آل راشد



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

آل راشد

آل راشد

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
آل راشد

ثقافى-اجتماعى

*** - اللَّهُمَّ اَنَكَ عَفْوٍ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعِفُو عَنَّا - *** - اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك . *** - اللَّهُمَّ اُرْزُقْنَا تَوْبَةً نَصُوحًا قَبْلَ الْمَوْتِ وَ ارْزُقْنَا حُسْنَ الْخَاتِمَةِ . *** -

إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا شَابَتْ عَبِيدَهُمْ.. .. فِي رِقِّهِمْ عَتَقُوهُمْ عِتْقَ أَبْرَارٍ .. .. وَأَنْتَ يَا خَالِقِيُّ أوْلَى بِذَا كَرَمًا.. .. قَدْ شُبْتُ فِي الرِّقِّ فَأَعْتَقَنِي مِنَ النَّارِ .

المواضيع الأخيرة

» عقيدة السلف الصالح للشيخ المحدث محمد الطيب بن إسحاق الأنصاري المدني
ألأخلاق في  ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني Ooou110اليوم في 4:19 pm من طرف عبدالله الآحد

» أَسْرارُ اَلْمُسَبَّحَةِ اَوْ السُّبْحَةِ وَأَنْواعُها وَأَعْدادُها - - ( ( الجُزْءُ أَلْأَولٌ ) )
ألأخلاق في  ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني Ooou110أمس في 6:20 pm من طرف صادق النور

» عظمة الله سبحانه وتعالى والتحذير من الاستهزاء بالله والعياذ بالله
ألأخلاق في  ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني Ooou110أمس في 5:54 pm من طرف عبدالله الآحد

» أَسْرارُ اَلْمُسَبَّحَةِ اَوْ السُّبْحَةِ وَأَنْواعُها وَأَعْدادُها - - ( ( اَلْجُزْءُ الثَّانِي ))
ألأخلاق في  ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني Ooou110أمس في 8:06 am من طرف صادق النور

» أقسام صفات الله
ألأخلاق في  ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني Ooou110السبت أبريل 27, 2024 8:52 pm من طرف عبدالله الآحد

» اثبات أن الله يتكلم بالصوت والحرف وأن القرآن كلامه حقيقة
ألأخلاق في  ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني Ooou110الجمعة أبريل 26, 2024 4:11 pm من طرف عبدالله الآحد

» الرياء شرك أصغر إن كان يسيرا
ألأخلاق في  ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني Ooou110الخميس أبريل 25, 2024 4:39 pm من طرف عبدالله الآحد

» لم يصح تأويل صفة من صفات الله عن أحد من السلف
ألأخلاق في  ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني Ooou110الأربعاء أبريل 24, 2024 5:12 pm من طرف عبدالله الآحد

» إثبات رؤية الله للمؤمنين في الجنة
ألأخلاق في  ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني Ooou110الثلاثاء أبريل 23, 2024 7:24 am من طرف عبدالله الآحد

» الرد على من زعم أن أهل السنة وافقوا اليهود
ألأخلاق في  ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني Ooou110الثلاثاء أبريل 23, 2024 5:40 am من طرف عبدالله الآحد

اهلا بكم

الثلاثاء نوفمبر 08, 2011 2:32 am من طرف mohamed yousef

ألأخلاق في  ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني Ooousu10

المتواجدون الآن ؟

ككل هناك 40 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 40 زائر :: 1 روبوت الفهرسة في محركات البحث

لا أحد


أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 624 بتاريخ الأربعاء سبتمبر 15, 2021 4:26 am

احصائيات

أعضاؤنا قدموا 9635 مساهمة في هذا المنتدى في 3193 موضوع

هذا المنتدى يتوفر على 286 عُضو.

آخر عُضو مُسجل هو عبدالرحمن فمرحباً به.

دخول

لقد نسيت كلمة السر

أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى

أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع


    ألأخلاق في ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    ألأخلاق في  ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني Empty ألأخلاق في ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف صادق النور الإثنين يونيو 13, 2022 11:53 pm


    ألأخلاق في ألإسلام .. ألأخلاق المحموده (( الجزء الثاني  ))
    وما زلنا أحبابي نرتع في موسوعة ألأخلاق المحموده ونرجوكم أحبابنا المتابعه من الجزء ألأول حتي تتم الفائده
    ::::::::::
    ومن ألأخلاق المحموده

    التَّودُّد
    معنى التَّودُّد لغةً:
    التَّودُّد من الوُدِّ، والوُدُّ: مصدر الموَدَّة: الوُدُّ: الحُبُّ يكون في جميع مداخل الخير، والتواد التحاب.
    وتودَّدَ إليه: تَحَبَّبَ. وتَوَدَّدَه: اجْتَلَبَ وُدَّه
    معنى التَّودُّد اصطلاحًا:
    التَّودُّد هو: (طلب مَوَدَّة الأكفاء بما يوجب ذلك)
    وقال ابن حجر: (هو تقرُّب شخصٍ من آخر بما يحب)
    وقال ابن أبي جمرة: (التَّوَادُد: التَّواصل الجالب للمحبَّة)

    الفرق بين التودد وبعض الصفات
    فرق بين التَّوَاد والتَّعاطف والتَّراحم:
    قال ابن أبي جمرة: (الذي يظهر أنَّ التَّراحم والتَّوادُد والتَّعاطف، وإن كانت متقاربة في المعنى، لكن بينها فرق لطيف، فأمَّا التَّراحم، فالمراد به: أن يرحم بعضهم بعضًا بأخوة الإيمان، لا بسبب شيء آخر.
    وأما التَّوادُد، فالمراد به: التَّواصل الجالب للمحبَّة، كالتَّزاور والتَّهادي.
    وأما التَّعاطف، فالمراد به: إعانة بعضهم بعضًا، كما يعطف الثَّوب عليه ليقوِّيه)
    - الفرق بين الحبِّ والوُدِّ:
    الحب يكون فيما يوجبه ميل الطباع والحِكْمَة جميعًا، والوُدُّ ميل الطِّباع فقط؛ ألا ترى أنَّك تقول: أحبُّ فلانًا وأودُّه،
    وتقول: أحبُّ الصَّلاة، ولا تقول: أودُّ الصَّلاة. وتقول: أودُّ أنَّ ذاك كان لي، إذا تمنيت وِدَادَه

    أولًا: التَّرغيب في التَّودُّد في القرآن الكريم

    - قال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: 34]

    قيل لابن عقيل: أسمع وصية الله عزَّ وجلَّ يقول: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وأسمع النَّاس يعدُّون من يُظهر خلاف ما يبطن منافقًا، فكيف لي بطاعة الله تعالى، والتَّخلُّص من النِّفاق؟
    فقال: النِّفاق هو: إظهار الجميل وإبطان القبيح، وإضمار الشَّر مع إظهار الخير لإيقاع الشَّر. والذي تضمنته الآية: إظهار الحسن في مقابلة القبيح لاستدعاء الحسن
    - وقال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21]
    وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا يعني: المرأة هي من الرَّجل، لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا أي: تستأنسوا بها، وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً محبَّة، وَرَحْمَةً يعني: الولد
    وقال الطبري: وقوله: وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً يقول: جعل بينكم بالمصاهرة والخُتُونة، مَوَدَّة تتوادُّون بها، وتتواصلون من أجلها، وَرَحْمَةً رحمكم بها، فعطف بعضكم بذلك على بعض إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ

    - وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم: 96]

    عن مجاهد، في قوله: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا، قال: (يحبُّهم ويحبِّبُهم إلى المؤمنين)

    ثانيًا: التَّرغيب في التَّودُّد في الالنَّبويَّة سُّنَّة

    - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بمن يحرم على النَّار، وبمن تحرم النَّار عليه؟ على كلِّ هيِّن ليِّن قريب سهل ))
    قال القاري: (... ((قريب)) أي: من النَّاس بمجالستهم في محافل الطَّاعة، وملاطفتهم قدر الطَّاعة. ((سهل)) أي: في قضاء حوائجهم، أو معناه: أنه سمح القضاء، سمح الاقتضاء، سمح البيع، سمح الشِّراء)
    وقال الصديقي: (... ((تحرم على كلِّ قريب)) أي: من النَّاس بحسن ملاطفته لهم، ((هيِّن ليِّن)) قال في ((النِّهاية)): ((المسلمون هَيْنُونَ لَيْنُون))، وهما بالتَّخفيف، قال ابن الأعرابي: العرب تمدح بِالْهَيْنِ اللَّيْن، مخفَّفيْن، وتذم بهما مُثَقَّلَيْن، وهيِّن: أي بالتَّشديد، فيعل من الهون، وهو السَّكينة والوقار والسُّهولة، فَعَيْنُه (واو)، وشيءٌ هَيْنٌ وهَيِّنٌ، أي: سَهْلٌ. ((سهل)) أي: يقضي حوائجهم ويسهل أمورهم)
    - وعن النُّعمان بن بَشير رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمَّى ))
    ففي هذا الحديث: تعظيم حقوق المسلمين، والحضُّ على تعاونهم، وملاطفة بعضهم بعضًا
    - وعن معقل بن يسار رضي الله عنه، قال: ((جاء رجل إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنِّي أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد، أفأتزوجها؟ قال: لا. ثم أتاه الثَّانية فنهاه، ثم أتاه الثَّالثة، فقال: تزوَّجوا الوَدُود الولود؛ فإنِّي مكاثر بكم الأمم ))
    الوَلُود: كثيرة الولد، والوَدُود: الموْدُودَة، لما هي عليه من حسن الخلق، والتَّوَدُّد إلى الزَّوج

    - وعن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله! إنَّ لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأَحْلُم عنهم ويجهلون علي، فقال: لئن كنت كما قلت، فكأنَّما تُسِفُّهم الملَّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك ))
    فأيَّده النَّبي صلى الله عليه وسلم على تودُّدِه إليهم، وإن لم يجد منهم مقابلًا لما يقوم به، إلَّا الإساءة إليه.
    - وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ((أنَّ رجلًا من الأعراب لقيه بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله. وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه، فقيل له: أصلحك الله! إنَّهم الأعراب، وإنَّهم يرضون باليسير. فقال عبد الله: إنَّ أبا هذا كان وُدًّا لعمر بن الخطَّاب، وإنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنَّ أبَرَّ البِرِّ: صِلَة الولد أهل وُدِّ أبيه ))
    قال النَّووي: (... ((إنَّ أبا هذا كان وُدًّا لعمر)) قال القاضي: رويناه بضم الواو وكسرها، أي: صديقًا من أهل مَوَدَّته، وهي محبَّته. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ أبَرَّ البِرِّ: صِلَة الولد أهل وُدِّ أبيه))، وفي رواية: ((إنَّ من أبَرِّ البِرِّ صِلَة الرَّجل أهل وُدِّ أبيه بعد أنْ يُوَلِّيَ))، الوُدُّ هنا مضموم الواو، وفي هذا فضل صِلَة أصدقاء الأب، والإحسان إليهم وإكرامهم، وهو متضمِّن لبِرِّ الأب وإكرامه؛ لكونه بسببه. وتلتحق به أصدقاء الأم والأجداد والمشايخ، والزَّوج والزَّوجة)

    أقوال السَّلف والعلماء في التَّودُّد

    - قال الحسن: (التَّقدير نصف الكسب، والتَّودُّد نصف العقل، وحسن طلب الحاجة نصف العلم)
    - وسئل الحسن عن حسن الخلق، فقال: (الكرم، والبذلة، والتَّودُّد إلى النَّاس)
    - وعن ميمون بن مهران قال: (المروءة: طلاقة الوجه، والتَّودُّد إلى النَّاس، وقضاء الحوائج)
    - وقال أبو حاتم: (الواجب على العاقل أنْ يتحبَّب إلى النَّاس بلزوم حسن الخلق، وترك سوء الخلق؛ لأنَّ الخلق الحسن يذيب الخطايا كما تذيب الشَّمس الجليد، وإن الخلق السَّيئ ليفسد العمل كما يفسد الخلُّ العسل، وقد تكون في الرَّجل أخلاق كثيرة صالحة كلُّها، وخلق سيئ، فيفسد الخلق السَّيئ الأخلاق الصَّالحة كلَّها)

    فوائد التَّودُّد إلى النَّاس:

    1- التَّودُّد طريق موصل للحبِّ والألفة، مما يقوي روابط التَّقارب بين الأفراد، ويزيد اللُّحمة بينهم.
    2- التَّودُّد وتقوية العلاقات بين النَّاس، أساس لبناء مجتمع قوي مبني على الولاء، والتَّناصر والتَّعاضد والتَّعاون.
    3- التَّودُّد يعكس الجمال الرُّوحي، والجانب الأخلاقي الفاضل الذي جاء الإسلام لتكميله وتعزيزه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّما بعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق ))
    4- التَّودُّد للنَّاس، وكسب محبتهم وثقتهم مدعاة لتقبل ما يطرح عليهم من أفكار أو ما يُدعون إليه بجهد أقل وبسهولة ويسر، ففرق بين التَّقبل من البشوش اللَّين المحبوب، ومن القاسي العابس الممقوت.
    5- التَّودُّد والتَّحبُّب إلى الخلق وسيلة لكسب قلوبهم، وكسب القلوب مدعاة للثَّناء وحسن الذِّكر.
    6- من فوائد التَّودُّد التَّراحم بين المسلمين، والتَّراحم موجب لرحمة الله سبحانه وتعالى لمن اتَّصف بهذه الصِّفة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الرَّاحمون يرحمهم الرَّحمن ))
    7- التَّودُّد سبيل إلى زوال الخصومات والأحقاد، ويؤدِّي إلى تصفية القلوب، ونقائها من هذه الأدران النَّفسية، من الحسد والكره والتَّباغض.
    أنواع التَّودُّد إلى النَّاس

    التودد نوعان:
    1- تودد محمود: وهو ما كان ناشئًا من محبة معتدلة لأهل الخير والصلاح.
    2- تودد مذموم: وهو التودد إلى الكفار والظالمين وفسقة الناس.

    موانع اكتساب التَّودُّد إلى النَّاس:

    1- الكبر والخيلاء فهما من الصِّفات المنافية للتَّودُّد.
    2- العبوس في وجوه النَّاس، فهو مانع لكسب وُدِّهم.
    3- الغلظة في الكلام، وفظاظة العبارات، وفحش الألفاظ.
    4- الشُّحُّ والبخل، مدعاة لمقت صاحبها، وتتنافى مع التَّودُّد للخَلْق.
    5- غلظة الطَّبع، والشِّدة في التَّعامل.
    6- الجفاء وترك التَّواصل بين النَّاس مع بعضهم، فهو سبب يحول دون استدامة الوُدِّ، وازدياده في القلوب.
    7- الخصومات والنزاعات، وكثرة الخلاف.

    وسائل معينة على التَّودُّد إلى النَّاس

    وسائل التَّودُّد إلى الخلق كثيرة جدًّا، وتختلف باختلاف الأشخاص والأوقات والأحوال، ولكن نعدد بعضًا من أهم هذه الوسائل، فمنها:
    1- حسن الخلق مع البشْر فهو مفتاح قلوبهم، والباعث على مَوَدَّة صاحبه، وممهد له في قلوب النَّاس مكانًا.
    قال أبو حاتم: (حسن الخلق بَذْر اكتساب المحبَّة، كما أنَّ سوء الخلق بَذْر استجلاب البغْضَة. ومن حَسُن خلقه صان عرضه، ومن ساء خلقه هتك عرضه؛ لأنَّ سوء الخلق يورث الضَّغائن، والضَّغائن إذا تمكَّنت في القلوب أورثت العداوة، والعداوة إذا ظهرت من غير صاحب الدِّين، أهوت صاحبها إلى النَّار، إلا أن يتداركه المولى بتفضُّلٍ منه وعفو)
    2- التَّغافل عن الزلَّات، وعدم التَّوقف عند كلِّ خطأ أو كبوة يقع فيها الرَّفيق.
    قال بعض الحكماء: (وجدت أكثر أمور الدُّنيا لا تجوز إلا بالتَّغافل)
    3- البشَاشَة وطلاقة الوجه، والتَّبسُّم في وجوه النَّاس، مما يقذف الوُدَّ في قلوب البَشَر لصاحبها.
    4- الرِّفق ولين الجانب، والأخذ باليُسر والسُّهولة في معاملة النَّاس.
    5- التَّواضع، وخفض الجناح، وعدم التَّعالي والتَّكبر عليهم.
    قال أبو حاتم: (ولكن من أسباب المؤاخاة التي يجب على المرء لزومها: مشي القصد، وخفض الصوت، وقلَّة الإعجاب، ولزوم التَّواضع، وترك الخلاف)
    6- عدم إكثار المؤونات والتَّثقيل عليهم، فالبَشَر مجبولون على كراهية من يكلِّفهم المؤونة، ويشق أو يثقل عليهم.
    قال أبو حاتم: (ولا يجب للمرء أن يكثر على إخوانه المؤونات، فيبرمهم؛ لأنَّ المرضع إذا كثر مصُّه، ربَّما ضجرت أمه فتلقيه)
    وقال أكثم بن صيفي: (تباعدوا في الدِّيار، تقاربوا في الموَدَّة)
    7- تفريج كرب الإخوان، والوقوف إلى جانبهم في الملمَّات والأحزان، ومواساتهم والإحسان لهم.
    فعن سليمان مولى عبد الصَّمد بن علي: أنَّ المنصور -أمير المؤمنين- قال لابنه المهدي: (اعلم أنَّ رضاء النَّاس غاية لا تُدرك، فتحبَّبْ إليهم بالإحسان جهدك، وتودَّد إليهم بالإفضال، واقصد بإفضالك موضع الحاجة منهم)
    8- الزِّيارة والتَّواصل، والسُّؤال عن الإخوان، وتجنُّب الجفاء بين المتودِّد وبين من يطلب وُدَّه.
    قال أديب: (الموَدَّة روح، والزِّيارة شخصها)
    وقال أبو حاتم: (العاقل يتفقَّد ترك الجفاء مع الإخوان، ويراعي محوها إن بدت منه، ولا يجب أن يستضعف الجفوة اليسيرة؛ لأنَّ من استصغر الصغير يوشك أن يجمع إليه صغيرًا، فإذا الصغير كبير، بل يبلغ مجهوده في محوها؛ لأنه لا خير في الصِّدق إلا مع الوفاء، كما لا خير في الفقه إلا مع الورع، وإنَّ من أخرق الخرق التماس المرء الإخوان بغير وفاء، وطلب الأجر بالرياء، ولا شيء أضيع من مَوَدَّة تُمنح من لا وفاء له)
    9- عدم مقابلة الإساءة منهم بالمثْل، بل من أراد التَّودُّد للبَشَر فليعف وليصفح، وليقابل الإساءة بنقيضها.
    قال السلمي: (وقابل القطيعة بالصِلَة، والإساءة بالإحسان، والظلم بالصَّبر والغفران)، فعن عقبة بن عامر قال: ((لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: يا عقبة بن عامر! صِل من قطعك، وأعط من حرمك، واعف عمن ظلمك))
    10- إدخال السُّرور في قلوب النَّاس، والانبساط معهم والمزاح.
    قال الماوردي: (العاقل يتوخَّى بمزاحه أحد حالين، لا ثالث لهما: أحدهما: إيناس المصاحبين، والتَّودُّد إلى المخالطين، كما قال حكيم لابنه: يا بني اقتصد في مزاحك؛ فإنَّ الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجرِّئ السُّفهاء، والتَّقصير فيه نقص بالمؤانسين، وتوحش بالمخاطبين. والثَّاني: أن ينفي من المزاح ما طرأ عليه، وحدث به من هم)
    11- أن يوقر المشايخ ويرحم الصِّبيان، وفي الحديث قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس منَّا من لم يرحم صغيرنا، ويوقِّر كبيرنا ))
    12- أن يبدأ من يلقى بالسَّلام قبل الكلام.
    قال صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنَّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، أَوَلَا أدلكم على عمل إذا عملتموه تحاببتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: أفشوا السَّلام بينكم ))
    13- الكلمة الطَّيبة، فهي تقود القلوب إلى محبَّة صاحبها.
    فقد قال بعضهم ناصحًا: (ولا تمتنع أن تتكلم بما يطيِّب قلوب العامَّة؛ فإنَّ النَّاس ينقادون للكلام أكثر من انقيادهم بالبطش)
    14- الهديَّة، وهي وسيلة ذات أثر كبير على القلوب، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تهادوا تحابوا))

    نماذج من حياة النَّبي صلى الله عليه وسلم في التَّودُّد

    كان هذا الخُلَق واقعًا ملموسًا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتوَدَّد إلى أصحابه، ومن هم حوله، فمن ذلك:
    - ما روته عائشة رضي الله عنها، من أنَّ رجلًا استأذن على النَّبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: ((بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة. فلما جلس تطلَّق النَّبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرَّجل. قالت له عائشة: يا رسول الله! حين رأيت الرَّجل، قلت له كذا وكذا، ثم تطلَّقت في وجهه، وانبسطت إليه. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة، متى عهدتني فحاشًا؟ إنَّ شر النَّاس عند الله منزلة يوم القيامة، من تركه النَّاس اتقاء شرِّه ))
    قال ابن الجوزي: (هذا إنَّما فعله رسول الله على وجه المداراة، فسَنَّ ذلك لأمَّته، فيجوز أن يُستعمل مثل هذا في حق الشِّرِّير والظَّالم)
    وقال ابن بطال: (المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للنَّاس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة وسلِّ السَّخيمة)
    - ومن ذلك توَدُّده صلى الله عليه وسلم لمن حوله، بتبسُّمه في وجوه أصحابه، ودعائه لهم، فعن جرير رضي الله عنه، قال: ((ما حجبني النَّبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسَّم في وجهي، ولقد شكوت إليه أنِّي لا أثبت على الخيل، فضرب بيده في صدري، وقال: اللهمَّ ثبِّته، واجعله هاديًا مهديًّا ))
    - ومِنْ توَدُّده صلى الله عليه وسلم أنَّه ((كان يمرُّ بالصِّبيان فيسلم عليهم ))
    - وكان ((إذا لقيه أحد من أصحابه، قام معه فلم ينصرف حتى يكون الرَّجل هو الذي ينصرف عنه، وإذا لقيه أحد من أصحابه فتناول يده، ناوله إياها فلم ينزع يده منه حتى يكون الرَّجل هو الذي ينزع يده منه، وإذا لقي أحدًا من أصحابه فتناول أذنه، ناوله إياها ثم لم ينزعها حتى يكون الرَّجل هو الذي ينزعها عنه ))
    - ومِنْ توَدُّده صلى الله عليه وسلم لأصحابه أنَّه: ((كان يأتي ضعفاء المسلمين، ويزورهم ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم))

    نماذج من حياة الصَّحابة رضي الله عنهم في التَّودُّد

    - عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه قال: ((كانت بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما محاورة، فأغضب أبو بكر عمر، فانصرف عنه عمر مغضبًا، فاتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له، فلم يفعل، حتى أغلق بابه في وجهه. فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو الدَّرداء: ونحن عنده، وفي رواية: أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه، حتى أبدى عن ركبته،
    فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: أما صاحبكم فقد غامر. فسلَّم وقال: يا رسول الله! إنِّي كان بيني وبين ابن الخطَّاب شيء، فأسرعت إليه ثمَّ ندمت، فسألته أن يغفر لي، فأبى علي، فأقبلت إليك. فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر (ثلاثًا)، ثمَّ إنَّ عمر ندم على ما كان منه، فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أثمَّ أبا بكر؟ فقالوا: لا. فأتى إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، فجعل وجه النَّبي صلى الله عليه وسلم يتمعَّر؛ حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه، وقال: يا رسول الله! والله أنا كنت أظلم (مرتين). فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت. وقال أبو بكر: صدقت. وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ (مرتين)، فما أوذي بعدها ))
    ففي الحديث، السعي إلى استجلاب الوُدِّ من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وطلبه لإزالة الشَّحناء من قلب عمر تجاهه، رضوان الله عليهم أجمعين.
    - أيضًا كان الصَّحابة رضي الله عنهم، حريصين على أن يتَّصفوا بهذه الصِّفة، فهذا أبو هريرة رضي الله عنه يأتي النَّبي صلى الله عليه وسلم ليدعو له أن يحبِّبَه هو وأمَّه إلى المؤمنين، ويحبِّب المؤمنين إليهم،
    فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت: ((يا رسول الله! ادع الله أن يحبِّبني أنا وأمِّي إلى عباده المؤمنين، ويحبِّبهم إلينا. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهمَّ حبِّب عُبَيدك هذا -يعني أبا هريرة- وأمَّه إلى عبادك المؤمنين، وحبِّب إليهم المؤمنين. فما خُلِقَ مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبَّني

    نماذج من العلماء والسَّلف في التَّودُّد


    - ابن قيِّم الجوزيَّة
    ، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر:
    قال ابن كثير في ترجمته: (وكان حَسن القراءة والخُلُق، كثير التَّوَدُّد، لا يحسد أحدًا، ولا يؤذيه، ولا يستعيبه، ولا يحقد على أحد)
    - ابن مالك، إمام العربية، أبو عبد الله محمَّد بن عبد الله الطَّائي الجياني:
    قيل في ترجمته: (وتقدَّم وساد في علم النَّحو والقراءات، ورَبَا على كثير ممَّن تقدَّمه في هذا الشَّأن، مع الدِّين والصِّدق، وحسن السَّمت، وكثرة النَّوافل، وكمال العقل والوقار، والـتَّوَدُّد، وانتفع به الطلبة)
    - القاضي علاء الدين أبو الحسن علي التَّنوخي الدمشقي الحنبلي:
    قيل في ترجمته: (كان رجلًا وافر العقل، حَسن الخلق، كثير التَّوَدُّد)
    - القاضي محمد بن إبراهيم بن إسحاق السلمي المناوي، ثم القاهري :
    قيل في ترجمته: (كان كثير التَّودُّد إلى النَّاس، مُعَظَّمًا عند الخاص والعام، ومُحَبَّبًا إليهم).
    - الفقيه الحنبلي المقرئ المحدِّث، أمين الدِّين أبو عبد الله محمَّد البعلي:
    قال البرزالي عنه: (كان شيخًا جليلًا، حَسن الوجه، بَهي المنظر، له سمت حسن، وعليه سكينة، ولديه فضل كثير، فصيح العبارة، حَسِن الكلام، له قبول من النَّاس، وهو كثير التَّوَدُّد إليهم، قاض للحقوق)
    - شمس الدِّين أبو عبد الله محمَّد بن أبي بكر، المعروف بابن المهيني:
    جاء في ترجمته: (كان بشوش الوجه، حَسن الشكل، كثير التَّوَدُّد للنَّاس)
    - الشيخ الفرضي المحدِّث، عماد الدين أبو عبد الله الدمياطي:
    جاء في ترجمته: (كان حلو المحادثة، كثير التَّوَدُّد، غزير المحاسن)

    أقوالٌ وأمثالٌ في التَّودُّد


    - قيل لعبد الملك بن مروان: (ما أفدت في ملكك هذا؟ قال: مَوَدَّة الرِّجال)
    - وقال بعض الحكماء: (من علامة الإقبال اصطناع الرِّجال)
    - وقال بعض البلغاء: (من استصلح عدوه، زاد في عدده، ومن استفسد صديقه، نقص من عدده)
    - وروي عن لُقْمان أنَّه قال لابنه: (يا بنيَّ تَوَدَّدْ إلى النَّاس، فإنَّ التَّوَدُّد إليهم أمنٌ، ومعاداتهم خوفٌ)
    - وقال المنصور: (إذا أحببت المحمدة من النَّاس بلا مؤونة، فالْقَهم ببِشْر حَسَن)
    - وقال بعض الظُّرفاء عن الظُّرف: (التَّوَدُّد إلى الإخوان، وكفُّ الأذى عن الجيران)
    - وقال أبو شروان لوزيره بزرجمهر: (ما الشيء الذي يعز به السُّلطان؟ قال الطَّاعة، قال: فما سبب الطَّاعة، قال التَّوَدُّد إلى الخاصَّة والعامَّة)
    - ويقال: (الأناة حُسْنٌ، والتَّودُّد يُمْنٌ)
    - وقيل: (استدم مَوَدَّة أخيك بترك الخلاف عليه، ما لم تكن عليه منقة أو غضاضة)
    - وقيل: (بإحياء الملاطفة، تستمال القلوب العارفة)
    - وقال الحسن بن وهب: (من حقوق الموَدَّة، أخذ عفو الإخوان، والإغضاء عن تقصيرٍ إن كان)
    - وقالت الحكماء: (دواء الموَدَّة كثرة التَّعاهد)
    - ولبعض الحكماء من السَّلف: (عاشروا النَّاس، فإن عشتم حنُّوا إليكم، وإن متم بكوا عليكم)
    - وقال بعض الحكماء: (من جاد لك بمودَّته، فقد جعلك عديل نفسه)
    - ومن كلام العرب: (خطب وُدَّ فلان)، أي: أرضاه، تودَّد إليه، طلب صداقته
    - ومن كلام العرب (تغازل الصَّديقان): أي: تودَّد كلٌّ منهما إلى الآخر في محادثته
    =================================================

    ومن ألأخلاق المحموده

    الجُود، والكَرَم   والسَّخاء، والبَذل

    معنى الجُود، والكَرَم، والسَّخاء، والبَذل، لغةً واصطلاحًا

    معنى الجُود لغةً:

    الجُود: المطر الغزير، وجاد الرَّجل بماله يجُود جُودًا بالضَّم، فهو جَوَادٌ وقيل: الجَوَاد: هو الذي يعطي بلا مسألة؛ صيانة للآخذ مِن ذلِّ السُّؤال ويُفَسَّر الجُود أيضًا بالسَّخاء
    معنى الجُود اصطلاحًا:
    قال الجرجاني: (الجُود: صفة، هي مبدأ إفادة ما ينبغي لا بعوض)
    (وقال الكِرْماني: الجُود: إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي)
    وقيل هو: (صفةٌ تحمل صاحبها على بذل ما ينبغي مِن الخير لغير عوض)
    معنى الكَرَم لغةً:
    الكَرَم: ضدُّ اللُّؤْم، كرُم كرامة وكَرَمًا وكَرَمة، فهو كريم وكريمة، وكرماء وكرام وكرائم، وكرم فلان: أعطى بسهولة وجاد، وكرم الشيء عزَّ ونفس
    معنى الكَرَم اصطلاحًا:
    قال الجرجاني: (الكَرَم: هو الإعطاء بسهولة)
    وقال المناويُّ: (الكرم: إفادة ما ينبغي لا لغرض)
    وقال القاضي عياض: (وأما الجود والكرم والسخاء والسماحة، ومعانيها متقاربة، وقد فرق بعضهم بينها بفروق، فجعلوا الكرم: الإنفاق بطيب نفس فيما يعظم خطره ونفعه، وسموه أيضا جرأة، وهو ضد النذالة)
    معنى السَّخاء لغةً:
    السَّخاوة والسَّخاء: الجُود، والكرم. والسَّخي: الجَوَاد، وفي الفعل ثلاث لغات سخا من باب علا، وسخي من باب تعب، وسَخُو من باب قرُب
    معنى السَّخاء اصطلاحًا:
    قال المناويُّ: (السَّخاء: الجُود، أو إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، أو بذل التَّأمُّل قبل إلحاف السَّائل)
    وقال الرَّاغب: (السَّخاء: هيئة للإنسان داعية إلى بذل المقتنيات، حصل معه البَذْل أو لم يحصل، وذلك خُلُق)
    وقال القاضي عياض: (السَّخاء: سهولة الإنفاق، وتجنُّب اكتساب ما لا يُحْمَد)
    معنى البَذْل لغةً:
    بَذَلَ الشَّيء: أعطاه وجاد به. والبَذْل نقيض المنع، وكلُّ مَن طابت نفسه لشيءٍ فهو باذلٌ. ورجلٌ بذَّال، وبَذُول: إذا كَثُر بذله للمال. يقال: بَذَلَ له شيئًا، أي: أعطاه إيَّاه
    معنى البَذْل اصطلاحًا:
    قال المناويُّ: (البَذْل: الإعطاء عن طيب نفس)

    الفرق بين صفة الجُود وبعض الصِّفات


    - الفرق بين الجُود والسَّخاء:
    قال الرَّاغب: (السَّخاء: اسم للهيئة التي عليها الإنسان.
    والجُود: اسم للفعل الصَّادر عنها.
    وإن كان قد يسمَّى كلُّ واحد باسم الآخر مِن فضله)
    وقال أبو هلال العسكري: (الفرق بين السَّخاء والجُود: أنَّ السَّخاء هو أن يلين الإنسان عند السُّؤال، ويسهل مهره للطَّالب، مِن قولهم: سَخَوت النَّار أسخوها سخوًا: إذا ألينتها، وسَخَوت الأديم: ليَّنته، وأرضٌ سَخاوِيَّةٌ: ليِّنة...
    والجُود كثرة العطاء مِن غير سؤال، مِن قولك: جادت السَّماء، إذا جادت بمطر غزير، والفرس: الجَوَاد الكثير الإعطاء للجري، والله تعالى جَوَاد لكثرة عطائه فيما تقتضيه الحكمة.
    ويظهر مِن كلام بعضهم: التَّرادف.
    وفرَّق بعضهم بينهما: بأنَّ مَن أعطى البعض وأبقى لنفسه البعض فهو صاحب سخاء.
    ومَن بَذَلَ الأكثر وأبقى لنفسه شيئًا، فهو صاحب جود)
    - الفرق بين الجُود والكَرَم:
    قال الكفوي: (الجُود: هو صفة ذاتيَّة للجَوَاد، ولا يستحقُّ بالاستحقاق ولا بالسُّؤال.
    والكَرَم: مسبوقٌ باستحقاق السَّائل والسُّؤال منه)
    وقال أبو هلال العسكري في الفرق بينهما: (أنَّ الجَوَاد هو الذي يعطي مع السُّؤال.
    والكريم: الذي يعطي مِن غير سؤال.
    وقيل بالعكس.
    وقيل: الجُود: إفادة ما ينبغي لا لغرض.
    والكَرَم: إيثار الغير بالخير)
    - الفرق بين الجُود والإفضال:
    قال الكفوي: (والإفضال أعمُّ من الإنعام والجُود، وقيل: هو أخصُّ منهما؛ لأنَّ الإفضال إعطاءٌ بعوض، وهما عبارة عن مطلق الإعطاء.
    والكَرَم: إن كان بمال فهو: جود. وإن كان بكفِّ ضررٍ مع القُدْرة فهو: عفو. وإن كان ببذل النَّفس فهو: شجاعة)

    أولًا: الترغيب في الجُود والكَرَم والسَّخاء والبذل في القرآن الكريم

    - هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ  فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذَّاريات: 24-26]
    قال الطَّبري: (عن مجاهدٍ، قوله: ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ قال: أكرمهم إبراهيم، وأمر أهله لهم بالعجل حينئذٍ)
    قال الزجَّاج: (جاء في التَّفسير أنَّه لما أتته الملائكة أكرمهم بالعجل. وقيل: أكرمهم بأنَّه خدمهم، صلوات الله عليه وعليهم)

    - وقال تعالى: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 261]

    قال ابن كثير: (هذا مثلٌ ضربه الله تعالى لتضعيف الثَّواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته، وأنَّ الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعفٍ)
    - وقال تعالى: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 274]
    قال ابن كثير: (هذا مدحٌ منه تعالى للمنفقين في سبيله، وابتغاء مرضاته في جميع الأوقات مِن ليلٍ أو نهارٍ، والأحوال مِن سرٍّ وجهار، حتى إنَّ النَّفقة على الأهل تدخل في ذلك أيضًا)
    وقال السَّمرقندي: (هذا حثٌّ لجميع النَّاس على الصَّدقة، يتصدَّقون في الأحوال كلِّها، وفي الأوقات كلِّها، فلهم أجرهم عند ربِّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون)

    ثانيًا: الترغيب في الجُود والكَرَم والسَّخاء والبذل في السُّنَّة النَّبويَّة

    - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دينارٌ أنفقته في سبيل الله ودينارٌ أنفقته في رقبةٍ، ودينارٌ تصدَّقت به على مسكينٍ، ودينارٌ أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك ))
    قال النَّوويُّ: (في هذا الحديث فوائد، منها: الابتداء في النَّفقة بالمذكور على هذا التَّرتيب. ومنها: أنَّ الحقوق والفضائل إذا تزاحمت، قُدِّم الأوكد فالأوكد. ومنها: أنَّ الأفضل في صدقة التَّطوع أن ينوِّعها في جهات الخير ووجوه البرِّ بحسب المصلحة، ولا ينحصر في جهةٍ بعينها)
    - وعن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: انتهيت إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ في ظلِّ الكعبة، فلمَّا رآني قال: ((هم الأخسرون وربِّ الكعبة. قال: فجئت حتى جلست، فلم أتقارَّ أن قمت، فقلت: يا رسول الله، فداك أبي وأمي، مَن هم؟ قال: هم الأكثرون أموالًا، إلَّا مَن قال هكذا وهكذا وهكذا -مِن بين يديه ومِن خلفه وعن يمينه وعن شماله- وقليلٌ ما هم، ما مِن صاحب إبلٍ، ولا بقرٍ، ولا غنمٍ لا يؤدِّي زكاتها إلَّا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت، وأسمنه تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كلَّما نفدت أخراها، عادت عليه أولاها، حتى يُقْضَى بين النَّاس ))
    قال النَّوويُّ: (فيه الحثُّ على الصَّدقة في وجوه الخير)
    وقال المباركفوريُّ: (فقوله: ((قال هكذا)) الخ، كناية عن التَّصدُّق العام في جميع جهات الخير)
    - وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه قال: بينما نحن في سفرٍ مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجلٌ على راحلةٍ له،
    قال: فجعل يصرف بصره يمينًا وشمالًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن كان معه فضل ظهرٍ، فليعد به على مَن لا ظهر له، ومَن كان له فضلٌ مِن زاد، فليعد به على مَن لا زاد له ))
    قال النَّوويُّ: (في هذا الحديث: الحثُّ على الصَّدقة والجُود والمواساة والإحسان إلى الرُّفقة والأصحاب، والاعتناء بمصالح الأصحاب، وأمرُ كبير القوم أصحابه بمواساة المحتاج، وأنَّه يُكتفى في حاجة المحتاج بتعرُّضه للعطاء وتعريضه مِن غير سؤال)

    أقوال السَّلف والعلماء في الكَرَم والجُود والسَّخاء والبذل


    - قال أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء )
    - وعنه رضي الله عنه: (الجُود حارس الأعراض)
    - وقال عليٌّ رضي الله عنه: (السَّخاء ما كان ابتداءً، فأمَّا ما كان عن مسألة فحياء وتذمُّم)
    - ورُوِي عنه مرفوعًا: ((الكَرَم أعطف مِن الرَّحم))
    - (وقيل لحكيم: أيُّ فعلٍ للبَشَر أشبه بفعل الباري تعالى، فقال: الجُود)
    - وقال يحيى البرمكي: (أعط مِن الدُّنْيا وهي مقبلة؛ فإنَّ ذلك لا ينقصك منها شيئًا. فكان الحسن بن سهل يتعجَّب مِن ذلك ويقول: لله درُّه! ما أطبعه على الكَرَم وأعلمه بالدُّنْيا)
    - و(قال محمَّد بن يزيد الواسطي: حدَّثني صديق لي: (أنَّ أعرابيًّا انتهى إلى قوم فقال: يا قوم، أرى وجوهًا وضيئة، وأخلاقًا رضيَّةً، فإن تكن الأسماء على إثر ذلك فقد سعدت بكم أمُّكم... قال أحدهم: أنا عطيَّة، وقال الآخر: أنا كرامة، وقال الآخر: أنا عبد الواسع،
    قال: فكسوه وأحسنوا إليه وانصرف شاكرًا)
    - و(كان يُقَال: مَن جاد بماله جاد بنفسه، وذلك أنَّه جاد بما لا قوام لنفسه إلَّا به)
    - وقال الماورديُّ رحمه الله تعالى: (اعلم أنَّ الكريم يجتزي بالكرامة واللُّطف، واللَّئيم يجتزي بالمهانة والعنف، فلا يجود إلَّا خوفًا، ولا يجيب إلَّا عنفًا،
    فاحذر أن تكون المهانة طريقًا إلى اجتدائك، والخوف سبيلًا إلى عطائك، فيجري عليك سفه الطَّغام، وامتهان اللِّئام، وليكن جودك كرمًا ورغبة، لا لؤمًا ورهبة)
    - و(عن حسن بن صالحٍ، قال: سُئِل الحسن عن حُسْن الخُلُق، فقال: الكَرَم، والبَذْلة، والاحتمال)
    - (وقال جعفر بن محمَّد الصَّادق: إنَّ لله وجوهًا مِن خلقه، خلقهم لقضاء حوائج عباده، يرون الجُود مجدًا، والإفضال مغنمًا، والله يحبُّ مكارم الأخلاق)
    - وقال بكر بن محمَّد العابد: (ينبغي أن يكون المؤمن مِن السَّخاء هكذا، وحثا بيديه)
    - وقال بعض الحكماء: (أصل المحاسن كلِّها الكَرَمُ، وأصل الكَرَم نزاهةُ النَّفس عن الحرام، وسخاؤها بما تملك على الخاص والعام، وجميع خصال الخير مِن فروعه)
    - وقال ابن المبارك: (سخاء النَّفس عمَّا في أيدي النَّاس أعظم مِن سخاء النَّفس بالبَذْل)
    - وقال بعض العلماء: (الكَرَم: هو اسم واقع على كلِّ نوع مِن أنواع الفضل، ولفظٌ جامعٌ لمعاني السَّمَاحة والبَذْل)
    - وقالوا: (السَّخيُّ مَن كان مسرورًا ببذله، متبـرِّعًا بعطائه، لا يلتمس عرض دنياه فيحْبَطُ عملُه، ولا طلب مكافأة فيسقط شكرُه، ولا يكون مَثَلُه فيما أعطى مَثَلُ الصَّائد الذي يلقي الحَبَّ للطَّائر، ولا يريد نفعها ولكن نَفْعَ نفسه)

    فوائد الكَرَم والجُود والسَّخاء والبذل


    1- الكَرَم والجُود والعطاء مِن كمال الإيمان وحُسْن الإسلام.
    2- دليل حُسْن الظَّن بالله تعالى.
    3- الكرامة في الدُّنْيا، ورفع الذِّكر في الآخرة.
    4- الكريم محبوبٌ مِن الخالق الكريم، وقريبٌ مِن الخَلْق أجمعين.
    5- الكريم قليل الأعداء والخصوم؛ لأنَّ خيره منشورٌ على العموم.
    6- الكريم نفعه متعدٍّ غير مقصور.
    7- تثمر حُسْن ثناء النَّاس عليه.
    8- تبعث على التَّكافل الاجتماعي والتَّواد بين النَّاس.
    9- الكَرَم يزيد البركة في الرِّزق والعمر.
    10- يولِّد في الفرد شعورًا بأنَّه جزء مِن الجماعة، وليس فردًا منعزلًا عنهم إلَّا في حدود مصالحه ومسؤولياته الشَّخصيَّة.
    11- تزكِّي الأنفس وتطهرها مِن رذائل الأنانيَّة المقيتة، والشُّح الذَّميم.
    12- حلُّ مشكلة حاجات ذوي الحاجات مِن أفراد المجتمع الواحد.
    13- إقامة سدٍّ واقٍ يمنع الأنفس من سيطرة حبِّ التَّملُّك والأثرة.

    صور الكَرَم والجُود والسَّخاء والبذل


    المجالات التي يشملها الكَرَم والجُود والعطاء متنوِّعة وكثيرة، فمنها:
    1- العطاء مِن المال، ومِن كلِّ ما يمتلك الإنسان مِن أشياء ينتفع بها، كالذَّهب والفضَّة، والخيل، والأنعام، والحرث، وكلِّ مأكول، أو مشروب، أو ملبوس، أو مركوب، أو مسكون، أو يؤوي إليه، وكلِّ آلة أو سبب أو وسيلة ينتفع بها، وكلِّ ما يُتَدَاوى به أو يقي ضرًّا أو يدفع بأسًا، إلى غير ذلك مِن أشياء يصعب إحصاؤها.
    2- ومنها العطاء مِن العلم والمعرفة، وفي هذا المجال مَن يحبُّون العطاء، وفيه بخلاء ممسكون ضنينون، والمعطاء في هذا المجال هو الذي لا يدَّخر عنده علمًا ولا معرفة عمَّن يُحْسِن الانتفاع بذلك، والبخيل هو الذي يحتفظ بمعارفه وعلومه لنفسه، فلا ينفق منها لمستحقِّيها، ضنًّا بها ورغبةً بالاستئثار.
    3- ومنها عطاء النَّصيحة، فالإنسان الجَوَاد، كريم النَّفس، لا يبخل على أخيه الإنسان بأيِّ نصيحةٍ تنفعه في دينه أو دنياه، بل يعطيه نُصْحَه الذي ينفعه مبتغيًا به وجه الله تعالى.
    4- ومنها: العطاء مِن النَّفس، فالجواد يعطي مِن جاهه، ويعطي مِن عَطْفِه وحنانه، ويعطي مِن حلو كلامه وابتسامته وطلاقة وجهه، ويعطي مِن وقته وراحته، ويعطي مِن سمعه وإصغائه، ويعطي مِن حبِّه ورحمته، ويعطي مِن دعائه وشفاعته، وهكذا إلى سائر صور العطاء مِن النَّفس.
    5- ومنها: العطاء مِن طاقات الجسد وقواه، فالجواد يعطي مِن معونته، ويعطي مِن خدماته، ويعطي مِن جهده، فيعين الرَّجل في دابَّته فيحمله عليها أو يحمل له عليها، ويميط الأذى عن طريق النَّاس وعن المرافق العامَّة، ويأخذ بيد العاجز حتى يجتاز به إلى مكان سلامته، ويمشي في مصالح النَّاس، ويتعب في مساعدتهم، ويسهر مِن أجل معونتهم، ومِن أجل خدمتهم، وهكذا إلى سائر صور العطاء مِن الجسد.
    6- ويرتقي العطاء حتى يصل إلى مستو

    الأسباب المعينة على الكَرَم والجُود والسَّخاء والبذل
    دوافع البَذْل والعطاء عند الإنسان كثيرة؛ منها :
    1- توفيق الله له بالبَذْل والنَّفقة.
    2- نفسه الطيِّبة.
    3- حبُّ عمل الخير.
    4- حثُّ أهل الخير له على النَّفقة والعطاء والكَرَم.
    5- مقتضيات المجتمع الإسلامي وحاجاته الملِحَّة إلى التَّعاون؛ والتَّكامل لبناء الاقتصاد الإسلامي بناءً قويًّا وعزيزًا.

