرجعا للمسلمين بعد عصر النبوة في أمور الدين، من حيث أنهم نقلوا الدين وعلم الشريعة بعمومه، فلا يقتصر علمهم على النقل فقط بل يشمل كل ما نقلوه وتعلموه وما اختصوا به من المعرفة بتفسير الدين وفهم الشريعة واستنباط الأحكام الفقهية لما لديهم من أهلية الاجتهاد ومعرفة الناسخ والمنسوخ وغير ذلك ولكونهم أعلم من غيرهم بالشريعة، وقد جاء عن أئمة أهل السنة في عصر السلف أنهم كانوا يسمون هؤلاء الأئمة بـ أهل السنة أي = أصحاب الطريقة المسلوكة في الدين التي كانوا عليها من الهدى والعلم والعمل والاعتقاد، وهذه الطريقة عندهم قائمة على اتباع منهاج النبوة من حيث أنهم نقلوا علم الدين وفهموه واستنبطوا منه، والصحابة لم يكونوا كلهم أهل فتيا، بل كان مختصا بعلماء الشريعة منهم الذين تخصصوا منذ عصر النبوة للعلم في الدين،
وكان يطلق عليهم في صدر الإسلام لقب = القراء أي = المتعلمين، وكان المتعلم منهم يقال له قارئ، وبعد انتشار التعليم أصبح يطلق عليهم: الفقهاء أي = أئمة الدين وعلماء الشريعة،
وبحسب ما ذكر ابن خلدون أن لقب القراء كان يطلق في صدر الإسلام على المختصين بعلم الشريعة، وبعد توسع التعليم وتمكن الاستنباط الفقهي عند الأئمة المجتهدين حيث أصبح الفقه صناعة وعلما بدلوا لقب = القراء باسم = الفقهاء والعلماء.
وانتقل فقه الأئمة المجتهدين من الصحابة والتابعين إلى الأئمة المجتهدين من بعدهم، وصار الفقيه لقبا لأئمة المذاهب الفقهية،
ثم اشتهر من ذلك طريقتان للمنهج الفقهي حسب ما ذكر ابن خلدون هما = منهج فقهاء أهل الرأي والقياس في العراق ومقدم جماعتهم الذي استقر المذهب فيه وفي أصحابه أبو حنيفة، ومنهج فقهاء أهل الحديث في الحجاز وإمامهم مالك بن أنس والشافعي من بعده. ثم إن الإمام الشافعي وضع علم أصول الفقه في كتابه: الرسالة وجمع بين الطريقتين، والفرق بينهما أن طريقة أهل الرأي توسعوا في القياس أكثر، وهاتان الطريقتان هما اللتان اشتهرتا بعد ذلك عند فقهاء أهل السنة، باعتبار أنه منهج فقهي.
بعد تمايز الفرق التي ظهرت في تاريخ الإسلام وكشف مقولاتها في عصر المتقدمين جمع العلماء مخالفات هذه الفرق وبينوا مسمياتهم ومقولاتهم، وحصروا عدد تلك الفرق ودونوا تواريخها وجمعوها في كتب الفرق، وذكر في كتاب الفرق بين الفرق أن أهل السنة والجماعة هم الفرقة الثالثة والسبعون من فريقي الرأي والحديث، وكان منهم أئمة القراء والمحدثون والفقهاء وأهل النظر، وكلهم متفقون على قول واحد في أصول الدين، وأئمتهم المتقدمون قد اتفقوا على هذه الأصول وبينوها ودونوها وأخذها عنهم المتأخرون، واختلاف الأئمة المجتهدين في فروع الأحكام لا يدخل في هذا التفرق بالاتفاق، ولا يلحق بسببه تفسيق ولا تبديع ولا تكفير، وبحسب ما جاء في كلامه أن هذه التسمية كانت تطلق على أهل السنة والجماعة تمييزا لهم عن الخوارج والمعتزلة والمجسمة وفرق التشيع وغيرها من الفرق المخالفة لهم في أصول الدين.
: مفهوم كلمة السنة :
التعريف اللغوي
السُنَّة في اللغة الطريقة المسلوكة والمثال المتبع الذي يقتدى به والسيرة المتبعة، والعادة المستمرة الدائمة، وعرفها ابن جرير الطبري بمعنى «المثال المتبع والإمام المؤتم به».
وسَنَّة الله : أحكامه وأمره ونهيه، وسننها الله للناس : بينها.