    نماذج مِن كرم الأنبياء والمرسلين عليهم السلام

    إبراهيم الخليل عليه السَّلام:
    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان أوَّل مَن أضاف الضَّيف إبراهيم))
    قال المناويُّ: (كان يسمَّى أبا الضِّيفان، كان يمشي الميل والميلين في طلب مَن يتغدَّى معه... وفي ((الكشَّاف)):
    كان لا يتغدَّى إلَّا مع ضيف)
    قال تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [الذَّاريات: 24]
    قال مجاهد: سمَّاهم (مُكْرَمين) لخدمة إبراهيم إيَّاهم بنفسه
    وقال الرَّازي: (أُكْرِموا إذ دخلوا، وهذا مِن شأن الكريم أن يُكْرِم ضيفه وقت الدُّخول، فإن قيل: بماذا أُكْرِموا؟ قلنا: ببشاشة الوجه أولًا، وبالإجلاس في أحسن المواضع وألطفها ثانيًا، وتعجيل القِرَى ثالثًا، وبعد التَّكليف للضَّيف بالأكل والجلوس)

    نماذج مِن كرم العرب وجودهم في العصر الجاهلي

    لقد كان الكَرَم مِن أبرز الصِّفات في العصر الجاهلي، بل كانوا يتباهون بالكَرَم والجُود والسَّخاء، ورفعوا مِن مكانة الكَرَم، وكانوا يصفون بالكَرَم عظماء القوم، واشتهر بعض العرب بهذه الصِّفة الحميدة حتى صار مضربًا للمثل، ونذكر بعض النَّماذج مِن هؤلاء الذين اشتهروا بفيض كرمهم وسخاء نفوسهم، ومِن أولئك:
    حاتم الطَّائي:
    كان حاتم الطَّائي مِن أشهر مَن عُرِف عند العرب بالجُود والكَرَم حتى صار مضرب المثل في ذلك.
    (قالت النوار امرأته: أصابتنا سنة اقشعرَّت لها الأرض، واغبرَّ أفق السَّماء، وراحت الإبل حدبًا حدابير، وضنَّت المراضع عن أولادها فما تَبِضُّ بقطرة، وجَلَّفَت السَّنَة المال، وأيقنَّا أنَّه الهلاك. فوالله إنِّي لفي ليلة صَنْبر بعيدة ما بين الطَّرفين، إذ تضاغى أصيبيتنا مِن الجوع، عبد الله وعدي وسَفَّانة، فقام حاتم إلى الصبيَّين، وقمت إلى الصبيَّة، فوالله ما سكنوا إلَّا بعد هدأة مِن اللَّيل، ثمَّ ناموا ونمت أنا معه، وأقبل يعلِّلني بالحديث، فعرفت ما يريد، فتناومت، فلمَّا تهوَّرت النُّجوم إذا شيء قد رفع كِسْر البيت، فقال: مَن هذا؟ فولَّى ثمَّ عاد، فقال: مَن هذا؟ فولَّى ثمَّ عاد في آخر اللَّيل، فقال: مَن هذا؟ فقالت: جارتك فلانة، أتيتك مِن عند أصيبية يتعاوون عواء الذِّئاب مِن الجوع، فما وجدت معوَّلًا إلَّا عليك أبا عدي، فقال: والله لأشبعنَّهم، فقلت: مِن أين؟ قال: لا عليك، فقال: أعجليهم فقد أشبعك الله وإيَّاهم، فأقبلت المرأة تحمل ابنين ويمشي جانبيها أربعة، كأنَّها نعامة حولها رئالها، فقام إلى فرسه فوجأ لبته بمديته، فخر، ثمَّ كشطه، ودفع المدية إلى المرأة، فقال: شأنك (الآن)، فاجتمعنا على اللَّحم، فقال: سوأة! أتأكلون دون الصِّرم؟!، ثمَّ جعل يأتيهم بيتًا بيتًا ويقول؛ هبُّوا أيُّها القوم، عليكم بالنَّار، فاجتمعوا، والْتَفَع بثوبه ناحيةً ينظر إلينا، لا والله ما ذاق منه مُزْعَة، وإنَّه لأحوج إليه منَّا، فأصبحنا وما على الأرض مِن الفرس، إلَّا عظم أو حافر، (فعذلته على ذلك)،
    و(قيل سأل رجل حاتمًا الطَّائي فقال: يا حاتم هل غلبك أحدٌ في الكَرَم؟ قال: نعم، غلام يتيم مِن طيئ، نزلت بفنائه وكان له عشرة أرؤس مِن الغنم، فعمد إلى رأس منها فذبحه. وأصلح مِن لحمه، وقدَّم إليَّ، وكان فيما قدَّم إليَّ الدِّماغ، فتناولت منه فاستطبته، فقلت: طيِّبٌ والله. فخرج مِن بين يدي، وجعل يذبح رأسًا رأسًا، ويقدِّم إليَّ الدِّماغ وأنا لا أعلم. فلمَّا خرجت لأرحل نظرت حول بيته دمًا عظيمًا، وإذا هو قد ذبح الغنم بأسره. فقلت له: لم فعلت ذلك؟ فقال: يا سبحان الله! تستطيب شيئًا أملكه فأبخل عليك به، إنَّ ذلك لسُبَّة على العرب قبيحة. قيل يا حاتم: فما الذي عوَّضته؟ قال: ثلاثمائة ناقة حمراء وخمسمائة رأس مِن الغنم، فقيل أنت إذًا أَكْرَم منه، فقال: بل هو أكرم، لأنَّه جاد بكلِّ ما يملكه، وإنَّما جُدت بقليل مِن كثير)
    عبد الله بن جُدْعَانَ:
    مِن الكُرَماء المشهورين في العصر الجاهلي: عبد الله بن جُدْعَان، فقد اشتهر بكرمه وجوده، وسخائه وعطائه.
    و(كان عبد الله بن جُدْعَانَ مِن مُطْعِمي قريش، كهاشم بن عبد مناف، وهو أوَّل مَن عمل الفالوذ للضَّيف،
    وكانت له جِفَان يأكل منها القائم والرَّاكب)
    و(حدَّث إبراهيم بن أحمد قال: قَدِمَ أميَّة بن أبي الصَّلت مكَّة، على عبد الله بن جُدْعَان، فلمَّا دخل عليه قال له عبد الله: أمرٌ ما، جاء بك. فقال أميَّة: كلاب غرمائي قد نبحتني ونهشتني فقال له عبد الله: قدمت عليَّ وأنا عليل مِن ديون لزمتني، فأنظرني قليلًا يجمُّ ما في يدي، وقد ضمنت قضاء دينك ولا أسأل عن مبلغه،
    فلمَّا أنشده أميَّة هذه الأبيات كانت عنده قينتان، فقال لأميَّة: خذ أيتهما شئت، فأخذ إحداهما وانصرف. فمرَّ بمجلس مِن مجالس قريش، فلاموه على أخذها، وقالوا: لقد أجحفت به في انتزاعها منه، فلو رددتها عليه، فإنَّ الشَّيخ يحتاج إلى خدمتهما، لكان ذلك أقرب لك عنده وأَكْرَم مِن كلِّ حقٍّ ضمنته لك. فوقع الكلام مِن أميَّة موقعًا وندم، فرجع إليه ليردَّها عليه، فلمَّا أتاه بها قال له ابن جُدْعَان: لعلَّك إنَّما رددتها لأنَّ قريشًا لاموك على أخذها، وقالوا لك كذا وكذا، ووصف لأميَّة ما قال له القوم، فقال أميَّة: والله ما أخطأت يا أبا زهير ممَّا قالوا شيئًا. قال عبد الله: فما الذي قلت في ذلك؟ فقال أميَّة:
    عطاؤك زَيْنٌ لامرئ إن حبوته
    ببذل وما كلُّ العطاء يزين
    وليس بشين لامرئٍ بذل وجهه إليك كما بعض السُّؤال يشين

    فقال له عبد الله: خذ الأخرى، فأخذهما جميعًا وخرج، فلمَّا صار إلى القوم بهما أنشأ يقول:
    ذكر ابن جُدْعَان بخيـ ـرٍ كلَّما ذُكِر الكِرَام
    مَن لا يجور ولا يعقُّ ولا يُبخلُه اللِّئام
    يهب النَّجيبة والنَّجيب له الرِّجال والزمام)

    و(كان عبد الله بن جُدْعَان التيميُّ حين كَبر أخذ بنو تيم عليه، ومنعوه أن يعطي شيئًا مِن ماله، فكان الرَّجل إذا أتاه يطلب منه قال: ادن منِّي، فإذا دنا منه لطمه، ثمَّ قال: اذهب فاطلب بلطمتك أو ترضى، فترضيه بنو تيم مِن ماله.

    -----------------------------------------------------------------
    وما زلنا أحبابي جزاكم الله خيرا
    لا تنسونا من صالح دعائكم



    عدل سابقا من قبل sadekalnour في الأحد يوليو 24, 2022 9:29 am عدل 5 مرات
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    ألأخلاق في  ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني Empty ألأخلاق في نظر ألإسلام .. الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف صادق النور الإثنين يونيو 13, 2022 11:56 pm

    نماذج مِن كرم الصَّحابة وجودهم
    - عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: سمعت عمر بن الخطَّاب، يقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدَّق،
    فوافق ذلك عندي مالًا، فقلت: اليوم أسبق أبا بكرٍ إن سبقته يومًا، قال: فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله، وأتى أبو بكرٍ بكلِّ ما عنده، فقال: يا أبا بكرٍ ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسبقه إلى شيءٍ أبدًا ))
    - وعن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، أنَّه سمع أنس بن مالك، يقول: كان أبو طَلْحَة أكثر أنصاريٍّ بالمدينة مالًا،
    وكان أحبَّ أمواله إليه بيرحى، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب مِن ماءٍ فيها طيِّبٍ،
    قال أنسٌ: فلمَّا نزلت هذه الآية: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] قام أبو طَلْحَة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ الله يقول في كتابه: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ، وإنَّ أحبَّ أموالي إليَّ بيرحى، وإنَّها صدقةٌ لله، أرجو برَّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث شئت،
    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بخٍ، ذلك مالٌ رابحٌ، ذلك مالٌ رابحٌ، قد سمعتُ ما قلتَ فيها، وإنِّي أرى أن تجعلها في الأقربين))، فقسمها أبو طَلْحَة في أقاربه وبني عمِّه
    - (وقيل: مَرِض قيس بن سعد بن عبادة، فاستبطأ إخوانه، فقيل له: إنَّهم يستحيون ممَّا لك عليهم مِن الدَّيْن، فقال: أخزى الله مالًا يمنع الإخوان مِن الزِّيارة، ثمَّ أمر مناديًا فنادى: مَن كان عليه لقيس بن سعد حقٌّ فهو منه بريء، قال فانكسرت درجته بالعشي لكثرة مَن زاره وعاده)
    - وقال عطاء: (ما رأيت مجلسًا قطُّ أَكْرَم مِن مجلس ابن عبَّاس، أكثر فقهًا، وأعظم جَفْنَةً، إنَّ أصحاب القرآن عنده، وأصحاب النَّحو عنده، وأصحاب الشِّعر، وأصحاب الفقه، يسألونه كلُّهم، يصدرهم في وادٍ واسعٍ)
    - (وعن أبان بن عثمان قال: أراد رجل أن يضار عبيد الله بن عبَّاس، فأتى وجوه قريش فقال: يقول لكم عبيد الله: تغدوا عندي اليوم، فأتوه حتى ملئوا عليه الدَّار، فقال: ما هذا؟ فأُخْبِر الخبر، فأمر عبيد الله بشراء فاكهة، وأمر قومًا فطبخوا وخبزوا، وقدِّمت الفاكهة إليهم، فلم يفرغوا منها حتى وُضِعَت الموائد، فأكلوا حتى صدروا، فقال عبيد الله لوُكَلَائه: أَوَ موجود لنا هذا كلَّ يومٍ؟ قالوا: نعم، قال فليتغدَّ عندنا هؤلاء في كلِّ يوم)
    - وقال المدائني: (أوَّل مَن سنَّ القِرَى إبراهيم الخليل عليه السَّلام. وأوَّل مَن هشم الثَّريد هاشمٌ. وأوَّل مَن فطَّر جيرانه على طعامه في الإسلام عبيد الله بن عبَّاس رضي الله عنهما، وهو أوَّل مَن وضع موائده على الطَّريق، وكان إذا خرج مِن بيته طعامٌ لا يعاود منه شيءٌ، فإن لم يجد مَن يأكله تركه على الطَّريق)
    - و(ذُكر أنَّ عبيد الله بن العبَّاس أتاه سائل وهو لا يعرفه، فقال له: تصدَّق عليَّ بشيءٍ، فإنِّي نُبِّـئت أنَّ عبيد الله بن العبَّاس أعطى سائلًا ألف درهم واعتذر إليه، فقال: وأين أنا مِن عبيد الله فقال: أين أنت منه في الحسب أم في الكَرَم؟ قال: فيهما جميعًا، قال: أمَّا الحسب في الرَّجل فمروءته وفعله، وإذا شئت فعلتَ، وإذا فعلت كنت حسيبًا. فأعطاه ألفي درهم واعتذر إليه مِن ضيق نفقته. فقال له السَّائل: إن لم تكن عبيد الله بن العبَّاس فأنت خير منه، وإن كنت إيَّاه فأنت اليوم خير منك أمس، فأعطاه ألفًا أخرى، فقال له السَّائل: هذه هزَّة كريم حسيب)
    - وقال الأصمعيُّ: (حدَّثنا ابن عمران قاضي المدينة، أنَّ طَلْحَة كان يقال له: طَلْحَة الخير، وطَلْحَة الفيَّاض، وطَلْحَة الطَّلَحَات، وأنَّه فدى عشرة مِن أسارى بدر وجاء يمشي بينهم، وأنَّه سُئل برحم، فقال: ما سُئِلت بهذه الرَّحم قبل اليوم، وقد بعت حائطًا لي بتسعمائة ألف درهم وأنا فيه بالخيار، فإن شئت ارتجعته وأعطيتكه، وإن شئت أعطيتك ثمنه)
    - وقال المدائني: (إنَّما سمِّي طَلْحَة بن عبيد الله الخزاعي: طَلْحَة الطَّلَحَات، لأنَّه اشترى مائة غلام وأعتقهم وزوَّجهم، فكلُّ مولود له سمَّاه طلحة)

    نماذج مِن السَّلف في الكَرَم والجُود

    - قال محمَّد بن صبيحٍ: (لما قدم أبو الزِّناد الكوفة على الصَّدقات، كلَّم رجلٌ حمَّاد بن أبي سليمان في رجلٍ يكلِّم له أبا الزِّناد، يستعين في بعض أعماله، فقال حمَّاد: كم يؤمِّل صاحبك مِن أبي الزِّناد أن يصيب معه؟ قال: ألف درهمٍ، قال: فقد أمرت له بخمسة آلاف درهمٍ، ولا يبذل وجهي إليه، قال: جزاك الله خيرًا، فهذا أكثر ممَّا أمَّل ورجا. قال عثمان: وقال ابن السَّمَّاك: فكلَّمه آخر في ابنه أن يحوِّله مِن كتابٍ إلى كتاب، فقال للذي يكلِّمه: إنَّما نعطي المعلِّم ثلاثين كلَّ شهرٍ، وقد أجريناها لصاحبك مائة، دع الغلام مكانه)
    - (وكان أبو مرثد أحد الكُرَماء، فمدحه بعض الشُّعراء، فقال للشَّاعر: والله ما عندي ما أعطيك، ولكن قدِّمني إلى القاضي وادَّع عليَّ بعشرة آلاف درهم حتى أقرَّ لك بها، ثمَّ احبسني، فإنَّ أهلي لا يتركوني محبوسًا. ففعل ذلك، فلم يُمْس حتى دفع إليه عشرة آلاف درهم، وأُخْرج أبو مرثد مِن الحبس)
    - وقال حمَّاد بن أبي حنيفة: (لم يكن بالكوفة أسخى على طعامٍ ومالٍ مِن حماَّد بن أبي سليمان، ومِن بعده خلف بن حوشبٍ)
    - و(كان مورقٌ يتَّجر، فيصيب المال، فلا يأتي عليه جمعةٌ وعنده منه شيءٌ، وكان يأتي الأخ، فيعطيه الأربع مائةٍ والخمس مائةٍ، ويقول: ضعها لنا عندك. ثمَّ يلقاه بعد، فيقول: شأنك بها، لا حاجة لي فيها)
    - وقال عبد الله بن الوسيم الجمَّال: (أتينا عمران بن موسى بن طَلْحَة ابن عبيد الله نسأله في دينٍ على رجلٍ مِن أصحابنا، فأمر بالموائد فنُصِبَت، ثمَّ قال: لا، حتى تصيبوا مِن طعامنا، فيجب علينا حقُّكم وذمامكم، قال: فأصبنا مِن طعامه، فأمر لنا بعشرة آلاف درهمٍ في قضاء دينه، وخمسة آلاف درهمٍ نفقةً لعياله)
    - و(كان هشام بن حسَّان إذا ذكر يزيد بن المهلَّب يقول: إن كادت السُّفن لتجري في جوده)
    - و(كان ناسٌ مِن أهل المدينة يعيشون لا يدرون مِن أين كان معاشهم، فلمَّا مات علي بن الحسين، فقدوا ذلك الذي كانوا يُؤْتَون باللَّيل)
    - وقال أبو السَّوَّار العدويُّ: (كان رجالٌ مِن بني عدي يصلُّون في هذا المسجد، ما أفطر أحدٌ منهم على طعامٍ قطُّ وحده، إن وجد مَن يأكل معه أكل، وإلَّا أخرج طعامه إلى المسجد، فأكله مع النَّاس، وأكل النَّاس معه)
    - و(كان يقال للفضل بن يحيى: حاتم الإسلام... وكان يقال: حدِّث عن البحر ولا حرج، وعن الفضل ولا حرج)
    نماذج مِن العلماء المعاصرين في الكَرَم والجُود
    كرم الشَّيخ عبد العزيز بن باز :
    لا يكاد يُعلم في زمان سماحة الشَّيخ أحدٌ أسخى ولا أجود ولا أَكْرَم مِن سماحة الشَّيخ عبد العزيز بن باز، وذلك في وجوه السَّخاء، وصوره المتعدِّدة، ومِن هذه الصُّور:
    1- كان مجبولًا على حبِّ الضُّيوف، والرَّغبة في استضافتهم منذ صغره.
    2- كان يوصي بشراء أحسن ما في السُّوق مِن الفاكهة، والتَّمر، والخضار، وسائر الأطعمة التي تقدَّم لضيوفه.
    3- وكان يلحُّ إلحاحًا شديدًا إذا قَدِم عليه أحدٌ أو سلَّم عليه، فكان يلحُّ عليهم بأن يحِلُّوا ضيوفًا عنده على الغداء، والعشاء، والمبيت، ولو طالت مدَّة إقامتهم.
    4- وكان يرغِّب القادمين إليه بأن يتواصلوا معه في الزِّيارة، فيذكِّرهم بفضل الزِّيارة، والمحبَّة في الله، ويسوق لهم الآثار الواردة في ذلك؛ ممَّا يبعثهم إلى مزيد مِن الزِّيارة؛ لأنَّ بعضهم لا يرغب في الإثقال على سماحة الشَّيخ وإضاعة وقته؛ فإذا سمع منه ذلك انبعث إلى مزيد مِن الزِّيارات.
    5- وكان لا يقوم مِن المائدة حتى يسأل عن ضيوفه: هل قاموا؟ فإذا قيل له: قاموا. قام؛ كيلا يعجلهم بقيامه قبلهم، وإذا قام قال: كلٌّ براحته، لا تستعجلوا.
    6- وإذا قَدِم الضُّيوف مِن بعيد، ثمَّ استضافهم وأكرمهم، وأرادوا توديعه ألحَّ عليهم بأن يمكثوا، وأن يتناولوا وجبة أخرى، وأن يبيتوا عنده؛ فلا ينصرفون منه إلَّا بعد أن يتأكَّد بأنَّهم مسافرون أو مرتبطون. بل إذا قالوا: إنَّهم مرتبطون، قال: ألا يمكن أن تتخلَّصوا مِن ارتباطكم؟ ألَا تهاتفون صاحب الارتباط، وتعتذروا منه؟
    7- وكان يفرح بالقادم إليه ولو لم يعرفه مِن قبل، خصوصًا إذا قدم مِن بعيد، أو لمصلحة عامَّة.
    8- ومِن لطائف كرمه أنَّه إذا قدم عليه قادم وهو في السَّيَّارة أخذ يتحفَّز، ويتحرَّك ويدعو القادم للركوب معه، ولو كان المكان ضيِّقــًا، لكن سماحته يريه أنَّه محبٌّ لصحبته، أو أن يأمر أحد السَّائقين التَّابعين للرِّئاسة ليوصله، أو أن يأخذ سيارة للأجرة؛ لتنقل مَن يأتون إليه إذا كانوا كثيرين.
    9- كان منزل أسرة سماحة الشَّيخ في الرِّياض، لا يتَّسع لكثرة الضُّيوف القادمين إليه، وكثيرًا ما يأتيه أناس بأُسَرِهم إمَّا مِن المدينة أو غيرها؛ إمَّا طلبًا لشفاعة أو مساعدة، أو نحو ذلك، فكانوا يسكنون عند سماحة الشَّيخ في المنزل.

    حِكمٌ وأمثالٌ في الكَرَم والجُود
    - أَقْــرَى مِن زاد الركب:
    زعم ابن الأعرابي أنَّ هذا المثل مِن أمثال قريش، ضربوه لثلاثة مِن أجودهم: مسافر بن أبي عمرو بن أميَّة، وأبي أميَّة بن المغيرة، والأسود بن عبد المطَّلب ابن أسد بن عبد العُزَّى، سُمُّوا زاد الركب؛ لأنَّهم كانوا إذا سافروا مع قومٍ لم يتزوَّدوا معهم
    - أَقْــرَى مِن حَاسِي الذَّهب:
    هذا أيضًا مِن قريش، وهو عبد الله بن جُدْعَان التَّيمي الذي قال فيه أبو الصَّلت الثَّقفيُّ:

    وسُمِّي (حاسي الذَّهب) لأنَّه كان يشرب في إناء مِن الذَّهب
    - أَقْرَى مِن مطاعيم الرِّيح:
    زعم ابن الأعرابي أنَّهم أربعة أحدهم: عمُّ محجن الثَّقفي، ولم يُسَم الباقين.
    قال أبو النَّدى: هم كِنَانة بن عبد ياليل الثَّقفي عمُّ أبي محجن، ولبيد بن ربيعة، وأبوه، كانوا إذا هبَّت الصَّبا أطعموا النَّاس، وخصوا الصَّبا لأنَّها لا تهب إلَّا في جدب
    - (أَكْرَم مِن الأسد:
    لأنَّه إذا شبع تجافى عمَّا يمرُّ به ولم يتعرَّض له.
    - أَكْرَم مِن العُذَيْق المرجَّب:
    تصغير عِذْق، وهو: النَّخلة، والمرجَّب: المدعوم، وإنَّما يُدْعَم لكثرة حِمْلِه وذاك كرمه، وأكثر العرب تنكِّره فتقول: مِن عُذَيْق مُرَجَّب)

    أجواد أهل الإسلام


    قال ابن عبد ربِّه: (وأمَّا أجواد أهل الإسلام فأحد عشر رجلًا في عصر واحد، لم يكن قبلهم ولا بعدهم مثلهم:
    فأجواد الحجاز ثلاثة في عصر واحد: عبيد الله بن العبَّاس، وعبد الله بن جعفر، وسعيد بن العاص.
    وأجواد البصرة خمسة في عصر واحد وهم: عبد الله بن عامر بن كريز،
    وعبيد الله ابن أبي بكرة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
    ومسلم بن زياد، وعبيد الله بن معمر القرشي ثمَّ التَّيمي،
    وطَلْحَة الطَّلَحَات، وهو طَلْحَة بن عبد الله بن خلف الخزاعي.
    وأجواد أهل الكوفة ثلاثة في عصر واحد، وهم: عتَّاب بن ورقاء الرِّياحي،
    وأسماء بن خارجة الفَزَارِي، وعكرمة بن رِبْعِي الفيَّاض)

    الطَّلَحَات المشهورون بالكَرَم

    قال الأصمعي: الطَّلَحَات المعروفون بالكَرَم:
    طَلْحَة بن عبيد الله التَّيمي، وهو الفيَّاض.
    وطَلْحَة بن عمر بن عبيد الله بن معمر، وهو طَلْحَة الجواد.
    وطَلْحَة بن عبد الله بن عوف الزُّهري، وهو طَلْحَة النَّدَى.
    وطَلْحَة بن الحسن بن علي، وهو طَلْحَة الخير.
    وطَلْحَة بن عبد الله بن خلف الخزاعي، وهو طَلْحَة الطَّلَحَات. سُمِّي بذلك لأنَّه كان أجودهم)

    نماذج مِن كرم النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وجوده

    لقد مثَّل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى والقدوة الحسنة في الجُود والكَرَم، فكان أجود النَّاس، وكان أجود ما يكون في رمضان، فكان أجود بالخير مِن الرِّيح المرسلة.
    (وقد بلغ صلوات الله عليه مرتبة الكمال الإنساني في حبِّه للعطاء، إذ كان يعطي عطاء مَن لا يحسب حسابًا للفقر ولا يخشاه، ثقة بعظيم فضل الله، وإيمانًا بأنَّه هو الرزَّاق ذو الفضل العظيم)
    - عن موسى بن أنسٍ، عن أبيه، قال: ((ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئًا إلَّا أعطاه، قال: فجاءه رجلٌ فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم أسلموا، فإنَّ محمَّدًا يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة ))
    - وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كان لي مثل أحدٍ ذهبًا ما يسرُّني أن لا يمرَّ عليَّ ثلاثٌ، وعندي منه شيءٌ إلَّا شيءٌ أرصدُهُ لدينٍ ))
    (إنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم، يقدِّم بهذا النَّموذج المثالي للقدوة الحسنة، لاسيَّما حينما نلاحظ أنَّه كان في عطاءاته الفعليَّة، مطـبِّــقًا لهذه الصُّورة القوليَّة التي قالها، فقد كانت سعادته ومسرَّته عظيمتين حينما كان يبذل كلَّ ما عنده مِن مال.
    ثمَّ إنَّه يربِّي المسلمين بقوله وعمله على خُلُق حبِّ العطاء، إذ يريهم مِن نفسه أجمل صورة للعطاء وأكملها)
    - وعن جبير بن مطعمٍ، أنَّه بينا هو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه النَّاس، مقبلًا مِن حنينٍ، عَلِقَتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى سَمُرَةٍ، فَخطِفَتْ رداءه، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أعطوني ردائي، فلو كان عدد هذه العِضَاهِ نَعَمًا، لقسمته بينكم، ثمَّ لا تجدوني بخيلًا، ولا كذوبًا، ولا جبانًا ))
    - وأهدت امرأة إلى النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام شملةً منسوجة، فقالت: ((يا رسول الله، أكسوك هذه، فأخذها النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام محتاجًا إليها، فلبسها، فرآها عليه رجل مِن الصَّحابة، فقال: يا رسول الله، ما أحسن هذه! فاكْسُنِيها، فقال: نعم،
    فلمَّا قام النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام لامه أصحابه، فقالوا: ما أحسنت حين رأيت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أخذها محتاجًا إليها،
    ثمَّ سألته إيَّاها، وقد عرفت أنَّه لا يُسْأَل شيئًا فيمنعه، فقال: رجوت بركتها حين لبسها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لعلِّي أكفَّن فيها ))
    - وكان صلى الله عليه وسلم يُؤْثِـر على نفسه، فيعطي العطاء ويمضي عليه الشَّهر والشَّهران لا يُوقَد في بيته نارٌ
    - (وكان كرمه صلى الله عليه وسلم كرمًا في محلِّه، ينفق المال لله وبالله، إمَّا لفقير، أو محتاج، أو في سبيل الله، أو تأليفًا على الإسلام، أو تشريعًا للأمَّة، وغير ذلك
    فما أعظم كرمه وجوده وسخاء نفسه، صلى الله عليه وسلم، وما هذه الصِّفة الحميدة إلَّا جزءٌ مِن مجموع الصِّفات التي اتصف بها حبيبنا صلى الله عليه وسلم، فلا أبلغ ممَّا وصفه القرآن الكريم بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ[القلم: 4]
    -------------------------------------
    وما زلنا أحبابي تابعونا لاجزاكم الله خيرا
    لا تنسونا من صالح دعائكم


    عدل سابقا من قبل sadekalnour في الأربعاء يونيو 22, 2022 2:13 pm عدل 1 مرات
    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    ألأخلاق في  ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني Empty ألأخلاق في نظر ألإسلام .. الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف صادق النور الثلاثاء يونيو 14, 2022 6:00 pm


    ومن ألأخلاق المحموده

    حُسْن الظَّن

    معنى الحُسْن لغةً:
    الحُسْن نقيض القُبْح، يقال: رجل حَسَنٌ، وامرأة حَسَنَةٌ. وقالوا: امرأة حَسْنَاء، ولم يقولوا: رجل أَحْسَن.
    والحَاسِن: القَمَر. وحسَّنت الشيء تحْسِينًا: زيَّنته. وهو يُحْسِن الشيء، أي يعمله. ويَسْتَحْسِنه: يعدُّه حَسَنًا. والحَسَنَة: خلاف السَّيئة. والمحَاسِن: خلاف المساوي
    معنى الظَّن لغةً:
    الظَّن: شك ويقين، إلا أنَّه ليس بيقين عيان، إنَّما هو يقين تدبُّر... وجمع الظَّن الذي هو الاسم: ظُنُون
    معنى الظَّن اصطلاحًا:
    قال الجرجاني: (الظَّن هو الاعتقاد الرَّاجح مع احتمال النَّقيض، ويستعمل في اليقين والشَّك، وقيل: الظَّن أحد طرفي الشَّك بصفة الرُّجحان)
    معنى حُسْن الظَّن اصطلاحًا:
    ترجيح جانب الخير على جانب الشَّر

    الفرق بين الظَّن وصفات أخرى

    - الفرق بين الظَّن والحُسْبَان:
    قيل: الظَّن ضرب من الاعتقاد، وقد يكون حُسْبَان لكن ليس باعتقاد.
    قال أبو هلال: أصل الحُسْبَان من الحِساب، تقول: أَحْسَبه بالظَّن قد مات. كما تقول: أَعُدُّه قد مات. ثمَّ كَثُر حتى سُمي الظَّن: حُسْبَانًا على جهة التَّوسع، وصار كالحقيقة بعد كثرة الاستعمال. وفرق بين الفعل منهما، فيقال في الظَّن: حَسِب. وفي الحِسَاب: حَسَب. ولذلك فرق بين المصدرين فقيل: حَسَب وحُسْبَان، والصحيح في الظَّن ما ذكرناه
    - الفرق بين الشَّك والظَّن والوَهْم:
    الشَّك: خلاف اليقين، وأصله اضطراب النَّفس، ثم استعمل في التَّردُّد بين الشَّيئين سواء استوى طرفاه، أو ترجَّح أحدهما على الآخر. قال تعالى: فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ [يونس: 94] أي: غير مستيقن. وقال الأصوليون: هو تردُّد الذهن بين أمرين على حدٍ سواء.
    وقيل: التَّردُّد بين الطَّرفين إن كان على السَّواء فهو الشَّك، وإلا فالرَّاجح: ظنٌّ، والمرجوح: وهمٌ
    - الفرق بين الظَّن والتَّصَوُّر:
    أنَّ الظَّن ضربٌ من أفعال القلوب، يحدث عند بعض الأمارات، وهو رُجْحان أحد طرفي التَّجوُّز، وإذا حدث عند أمارات غلبت وزادت بعض الزيادة، فظَنَّ صاحبه بعض ما تقتضيه تلك الأمارات، سمي ذلك: غلبة الظَّن، ويستعمل الظَّن فيما يُدرك وفيما لا يُدرك.
    والتَّصَوُّر يستعمل في المدْرَك دون غيره، كأنَّ المدْرَك إذا أدركه المدْرِك تصَوَّر نفسه، والشَّاهد أنَّ الأعراض التي لا تُدرك لا تُتَصوَّر، نحو: العلم والقدرة، والتَّمثُّل مثل التَّصَوُّر إلَّا أنَّ التَّصَوُّر أبلغ؛ لأنَّ قولك: تَّصَوَّرت الشَّيء. معناه: أنِّي بمنزلة من أبصر صورته، وقولك: تمثَّلته. معناه: أنِّي بمنزلة من أبصر مثاله، ورؤيتك لصورة الشَّيء أبلغ في عِرفَان ذاته من رؤيتك لمثاله

    أولًا: التَّرغيب في حُسْن الظَّن في القرآن الكريم

    - قال الله تبارك وتعالى: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ [النور: 12]
    قال ابن عاشور في تفسيره: (فيه تنبيه على أنَّ حقَّ المؤمن إذا سمع قَالَةً في مؤمن، أن يبني الأمر فيها على الظَّن لا على الشَّك،
    ثم ينظر في قرائن الأحوال وصلاحية المقام، فإذا نسب سوء إلى من عرف بالخير، ظنَّ أن ذلك إفك وبهتان، حتى يتضح البرهان. وفيه تعريض بأنَّ ظنَّ السُّوء الذي وقع هو من خصال النِّفاق، التي سرت لبعض المؤمنين عن غرورٍ وقلة بَصارَة، فكفى بذلك تشنيعًا له)
    وقال أبو حيان الأندلسي: (فيه تنبيه على أنَّ حقَّ المؤمن إذا سمع قَالَةً في أخيه، أن يبني الأمر فيه على ظنِّ الخير، وأن يقول بناء على ظنِّه: هذا إفك مبين، هكذا باللفظ الصريح ببراءة أخيه، كما يقول المستيقن المطَّلع على حقيقة الحال. وهذا من الأدب الحَسَن)
    وقال الخازن: (والمعنى: كان الواجب على المؤمنين إذ سمعوا قول أهل الإفك أن يكذبوه ويحسنوا الظَّن، ولا يسرعوا في التُّهمة، وقول الزُّور فيمن عرفوا عفَّته وطهارته)
    - وقال الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ [الحجرات: 12]
    قال ابن حجر الهيتمي: (عقَّب تعالى بأمره باجتناب الظَّن، وعلَّل ذلك بأنَّ بعض الظَّن إثم، وهو ما تخيَّلت وقوعه من غيرك من غير مستند يقيني لك عليه، وقد صمَّم عليه قلبك، أو تكلَّم به لسانك من غير مسوِّغ شرعي)
    ويقول الطبري: (يقول تعالى ذكره: يا أيُّها الذين صدقوا الله ورسوله، لا تقربوا كثيرًا من الظَّن بالمؤمنين، وذلك إن تظنوا بهم سوءًا، فإنَّ الظَّان غير محق، وقال جلَّ ثناؤه: اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ ولم يقل: الظَّن كلَّه، إذ كان قد أَذِن للمؤمنين أن يظنَّ بعضهم ببعض الخير،
    فقال: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ [النور: 12] ، فأَذِن الله جلَّ ثناؤه للمؤمنين أن يظنَّ بعضهم ببعض الخير، وأن يقولوه، وإن لم يكونوا من قِيلِه فيهم على يقين....
    عن ابن عباس، قوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ يقول: نهى الله المؤمن أن يظنَّ بالمؤمن شرًّا. وقوله: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ يقول: إنَّ ظنَّ المؤمن بالمؤمن الشَّر لا الخير، إِثْمٌ؛ لأنَّ الله قد نهاه عنه، فَفِعْل ما نهى الله عنه إِثْمٌ)

    ثانيًا: التَّرغيب في حُسْن الظَّن في السُّنَّة النَّبويَّة

    - عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((إيَّاكم والظَّن، فإنَّ الظَّن أكذب الحديث، ولا تحسَّسوا، ولا تجسَّسوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا ))
    قال النَّووي: (المراد: النَّهي عن ظنِّ السَّوء، قال الخطَّابي: هو تحقيق الظَّن وتصديقه دون ما يهجس في النَّفس، فإنَّ ذلك لا يُمْلَك. ومراد الخطَّابي أنَّ المحَرَّم من الظَّن ما يستمر صاحبه عليه، ويستقر في قلبه، دون ما يعرض في القلب ولا يستقر، فإنَّ هذا لا يكلَّف به)
    قال الغزالي: (أي: لا يحقِّقه في نفسه بعقد ولا فعل، لا في القلب ولا في الجوارح، أما في القلب فبتغيره إلى النُّفرة والكراهة، وأما في الجوارح فبالعمل بموجبه. والشَّيطان قد يقرِّر على القلب بأدنى مَخِيلة مَسَاءة النَّاس، ويلقي إليه أنَّ هذا من فطنتك، وسرعة فهمك وذكائك، وأنَّ المؤمن ينظر بنور الله تعالى، وهو على التَّحقيق ناظر بغرور الشَّيطان وظلمته)
    - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، فقال: ((ما أعظم حُرْمَتك)) وفي رواية أبي حازم: ((لما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، قال: مرحبًا بك من بيت، ما أعظمك وأعظم حُرْمَتك، ولَلْمؤمن أعظم حُرْمَة عند الله منكِ، إنَّ الله حرَّم منكِ واحدة، وحرَّم من المؤمن ثلاثًا: دمه، وماله، وأن يُظنَّ به ظنَّ السَّوء))
    قال الغزالي: (فلا يُستباح ظنُّ السُّوء إلا بما يُستباح به المال، وهو نفس مشاهدته أو بيِّنةٍ عادلةٍ. فإذا لم يكن كذلك، وخطر لك وسواس سوء الظَّن، فينبغي أن تدفعه عن نفسك، وتقرِّر عليها أنَّ حاله عندك مستور كما كان، وأنَّ ما رأيته منه يحتمل الخير والشَّر. فإنْ قلت: فبماذا يُعرف عقد الظَّن والشُّكوك تختلج، والنَّفس تحدِّث؟ فتقول: أمارة عقد سوء الظَّن أن يتغيَّر القلب معه عما كان، فينفِر عنه نُفُورًا ما، ويستثقله، ويفتر عن مراعاته، وتفقُّده وإكرامه، والاغتمام بسببه. فهذه أمارات عقد الظَّن وتحقيقه)
    - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة وهو يقول: ((ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حُرْمَتك. والذي نفس محمَّد بيده، لحُرْمَة المؤمن أعظم عند الله حرْمَة منكِ، ماله ودمه، وأن نظنَّ به إلَّا خيرًا))

    أقوال السَّلف والعلماء في حُسْن الظَّن

    - قال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: (لا يحلُّ لامرئ مسلم يسمع من أخيه كلمة يظنُّ بها سوءًا، وهو يجد لها في شيء من الخير مخرجًا. وقال أيضًا: لا ينتفع بنفسه من لا ينتفع بظنه)
    - وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (من علم من أخيه مروءة جميلة فلا يسمعنَّ فيه مقالات الرِّجال، ومن حَسُنت علانيته فنحن لسريرته أرجى)
    - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنَّا إذا فقدنا الرَّجل في صلاة العشاء وصلاة الفجر، أسأنا به الظَّنَّ )
    - وعن سعيد بن المسيَّب قال: (كتب إليَّ بعض إخواني من أصحاب رسول الله: أن ضع أمر أخيك على أحسنه، ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظنَّن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرًّا، وأنت تجد لها في الخير محملًا)
    - وقال المهلب: (قد أوجب الله تعالى أن يكون ظنُّ المؤمن بالمؤمن حسنًا أبدًا، إذ يقول: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ [النور: 12] ، فإذا جعل الله سوء الظَّن بالمؤمنين إفكًا مبينًا، فقد ألزم أن يكون حُسْن الظَّن بهم صدقًا بينًا)
    - وروى معمر عن إسماعيل بن أمية قال: (ثلاث لا يعجزن ابن آدم، الطِّيرة، وسوء الظَّن والحسد. قال: فينجيك من سوء الظَّن أن لا تتكلم به، وينجيك من الحسد أن لا تبغي أخاك سوءًا، وينجيك من الطِّيرة أن لا تعمل بها)
    - وقال قتادة: (إنَّ الظَّن اثنان: ظنٌّ يُنْجِي، وظنٌّ يُرْدِي)

    فوائد حُسْن الظَّن

    إن لم يكن في هذه الصِّفة إلَّا راحة القلب، وسلامة البال لكفى، كيف لا، وبها يسلم الإنسان من الخواطر الرَّديئة التي تقلقه، وتؤذي نفسه، وتجلب عليه كَدَرَ البال، وتعب النَّفس والجسد، ومن هنا نعرف فضيلة هذه الصِّفة الرَّائعة والخُلق الفاضل، وهذه جملة من فوائد حسن الظن:
    1- حُسْن الظَّن علامة على كمال الإيمان في قلب المتحلِّي به، فلا يظنُّ بالمؤمنين خيرًا إلا من كان منهم،
    كما قال تبارك وتعالى في سورة النُّور: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ [النور: 12]
    2- فيه إغلاق باب الفتنة والشَّر على الشَّيطان الرَّجيم؛ فإنَّ من أبوابه سوء الظَّن بالمسلمين،
    قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ [الحجرات: 12]، فمن يَحْكُم بشرٍّ على غيره بالظَّن، بعثه الشَّيطان على أن يطول فيه اللِّسان بالغيبة فيهلك، أو يقصر في القيام بحقوقه، أو يتوانى في إكرامه، وينظر إليه بعين الاحتقار، ويرى نفسه خيرًا منه. وكل ذلك من المهلكات
    3- طريق من طرق زيادة الألفة والمحبَّة بين أفراد المجتمع المسلم، وحماية له من التَّفكُّك والتَّشرذم.
    4- حصن منيع يحمي المجتمع من إشاعة الفاحشة، وانتشار الرَّذيلة، وبه يسلم المجتمع من انتِّهاك حقوق النَّاس وأعراضهم وخصوصياتهم.
    5- دليل على سلامة القلب وطهارة النَّفس، وزكاء الرُّوح.

    أقسام الظَّن

    ينقسم الظَّن من حيث الحمد والذم إلى قسمين:
    1- ظنٌّ محمود:
    وهو ما عبرنا عنه هنا بحسن الظَّن، وهو المقصود هنا، قال القرطبي: (الظَّن في الشَّريعة قسمان: محمود ومذموم، فالمحمود منه: ما سلم معه دين الظَّان والمظنون به عند بلوغه. والمذموم ضدُّه)
    2- ظنٌّ مذموم:
    وهو ضد الأول المحمود، كما سبق في كلام القرطبي، ولزيادة توضيحه وبيانه نقول: هو ما تخيلت وقوعه من غيرك من غير مستند يقيني لك عليه، وقد صمَّم عليه قلبك، أو تكلَّم به لسانك من غير مسوِّغ شرعي
    وهو سوء الظَّن المنهي عنه شرعًا، والذي حذرنا منه كتاب الله عزَّ وجلَّ وسنَّة رسوله صلَّى الله عليه وسلم، وقد أجاز العلماء بعض صوره، قال أبو حاتم: (سوء الظَّن على ضربين:
    أحدهما: منهي عنه بحكم النَّبي صلَّى الله عليه وآله وسلم.
    والآخر: مستحب.
    فأما الذي نهى عنه، فهو استعمال سوء الظَّن بالمسلمين كافةً، وأمَّا الذي يستحب من سوء الظَّن، فهو كمن بينه وبين آخر عداوة أو شحناء في دين أو دنيا، يخاف على نفسه من مَكْرِه، فحينئذ يلزمه سوء الظَّن بمكائده ومَكْرِه؛ كي لا يصادفه على غرَّة بمكره فيهلكه.

    صور حُسْن الظَّن

    1- حُسْن الظَّن بالله:
    عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: ((لا يموتنَّ أحدكم إلا وهو يحُسْن الظَّن بالله عزَّ وجلَّ ))
    فإحسان الظَّن بالله تبارك وتعالى واجب، وهو أُنْسٌ للعبد في حياته، ومَنْجَى له بعد مماته، قال النَّووي في شرحه على صحيح مسلم: (قال العلماء: معنى حُسْن الظَّن بالله تعالى: أن يَظُنَّ أنَّه يرحمه، ويعفو عنه. قالوا: وفي حالة الصِّحَّة يكون خائفًا، راجيًا، ويكونان سواء،
    وقيل: يكون الخوف أرجح. فإذا دنت أمارات الموت، غلَّب الرَّجاء، أو محَّضه؛ لأنَّ مقصود الخوف الانكفاف عن المعاصي، والقبائح، والحرص على الإكثار من الطَّاعات، والأعمال، وقد تعذَّر ذلك، أو معظمه في هذا الحال، واستُحِبَّ إحسان الظَّن المتضمِّن للافتقار إلى الله تعالى، والإذعان له)
    وقال ابن القيِّم: (كلما كان العبد حَسن الظَّن بالله، حَسن الرَّجاء له، صادق التوكُّل عليه: فإنَّ الله لا يخيِّب أمله فيه البتَّة؛ فإنَّه سبحانه لا يخيِّب أمل آملٍ، ولا يضيِّع عمل عاملٍ، وعبَّر عن الثقة وحُسْن الظَّن بالسَّعة؛ فإنَّه لا أشرح للصَّدر، ولا أوسع له بعد الإيمان من ثقته بالله، ورجائه له، وحُسْن ظنِّه به)
    وقال أيضًا: (فعلى قدر حُسْن ظنِّك بربِّك ورجائك له، يكون توكُّلك عليه؛ ولذلك فَسَّر بعضهم التَّوكُّل بحُسْن الظَّن بالله، والتَّحقيق: أنَّ حُسْن الظَّن به يدعوه إلى التوكُّل عليه، إذ لا يُتَصَوَّر التَّوكُّل على من ساء ظنك به، ولا التَّوكُّل على من لا ترجوه)
    وقال داود الطَّائي: (ما نعوِّل إلا على حُسْن الظَّن بالله تعالى، فأمَّا التَّفريط فهو المستولي على الأبدان)
    2- حُسْن الظَّن بين الرؤساء والمرؤوسين:
    لا ينتظم أمر هذه الأمَّة إلا بالعلاقة الحسنة بين أفرادها رؤساء ومرؤوسين، لذا كان من وصيَّة عليٍّ رضي الله عنه للأشتر عندما ولَّاه مصر: (اعلم أنَّه ليس شيء أدعى إلى حُسْن ظنِّ والٍ برعيَّته من إحسانه إليهم، وتخفيفه المؤونات عنهم، وترك استكراهه إيَّاهم على ما ليس له قِبَلهم، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حُسْن الظَّن برعيتك، فإنَّ حُسْن الظَّن يقطع عنك نصبًا طويلًا، وإنَّ أحقَّ من حَسُن ظنُّك به، لمنْ حَسُن بلاؤك عنده، وإنَّ أحقَّ مَنْ ساء ظنُّك به، لمنْ ساء بلاؤك عنده...)
    وقال طاهر بن الحسين لابنه وهو يوصيه: (ولا تتَّهمنَّ أحدًا من النَّاس فيما تولِّيه من عملك قبل أن تكشف أمره، فإنَّ إيقاع التُّهم بالبرآء، والظُّنون السَّيئة بهم مَأْثَمٌ، واجعل من شأنك حُسْن الظَّن بأصحابك، واطرد عنك سوء الظَّن بهم، وارفضه فيهم، يعينك ذلك على اصطناعهم ورياضتهم، لا يجدنَّ عدوُّ الله الشَّيطان في أمرك مفخرًا، فإنَّه إنَّما يكتفي بالقليل من وهنك، فيُدخل عليك من الغمِّ في سوء الظَّن ما ينغصك لذاذة عيشك، واعلم أنَّك تجد بحُسْن الظَّن قوة وراحة، وتكفى به ما أحببت كفايته من أمورك، وتدعو به النَّاس إلى محبَّتك، والاستقامة في الأمور كلِّها لك، ولا يمنعك حُسْن الظَّن بأصحابك والرأفة برعيَّتك، أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك، والمباشرة لأمور الأولياء، والحياطة للرَّعيَّة، والنَّظر في حوائجهم وحمل مؤوناتهم، آثر عندك مما سوى ذلك، فإنَّه أقوم للدِّين، وأحيا للسُّنَّة)
    3- حُسْن الظَّن بالإخوان والأصدقاء:
    على المسلم أن يُحِسَن الظَّن بإخوانه المسلمين عامَّة، وبأصدقائه المقرَّبين خاصَّة، وهذا ما أرشدنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيَّن أنه واجب على المسلم تجاه أخيه المسلم، فيجب على المسلم أن يلتمس لإخوانه الأعذار ما استطاع، ويحمل عليها ما يبلغه عنهم من قول أو فعل. فإذا لم يجد محملًا، فليقل: لعل لهم عذرًا لم أعرفه.
    فإذا لم تطق ما سمعت من قول أو فعل أو تصرف، فاذهب إلى أخيك وصارحه بالأمر، وبيِّن له، فإنْ كان أخطأ بادر بتصحيح خطئه، وإن لم يكن كذلك أزال ما في قلبك من لَبْس، وبيَّن لك حقيقة الأمر فتطيب نفسك بذلك.
    (إنَّ الخطأ في حُسْن الظَّن بالمسلم، أسلم من الصَّواب بالطَّعن فيهم، فلو سكت إنسان مثلًا عن لعن إبليس، أو لعن أبي جهل، أو أبي لهب، أو من شاء من الأشرار طول عمره، لم يضرَّه السُّكوت، ولو هفا هفوة بالطَّعن في مسلم بما هو بريء عند الله تعالى منه فقد تعرض للهلاك، بل أكثر ما يُعْلم في النَّاس لا يحل النُّطق به؛ لتعظيم الشَّرع الزَّجر عن الغيبة، مع أنَّه إخبار عما هو متحقِّق في المغتاب. فمن يلاحظ هذه الفصول، ولم يكن في طبعه ميلٌ إلى الفضول، آثر ملازمته السُّكوت وحُسْن الظَّن بكافة المسلمين، وإطلاق اللِّسان بالثَّناء على جميع السَّلف الصَّالحين. هذا حكم الصَّحابة عامَّة)
    4- حُسْن الظَّن بين الزَّوجين:
    إنَّ إحسان الظَّن بين الزَّوجين من أهم الدَّعائم التي يُبْنى عليها البيت الدَّائم والمستقر والمطمئن، وبغير حُسْن الظَّن: فإنَّ البيوت مهدَّدة بالانهيار والتَّشرذم والفرقة والطَّلاق.
    لا بد أن يكون بين الزَّوجين حُسْن ظنٍّ متبادلٍ، وألَّا يتركا للشَّيطان مجالًا للتَّلاعب بهما، وقذف الشُّكوك في قلبيهما؛ لأنَّه متى ما انفتح باب إساءة الظَّن بينهما صعب إغلاقه، وجرَّ ذلك إلى ويلات قد تهدِّد استقرار البيت بأكمله.
    هناك الكثير من الأزواج والزَّوجات أصحاب طبيعة قلقة، وأنفس متوتِّرة، يغلِّبون جانب الشُّكوك على جانب السَّلامة، فتراهم يجنحون إلى سوء الظَّن، ويفسِّرون الأمور على أسوأ تفسيراتها وأردأ احتمالاتها، وفي هذا خطر كبير على استمرار الحياة الأسرية، فينبغي على الأزواج والزَّوجات أن يغلِّبوا حسْن الظَّن، ويطردوا الشَّك والرِّيبة.

    موانع اكتساب حُسْن الظَّن

    1- العيش في مجتمع يغلب عليه سوء الظَّن، وانتشار الشُّكوك في أفراده.
    2- التَّربية منذ الصِّغر على سوء الظَّن وتغليب جانب التُّهمة على السَّلامة.
    3- الجهل بأحكام الدِّين الحنيف، والابتعاد عن تعاليمه الدَّاعية إلى حُسْن الظَّن.
    4- الجهل بهذه الصِّفة الطَّيبة وآثارها الجميلة في المجتمع.
    5- مصاحبة الأشرار: فقرناء السُّوء لهم تأثير كبير في هذا الجانب، فمن عاشرهم وخالطهم أورثوه من أخلاقهم، وأعطوه من صفاتهم، قال أبو حاتم البستي: (العاقل يلزم صحبة الأخيار، ويفارق صحبة الأشرار؛ لأنَّ مَوَدَّة الأخيار سريع اتصالها، بطيء انقطاعها، ومودة الأشرار سريع انقطاعها، بطيء اتصالها، وصحبة الأشرار تورث سوء الظَّن بالأخيار، ومن خَادَن الأشرار لم يسلم من الدخول في جملتهم)
    6- الحسد والغلُّ والحقد، وهذه الصِّفات تدعو إلى سوء الظَّنِّ بالإخوان النَّاشئ عن تمنِّي الشَّر لهم.

    الوسائل المعينة على اكتساب حُسْن الظَّن

    1- دعاء الله سبحانه، والابتهال إليه حتى يمن عليك بقلب سليم، فالدُّعاء علاج ناجع، ووسيلة نافعة، ليس لهذه الصِّفة فحسب، بل لجميع الأمور الدينيَّة والدنيويَّة.
    2- الاقتداء بالرَّسول صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام، وسلف الأمَّة الصَّالح في حُسْن ظنِّهم ببعضهم، وتعاملهم مع الإشاعات والأكاذيب، ومحافظتهم على أواصر الحبِّ والموَدَّة بينهم.
    3- التَّربية الحسنة للأبناء منذ نعومة أظفارهم، على حُسْن الظَّن، فينمو الفرد، ويترعرع في ظلِّ هذه الصِّفة الحميدة، فتتجذَّر في نفسه، وتتأصَّل في داخله، وتصبح سجيَّة له لا تنفك عنه أبدًا بإذن الله.
    4- أن ينزل المرء نفسه منزلة غيره، وهو علاج ربَّاني، ودواء قرآني، أرشد الله إليه المؤمنين، وعلَّمهم إيَّاه،
    حيث قال: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ [النور: 12] ، فأشعرهم تبارك وتعالى أنَّ المؤمنين كيان واحد، وضرر الفرد منهم ضرر للجماعة بأكملها.
    ولو استشعر كلُّ مؤمن هذا الأمر عند صدور فعل أو قول من أخيه، فوضع نفسه مكانه، لدعاه ذلك إلى إحسان الظَّن بالآخرين.
    5- محاولة زيادة الإيمان بفعل الخيرات والطَّاعات، وعلاج أمراض القلب من الحسد والغلِّ والخيانة وغيرها، فمتى ما زاد إيمان المرء وصفى قلبه من هذه الأمراض والأوبئة، حَسُن ظنُّه بإخوانه.
    6- حمل الكلام على أحسن محامله ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.
    7- أن يلتمس المؤمن الأعذار للمؤمنين، قال ابن سيرين: (إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرًا، فإن لم تجد، فقل: لعل له عذرًا لا أعرفه)
    وفي التماس الأعذار راحة للنَّفس من عناء الظَّن السَّيئ، الذي يشغلها ويقلقها، وفيه أيضًا إبقاء على الموَدَّة، وحفاظ عليها من الزوال والانتهاء.
    تأن ولا تعجل بلومك صاحبا
    لعلَّ له عذرًا وأنت تلوم
    8- إجراء الأحكام على الظاهر، ويوكل أمر الضَّمائر إلى الله عز وجل، ويتجنَّب الحكم على النِّيَّات، فإنَّ الله لم يكلِّفنا أنَّ نفتِّش في ضمائر النَّاس.
    والاكتفاء بظاهر الشَّخص، والحكم عليه من خلاله، من أعظم بواعث حُسْن الظَّن، وأقوى أسبابها.
    9- أن يستحضر العبد الآفات التي تنتج عن سوء الظَّن، وما يترتب عليه من آثار، فهو دافع لأن يُحْسِن الرَّجل ظنَّه بغيره.
    10- البعد عن كلِّ من اتصف بما يضادُّ هذه الصِّفة الحسنة، ممن لا يتورَّعون عن إلقاء التُّهم على عباد الله جزافًا، بلا تثبُّت. وهؤلاء هم أسوأ النَّاس، فقد قيل لبعض العلماء: من أسوأ النَّاس حالًا؟ قال: من لا يثق بأحد لسوء ظنه، ولا يثق به أحد لسوء فعله

    نموذج لحُسْن الظَّن من حياة النَّبي صلى الله عليه وسلم

    علَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه رضوان الله عليهم حُسْن الظَّن، وبيَّن لهم أنَّ الأصل في المؤمن السَّلامة،
    وأنَّ الإنسان لا بدَّ له من التماس الأعذار لمن حوله، وعليه أن يطرد الشُّكوك والرِّيبة التي قد تدخل في قلبه، فيترتَّب عليها من الآثار ما لا يُحْمَد عقباه، فهذا رجل جاء إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم وقد داخلته الرِّيبة في امرأته، وأحاطت به ظنون السُّوء فيها؛ لأنَّها ولدت غلامًا أسود، على غير لونه ولونها، فأزال النَّبي صلى الله عليه وسلم ما في قلبه من ظنٍّ وريبة، بسؤاله عن لون إبله،
    فقال: ((ألوانها حمر. قال: هل فيها من أورق ؟ قال: نعم. قال: فأنَّى ذلك؟ قال: لعله نزعه عرق. قال: فلعل ابنك هذا نزعه عرق
    نموذج لحُسْن الظَّن من الصَّحابة رضي الله عنهم

    وقد كان الصَّحابة رضوان الله عليهم، مثالًا يُحتذى بهم في حُسْن الظَّن بالمؤمنين، فهذا أبو أيوب خالد بن زيد قالت له امرأته أم أيوب: يا أبا أيوب ألا تسمع ما يقول النَّاس في عائشة؟ قال: بلى، وذلك الكذب. أكنت أنت يا أمَّ أيوب فاعلة ذلك؟
    قالت: لا والله ما كنت لأفعله

    نموذج لحُسْن الظَّن من السَّلف

    مرض الشافعي رحمه الله، فأتاه بعض إخوانه يعوده، فقال للشافعي: قوَّى الله ضعفك. فقال الشافعي: لو قوى ضعفي لقتلني. قال: والله ما أردت إلَّا الخير. فقال الشافعي: أعلم أنك لو سببتني ما أردت إلا الخير

    حُسْن الظَّن في واحة الأدب والأمثال

    1- قالوا: من جعل لنفسه من حُسْن الظَّن بإخوانه نصيبًا، أراح قلبه.
    يعني إنَّ الرَّجل إذا رأى من أخيه إعراضًا أو تغيرًا، فحمله منه على وجه جميل، وطلب له الأعذار، خفَّف ذلك عن قلبه، وقَلَّ منه غيظه واغتمامه
    2- وقال محمَّد بن حرب: صواب الظَّن، الباب الأكبر من الفراسة.
    3- وقال رجل لصاحب له: إنَّما اشتدَّ غضبي؛ لأنَّ من كان علمه أكثر، كان ذنبه أكبر، قال: فهلا جعلت سعة علمي سبيلًا إلى حُسْن الظَّن بنزوعي، أو إلى أنِّي غالط في تفريطي، مخطئ بقصدي، غير معاند لك، ولا جريء عليك
    4- وقال الخليل بن أحمد: يجب على الصَّديق مع صديقه استعمال أربع خصال: الصَّفح قبل الاستقالة، وتقديم حُسْن الظَّن قبل التُّهمة، والبذل قبل المسألة، ومخرج العذر قبل العتب. وقال رجل لمطيع بن إياس: جئتك خاطبًا لموَدَّتك. قال: قد زوجتكها على شرط أن تجعل صداقها أن لا تسمع في مقالة النَّاس. وقالوا: السِّتر لما عاينت، أحسن من إذاعة ما ظننت
    5- وقيل: (ليكن حُسْن الظَّن بمقدار ما، والفَطِن لا تخفى عليه مخايل الأحوال، وفي الوجوه دلالات وعلامات)
    6- وقال أحد الزُّهاد: (ألق حُسْن الظَّن على الخَلْق، وسوء الظَّن على نفسك، لتكون من الأوَّل في سلامة، ومن الآخر على الزيادة).
    ---------------------------------------------------
    وما زلنا أحبابي جزاكم الله خيرا تابعونا
    ولا تنسونا من صالح دعائكم


    عدل سابقا من قبل sadekalnour في الأربعاء يونيو 22, 2022 2:13 pm عدل 1 مرات

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    ألأخلاق في  ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني Empty ألأخلاق في نظر ألإسلام .. الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف صادق النور الثلاثاء يونيو 14, 2022 6:33 pm


    ومن ألأخلاق المحموده

    الحِكْمَة

    معنى الحِكْمَة لغةً:

    الحَكَمَةُ: ما أحاط بحَنَكَي الفرس، سُمِّيت بذلك؛ لأنَّها تمنعه من الجري الشَّديد، وتُذلِّل الدَّابَّة لراكبها، حتى تمنعها من الجِماح، ومنه اشتقاق الحِكْمَة؛ لأنَّها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل.
    وأَحْكَمَ الأَمْرَ: أي أَتْقَنَه فاستَحْكَم، ومنعه عن الفساد، أو منعه من الخروج عمَّا يريد
    معنى الحِكْمَة اصطلاحًا:
    قال أبو إسماعيل الهروي: (الحِكْمَة اسم لإحكام وضع الشيء في موضعه)
    وقال ابن القيِّم: (الحِكْمَة: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي)
    وقال النَّووي: (الحِكْمَة، عبارة عن العلم المتَّصف بالأحكام، المشتمل على المعرفة بالله تبارك وتعالى، المصحوب بنفاذ البصيرة، وتهذيب النَّفس، وتحقيق الحقِّ، والعمل به، والصدِّ عن اتِّباع الهوى والباطل، والحَكِيم من له ذلك)

    من معاني الحِكْمَة

    تُطلق الحِكْمَة على معانٍ عدَّة، منها :
    1- الحِكْمَة بمعنى السُّنَّة، وبيان الشَّرائع:
    قال تعالى: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ [البقرة: 129]

    وقال تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 151]
    قال ابن القيِّم: (الحِكْمَة في كتاب الله نوعان: مفردة، ومقترنة بالكتاب. فالمفردة فُسِّرت بالنُّـبُوَّة، وفُسِّرت بعلم القرآن.
    قال ابن عباس: هي علم القرآن ناسخه ومنسوخه، ومُحْكَمه ومُتَشَابهه، ومقدَّمه ومؤخَّره، وحلاله وحرامه، وأمثاله.
    وقال الضَّحاك: هي القرآن والفهم فيه. وقال مجاهد: هي القرآن، والعلم والفِقْه. وفي رواية أخرى عنه: هي الإصابة في القول والفعل.
    وقال النَّخعي: هي معاني الأشياء وفهمها.
    وقال الحسن: الورع في دين الله. كأنَّه فسَّرها بثمرتها ومقتضاها. وأما الحِكْمَة المقرونة بالكتاب، فهي السُّنَّة.
    كذلك قال الشافعي وغيره من الأئمة. وقيل: هي القضاء بالوحي، وتفسيرها بالسُّنَّة أعم وأشهر)
    2- الحِكْمَة بمعنى النُّبُوَّة:

    قال تعالى: فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة: 251]

    وقال تعالى: وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ص: 20]

    وقال تعالى: وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الزخرف: 63]

    3- الحِكْمَة بمعنى الفِقْه:

    قال تعالى: يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ [البقرة: 269]

    4- الحِكْمَة بمعنى الفَهْم، وحُجَّة العقل وفقًا للشَّريعة:

    قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [لقمان: 12]
    5- الحِكْمَة بمعنى العِظَة:
    قال تعالى: حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ [القمر: 5]

    أولًا: الحِكْمَة في القرآن الكريم

    - قال تعالى: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النَّحل: 125]
    ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ أي: بالمقالة المحْكَمة الصَّحيحة. وهو الدَّليل الموضِّح للحقِّ، المزيح للشُّبهة)

    - وقال تعالى: يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة: 269]

    (أي: أنَّه تعالى يُعطي الحِكْمَة والعلم النَّافع المصرِّف للإرادة، لمن يشاء من عباده، فيميِّز به الحقائق من الأوهام، ويسهل عليه التَّفرقة بين الوسواس والإلهام، وآلة الحِكْمَة، العقل المستقل بالحكم في إدراك الأشياء بأدلتها، على حقيقتها،
    ومن أُوتي ذلك عرف الفرق بين وعد الرَّحمن ووعد الشَّيطان، وعضَّ على الأوَّل بالنَّواجذ، وطرح الثَّاني وراءه ظهريًّا، وفهم الأمور)
    وقال السعدي: (إنَّ من آتاه الله الحِكْمَة فقد آتاه خيرًا كثيرًا، وأيُّ خير أعظم من خير فيه سعادة الدَّارين، والنَّجاة من شقاوتهما!
    وفيه التَّخصيص بهذا الفضل، وكونه من ورثة الأنبياء، فكمال العبد متوقِّف على الحِكْمَة، إذ كماله بتكميل قوَّتيه العلميَّة والعمليَّة، فتكميل قوَّته العلميَّة: بمعرفة الحقِّ، ومعرفة المقصود به، وتكميل قوَّته العمليَّة: بالعمل بالخير وترك الشَّر، وبذلك يتمكن من الإصابة بالقول والعمل، وتنزيل الأمور منازلها في نفسه وفي غيره، وبدون ذلك لا يمكنه ذلك)

    - قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [لقمان: 12]

    (يخبر تعالى عن امتنانه على عبده الفاضل لُقْمان، بالحِكْمَة، وهي العلم بالحقِّ على وجهه وحِكْمَته، فهي العلم بالأحكام، ومعرفة ما فيها من الأسرار والإحكام، فقد يكون الإنسان عالـمًا، ولا يكون حكيمًا)

    ثانيًا:
    الحِكْمَة في السُّنَّة النَّبويَّة

    - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا، فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة، فهو يقضي بها ويعلِّمها ))
    قال النَّووي: (ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلِّمها، معناه: يعمل بها ويعلِّمها احتسابًا، والحكمة: كلُّ ما منع من الجهل، وزجر عن القبيح)
    - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ضمَّني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: ((اللهمَّ علِّمه الحِكْمَة ))

    قال ابن حجر: (اختلف الشُّرَّاح في المراد بالحِكْمَة هنا، فقيل: القرآن، كما تقدم، وقيل: العمل به، وقيل: السُّنَّة،
    وقيل: الإصابة في القول، وقيل: الخشية، وقيل: الفهم عن الله، وقيل: العقل، وقيل: ما يشهد العقل بصحته،
    وقيل: نور يُفرِّق به بين الإلهام والوسواس، وقيل: سرعة الجواب مع الإصابة. وبعض هذه الأقوال ذكرها بعض أهل التَّفسير في تفسير قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ، والأقرب أنَّ المراد بها في حديث ابن عباس: الفهم في القرآن)

    أقوال السَّلف وأهل العلم في الحِكْمَة

    - قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ينبغي لحامل القرآن، أن يكون باكيًا محزونًا حكيمًا حليمًا سكينًا)
    - وكتب سلمان إلى أبي الدَّرداء: (إنَّما العلم كالينابيع، فينفع به الله من شاء، ومَثَلُ حِكْمَة لا يُتَكلَّم بها، كجسد لا رُوح له)
    - وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (كونوا ربَّانيِّين حُكَماء فقهاء)
    - وعن عكرمة، قال: (قال عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم: لا تطرح اللؤلؤ إلى الخنزير، فإنَّ الخنزير لا يصنع باللؤلؤ شيئًا، ولا تعط الحِكْمَة من لا يريدها، فإنَّ الحِكْمَة خيرٌ من اللؤلؤ، ومن لم يردها شرٌّ من الخنزير)
    - وقال عمر بن عبد العزيز: (إذا رأيتم الرَّجل يطيل الصَّمت، ويهرب من النَّاس، فاقْرَبوا منه؛ فإنَّه يُلقَّى الحِكْمَة)
    - وعن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: (مكتوبٌ في الحِكْمَة، بُنَيَّ لتكن كلمتك طيِّبة، وليكن وجهك بسيطًا، تكن أحبَّ إلى النَّاس ممَّن يعطيهم العطاء)
    - وقال سليمان بن عبد الملك: (يا أبا حازم! من أعقل النَّاس؟ فقال أبو حازم: من تعلَّم الحِكْمَة وعلَّمها النَّاس)
    - وقال وهب بن منبه: (إنَّ الحِكْمَة تسكن القلب الوَادِع السَّاكن)
    - وقال حماد بن أبي حنيفة: (كان يقال: من يستقبل وجوه الآراء، عرف مواقع الخطأ، ومن عُرِف بالحِكْمَة لمحته الأعين بالوقار)
    - وعن ابن عيينة قال: (كان يقال: إنَّ أفضل ما أُعطي العبد في الدُّنيا الحِكْمَة، وفي الآخرة الرَّحمة)
    - وقال وهيب بن الورد: (بلغنا أنَّ الحِكْمَة عشرة أجزاء: تسعة منها في الصَّمت، والعاشرة في عزلة النَّاس)
    - وعن كثير بن مرَّة قال: (لا تحدِّث الباطل للحُكَمَاء فيمقتوك، ولا تحدِّث الحِكْمَة للسُّفهاء فيكذِّبوك، ولا تمنع العلم أهله فتأثم، ولا تضعه في غير أهله فتجهل. إنَّ عليك في علمك حقًا، كما إنَّ عليك في مالك حقًّا)
    - وقال أبو بكر بن دريد: (كلُّ كلمة وعظتك وزجرتك، أو دعتك إلى مكرمة، أو نهتك عن قبيح، فهي حِكْمَة)
    - وقال عبد الرَّحمن الحبلي: (ليس هديَّة أفضل من كلمة حِكْمَة تهديها لأخيك)
    - وقال أبان بن سليم: (كلمة حِكْمَة لك من أخيك، خير لك من مال يعطيك؛ لأنَّ المال يطغيك، والكلمة تهديك)

    فوائد الحِكْمَة



    1- من فوائد الحِكْمَة، أنها طريق إلى معرفة الله عزَّ وجلَّ، موصلة إليه، مقرِّبة منه، وحينها ينقطع العبد عمن سواه، ولا يطمع في غيره.
    2- أنَّها سِمَة من سمات الأنبياء والصَّالحين، وعلامة للعلماء العاملين، ومزيَّة للدُّعاة المصلحين.
    3- من أهمِّ فوائد الحِكْمَة، الإصابة في القول والسَّداد والعمل.
    4- أنَّها ترفع الإنسان درجات وتشرِّفه، وتزيد من مكانته بين النَّاس، فعن مالك بن دينار قال: (قرأت في بعض كتب الله: أنَّ الحِكْمَة تزيد الشَّريف شرفًا، وترفع المملوك حتى تُجْلِسه مجالس الملوك)
    5- فيها دلالة على كمال عقل صاحبها وعلوِّ شأنه، وهذا يجعله قريبًا من النَّاس، حبيبًا لقلوبهم، ومَهْوَى أفئدتهم، يقول فيسمعون، ويأمر فيطيعون؛ لأنَّهم يدركون أنَّ رأيه نِعْم الرأي، ومشورته خير مشورة.
    6- أنَّها تدعو صاحبها للعمل على وفق الشَّرع، فيصيب في القول والفعل والتَّفكير، ويسير على هدى وبصيرة. قال أبو القاسم الجنيد بن محمد، وقد سئل: بم تأمر الحِكْمَة؟ قال: (تأمر الحِكْمَة بكلِّ ما يُحْمَد في الباقي أثره، ويطيب عند جملة النَّاس خبره، ويُؤْمَن في العواقب ضرره)
    7- تعطي العبد نفاذًا في البصيرة، وتهذيبًا للنَّفس، وتزكية للرُّوح، ونقاءً للقلب.
    8- تكسو العبد بثوب الوقار، وتحلِّيه بحلية الهيبة، وتخلع عليه ثياب البهاء والإجلال.
    9- يكون صاحبها كالغيث حيثما حلَّ نفع، وأينما وُضِع أفاد، فيتعلَّم منه الكبير والصَّغير، ويكون مصدر خير بإذن الله.
    10- تحفظ الإنسان عن ارتكاب السُّوء أو التَّلفظ به، أو ارتكاب المحذورات، أو التَّجنِّي على الغير، أو عمل ما يضطره للاعتذار وطلب العفو، قال أبو القاسم الجنيد بن محمد، وقد سئل عما تنهى الحِكْمَة؟ فقال: (الحِكْمَة تنهى عن كلِّ ما يحتاج أن يُعْتَذر منه، وعن كلِّ ما إذا غاب عِلْمُه عن غيرك، أَحْشَمَك ذكره في نفسك)

    أنواع الحِكْمَة ودرجاتها


    الحِكْمَة نوعان:
    النَّوع الأوَّل: حِكْمَة علميَّة نظريَّة، وهي الاطلاع على بواطن الأشياء، ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها، خلقًا وأمرًا، قدرًا وشرعًا.
    النَّوع الثَّاني: حِكْمَة عمليَّة، وهي وضع الشيء في موضعه
    درجات الحِكْمَة:
    وهي على ثلاث درجات:
    الدَّرجة الأولى: أن تعطي كلَّ شيء حقَّه ولا تعدِّيه حدَّه، ولا تعجِّله عن وقته، ولا تؤخِّره عنه.
    لما كانت الأشياء لها مراتب وحقوق، تقتضيها شرعًا وقدرًا. ولها حدود ونهايات تصل إليها ولا تتعدَّاها. ولها أوقات لا تتقدَّم عنها ولا تتأخَّر، كانت الحِكْمَة مراعاة هذه الجهات الثلاث. بأن تُعطي كلَّ مرتبة حقَّها الذي أحقَّه الله بشرعه وقدره. ولا تتعدَّى بها حدَّها. فتكون متعديًا مخالفًا للحِكْمَة. ولا تطلب تعجيلها عن وقتها فتخالف الحِكْمَة. ولا تؤخِّرها عنه فتفوتها... فالحِكْمَة إذًا: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي... فكلُّ نظام الوجود مرتبط بهذه الصِّفة. وكلُّ خلل في الوجود، وفي العبد فسببه الإخلال بها. فأكمل النَّاس، أوفرهم نصيبًا. وأنقصهم وأبعدهم عن الكمال، أقلهم منها ميراثًا.
    ولها ثلاثة أركان: العلم، والحلم، والأَنَاة.
    وآفاتها وأضدادها: الجهل، والطَّيش، والعجلة.
    فلا حِكْمَة لجاهل، ولا طائش، ولا عجول.
    الدَّرجة الثَّانية: أن تشهد نظر الله في وَعْده، وتعرف عدله في حُكْمه. وتلحظ بِرَّه في منعه.
    أي: تعرف الحِكْمَة في الوعد والوعيد، وتشهد حُكْمه كما في قوله: إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40] ، فتشهد عدله في وعيده، وإحسانه في وعده، وكلٌّ قائمٌ بحِكْمَته.
    وكذلك تعرف عدله في أحكامه الشَّرعية، والكونيَّة الجارية على الخلائق، فإنَّه لا ظلم فيها، ولا حَيْف ولا جور، وكذلك تعرف بِرَّه في منعه. فإنَّه سبحانه هو الجَوَاد الذي لا ينقص خزائنه الإنفاق، ولا يَغِيض ما في يمينه سعَة عطائه. فما منع من منعه فضله إلَّا لحِكْمَة كاملة في ذلك.
    الدَّرجة الثَّالثة: أن تبلغ في استدلالك البصيرة، وفي إرشادك الحقيقة. وفي إشارتك الغاية.
    فتصل باستدلالك إلى أعلى درجات العلم. وهي البصيرة التي تكون نسبة العلوم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر، وهذه هي الخصِّيصة التي اختصَّ بها الصَّحابة عن سائر الأمَّة، وهي أعلى درجات العلماء

    موانع اكتساب الحِكْمَة

    1- من موانعها ما ذكره إبراهيم الخواص، حيث قال: (الحِكْمَة تنزل من السَّماء، فلا تسكن قلبًا فيه أربعة: الركون إلى الدُّنيا، وهمُّ غدٍ، وحبُّ الفضول، وحسد أخٍ)
    2- التَّعجل في الأمور، وترك التَّأني في اتخاذ القرار؛ فالعجلة في غير موضعها تدلُّ على خفَّة العقل، وقلَّة رزانته، وغلبة الشَّهوة عليه، ولهذا جعل ابن القيِّم من آفات الحِكْمَة وأضدادها العجلة، وقال: (فلا حكمة لجاهل، ولا طائش، ولا عجول)
    قال أبو حاتم البستي: (والعَجِل يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويَحْمدُ قبل أن يجرِّب، ويذمُّ بعد ما يحمد، ويعزم قبل أن يفكِّر، ويمضي قبل أن يعزم، والعَجِل تصحبه النَّدامة، وتعتزله السَّلامة. وكانت العرب تكنِّي العجلة: أمَّ النَّدامات)
    3- ضيق الأفق، وعدم التَّفكر في عواقب الأمور، ونقصد بضيق الأفق: سطحية التَّفكير وبساطته إلى حد الغفلة أو السَّذاجة، والنَّظر إلى الأمور من جانب واحد. وسوء تقدير للعواقب والنَّتائج، وجهل بالواقع، يضاف إلى ذلك عشوائيَّة العمل، وارتجاليَّة الأهداف، وإهدار الطَّاقات في قضايا ثانويَّة، وتبديدٌ للجهود في أمور هامشيَّة، وشَغْل النَّفس بالكماليَّات مع التَّفريط بالضَّروريات
    4- فَقْد البصيرة الدَّالة على حقائق الأمور، فيتَّخذ قراره على ظواهرها.
    5- عدم استشارة الصَّالحين، وأهل الخبرة.
    6- عدم الاستفادة من خبرات السَّابقين.

    وسائل اكتساب الحِكْمَة

    الحِكْمَة من حيث الاكتساب وعدمه تنقسم إلى قسمين:
    - حِكْمَة فطريَّة: يؤتيها الله عز وجل من يشاء، ويتفضَّل بها على من يريد، وهذه لا يد للعبد فيها، وهي التي عناها عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه حينما كتب إلى أبي موسى الأشعري: (إنَّ الحِكْمَة ليست عن كِبَر السِّن، ولكنَّه عطاء الله يعطيه من يشاء، فإيَّاك ودناءة الأمور، ومُرَّاق الأخلاق)
    - حِكْمَةٌ مكتسبةٌ: يكتسبها العبد بفعل أسبابها، وترك موانعها، فيسهل انقيادها له، وتجري على ألفاظه التي ينطق بها، وتكتسي بها أعماله التي يفعلها، ويشهدها النَّاس على حركاته وسكناته.
    ومن طرق اكتسابها:
    1- التَّفقه في الدِّين، وهو من الخير الكثير الذي أشارت إليه الآية: قال تعالى: يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ [البقرة: 269] )
    2- مجالسة أهل الصَّلاح، والاختلاط بهم، والاستفادة منهم؛ لذا كان لُقْمان يقول لابنه وهو يوصيه ويدُلُّه على طريق الحِكْمَة:
    (يا بُنَيَّ، جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك؛ فإنَّ الله يحيي القلوب بنور الحِكْمَة، كما يحيي الأرض الميِّتة بوابل السَّماء)
    3- العبادة الحقَّة لله سبحانه، والارتباط الوثيق به، والبعد عن المعاصي، وطرد الهوى، كلُّ ذلك من طُرُق نَيْل الحِكْمَة؛ فعن الحسن، قال: (من أحسن عبادة الله في شبيبته، لقَّاه الله الحِكْمَة عند كِبَر سنِّه،
    وذلك قوله: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [القصص: 14] )
    وقال ابن الجوزي: (لكلِّ باب مفتاح، ومفتاح الحِكْمَة: طرد الهوى)
    4- تحرِّي الحلال في مأكله ومشربه وملبسه وشأنه كلِّه سبب في نَيْل الحِكْمَة، والوصول إلى مصافِّ الحكماء.
    5- كثرة التَّجارب، والاستفادة من مدرسة الحياة؛ فــ(من مشارب الحِكْمَة: الاستفادة من العمر والتَّجارب، بالاعتبار، وأخذ الحَيْطة لأمر الدِّين والدُّنيا، ففي الحديث: ((لا يُلدغ المؤمن من جحر مرَّتين )) وكثرة التَّجارب هي التي تُكْسِب صاحبها الحلم والحِكْمَة)
    6- ألَّا يعتمد المرء على رأي نفسه، بل عليه أن يستشير ذوي الخبرة والتَّجربة من إخوانه الصَّالحين؛ ليزداد بصيرة بالعواقب
    7- التَّحلِّي بالصَّمت عمَّا لا فائدة فيه، طريق إلى اكتسابها، فالحَكِيم يُعرف بالصَّمت وقلَّة الكلام، وإذا تكلَّم تكلَّم بالحقِّ، وإن تلفَّظ تلفَّظ بخير، أو سكت، ففي الصَّحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا، أو يسكت ))
    وقد قال وهب بن منبه: (أجمعت الأطباء على أنَّ رأس الطبِّ: الحِمْيَة، وأجمعت الحُكَماء على أنَّ رأس الحِكْمَة: الصَّمت)
    وقال عمر بن عبد العزيز: (إذا رأيتم الرَّجل يطيل الصَّمت، ويهرب من النَّاس، فاقتربوا منه فإنه يُلقَّى الحِكْمَة)
    وقيل: (زَيْن المرأة الحياء، وزَيْن الحكيم الصَّمت)
    8- ومن طرق اكتسابها أيضًا ما ذكره لُقْمان الحكيم عندما سئل: أنَّى أُوتي الحِكْمَة؟ قال: (بشيئين: لا أتكلَّف ما كُفِيت، ولا أضيِّع ما كُلِّفت)
    نماذج من الحِكْمَة في حياة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام

    حِكْمَة نبيِّ الله سليمان عليه السلام في القضاء:
    عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينما امرأتان معهما ابنان لهما، جاء الذئب فأخذ أحد الابنين، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا فدعاهما سليمان، فقال: هاتوا السِّكين أشقُّه بينهما. فقالت الصُّغرى: يرحمك الله، هو ابنها، لا تشقَّه، فقضى به للصُّغرى ))
    قال ابن الجوزي: (أما داود عليه السلام فرأى استواءهما في اليد فقدم الكبرى لأجل السن، وأما سليمان عليه السلام فرأى الأمر محتملًا، فاستنبط فأحسن، فكان أَحَدَّ فطنة من داود، وكلاهما حكم بالاجتهاد، لأنه لو كان داود حكم بالنص لم يسع سليمان أن يحكم بخلافه، ولو كان ما حكم به نصًّا لم يخف على داود.
    وهذا الحديث يدل على أن الفطنة والفهم موهبة لا بمقدار السن)

    نماذج من حِكْمَة النَّبي صلى الله عليه وسلم في معاملة قومه

    - عن عائشة، زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم، أنَّها قالت للنَّبي صلى الله عليه وسلم: ((هل أتى عليك يوم كان أشدَّ من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشدُّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقَرْن الثَّعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلَّتني، فنظرت، فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إنَّ الله قد سمع قول قومك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال فسلَّم عليَّ، ثم قال: يا محمد، فقال ذلك فيما شئت أن أُطْبِق عليهم الأخشبين ؛ فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئًا ))
    - وفي صلح الحُدَيْبِية: دعا النَّبي صلى الله عليه وسلم الكاتب، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((اكتب: بسم الله الرَّحمن الرَّحيم. فقال سهيل: أما الرَّحمن، فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهمَّ. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرَّحمن الرَّحيم. فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: اكتب: باسمك اللهمَّ. ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمَّد رسول الله. فقال سهيل: والله لو كنَّا نعلم أنَّك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمَّد بن عبد الله. فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: والله إنِّي لرسول الله، وإن كذَّبتموني، اكتب: محمَّد بن عبد الله... ))

    نماذج من حِكْمَة السلف

    أبو بكر الصديق رضي الله عنه:
    فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((إنَّ أبا بكر رضي الله عنه خرج، وعمر رضي الله عنه يكلِّم النَّاس، فقال: اجلس. فأبى، فقال: اجلس. فأبى، فتشهَّد أبو بكر رضي الله عنه، فمال إليه النَّاس، وتركوا عمر، فقال: أما بعد، فمن كان منكم يعبد محمَّدًا صلى الله عليه وسلم، فإن محمَّدًا صلى الله عليه وسلم قد مات، ومن كان يعبد الله، فإنَّ الله حيٌّ لا يموت،
    قال الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144] والله لكأنَّ النَّاس لم يكونوا يعلمون أنَّ الله أنزلها حتى تلاها أبو بكر رضي الله عنه، فتلقاها منه النَّاس، فما يُسْمَع بَشَرٌ إلَّا يتلوها ))
    عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه:
    قال عمر: ((وافقت ربِّي في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مُصَلًّى؟ فنزلت: وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة: 125]
    وقلت: يا رسول الله، إنَّ نساءك يدخل عليهن البَرُّ والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن؟ فنزلت آية الحجاب. واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغَيْرة، فقلت لهن: عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا [التَّحريم: 5]، قال: فنزلت كذلك ))
    عثمان بن عفان رضي الله عنه:
    فقد أمر الصحابة إذا اختلفوا في شيء عند جمع القرآن أن يكتبوه بلغة قريش، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصُّحف في المصاحف، ردَّ عثمان الصُّحف إلى حفصة رضي الله عنها، وأرسل إلى كلِّ أُفُقٍ من الآفاق بمصحف ممَّا نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كلِّ صحيفة أو مصحف أن يُحرق
    الحسن بن علي رضي الله عنه:
    عن الأعمش قال: (ما زال الحسن يعي الحِكْمَة حتى نطق بها)
    أبو حازم سلمة بن دينار الأعرج:
    عن عبد الرَّحمن بن زيد بن أسلم قال: (ما رأيت أحدًا الحِكْمَة إلى فيه أقرب من أبي حازم)
    عمر بن عبد العزيز:
    حجَّ سليمان بن عبد الملك ومعه عمر بن عبد العزيز فأصابهم برقٌ ورعدٌ، حتى كادت تنخلع قلوبهم، فنظر سليمان إلى عمر وهو يضحك، فقال سليمان: يا أبا حفص، هل رأيت مثل هذه الليلة قط أو سمعت بها؟
    فقال: يا أمير المؤمنين، هذا صوت رحمة الله، فكيف لو سمعت صوت عذاب الله؟ فقال: هذه المائة ألف درهم، فتصدَّق بها.
    فقال عمر: أو خير من ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: وما هو؟ قال: قوم صحبوك في مظالم لهم، لم يصلوا إليك، فجلس سليمان فردَّ المظالم.
    وحدث من سليمان بن عبد الملك أنَّ سليمان قال له: يا أبا حفص، إنا وُلِّينا ما قد ترى، ولم يكن لنا بتدبيره علم، فما رأيت من مصلحة العامَّة فمُر به، فكان من ذلك أنَّ عمر أمر بعزل عمال الحجَّاج، وأقيمت الصَّلاة في أوقاتها بعد ما كانت أُمِيتت عن وقتها، مع أمور جليلة كان يُسمع من عمر فيها، فقد قيل: إنَّ سليمان حجَّ فرأى الخلائق بالموقف فقال لعمر: أما ترى هذا الخَلْق الذي لا يحصي عددهم إلا الله؟ قال: هؤلاء اليوم رعيَّتك، وهم غدًا خصماؤك، فبكى سليمان بكاءً شديدًا
    الإمام الشافعي:
    جاء رجل من أهل الكلام إلى الشافعي وهو في مصر، فسأله عن مسألة من الكلام، فقال له الشافعي: (أتدري أين أنت؟ قال الرَّجل: نعم. قال: هذا الموضع الذي أغرق الله فيه فرعون،
    أبلغك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالسُّؤال عن ذلك؟ قال: لا. قال: هل تكلَّم فيه الصَّحابة؟ قال: لا. قال: هل تدري كم نجمًا في السَّماء؟ قال: لا. قال: فكوكب منها، تعرف جنسه، طلوعه، أفوله، ممَّ خُلق؟ قال: لا.
    قال: فشيء تراه بعينك من الخَلْق لست تعرفه، تتكلم في علم خالقه؟! ثم سأله الشافعي عن مسألة من الوضوء فأخطأ فيها، ففرَّعها على أربعة أوجه، فلم يُصِب في شيء من ذلك، فقال له: شيء تحتاج إليه في اليوم خمس مرات تدع علمه، وتتكلف علم الخالق؟ إذا هجس في ضميرك ذلك فارجع إلى الله، وإلى قوله تعالى: وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة: 163] )

    حِكَم وأمثالٌ عن الحِكْمَة


    - قيل: (لا تضعوا الحِكْمَة في غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوا أهلها فتظلموهم)
    - وقيل: (الصَّمت حِكْمَة، وقليل فاعله)
    - وكان عرب اليمن تكتب الحِكْمَة في الحجارة طلبا لبقائها
    - الحِكْمَة مُشاعةٌ بين الخَلْق، لا تُنْسب إلى جيل، ولا تقف على قبيل، وإنَّما حظوظ الخَلْق فيها على قدر مشاربهم منها
    ---------------------------------
    وما زلنا أحبابي تاعونا جزاكم الله خيرا
    ولا تنسونا من صالح دعائكم



    عدل سابقا من قبل sadekalnour في الأربعاء يونيو 22, 2022 2:14 pm عدل 1 مرات

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    ألأخلاق في  ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني Empty ألأخلاق في نظر ألإسلام .. الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف صادق النور الجمعة يونيو 17, 2022 8:11 pm


    ومن ألأخلاق المحموده

    الحِلْم

    معنى الحِلْم لغةً:

    الحِلْمُ -بالكسر-: الأَناةُ والعقل، وجمعه: أَحْلام وحُلُومٌ
    والحِلْم خلافُ الطَّيش. يقال: حَلُمْتُ عنه أحلُم، فأنا حليمٌ

    معنى الحِلْم اصطلاحًا:

    عُرِّف الحِلْم بعدَّة تعريفات منها:
    الحِلْم: ضبط النَّفس والطَّبع عن هيجان الغضب
    وقيل هو: (الطُّمَأْنِينَة عند سَوْرَة الغضب، وقيل: تأخير مكافأة الظَّالم)
    وقيل الحِلْم: (اسم يقع على زمِّ النَّفس عن الخروج عند الورود عليها، ضدُّ ما تحبُّ إلى ما نهي عنه.
    فالحِلْم يشتمل على المعرفة والصَّبر والأَنَاة)