وسن الله سنة أي : بين طريقا قويما، والسُنَّة أيضا بمعنى : السيرة، حسنة كانت أو قبيحة، ويقال : سننتها سننَّا،
وسننتها بمعنى : سرتها، وسنة الأولين سيرتهم، [color=#99336ويقال[/color]: سننت لكم سنة فاتبعوها أي: سيروا عليها، وفي الحديث: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها ومن سن سنة سيئة..» يريد من عملها ليقتدى به فيها، وكل من ابتدأ أمرا عمل به قوم بعده، قيل: هو الذي سنه،
وقد تكرر في الحديث ذكر كلمة: «السُنَّة» وما تصرف منها، والأصل فيه أنها بمعنى: الطريقة والسيرة، وقال ابن منظور: «وإذا أطلقت في الشرع فإنما يراد بها ما أمر به النبي صل الله عليه وسلم، ونهى عنه وندب إليه قولا وفعلا مما لم ينطق به الكتاب العزيز؛
ولهذا يقال: في أدلة الشرع: الكتاب والسنة أي: القرآن والحديث».
ومما يدل على هذا حديث: «إنما أنسى لأسن» أي: إنما أدفع إلى النسيان لأسوق الناس بالهداية إلى الطريق المستقيم، وأبين لهم ما يحتاجون أن يفعلوا إذا عرض لهم النسيان،
قال: ويجوز أن يكون من سننت الإبل إذا أحسنت رعيتها والقيام عليها،
وفي الحديث: «أنه نزل المحصب ولم يسنه» أي: لم يجعله سنة يعمل بها.
قال في التهذيب: السنة الطريقة المحمودة المستقيمة، ولذلك قيل: فلان من أهل السنة، معناه: من أهل الطريقة المستقيمة المحمودة، وهي مأخوذة من السنن وهو الطريق. قال أبو عبيد: «سنن الطريق وسننه محجته، وتنح عن سنن الجبل أي عن وجهه، وقال الجوهري: السنن الطريقة يقال: استقام فلان على سنن واحد».
قال الآمدي: السنة في اللغة: الطريقة، فسنة كل أحد ما عهدت منه المحافظة عليه والإكثار منه، سواء كان ذلك من الأمور الحميدة أو غيرها.
قال في شرح الكوكب المنير: «ومنه قوله صل الله عليه وسلم: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها..» الحديث».
وتسمى بها أيضا: العادة والسيرة، قال في البدر المنير: «السنة السيرة حميدة كانت أو ذميمة»،
وقال في القاموس:« السنة السيرة، ومن الله تعالى حكمه وأمره ونهيه».
بالمعنى الشرعي
تستعمل كلمة: «السُنَّة» وما تصرف منها بالمعنى الشرعي لمعان متعددة عند علماء الشريعة الإسلامية على اختلاف مجالات العلوم الشرعية بحسب المقصود منها في كل علم،
قال الشافعي: «إطلاق السنة يتناول سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم».
فتطلق السُنَّة عند علماء الفقه على: «ما كان من العبادات نافلة منقولة عن النبي عليه السلام»، وتطلق تارة على المندوب أو المستحب الذي يقابل الفرض وغيره من الأحكام الخمسة.
السنة عند المحدثين هي: «ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خُلقية سواء كان قبل البعثة أو بعدها».
فهو بمعنى: نقل ورواية ما أثر من الأقوال والأفعال والإقرار والرواية حقيقة أو حكما، ويشمل سيرته وصفاته الخلقية والخلقية وحركاته وسكناته في اليقظة وفي المنام قبل البعثة وبعدها.
السنة عند علماء أصول الفقه هي: «قول النبي صل الله عليه وسلم وفعله وإقراره»،
قال تقي الدين الفتوحي في تعريف السنة في اصطلاح علماء أصول الفقه هي: «قول النبي صل الله عليه وسلم غير الوحي أي: غير القرآن». أو: «ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من الأدلة الشرعية مما ليس بمتلو، ولا هو معجز ولا داخل في المعجز»، وهذا النوع هو المقصود بالبيان في علم أصول الفقه.
قال سيف الدين الآمدي: «ويدخل في ذلك أقوال النبي عليه السلام، وأفعاله وتقاريره». والأقوال تشمل الأمر والنهي والتخيير والخبر وجهات دلالتها ضمن الأدلة المنقولة الشرعية.
قال تقي الدين الفتوحي: «السنة شرعا واصطلاحا: «قول النبي صل الله عليه وسلم وفعله وإقراره على الشيء»، يقال أو يفعل، فإذا سمع النبي صل الله عليه وسلم إنسانا يقول شيئا، أو رآه يفعل شيئا فأقره عليه فهو من السنة قطعا»، وقال أيضا: «والمراد من أقوال النبي صل الله عليه وسلم وأفعاله: ما لم يكن على وجه الإعجاز».
وتطلق السنة عند علماء العقيدة على «هدي النبي صلي الله عليه وسلم في أصول الدين وما كان عليه من العلم والعمل والهدي».