    الفرق بين الحِلْم وبعض الصِّفات



    - الفرق بين الحِلْم والصَّبر:

    أنَّ الحِلْم هو: الإمْهَال بتأخير العقاب المستحقِّ... ولا يصحُّ الحِلْم إلَّا ممَّن يقدر على العقوبة وما يجري مجراها... والصَّبر: حبس النَّفس لمصادفة المكروه، وصَبَر الرَّجل: حَبَس نفسه عن إظهار الجزع

    - الفرق بين الحِلْم والوَقَار:

    الوَقَار: هو الهدوء وسكون الأطراف، وقلَّة الحركة في المجلس، ويقع أيضًا على مفارقة الطَّيش عند الغضب، مأخوذ مِن الوَقْر وهو: الحِمْل

    - الفرق بين الحِلْم والإمْهَال:

    أنَّ كلَّ حلمٍ إمهالٌ، وليس كلُّ إمهالٍ حلمًا؛ لأنَّ الله تعالى لو أمهل مَن أخذه لم يكن هذا الإمْهَال حلمًا

    - الفرق بين الحِلْم والأَنَاة والرِّفق:

    الحِلْم: أن يملك الإنسان نفسه عند الغضب، فإذا حصل غضبٌ وهو قادر على العقاب،
    فإنَّه يَحْلم ولا يعاقب.
    وأمَّا الأَنَاة: فهي التَّأنِّي في الأمور وعدم العجلة، وألَّا يأخذ الإنسان الأمور بظاهرها فيتعجَّل ويحْكُم على الشَّيء قبل أن يتأنَّى فيه وينظر.
    وأمَّا الرِّفق: فهو معاملة النَّاس بالرِّفق والهون حتى وإن استحقُّوا ما يستحقُّون مِن العقوبة والنَّكال، فإنَّه يرفُق بهم

    أولًا: التَّرغيب في الحِلْم في القرآن الكريم

    وردتْ آيات قرآنيَّة كثيرة تشير إلى صفة الحِلْم، ووصف الله نفسه بالحِلْم، وسمَّى نفسه الحليم،
    ووردت آيات تدعو المسلمين إلى التَّحلِّي بهذا الخُلُق النَّبيل، وعدم المعاملة بالمثل ومقابلة الإساءة بالإساءة،
    والحثِّ على الدَّفع بالتي هي أحسن، والتَّرغيب في الصَّفح عن الأذى والعفو عن الإساءة.
    - قال تعالى: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ ُينفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 133- 134]

    قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ (أي: لا يعملون غضبهم في النَّاس، بل يكفون عنهم شرَّهم، ويحتسبون ذلك عند الله عزَّ وجلَّ.
    ثمَّ قال تعالى: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ أي: مع كفِّ الشَّرِّ يعفون عمَّن ظلمهم في أنفسهم، فلا يبقى في أنفسهم مَوجدة على أحد، وهذا أكمل الأحوال، ولهذا قال: وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، فهذا مِن مقامات الإحسان)

    - وقال عزَّ وجلَّ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199]

    - ووصف الله عزَّ وجلَّ بعضَ أنبيائه بالحِلْم؛ قال تعالى: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات:101] ،

    يقول ابن تيمية: (وقد انطوت البشارة على ثلاثٍ: على أنَّ الولد غلامٌ ذكرٌ، وأنَّه يبلغ الحِلْم، وأنَّه يكون حليمًا، وأيُّ حلمٍ أعظم مِن حلمه حين عرض عليه أبوه الذَّبح
    فقال: سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102] ،
    وقيل: لم ينعت الله الأنبياء بأقلَّ مِن الحِلْم وذلك لعزَّة وجوده،
    ولقد نعت إبراهيم به في قوله تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ [التَّوبة:114]، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ [هود:75] ؛
    لأنَّ الحادثة شهدت بحلمهما، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102] )

    - قال ابن كثير في قوله تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصِّلت:34]
    (أي: إذا أحسنت إلى مَن أساء إليك، قادته تلك الحسنة إليه إلى مصافاتك ومحبَّتك، والحنو عليك، حتى يصير كأنَّه وليٌّ لك حميم، أي: قريب إليك مِن الشَّفقة عليك والإحسان إليك.
    ثمَّ قال: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا [فصِّلت:35]،
    أي: وما يقبل هذه الوصيَّة ويعمل بها إلَّا مَن صبر على ذلك، فإنَّه يشقُّ على النُّفوس، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أي: ذو نصيب وافر مِن السَّعادة في الدُّنْيا والآخرة.
    قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: (أمر الله المؤمنين بالصَّبر عند الغضب، والحِلْم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله مِن الشَّيطان، وخضع لهم عدوُّهم كأنَّه وليٌّ حميم)

    ثانيًا: التَّرغيب في الحِلْم في السُّنَّة النَّبويَّة  

    - قال صلى الله عليه وسلم لأشجِّ عبد القيس: ((إنَّ فيك لخصلتين يحبُّهما الله: الحِلْم والأَنَاة ))
    - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّه قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: التَّأنِّي مِن الله، والعجلة مِن الشَّيطان، وما أحدٌ أكثر معاذير مِن الله، وما مِن شيءٍ أحبُّ إلى الله مِن الحِلْم))
    - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس الشَّديد بالصُّرَعَة، إنَّما الشَّديد الذي يملك نفسه عند الغضب ))

    قال ابن بطَّال: (مدح الله تعالى الذين يغفرون عند الغضب وأثنى عليهم، وأخبر أنَّ ما عنده خيرٌ وأبقى لهم مِن متاع الحياة الدُّنْيا وزينتها، وأثنى على الكاظمين الغيظ والعافين عن النَّاس، وأخبر أنَّه يحبُّهم بإحسانهم في ذلك)
    وقال ابن عبد البر: (في هذا الحديث مِن الفقه: فضل الحِلْم. وفيه دليلٌ على أنَّ الحِلْم: كتمان الغيظ. وأنَّ العاقل مَن مَلَك نفسه عند الغضب؛ لأنَّ العقل -في اللُّغة-: ضبط الشَّيء وحبسه منه)
    - وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليليني منكم أولو الأحلام والنُّهى.. ))
    (أي ذوو الألباب والعقول، واحدها: حِلْمٌ بالكسر، فكأنَّه مِن الحِلْم: الأَنَاة والتَّثبُّت في الأمور، وذلك مِن شعائر العقلاء،
    وواحد النُّهى: نُهْيَة بالضَّم، سُمِّي العقل بذلك لأنَّه ينهى صاحبه عن القبيح)

    أقوال السَّلف والعلماء في الحِلْم


    - قال عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: (ليس الخير أن يَكْثُر مالك وولدك، ولكنَّ الخير أن يَكْثُر علمك ويَعْظُم حلمك، وأن لا تباهي النَّاس بعبادة الله، وإذا أحسنت: حمدت الله تعالى، وإذا أسأت: استغفرت الله تعالى)

    - (وبلغ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه أنَّ جماعة مِن رعيَّته اشتكوا مِن عمَّاله؛ فأمرهم أن يوافوه، فلمَّا أتوه، قام فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ قال: أيُّها النَّاس، أيَّتها الرَّعيَّة، إنَّ لنا عليكم حقًّا: النَّصيحة بالغيب والمعاونة على الخير، أيَّتها الرُّعاة إنَّ للرَّعيَّة عليكم حقًّا فاعلموا أنَّه لا شيء أحبُّ إلى الله ولا أعزُّ مِن حِلْم إمامٍ ورِفْقِه، وليس جهلٌ أبغض إلى الله ولا أغمَّ من جهل إمامٍ وخرْقه)
    - وقال رضي الله عنه: (تعلَّموا العلم وتعلَّموا للعلم السَّكينة والحِلْم)

    - وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (ينبغي لحامل القرآن أن يكون باكيًا محزونًا حكيمًا حليمًا سكينًا، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافيًا ولا غافلًا ولا صخَّابًا ولا صيَّاحًا ولا حديدًا)
    - وقال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: (لا يبلغ العبد مبلغ الرَّأي حتى يغلب حِلْمُه جهله، وصبرُه شهوته، ولا يبلغ ذلك إلَّا بقوَّة الحِلْم)
    - وسُئل عمرو بن الأهتم: (أيُّ الرِّجال أشجع؟ قال: مَن ردَّ جهله بحِلْمه، قال: فأيُّ الرِّجال أسخى؟ قال: مَن بذل دنياه لصالح دينه)
    - وقال مرَّةً لعَرَابَة بن أوس: (بم سدت قومك يا عَرَابَة؟ قال: كنت أحْلُم عن جاهلهم، وأعطي سائلهم، وأسعى في حوائجهم، فمَن فعل فعلي فهو مثلي، ومَن جاوزني فهو أفضل، ومَن قصَّر عنِّي فأنا خير منه)
    - وقال أيضًا: (عليكم بالحِلْم والاحتمال حتى تمكنكم الفرصة، فإذا أمكنتكم فعليكم بالصَّفح والإفضال)
    - وأسمعه رجلٌ كلامًا شديدًا، فقيل له: لو عاقبته، فقال: (إنِّي أستحيي أن يضيق حلمي عن ذنب أحدٍ من رعيَّتي)
    - وعن أبي الدَّرداء قال: (ليس الخير أن يَكْثُر مالك وولدك، ولكنَّ الخير أن يَعْظُم حِلْمُك، ويَكْثُر علمك، وأن تنادي النَّاس في عبادة الله، فإذا أحسنت حمدت الله، وإذا أسأت استغفرت الله)
    - وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (نحن معشر قريش نعدُّ الحِلْم والجُود، السُّؤدد، ونعدُّ العفاف وإصلاح المال، المروءة)
    - وقال الحسن البصريُّ في تفسير قوله تعالى: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان: 63] : (حُلَمَاء: إن جُهِل عليهم لم يجهلوا)
    - وقال أيضًا: (اطلبوا العلم وزيِّنوه بالوَقَار والحِلْم)
    - وقال أكثم بن صيفيِّ: (دعامة العقل الحِلْم، وجماع الأمر الصَّبر، وخير الأمور العفو)
    - وعن رجاء بن أبي سلمة قال:(الحِلْم خصلة مِن خصال العقل)
    - وقال محمَّد بن عليٍّ رضي الله عنهما: (مَن حَلُمَ وَقَى عِرْضه، ومَن جادت كفُّه حَسُن ثناؤه، ومَن أَصْلح مالَه استَغْنى، ومَن احتمل المكْروه كثرت مَحاسنه، ومَن صَبر حُمِد أمرُه، ومَن كظَم غيظَه فشا إحسانُه، ومَن عَفا عن الذُّنوب، كثُرت أياديه، ومَن اتَّقى الله كفاه ما أهمَّه)
    - وقال أبو رزين في قوله: كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ [آل عمران: 79] : (حلماء علماء)
    - وعن معاوية بن قرَّة قال: (مكتوبٌ في الحكمة: لا تجالس بحِلْمك السُّفهاء، ولا تجالس بسفهك الحُلَماء)
    - وعن الحسن قال: (المؤمن حليمٌ لا يجهل وإن جُهِل عليه، حليمٌ لا يظلم، وإن ظُلِم غَفَر، لا يقطع، وإن قُطِع وصل، لا يبخل،
    وإن بُخلِ عليه صبر)

    - وقال وهب بن منبه: (العلم خليل المؤمن، والحِلْم وزيره، والعقل دليله، والعمل قيمته، والصَّبر أمير جنوده، والرِّفق أبوه،
    واللِّين أخوه)

    - وقال عطاء بن أبي رباح: (ما أوى شيءٌ إلى شيءٍ أزين مِن حلمٍ إلى علم)

    فوائد الحلم  

    1- الحليم عظيم الشَّأن، رفيع المكان، محمود الأمر، مرضي الفعل
    2- (أنَّه دليل كمال العقل وسعة الصَّدر، وامتلاك النَّفس.
    3- يعمل على تآلف القلوب ونشر المحبَّة بين النَّاس.
    4- يزيل البغضاء بين النَّاس ويمنع الحسد)
    5- صفة الحِلْم عواقبها محمودة.
    6- أوَّل عِوَض الحَليم عن حِلْمه أنَّ النَّاس أنصارُه على الجاهل
    7- الحليم له القوَّة في التَّحكُّم في انفعالاته، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((ليس الشَّديد بالصُّرَعَة، إنَّما الشَّديد الذي يملك نفسه عند الغضب ))

    الوسائل المعينة على اكتساب الحِلْم:


    1- تذكُّر كثرة حلم الله على العبد، فالله سبحانه وتعالى حليم: يرى معصية العاصي ومخالفته لأمره فيمهله،
    قال تعالى: وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة: 235]
    قال أبو حاتم: (الواجب على العاقل، إذا غضب واحتدَّ، أن يذكر كثرة حلم الله عنه، مع تواتر انتهاكه محارمه، وتعدِّيه حرماته،
    ثمَّ يَحْلُم، ولا يخرجه غيظه إلى الدُّخول في أسباب المعاصي)

    وقال محمَّد بن السعدي لابنه عروة لما وَلِي اليمن: (إذا غضبت فانظر إلى السَّماء فوقك، وإلى الأرض تحتك، ثمَّ عظِّم خالقهما)
    2- تذكُّر الثَّواب مِن الله للعافين عن النَّاس، قال تعالى: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 133- 134]

    عن أبي جعفر الخطمي أنَّ جدَّه عمير بن حبيب -وكان قد بايع النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم- أوصى بنيه،
    فقال لهم: (أيْ بني! إيَّاكم ومخالطة السُّفهاء؛ فإنَّ مجالستهم داء، وإنَّه مَن يَحْلُم عن السَّفِيه يُسَر بحِلْمِه، ومَن يجبه يندم،
    ومَن لا يقر بقليل ما يأتي به السَّفِيه، يقر بالكثير)

    3- الرَّحمة بالجاهل، ومِن ذلك ما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه، حيث قال: ((بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابيٌّ، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه.
    قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزرموه، دعوه. فتركوه حتى بال، ثمَّ إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه، فقال له: إنَّ هذه المساجد لا تصلح لشيء مِن هذا البول ولا القذر، إنَّما هي لذكر الله عزَّ وجلَّ، والصَّلاة، وقراءة القرآن. أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فأمر رجلًا مِن القوم فجاء بدلوٍ مِن ماء فشنَّه عليه))
    4- التَّرفُّع عن المعاملة السَّيِّئة بالمثل، وهذا يدلُّ على شرف النَّفس، وعلوِّ الهمَّة،
    يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه: ((غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة نَجْدٍ، فلمَّا أدركته القائلة وهو في واد كثير العِضَاه، فنزل تحت شجرة، واستظلَّ بها وعلَّق سيفه، فتفرَّق النَّاس في الشَّجر يستظلُّون، وبينا نحن كذلك إذ دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئنا، فإذا أعرابيٌّ قاعد بين يديه، فقال: إنَّ هذا أتاني وأنا نائمٌ، فاخترط سيفي، فاستيقظت وهو قائمٌ على رأسي مخترطٌ صلتًا، قال: مَن يمنعك مني؟ قلت: الله. فشَامَه ثمَّ قعد، فهو هذا، قال: ولم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ))

    5- التَّفضُّل على المسيء، ومِن ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه، حيث قال: (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه بردٌ نجرانيٌّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيٌّ، فجبذه بردائه جَبْذَةً شديدةً، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثَّرت بها حاشية البُرْد مِن شدَّة جَبْذَته، ثمَّ قال: يا محمَّد! مُرْ لي مِن مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ ضحك، ثمَّ أمر له بعطاء )
    6 الاستحياء مِن جزاء الجواب، وكان الأحنف بن قيس يقول: (مَن لم يصبر على كلمة سمع كلمات، ورُبَّ غيظٍ قد تجرَّعته مخافة ما هو أشدُّ منه، وأنشد:
    رضيت ببعض الذُّل خوف جميعه كذلك بعض الشَّرِّ أهونُ مِن بعض

    7- الرِّعاية ليدٍ سالفة، وحرمة لازمة، وهذا مِن الوفاء، وحُسنِ العهد، وكمال المروءة،
    عن حفص بن غياث قال: (كنت جالسًا عند جعفر بن محمد، ورجل يشكو رجلًا عنده، قال لي كذا، وفعل لي كذا، فقال له جعفر: مَن أكرمك فأكرمه، ومَن استخفَّ بك فأكرم نفسك عنه)
    قال الشَّاعر:
    إنَّ الوفاء على الكريم فريضـة واللُّؤم مقرون بذي الإخـلاف
    وترى الكريم لمن يعاشر منصفًا وترى اللَّئيم مجانب الإنصاف

    نماذج مِن حلم النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم

    لقد بلغ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم غاية الحِلْم والعفو، والسُّنَّة النَّبويَّة حافلة بمواقف الرَّسول الكريم في الحِلْم، ومِن ذلك:
    - قصَّة الأعرابي الذي جبذ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بردائه جَبْذَةً شديدةً، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه بردٌ نجرانيٌّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيٌّ، فجبذه بردائه جبْذَةً شديدةً، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثَّرت بها حاشية البُرْد مِن شدَّة جَبْذَته، ثمَّ قال:يا محمَّد! مُرْ لي مِن مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ ضحك، ثمَّ أمر له بعطاء ))
    - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رجلًا أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يتقاضاه فأغلظ، فهمَّ به أصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه فإنَّ لصاحب الحقِّ مقالًا. ثمَّ قال: أعطوه سِنًّا مِثْل سِنِّه، قالوا: يا رسول الله، لا نجد إلَّا أمثل مِن سِنِّه، فقال: أعطوه، فإنَّ مِن خيركم أحسنكم قضاءً ))
    - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((كأنِّي أنظر إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًّا مِن الأنبياء ضربه قومه فأدموه، فهو يمسح الدَّم عن وجهه، ويقول: ربِّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون ))
    قال النَّوويُّ: (فيه ما كانوا عليه صلوات الله وسلامه عليهم مِن الحِلْم والتَّصبُّر والعفو والشَّفقة على قومهم، ودعائهم لهم بالهداية والغفران، وعذرهم في جنايتهم على أنفسهم بأنَّهم لا يعلمون، وهذا النَّبيُّ المشار إليه مِن المتقدِّمين، وقد جرى لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم مثل هذا يوم أحد)
    - وعن أنس رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن أحسن النَّاس خُلُقًا، فأرسلني يومًا لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبيُّ الله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم، قال: فخرجت حتى أمرَّ على صبيان وهم يلعبون في السُّوق، فإذا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، قابضٌ بقفاي مِن ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: يا أنيس! اذهب حيث أمرتك، قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله. قال أنس: والله لقد خدمته سبع سنين أو تسع سنين ما علمت قال لشيء صنعتُ: لم فعلتَ كذا وكذا؟ ولا لشيء تركتُ: هلَّا فعلتَ كذا وكذا؟ ))
    - وعن عائشة رضي الله عنها زوج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّها قالت للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ مِن يوم أُحُدٍ؟ قال: لقد لقيت مِن قومك ما لقيت، وكان أشدُّ ما لقيت منهم: يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلَالٍ، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفق إلَّا وأنا بقرن الثَّعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلَّتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إنَّ الله قد سمع قول قومك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال، فسلَّم عليَّ، ثمَّ قال: يا محمَّد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يُخْرِج الله مِن أصلابهم مَن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا ))
    - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ((بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يَقْسم قَسْمًا، إذ أتاه ذو الخُوَيصرة -رجل مِن بني تميم- فقال: يا رسول الله اعدل! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلك! ومَن يعدل إن لم أعدل؟! لقد خبتُ وخسرتُ إذا لم أعدل، فمن يعدل؟! فقال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: يا رسول الله! ائذن لي فأضرب عنقه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دَعْه، فإنَّ له أصحابًا يَحْقِر أحدُكم صلاتَه مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقِيهم، يمرقون مِن الإسلام كما يمرُق السَّهم مِن الرَّميَّة ، ينظر إلى نَصْله فلا يوجد فيه شيء، ثمَّ إلى رِصَافِهِ، فلا يوجد فيه شيء، ثمَّ ينظر إلى نَضِيَّة -وهو قِدْحه- فلا يوجد فيه شيء، ثمَّ ينظر إلى قُذَذِه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفَرْث والدَّم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثَدْي المرأة، أو مثل البَضْعَة تَدَرْدَرُ ، ويخرجون على حين فُــرْقة مِن النَّاس. قال أبو سعيد: فأشهد أنِّي سمعت هذا مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أنَّ عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه قاتَلَهم وأنا معه، وأمر بذلك الرَّجل فالتُمس، فأُتي به حتى نظرتُ إليه على نَعْت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعت ))
    - وعن أنس رضي الله عنه قال: لما كان يوم الحديبية، هبط على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثمانون رجلًا مِن أهل مكَّة بالسِّلاح مِن قِبَل جبل التَّنْعيم يريدون غِرَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا عليهم فأُخذوا، قال عفَّان: فعفا عنهم،
    ونزلت هذه الآية: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [الفتح: 24] )
    - وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: سحر النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ مِن اليهود، فاشتكى لذلك أيَّامًا، قال: فجاءه جبريل عليه السَّلام، فقال: إنَّ رجلًا مِن اليهود سحرك، عقد لك عقدًا في بئر كذا وكذا، فأرسل إليها مَن يجيء بها. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا رضي الله تعالى عنه، فاستخرجها، فجاءه بها فحلَّلها، قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنَّما نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فما ذكر ذلك لليهودي ولا رآه في وجهه حتى مات
    - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: ((أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها. فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسألها عن ذلك، فقالت: أردت لأقتلك. قال: ما كان الله ليسلطك على ذاك، قال: أو قال: علي، قال: قالوا: ألا نقتلها؟ قال: لا، قال: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم ))

    نماذج مِن حِلْم الصَّحابة رضي الله عنهم


    حِلْم أبي ذر رضي الله عنه:

    شَتم رجلٌ أبا ذَرٍّ رضي الله عنه فقال: (يا هذا، لا تُغرق في شَتمنا ودَع للصُّلح مَوضعًا، فإنَّا لا نكافئ مَن عصى الله فينا بأكثر مِن أن نُطيع الله فيه)
    حِلْم معاوية رضي الله عنه:
    كان الرَّجل يقول لمعاوية رضي الله عنه: والله لتستقيمنَّ بنا يا معاوية، أو لنقوِّمنَّك، فيقول: بماذا؟ فيقولون بالخشب، فيقول إذًا أستقيم
    حِلْم عمرو بن العاص رضي الله عنه:
    قال رجل لعمرو بن العاص رضي الله عنه: والله لأتفرَّغنَّ لك، قال: هنالك وقعت في الشُّغل، قال: كأنَّك تهدِّدني، والله لئن قلت لي كلمة لأقولنَّ لك عشرًا، فقال عمرو: وأنت والله لئن قلتَ لي عشرًا، لم أقلْ لك واحدة
    حِلْم ابن عبَّاس رضي الله عنهما:
    سبَّ رجلٌ ابن عبَّاس رضي الله عنهما، فقال ابن عبَّاس: (يا عكرمة هل للرَّجل حاجة فنقضيها؟ فنكَّس الرَّجل رأسه، واستحى ممَّا رأى مِن حلمه عليه)

    نماذج مِن حِلْم السَّلف

    حِلْم  عمر بن عبد العزيز:
    وأسمع رجلٌ عمر بن عبد العزيز بعضَ ما يَكْره، فقال: (لا عليك، إنَّما أردتَ أن يَسْتفزَّني الشَّيطان بعزَّة السُّلطان، فأنال منك اليوم ما تنالُه منِّي غدًا، انصرفْ إذا شئت)
    حِلْم الشَّعَبي:
    شَتم رجلٌ الشَعبَيَّ، فقال له: إن كنتَ صادقًا فغَفر الله لي، وإن كنتَ كاذبًا فغفر الله لك

    نماذج مِن حِلْم العلماء المعاصرين



    حِلْم الشَّيخ ابن باز:
    قبل سنتين مِن وفاته رحمه الله، كان في الطَّائف، وفي يومٍ مِن الأيَّام جاء سماحته مِن الدَّوام، ودخل مجلسه، فحيَّا الجموع التي كانت تأتي كالعادة إليه، وفي هذه الأثناء دخل عليه رجلٌ ثائر، ومعه أوراق يطلب فيها شفاعة الشَّيخ؛ ليحصل على مال؛ ليتزوَّج،
    فشرع الرَّجل يتكلَّم بصوت مرتفعٌ أزعج الحاضرين في المجلس، فوجَّهه سماحة الشَّيخ بما يلزم،
    وقال: اذهب إلى فلان في بلدكم الفلاني، واطلب منه أن يكتب لكم تزكية، ويقوم باللَّازم، ثمَّ يرفعه إلينا، ونحن نكمل اللَّازم، ونرفع إلى أحد المحسنين في شأنك.
    فقال الرَّجل: يا شيخ ارفعها إلى المسؤول الفلاني -يعني أحد المسؤولين الكبار- فقال سماحة الشَّيخ: ما يكون إلَّا خير، فرفع الرَّجل صوته، وأخذ يكرِّر: لابدَّ أن ترفعها إلى فلان، وما زال يردِّد، وما زال الشَّيخ يلاطفه، ويرْفق به، ويعِدُه بالخير، حتى إنَّ الحاضرين تكدَّروا، وبدا الغضب مِن على وجوههم، بل إنَّ بعضهم هَمَّ بإخراج الرَّجل، ولكنَّهم تأدَّبوا بحضرة الشَّيخ. ولم يرغبوا بالتَّقدُّم بين يديه. فقال الرَّجل: يا شيخ! عمري يزيد على الخمسين، وما عندي زوجة، وما بقي مِن عمري إلَّا القليل، فتبسَّم سماحة الشَّيخ، وقال: يا ولدي إن شاء الله، ستتزوَّج، ويزيد عمرك إن شاء الله على التَّسعين، وسنعمل ما نستطيع في تلبية طلبك.
    فما كان مِن ذاك الرَّجل الثائر المستوفز إلَّا أن تَبلَّجت أساريره، وأقبل على سماحة الشَّيخ، وأخذ برأس الشَّيخ يُقَبِّله، ويدعو له، فلمَّا همَّ بالانصراف، ودَّع الشَّيخ، فقال له سماحته: لا نسمح لك؛ غداؤك معنا، فقال: يا شيخ أنا على موعد، فقال له الشَّيخ: هذا الهاتف اعتذر، فما زال يحاول التَّخلُّص، وما زال سماحة الشَّيخ يلحُّ عليه بتناول الغداء، ولم يقبل سماحته الاعتذار إلَّا بعد لَأْيٍ وجَهْد.
    حينئذٍ تعجَّب الحاضرون مِن تحمُّل الشَّيخ، وأصبحت تُرَى الدَّهشة بادية على وجوههم،
    فكأنَّه أعطاهم درسًا عمليًّا في فضل الحِلْم، وحميد عاقبته

    الأمثال في الحِلْم


    - (قولهم: إذا نزل بك الشَّرُّ فاقعد. أي: فاحْلُم ولا تسارع إليه.
    - وقولهم: الحليم مطيَّة الجاهل.
    - وقولهم: لا ينتصف حليم مِن جاهل.
    - وقولهم: حلمي أصمُّ، وأذني غير صمَّاء.
    - وقولهم في الحُلَماء: كأنَّما على رؤوسهم الطَّير)
    -----------------------------------------------
    تابعونا أحبابي وأبقوا معنا في هذه السلسله الطيبه من ألأخلاق المحموده
    وجزاكم الله خيرا

    ولا تنسونا من صالح دعائكم



    عدل سابقا من قبل sadekalnour في الأربعاء يونيو 22, 2022 2:15 pm عدل 1 مرات

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    ألأخلاق في  ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني Empty ألأخلاق في نظر ألإسلام .. الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف صادق النور الجمعة يونيو 17, 2022 9:13 pm


    ومن ألأخلاق المحموده

    الحَيَاء


    معنى الحَيَاء لغةً:
    الحياء: الحشمة، ضد الوقاحة. وقد حيي منه حياء واستحيا واستحى فهو حَيِيٌّ، وهو الانقباض والانزواء
    معنى الحَيَاء اصطلاحًا:
    هو: (انقباض النَّفس مِن شيءٍ وتركه حذرًا عن اللَّوم فيه)
    وقال ابن حجر: (الحَياء: خُلُق يبعث صاحبه على اجتناب القبيح، ويمنع مِن التقصير في حقِّ ذي الحقِّ)
    وقيل هو: (تغيُّر وانكسار يعتري الإنسان مِن خوف ما يُعَاب به ويُذَمُّ، ومحلُّه الوجه)

    الفرق بين الحَيَاء والخجل

    (الخجل: معنى يظهر في الوجه لغمٍّ يلحق القلب، عند ذهاب حجَّةٍ، أو ظهور على ريبة،
    وما أشبه ذلك، فهو شيء تتغير به الهيبة.
    والحَيَاء: هو الارتداع بقوَّة الحَيَاء،
    ولهذا يُقَال: فلانٌ يستحي في هذا الحال أن يفعل كذا، ولا يقال: يخجل أن يفعله في هذه الحال؛ لأنَّ هيئته لا تتغيَّر منه قبل أن يفعله، فالخَجَل ممَّا كان والحَيَاء ممَّا يكون.
    وقد يُسْتَعمل الحَيَاء موضع الخَجَل توسُّعًا، وقال الأنباري: أصل الخَجَل في اللُّغة: الكَسَل والتَّواني وقلَّة الحركة في طلب الرِّزق،
    ثمَّ كثر استعمال العرب له حتى أخرجوه على معنى الانقطاع في الكلام.
    وفي الحديث: ((إذا جعتنَّ وقعتنَّ، وإذا شبعتنَّ خجلتنَّ))، «وقعتنَّ» أي: ذللتنَّ، و«خجلتن»: كسلتن.
    وقال أبو عبيدة: الخَجَل هاهنا الأَشَر، وقيل هو سوء احتمال العناء.
    وقد جاء عن العرب الخَجَل بمعنى: الدَّهش.

    أولًا: التَّرغيب في الحَيَاء في القرآن الكريم

    - قال تعالى: وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26]
    فُسِّر لباس التَّقوى بأنَّه الحَيَاء كما رُوِي عن الحسن، ومعبد الجهني

    - قال تعالى: فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ
    قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
    [القصص: 25]

    قال مجاهد: (يعْني: واضعةً ثوبها على وجهها ليست بخرَّاجةٍ ولا وَلَّاجةٍ)
    قال الطَّبري: (فأَتَتْهُ تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ)، وهي تسْتَحْيِي منه)

    - وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ [الأحزاب:53]

    قال ابن كثير: (قيل: المراد أنَّ دخولكم منزله بغير إذنه، كان يشُقُّ عليه ويتأذَّى به، لكن كان يكره أن ينهاهم عن ذلك مِن شدَّة حَيَائه عليه السَّلام، حتى أنزل الله عليه النَّهي عن ذلك)
    وقال الشَّوكاني: (أي:يسْتَحْيِي أن يقول لكم: قوموا، أو اخرجوا)

    ثانيًا: التَّرغيب في الحَيَاء في السُّنَّة النَّبويَّة

    - عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ ممَّا أدرك النَّاس مِن كلام النُّبوَّة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت ))
    قال الخطَّابي: (قال الشَّيخ: معنى قوله ((النُّبوَّة الأولى)) أنَّ الحَيَاء لم يزل أمره ثابتًا، واستعماله واجبًا منذ زمان النُّبوَّة الأولى، وأنه ما مِن نبيٍّ إلَّا وقد نَدَب إلى الحَيَاء وبُعِث عليه، وأنَّه لم ينسخ فيما نسخ مِن شرائعهم، ولم يُبَدَّل فيما بُدِّل منها)

    قال ابن القيِّم: (خُلق الحَيَاء مِن أفضل الأخلاق وأجلِّها وأعظمها قدرًا وأكثرها نفعًا، بل هو خاصَّة الإنسانيَّة، فمَن لا حياء فيه، فليس معه مِن الإنسانيَّة إلَّا اللَّحم والدَّم وصورتهما الظَّاهرة، كما أنَّه ليس معه مِن الخير شيء)

    - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستُّون- شعبة، أعلاها: قول: لا إله إلَّا الله. وأدناها: إماطة الأذى عن الطَّريق. والحياء شعبة مِن الإيمان ))

    قال الخطَّابي: (معنى قوله: ((الحَيَاء شعبة مِن الإيمان)) أنَّ الحَيَاء يقطع صاحبه عن المعاصي ويحجزه عنها، فصار بذلك مِن الإيمان)
    و(إنَّما أفرد صلَّى الله عليه وسلَّم هذه الخصلة مِن خصال الإيمان في هذا الحديث، وخصَّها بالذِّكر دون غيرها مِن باقي شعب الإيمان؛ لأنَّ الحَيَاء كالدَّاعي إلى باقي الشُّعب، فإنَّ صاحب الحَيَاء يخاف فضيحة الدُّنْيا والآخرة فيأتمر وينزجر، فلمَّا كان الحَيَاء كالسَّبب لفعل باقي الشُّعب؛ خُصَّ بالذِّكر ولم يذكر غيره معه)

    وقال السعدي: (هذا الحديث مِن جملة النُّصوص الدَّالة على أنَّ الإيمان اسمٌ يشمل عقائد القلب وأعماله، وأعمال الجوارح، وأقوال اللِّسان، فكلُّ ما يقرِّب إلى الله، وما يحبُّه ويرضاه مِن واجبٍ ومستحبٍّ فإنَّه داخلٌ في الإيمان. وذكر هنا أعلاه وأدناه، وما بين ذلك وهو: الحَيَاء. ولعلَّ ذكر الحَيَاء؛ لأنَّه السَّبب الأقوى للقيام بجميع شعب الإيمان. فإنَّ مَن استحيا مِن الله لتواتر نعمه، وسوابغ كرمه، وتجلِّيه عليه بأسمائه الحسنى، -والعبد مع هذا كثير التَّقصير مع هذا الرَّبِّ الجليل الكبير، يظلم نفسه ويجني عليها- أوجب له هذا الحَيَاء التوقِّي مِن الجرائم، والقيام بالواجبات والمستحبَّات)

    - وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((الحَيَاء لا يأتي إلَّا بخير ))
    قال ابن بطَّال: (معناه أنَّ مَن استحيا مِن النَّاس أن يروه يأتي الفجور ويرتكب المحارم، فذلك داعيةٌ له إلى أن يكون أشدَّ حياءً مِن ربِّه وخالقه، ومَن استحيا مِن ربِّه فإنَّ حياءه زاجرٌ له عن تضييع فرائضه وركوب معاصيه؛ لأنَّ كلَّ ذي فطرة صحيحة،
    يعلم أنَّ الله تعالى النَّافع له والضَّار والرَّزاق والمحيي والمميت، فإذا عَلِم ذلك فينبغي له أن يستحيي منه عزَّ وجلَّ)

    قال ابن رجب: (... ((الحياء لا يأتي إلَّا بخير)): فإنَّه يكفُّ عن ارتكاب القبائح ودناءة الأخلاق، ويحثُّ على استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها، فهو مِن خصال الإيمان بهذا الاعتبار)
    قال ابن حجر: (إذا صار الحَيَاء عادة، وتخَلَّق به صاحبه، يكون سببًا يجلب الخير إليه، فيكون منه الخير بالذَّات والسَّبب)
    فالحَيَاء فضيلة مِن فضائل الفطرة، وهو مادَّة الخير والفضيلة، وبهذا وصفه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: ((الحَيَاء خيرٌ كلُّه ))

    - وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، مرَّ على رجل، وهو يعاتب أخاه في الحياء، يقول: إنَّك لتستحيى حتى كأنَّه يقول: قد أضرَّ بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعه، فإنَّ الحياء مِن الإيمان ))

    قال ابن بطَّال: (معناه أنَّ الحَيَاء مِن أسباب الإيمان وأخلاق أهله؛ وذلك أنَّه لما كان الحَيَاء يمنع مِن الفواحش، ويحمل على الصَّبر والخير، كما يمنع الإيمان صاحبه مِن الفجور، ويقيِّده عن المعاصي، ويحمله على الطَّاعة، صار كالإيمان لمساواته له في ذلك، وإن كان الحَيَاء غريزة، والإيمان فعل المؤمن، فاشتبها مِن هذه الجهة)

    - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((استحيوا مِن الله حقَّ الحياء. قال: قلنا: يا رسول الله إنَّا لنستحيي، والحمد للَّه. قال: ليس ذاك، ولكنَّ الاستحياء مِن الله حقَّ الحياء: أن تحفظ الرَّأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى، وتتذكَّر الموت والبِلَى، ومَن أراد الآخرة، ترك زينة الدُّنيا، فمَن فعل ذلك، فقد استحيا مِن الله حقَّ الحياء ))

    قال ابن رجب: (يدخل فيه حفظ السَّمع والبصر واللِّسان مِن المحرَّمات، وحفظ البطن وما حوى، يتضمَّن حفظ القلب عن الإصرار على ما حرَّم الله، ويتضمَّن أيضًا حفظ البطن مِن إدخال الحرام إليه مِن المآكل والمشارب، ومِن أعظم ما يجب حفظه مِن نواهي الله عزَّ وجلَّ اللِّسان والفرج)
    وقال المباركفوريُّ في شرح الحديث: (قوله: ((استحيوا مِن الله حقَّ الحَيَاء)) أي: حياءً ثابتًا ولازمًا صادقًا، قاله المناويُّ، وقيل: أي: اتَّقوا الله حقَّ تقاته.

    ((قلنا يا نبيَّ الله إنَّا لنستحيي)) لم يقولوا: حقَّ الحَيَاء؛ اعترافًا بالعجز عنه.
    ((والحمد لله)) أي على توفيقنا به.
    ((قال: ليس ذاك)) أي: ليس حقَّ الحَيَاء ما تحسبونه، بل أن يحفظ جميع جوارحه عمَّا لا يرضى.
    ((ولكن الاستحياء مِن الله حقَّ الحَيَاء: أن تحفظ الرَّأس)) أي: عن استعماله في غير طاعة الله، بأن لا تسجد لغيره، ولا تصلِّي للرِّياء، ولا تخضع به لغير الله، ولا ترفعه تكــبُّرًا.
    ((وما وعى)) أي: جمعه الرَّأس مِن اللِّسان والعين والأذن عمَّا لا يحلُّ استعماله.
    ((وتحفظ البطن)) أي: عن أكل الحرام.
    ((وما حوى)) أي ما اتصل اجتماعه به مِن الفرج والرِّجلين واليدين والقلب، فإنَّ هذه الأعضاء متَّصلة بالجوف، وحفظها بأن لا تستعملها في المعاصي، بل في مرضاة الله تعالى.
    ((وتتذكَّر الموت والبِلَى)) بكسر الباء، مِن بَلَى الشَّيء إذا صار خَلِقًا متفتِّتًا، يعني تتذكَّر صيرورتك في القبر عظامًا بالية.
    ((ومَن أراد الآخرة ترك زينة الدُّنْيا)) فإنَّهما لا يجتمعان على وجه الكمال حتى للأقوياء، قاله القاري.
    وقال المناويُّ: لأنَّهما ضرَّتان، فمتى أرضيت إحداهما أغضبت الأخرى)

    - وعن يَعْلَى أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يغتسل بالبَــرَاز فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إنَّ الله عزَّ وجلَّ حَلِيمٌ حَيِىٌّ سِتِّيرٌ، يحبُّ الحَيَاء والسَّتْر، فإذا اغتسل أحدكم فليَسْتَتِر ))
    - عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما كان الفُحْش في شيء إلَّا شانه، وما كان الحَيَاء في شيء إلَّا زَانَهُ ))

    أقوال السَّلف والعلماء في الحَيَاء

    - قال عمر رضي الله عنه: (مَن قلَّ حياؤه قلَّ ورعه، ومَن قلَّ ورعه مات قلبه)

    - قال ابن القيِّم في حقيقة الحَيَاء: (قال صاحب المنازل: الحَيَاء: مِن أوَّل مدارج أهل الخصوص، يتولَّد مِن تعظيمٍ منوطٍ بودٍّ. إنَّما جَعَل الحَيَاء مِن أوَّل مدارج أهل الخصوص: لما فيه مِن ملاحظة حضور مَن يستَحيي منه، وأوَّل سلوك أهل الخصوص: أن يروا الحقَّ سبحانه حاضرًا معهم، وعليه بناء سلوكهم. وقوله: إنَّه يتولَّد مِن تعظيمٍ منوطٍ بودٍّ. يعني: أنَّ الحَيَاء حالة حاصلة مِن امتزاج التَّعظيم بالمودَّة، فإذا اقترنا تولَّد بينهما الحَيَاء، والجنيد يقول: إنَّ تولُّده مِن مشاهدة النِّعم ورؤية التَّقصير، ومنهم مَن يقول: تولُّده مِن شعور القلب بما يستحيي منه، فيتولَّد مِن هذا الشُّعور والنُّفرة، حالةٌ تُسَمَّى: الحَيَاء، ولا تنافي بين هذه الأقوال، فإنَّ للحياء عدَّة أسباب)

    - وقال أيضًا: (حياة القلب يكون فيه قوَّة خُلُق الحَيَاء، وقلَّة الحَيَاء مِن موت القلب والرُّوح، فكلَّما كان القلب أحيى كان الحَيَاء أتم.

    - قال الجنيد: الحَيَاء: رؤية الآلاء ورؤية التَّقصير، فيتولَّد بينهما حالة تُسمَّى الحَيَاء، وحقيقته: خُلُقٌ يبعث على ترك القبائح، ويمنع مِن التَّفريط في حقِّ صاحب الحقِّ).

    - وقال الفضيل بن عياض: (خمسٌ مِن علامات الشَّقاوة: القسوة في القلب، وجمود العين، وقلَّة الحَيَاء، والرَّغبة في الدُّنْيا،
    وطول الأمل
    )
    - وقال أبو عبيدة النَّاجي: سمعت الحسن يقول: (الحَيَاء والتَّكرُّم خصلتان مِن خصال الخير، لم يكونا في عبد إلَّا رفعه الله عزَّ وجلَّ بهما)
    - (وقال ابن عطاء: العلم الأكبر: الهيبة والحَيَاء؛ فإذا ذهبت الهيبة والحَيَاء، لم يبق فيه خير.

    - وقال ذو النُّون المصري: الحَيَاء، وجود الهيبة في القلب، مع وحشة ما سبق منك إلى ربِّك تعالى.

    - وقال أبو عثمان: مَن تكلَّم في الحَيَاء ولا يستحي مِن الله عزَّ وجلَّ فيما يتكلَّم به، فهو مُستَدرَج.

    - وقال الجريري: تعامل القرن الأوَّل مِن النَّاس فيما بينهم بالدِّين، حتى رقَّ الدِّين.. ثمَّ تعامل القرن الثَّاني بالوفاء حتى ذهب الوفاء، ثمَّ تعامل القرن الثَّالث بالمروءة حتى ذهبت المروءة، ثمَّ تعامل القرن الرَّابع بالحَيَاء حتى ذهب الحَيَاء، ثمَّ صار النَّاس يتعاملون بالرَّغبة والرَّهبة.

    - وقيل: مِن علامات المستحي: أن لا يُرَى بموضع يُسْتَحَيا منه)

    - وقال ابن أبي الدُّنْيا: (قيل لبعض الحكماء: ما أنفع الحَيَاء؟ قال: أن تستحي أن تسأله ما تحبُّ، وتأتي ما يكره)

    - وقال ربيط بني إسرائيل: (زين المرأة الحَيَاء، وزين الحكيم الصَّمت)

    فوائد الحَيَاء

    1- أن الحَيَاء مِن خصال الإيمان.
    2- هجر المعصية خجلًا من الله سبحانه وتعالى.
    3- الإقبال على الطَّاعة بوازع الحبِّ لله عزَّ وجلَّ.
    4- يبعد عن فضائح الدُّنْيا والآخرة.
    5- أصل كلِّ شعب الإيمان.
    6- يكسو المرء الوَقَار فلا يفعل ما يخلُّ بالمروءة والتوقير ولا يؤذي مَن يستحقُّ الإكرام.
    7- لا يمنع مِن مواجهة أهل الباطل ومرتكبي السوء.
    8- مَن استحى مِن الله ستره الله في الدُّنْيا والآخرة.
    9- يُعدُّ صاحبه مِن المحبوبين عند الله وعند النَّاس.
    10- يمنع الشَّخص عن الفواحش، ويجعله يستتر بها إذا هو سقط في شيء مِن أوحالها.
    11- يدفع المرء إلى التَّحلِّي بكلِّ جميل محبوب، والتَّخلِّي عن كلِّ قبيح مكروه

    أقسام الحَيَاء

    (ينقسم الحَيَاء باعتبار محلِّه إلى قسمين:

    1- القسم الأوَّل: حياء فطريٌّ: وهو الذي يُولَد مع الإنسان متزوِّدًا به،
    ومِن أمثلته: حياء الطِّفل عندما تنكشف عورته أمام النَّاس، وهذا النَّوع مِن الحَيَاء منحة أعطاها الله لعباده.

    2- والقسم الثَّاني: حياء مكتسب: وهو الذي يكتسبه المسلم مِن دينه، فيمنعه مِن فعل ما يُذَمُّ شرعًا، مخافة أن يراه الله حيث نهاه، أو يفقده حيث أمره.

    وينقسم باعتبار متعلَّقه إلى قسمين:

    1- القسم الأوَّل: الحَيَاء الشَّرعي: وهو الذي يقع على وجه الإجلال والاحترام،
    وهو محمود.

    2- القسم الثَّاني: الحَيَاء غير الشَّرعي: وهو ما يقع سببًا لترك أمر شرعي،
    وهذا النَّوع مِن الحَيَاء مذموم، وهو ليس بحياء شرعي، وإنَّما هو ضعف ومهانة)

    صور الحياء


    من صور الحياء المحمود:

    - الحَيَاء مِن الله: وذلك بالخوف منه ومراقبته، وفعل ما أمر واجتناب ما نهى عنه،
    وأن يستحي المؤمن أن يراه الله حيث نهاه، وهذا الحَيَاء يمنع صاحبه مِن ارتكاب المعاصي والآثام؛ لأنَّه مرتبطٌ بالله يراقبه في حِلِّه وترحاله.

    - الحَيَاء مِن الملائكة: وذلك عندما يستشعر المؤمن بأنَّ الملائكة معه يرافقونه في كلِّ أوقاته، ولا يفارقونه إلَّا عندما يأتي الغائط، وعندما يأتي أهله.

    - الحَيَاء مِن النَّاس: وهو دليلٌ على مروءة الإنسان؛ فالمؤمن يستحي أن يؤذي الآخرين سواءً بلسانه أو بيده، فلا يقول القبيح ولا يتلفَّظ بالسُّوء، ولا يطعن أو يغتاب أو ينم، وكذلك يستحي مِن أن تنكشف عوراته فيطَّلع عليها النَّاس.

    صور الحَيَاء المذموم:

    مِن صور الحَيَاء المذموم:

    - الحَيَاء في طلب العلم:

    إذا تعلَّق الحَيَاء بأمر دينيٍّ، يمنع الحَيَاء مِن السُّؤال فيه أو عرضه في تعليم أو دعوة، فإنَّ ممَّا ينبغي حينها، رفع الحرج، ومدافعة هذا الحَيَاء الذي يمنع مِن التَّحصيل العلمي أو الدَّعوة إلى الله سواءً عند الرِّجال أو النساء
    فقد ورد أنَّ أمَّ سليم رضي الله عنها ((جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إنَّ الله لا يستحيي مِن الحقِّ، فهل على المرأة مِن غسلٍ إذا احتلمت؟ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: إذا رأت الماء. فغطَّت أمُّ سلمة -تعني وجهها- وقالت: يا رسول الله وتحتلم المرأة؟! قال: نعم، تَرِبَت يمينك، فيمَ يشبهها ولدها ))

    وعن مجاهد، قال: (إنَّ هذا العلم لا يتعلَّمه مستحٍ ولا متكبِّرٍ)

    وعن سعيد بن المسيب ((أنَّ أبا موسى قال لعائشة -رضي الله عنها-: إنِّي أريد أن أسألكِ عن شيءٍ وإنِّي أستحييك.
    فقالت: لا تستحيي أن تسألني عمَّا كنت سائلًا عنه أمَّك التي ولدتك، فإنَّما أنا أمُّك. قلت: فما يوجب الغسل؟
    قالت: على الخبير سقطت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا جلس بين شُعَبِها الأربع، ومسَّ الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل ))
    ورُوِي عن الأسود ومَسْرُوق قال: ((أتينا عائشة لنسألها عن المباشرة للصَّائم، فاستحينا فقمنا قبل أن نسألها، فمشينا لا أدري كم،
    ثمَّ قلنا: جئنا لنسألها عن حاجة ثمَّ نرجع قبل أن نسألها؟ فرجعنا فقلنا: يا أمَّ المؤمنين، إنَّا جئنا لنسألك عن شيء فاستحينا فقمنا. فقالت: ما هو؟ سلا عمَّا بدا لكما. قلنا: أكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يباشر وهو صائم؟ قالت: قد كان يفعل ذلك، ولكنَّه كان أملك لإرْبِه منكم ))


    - الحَيَاء مِن الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر:

    الحَيَاء لا يمنع المسلم مِن أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر، قال تعالى: وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ [الأحزاب:53]

    بل الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر سمة مِن سمات هذه الأمَّة، كما قال عزَّ وجلَّ: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [آل عمران:110]

    والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مع شدَّة حيائه، لم يثنه ذلك عن قول الحقِّ، ويتبيَّن ذلك في موقفه مع أسامة بن زيد رضي الله عنهما، حينما أراد أن يشفع في حدٍّ مِن الحدود، فلم يمنعه حياؤه صلى الله عليه وسلم مِن أن يقول لأسامة في غضب: أتشفع في حدٍّ مِن حدود الله؟! ثمَّ قام فاختطب، ثمَّ قال: إنَّما أهلك الذين قبلكم أنَّهم كانوا إذا سرق فيهم الشَّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضَّعيف أقاموا عليه الحدَّ، وايم الله لو أنَّ فاطمة بنت محمَّد سرقت لقطعت يدها )
    وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ الله ليسأل العبدَ يوم القيامة حتى يقول: ما منعك إذْ رأيتَ المنكر أن تنكره؟ فإذا لقَّن الله عبدًا حجَّته قال: يا ربِّ! رجوتُك وفَرِقْتُ مِن النَّاس ))

    - فعل أمر نهى عنه الشَّارع:

    فمَن دفعه حياؤه إلى فعل أمرٍ نهى عنه الشَّارع، أو إلى ترك واجب مرغوب في الدِّين فليس حييًّا شرعًا، وإنَّما هذا يعتبر ضعفًا ومهانة.
    فليس مِن الحَيَاء أن يترك الصَّلاة الواجبة بسبب ضيوفٍ عنده حتى تفوته الصَّلاة. وليس مِن الحَيَاء أن يمتنع الشَّخص مِن المطالبة بالحقوق التي كفلها له الشَّرع

    صور الحَيَاء كما ذكرها ابن القيِّم:

    ذكر ابن القيِّم صورًا للحياء وقسَّمها إلى عشرة أوجه وهي:

    (حياء جناية، وحياء تقصير، وحياء إجلال، وحياء كرم، وحياء حِشْمَة، وحياء استصغارٍ للنَّفس واحتقارٍ لها، وحياء محبَّة،
    وحياء عبوديَّة، وحياء شرف وعزَّة، وحياء المستحيي مِن نفسه.


    فأمَّا حياء الجناية: فمنه حياء آدم عليه السَّلام لما فرَّ هاربًا في الجنَّة، قال الله تعالى: أفرارًا منِّي يا آدم؟ قال: لا يا ربِّ، بل حياءً منك.
    وحياء التَّقصير: كحياء الملائكة الذين يسبِّحون اللَّيل والنَّهار لا يفترون، فإذا كان يوم القيامة قالوا: سبحانك! ما عبدناك حقَّ عبادتك.
    وحياء الإجلال: هو حياء المعرفة، وعلى حسب معرفة العبد بربِّه، يكون حياؤه منه.

    وحياء الكَرَم: كحياء النَّبيِّ مِن القوم الذين دعاهم إلى وليمة زينب وطوَّلوا الجلوس عنده، فقام واستحيى أن يقول لهم: انصرفوا.

    وحياء الحِشْمَة: كحياء علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن يسأل رسول الله عن المذْي لمكان ابنته منه.

    وحياء الاستحقار واستصغار النَّفس: كحياء العبد مِن رَبِّه عزَّ و جلَّ حين يسأله حوائجه، احتقارًا لشأن نفسه واستصغارًا لها...

    وقد يكون لهذا النَّوع سببان:
    أحدهما: استحقار السَّائل نفسه، واستعظام ذنوبه وخطاياه.
    والثَّاني: استعظام مسؤوله.

    وأمَّا حياء المحبَّة: فهو حياء المحبِّ مِن محبوبه، حتى إنَّه إذا خطر على قلبه في غيبته هاج الحَيَاء مِن قلبه، وأحسَّ به في وجهه، ولا يدرى ما سببه، وكذلك يعرض للمحبِّ عند ملاقاته محبوبه ومناجاته له روعةٌ شديدةٌ، ومنه قولهم: جمال رائع، وسبب هذا الحَيَاء والرَّوعة، ممَّا لا يعرفه أكثر النَّاس.
    ولا ريب أنَّ للمحبَّة سلطانًا قاهرًا للقلب، أعظم مِن سلطان مَن يقهر البدن، فأين مَن يقهر قلبك وروحك إلى مَن يقهر بدنك؟
    ولذلك تعجَّبت الملوك والجبابرة مِن قهرهم للخَلْق، وقهر المحبوب لهم وذلهم له، فإذا فاجأ المحبوب مُحِبَّه ورآه بغتةً: أحسَّ القلب بهجوم سلطانه عليه فاعتراه روعةٌ وخوف...

    وأمَّا الحَيَاء الذي يعتريه منه
    -وإن كان قادرًا عليه كأمته وزوجته- فسببه والله أعلم أنَّ هذا السُّلطان لـمَّا زال خوفه عن القلب، بقيت هيبته واحتشامه، فتولَّد منها الحَيَاء، وأمَّا حصول ذلك له في غيبة المحبوب فظاهرٌ لاستيلائه على قلبه، فوهمه يغالطه عليه ويكابره حتى كأنَّه معه.

    وأمَّا حياء العبوديَّة: فهو حياء ممتزجٌ مِن محبَّة وخوف، ومشاهدة عدم صلاح عبوديَّته لمعبوده، وأنَّ قدره أعلى وأجلُّ منها، فعبوديتَّه له توجب استحياءه منه لا محالة.

    وأما حياء الشَّرف والعزَّة، فحياء النَّفس العظيمة الكبيرة، إذا صدر منها ما هو دون قدرها مِن بذلٍ أو عطاءٍ وإحسانٍ، فإنَّه يستحيي -مع بذله- حياء شرف نفسٍ وعزَّةٍ،
    وهذا له سببان: أحدهما: هذا.
    والثَّاني: استحياؤه مِن الآخذ حتى كأنَّه هو الآخذ السَّائل، حتى إنَّ بعض أهل الكَرَم لا تطاوعه نفسه بمواجهته لمن يعطيه حياءً منه، وهذا يدخل في حياء التَّلوُّم؛ لأنَّه يستحيي مِن خَجْلَة الآخذ.

    وأما حياء المرء مِن نفسه: فهو حياء النُّفوس الشَّريفة العزيزة الرَّفيعة مِن رضاها لنفسها بالنَّقص وقناعتها بالدُّون، فيجد نفسه مستحيًا مِن نفسه حتى كأنَّ له نفسين يستحيي بإحداهما مِن الأخرى، وهذا أكمل ما يكون مِن الحَيَاء؛ فإنَّ العبد إذا استحيى مِن نفسه فهو بأن يستحيي مِن غيره أجدر)

    مِن مظاهر قلَّة الحَيَاء


    - المجاهرة بالذُّنوب والمعاصي وعدم الخوف مِن الله.
    - لبس النِّساء الكاسيات العاريات الملابس التي تصف الأجسام، أو الضَّيِّقة أو المفتوحة مِن الأعلى والأسفل.
    - حديث المرأة مع الرَّجل الأجنبي عند خروجها واختلاطها به.
    - التَّلفُّظ والتَّفوُّه بالألفاظ البذيئة والسَّيِّئة التي تجرح الآخرين.
    - كلام الرَّجل مع غيره بالأسرار الزَّوجية والأمور الخاصَّة التي تحصل بينه وبين زوجته.
    - كشف العورات و عدم سترها.

    موانع اكتساب الحَيَاء

    - الغناء:

    روى البيهقي وابن أبي الدُّنْيا عن أبي عثمان اللَّيثيِّ قال: قال يزيد بن الوليد النَّاقص: (يا بني أميَّة إيَّاكم والغناء؛ فإنَّه ينقص الحَيَاء، ويزيد في الشَّهوة، ويهدم المروءة)

    - ارتكاب المعاصي:

    بيَّن ابن القيِّم أنَّ الذُّنوب والمعاصي تُذْهِب الحَيَاء فقال: (ومِن عقوباتها ذهاب الحَيَاء الذي هو مادَّة الحياة للقلب،
    وهو أصل كلِّ خير وذهاب كلِّ خير بأجمعه، وفي الصَّحيح عنه أنَّه قال: ((الحَيَاء خير كلُّه )) وقال: ((إنَّ ممَّا أدرك النَّاس مِن كلام النُّبوَّة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت ))
    وفيه تفسيران: أحدهما أنَّه على التَّهديد والوعيد، والمعنى: مَن لم يستح فإنَّه يصنع ما شاء مِن القبائح؛ إذِ الحامل على تركها الحَيَاء،
    فإذا لم يكن هناك حياءٌ نزعه مِن القبائح، فإنَّه يواقعها، وهذا تفسير أبي عبيدة،

    والثَّاني: أنَّ الفعل إذا لم تستح فيه مِن الله فافعله، وإنَّما الذي ينبغي تركه ما يُستحى منه مِن الله، وهذا تفسير الإمام أحمد في رواية ابن هاني، فعلى الأوَّل يكون تهديدًا، كقوله: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصِّلت:40]،

    وعلى الثَّاني يكون إذنًا وإباحة، فإن قيل فهل مِن سبيل إلى حمله على المعنيين؟ قلت: لا، ولا على قول مَن يحمل المشترك على جميع معانيه، لما بين الإباحة والتَّهديد مِن المنافاة، ولكن اعتبار أحد المعنيين يوجب اعتبار الآخر،

    والمقصود: أنَّ الذُّنوب تُضْعِف الحَيَاء مِن العبد حتى ربَّما انسلخ منه بالكلِّيَّة، حتى ربَّما أنَّه لا يتأثَّر بعلم النَّاس بسوء حاله، ولا باطِّلاعهم عليه، بل كثير منهم يخبر عن حاله وقبح ما يفعله، والحامل على ذلك انسلاخه مِن الحَيَاء، وإذا وصل العبد إلى هذه الحالة، لم يبق في صلاحه مطمع)

    الوسائل المعينة على اكتساب الحَيَاء

    الحَيَاء موجود في فطرة الإنسان، وعلينا أن نجعله رفيقًا لنا في كلِّ أقوالنا وأفعالنا، وهناك بعض الوسائل التي تنمِّي هذه الصِّفة وتقوِّيها في نفوسنا، ومِن هذه الوسائل:
    1- اتِّباع أوامر الله سبحانه والخوف منه، ومراقبته في كلِّ حين، واستشعار معيته.
    2- اتِّباع سنَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في حياته القوليَّة والفعليَّة.
    3- غضُّ البصر عمَّا حرَّم الله سبحانه وتعالى، وعدم تتبُّع عورات الآخرين.
    4- الصَّبر عن المعصية يعين على ملازمة الحَيَاء.
    5- تربية الأولاد على الحَيَاء.
    6- مجالسة مَن يتَّصف بصفة الحَيَاء.

    نماذج مِن حَيَاء الأنبياء والمرسلين عليهم السلام

    حياء أبينا آدم وأمِّنا حواء:
    إنَّ الحَيَاء خاصيَّة مِن الخصائص التي حبا الله بها الإنسان؛ ليبتعد عن مزاولة الذُّنوب والمعاصي والشَّهوات،
    وحينما أكل آدم وحواء مِن الشجرة التي نهاهما الله عن الأكل منها، بدت لهما سوءاتهما، فأسرعا يأخذان مِن أوراق الجنَّة ليسترا عوراتهما، فتحدَّث القرآن الكريم عن ذلك بقوله: فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ [الأعراف:22]
    وهذا يدلُّ على أنَّ الإنسان مفطورٌ على الحَيَاء، وأمَّا قلَّة الحَيَاء فهي منافية للفطرة، بل مِن اتِّباع الشَّيطان.

    حياء نبي الله موسى عليه السَّلام:

    جاء في وصف موسى عليه السَّلام أنَّه كان حييًّا ستِّيرًا، حتى كان يستر بدنه، ويستحي أن يظهر ممَّا تحت الثِّياب شيئًا حتى ممَّا ليس بعورة. وبسبب تستُّره الزَّائد، آذاه بعض بني إسرائيل في أقوالهم، فقالوا: ما يبالغ في ستر نفسه إلَّا مِن عيب في جسمه، أو مِن أُدْرَة هو مصاب بها
    فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ موسى كان رجلًا حييًّا ستِّيرًا، لا يُرَى مِن جلده شيء استحياءً منه، فآذاه مَن آذاه مِن بني إسرائيل، فقالوا: ما يستتر هذا التَّستُّر إلَّا مِن عيب بجلده، إمَّا برص وإمَّا أُدْرَة وإمَّا آفة. وإنَّ الله أراد أن يبـرِّئه ممَّا قالوا لموسى فخلا يومًا وحده، فوضع ثيابه على الحجر ثمَّ اغتسل، فلمَّا فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإنَّ الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر! ثوبي حجر! حتى انتهى إلى ملإٍ مِن بني إسرائيل، فرأوه عريانًا أحسن ما خلق الله، وأبرأه ممَّا يقولون، وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضربًا بعصاه، فوالله إنَّ بالحجر لندبًا مِن أثر ضربه ثلاثًا، أو أربعًا، أو خمسًا، فذلك قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69] ))

    نماذج مِن حياء الأمم السَّابقة


    حياء امرأة صالحة:

    قال تعالى: فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص: 25]
    وهذه الآية تتحدَّث عن حياء الابنة، حين جاءت إلى موسى عليه السَّلام تدعوه إلى أبيها ليجزيه على صنيعه، فجاءت إليه تمشي على استحياء
    وقال عمر رضي الله عنه: (فأقبلت إليه ليست بسَلْفَعٍ مِن النِّساء، لا خرَّاجة ولا ولَّاجة، واضعة ثوبها على وجهها)

    حياء العرب في الجاهليَّة:

    كان أهل الجاهليَّة يتحرَّجون مِن بعض القبائح بدافع الحَيَاء، فها هو هرقل يسأل أبا سفيان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
    فيقول أبو سفيان: (فوالله لولا الحَيَاء مِن أن يأثروا عليَّ كذبًا لكذبت عنه )
    فمنعه الحَيَاء، من الافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لئلَّا يوصف بالكذب، ويشاع عنه ذلك

    نماذج مِن حياء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم


    كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أشدَّ النَّاس حياءً، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ حياءً مِن العذراء في خدرها ) وكان إذا كره شيئًا عرفه الصَّحابة في وجهه.

    قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21]

    حياؤه مِن الله:

    ومِن مظاهر حيائه صلى الله عليه وسلم حياؤه مِن خالقه سبحانه وتعالى؛ وذلك لما طلب موسى عليه السَّلام مِن نبيِّنا صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء أن يراجع ربَّه في تخفيف فرض الصَّلاة، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لموسى عليه السَّلام: ((استحييت مِن ربِّي ))

    حياؤه مِن النَّاس:

    مِن ذلك ما جاء عن عائشة رضي الله عنها ((أنَّ امرأة سألت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عن غسلها مِن المحيض، فأمرها كيف تغتسل، ثمَّ قال: خذي فرصة مِن مسك فتطهَّري بها. قالت: كيف أتطهر بها؟ قالت: فستر وجهه بطرف ثوبه، وقال: سبحان الله! تطهَّري بها. قالت عائشة: فاجتذبت المرأة فقلت: تتبَّعي بها أثر الدم ))

    - ومِن صور حيائه صلى الله عليه وسلم، ما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه، حيث
    قال: ((بُنِيَ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بزينب ابنة جحش بخبز ولحم، فأُرْسِلتُ على الطَّعام داعيًا، فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون، ثمَّ يجيء قومٌ فيأكلون ويخرجون، فدعوت حتى ما أجد أحدًا أدعوه، فقلت: يا رسول الله، ما أجد أحدًا أدعوه.
    قال: ارفعوا طعامكم، وبقي ثلاثة رهط يتحدَّثون في البيت، فخرج النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها، فقال: السَّلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته. قالت: وعليك السَّلام ورحمة الله، كيف وجدت أهلك يا رسول الله؟
    بارك الله لك، فتقرَّى حُجَر نسائه كلِّهنَّ، يقول لهنَّ كما يقول لعائشة، ويقلن له كما قالت عائشة، ثمَّ رجع النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدَّثون، وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم شديد الحَيَاء، فخرج منطلقًا نحو حُجْرة عائشة فما أدري أخبرته أم أُخْبِر أنَّ القوم خرجوا، فرجع حتى إذا وضع رجله في أُسكفَّة الباب داخله والأخرى خارجة، أرخى السِّتر بيني وبينه، وأنزلت آية الحجاب ))


    حياؤه في تعامله مع مَن بلغه عنه شيء:

    عن عائشة رضي الله عنها قالت كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ((إذا بلغه عن الرَّجل الشَّيء لم يقلْ: ما بال فلانٍ يقول؟ ولكن يقول: ما بال أقوامٍ يقولون كذا وكذا؟ ))

    نماذج مِن حياء الصَّحابة رضي الله عنهم

    حياء أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه:
    خطب الصِّدِّيق النَّاس يومًا، فقال: (يا معشر المسلمين، استحيوا مِن الله، فو الذي نفسي بيده إنِّي لأظلُّ حين أذهب الغائط في الفضاء متقنِّعًا بثوبي استحياءً مِن ربِّي عزَّ وجلَّ)

    حياء عثمان بن عفَّان رضي الله عنه:

    عُرِف عثمان رضي الله عنه بشدَّة الحَيَاء، حتى أنَّ الملائكة كانت تستحي منه، فعن عائشة رضي الله عنها،
    قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعًا في بيتي، كاشفًا عن فخذيه، أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له، وهو على تلك الحال، فتحدَّث، ثمَّ استأذن عمر، فأذن له، وهو كذلك، فتحدَّث، ثمَّ استأذن عثمان، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسوَّى ثيابه - :  - فدخل فتحدَّث، فلمَّا خرج، قالت عائشة: دخل أبو بكر، فلم تهتش له ولم تباله، ثمَّ دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثمَّ دخل عثمان فجلست وسوَّيت ثيابك، فقال: ألا أستحي مِن رجل تستحي منه الملائكة ))

    حياء علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

    عن عليٍّ رضي الله عنه قال: ((كنت رجلًا مذَّاءً فكنت أستحي أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته، فأمرت المقداد فسأله، فقال: يغسل ذكَرَه ويتوضَّأ ))

    حياء عائشة رضي الله عنها:

    عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أدخل بيتي، الذي دُفِنَ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي، فأضع ثوبي، فأقول إنَّما هو زوجي وأبي، فلمَّا دُفِنَ عمر معهم، فوالله ما دخلت إلَّا وأنا مَشْدُودَةٌ عليَّ ثيابي؛ حَيَاءً مِن عمر)

    حياء فاطمة بنت عتبة رضي الله عنها:

    عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((جاءت فاطمة بنت عتبة بن ربيعة تبايع النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأخذ عليها أن لا يُشْرِكْنَ بالله شيئًا ولا يَزْنِينَ، الآية. قالت: فوضعت يدها على رأسها حَيَاءً، فأَعْجَبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى منها،
    فقالت عائشة: أَقِرِّي أيَّتها المرأة، فوالله ما بايعنا إلَّا على هذا. قالت: فنعم إذًا. فبايعها بالآية ))


    نماذج مِن حياء السَّلف

    - عن الشَّعَبي، قال: سمع عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه امرأة تقول:

    دعتني النَّفس بعد خروج عمرو إلى اللَّذَّات تطَّلع اطِّلاعا
    فقلت لها عجلت فلن تطاعي ولو طالت إقامته ربَاعا
    أحاذر أن أطيعك سبَّ نفسي ومخزاة تحلِّلني قناعا

    فقال لها عمر: (ما الذي منعك مِن ذلك؟ قالت: الحَيَاء وإكرام زوحي.
    فقال عمر: إنَّ في الحَيَاء لهَنات ذات ألوان، مَن استحيى اختفى، ومَن اختفى اتَّقى، ومَن اتَّقى وُقِي)

    - وقال الجرَّاح الحكمي: (تركت الذُّنوب حياءً أربعين سنة، ثمَّ أدركني الورع)

    - ورُوِي أنَّ عمرو بن عتبة بن فرقد كان يصلِّي ذات ليلة، فسمعوا صوت الأسد، فهرب مَن كان حوله، وهو قائم يصلِّي فلم ينصرف، فقالوا له: أما خفت الأسد؟ فقال: إنِّي لأستحي مِن الله أن أخاف شيئًا سواه

    - وقال جعفر الصَّانع: كان في جيران أبي عبد الله أحمد بن محمَّد بن حنبل، رجل ممَّن يمارس المعاصي والقاذورات،
    فجاء يومًا إلى مجلس أحمد يسلِّم عليه، فكأن أحمد لم يردَّ عليه ردًّا تامًّا وانقبض منه،
    فقال له: يا أبا عبد الله! لم تنقبض منِّي؟ فإنِّي قد انتقلت عمَّا كنت تعهدني برؤيا رأيتها. قال: وأيُّ شيء رأيت؟
    قال: رأيت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم في النَّوم كأنَّه على علوٍّ مِن الأرض، وناس كثير أسفل جلوس،
    قال: فيقوم رجلٌ رجلٌ منهم إليه، فيقول: ادع لي! فيدعو له حتى لم يبق مِن القوم غيري،
    قال: فأردت أن أقوم فاستحييت مِن قبيح ما كنت عليه، قال لي: يا فلان! لم لا تقوم إلي فتسألني أدعو لك؟
    قال: قلت: يا رسول الله! يقطعني الحَيَاء لقبيح ما أنا عليه.
    فقال: إن كان يقطعك الحَيَاء فقم فسلني أدع لك فإنَّك لا تسبُّ أحدًا مِن أصحابي.
    قال: فقمت، فدعا لي، فانتبهت وقد بغَّض الله إليَّ ما كنت عليه. قال: فقال لنا أبو عبد الله: يا جعفر، يا فلان، حدِّثوا بهذا واحفظوه فإنَّه ينفع

    - وكان الرَّبيع بن خُثَيم مِن شدَّة غضه لبصره وإطراقه يَظُنُّ بعض النَّاس أنَّه أعمى،
    وكان يختلف إلى منزل ابن مسعود عشرين سنة، فإذا رأته جاريته قالت لابن مسعود: صديقك الأعمى قد جاء، فكان يضحك ابن مسعود مِن قولها، وكان إذا دقَّ الباب تخرج الجارية إليه فتراه مطرقًا غاضًّا بصره
    - ولما احتُضر الأسود بن يزيد بكى، فقيل له: ما هذا الجزع؟ قال: ما لي لا أجزع؟ ومَن أحقُّ منِّي بذلك؟ والله لو أُتيت بالمغفرة مِن الله لأهمَّني الحَيَاء منه ممَّا قد صنعت، وإنَّ الرَّجل ليكون بينه وبين الرَّجل الذَّنْب الصَّغير، فيعفو عنه، ولا يزال مستحييًا منه
    -----------------------------------------------------
    وما زلنا أحبابي نرتع في حدائق ألأخلاق المحموده فأبقوا معنا جزاكم الله خيرا

    ولا تنسونا من صالح دعائكم


    عدل سابقا من قبل sadekalnour في الأربعاء يونيو 22, 2022 2:16 pm عدل 1 مرات

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    ألأخلاق في  ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني Empty ألأخلاق في نظر ألإسلام .. الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف صادق النور السبت يونيو 18, 2022 10:42 pm


    ومن ألأخلاق المحموده

    الرَّحْمَة


    معنى الرَّحْمَة لغةً:

    الرحمة: من رحمة يرحمه، رحمة ومرحمة، إذا رقَّ له، وتعطف عليه، وأصل هذه المادة يدلُّ على الرقة والعطف والرأفة، وتراحم القوم: رحم بعضهم بعضًا.
    ومنها الرَّحِم: وهي عَلاقة القرابة.
    وقد تطلق الرَّحْمَة، ويراد بها ما تقع به الرَّحْمَة، كإطلاق الرَّحْمَة على الرِّزق والغيث

    معنى الرَّحْمَة اصطلاحًا:

    (الرَّحْمَة رقَّة تقتضي الإحسان إلى الْمَرْحُومِ، وقد تستعمل تارةً في الرِّقَّة المجرَّدة، وتارة في الإحسان المجرَّد عن الرِّقَّة)
    وقيل: (هي رِقَّة في النفس، تبعث على سوق الخير لمن تتعدى إليه)
    وقيل: هي (رِقَّة في القلب، يلامسها الألم حينما تدرك الحواس أو تدرك بالحواس، أو يتصور الفكر وجود الألم عند شخص آخر، أو يلامسها السُّرور حينما تدرك الحواس أو تدرك بالحواس أو يتصور الفكر وجود المسرة عند شخص آخر)
    الفرق بين الرَّحْمَة والرَّأفة

    قال ابن عاشور: (والرَّأفة: رِقَّة تنشأ عند حدوث ضر بالمرؤوف به. يقال: رؤوفٌ رحيم. والرَّحْمَة: رقَّة تقتضي الإحسان للمرحوم، بينهما عمومٌ وخصوص مطلق)

    وقال القفال: (الفرق بين الرَّأفة والرَّحْمَة: أنَّ الرَّأفة مبالغة في رحمة خاصة، وهي دفع المكروه وإزالة الضَّرر،
    كقوله: وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور: 2] أي: لا ترأفوا بهما فترفعوا الجلد عنهما، وأمَّا الرَّحْمَة فإنَّها اسم جامع، يدخل فيه ذلك المعنى، ويدخل فيه الانفصال والإنعام)

    وقال أبو البقاء الكفوي: (الرَّحْمَة هي أن يوصل إليك المسار، والرَّأفة هي أن يدفع عنك المضار... فالرَّحْمَة من باب التزكية، والرَّأفة من باب التَّخلية، والرَّأفة مبالغة في رحمة مخصوصة، هي رفع المكروه وإزالة الضر، فذكر الرَّحْمَة بعدها في القرآن مطردًا لتكون أعم وأشمل)
    وقيل: (الرَّأفة أشد من الرَّحْمَة)، وقيل: (الرَّحْمَة أكثر من الرَّأفة، والرَّأفة أقوى منها في الكيفية؛ لأنَّها عبارة عن إيصال النِّعم صافية عن الألم)
    أولًا: الترغيب في الرَّحْمَة في القرآن الكريم

    ذكر الله هذه الصفة العظيمة في غير ما آية من كتابه الكريم، إمَّا في معرض تسميه واتصافه بها، أو في معرض الامتنان على العباد بما يسبغه عليهم من آثارها، أو تذكيرهم بسعتها، أو من باب المدح والثناء للمتصفين بها المتحلِّين بمعانيها، أو غير ذلك من السياقات، ومن ذلك:
    - تَسمِّيه جلَّ وعلا باسم الرَّحمن والرَّحيم، واتصافه بصفة الرَّحْمَة:
    وهذا كثير جدًّا في القرآن، نذكر منه على سبيل المثال لا الحصر:
    قوله تعالى: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة: 3] ، فقد سمى الله نفسه بهذين الاسمين المشتملين على صفة الرَّحْمَة،
    قال ابن عباس رضي الله عنهما: (هما اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر، أي أكثر رحمة)
    - ومن ذلك أنَّ الله جعل هذه الصفة لصفوة خلقه، وخيرة عباده، وهم الأنبياء والمرسلين، ومن سار على نهجهم من المصلحين، فقد قال الله تعالى ممتنًا على رسوله صلى الله عليه وسلم على ما ألقاه في قلبه من فيوض الرَّحْمَة، جعلته يلين للمؤمنين، ويرحمهم ويعفو عنهم، ويتجاوز عن أخطائهم: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ [آل عمران: 159]
    أي: فبسبب رحمة من الله أودعها الله في قلبك يا محمد، كنت هيِّنًا، لين الجانب مع أصحابك، مع أنهم خالفوا أمرك وعصوك
    - ومن ذلك ثناء الله على المتَّصفين بالرَّحْمَة والمتخلِّقين بها،
    فقد قال تعالى واصفًا رسوله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الذين معه: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [الفتح: 29]، فهم أشدَّاء على الكفار، رحماء بينهم، بحسب ما يقتضيه منهم إيمانهم، فالإيمان بالله واليوم الآخر متى تغلغل في القلب حقًّا، غرس فيه الرَّحْمَة بمقدار قوته وتغلغله
    - وقال تعالى: فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ [البلد: 11 – 18]
    قال محمد الطاهر بن عاشور: (خصَّ بالذِّكر من أوصاف المؤمنين، تواصيهم بالصَّبر، وتواصيهم بالمرحمة، لأنَّ ذلك أشرف صفاتهم بعد الإيمان، فإنَّ الصَّبر ملاك الأعمال الصَّالحة كلِّها؛ لأنَّها لا تخلو من كبح الشَّهوة النَّفسانيَّة وذلك من الصَّبر. والمرحمة، ملاك صلاح الجماعة الإسلاميَّة
    قال تعالى: رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [الفتح: 29]، والتَّواصي بالرَّحمة فضيلة عظيمة، وهو أيضًا كناية عن اتِّصافهم بالمرحمة، لأنَّ من يوصي بالمرحمة هو الذي عرف قدرها وفضلها، فهو يفعلها قبل أن يوصي بها)

    ثانيًا: الترغيب في الرَّحْمَة في السُّنَّة النَّبويَّة

    أما السُّنَّة فقد استفاضت نصوصها الداعية إلى الرَّحْمَة، الحاثَّة عليها، المرغِّبة فيها إمَّا نصًّا أو مفهومًا، كيف لا وصاحبها صلى الله عليه وسلم هو نبي الرَّحْمَة كما وصف نفسه
    فقال: ((أنا محمد، وأحمد، والمقفي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرَّحْمَة ))
    - فعن النُّعمان بن بشير رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ترى المؤمنين في تراحمهم، وتوادِّهم، وتعاطفهم، كمثل الجسد إذا اشتكى عضوًا، تداعى له سائر جسده بالسَّهر والحمَّى ))
    يقول النووي معلقًا على هذا الحديث: (هذه الأحاديث صريحة في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض، وحثِّهم على التراحم، والملاطفة، والتعاضد، في غير إثم ولا مكروه)
    وقال ابن أبي جمرة: (الذي يظهر أنَّ التَّراحم، والتوادد، والتعاطف، وإن كانت متقاربة في المعنى لكن بينها فرق لطيف، فأما التَّراحم فالمراد به أن يرحم بعضهم بعضًا بأخوة الإيمان، لا بسبب شيء آخر، وأما التوادد فالمراد به التواصل الجالب للمحبة، كالتزاور والتهادي، وأما التعاطف فالمراد به إعانة بعضهم بعضًا، كما يعطف الثوب عليه ليقويه) اهـ ملخصًا.

    - وعن عائشة رضي اللّه عنها قالت: ((جاء أعرابيٌّ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: تقبِّلون الصِّبيان فما نقبِّلهم، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرَّحْمَة؟ ))
    قال ابن بطال: (رحمة الولد الصغير، ومعانقته، وتقبيله، والرفق به، من الأعمال التي يرضاها الله ويجازي عليها، ألا ترى قوله عليه السلام للأقرع بن حابس حين ذكر عند النَّبي صلى الله عليه وسلم أن له عشرة من الولد ما قبل منهم أحدًا: ((من لا يرحم لا يرحم ))؟
    - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الرَّاحمون يرحمهم الرَّحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السَّماء ))
    قال شمس الدين السفيري: (فندب صلى الله عليه وسلم إلى الرَّحْمَة، والعطف على جميع الخلق من جميع الحيوانات،
    على اختلاف أنواعها في غير حديث، وأشرفها الآدمي، وإذا كان كافرًا، فكن رحيمًا لنفسك ولغيرك،
    ولا تستبد بخيرك، فارحم الجاهل بعلمك، والذَّليل بجاهك، والفقير بمالك، والكبير والصغير بشفقتك ورأفتك، والعصاة بدعوتك، والبهائم بعطفك، فأقرب النَّاس من رحمة الله أرحمهم بخلقه، فمن كثرت منه الشفقة على خلقه، والرَّحْمَة على عباده، رحمه الله برحمته، وأدخله دار كرامته، ووقاه عذاب قبره، وهول موقفه، وأظله بظله إذ كل ذلك من رحمته)

    - وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تنزع الرَّحْمَة إلَّا من شقيٍّ ))
    قال ابن العربي: (حقيقة الرَّحْمَة إرادة المنفعة، وإذا ذهبت إرادتها من قلب شقي بإرادة المكروه لغيره، ذهب عنه الإيمان والإسلام)

    ويقول المناوي: (لأنَّ الرَّحْمَة في الخلق رقة القلب، ورقته علامة الإيمان، ومن لا رأفة له لا إيمان له، ومن لا إيمان له شقي، فمن لا رحمة عنده شقي)
    - وعن جرير بن عبد اللَّه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يرحم الله من لا يرحم النَّاس))

    يقول السعدي: (رحمة العبد للخلق من أكبر الأسباب التي تنال بها رحمة الله، التي من آثارها خيرات الدنيا، وخيرات الآخرة،
    وفقدها من أكبر القواطع والموانع لرحمة الله، والعبد في غاية الضرورة والافتقار إلى رحمة الله، لا يستغني عنها طرفة عين، وكل ما هو فيه من النِّعم واندفاع النقم، من رحمة الله.
    فمتى أراد أن يستبقيها ويستزيد منها، فليعمل جميع الأسباب التي تنال بها رحمته،
    وتجتمع كلها في قوله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] ، وهم المحسنون في عبادة الله، المحسنون إلى عباد الله. والإحسان إلى الخلق أثر من آثار رحمة العبد بهم)
    أما من كان بعيدًا عن الإحسان بالخلق، ظلومًا غشومًا، شقيًّا، فهذا لا ينبغي له أن يطمع في رحمة الله وهو متلبس بظلم عباده.
    - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((قبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التَّميمي جالسًا، فقال الأقرع: إنَّ لي عشرة من الولد ما قبَّلت منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ قال: من لا يَرحم لا يُرحم ))
    قال ابن بطال بعد أن ذكر عددًا من الأحاديث، وذكر هذا الحديث من جملتها: (في هذه الأحاديث الحض على استعمال الرَّحْمَة للخلق كلهم، كافرهم، ومؤمنهم، ولجميع البهائم والرفق بها، وأن ذلك مما يغفر الله به الذنوب، ويكفر به الخطايا، فينبغي لكل مؤمن عاقل أن يرغب في الأخذ بحظه من الرَّحْمَة، ويستعملها في أبناء جنسه وفي كل حيوان)

    وقد دل الواقع والمشاهدة، أنَّ من لا يرحم النَّاس ولا يعطف عليهم إذا صادف موقفًا يحتاج فيه إلى رحمتهم، فإنهم لا يرحمونه ولا يعطفون عليه، وقد ذكر صاحب الأغاني أنَّ محمد بن عبد الملك كان يقول: الرَّحْمَة خور في الطبيعة، وضعف في المنة، ما رحمت شيئًا قط. فكانوا يطعنون عليه في دينه بهذا القول، فلما وضع في الثقل والحديد قال: ارحموني فقالوا له: وهل رحمت شيئًا قط فترحم؟ هذه شهادتك على نفسك وحكمك عليها
    واستفاضت الأحاديث الدالة على الرَّحْمَة بمفهومها وهي لا تكاد تحصى؛ وذلك لأنَّه ما من معاملة من المعاملات، أو رابطة من الروابط الاجتماعية أو الإنسانية، إلا وأساسها وقوام أمرها الرَّحْمَة.
    فمن علاقة الإنسان بنفسه التي بين جنبيه، وعلاقته بذويه وأهله، إلى علاقته بمجتمعه المحيط به، إلى معاملته لجميع خلق الله من إنسان أو حيوان، كل ذلك مبني على هذا الخلق الرفيع، والسَّجيَّة العظيمة.

    فوائد الرَّحْمَة

    للتحلي بخلق الرَّحْمَة فوائد عظيمة وثمار جليلة، فما أن يتحلى المؤمن بهذه الحلية، ويتجمَّل بهذه السَّجيَّة حتى تظهر آثارها وتؤتي أكلها.. ليس عليه فقط، بل عليه وعلى من حوله، وسنعرض لبعض هذه الآثار والفوائد إجمالًا، فمن ذلك:
    1- أنَّها سبب للتعرض لرحمة الله، فأهلها مخصوصون برحمته جزاء لرحمتهم بخلقه.
    2- محبة الله للعبد، ومن ثم محبة النَّاس له.
    3- ومن أعظم فوائدها، أنَّ المتحلي بها يتحلى بخلق تحلى به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    4- أنها ركيزة عظيمة، ينبني عليها مجتمع مسلم متماسك يحس بعضه ببعض، ويعطف بعضه على بعض، ويرحم بعضه بعضًا.
    5- أنها تشعر المرء بصدق انتمائه للمجتمع المسلم، فمن لا يرحم لا يستحق أن يكون فردًا في المجتمع أو جزءًا منه؛
    لذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا ))
    6- أنه على قدر حظ الإنسان من الرَّحْمَة، تكون درجته عند الله تبارك وتعالى، وقد كان الأنبياء أشدَّ النَّاس رحمة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم أوفرهم حظًّا منها.
    7- أنها سبب لمغفرة الله تبارك وتعالى وكريم عفوه، كما أنَّ نقيضها سبب في سخطه وعذابه.
    8- ومن أعظم فوائدها أنَّها خلق متعدٍّ إلى جميع خلق الله.
    9- أنها سبب للالتفات إلى ضعفة المجتمع؛ من الفقراء، والمساكين، والأرامل، والأيتام، والكبار، والعجزة، وغيرهم.