وتطلق السنة في العرف الشرعي العام على كل ما هو منقول من السنة النبوية أو عن الصحابة والتابعين،
قال تقي الدين الفتوحي: «واحترز بقوله: «اصطلاحا» من السنة في العرف الشرعي العام، فإنها تطلق على ما هو أعم من المنقول عن النبي صل الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين؛ لأنها في اصطلاح علماء الأصول: «قول النبي صل الله عليه وسلم غير الوحي أي: غير القرآن».
تستعمل كلمة: «السنة» في العرف الشرعي العام بمعنى الطريقة، قال ابن حجر: «قوله ‹هذه السنة›: أشار إلى طريقة النبي صلالله عليه وسلم إشارة نوعية لا شخصية».
وهذا تعريف للسنة بمعناها الأعم الذي لا يقتصر على الحديث النبوي، فهو بمعنى: الطريقة النبوية والهدي النبوي بعمومه، وما يدخل ضمن ذلك من سنة الخلفاء الراشدين والأئمة المجتهدين.
وقد تستعمل في العرف الشرعي العام بمعنى الدين كله باعتبار أنه مبلغ الدين عن الله وكل ما جاء بطريق الوحي لا يعلم إلا من جهته، فسنته هديه وطريقته وسبيله إلى الله وهي دعوته التي دعي إليها والطريقة التي كان عليها من الدعاء إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأوثان، والانتهاء إلى طاعته وترك معصيته.
والسنة عند أئمة السلف الصالح هي العلم في الدين، قال ابن حجر العسقلاني: قال الأوزاعي: «العلم ما جاء عن أصحاب رسول الله صل الله عليه وسلم وما لم يجئ عنهم فليس بعلم».
وأخرج أبو عبيد ويعقوب بن شيبة عن ابن مسعود قال: «لا يزال الناس مشتملين بخير ما أتاهم العلم من أصحاب محمد صل الله عليه وسلم وأكابرهم، فإذا أتاهم العلم من قبل أصاغرهم وتفرقت أهواؤهم هلكوا».
وقال أبو عبيدة معناه أن كل ما جاء عن الصحابة وكبار التابعين لهم بإحسان هو العلم الموروث، وما أحدثه من جاء بعدهم هو المذموم،
وكان السلف يفرقون بين العلم والرأي فيقولون للسنة علم ولما عداها رأي. وعن أحمد: «يؤخذ العلم عن النبي صل الله عليه وسلم ثم عن الصحابة، فإن لم يكن فهو في التابعين مخير». وعنه: «ما جاء عن الخلفاء الراشدين فهو من السنة وما جاء عن غيرهم من الصحابة ممن قال إنه سنة لم أدفعه».
وعن ابن المبارك: «ليكن المعتمد عليه الأثر وخذوا من الرأي ما يفسر لكم الخبر».
قال ابن حجر: «والحاصل أن الرأي إن كان مستندا للنقل من الكتاب أو السنة فهو محمود وإن تجرد عن علم فهو مذموم، وعليه يدل حديث عبد الله بن عمرو المذكور، فإنه ذكر بعد فقد العلم أن الجهال يفتون برأيهم».
------------------------------------------------------------------------------------
وما زلنا أحبابنا تابعونا جزاكم الله خيرا
-
التالي :
: السنة المأمور باتباعها :
عدل سابقا من قبل صادق النور في الثلاثاء سبتمبر 26, 2023 3:01 pm عدل 1 مرات
أمس في 4:11 pm من طرف عبدالله الآحد
» أَسْرارُ اَلْمُسَبَّحَةِ اَوْ السُّبْحَةِ وَأَنْواعُها وَأَعْدادُها - - ( ( اَلْجُزْءُ الثَّانِي ))
أمس في 3:05 pm من طرف صادق النور
» الرياء شرك أصغر إن كان يسيرا
الخميس أبريل 25, 2024 4:39 pm من طرف عبدالله الآحد
» لم يصح تأويل صفة من صفات الله عن أحد من السلف
الأربعاء أبريل 24, 2024 5:12 pm من طرف عبدالله الآحد
» إثبات رؤية الله للمؤمنين في الجنة
الثلاثاء أبريل 23, 2024 7:24 am من طرف عبدالله الآحد
» الرد على من زعم أن أهل السنة وافقوا اليهود
الثلاثاء أبريل 23, 2024 5:40 am من طرف عبدالله الآحد
» طائِفُهُ الصَّفْوِيِّينَ - - اَلْدوَلهُ الصِّفْوِيهُ
الإثنين أبريل 22, 2024 11:18 am من طرف صادق النور
» حكم الرقى والتمائم
الأحد أبريل 21, 2024 7:19 am من طرف عبدالله الآحد
» كثرة الأشاعرة ليست دليلا على أنهم على حق في كل شيء
السبت أبريل 20, 2024 5:13 pm من طرف عبدالله الآحد
» حقيقة الإسلام العلماني
السبت أبريل 20, 2024 8:37 am من طرف صادق النور