    أقسام الرحمة من حيث المدح والذم


    إن خلق الرَّحْمَة منه ما هو محمود - وهو الأصل - ومنه ما هو مذموم.
    أما المحمود فهو ما ذكرناه آنفًا، واستدللنا عليه من كتاب الله، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، بما يغني عن إعادة ذكره هاهنا.
    وأما المذموم: فهو ما حصل بسببه تعطيل لشرع الله، أو تهاون في تطبيق حدوده وأوامره، كمن يشفق على من ارتكب جرمًا يستحق به حدًّا، فيحاول إقالته والعفو عنه، ويحسب أنَّ ذلك من رحمة الخلق وهو ليس من الرَّحْمَة في شيء، بل الرَّحْمَة هي إقامة الحد على المذنب، والرَّأفة هي زجره عن غيِّه وردُّه عن بغيه بتطبيق حكم الله فيه،
    قال ابن تيمية: ((إنَّ العقوبات الشَّرعيَّة كلَّها أدوية نافعة، يصلح اللَّه بها مرض القلوب، وهي من رحمة الله بعباده ورأفته بهم، الدَّاخلة في قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] ،
    فمن ترك هذه الرَّحمة النَّافعة لرأفة يجدها بالمريض، فهو الَّذي أعان على عذابه وهلاكه، وإن كان لا يريد إلَّا الخير إذ هو في ذلك جاهل أحمق)
    - لذا نهى الله تعالى المؤمنين عن أن تأخذهم رأفة أو رحمة في تطبيق حدود الله وإقامة شرعه فقال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور: 2]
    قال ابن تيمية: (إنَّ دين الله هو طاعته، وطاعة رسوله، المبني على محبَّته ومحبَّة رسوله، وأن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه ممَّا سواهما؛ فإنَّ الرَّأفة والرَّحمة يحبُّهما اللَّه ما لم تكن مضيِّعةً لدين الله)
    ومن الرَّحْمَة المذمومة، ما يكون سببًا في فساد المرحوم وهلاكه، كما يفعل كثير من الآباء من ترك تربية الأبناء وتأديبهم، وعقوبتهم رحمة بهم، وعطفًا عليهم، فيتسببون في فسادهم وهلاكهم وهم لا يشعرون.
    قال ابن تيمية: (ما يفعله بعض النِّساء والرِّجال الجهَّال بمرضاهم، وبمن يربُّونه من أولادهم، وغلمانهم، وغيرهم، في ترك تأديبهم وعقوبتهم، على ما يأتونه من الشَّرِّ ويتركونه من الخير رأفةً بهم، فيكون ذلك سبب فسادهم وعداوتهم وهلاكهم)

    وقال ابن القيم: (إنَّ الرَّحْمَة، صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد، وإن كرهتها نفسه، وشقَّت عليها، فهذه هي الرَّحْمَة الحقيقية، فأرحم النَّاس بك من شقَّ عليك في إيصال مصالحك ودفع المضار عنك، فمن رحمة الأب بولده: أن يكرهه على التأدب بالعلم والعمل، ويشق عليه في ذلك بالضرب وغيره، ويمنعه شهواته التي تعود بضرره، ومتى أهمل ذلك من ولده كان لقلة رحمته به، وإن ظن أنَّه يرحمه، ويرفهه، ويريحه، فهذه رحمة مقرونة بجهل كرحمة الأم)

    أقسام الرحمة من حيث الغريزة والاكتساب


    قال عبد الرحمن السعدي: (والرَّحْمَة التي يتصف بها العبد نوعان:

    النوع الأول: رحمة غريزيَّة، قد جبل الله بعض العباد عليها، وجعل في قلوبهم الرَّأفة والرَّحْمَة والحنان على الخلق، ففعلوا بمقتضى هذه الرَّحْمَة، جميع ما يقدرون عليه من نفعهم، بحسب استطاعتهم، فهم محمودون، مثابون على ما قاموا به، معذورون على ما عجزوا عنه، وربما كتب الله لهم بنياتهم الصادقة ما عجزت عنه قواهم.
    والنوع الثاني: رحمة يكتسبها العبد بسلوكه كل طريق ووسيلة، تجعل قلبه على هذا الوصف، فيعلم العبد أنَّ هذا الوصف من أجلِّ مكارم الأخلاق وأكملها، فيجاهد نفسه على الاتصاف به، ويعلم ما رتب الله عليه من الثواب، وما في فواته من حرمان الثواب؛ فيرغب في فضل ربه، ويسعى بالسبب الذي ينال به ذلك، ويعلم أنَّ الجزاء من جنس العمل، ويعلم أنَّ الأخوَّة الدينية والمحبة الإيمانية، قد عقدها الله وربطها بين المؤمنين، وأمرهم أن يكونوا إخوانًا متحابين، وأن ينبذوا كل ما ينافي ذلك من البغضاء، والعداوات، والتدابر)

    صور الرَّحْمَة

    1- شفقة الإمام برعيته، وتجنب ما من شأنه أن يجلب المشقة عليهم:
    - عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((أعتم النَّبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، حتَّى ذهب عامَّة اللَّيل، وحتَّى نام أهل المسجد، ثُمَّ خرج فصلَّى، فقال: إنَّه لوقتها، لولا أن أشقَّ على أمَّتي ))
    - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا صلى أحدكم للنَّاس فليخفِّف، فإنَّ في النَّاس الضَّعيف والسَّقيم وذا الحاجة ))
    2- التوسط في العبادات وترك ما يشق على النفس:
    عن عائشة رضي الله عنها: ((أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة، قال: من هذه؟ قالت: فلانة، تذكر من صلاتها، قال: مه، عليكم بما تطيقون، فوالله لا يملُّ الله حتى تملوا، وكان أحب الدِّين إليه ما داوم عليه صاحبه ))
    3- البر بالوالدين.. وخفض جناح الذُّل من الرَّحْمَة لهما:
    - عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال: ((سألت النَّبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ العمل أحبُّ إلى اللّه عزَّ وجلَّ؟ قال: الصَّلاة على وقتها. قال: ثُمَّ أي؟ قال: برُّ الوالدين. قال: ثُمَّ أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله ))
    - عن أبي سعيد الخدريِّ رضي الله عنه قال: هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من اليمن، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هجرت الشِّرك ولكنَّه الجهاد. هل باليمن أبواك؟ قال: نعم. قال: أَذِنا لك؟ قال: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارجع إلى أبويك فإن فعلا، وإلَّا فبرهما ))
    3- الوصية بالمرأة خيرًا والإحسان إليها:
    قال صلى الله عليه وسلم: ((استوصوا بالنساء خيرًا؛ فإنَّهن عوانٍ عندكم، أخذتموهنَّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنَّ بكلمة الله ))
    4- الشفقة على الأبناء، والعطف والحزن عليهم، إذا أصابهم مكروه:
    عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء أعرابيٌّ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: تقبِّلون الصِّبيان فما نقبِّلهم، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرَّحْمَة؟ ))
    وعن أسامة بن زيد رضي اللّه عنهما قال: أَرسلت ابنة النَّبي صلى الله عليه وسلم إليه: إنَّ ابنًا لي قبض، فأتنا. فأرسل يقرأ السَّلام ويقول: ((إنَّ للَّه ما أخذ، وله ما أعطى، وكلٌّ عنده بأجل مسمَّى. فلتصبر ولتحتسب. فأرسلت إليه تُقسم عليه ليأتينَّها. فقام ومعه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأبيُّ ابن كعب، وزيد بن ثابت، ورجال، فرُفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصَّبيُّ ونفسه تتقعقع، قال حسبته أنَّه قال: كأنَّها شنٌّ، ففاضت عيناه. فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟ فقال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنَّما يرحم الله من عباده الرَّحماء ))
    5- الرَّحْمَة بمن هم تحت سلطانه، من العبيد، والخدم، والعمال، وغيرهم:
    عن المعرور بن سويد رحمه الله تعالى قال: لقيت أبا ذرٍّ بالرَّبذة وعليه حلَّة ، وعلى غلامه حلَّة، فسألته عن ذلك فقال: إنِّي ساببت رجلًا فعيَّرته بأمِّه، فقال لي النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر أعيَّرته بأمِّه؟ إنَّك امرؤ فيك جاهليَّة، إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه ممَّا يأكل، وليلبسه ممَّا يلبس، ولا تكلِّفوهم ما يغلبهم، فإن كلَّفتموهم فأعينوهم ))
    6- الأمر بإحسان القِتلة والذبحة:
    عن شدَّاد بن أوس رضي الله عنه أنَّه قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((إنَّ الله كتب الإحسان على كلِّ شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذَّبح، وليحدَّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته ))
    7- النهي عن تعذيب الحيوان أو إخافته أو إجهاده أو إجاعته:
    عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((دخلت امرأة النَّار في هرَّة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض ))
    وعلى نقيض هذه الصورة، ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة أخرى، لامرأة غفر الله لها ذنبها بسبب كلب:
    فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينما كلب يطيف بركيَّة كاد يقتله العطش، إذْ رأته بغيٌّ من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها فسقته، فغفر لها به ))
    قال السعدي معلقًا على هذين الحديثين: (ومن ذلك ما هو مشاهد مجرب، أنَّ من أحسن إلى بهائمه بالإطعام، والسقي، والملاحظة النافعة، أنَّ الله يبارك له فيها، ومن أساء إليها، عوقب في الدنيا قبل الآخرة، وقال تعالى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32] ، وذلك لما في قلب الأول من القسوة، والغلظة، والشر، وما في قلب الآخر من الرَّحْمَة والرقة والرَّأفة، إذ هو بصدد إحياء كل من له قدرة على إحيائه من النَّاس، كما أنَّ ما في قلب الأول من القسوة، مستعد لقتل النفوس كلها)

    الأسباب المعينة على التخلق بخلق الرَّحْمَة

    قال السعدي: (فلا يزال العبد يتعرف الأسباب التي يدرك بها هذا الوصف الجليل، ويجتهد في التحقق به، حتى يمتلئ قلبه من الرَّحْمَة، والحنان على الخلق. ويا حبذا هذا الخلق الفاضل، والوصف الجليل الكامل، وهذه الرَّحْمَة التي في القلوب، تظهر آثارها على الجوارح واللسان، في السعي في إيصال البر، والخير، والمنافع إلى النَّاس، وإزالة الأضرار والمكاره عنهم)
    وهاك أخي الكريم بعض الأسباب المعينة على التخلق بهذا الخلق الكريم والسجيَّة العظيمة:
    1- القراءة في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتدبر في معالمها، والتأسِّي به في مواقف رحمته صلى الله عليه وسلم.
    2- مجالسة الرحماء ومخالطتهم، والابتعاد عن ذوي الغلظة والفظاظة، فالمرء يكتسب من جلسائه طباعهم وأخلاقهم.
    3- تربية الأبناء على هذا الخلق العظيم، ومحاولة غرسه في قلوبهم، ومتى نشأ الناشئ على الرَّحْمَة ثبتت في قلبه وأصبحت سجيَّة له بإذن الله.
    4- معرفة جزاء الرحماء وثوابهم، وأنهم هم الجديرون برحمة الله دون غيرهم، ومعرفة عقوبة الله لأصحاب القلوب القاسية؛ فإنَّ هذا مما يدفع للتخلق بصفة الرحمة، ويردع عن القسوة.
    5- معرفة الآثار المترتبة على التحلي بهذا الخلق، والثمار التي يجنيها الرحماء في الدنيا قبل الآخرة.
    6- الاختلاط بالضعفاء، والمساكين، وذوي الحاجة؛ فإنَّه ممَّا يرقِّق القلب، ويدعو إلى الرَّحْمَة والشفقة بهؤلاء وغيرهم.

    نماذج من رحمة النَّبي صلى الله عليه وسلم

    قال تعالى واصفًا نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 128]
    فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم النَّاس بالنَّاس وأرأفهم بهم؛ المؤمنين ومن لم يكن يدين بدين الإسلام أصلًا، بل إنَّ رحمته صلى الله عليه وسلم تعدت ذلك إلى الحيوان، والجماد، وسنعرض هنا بعض النماذج من رحمته صلى الله عليه وسلم:
    رحمته صلى الله عليه وسلم بالكفَّار:
    - (عن عائشة رضي اللّه عنها زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّها قالت للنَّبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشدَّ من يوم أحد؟ قال: ((لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشدَّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت. وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلَّا وأنا بقرن الثَّعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلَّتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إنَّ الله قد سمع قول قومك لك وما ردُّوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال فسلَّم عليَّ، ثمَّ قال: يا محمَّد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئًا ))
    قال ابن حجر: (في هذا الحديث بيان شفقة النَّبي صلى الله عليه وسلم على قومه، ومزيد صبره وحلمه،
    وهو موافق لقوله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ [آل عمران: 159] ،
    وقوله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107] )

    رحمته صلى الله عليه وسلم بالحيوان:

    عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: ((أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يوم، فأسرَّ إليَّ حديثًا لا أحدث به أحدًا من النَّاس، وكان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدفًا أو حائش نخل، قال: فدخل حائطًا لرجل من الأنصار فإذا جمل، فلما رأى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم حنَّ وذرفت عيناه، فأتاه النَّبي صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه، فسكت، فقال: من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله. فقال: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملَّكك الله إياها؟ فإنه شكا إليَّ أنك تجيعه وتدئبه ))
    - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته فرأينا حُمرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحُمرةُ فجعلت تفرِش، فجاء النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: (من فجع هذه بولدها؟ ردُّوا ولدها إليها، ورأى قرية نمل قد حرقناها، فقال: من حرَّق هذه؟ قلنا: نحن، قال: إنَّه لا ينبغي أن يعذِّب بالنَّار إلَّا ربُّ النَّار ))
    رحمته صلى الله عليه وسلم بالجماد:
    - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار، أو رجل: يا رسول الله، ألا نجعل لك منبرًا؟ قال: إن شئتم. فجعلوا له منبرًا، فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النَّبي صلى الله عليه وسلم فضمَّه إليه، تئنُّ أنين الصبي الذي يسكن، قال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها ))

    نماذج من رحمة الصحابة رضوان الله عليهم

    سار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على نهجه، واقتدوا به في التمسك بهذا الخلق الكريم، حتى صار الرجل المعروف بشدته، وصرامته، هيِّنًا ليِّنًا، رحيمًا رؤوفًا.
    رحمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

    - فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي عرف بشدَّته، وقوَّته، تغير الرَّحْمَة من طباعه، فيصبح رقيقًا يمتلأ قلبه رحمةً، ويفيض فؤاده شفقةً، ومما يدل على ذلك قوله لعبد الرحمن بن عوف حينما أتاه يكلمه في أن يلين لهم لأنَّه أخاف النَّاس حتى خاف الأبكار في خدورهن، فقال: (إني لا أجد لهم إلَّا ذلك، والله لو أنهم يعلمون ما لهم عندي، من الرَّأفة، والرَّحْمَة، والشفقة، لأخذوا ثوبي عن عاتقي)
    - ورآه عيينة بن حصن يومًا يقبل أحد أبنائه، وقد وضعه في حجره وهو يحنو عليه، فقال عيينة: أتُقبِّل وأنت أمير المؤمنين؟ لو كنت أمير المؤمنين ما قبلت لي ولدًا. فقال عمر: الله، الله حتى استحلفه ثلاثًا، فقال عمر: فما أصنع إن كان الله نزع الرَّحْمَة من قلبك؟ إنَّ الله إنَّما يرحم من عباده الرُّحماء
    - واشتهى الحوت يومًا، فقال: لقد خطر على قلبي شهوة الطري من حيتان، فخرج يرفأ، في طلب الحوت لعمر رضي الله عنه، ورحل راحلته، فسار ليلتين مدبرًا، وليلتين مقبلًا، واشترى مكتلًا، وجاء بالحوت، ثم غسل يرفأ الدابة، فنظر إليها عمر فرأى عرقًا تحت أذنها، فقال: عذبت بهيمة من البهائم في شهوة عمر، لا والله لا يذوقه عمر، عليك بمكتلك
    (ومرَّ رضي الله عنه براهب فوقف ونودي بالراهب فقيل له: هذا أمير المؤمنين، فاطَّلَع فإذا إنسان به من الضر والاجتهاد وترْكِ الدنيا، فلمَّا رآه عمر بكى، فقيل له: إنَّه نصراني، فقال عمر: قد علمت ولكني رحمته، ذكرت قول الله عزَّ وجلَّ: عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية: 3- 4] رحمتُ نصبَه واجتهاده وهو في النَّار)
    - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها، فشقت التمرة، التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إنَّ الله قد أوجب لها بها الجنة، أو أعتقها بها من النار ))
    - وهذا أبو برزة الأسلمي رضي الله عنه من رحمته أنه كان له جفنة من ثريد، غدوة، وجفنة عشية، للأرامل واليتامى والمساكين

    نماذج من رحمة السلف

    رحمة عمر بن عبد العزيز رحمه الله:
    (كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى حيَّان بمصر: إنَّه بلغني أنَّ بمصر إبلًا نقالات، يحمل على البعير منها ألف رطل، فإذا أتاك كتابي هذا، فلا أعرفنَّ أنَّه يحمل على البعير أكثر من ستمائة رطل، وكتب إلى صاحب السكك أن لا يحملوا أحدًا بلجام ثقيل من هذه الرستنية، ولا ينخس بمقرعة في أسفلها حديدة)

    قالوا عن الرَّحْمَة


    - قال السعدي عن عَلَامة وجود الرَّحْمَة في قلب العبد: (وعلامة الرَّحْمَة الموجودة في قلب العبد، أن يكون محبًّا لوصول الخير لكافة الخلق عمومًا، وللمؤمنين خصوصًا، كارهًا حصول الشر والضرر عليهم، فبقدر هذه المحبة والكراهة تكون رحمته)
    فمتى ما وُجِدَتْ هذه العلامة في قلب العبد، دلَّت على أنَّ قلبه عامر بالرَّحْمَة، مفعم بالرَّأفة.
    - وقال مصطفى لطفي المنفلوطي: (إن الرَّحْمَة كلمة صغيرة.. ولكن بين لفظها ومعناها من الفرق مثل ما بين الشمس في منظرها، والشمس في حقيقتها.
    لو تراحم النَّاس لما كان بينهم جائع، ولا مغبون، ولا مهضوم، ولأقفرت الجفون من المدامع، ولاطمأنت الجنوب في المضاجع، ولمحت الرَّحْمَة الشقاء من المجتمع، كما يمحو لسان الصبح مداد الظلام.
    أيُّها الإنسان ارحم الأرملة التي مات عنها زوجها، ولم يترك لها غير صبية صغار، ودموع غزار، ارحمها قبل أن ينال اليأس منها، ويعبث الهم بقلبها، فتؤثر الموت على الحياة.
    ارحم الزوجة أم ولدك، وقعيدة بيتك، ومرآة نفسك، وخادمة فراشك؛ لأنَّها ضعيف؛ ولأنَّ الله قد وكل أمرها إليك، وما كان لك أن تكذب ثقته بك.
    ارحم ولدك وأحسن القيام على جسمه، ونفسه، فإنَّك إلا تفعل قتلته أو أشقيته فكنت أظلم الظالمين.
    ارحم الجاهل، لا تتحين فرصة عجزه عن الانتصاف لنفسه، فتجمع عليه بين الجهل والظلم، ولا تتخذ عقله متجرًا تربح فيه، ليكون من الخاسرين.
    ارحم الحيوان؛ لأنَّه يحس كما تحس، ويتألم كما تتألم، ويبكي بغير دموع ويتوجع.
    ارحم الطير لا تحبسها في أقفاصها، ودعها تهيم في فضائها حيث تشاء، وتقع حيث يطيب لها التغريد والتنقير، إنَّ الله وهبها فضاء لا نهاية له، فلا تغتصبها حقها، فتضعها في محبس لا يسع مد جناحها، أطلق سبيلها وأطلق سمعك وبصرك وراءها، لتسمع تغريدها فوق الأشجار، وفي الغابات، وعلى شواطئ الأنهار، وترى منظرها وهي طائرة في جو السماء، فيخيَّل إليك أنَّها أجمل من منظر الفلك الدائر، والكوكب السيَّار.
    أيها السعداء أحسنوا إلى البائسين والفقراء، وامسحوا دموع الأشقياء، وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)
    -----------------------------------------------
    وما زلنا أحبابنا أبقوا معنا جزاكم الله خيرا
    ولا تنسونا من صالح دعائكم


    عدل سابقا من قبل sadekalnour في الأربعاء يونيو 22, 2022 2:16 pm عدل 1 مرات

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    ألأخلاق في  ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني Empty ألأخلاق في نظر ألإسلام .. الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف صادق النور الثلاثاء يونيو 21, 2022 10:18 am

    الرفق





    معنى الرفق لغةً:
    الرِّفق ضد العنْف، وهو لين الجانب، ويقال: رَفَق بالأَمر وله وعليه يَرْفُق رِفْقًا، ومرفقًا: لان له جانبه وحسن صنيعه. ورَفُقَ يَرْفُقُ ورَفِقَ لطف ورفَقَ بالرجل وأَرْفَقه بمعنى وكذلك تَرفَّق به
    معنى الرِّفق اصطلاحًا:
    قال ابن حجر في تعريف الرِّفق: (هو لين الجانب بالقول، والفعل، والأخذ بالأسهل، وهو ضد العنف)
    وقال القاري: (هو المداراة مع الرفقاء، ولين الجانب، واللطف في أخذ الأمر بأحسن الوجوه، وأيسرها)
    أولًا: الترغيب في الرِّفق في القرآن الكريم

    - قال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران: 159]
    (يقول تعالى مخاطبًا رسوله صلى الله عليه وسلم، ممتنًّا عليه وعلى المؤمنين فيما ألان به قلبه على أمته، المتبعين لأمره، التاركين لزجره، وأطاب لهم لفظه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ أي: أي شيء جعلك لهم لينًا لولا رحمة الله بك وبهم)
    - وقال سبحانه مخاطبًا الرسول: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215] (أي: ارفق بهم وألن جانبك لهم)
    - وقال سبحانه: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه: 43-44]
    فقوله تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا (أي: سهلًا لطيفًا، برفق ولين وأدب في اللفظ من دون فحش ولا صلف، ولا غلظة في المقال،
    أو فظاظة في الأفعال، لَّعَلَّهُ بسبب القول اللين يَتَذَكَّرُ ما ينفعه فيأتيه، أَوْ يَخْشَى ما يضره فيتركه، فإنَّ القول اللين داع لذلك،
    والقول الغليظ منفر عن صاحبه)
    ثانيًا: الترغيب في الرِّفق في السُّنَّة النَّبويَّة

    - عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((أن يهود أتوا النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليكم. فقالت عائشة: عليكم ولعنكم الله وغضب الله عليكم. قال: مهلًا يا عائشة، عليك بالرِّفق وإياك والعنف والفحش. قالت: أو لم تسمع ما قالوا؟ قال: أو لم تسمعي ما قلت؟ رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في ))
    - وعن جرير رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يحرم الرِّفق يحرم الخير )
    (يعني أنَّ الإنسان إذا حرم الرِّفق في الأمور فيما يتصرف فيه لنفسه، وفيما يتصرف فيه مع غيره، فإنَّه يحرم الخير كله،
    أي: فيما تصرَّف فيه، فإذا تصرَّف الإنسان بالعنف والشدة، فإنَّه يحرم الخير فيما فعل، وهذا شيء مجرَّبٌ ومشاهد،
    أنَّ الإنسان إذا صار يتعامل بالعنف والشِّدَّة؛ فإنَّه يحرم الخير ولا ينال الخير، وإذا كان يتعامل بالرِّفق والحلم والأناة وسعة الصدر؛ حصل على خيرٍ كثير، وعلى هذا فينبغي للإنسان الذي يريد الخير أن يكون دائمًا رفيقًا حتى ينال الخير)
    - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشقَّ عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به ))
    و(قد يظن بعض النَّاس أنَّ معنى الرِّفق أن تأتي للناس على ما يشتهون ويريدون، وليس الأمر كذلك، بل الرِّفق أن تسير بالنَّاس حسب أوامر الله ورسوله، ولكن تسلك أقرب الطرق وأرفق الطرق بالنَّاس، ولا تشق عليهم في شيء ليس عليه أمر الله ورسوله،
    فإن شققت عليهم في شيء ليس عليه أمر الله ورسوله، فإنَّك تدخل في الطرف الثاني من الحديث، وهو الدعاء عليك بأن يشق الله عليك)
    - وعنها أيضًا رضي الله عنها عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ الرِّفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه )
    - وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أعطي حظه من الرِّفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرِّفق حرم حظه من الخير )) (إذ به تنال المطالب الأخروية والدنيوية وبفوته يفوتان)
    وهذه النصوص التي مرت معنا تدل (على أنَّ الرِّفق في الأمور، والرِّفق بالنَّاس، واللين، والتيسير، من جواهر عقود الأخلاق الإسلامية، وأنَّها من صفات الكمال، وأنَّ الله تعالى من صفاته أنَّه رفيق، وأنه يحب من عباده الرِّفق، فهو يوصيهم به ويرغبهم فيه، ويعدهم عليه عطاءً لا يعطيه على شيءٍ آخر. ويُفهم من النصوص أنَّ العنف شَيْن خلقي، وأنَّه ظاهرة قبيحة، وأنَّ الله لا يحبه من عباده)
    أقوال السلف والعلماء في الرِّفق

    - (بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّ جماعة من رعيته اشتكوا من عماله، فأمرهم أن يوافوه،
    فلما أتوه قام فحمد الله وأثنى عليه، ثُمَّ قال: أيها النَّاس، أيَّتها الرعية إنَّ لنا عليكم حقًّا، النصيحة بالغيب، والمعاونة على الخير، أيَّتها الرعاة إنَّ للرعيَّة عليكم حقًّا فاعلموا أنَّه لا شيء أحب إلى الله ولا أعز من حلم إمام ورفقه، ليس جهل أبغض إلى الله، ولا أغم من جهل إمام وخرقه، واعلموا أنَّه من يأخذ بالعافية فيمن بين ظهريه يرزق العافية ممن هو دونه)
    - و(روي أنَّ عمرو بن العاص كتب إلى معاوية يعاتبه في التأني فكتب إليه معاوية: أما بعد: فإنَّ التفهم في الخبر زيادة رشد، وإنَّ الرشيد من رشد عن العجلة، وإن الخائب من خاب عن الأناة، وإن المتثبت مصيب أو كاد أن يكون مصيبًا وإن العَجِل مخطئ أو كاد أن يكون مخطئًا، وأن من لا ينفعه الرِّفق يضره الخرق، ومن لا ينفعه التجارب لا يدرك المعالي)
    - وعن عروة بن الزبير قال: (كان يقال: الرِّفق رأس الحكمة)
    - وعن الشعبي قال: (غُشي على مسروق في يوم صائف، وكانت عائشة قد تبنته فسمَّى بنته عائشة، وكان لا يعصي ابنته شيئًا، قال: فنزلت إليه فقالت: يا أبتاه، أفطر واشرب، قال: ما أردت لي يا بُنية؟ قالت: الرِّفق، قال. يا بنية، إنَّما طلبت الرِّفق لنفسي في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة)، وفي رواية: (إنَّما طلبت الرِّفق لتعبي).
    - وقال سفيان لأصحابه: (تدرون ما الرِّفق؟ قالوا: قل يا أبا محمد، قال: أن تضع الأمور في مواضعها؛ الشدة في موضعها،
    واللين في موضعه، والسيف في موضعه، والسوط في موضعه
    )
    - قال وهب بن منبه: (الرِّفق ثني الحلم)
    - وعن قيس بن أبي حازم قال كان يقال: (الرِّفق يمن، والخرق شؤم)
    - وعن حبيب بن حجر القيسيِّ قال: (كان يقال: ما أحسن الإيمان يزينه العلم، وما أحسن العلم يزينه العمل، وما أحسن العمل يزينه الرِّفق)
    - وقال ابن القيم: (من رَفَقَ بعبادِ الله رَفَقَ الله به، ومن رحمهم رحمه، ومن أحسن إليهم أحسن إليه، ومن جاد عليهم جاد الله عليه، ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن منعهم خيره منعه خيره، ومن عامل خلقه بصفةٍ عامله الله بتلك الصِّفة بعينها في الدنيا والآخرة، فالله تعالى لعبده حسب ما يكون العبد لخلقه)
    - وقال ابن حجر: (لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرِّفق، إلا عجز وانقطع فيغلب)
    - وقال أبو حاتم: (الواجب على العاقل لزوم الرِّفق في الأمور كلها، وترك العجلة والخفَّة فيها، إذ الله تعالى يحب الرِّفق في الأمور كلها، ومن منع الرِّفق منع الخير ،كما أنَّ من أعطي الرِّفق أعطي الخير، ولا يكاد المرء يتمكن من بغيته في سلوك قصده في شيء من الأشياء على حسب الذي يحب، إلا بمقارنة الرِّفق ومفارقة العجلة)
    - وقال أيضًا: (العاقل يلزم الرِّفق في الأوقات، والاعتدال في الحالات؛ لأنَّ الزيادة على المقدار في المبتغى عيبٌ، كما أنَّ النقصان فيما يجب من المطلب عجز، وما لم يصلحه الرِّفق لم يصلحه العنف، ولا دليل أمهر من رفق، كما لا ظهير أوثق من العقل، ومن الرِّفق يكون الاحتراز، وفي الاحتراز ترجى السلامة، وفي ترك الرِّفق يكون الخرق، وفي لزوم الخرق تخاف الهلكة)
    فوائد الرِّفق

    1- طريق موصل إلى الجنة.
    2- دليل كمال الإيمان وحسن الإسلام.
    3- يثمر محبة الله ومحبة النَّاس.
    4- ينمِّي روح المحبة والتعاون بين النَّاس.
    5- دليل على صلاح العبد وحسن خلقه.
    6- بالرِّفق ينشأ المجتمع سالـمًا من الغل والعنف.
    7- عنوان سعادة العبد في الدارين.
    8- الرِّفق يزين الأشياء.
    9- الرِّفق بالحيوان في إطعامه، أو ذبحه، من مظاهر الإحسان.
    10- الرفق دليل على فقه الرفيق وأناته وحكمته.
    11- الرِّفق ينتج منه حسن الخلق.
    12- بالرِّفق ينال الإنسان الخير.
    صور الرِّفق

    1- الرِّفق بالنفس في أداء ما فرض عليه:
    المسلم لا يُحَمِّل نفسه من العبادة مالا تطيقه، فالإسلام دين يسر وسهولة، فالمتبع له يوغل فيه برفق،
    قال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الدين يسر، ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة، والروحة، وشيء من الدُّلْجة )
    وعن عائشة رضي الله عنها: ((أنَّ الحولاء بنت تُوَيْتِ بن حبيب بن أسد ابن عبد العزَّى مرت بها، وعندها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فقلت: هذه الحولاء بنت تويتٍ. وزعموا أنَّها لا تنام بالليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تنام بالليل، خذوا من العمل ما تطيقون، فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا)
    قال ابن القيم: (نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم عن التشديد في الدين بالزيادة على المشروع، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنَّ تشديد العبد، على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه إما بالقدر وإما بالشرع. فالتشديد بالشرع: كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل، فيلزمه الوفاء به، وبالقدر كفعل أهل الوسواس. فإنهم شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد عليهم القدر، حتى استحكم ذلك، وصار صفة لازمة لهم)
    2- الرِّفق مع النَّاس عامة:
    ويكون بلين الجانب وعدم الغلظة والجفاء، والتعامل مع النَّاس بالسَّمَاحَة، قال صلى الله عليه وسلم: ((المؤمنون هيِّنون ليِّنون، كالجمل الأنِفِ، إن قِيد انقاد، وإذا أُنيخ على صخرة استناخ)
    وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله رفيق يحب الرِّفق في الأمر كلِّه ))
    3- الرِّفق بالرعية:
    الراعي، سواء كان حاكمًا، أو رئيسًا، أو مسؤولًا، عليه أن يرفق برعيته، فيقضي حاجتهم، ويؤدِّي مصالحهم برفق،
    قال صلى الله عليه وسلم: ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به ))
    وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ شرَّ الرِّعاء الحُطَمة )
    (وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث مثلًا لكل راع عنيف، قاس شديد لا رحمة في قلبه على رعيته من النَّاس، سواء أكان ولي أسرة، أو صاحب سلطان، صغرت دائرة رعيته أو كبرت، فشرُّ الرعاة من النَّاس على النَّاس هو الحطمة،
    الذي لا رفق عنده، ولا رحمة في قلبه تليِّن سياسته وقيادته، فهو يقسو ويشتد على رعيته، ويوسعهم عسفًا وتحطيمًا، ويدفعهم دائمًا إلى المآزق والمحرجات، ولا يعاملهم بالرِّفق والحكمة في الإدارة والسياسة)
    قال ابن عثيمين: (أما ولاة الأمور فيجب عليهم الرِّفق بالرعية، والإحسان إليهم، واتباع مصالحهم، وتولية من هو أهل للولاية، ودفع الشر عنهم، وغير ذلك من مصالحهم؛ لأنَّهم مسئولون عنهم أمام الله عز وجل)
    4- الرِّفق بالمدعوِّين:
    الداعية عليه أن يرفق في دعوته، فيشفق على النَّاس ولا يشق عليهم، ولا ينفِّرهم من الدين بأسلوبه الغليظ والعنيف،
    (وأولى النَّاس بالتَّخلُّق بخلق الرِّفق الدعاة إلى الله والمعلِّمون، فالدعوة إلى الله لا تؤثر ما لم تقترن بخلق الرِّفق في دعوة الخلق إلى الحق، وتعليم النَّاس لا يُؤتي ثمراته الطيبات ما لم يقترن بخلق الرِّفق الذي يملك القلوب بالمحبة)
    قال تعالى: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125]
    فيدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، ويتلطَّف مع العاصي بكلام ليِّن وبرفق، ولا يعين الشيطان عليه، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (إذا رأيتم أخاكم قارف ذنبًا، فلا تكونوا أعوانًا للشيطان عليه، تقولوا: اللهم أخزه، اللهم العنه، ولكن سلوا الله العافية، فإنا- أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم- كنَّا لا نقول في أحد شيئًا حتى نعلم علام يموت؟ فإن خُتم له بخير علمنا أن قد أصاب خيرًا، وإن خُتم بشرٍّ خفنا عليه)
    وانظر إلى رفق إبراهيم عليه السلام مع أبيه قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم: 46-47]
    قال الشنقيطي: (بيَّن الله جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين أنَّ إبراهيم لما نصح أباه النصيحة المذكورة مع ما فيها من الرِّفق واللين، وإيضاح الحق، والتحذير من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر، ومن عذاب الله تعالى، وولاية الشيطان، خاطبه هذا الخطاب العنيف وسماه باسمه، ولم يقل له يا بني في مقابلة قوله له يا أبت، وأنكر عليه أنَّه راغب عن عبادة الأوثان، أي: معرض عنها لا يريدها؛ لأنَّه لا يعبد إلا الله وحده جل وعلا، وهدَّده جلَّ وعلا، وهدَّده بأنَّه إن لم ينته عما يقوله له ليرجمنه، قيل: بالحجارة، وقيل: باللسان شتمًا، والأول أظهر، ثم أمره بهجره مليًّا، أي: زمانًا طويلًا، ثُمَّ بيَّن أنَّ إبراهيم قابل أيضًا جوابه العنيف بغاية الرِّفق واللين، في قوله: قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي... [مريم: 47] )
    5- الرِّفق بالخادم والمملوك:
    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول لله صلى الله عليه وسلم: ((للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف، ولا يكلَّف من العمل إلا ما يطيق ))
    قال الشنقيطي: (فأوجب على مالكيهم الرِّفق والإحسان إليهم، وأن يطعموهم مما يطعمون، ويكسوهم مما يلبسون، ولا يكلفوهم من العمل ما لا يطيقون، وإن كلفوهم أعانوهم؛ كما هو معروف في السُّنَّة الواردة عنه صلى الله عليه وسلم مع الإيصاء عليهم في القرآن)
    6- الرِّفق بالحيوان:
    فمن الرِّفق بالحيوان، أن تدفع عنه أنواع الأذى، كالعطش والجوع والمرض، والحمل الثقيل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
    - ((بينا رجل يمشي، فاشتدَّ عليه العطش، فنزل بئرًا، فشرب منها، ثُمَّ خرج فإذا هو بكلب يلهث، يأكل الثرى من العطش،
    فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، ثم رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له،
    قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ قال: في كل كبد رطبة أجر
    ))
    - وعن سعيد بن جبير قال: ((مرَّ ابن عمر بفتيان من قريش قد نصبوا طيرًا وهم يرمونه، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟! لعن الله من فعل هذا، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئًا فيه الروح غرضًا )
    نماذج من رفق النَّبي صلى الله عليه وسلم


    - كان النَّبي صلى الله عليه وسلم رفيقًا هيِّنًا ليِّنًا سهلًا، في تعامله، وفي أقواله وأفعاله، وكان يحب الرِّفق، ويحث النَّاس على الرِّفق، ويرغِّبهم فيه، فعن عبادة بن شرحبيل قال: ((أصابنا عام مخمصة، فأتيت المدينة، فأتيت حائطًا من حيطانها، فأخذت سنبلًا ففركته فأكلته، وجعلته في كسائي، فجاء صاحب الحائط، فضربني وأخذ ثوبي، فأتيت النَّبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته،
    فقال للرجل: ما أطعمته إذ كان جائعًا، أو ساغبًا، ولا علمته إذ كان جاهلًا، فأمره النَّبي صلى الله عليه وسلم، فردَّ إليه ثوبه، وأمر له بوسق من طعام، أو نصف وسق
    ))
    - وكان صلى الله عليه وسلم رفيقًا بقومه رغم أذيتهم له، فعن عروة أنَّ عائشة رضي الله عنها زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم حدثته أنَّها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ ((قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشدَّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يَالِيلَ بن عبد كُلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إنَّ الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلَّم علي، ثُمَّ قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين ؟ فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا
    - وكان صلى الله عليه وسلم رفيقًا في تعليمه للجاهل، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَهْ مَهْ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تُـزْرموه دعوه، فتركوه حتى بال، ثُمَّ إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه، فقال له: إنَّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنَّما هي لذكر الله عزَّ وجلَّ والصلاة وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فأمر رجلًا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنَّه عليه )
    - وعن معاوية بن الحكم السلمي قال: ((بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله. فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثُكْلَ أُمِّيَاه، ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلمَّا رأيتهم يُصمِّتونني لكني سكت، فلما صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني. قال: إنَّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام النَّاس، إنَّما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ))
    - كما أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يُبيِّن للناس الأمور بالرِّفق، ومن ذلك الشاب الذي طلب منه أن يأذن له بالزنى، فعن أبي أمامة قال ((إن فتى شابًّا أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال: ادْنُه، فدنا منه قريبًا، قال: فجلس، قال: أتحبُّه لأمِّك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا النَّاس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك، قال: ولا النَّاس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا النَّاس يحبونه لأخواتهم؟ قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا النَّاس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا النَّاس يحبونه لخالاتهم، قال: فوضع يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء ))
    - وكان صلى الله عليه وسلم رفيقًا بنسائه، فعن أنس ((أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أتى على أزواجه، وسَوَّاق يسُوقُ بهنَّ يُقال له: أَنْجَشَة، وكان يَحْدُو للإبل ببعض الشعر حتى تسرع على حِدَائه، فقال له النبي: ويحك يا أَنْجَشَة، رُوَيدًا سَوْقَك القوارير )
    - كما أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يرفق بأبناء المسلمين، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الآخر، ثم يضمهما، ثم يقول: اللهم ارحمهما، فإنِّي أرحمهما
    نماذج من رفق الصحابة رضي الله عنهم

    رفق عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
    - عن زيد بن وهب قال: خرج عمر رضي الله عنه ويداه في أذنيه وهو يقول: يا لبيكاه يا لبيكاه، قال النَّاس: ما له؟
    قال: جاءه بريد من بعض أمرائه أنَّ نهرًا حال بينهم وبين العبور ولم يجدوا سفنًا، فقال أميرهم: اطلبوا لنا رجلًا يعلم غور الماء. فأتي بشيخ فقال: إني أخاف البرد وذاك في البرد، فأكرهه فأدخله، فلم يلبثه البرد، فجعل ينادي: يا عمراه يا عمراه! فغرق،
    فكتب إليه فأقبل فمكث أيامًا معرضًا عنه، وكان إذا وجد على أحد منهم فعل به ذلك، ثم قال: ما فعل الرجل الذي قتلته؟
    قال: يا أمير المؤمنين، ما تعمدت قتله، لم نجد شيئًا يعبر فيه، وأردنا أن نعلم غور الماء، ففتحنا كذا وكذا، وأصبنا كذا وكذا،
    فقال عمر رضي الله عنه: لرجل مسلم أحبُّ إليَّ من كلِّ شيء جئت به، لولا أن تكون سُنَّة لضربت عنقك، اذهب فأعط أهله ديته، واخرج فلا أراك
    - وعن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: (خرجت مع عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إلى السوق، فلحقت عمر امرأة شابَّة
    فقالت: يا أمير المؤمنين هلك زوجي، وترك صبية صغارًا، والله ما ينضجون كراعًا، ولا لهم زرع، ولا ضرع، وخشيت أن تأكلهم الضبع، وأنا بنت خُفاف بن إِيماء الغفاري، وقد شهد أبي الحديبية مع النَّبي صلى الله عليه وسلم، فوقف معها عمر ولم يمض، ثُمَّ قال: مرحبًا بنسب قريب، ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطًا في الدار، فحمل عليه غرارتين ملأهما طعامًا وحمل بينهما نفقة وثيابًا، ثم ناولها بخطامه، ثُمَّ قال: اقتاديه فلن يفنى حتى يأتيكم الله بخير، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، أكثرت لها، قال عمر: ثكلتك أمُّك، والله إني لأرى أبا هذه وأخاها قد حاصرا حصنا زمانًا فافتتحاه، ثم أصبحنا نستفيء سهمانهما فيه )
    - وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يذهب إلى العوالي كل يوم سبت، فإذا وجد عبدًا في عمل لا يطيقه وضع عنه

    ---------------------------------------------------------------
    وما زلنا أحبابنا تالعونا أصلح الله بالكم وستركم في الدنيا وآلآخره

    ولا تنسونا من صالح دعائكم


    عدل سابقا من قبل sadekalnour في الأربعاء يونيو 22, 2022 2:17 pm عدل 1 مرات

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    ألأخلاق في  ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني Empty ألأخلاق في نظر ألإسلام .. الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف صادق النور الثلاثاء يونيو 21, 2022 10:19 am

    السَّتر

    معنى السَّتر لغةً:
    السَّتْـرُ: تَغَطية الشَّيء، وهو مَصْدَرُ سَتَر الشَّيء يَسْتُرُه ويَسْتِرُه سَتْرًا وسَتَرًا، أي: غَطَّاهُ أو أخفاهُ.
    وكلُّ شَيْء سَتَــرْتَه فالشَّيء مَسْتُور، والذي تَسْتُرُه به سِتْرٌ له.
    والسِّتْرُ والسُّتْرَةُ والمسْتَرُ والسِّتَارُ والسِّتَارَةُ: ما يُسْتَتَرُ به،
    قال تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا [الكهف: 90]
    معنى السَّتر اصطلاحًا:
    المراد بالسَّتْر هنا (السَّتْـرُ على المسلم إن وقع في معصية، شريطة أن لا يعلنها ويجهر بها)
    وقيل: (السَّتْـرُ هو: إخفاء العيب، وعدم إظهاره، فمن كان معروفًا بالاستقامة، وحصل منه الوقوع في المعصية، نُوصِح وسُتِر عليه)

    الفرق بين الغُفْران والسَّتر

    (أنَّ الغُفْران أخصُّ، وهو يقتضي إيجاب الثَّواب.
    والسَّتْر: ستْـرُك الشَّيء بسِتْرٍ، ثم استعمل في الإضراب عن ذِكْر الشَّيء، فيقال: سُتِر فلانٌ، إذا لم يُذْكر ما اطُّلِع عليه من عثراته. وسَتَر الله عليه، خلاف فضحه. ولا يقال لمن يُسْتر عليه في الدُّنيا إنَّه غُفِر له؛ لأنَّ الغُفْران يُنبئ عن استحقاق الثَّواب على ما ذكرنا، ويجوز أن يُستر في الدُّنيا على الكافر والفاسق)
    وقال أبو البقاء الكفوي: (الغُفْران: يقتضي إسقاط العقاب، ونيل الثَّواب، ولا يستحقُّه إلَّا المؤمن، ولا يُستعمل إلَّا في البارئ تعالى. والسَّتْـرُ: أخص من الغُفْران إذ يجوز أن يَسْتر ولا يَغْفر)
    أولًا: التَّرغيب في السَّتْر في القرآن الكريم

    لقد حثَّ الإسلام على السَّتْر، ورغَّب فيه، واتَّخذ وسائل من أجل ذلك، فشرع حدَّ القذف، حتَّى لا يُطْلِق كلُّ أحد لسانه،
    وكذا أمر في إثبات حدِّ الزِّنى بأربعة شهود، ونهى عن أن يتجسَّس المسلم على أخيه، كما توعَّد بالعذاب لكلِّ من يشيع الفاحشة في المؤمنين:
    - قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النُّور: 19]
    قال ابن كثير: (أي: يختارون ظهور الكلام عنهم بالقبيح، لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا أي: بالحدِّ، وفي الآخرة بالعذاب)

    - وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ [الحجرات: 12]
    عن مجاهد في قوله تعالى: وَلا تَجَسَّسُوا قال: (خذوا ما ظهر لكم، ودعوا ما سَتَر الله)
    وقال الطَّبري: (وقوله: وَلا تَجَسَّسُوا يقول: ولا يتتبَّع بعضكم عَوْرة بعض، ولا يبحث عن سرائره، يبتغي بذلك الظُّهور على عيوبه، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره، وبه فاحمدوا أو ذمُّوا، لا على ما لا تعلمونه من سرائره)
    - وقال تعالى: وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ [فصِّلت: 22]
    قال القرطبي: (معنى تَسْتَتِرُونَ: تستخفون، في قول أكثر العلماء، أي: ما كنتم تستخفون من أنفسكم حذرًا من شهادة الجوارح عليكم، ولأنَّ الإنسان لا يمكنه أن يُخفِي من نفسه عمله، فيكون الاستخفاء بمعنى ترك المعصية)
    وقال البيضاوي: (أي: كنتم تَسْتَتِرون عن النَّاس عند ارتكاب الفواحش، مخافة الفضيحة، وما ظننتم أنَّ أعضاءكم تشهد عليكم بها، فما اسْتَـتَــرْتم عنها. وفيه تنبيه على أنَّ المؤمن ينبغي أن يتحقَّق أنَّه لا يمرُّ عليه حال إلا وهو عليه رقيب.
    وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ [فصِّلت: 22] فلذلك اجترأتم على ما فعلتم)

    ثانيًا: التَّرغيب في السَّتْر في السُّنَّة النَّبويِّة

    كان النَّبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرَّجل الشَّيء،لم يقل: ما بال فلان يقول؟ ولكن يقول: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟ وهذا مشهور عنه صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة
    - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كلُّ أمَّتي معافى إلا المجَاهرين، وإنَّ من المجَاهرة: أن يعمل الرَّجل باللَّيل عملًا، ثمَّ يصبح وقد سَتَره الله عليه، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا. وقد بات يَسْتُره ربُّه، ويصبح يكشف سِتْر الله عنه ))
    قال ابن الجوزي: (المجَاهرون: الذين يجاهرون بالفواحش، ويتحدَّثون بما قد فعلوه منها سرًّا، والنَّاس في عافية من جهة الهمِّ مستورون، وهؤلاء مُفْتَضحون)
    قال العيني: (أنَّ ستْر الله مستلزم لستْر المؤمن على نفسه، فمن قصد إظهار المعصية والمجَاهرة، فقد أغضب الله تعالى فلم يَسْتُره، ومن قصد التَّسَتُّر بها حياءً من ربِّه ومن النَّاس، مَنَّ الله عليه بِسِتره إيَّاه)
    - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من نفَّس عن مؤمن كُرْبة من كُرَب الدُّنيا، نفَّس الله عنه كُرْبة من كُرَب الآخرة، ومن سَتَر على مسلم، سَتَره الله في الدُّنيا والآخرة، والله في عون العبد، ما كان العبد في عون أخيه ))
    قال المباركفوري: (من سَتَر مسلمًا، أي: بَدَنه أو عيبه بعدم الغيبة له، والذَّبِّ عن معائبه، وهذا بالنِّسبة إلى من ليس معروفًا بالفساد، وإلَّا فيُستحب أن تُــرْفع قصَّته إلى الوالي، فإذا رآه في معصية، فينكرها بحسب القدرة، وإن عَجز، يرفعها إلى الحاكم إذا لم يترتَّب عليه مفسدة)
    - وعن أبي برزة الأسلمي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عَورَاتهم، فإنَّه من اتَّبع عَوراتهم يتَّبع الله عَوْرته، ومن يتَّبع الله عَوْرته يفضحه في بيته ))
    (فاسْتُر إخوانك، فإنَّه لا طاقة لك بحرب الله، القادر على كشف عيوبك، وفضح ذنوبك، التي لا يعلمها النَّاس عنك، وألْجِم لسانك عن الخوض في الأعراض، وتتبُّع العَورات، وإفساد صِيت إخوانك، وإساءة سُمْعَتهم)
    - وفي قصَّة ماعز بن مالك الأسلمي، عندما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترف على نفسه بالزِّنى، وسأله أن يقيم عليه الحدَّ ليطهِّره، فأمر النَّبي صلى الله عليه وسلم برجمه فإنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يسأله مع من زنيت، وكذلك المرأة الغامديَّة، عندما أقرَّت على نفسها،لم يسألها النَّبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
    - وفي إحدى روايات حديث ماعز، أنَّه جاء إلى أبي بكر الصِّديق، فقال له: ((إنَّ الآخر زنى -يريد نفسه- فقال له أبو بكر: هل ذكرت هذا لأحد غيري؟ فقال: لا. فقال له أبو بكر: فتُب إلى الله، واسْتَتِر بسِتر الله؛ فإنَّ الله يقبل التَّوبة عن عباده. فلم تُقْرِره نفسه، حتَّى أتى عمر بن الخطَّاب، فقال له مثل ما قال لأبي بكر، فقال له عمر مثل ما قال له أبو بكر. فلم تُقْرِره نفسه حتَّى جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: إنَّ الآخر زنى. فقال سعيد: فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرَّات، كلُّ ذلك يُعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتَّى إذا أكثر عليه، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال: أيشتكي، أم به جِنَّة؟ فقالوا: يا رسول الله، والله إنَّه لصحيح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبِكْر أم ثيِّب؟ فقالوا: بل ثيِّب، يا رسول الله، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرُجِم ))
    قال ابن عبد البر: (وفي هذا الحديث من الفقه: أنَّ السَّتْر أولى بالمسلم على نفسه -إذا وقَّع حدًّا من الحدود- من الاعتراف به عند السُّلطان، وذلك مع اعتقاد التَّوبة والنَّدم على الذَّنب، وتكون نيَّته ومعتقده ألَّا يعود، فهذا أولى به من الاعتراف، فإنَّ الله يقبل التَّوبة عن عباده، ويحبُّ التَّــوَّابين)
    - وفي رواية: ((أنَّ رجلًا اسمه هَزَّال، هو الذي أشار على ماعز أن يأتي النَّبي صلى الله عليه وسلم فيخبره، فقال له النَّبي صلى الله عليه وسلم يا هَزَّال، لو سَتَرْته بردائك، لكان خيرًا لك ))
    قال أبو الوليد الباجي: (وقوله صلى الله عليه وسلم لـهَزَّال ((يا هَزَّال، لو سَتَــرْته بردائك، لكان خيرًا لك)) هَزَّال هذا هو: هَزَّال بن رئاب بن زيد بن كليب الأسلمي. ويريد بقوله: ((لو سَتَــرْته بردائك، لكان خيرًا لك)) يريد: ممَّا أظهرته من إظهار أمره، وإخبار النَّبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر به، فكان ستْره بأن يأمره بالتَّوبة،
    وكتمان خطيئته، وإنَّما ذكر فيه الرِّداء على وجه المبالغة، بمعنى أنَّه لو لم تجد السَّبيل إلى سِتْره إلَّا بأن تَسْتُره بردائك ممَّن يشهد عليه، لكان أفضل ممَّا أتاه، وتسبَّب إلى إقامة الحدِّ عليه، والله أعلم وأحكم)
    وقال ابن الأثير: (ومنه حديث ماعز ((ألَا سَتَرْته بثوبك يا هَزَّال)) إنما قال ذلك حبًّا لإخفاء الفضيحة، وكراهيةً لإشاعتها)
    أقوال السَّلف والعلماء في الحثِّ على السَّتْر

    - قال أبو بكر الصِّديق رضي الله عنه: (لو أخذت سارقًا لأحببت أن يَسْتُره الله عزَّ وجلَّ، ولو أخذت شاربًا، لأحببت أن يَسْتُره الله عزَّ وجلَّ)
    - وعن أبي الشَّعثاء قال: (كان شُرَحْبِيل بن السِّمْط على جيشٍ، فقال لجيشه: إنَّكم نزلتم أرضًا كثيرة النِّساء والشَّراب- يعني الخمر- فمن أصاب منكم حدًّا فليأتنا، فنطهِّره، فأتاه ناس، فبلغ ذلك عمر بن الخطَّاب، فكتب إليه: أنت- لا أمَّ لك - الذي يأمر النَّاس أن يهتكوا سِتْر الله الذي سَتَرَهم به)
    - وعن المعْرُور بن سُوَيْد قال: (أُتي عمر بامرأة راعية زنت، فقال عمر: ويح المرِّيَّة، أفسدت حَسَبَها، اذهبا بالمرِّيَّة فاجلداها، ولا تخرقا عليها جلدها، إنَّما جعل الله أربعة شهداء سترًا ستركم به دون فواحشكم، ولو شاء لجعله رجلًا صادقًا أو كاذبًا، فلا يطَّلعنَّ سِتْر الله منكم أحد)
    - وعن الشَّعبي: أنَّ رجلًا أتى عمر بن الخطَّاب، قال: (إنَّ ابنة لي أصابت حدًّا، فعَمَدت إلى الشَّفْرة، فذبَحَت نفسها، فأدركتُها، وقد قطعت بعض أوداجها، فداويتها فبرأت، ثم أنَّها نَسَكت، فأقبلت على القرآن، فهي تُخْطب إليَّ، فأخبر من شأنها بالذي كان، فقال له عمر: تعمد إلى سِتْر سَتَره الله فتكشفه؟ لئن بلغني أنَّك ذكرت شيئًا من أمرها، لأجعلنَّك نَكالًا لأهل الأمصار، بل أنكِحها نكاح العفيفة المسلمة)
    - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (ثلاث أحلف عليهنَّ، والرَّابعة لو حلفت لبَررْت: لا يجعل الله من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له، ولا يتولَّى اللهَ عبدٌ في الدُّنيا فولَّاه غيره يوم القيامة، ولا يحبُّ رجل قومًا، إلا جاء معهم يوم القيامة، والرَّابعة التي لو حلفت عليها لبَررْت: لا يَسْتُر الله على عبد في الدُّنيا، إلَّا سَتَر عليه في الآخرة)
    - وعن مريم بنت طارق: (أنَّ امرأة قالت لعائشة -رضي الله عنها-: يا أمَّ المؤمنين، إنَّ كَرِيًّا أخذ بساقي وأنا مُحْرِمَة، فقالت -رضي الله عنها-: حِجْرًا حِجْرًا حِجْرًا، وأعرضت بوجهها، وقالت بكفِّها، وقالت: يا نساء المؤمنين، إذا أذنبت إحداكنَّ ذنبًا، فلا تخبرنَّ به النَّاس، ولتستغفر الله تعالى، ولتتب إليه؛ فإنَّ العباد يُعَيِّرُون ولا يُغَيِّرُون، والله تعالى يُغَيِّر ولا يُعَيِّر)
    - وعن أبي عثمان النَّهدي، قال: (إنَّ المؤمن ليُعطى كتابه في سِتْرٍ من الله تعالى، فيقرأ سيِّئاته فيتغيَّر لونه، ثمَّ يقرأ حسناته فيرجع إليه لونه، ثمَّ ينظر، وإذا سيِّئاته قد بُدِّلت حسنات، فعند ذلك يقول: هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ [الحاقة: 19])
    - وقال الحسن البصري: (من كان بينه وبين أخيه سِتْر فلا يكشفه)
    - وعن إبراهيم بن أدهم، قال: (بلغني أنَّ عمر بن عبد العزيز قال لخالد ابن صفوان: عِظْني وأوجز. قال: فقال خالد: يا أمير المؤمنين، إنَّ أقوامًا غرَّهم سِتْر الله عزَّ وجلَّ، وفتنهم حُسْن الثَّناء، فلا يغلبنَّ جهل غيرك بك علمك بنفسك، أعاذنا الله وإياك أن نكون بالسِّتْر مغرورين، وبثناء النَّاس مسرورين، وعمَّا افترض الله متخلِّفين مقصرين، وإلى الأهواء مائلين. قال: فبكى، ثم قال: أعاذنا الله وإياك من اتِّباع الهوى)
    - وقال العلاء بن بدر: (لا يعذِّب الله عزَّ وجلَّ قومًا يسترون الذُّنوب)
    - وعن محمود بن آدم قال: سمعت سفيان بن عيينة، يقول: (لولا ستْر الله عزَّ وجلَّ ما جالسَنا أحدٌ)
    - وعن شُبَيْل بن عوف الأَحْمَسِي، قال: (كان يقال: من سمع بفاحشة، فأفشاها، كان فيها كالذي بدأها)
    - وعن عبد الله بن المبارك، قال: (كان الرَّجل إذا رأى من أخيه ما يكره، أمره في سِتْر، ونهاه في سِتْر، فيُؤجر في سِتْره، ويُؤجر في نهيه، فأمَّا اليوم فإذا رأى أحدٌ من أحدٍ ما يكره، استغضب أخاه، وهتك سِتْره)
    - وقال الفضيل بن عياض: (المؤمن يَسْتر وينصح، والفاجر يهتِك ويُعيِّر)
    - وعن عبيد الله بن عبد الكريم الجِيْلِي، قال: (من رأيته يطلب العثرات على النَّاس، فاعلم أنَّه معيوب، ومن ذكر عَورات المؤمنين، فقد هتك سِتْر الله المرخَى على عباده)
    - وقال ابن رجب: (رُوي عن بعض السَّلف أنَّه قال: أدركت قومًا لم يكن لهم عيوب، فذكروا عيوب النَّاس، فذكر النَّاس عيوبهم. وأدركت أقوامًا، كانت لهم عيوب فكَفُّوا عن عيوب النَّاس فنُسيت عيوبهم)
    وقال ابن القيِّم: (وأمَّا اكتفاؤه في القتل بشاهدين دون الزِّنا، ففي غاية الحِكْمة والمصلحة؛ فإنَّ الشَّارع احتاط للقصاص والدِّماء، واحتاط لحدِّ الزِّنا، فلو لم يقبل في القتل إلَّا أربعة لضاعت الدِّماء، وتواثب العادون، وتجرَّءوا على القتل؛ وأمَّا الزِّنا فإنَّه بَالَغَ في سِتْره، كما قدَّر الله سِتْره، فاجتمع على ستْره شرع الله وقدره، فلم يقبل فيه إلَّا أربعة يصِفُون الفِعْل وصف مشاهدة، ينتفي معها الاحتمال؛ وكذلك في الإقرار، لم يكتف بأقلَّ من أربع مرَّات، حرصًا على سِتْر ما قدَّر الله ستْره، وكَرِه إظهاره، والتَّكلُّم به، وتوعَّد من يحبُّ إشاعته في المؤمنين بالعذاب الأليم، في الدُّنيا والآخرة)
    وقال أيضًا: (للعبد سِتْرٌ بينه وبين الله، وسِتْرٌ بينه وبين النَّاس، فمن هتك السِّتْر الذي بينه وبين الله، هتك الله السِّتْر الذي بينه وبين النَّاس)
    وقال أيضًا: (ومن النَّاس من طبعه طبع خنزير: يمرُّ بالطَّيِّبات فلا يلوي عليها، فإذا قام الإنسان عن رجيعه قَمَّه، وهكذا كثير من النَّاس، يسمع منك، ويرى من المحاسن أضعاف أضعاف المساوئ، فلا يحفظها، ولا ينقلها، ولا تناسبه، فإذا رأى سقطة، أو كلمة عَوْراء، وجد بغيته، وما يناسبها، فجعلها فاكهته ونقله)
    وقال أبو البركات الغزي العامري في كلامه عن آداب العِشْرة بين المسلمين: (ومنها: الاجتهاد في سِتْر عَورَات الإخوان وقبائحهم، وإظهار مناقبهم، وكونهم يدًا واحدةً في جميع الأوقات)

    فوائد السَّتْرِ

    1- نشر الحبِّ والألفة بين المؤمنين.
    2- أنه يعين العاصي على أن يتدارك نفسه، ويتوب إلى الله توبةً نصوحًا، وبالعكس فلو فُضِح وشُهِّر به، لكان في هذا إعانة للشَّيطان عليه، حيث يدفعه إلى مزيد من المعاصي والآثام.
    3- أنَّ فَضْح النَّاس -وخاصة أهل الفضل منهم إن بدت منهم زلَّة أو هفوة- قد يجرِّئ كثيرًا من عوام النَّاس على المعاصي.
    4- أنَّ نفس السَّاتر تزكو، ويرضى عنه الله، ويَسْتُره في الدُّنيا والآخرة.
    متى ينبغي السَّتْر على المسلم؟
    ينبغي على المسلم أن يَسْتر إخوانه المسلمين، وخاصَّةً إذا كانوا من ذوي الهيئات، وممَّن ليسوا معروفين بالأذى والفساد، أمَّا إذا كانوا معروفين بالفساد، ويجاهرون به، فلا يَسْتُر عليهم. يقول ابن تيمية: (فمن أظهر المنكر، وجب عليه الإنكار، وأن يُهْجَر ويُذَمَّ على ذلك. فهذا معنى قولهم: من ألقى جلباب الحياء، فلا غيبة له. بخلاف من كان مُسْتَتِرًا بذنبه، مُسْتَخْفيًا، فإنَّ هذا يُسْتَر عليه؛ لكن يُنْصَح سِرًّا، ويَهْجُره من عرف حاله، حتَّى يتوب، ويَذْكر أمره على وجه النَّصيحة)
    وقال النَّووي: (وأمَّا السَّتر المندوب إليه هنا، فالمراد به: السَّتر على ذوي الهيئات ونحوهم، ممَّن ليس هو معروفًا بالأذى والفساد، فأمَّا المعروف بذلك، فيُسْتَحبُّ أن لا يُسْتَر عليه، بل تُرْفَع قضيته إلى وليِّ الأمر، إن لم يخف من ذلك مفسدة؛ لأنَّ السِّتر على هذا يُطْمِعه في الإيذاء والفساد وانتهاك الحرمات، وجسارة غيره على مثل فعله. هذا كلُّه في سِتْر معصية وقعت وانقضت، أمَّا معصية رآه عليها، وهو بعد متلبِّسٌ بها، فتجب المبادرة بإنكارها عليه، ومنعه منها على من قَدر على ذلك، ولا يحلُّ تأخيرها، فإن عجز، لزمه رفعها إلى ولي الأمر، إذا لم تترتَّب على ذلك مفسدة، وأمَّا جَرْح الرُّواة والشُّهود والأُمناء على الصَّدقات والأوقاف والأيتام ونحوهم، فيجب جَرْحُهم عند الحاجة، ولا يحلُّ السِّتر عليهم إذا رأى منهم ما يقدح في أهليتهم، وليس هذا من الغيبة المحرَّمة، بل من النَّصيحة الواجبة، وهذا مُجْمَعٌ عليه، قال العلماء في القسم الأوَّل -الذي يُسْتَر فيه-: هذا السِّتر مندوب، فلو رفعه إلى السُّلطان ونحوه،لم يأثم بالإجماع، لكن هذا خلاف الأولى، وقد يكون في بعض صوره ما هو مكروه، والله أعلم)
    وقال ابن رجب: (واعلم أنَّ النَّاس على ضربين:
    أحدهما: من كان مَسْتُورًا، لا يُعْرَف بشيء من المعاصي، فإذا وقعت منه هَفْوة، أو زلَّة، فإنَّه لا يجوز كشفها، ولا هتكها، ولا التَّحدث بها؛ لأنَّ ذلك غيبة محرَّمة، وهذا هو الذي وردت فيه النصوص، وفي ذلك قد قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النُّور: 19] والمراد: إشاعة الفاحشة على المؤمن المسْتَتِر فيما وقع منه، أو اتُّهم به وهو بريء منه، كما في قصَّة الإفك.
    قال بعض الوزراء الصَّالحين لبعض من يأمر بالمعروف: اجتهد أن تَسْتُر العصاة، فإنَّ ظهور معاصيهم، عيب في أهل الإسلام، وأولى الأمور ستْر العيوب، ومثل هذا لو جاء تائبًا نادمًا وأقرَّ بحدٍّ، ولم يفسِّره، لم يُسْتَفْسَر، بل يؤمر بأن يرجع ويَسْتر نفسه، كما أمر النَّبي صلى الله عليه وسلم ماعزًا والغامديَّة، وكما لم يَسْتَفْسر الذي قال: أصبت حدًّا، فأقمه علي. ومثل هذا لو أُخِذ بجريمته، ولم يبلغ الإمام، فإنَّه يُشْفَع له، حتَّى لا يبلغ الإمام.
    والثَّاني: من كان مُشْتَهِرًا بالمعاصي، معلنًا بها، لا يبالي بما ارتكب منها، ولا بما قيل له، فهذا هو الفاجر المعْلن، وليس له غيبة، كما نصَّ على ذلك الحسن البصري وغيره، ومثل هذا لا بأس بالبحث عن أمره؛ لتقام عليه الحدود. صرَّح بذلك بعض أصحابنا، واستدل بقول النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت، فارجمها )) ومثل هذا لا يُشْفَع له إذا أُخِذ، ولو لم يبلغ السُّلطان، بل يُتْرك حتَّى يُقَام عليه الحدُّ، لينكفَّ شرُّه، ويَرْتَدع به أمثاله. قال مالك: من لم يُعرف منه أذى للناس، وإنَّما كانت منه زلَّة، فلا بأس أن يُشْفع له، ما لم يبلغ الإمام، وأمَّا من عُرِف بشَرٍّ أو فساد، فلا أحبُّ أن يشفع له أحد، ولكن يُتْرك حتَّى يُقَام عليه الحدُّ. حكاه ابن المنذر وغيره.
    وكره الإمام أحمد رَفْع الفُسَّاق إلى السُّلطان بكلِّ حال، وإنَّما كرهه؛ لأنَّهم غالبًا لا يقيمون الحدود على وجهها، ولهذا قال: إن عَلِمت أنَّه يقيم عليه الحدَّ فارفعه، ثمَّ ذكر أنَّهم ضربوا رجلًا، فمات، يعني: أنَّه لم يكن قَتْلُه جائزًا.
    ولو تاب أحد من الضَّرب الأوَّل، كان الأفضل له أن يتوب فيما بينه وبين الله تعالى، ويَسْتُر على نفسه.
    وأما الضَّرب الثَّاني، فقيل: إنَّه كذلك، وقيل: بل الأولى له أن يأتي الإمام، ويقرَّ على نفسه بما يوجب الحدَّ، حتَّى يطهِّره)
    السَّتْرُ لا يعني ترك إنكار المنكر:
    لا يعني السَّتْر ترك الإنكار على من تَسْتُره فيما بينك وبينه، وإذا أنكرت عليه، ونصحته، فلم ينتهِ عن قبيح فعله، ثمَّ جَاهَر به جازت الشَّهاده عليه بذلك، كما ذكر ذلك العلماء، وقد فرَّق ابن حجر بين مَحَلِّ السَّتر والإنكار، قال: (والذي يظهر أنَّ السَّتر محلُّه في معصية قد انقضت، والإنكار في معصية قد حَصل التَّلبُّس بها، فيجب الإنكار عليه، وإلَّا رفعه إلى الحاكم، وليس من الغيبة المحرَّمة، بل من النَّصيحة الواجبة)
    وينبغي أن تكون النَّصيحة سرًّا ولا تكون أمام الملأ.

    صور السَّتْرِ

    1- ستر المسلم نفسه:
    (المسلم عليه أن يستر نفسه، فلا يُشْهر خطاياه أمام الخَلْق، ولا يذكر زلَّاته أمام النَّاس، ولو كانوا أصدقاءه، إلَّا على وجه السُّؤال والفتيا، دون تحديد أنَّه الفاعل، سيَّما عند من يعرفه)
    فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كلُّ أمَّتي معافى إلا المجَاهرين، وإنَّ من المجَاهرة أن يعمل الرَّجل بالليل عملًا، ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان، عملتُ البارحة كذا وكذا، وقد بات يَسْتُره ربُّه، ويصبح يكشف سِتْر الله عنه ))
    وقال صلى الله عليه وسلم: ((أيُّها النَّاس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، من أصاب من هذه القاذورات شيئًا، فليَسْتَتر بسِتْر الله ))
    2- ستْر المسلم لإخوانه المسلمين:
    وكما يَسْتُر المسلم نفسه، عليه أن يَسْتُر إخوانه المسلمين، إذا رأى منهم عيبًا أو خطأً، قال صلى الله عليه وسلم: ((من نفَّس عن مؤمن كُرْبةً من كُرَب الدُّنيا، نفَّس الله عنه كُرْبةً من كُرَب الآخرة، ومن سَتَر على مسلم، سَتَره الله في الدُّنيا والآخرة، والله في عون العبد، ما كان العبد في عون أخيه ))
    3- ستْر الميِّت:
    إذا غسَّل المسلم ميِّتًا، فرأى فيه شيئًا معيبًا، فعليه أن يَسْتره، ويكتم أمره، قال صلى الله عليه وسلم: ((من غسَّل ميِّتًا، فكتم عليه، غَفَر الله له أربعين مرَّةً))

    الوسائل المعينة على اكتساب صفة السَّتْر:

    1- أن تعلم فضل السَّتْر، وأنَّ من سَتَر أخاه المسلم، سَتَره الله في الدُّنيا والآخرة.
    2- أن تستشعر معنى أخوة الإيمان، فقد قال الله عزَّ وجلَّ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10]،
    وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في تَوَادِّهِم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عُضْو، تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمَّى ))
    3- أن تضع نفسك مكان أخيك الذي أخطأ وزلَّ، فهل تحبُّ أن تُفْضَح أم تُسْتَر؟ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يؤمن أحدكم، حتَّى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه ))،
    وعن عكرمة أنَّ ابن عبَّاس، وعمَّارًا، والزُّبير -رضي الله عنهم جميعًا- أخذوا سارقًا، فخلوا سبيله، فقلت لابن عبَّاس: (بئسما صنعتم حين خلَّيتم سبيله، قال: لا أمَّ لك، أما لو كنت أنت، لسرَّك أن يُخَلَّى سبيلك)
    4- أن ينشغل العبد بإصلاح نفسه: قال الحسن البصري: (يا ابن آدم، لن تنال حقيقة الإيمان حتَّى لا تعيب النَّاس بعيب هو فيك، وتبدأ بذلك العيب من نفسك، فتصلحه، فما تصلح عيبًا إلَّا ترى عيبًا آخر، فيكون شغلك في خاصَّة نفسك). وقيل لربيع بن خُثَيْم: ما نراك تعيب أحدًا، ولا تذمُّه! فقال: ما أنا على نفسي براضٍ، فأتفرَّغ من عيبها إلى غيرها)
    -----------------------------------------------------------------
    تابعونا جزاكم الله خيرا

    ولا تنسونا من صالح دعائكم


    عدل سابقا من قبل sadekalnour في الأربعاء يونيو 22, 2022 2:18 pm عدل 1 مرات

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    ألأخلاق في  ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني Empty ألأخلاق في نظر ألإسلام .. الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف صادق النور الثلاثاء يونيو 21, 2022 11:16 am

    ومن ألأخلاق المحموده

    السَّكِينَة

    معنى السَّكِينَة لغةً:
    أصل هذه المادة يدلُّ على خلاف الاضطراب والحركة.
    فالسُّكُونُ ضدُّ الحركة، يقال: سَكَنَ الشَّيء يَسْكُنُ سُكونًا، إذا ذهبت حركته، وكلُّ ما هَدَأَ فقد سَكَن، كالرِّيح والحَرِّ والبرد ونحو ذلك،
    وسَكَنَ الرَّجل سكت.
    والسكينة: الطمأنينة والاستقرار والرزانة والوقار
    معنى السَّكِينَة اصطلاحًا:
    قال ابن القيِّم: (هي الطُّمَأنِينة والوَقَار والسُّكون، الذي ينزِّله الله في قلب عبده عند اضطرابه من شدَّة المخاوف، فلا ينزعج بعد ذلك لما يرد عليه، ويوجب له زيادة الإيمان، وقوَّة اليقين والثَّبات)
    وقال الجرجانى: (السَّكِينَة: ما يجده القلب من الطُّمَأنِينة عند تنزُّل الغيب، وهي نور في القلب يَسْكُن إلى شاهده ويطمئن)

    الفرق بين السَّكِينَة والوَقَار

    السَّكِينَة والوَقَار كلمتان مترادفتان، إلَّا أنَّ هناك فرقًا طفيفًا بينهما،
    قال أبو هلال العسكري: (إنَّ السَّكِينَة مُفَارَقة الاضطراب عند الغضب والخوف، وأكثر ما جاء في الخوف؛
    ألَا ترى قوله تعالى: فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ [التَّوبة: 40]
    وقال: فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [الفتح: 26]، ويُضَاف إلى القلب، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ [الفتح: 4] فيكون هيبة وغير هيبة، والوَقَار لا يكون إلا هيبة.
    المشهور في الفرق بينهما: أنَّ السَّكِينَة هيئةٌ بدنيَّةٌ تنشأ من اطمئنان الأعضاء.
    والوَقَار: هيئةٌ نفسانيَّةٌ تنشأ من ثبات القلب،
    ذكر ذلك صاحب ((التنقيح))، ونقله صاحب ((مجمع البحرين)) عن بعض المحقِّقين.
    ولا يخفى أنَّه لو عُكِس الفرق، لكان أصوب، وأحقَّ بأن تكون السَّكِينَة هيئةً نفسانيَّةً، والوَقَار: هيئةٌ بدنيَّةٌ)

    أولًا: التَّرغيب في السَّكِينَة في القرآن الكريم


    - قوله تعالى: ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [التَّوبة: 26]
    أي: أنزل عليهم ما يُسكِّنهم ويُذهب خوفهم، حتَّى اجترؤوا على قتال المشركين بعد أن ولَّوا
    - قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا [التَّوبة: 40]
    قال أبو جعفر: (يقول تعالى ذكره: فأنزل الله طمأنينته وسكونه على رسوله، وقد قيل: على أبي بكر، وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا،
    يقول: وقوَّاه بجنود من عنده من الملائكة، لم تروها أنتم وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ، وهي كلمة الشِّرك السُّفْلَى، لأنَّها قُهِرت وأُذِلَّت، وأبطلها الله تعالى، ومَحَق أهلها، وكلُّ مقهور ومغلوب فهو أسفل من الغالب، والغالب هو الأعلى. وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا،
    يقول: ودين الله وتوحيده وقول لا إله إلَّا الله، وهي كلمته (العُليا)، على الشِّرك وأهله، الغالبة)
    - قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [الفتح: 4]
    يقول تعالى: هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ أي: جعل الطُّمَأنِينة. قاله ابن عبَّاس، وعنه: الرَّحمة.
    وقال قتادة: الوَقَار في قلوب المؤمنين. وهم الصَّحابة يوم الحُدَيبِية، الذين استجابوا لله ولرسوله، وانقادوا لحكم الله ورسوله، فلمَّا اطمأنَّت قلوبهم لذلك، واستقرَّت، زادهم إيمانًا مع إيمانهم
    - قوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح: 18]
    وقوله: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ أي: من الصِّدق والوفاء، والسَّمع والطَّاعة، فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ: وهي الطُّمَأنِينة، وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا وهو ما أجْرَى الله على أيديهم من الصُّلح بينهم وبين أعدائهم، وما حصل بذلك من الخير العام المستمر المتَّصل بفتح خيبر، وفتح مكة،
    ثم فتح سائر البلاد والأقاليم عليهم، وما حصل لهم من العزِّ والنَّصر والرِّفعة في الدُّنيا والآخرة؛
    ولهذا قال: وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [الفتح: 18]
    - قوله تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [الفتح: 26]
    فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ أي الطُّمَأنِينة والوَقَار.
    عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وقيل: ثبَّتهم على الرِّضا والتَّسليم، ولم يدخل قلوبهم ما أدْخَل قلوب أولئك من الحَمِيَّة

    ثانيًا: التَّرغيب في السَّكِينَة في السُّنَّة النبوية

    - عن أبى هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا أُقِيمت الصَّلاة، فلا تأتوها تسعون، وأتوها تمشون، وعليكم السَّكِينَة، فما أدركتم فصلُّوا، وما فاتكم فأتمُّوا ))
    (فيه: النَّدب الأكيد إلى إتيان الصَّلاة بسَكِينة ووَقَار، والنَّهي عن إتيانها سعيًا، سواءً فيه صلاة الجمعة وغيرها، سواءً خاف فَوْت تكبيرة الإحرام أم لا. والمراد بقول الله تعالى: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: 9] الذَّهاب، يقال: سَعَيْت في كذا أو إلى كذا، إذا ذهبت إليه، وعملت فيه)
    - وعن ابن عبَّاس أنَّهُ دفعَ معَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يومَ عرَفَةَ ، فسمعَ النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلَّمَ وراءَهُ زَجْرًا شديدًا، وضربًا وصوتًا للإبِلِ، فأشَارَ بسَوطِهِ إليهمْ، وقالَ: أيُّها الناسُ، عليكم بالسَّكِينَةِ )
    (علَيْكُمْ بالسَّكِينَةِ) أي: لازموا الطُّمَأنِينة والرِّفق، وعدم المزَاحمة في السَّير.
    - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما رأيت أحدًا كان أشبه سَمْتًا وهديًا ودلًّا. وفي رواية: (حديثًا، وكلامًا برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة، كانت إذا دخلت عليه، قام إليها، فأخذ بيدها فقبَّلها، وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها، قامت إليه، فأخذت بيده فقبَّلته، وأجلسته في مجلسها ))
    قال القاري: (...((سمتًا)) أي: هيئة وطريقة كانت عليها من السَّكِينَة والوَقَار. قال الشَّارح: السَّمت في الأصل القَصْد، والمراد به: هيئة أهل الخير والتَّزيي بزيِّ الصَّالحين. ((وهديًا)) أي: سيرة وطريقة. يقال: فلان حَسَن الهدي، أي: حَسَن المذهب في الأمور كلِّها. ((ودلًّا)): بفتح دال وتشديد لام، فسَّره الرَّاغب بحُسْن الشَّمائل، وأصله من: دلِّ المرأة، وهو شَكْلها، وما يُسْتَحْسَن منها. والكلُّ ألفاظ متقاربة. قال التوربشتي: كأنَّها أشارت بالسَّمت إلى ما يُــرَى على الإنسان من الخشوع والتَّواضع لله، وبالهدي: ما يتحلَّى به من السَّكِينَة والوَقَار، إلى ما يسلكه من المنهج المرضي)

    أقوال السَّلف والعلماء في السَّكِينَة


    - قال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: (تعلَّموا العلم، وتعلَّموا للعلم السَّكِينَة والحلم)
    - قال أبو محمَّد -في حديث علي-: إنَّ ابن عبَّاس -رحمه الله- قال: (ما رأيت رئيسًا مِحْرَبًا يُزَنُّ به، لرأيته يوم صفِّين، وعلى رأسه عمامة بيضاء، وكأنَّ عينيه سراجَا سليط وهو يحمش أصحابه إلى أن انتهى إليَّ وأنا في كثف فقال: معشر المسلمين استشعروا الخشية، وعَنُّوا الأصوات، وتجَلْبَبوا السَّكينة، وأكْملُوا اللُّؤَم، وأَخِفُّوا الجُنَن، وأَقْلقُوا السُّيوف في الغُمْد قبل السَّلَّة، والحَظُوا الشَّزْر، واطْعَنُوا الشَّزْر، أو النَّتْر، أو اليَسْر)
    - وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (كنَّا نتحدَّث أنَّ السَّكِينَة تنطق على لسان عمر وقلبه)
    - وقال ابن القيِّم: (السَّكِينَة إذا نزلت على القلب اطمأن بها، وسكنت إليها الجوارح، وخشعت، واكتسبت الوَقَار، وأنطقت اللِّسان بالصَّواب والحِكْمة، وحالت بينه وبين قول الخَنَا والفحش، واللَّغو والهجر وكلِّ باطلٍ.
    وفي صفة رسول الله في الكتب المتقدِّمة: إنِّي باعث نبيًّا أمِّيًّا، ليس بفظٍّ ولا غليظٍ، ولا صخَّابٍ في الأسواق، ولا متزيِّنٍ بالفحش، ولا قوَّالٍ للخَنَا. أسدِّده لكلِّ جميلٍ، وأَهَب له كلَّ خُلق كريم، ثمَّ أجعل السَّكِينَة لِبَاسه، والبرَّ شعاره، والتَّقوى ضميره، والحِكْمَة معقوله، والصِّدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خُلُقه، والعدل سيرته، والحقَّ شريعته، والهدي إمامه، والإسلام ملَّته، وأحمد اسمه)

    فوائد السَّكِينَة

    للتَّحلِّي بهذه الصِّفة فوائد وآثار طيِّبة، تخصُّ الفرد المتَحلِّي بها، وتعمُّ المجتمع من حوله.
    قال ابن عثيمين: (السَّكِينَة هي: عدم الحركة الكثيرة، وعدم الطَّيش، بل يكون ساكنًا في قلبه، وفي جوارحه، وفي مقاله، ولا شكَّ أنَّ هذين الوصفين -الوَقَار والسَّكِينَة- من خير الخصال التي يمنُّ الله بها على العبد؛ لأنَّ ضدَّ ذلك: أن يكون الإنسان لا شخصيَّة له ولا هيبة له، وليس وقورًا ذا هيبة، بل هو مَهِين، قد وضع نفسه ونزَّلها، وكذلك السَّكِينَة ضدُّها أن يكون الإنسان كثير الحركات، كثير التَّلفت، لا يُــرَى عليه أثر سَكِينة قلبه، ولا قوله ولا فعله، فإذا مَنَّ الله على العبد بذلك، فإنَّه ينال بذلك خُلُقين كريمين)
    ومن فوائد السكينة ما يلي:
    1- السَّكِينَة رداء ينزل فيثبِّت القلوب الطَّائرة، ويهدِّئ الانفعالات الثَّائرة.
    2- أنَّ المتَحلِّي بها يمتثل لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ((السَّكِينَة السَّكِينَة ))
    3- متى نزلت على العبد السَّكِينَة: استقام، وصَلحت أحواله، وصَلح بالُه، وإذا ترحَّلت عنه السَّكِينَة، ترحَّل عنه السُّرور والأمن والدَّعة والرَّاحة وطيب العيش، فمِنْ أعظم نعم الله على عبده: تَـنَـزُّل السَّكِينَة عليه، ومن أعظم أسبابها: الرِّضا عنه
    4- المتَحلِّي بالسَّكِينَة يخشع في صلاته.
    5- إنَّ من صفة النَّاسك السَّكِينَة؛ لغلبة التَّواضع وإتيان القناعة، ورفض الشَّهوات
    6- السَّكِينَة علامة من علامات رضا الله عزَّ وجلَّ.
    7- أنَّ من ثمارها محبَّة الله للعبد، ومن ثمَّ محبَّة النَّاس له.
    8- تجعل العبد قادرًا على تحمُّل المصيبة إذا نزلت.
    9- تجعل العبد قادرًا على امتصاص غضبه في المواقف الصَّعبة.
    وغير ذلك من الفوائد العظيمة، التي يجنيها الفرد والمجتمع المسلم من هذا الخُلِق الكريم.

    أقسام السَّكِينَة


    1- عامَّة: وهى التى تخصُّ عامَّة الخَلْق، وهى التي يجدها العبد عند القيام بوظائف العبوديَّة، وهي التي تورث الخشوع والخضوع، وجمعيَّة القلب على الله، بحيث يؤدِّي عبوديَّته بقلبه وبدنه قانتًا لله عزَّ وجلَّ
    2- خاصَّة: وهى التي تخصُّ أتباع الرُّسل بحسب متابعتهم، وهي سَكِينة الإيمان، وهي سَكِينةٌ تُسَكِّن القلوب عن الرَّيب والشَّك، ولهذا أنزلها الله على المؤمنين في أصعب المواطن، أحوج ما كانوا إليها، هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [الفتح: 4] فذكر نعمته عليهم بالجنود الخارجة عنهم، والجنود الدَّاخلة فيهم، وهي السَّكِينَة عند القلق والاضطراب
    أعلى مراتبها وأخصُّ أقسامها:
    أعلى مراتب السَّكِينَة وأخصُّ أقسامها هي: سَكِينة الأنبياء، وقد ذكر ذلك ابن القيِّم وأورد لها أمثلة، فقال: ومن أمثلتها:
    - السَّكِينَة التي حصلت لإبراهيم الخليل، وقد أُلْقي في المنْجَنِيق مسافرًا إلى ما أَضْرَم له أعداء الله من النَّار، فللَّه تلك السَّكِينَة التي كانت في قلبه حين ذلك السَّفر.
    - السَّكِينَة التي حصلت لموسى، وقد غشيه فرعون وجنوده من ورائهم، والبحر أمامهم، وقد استغاث بنو إسرائيل: يا موسى إلى أين تذهب بنا؟! هذا البحر أمامنا، وهذا فرعون خلفنا.
    - وكذلك السَّكِينَة التي حصلت له وقت تكليم الله له نداءً ونجاءً، كلامًا حقيقةً، سمعه حقيقةً بأذنه.
    - وكذلك السَّكِينَة التي حصلت له، وقد رأى العصا ثعبانًا مبينًا.
    - وكذلك السَّكِينَة التي نزلت عليه، وقد رأى حبال القوم وعِصِيَّهم كأنَّها تسعى، فأوجس في نفسه خِيفةً.
    - وكذلك السَّكِينَة التي حصلت لنبينا صلى الله عليه وسلم وقد أشرف عليه وعلى صاحبه عدوُّهما، وهما في الغار، فلو نظر أحدهم إلى تحت قدميه لرآهما.
    - وكذلك السَّكِينَة التي نزلت عليه في مواقفه العظيمة، وأعداء الله قد أحاطوا به، كيوم بدر، ويوم حُنين، ويوم الخندَّق وغيره.
    فهذه السَّكِينَة أمر فوق عقول البَشَر، وهي من أعظم معجزاته عند أرباب البصائر، فإنَّ الكذَّاب -ولا سيَّما على الله- أَمْلَق ما يكون، وأخوف ما يكون، وأشدُّه اضطرابًا في مثل هذه المواطن، فلو لم يكن للرُّسل -صلوات الله وسلامه عليهم- من الآيات إلَّا هذه وحدها لكفتهم
    صور السَّكِينَة ودرجاتها:
    قال صاحب ((المنازل)): (السَّكِينَة: اسم لثلاثة أشياء:
    أوَّلها: سَكِينة بني إسرائيل التي أعطوها في التَّابوت.
    السَّكِينَة الثَّانية: هي التي تَنْطِق على لسان المحدَّثين، ليست هي شيئًا يُملك، إنَّما هي شيء من لطائف صنع الحقِّ، تُلقى على لسان المحدَّث الحِكْمة، كما يُلقي الملَك الوحي على قلوب الأنبياء، وتنطق بنُكَت الحقائق مع ترويح الأسرار، وكشف الشُّبه.
    السَّكِينَة الثَّالثة: هي التي نزلت على قلب النَّبي، وقلوب المؤمنين، وهي شيء يجمع قوَّةً وروحًا، يَسْكن إليه الخائف، ويتسلَّى به الحزين والضَّجِر، ويَسْكن إليه العَصِيُّ والجريء والأَبِيُّ.
    وأمَّا سَكِينة الوَقَار التي نزَّلها نعتًا لأربابها: فإنَّها ضياء.
    تلك السَّكِينَة الثَّالثة التي ذكرناها، وهي على ثلاث درجات:
    الدَّرجة الأولى: سكينة الخشوع عند القيام للخدمة: رعاية وتعظيمًا وحضورًا.
    الدَّرجة الثَّانية: السَّكِينَة عند المعاملة بمحاسبة النفوس، وملاطفة الخلق، ومراقبة الحق.
    الدَّرجة الثَّالثة: السَّكِينَة التي تثبِّت الرِّضَى بالقَسْم، وتمنع من الشَّطْح الفاحش، وتوقِّف صاحبها على حدِّ الرُّتبة، والسَّكِينَة لا تَنْزل إلَّا في قلب نبيٍّ أو وليٍّ)

    الوسائل المعينة على التَّخلُّق بخُلق السَّكِينَة

    1- الامتثال لقول الرَّسول صلى الله عليه وسلم ((عليكم بالسَّكِينَة ))
    2- مصاحبة ذوي الطَّبع الهادئ، وأصحاب السكينة فـــ((المرء على دين خليله ))
    3- القراءة في كتب السِّيرة النَّبويِّة.
    4- معرفة فوائد وآثار السَّكِينَة.
    5- التَّحلِّي بالصَّبر:
    فالصَّبر من الفضائل الخُلقية، التي تُعَوِّد الإنسان السَّكِينَة والاطمئنان، وتكون بلسَمًا لجراحه، ودواءً لمرضه وبلائه، فالصَّابر يتلقَّى المكاره بالقبول، فيحبس نَفْسه عن السَّخط، فيتحلَّى بالسَّكِينَة والوَقَار

    المواطن التي تطلب عندها السكينة

    (والمقصود أنَّ العبد محتاج إلى السَّكِينَة عند الوساوس المعترضة في أصل الإيمان؛ ليثبت قلبه ولا يزيغ، وعند الوساوس والخطرات القادحة في أعمال الإيمان؛ لئلَّا تقوى وتصير همومًا، وغمومًا، وإرادات ينقص بها إيمانه،
    وعند أسباب المخاوف على اختلافها، ليثبت قلبه، ويسكن جَأْشه،
    وعند أسباب الفرح؛ لئلَّا يطمح به مركبه، فيجاوز الحدَّ الذي لا يُعْبَر، فينقلب ترحًا وحزنًا، وكم ممَّن أنعم الله عليه بما يُفْرِحه، فجمح به مركب الفرح، وتجاوز الحدَّ، فانقلب ترحًا عاجلًا.
    ولو أُعِين بسَكِينة تعدل فرحه، لأُرِيد به الخير، وبالله التوفيق.
    وعند هجوم الأسباب المؤلمة، على اختلافها: الظَّاهرة والباطنة، فما أحوجه إلى السَّكِينَة حينئذ، وما أنفعها له وأجْدَاها عليه، وأحْسَن عاقبتها.
    والسَّكِينَة في هذه المواطن، علامة على الظَّفَر، وحصول المحبوب، واندِّفاع المكروه، وفقدها علامة على ضدِّ ذلك، لا يخطئ هذا ولا هذا. والله المستعان)

    نماذج في السَّكِينَة

    الرَّسول صلى الله عليه وسلم:
    كان صلى الله عليه وسلم من خُلُقِه السَّكِينَة الباعثة على الهيبة والتَّعظيم، الدَّاعية إلى التَّقديم والتَّسليم، وكان من أعظم مَهِيب في النُّفوس، حتَّى ارْتَاعت رُسُل كسرى من هيبته حين أتوه، مع ارتياضهم بصَوْلة الأكَاسِرة، ومكاثرة الملوك الجبابرة، فكان في نفوسهم أهيب، وفي أعينهم أعظم، وإن لم يتعاظم بأهبة، ولم يتطاول بسطوة، بل كان بالتَّواضع موصوفًا، وبالوِطاء معروفًا
    نماذج من العلماء:
    أحمد بن حنبل:
    عن المروذي، قال: لم أرَ الفقير في مجلس أعزَّ منه في مجلس أحمد، كان مائلًا إليهم، مُقْصرًا عن أهل الدُّنيا، وكان فيه حلم، ولم يكن بالعَجُول، وكان كثير التَّواضع، تعلوه السَّكِينَة والوَقَار، وإذا جلس في مجلسه بعد العصر للفُتيا، لا يتكلَّم حتَّى يُسْأل، وإذا خرج إلى مسجده، لم يتصدَّر

    آيات السَّكِينَة

    ومقتضى السَّكِينَة هدوء النَّفس وسُكُونها. وفي ذلك يقول ابن القيِّم:
    (كان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- إذا اشتدَّت عليه الأمور قرأ آيات السَّكِينَة.
    وسمعته يقول في واقعة عظيمة جرت له في مرضه تعجز العقول عن حملها من محاربة أرواح شيطانيَّة ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوَّة، قال: فلمَّا اشتدَّ عليَّ الأمر، قلت لأقاربي ومن حولي: اقرؤوا آيات السَّكِينَة. قال: ثمَّ أقلع عنِّي ذلك الحال، وجلست وما بي قَلَبةٌ
    وقال ابن القيِّم أيضًا: (قد جرَّبت -أنا أيضًا- قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب مما يرد عليه، فرأيت لها تأثيرًا عظيمًا في سكونه وطمأنينته)
    -----------------------------------------------
    وما زلنا أحبابنا تابعونا جزاكم الله خيرا

    ولا تنسونا من صالح دعائكم



    عدل سابقا من قبل sadekalnour في الأربعاء يونيو 22, 2022 2:18 pm عدل 1 مرات

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    ألأخلاق في  ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني Empty ألأخلاق في نظر ألإسلام .. الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف صادق النور الثلاثاء يونيو 21, 2022 11:59 am


    ومن ألأخلاق الحميده

    سلامة الصَّدر

    معنى السلامة لغةً:
    السلامة مصدر: سلم يسلَم بسلامة، يقال: سلم المسافر أي خلص ونجا من الآفات فهو سالم. ومعظم باب هذه المادة من الصِّحة والعافية؛  فالسلامة: أن يَسْلَم الإنسان من العاهة والأذى. قال أهل العلم: الله -جلَّ ثناؤه- هو السَّلام؛ لسلامته مما يَلْحق المخلوقين من العيب والنقص والفناء، والسَّلام والسَلَامة: البَرَاءة
    معنى الصَّدر لغةً:
    الصَّدر: أعلى مُقَدَّمِ كُلِّ شيءٍ، وكلُّ ما واجَهَكَ صَدْرٌ، وصَدْرُ القَناةِ أعلاها، وصَدْرُ الأمر أوَّلُه، كصَدْرُ النَّهارِ واللَّيْلِ، وصَدْرُ الشِّتاءِ والصَّيفِ، وما أشْبَه ذلك. وصَدْرُ الإِنسانِ: الجزء الممتدُّ من أسفل العنق إلى فضاء الجوف، وجمعُه: صُدورٌ، وسمِّي القلب صَدْرًا لحلوله به، وفي التَّنزيل العزيز: قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ [آل عمران: 29]
    معنى سلامة الصَّدر اصطلاحًا:
    قال الشَّوكاني: (وأما سَلَامة الصَّدر، فالمراد به: عدم الحقد والغل والبغضاء)
    فسليم القلب والصَّدر هو من سَلِم وعُوِفي فؤاده من جميع أمراض القلوب وأَدْوَائها، ومن كلِّ آفة تبعده عن الله تبارك وتعالى.

    الفرق بين سلامة الصَّدر والبَلَه والتَّغَفُّل

    يقول ابن القيِّم: (والفرق بين سَلَامة القلب والـبَلَه والتَّغَفُّل: أنَّ سَلَامة القلب تكون من عدم إرادة الشرِّ بعد معرفته، فيَسْلَم قلبه من إرادته وقصده، لا من معرفته والعلم به،
    وهذا بخلاف الـبَلَه والغَفْلة، فإنَّها جهل وقلَّة معرفة، وهذا لا يُحْمد؛ إذ هو نقص، وإنَّما يَحْمد النَّاس من هو كذلك؛ لسَلَامتهم منه، والكمال أن يكون القلب عارفًا بتفاصيل الشَّرِّ، سليمًا من إرادته،
    قال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: (لست بِخِبٍّ ولا يخدعني الخِبُّ) وكان عمر أعقل من أن يُخْدع، وأورع من أن يَخْدع،
    وقال تعالى: يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشُّعراء: 88-89] فهذا هو السَّليم من الآفات التي تعتري القلوب المريضة، من مرض الشُّبهة التي توجب اتِّباع الظَّنِّ، ومرض الشَّهوة التي توجب اتِّباع ما تهوى الأنفس، فالقلب السَّليم الذي سَلِم من هذا وهذا)

    أولًا: التَّرغيب في سلامة الصَّدر في القرآن الكريم


    - قال الله -تبارك وتعالى-: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر: 10]
    قال ابن رجب: (أفضل الأعمال سَلَامة الصَّدر من أنواع الشَّحْناء كلِّها، وأفضلها السَّلَامة من شحناء أهل الأهواء والبدع، التي تقتضي الطَّعن على سلف الأمَّة، وبغضهم والحقد عليهم، واعتقاد تكفيرهم أو تبديعهم وتضليلهم، ثمَّ يلي ذلك سَلَامة القلب من الشَّحْناء لعموم المسلمين، وإرادة الخير لهم، ونصيحتهم، وأن يحبَّ لهم ما يحبُّ لنفسه، وقد وصف الله تعالى المؤمنين عمومًا بأنَّهم يقولون: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر: 10])
    - وقال -تبارك وتعالى-: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 43]
    ففي هذه الآية الكريمة، يبيِّن الله -تبارك وتعالى- أنَّ سَلَامة الصَّدر، ونقاء القلب من أمراضه -والتي منها الغِلُّ- صفة من صفات أهل الجنَّة، وميزة من ميزاتهم، ونعيم يتنعمون به يوم القيامة. وقال -تبارك وتعالى-
    في موضع آخر من كتابه الكريم: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ [الحجر: 47]
    قال ابن عطية: (هذا إخبار من الله عزَّ وجلَّ أنَّه ينقِّي قلوب ساكني الجنَّة من الغلِّ والحقد، وذلك أنَّ صاحب الغلِّ متعذِّب به، ولا عذاب في الجنَّة)
    وقال القشيري: (طهَّرنا قلوبهم من كلِّ غش، واستخلصنا أسرارهم عن كلِّ آفة. وطهَّر قلوب العارفين من كلِّ حظٍّ وعلاقة، كما طهَّر قلوب الزَّاهدين عن كلِّ رغبة ومُنية، وطهَّر قلوب العابدين عن كلِّ تهمة وشهوة، وطهَّر قلوب المحبِّين عن محبَّة كلِّ مخلوق، وعن غلِّ الصَّدر- كلُّ واحد على قدر رتبته)

    ثانيًا: التَّرغيب في سلامة الصَّدر في السُّنَّة النَّبويِّة

    - عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يُبَلِّغُنِي أحدٌ من أصحابي عن أحدٍ شيئًا، فإنِّي أحبُّ أن أخرج إليكم وأنا سَلِيم الصَّدر))
    هذا الحديث يكشف عن مدى اهتمام المصطفى صلى الله عليه وسلم بسَلَامة صدره، فهو ينهى ويحذِّر من أن يُنْقَل إليه ما يُوغِر صَدْره، ويغيِّر قلبه تجاه أصحابه الكرام، رضوان الله عليهم أجمعين.
    قال المباركفوري شارحًا لهذا الحديث: (قوله: ((لا يُبَلِّغُنِي)) أي: لا يوصلني. ((من أحد)) أي: من قبل أحد. ((شيئًا)) أي: مما أكرهه وأغضب عليه، وهو عامٌّ في الأفعال والأقوال، بأن شتم أحدًا وآذاه، قال فيه خصلة سوء. ((فإنِّي أحبُّ أن أخرج إليهم)) أي: من البيت وأُلَاقيهم. ((وأنا سليم الصَّدر)) أي: من مساويهم. قال ابن الملَك: والمعنى: أنَّه صلى الله عليه وسلم يتمنَّى أن يخرج من الدُّنيا وقلبه راض عن أصحابه، من غير سخط على أحد منهم)
    - وعن محمَّد بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ أوَّل من يدخل من هذا الباب، رجل من أهل الجنَّة، فدخل عبد الله بن سَلاَمِ، فقام إليه ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بذلك، وقالوا: أخْبِرْنا بأوثق عملٍ في نفسك ترجو به. فقال: إنِّي لضعيف، وإنَّ أوثق ما أرجو به الله سَلَامة الصَّدر، وترك ما لا يعنيني))
    وهنا يذكر عبد الله بن سَلَام رضي الله عنه أنَّه لم يكن له كثير عمل استحق علية شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنَّة، إلَّا أنَّ أرجى عمل وأوثقه لديه هو: أنَّه كان سليم الصَّدر مشتغل عما لا يعنيه.
    - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن غِرٌّ كريم، والفاجر خبٌّ لئيم ))
    قال المناوي: (... ((المؤمن غِرٌّ)) أي: يغُرُّه كلُّ أحد، و يغُرُّه كلُّ شيء، ولا يعرف الشَّرَّ، وليس بذي مَكْر ولا فطنة للشَّرِّ، فهو يَنْخَدع لسَلَامة صَدْره، وحسن ظنِّه، وينخَدع لانقياده ولينه. ((كريم)) أي: شريف الأخلاق. ((والفاجر)) أي: الفاسق. ((خبٌّ لئيم)) أي: جريء، فيسعى في الأرض بالفساد، فالمؤمن المحمود: من كان طبعه الغَرَارة، وقلَّة الفِطْنة للشَّرِّ، وترك البحث عنه، وليس ذلك منه جهلًا، والفاجر من عادته الخُبث والدَّهاء والتَّوغل في معرفة الشَّرِّ، وليس ذا منه عقلًا)
    - وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أي النَّاس أفضل؟ قال: كلُّ مَخْموم القلب، صدوق اللِّسان. قالوا: صدوق اللِّسان نعرفه، فما مَخْموم القلب؟ قال: هو النَّقيُّ التَّقيُّ، لا إثم عليه، ولا بَغْي ولا غلٌّ ولا حسد ))
    قال علي القاري: (أي: سليم القلب، لقوله تعالى: إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشُّعراء: 89]، من خَمَمْت البيت، إذا كنسته، على ما في ((القاموس)) وغيره، فالمعنى: أن يكون قلبه مكنوسًا من غبار الأغيار، ومُنَظَّفًا من أخلاق الأقذار)

    أقوال السَّلف والعلماء في سلامة الصَّدر

    - قال ابن العربي: (لا يكون القلب سليمًا إذا كان حقودًا حسودًا معجبًا متكبرًا، وقد شرط النَّبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان، أن يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه)
    - وسئل ابن سيرين -رحمه الله تعالى- ما القلب السَّليم؟ فقال: النَّاصح لله في خلقه
    - وقيل: القلب السَّليم الذي يحبُّ للنَّاس ما يحبُّه لنفسه، قد سَلِم جميع النَّاس من غشِّه وظلمه، وأسْلَم لله بقلبه ولسانه، ولا يعدل به غيره
    - وقال ابن تيمية: (فالقلب السَّليم المحمود، هو الذي يريد الخير لا الشَّر، وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشَّر، فأمَّا من لا يعرف الشَّر، فذاك نقص فيه لا يُمدح به)
    - وقال الأكفاني وعبد الكريم: (وأصل العبادة مكابدة اللَّيل، وأقصر طرق الجنَّة سَلَامة الصَّدر)
    - ولما حضرت عبد الملك بن مروان الوفاة، جمع ولده، وفيهم مَسْلمة، وكان سيِّدهم، فقال: أوصيكم بتقوى الله، فإنَّها عِصْمة باقية، وجُنَّة واقية، وهي أحصن كهف، وأزْيَن حِلْية، ليعطف الكبير منكم على الصَّغير، وليعرف الصَّغير منكم حقَّ الكبير، مع سَلَامة الصَّدر، والأخذ بجميل الأمور...
    - وقال سفيان بن دينار: قلت لأبي بشير -وكان من أصحاب علي-: أخبرني عن أعمال من كان قَبْلنا؟ قال: كانوا يعملون يسيرًا، ويُؤْجَرون كثيرًا. قلت: ولم ذاك؟ قال: لسَلَامة صدورهم
    - وقيل: أَنَّه لَا طَرِيق أقرب من الصِّدْق، وَلَا دَلِيل أنجح من العِلم، ولَا زَاد أبلغ من الـتَّقْوَى، وما رأيت أَنْفَى للوسواس من ترك الفضول، ولَا أنور للقلب من سَلَامة الصَّدر
    - ويقال: أخلاق الأبدال عشرة أشياء، سَلَامة الصَّدر، وسخاوة المال، وصدق اللِّسان، وتواضع النَّفس، والصَّبر في الشِّدة، والبكاء في الخُلوة، والنَّصيحة للخَلْق، والرَّحمة للمؤمنين، والتَّفكُّر في الفناء، والعبرة في الأشياء
    - وقال قاسم الجوعي: أصل الدِّين الورع، وأفضل العبادة مكابدة اللَّيل، وأفضل طرق الجنَّة سَلَامة الصَّدر
    - وقال بدر الدِّين الغزي: (فمن آداب العِشْرة... سَلَامة قلبه للإخوان، والنَّصحية لهم، وقبولها منهم،
    لقوله تعالى: إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشُّعراء: 89]،
    وقال السقطي رحمه الله: (من أجلِّ أخلاق الأبرار: سَلَامة الصَّدر للإخوان، والنَّصيحة لهم)

    فوائد سلامة الصَّدر


    1- من أعظم فوائد سَلَامة الصَّدر: أنَّها سبيل لدخول الجنَّة، فهي صفة من صفات أهلها، ونعت من نعوتهم،
    قال تعالى: يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشُّعراء 88-89]
    2- أنَّها تكسو صاحبها بحلَّة الخيريَّة، وتلبسه لباس الأفضلية، كما في حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((خير النَّاس ذو القلب المخْمُوم واللِّسان الصَّادق، قيل: ما القلب المخْمُوم؟ قال: هو التَّقِيُّ النَّقِيُّ الذي لَا إثم فيه، ولَا بَغْي ولَا حسد، قيل: فمن على أَثَــرِه؟ قال: الذي يَشْنَأُ الدُّنيا ويحبُّ الآخرة قيل: فمن على أَثَرِهِ؟ قال: مؤمن في خُلُق حسن ))
    3- أنَّها تجمع القلب على الخير والبِرِّ والطَّاعة والصَّلاح، فلا يجد القلب راحة إلا فيها، ولا تقرُّ عين المؤمن إلا بها.
    4- أنَّها تزيل العيوب، وتقطع أسباب الذُّنوب، فمن سَلِم صدره، وطَهُر قلبه عن الإرادات الفاسدة، والظُّنون السَّيئة، عفَّ لسانه وجوارحه عن كلِّ قبيح.
    5- ومن الفوائد أيضًا: أنَّ فيها اقتداء بالنَّبي صلى الله عليه وسلم وتأسِّيًا به، فهو -بأبي هو وأمي صلَّى الله عليه وسلم- أسلم النَّاس صدرًا، وأطيبهم قلبًا، وأصفاهم سريرة.

    صور سلامة الصَّدر

    1- سَلَامة الصَّدر مع عامَّة النَّاس، فلا يحمل لهم في قلبه غلًّا ولا حسدًا، ولا غيرها من الأمراض والأَدْواء القلبيَّة، التي تقضي على أواصر المحبَّة، وتقطع صلات المودَّة.
    2- سَلَامة الصَّدر مع خاصَّة إخوانه ومقرَّبيه.
    3- سَلَامة الصَّدر مع وُلاة الأمر، فلا يحمل عليهم الحقد، ولا يثير عليهم العامَّة، ولا يذكر مثالبهم عند النَّاس، ويكون نصوحًا لهم، مُشْفِقًا عليهم، غاضًّا الطرف عن أخطائهم التي يُتَجَاوز عنها، وينشر الخير عنهم، ويذكرهم بخير أعمالهم وصفاتهم.
    4- سَلَامة صدور الوُلاة للرَّعيَّة، فلا يُكثر من الشُّكوك فيهم، ولا يتربَّص بهم أو يتجسَّس عليهم، أو يؤذيهم في أموالهم أو ممتلكاتهم، ويكون مُشْفِقًا عليهم، ساعيًا وراء راحتهم.
    5- سَلَامة صدور العلماء وطلبة العلم بعضهم مع بعض، فــ(أحقُّ النَّاس -بعد العلماء- بسَلَامة الصَّدر طلَّاب العلم، فطالب العلم غدًا يقف أمام النَّاس يفتيهم ويعلِّمهم ويرشدهم، فلا بدَّ من أن يُـرَبِّي نفسه على سَلَامة الصَّدر، ونقاء السَّريرة،
    التي هي صفة من صفات أهل الجنَّة: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ [الحجر: 47] )

    موانع اكتساب سَلَامة الصَّدر

    1- نزغات الشَّيطان، ووساوسه، فالشَّيطان حريص على إيغار الصُّدور، وإفساد القلوب، لذا حذَّر الله -تبارك وتعالى- منه،
    وأمر عباده بانتقاء القول الحسن، قال -تبارك وتعالى-: وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا [الإسراء: 53]
    وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الشَّيطان قد أَيِس أن يعبده المصلُّون في جزيرة العرب، ولكن في التَّحريش بينهم ))
    2- إصابة القلب ببعض الأمراض الخُلُقيَّة، والتي تُفسد القلب، كالحسد والغلِّ والحقد، وإذا اشتمل القلب على هذه الأدواء لم يُعْتبر سليمًا، فهي تضادُّ سَلَامة القلب.
    3- التَّنافس على الدُّنيا فعن عمرو بن عوف رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكنِّي أخشى أَنْ تُبْسَط عليكم الدُّنيا كما بُسِطَتْ على من كان قبلكم، فتَنَافَسُوها كما تَنَافَسُوها، وتهلككم كما أهلكتهم ))
    4- حبُّ الشُّهرة والرِّياسة، وهي داء عضال ومرض خطير، وشرٌّ مُستطير، قال الفضيل بن عياض رحمه الله: (ما من أحدٍ أحبَّ الرِّياسة إلا حَسد وبَغى، وتَتبَّع عيوب النَّاس، وكره أن يُذكر أحد بخير) وقال ابن عبد البر -رحمه الله- تعالى:
    حبُّ الرِّياسة داء يخلق الدُّنيا ويجعل الحبَّ حربًا للمحبينا
    يَفْرِي
    الحلاقم والأرحام يقطعها فلا مروءة يُبقي لا ولا دينًا

    5- الاتِّصاف ببعض الصِّفات، والتي من شأنها أن تُوغر الصُّدور، وتؤثر في سلامتها، ككثرة المزاح، وكثرة المراء والجدال، والعُجب وغيرها.

    الوسائل المعينة على اكتساب سَلَامة الصَّدر

    1- الإخلاص لله -تبارك وتعالى- وهذا تصديقًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((ثلاث لا يَغِلُّ عليهنَّ قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمَّة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإنَّ الدَّعوة تحيط من ورائهم ))
    قال ابن الأثير: (إنَّ هذه الخِلال الثَّلاث تُسْتَصلح بها القلوب، فمن تمسَّك بها طَهُر قلبه من الخيانة والدَّخل والشَّر)
    2- الإقبال على كتاب الله تعالى قراءةً وتعلُّمًا وتعليمًا، فهو شفاء لما في الصُّدور، كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57]
    3- الدُّعاء، فهو العلاج النَّاجع والدَّواء النَّافع، فيدعو العبد مولاه أن يجعل قلبه سليمًا من الضغائن والأحقاد على إخوانه المؤمنين، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر: 10]
    4- التَّخلُّق بالأخلاق التي تزيد من المحبَّة والألفة بين المؤمنين، كالبَشَاشة والتَّبَسُّم، وإفشاء السَّلام، وإهداء الهديَّة وغيرها، فإنَّ هذه الأخلاق كفيلة بانتزاع سخيمة القلوب، وأعْلَاق الصُّدور، فتصبح نقيَّة صافية.
    5- الابتعاد عن كلِّ ما من شأنه أن يفسد الوُدَّ، ويعكِّر صفو الصُّدور، فيبتعد المؤمن عن الأخلاق الرَّديَّة، كالحسد والغلِّ والحقد والظَّنِّ السَّيئ وغيرها.
    6- رضا العبد بما قسمه الله تعالى: (قال ابن القيِّم: إنَّ الرِّضا يفتح له باب السَّلَامة، فيجعل قلبه سليمًا نقيًّا من الغشِّ والدَّغل والغلِّ، ولا ينجو من عذاب الله إلَّا من أتى الله بقلب سَلِيم، كذلك وتستحيل سَلَامة القلب مع السَّخط وعدم الرِّضا، وكلَّما كان العبد أشدَّ رضى، كان قلبه أسلم)

    نماذج من الصَّحابة لسلامة الصَّدر


    فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنَّا جلوسًا مع الرَّسول صلى الله عليه وسلم فقال: ((يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنَّة، فطلع رجل من الأنصار، تَنْطِفُ لحيته من وضوئه، قد تَعَلَّق نَعْلَيه في يده الشِّمال،
    فلمَّا كان الغد، قال النَّبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرَّجل مثل المرَّة الأولى، فلمَّا كان اليوم الثَّالث،
    قال النَّبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضًا، فطلع ذلك الرَّجل على مثل حاله الأولى،
    فلمَّا قام النَّبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال: إنِّي لَاحَيْت أبي فأقسمت ألَّا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تُـؤْوِيَني إليك حتَّى تمضي، فَعلتَ.
    فقال: نعم. قال أنس: وكان عبد الله يحدِّث أنَّه بات معه تلك الليالي الثَّلاث، فلم يره يقوم من اللَّيل شيئًا، غير أنَّه إذا تعارَّ وتقلَّب على فراشه، ذَكَر الله عزَّ وجلَّ وكبَّر حتَّى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أنِّي لم أسمعه يقول إلَّا خيرًا.
    فلمَّا مضت الثَّلاث ليال، وكدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله، إنِّي لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هَجْرٌ،
    ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ثلاث مِرَار: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنَّة، فطلعت أنت الثَّلاث مِرَار، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك، فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عملٍ، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أنِّي لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غِشًّا، ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه. فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق))
    - وعن زيد بن أسلم، أنَّه دخل على ابن أبي دُجانة، وهو مريض، وكان وجهه يتهلَّل، فقال له: ما لك يتهلَّل وجهك؟ قال: ما من عملِ شيءٍ أوثق عندي من اثنين: أمَّا أحدهما، فكنت لا أتكلَّم بما لا يعنيني، وأما الأُخْرى: فكان قلبي للمسلمين سليمًا
    - وأُثِر عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه أنَّه كان يدعو لسبعين من أصحابه، يسمِّيهم بأسمائهم، وهذا العمل علامة على سَلَامة الصَّدر
    - وقد كان أبو موسى الأشعري صوَّامًا قوَّامًا، ربَّانيًّا، زاهدًا، عابدًا، ممَّن جمع العلم والعمل والجهاد وسَلَامة الصَّدر، لم تغيره الإمارة، ولا اغترَّ بالدُّنيا
    ===============================================

    ومن ألأخلاق المحموده

    السَّمَاحَة

    معنى السَّمَاحَة لغةً:
    مادة (سمح) تدل على سلَاسةٍ وَسُهولةٍ. والمسامَحة: المساهَلة، وسمح بكذا يسمح سُمُوحًا وسَماحه: جاد وأعطى، أو وافق على ما أريد منه
    معنى السَّمَاحَة اصطلاحًا:
    السَّمَاحَة في الاصطلاح تطلق على معنيين:
    الأول: (بذل ما لا يجب تفضلًا)
    الثاني: (في معنى التَّسامح مع الغير، في المعاملات المختلفة، ويكون ذلك بتيسير الأمور، والملاينة فيها، التي تتجلى في التيسير وعدم القهر)
    أولًا: الترغيب في السَّمَاحَة في القرآن الكريم

    - قال الله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199]
    قال السعدي: (هذه الآية جامعة لحسن الخلق مع النَّاس، وما ينبغي في معاملتهم، فالذي ينبغي أن يعامل به النَّاس، أن يأخذ العفو، أي: ما سمحت به أنفسهم، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق... ويتجاوز عن تقصيرهم، ويغض طرفه عن نقصهم)
    - وقال سبحانه: وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة: 237]
    قال ابن عاشور: (ومعنى كون العفو أقرب للتقوى، أنَّ العفو أقرب إلى صفة التقوى من التمسك بالحق؛ لأن التمسك بالحق لا ينافي التقوى، لكنه يؤذن بتصلب صاحبه وشدته، والعفو يؤذن بسماحة صاحبه ورحمته، والقلب المطبوع على السَّمَاحَة والرَّحْمَة أقرب إلى التقوى، من القلب الصلب الشديد؛ لأنَّ التقوى تقرب بمقدار قوَّة الوازع، والوازع شرعي وطبيعي، وفي القلب المفطور على الرَّأفة والسَّمَاحَة، لين يزعه عن المظالم والقساوة، فتكون التقوى أقرب إليه؛ لكثرة أسبابها فيه)
    - ونفى الله عن رسوله الفظاظة، وغلظ القلب، فقال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران: 159]
    قال السعدي: (أي: برحمة الله لك ولأصحابك، منَّ الله عليك أن ألنت لهم جانبك، وخفضت لهم جناحك، وترققت عليهم، وحسنت لهم خلقك، فاجتمعوا عليك وأحبوك، وامتثلوا أمرك. وَلَوْ كُنتَ فَظًّا أي: سيئ الخلق غَلِيظَ الْقَلْبِ أي: قاسيه، لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ لأنَّ هذا يُنفرهم ويبغضهم لمن قام به هذا الخلق السيِّئ)
    - وقال تعالى: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 280]
    ففي هذه الآية (وجَّه الله الدائنين إلى التيسير على المدينين المعسرين، فعلَّمهم الله بذلك سماحة النفس، وحسن التغاضي عن المعسرين)
    ثانيًا: الترغيب في السَّمَاحَة في السُّنَّة النَّبويَّة

    - عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى ))
    قال ابن بطال: (فيه الحضُّ على السَّمَاحَة، وحسن المعاملة، واستعمال معالي الأخلاق ومكارمها، وترك المشاحة والرقة في البيع، وذلك سبب إلى وجود البركة فيه؛ لأن النَّبي عليه السلام لا يحض أمته إلا على ما فيه النفع لهم، في الدنيا والآخرة)
    وقال المناوي: (... ((رحم الله عبدًا)) دعاء أو خبر، وقرينة الاستقبال المستفاد من. ((إذا)) تجعله دعاء. ((سَمْحًا)) بفتح فسكون، جوادًا أو متساهلًا، غير مضايق في الأمور، وهذا صفة مشبَّهة تدل على الثبوت؛ ولذا كرر أحوال البيع والشراء والتقاضي، حيث قال: ((إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا قضى)) أي: وفى ما عليه بسهولة. ((سمحًا إذا اقتضى)) أي: طلب قضاء حقه، وهذا مسوق للحث على المسامحة في المعاملة، وترك المشاححة والتضييق في الطلب، والتَّخلُّق بمكارم الأخلاق، وقال القاضي: رتَّب الدعاء على ذلك؛ ليدل على أنَّ السهولة والتسامح سبب لاستحقاق الدعاء، ويكون أهلًا للرحمة والاقتضاء والتقاضي، وهو طلب قضاء الحق)
    - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو بمن تحرم عليه النار؟ على كل قريب هيِّن سهل ))
    قال القاري: (أي: تحرم على كل سهل طلق حليم، ليِّن الجانب، قيل: هما يطلقان على الإنسان بالتثقيل والتخفيف. ((قريب)) أي: من النَّاس بمجالستهم في محافل الطاعة، وملاطفتهم قدر الطاعة. ((سهل)) أي: في قضاء حوائجهم، أو معناه أنَّه سمح القضاء، سمح الاقتضاء، سمح البيع، سمح الشراء)
    - وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر، والأبيض، والأسود، وبين ذلك، والسهل، والحزن، والخبيث، والطيب ))
    قال الطيبي: (ولما كانت الأوصاف الأربعة ظاهرة في الإنسان والأرض، أجريت على حقيقتها، وأُوِّلت الأربعة الأخيرة؛ لأنَّها من الأخلاق الباطنة، فإنَّ المعني بالسهل: الرفق واللين، وبالحزن: الخرق والعنف، وبالطيِّب: الذي يعني به الأرض العذبة، المؤمن الذي هو نفع كله، بالخبيث: الذي يراد به الأرض السبخة، الكافر الذي هو ضر كله، والذي سبق له الحديث هو الأمور الباطنة؛ لأنَّها داخلة في حديث القدر بالخير والشر، وأما الأمور الظاهرة من الألوان، وإن كانت مقدرة فلا اعتبار لها فيه)
    (والنفس السَّمحة كالأرض الطَّيِّـبَة الهيِّنَة المستوية، فهي لكل ما يراد منها من خير صالحة، إن أردت عبورها هانت، وإن أردت حرثها وزراعتها لانت، وإن أردت البناء فيها سهلت، وإن شئت النوم عليها تمهدت)
    - وعن حذيفة رضي الله عنه قال: ((أتى الله بعبد من عباده آتاه الله مالًا، فقال له: ماذا عملت فى الدنيا؟ - قال ولا يكتمون الله حديثًا – قال: يا رب آتيتني مالك، فكنت أبايع النَّاس، وكان من خلقي الجواز، فكنت أتيسَّر على الموسر، وأنظر المعسر. فقال الله: أنا أحق بذا منك، تجاوزوا عن عبدي ))
    قال النووي: (والتَّجاوز والتَّجوز معناهما، المسامحة في الاقتضاء، والاستيفاء، وقبول ما فيه نقص يسير، كما قال وأتجوَّز في السِّكَّة، وفي هذه الأحاديث فضل إنظار المعسر والوضع عنه، إمَّا كل الدين، وإما بعضه من كثير، أو قليل، وفضل المسامحة في الاقتضاء وفي الاستيفاء، سواء استوفي من موسر أو معسر، وفضل الوضع من الدين، وأنَّه لا يحتقر شيء من أفعال الخير، فلعله سبب السعادة والرَّحْمَة)
    قال ابن تيمية: (وأما السَّمَاحَة والصبر، فخلقان في النفس. قال تعالى: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [البلد: 17] وهذا أعلى من ذاك، وهو أن يكون صبَّارًا شكورًا، فيه سماحة بالرَّحْمَة للإنسان، وصبر على المكاره، وهذا ضد الذي خلق هلوعًا، إذا مسه الشر جزوعًا، وإذا مسه الخير منوعًا؛ فإنَّ ذاك ليس فيه سماحة عند النعمة، ولا صبر عند المصيبة)
    فوائد سماحة النَّفس

    1- (يستطيع سمح النفس الهين اللين، أن يغنم في حياته أكبر قسط من السعادة وهناءة العيش؛ لأنه بخلقه هذا يتكيَّف مع الأوضاع الطبيعية والاجتماعية بسرعة، مهما كانت غير ملائمة لما يحب.
    2- ويستطيع أن يستقبل المقادير بالرضى والتسليم، مهما كانت مكروهة للنفوس.
    3- ويستطيع سمح النفس الهين اللين، أن يظفر بأكبر قسط من محبة النَّاس له، وثقة النَّاس به؛ لأنه يعاملهم بالسَّمَاحَة والبشر ولين الجانب، والتغاضي عن السيئات والنقائص، فإذا دعاه الواجب إلى تقديم النصح، كان في نصحه رفيقًا لـيِّنًا، سمحًا هيِّنًا، يسر بالنصيحة، ولا يريد الفضيحة، يسد الثغرات، ولا ينشر الزلَّات والعثرات.
    4- ويعامل النَّاس أيضًا بالسَّمَاحَة في الأمور المادية، فإذا باع كان سمحًا، وإذا اشترى كان سمحًا، وإذا أخذ كان سمحًا، وإذا أعطى كان سمحًا، وإذا قضى ما عليه كان سمحًا، وإذا اقتضى ما له كان سمحًا.
    5- ويجلب سمح النفس، الهيِّن الليِّن لنفسه، الخير الدنيوي بتسامحه؛ وذلك لأنَّ النَّاس يحبون المتسامح الهيِّن الليِّن، فيميلون إلى التعامل معه، فيكثر عليه الخير بكثرة محبيه والواثقين به.
    6- ويجلب سمح النفس الهيِّن الليِّن لنفسه رضى الله تعالى والخير الأخروي العظيم، ما ابتغى بسماحته رضوان الله عز وجل)
    صور السَّمَاحَة

    النَّاس على اختلاف مستوياتهم، واختلاف نماذجهم الخلقية، يوجد فيهم من يتمتعون بخلق سماحة النفس، فهم هيِّنون ليِّنون سمحاء، ويوجد فيهم آخرون نكدون، متشددون، يتذمرون من كل شيء لا يوافق هواهم وصور سماحة النفس كثيرة فمنها:
    1- السَّمَاحَة في التعامل مع الآخرين:
    ويكون ذلك بعدم التشديد، وعدم الغلظة في التعامل مع الآخرين، حتى ولو كان خادمًا، فعن أنس رضي الله عنه قال: ((خدمتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي: أف، ولا: لم صنعت؟ ولا: ألا صنعت؟ ))
    2- السَّمَاحَة في البيع والشراء:
    وتكون السَّمَاحَة في البيع والشراء، بأن لا يكون البائع مغاليًا في الربح، ومكثرًا في المساومة، بل عليه أن يكون كريم النفس. وبالمقابل على المشتري أيضًا أن يتساهل، وأن لا يدقق في الفروق القليلة، وأن يكون كريمًا مع البائع وخاصة إذا كان فقيرًا.
    3- السَّمَاحَة في قضاء الحوائج:
    فإن الذي يقضي حوائج النَّاس، فينفس كربتهم وييسر على معسرهم، ييسر الله عنه في الدنيا والآخرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ))
    4- السَّمَاحَة في الاقتضاء:
    قال تعالى: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 280]
    قال السعدي: (وَإِن كَانَ المدين ذُو عُسْرَةٍ لا يجد وفاء فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وهذا واجب عليه أن ينظره حتى يجد ما يوفي به وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ إما بإسقاطها أو بعضها) فمن السَّمَاحَة في الاقتضاء أن يراعي حال المدين، وأن لا يطالبه بشدة وأمام النَّاس، قال صلى الله عليه وسلم: ((من طلب حقًّا، فليطلبه في عفاف، واف أو غير واف )
    وسائل اكتساب خلق سماحة النفس
    هناك عدة وسائل لاكتساب خلق سماحة النفس، منها:
    1- (التأمل في الترغيبات التي رغب الله بها الذين يتحلون بخلق السَّمَاحَة، والفوائد التي يجنونها في العاجلة والآجلة، والسعادة التي يظفرون بها في الحياة الدنيا والآخرة.
    2- التأمل في المحاذير التي حذَّر الله منها النكدين المتشدِّدين العسيرين، وما يجلبه لهم خلقهم وظواهره السلوكية، من مضار عاجلة وآجلة، ومتاعب وآلام كثيرة، وخسارة مادية ومعنوية)
    نماذج من سماحة النَّبي صلى الله عليه وسلم

    كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سمحًا في تعامله وهو المثل الأكمل في السَّمَاحَة، يحكي لنا أنس رضي الله عنه ما لاقاه من النَّبي صلى الله عليه وسلم من حسن المعاملة فيقول: ((خدمتُ النَّبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي: أف، ولا: لم صنعت؟ ولا: ألا صنعت؟ ))
    - وعنه أيضًا قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن النَّاس خلقًا، فأرسلني يومًا لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت حتى أمر على صبيان، وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: ((يا أنيس ذهبت حيث أمرتك؟ قلت: نعم أنا أذهب يا رسول الله ))
    - ومن سماحته صلى الله عليه وسلم قضاء حوائج النَّاس، فعن أنس رضي الله عنه قال: (إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت )
    - ومن سماحته صلى الله عليه وسلم، عفوه عمن أراد قتله، فعن جابر رضي الله عنه أنَّه غزا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم قِبَلَ نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قفل معهم فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق النَّاس يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة، فعلق بها سيفه، ونمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي فقال: ((إن هذا اخترط عليَّ سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتًا قال: من يمنعك مني؟ قلت: الله ثلاثًا، ولم يعاقبه وجلس ))
    - ومن سماحته صلى الله عليه وسلم، تعامله مع الأعرابي الذي جذب رداءه بشدة؛ ليأمر له بعطاء، فعن أنس رضي الله عنه قال: ((كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجبذه بردائه جبذة شديدة، ورجع نبي الله صلى الله عليه وسلم في نحر الأعرابي، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ضحك، ثم أمر له بعطاء ))
    نماذج من سماحة السلف مع غير المسلمين
    - في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، كتب خالد بن الوليد رضي الله عنه في عقد الذمة لأهل الحيرة بالعراق -وكانوا من النصارى-: (وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيًّا فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله)

    - وأوصى عمر رضي الله عنه الخليفة من بعده بأهل الذمة أن يُوفَى لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم وأن لا يكلفوا فوق طاقتهم
    - وذبحت لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، شاة في أهله، فلما جاء، قال: أهديتم لجارنا اليهودي؟ أهديتم لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنَّه سيورثه ))
    - وفي خلافة عمر بن عبد العزيز رحمه الله كتب إلى عدي بن أرطأة: (وانظر من قبلك من أهل الذمة، قد كبرت سنه، وضعفت قوته، وولَّت عنه المكاسب، فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه)
    علامات سمح النفس

    هناك علامات للمتصف بخلق السَّمَاحَة منها :
    1- طلاقة الوجه، واستقبال النَّاس بالبشر، ومشاركتهم بالسمع والفكر والقلب.
    وطلق الوجه حسن البشر بالنَّاس، محبب إليهم، مألوف في نفوسهم، قريب إلى قلوبهم.
    وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على هذه الظاهرة بقوله وعمله، فمن ذلك ما جاء عن جابر رضي الله عنه، إذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل معروف صدقة، وإنَّ من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق، وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك ))
    وهكذا يكون سمح النفس طلق الوجه باسمًا مشرق المحيَّا، بخلاف النكد الصعب، حتى يبدو كأنه قَرِف من كل شيء، فإذا واجه النَّاس واجههم بسحنة منقبضة، لا انبساط فيها ولا بشر، وإذا اجتمع معهم، لم يشاركهم بمشاعره ولا بحواسِّه، وكان بينهم كأنه غريب عنهم، وكأنهم غرباء عنه... وهذا الوضع يجعله ممقوتًا مكروهًا بعيدًا عن قلوب النَّاس؛ لأنَّه وضع يلازمه في معظم أحواله بسبب نكد نفسه الملازم له...
    2- مبادرة النَّاس بالتحية والسلام والمصافحة وحسن المحادثة:
    فمن كان سمح النفس بادر إلى هذه المحاسن، ووجودها في الإنسان طبيعية غير متكلَّفة، يدل على أنَّه سمح هيِّن ليِّن رقيق حاشية النفس، ألوف ودود لا فظ ولا غليظ.
    3- حسن المصاحبة والمعاشرة والتغاضي وعدم التشدد في الأمور:
    فمن كان سمح النفس، كان حسن المصاحبة لإخوانه، ولأهله، ولأولاده، ولخدمه، ولكل من يخالطه، ولكل من يرعاه.
    وكان حسن المعاشرة خفيف المحاسبة والمؤاخذة، متغاضيًا عن المخالفات التي تتعلق به، لا يتشدد في الأمور، ولا يعظِّم الصغائر، بل يلتمس العذر لمن يقصر معه، أو لا يعطيه من الاحترام أو الخدمة حقه.
    سماحة الإسلام
    كما دعا الإسلام المسلمين إلى التحلي بخلق السَّمَاحَة، فإنَّ السَّمَاحَة من خلق الإسلام نفسه، فمن السَّمَاحَة عفوالله ومغفرته للمذنبين من عباده، وحلمه تبارك وتعالى على عباده، وتيسير الشريعة عليهم، وتخفيف التكاليف عنهم، ونهيهم عن الغلو في الدين، ونهيهم عن التشديد في الدين على عباد الله
    - قال تعالى: يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185]
    - وقال: مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة: 6]
    - وقال سبحانه: يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء: 28]
    - قال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الدين يسر، ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة، والروحة، وشيء من الدلجة ))
    - ونهى النَّبي عن التنطع والتَّشدد في الدين، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هلك المتنطعون )) قالها ثلاثًا
    - ودعا الرسول صلى الله عليه وسلم على من يشق على المسلمين فقال: ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشقَّ عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم، فارفق به ))
    - وأمر بالتخفيف على المسلمين ونهى عن التثقيل في أمور الدين فعن أبي مسعود رضي الله عنه، قال: ((أتى رجلٌ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا، قال: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط أشد غضبًا في موعظة منه يومئذ، قال: فقال: يا أيها النَّاس إنَّ منكم منفِّرين، فأيُّكم ما صلى بالنَّاس فليتجوَّزْ، فإنَّ فيهم المريض، والكبير، وذا الحاجة ))
    - ومن سماحة الإسلام، تيسيره لشؤون مناسك الحج، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: ((أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاءه رجل، فقال: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح، فقال: اذبح ولا حرج، فجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج، فما سئل النَّبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قُدِّمَ ولا أُخِّر، إلا قال: افعل ولا حرج ))
    - سماحة الإسلام في التعامل مع غير المسلمين؛ فالإسلام لم تقتصر سماحته على المسلمين فحسب، بل شمل غير المسلمين، من اليهود والنصارى، والمشركين، حتى في حالة الحرب، فنهى الإسلام عن قتل الأطفال، والنساء، والشيوخ، والعجزة، فعن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا أمَّر أميرًا على جيش، أو سريَّة، أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوَّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال -أو خلال-: فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكفَّ عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام ))
    - وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا فتحتم مصر، فاستوصوا بالقبط خيرًا، فإن لهم ذمةً ورحمًا ))
    ----------------------------------------------
    وما زلنا أحبابنا تابعونا نفع الله بكم
    ولا تنسونا من صالح دعائكم



    عدل سابقا من قبل sadekalnour في الأربعاء يونيو 22, 2022 2:19 pm عدل 1 مرات

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    ألأخلاق في  ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني Empty ألأخلاق في نظر ألإسلام .. الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف صادق النور الثلاثاء يونيو 21, 2022 1:28 pm



    ومن ألأخلاق المحموده

    الشَّجَاعَة
    معنى الشَّجَاعَة لغةً:
    الشجاعة: شدَّة القلب عند البأس، وأصل هذه المادة يدل على جرأة وإقدام. يقال: شجُع شجاعة: اشتد عند البأس
    معنى الشَّجَاعَة اصطلاحًا:
    قيل هي: (الإقدام على المكاره، والمهالك، عند الحاجة إلى ذلك، وثبات الجأش عند المخاوف، والاستهانة بالموت)
    وقال ابن حزم: (حد الشَّجَاعَة: بذل النفس للموت، عن الدين، والحريم، وعن الجار المضطهد، وعن المستجير المظلوم، وعن الهضيمة ظلمًا في المال، والعرض، وفي سائر سبل الحق، سواء قلَّ من يعارض أو كثر)

    الفرق بين الشَّجَاعَة وبعض الصفات
    - الفرق بين الشجاعة والقوة:
    (كثير من الناس تشتبه عليه الشجاعة بالقوة وهما متغايران، فإن الشجاعة هي ثبات القلب عند النوازل وإن كان ضعيف البطش.
    وكان الصديق رضي الله عنه أشجع الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عمر وغيره أقوى منه، ولكن برز على الصحابة كلهم بثبات قلبه في كل موطن من المواطن التي تزلزل الجبال، وهو في ذلك ثابت القلب، ربيط الجأش، يلوذ به شجعان الصحابة وأبطالهم، فيثبتهم، ويشجعهم)
    - الفرق بين البسالة والشَّجَاعَة:
    أنَّ أصل البسل: الحرام، فكأن الباسل يتعذَّر على أحد أو يحرم عليه، أن يصيبه في الحرب بمكروه؛ لشدته فيها وقوته.
    والشَّجَاعَة: الجرأة، والشُّجاع: الجريء، المقدام في الحرب ضعيفًا كان أو قويًّا، والجرأة قوة القلب الداعي إلى الإقدام على المكاره، فالشَّجَاعَة تنبئ عن الجرأة، والبسالة تنبئ عن الشدَّة
    - الفرق بين الشَّجَاعَة والجرأة:
    أنَّ الشَّجَاعَة من القلب: وهي ثباته واستقراره عند المخاوف، وهو خلق يتولد من الصبر وحسن الظن، فإنَّه متى ظن الظفر وساعده الصبر ثبت، كما أنَّ الجبن يتولد من سوء الظن وعدم الصبر، فلا يظن الظفر ولا يساعده الصبر.
    وأما الجرأة: فهي إقدام، سببه قلة المبالاة، وعدم النظر في العاقبة، بل تقدم النفس في غير موضع الإقدام معرضة عن ملاحظة العارض، فإمَّا عليها، وإمَّا لها

    أولًا: الترغيب في الشَّجَاعَة في القرآن الكريم
    - أمر الله سبحانه وتعالى المسلمين بالقتال في سبيله، والثبات عليه، والإقدام في الحروب، وعدم الجبن،
    قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال: 16]
    - وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ [الأنفال: 65]
    قال السعدي: (يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ أي: حثهم وأنهضهم إليه بكل ما يقوي عزائمهم وينشِّط هممهم، من الترغيب في الجهاد، ومقارعة الأعداء، والترهيب من ضد ذلك، وذكر فضائل الشَّجَاعَة والصبر، وما يترتب على ذلك من خير في الدنيا والآخرة، وذكر مضار الجبن، وأنه من الأخلاق الرذيلة المنقصة للدين والمروءة، وأنَّ الشَّجَاعَة بالمؤمنين أولى من غيرهم)
    - وقال سبحانه: وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة:190]
    - وأمر الله المسلمين بالثبات في الجهاد فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ [الأنفال:45]
    ثانيًا: الترغيب في الشَّجَاعَة في السُّنَّة النَّبويَّة
    - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أنِّي فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدَّر الله وما شاء فعل، فإنَّ لو تفتح عمل الشيطان ))

    قال النووي: (والمراد بالقوة هنا، عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقدامًا على العدو في الجهاد، وأسرع خروجًا إليه، وذهابًا في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاق في ذات الله تعالى، وأرغب في الصلاة، والصوم، والأذكار، وسائر العبادات، وأنشط طلبًا لها، ومحافظةً عليها، ونحو ذلك)
    - وعن عمرو بن ميمون الأودي قال: كان سعد يعلِّم بنيه هؤلاء الكلمات، كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة ويقول: ((إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ منهن دبر الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر، فحدثت به مصعبًا فصدقه ))
    قال المهلب: (أما استعاذته صلى الله عليه وسلم من الجبن، فإنَّه يؤدي إلى عذاب الآخرة؛ لأنَّه يفر من قرنه في الزحف فيدخل تحت وعيد الله لقوله: وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ [الأنفال: 16] الآية، وربما يفتن في دينه، فيرتد لجبن أدركه)
    - وعن عبادة بن الوليد بن عبادة عن أبيه عن جده قال: ((بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم
    أقوال السلف والعلماء في الشَّجَاعَة

    - قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه لخالد بن الوليد: (احرص على الموت، توهب لك الحياة)

    - وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (الجبن والشَّجَاعَة غرائز في النَّاس، تلقى الرجل يقاتل عمن لا يعرف، وتلقى الرجل يفر عن أبيه)
    - وخطب عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، النَّاس لما بلغه قتل أخيه مصعب، فقال: (إن يقتل فقد قتل أبوه، وأخوه، وعمه، إنا والله لا نموت حتفًا، ولكن نموت قعصًا بأطراف الرماح، وموتًا تحت ظلال السيوف، وإن يقتل مصعب فإنَّ في آل الزبير خلفًا منه)
    - وكتب زياد إلى ابن عباس رضي الله عنه: (أن صف لي الشَّجَاعَة، والجبن، والجود، والبخل، فكتب إليه: كتبت تسألني عن طبائع، رُكِّبت في الإنسان تركيب الجوارح، اعلم أنَّ الشجاع يقاتل عمن لا يعرفه، والجبان يفر عن عرسه، وأن الجواد يعطي من لا يلزمه، وأن البخيل يمسك عن نفسه)
    - وقالوا: (حد الشَّجَاعَة سعة الصدر، بالإقدام على الأمور المتلفة)
    - وسئل بعضهم عن الشَّجَاعَة فقال: (جبلَّة نفسٍ أبيَّة، قيل له: فما النَّجدة؟ قال: ثقة النفس عند استرسالها إلى الموت، حتى تحمد بفعلها دون خوف)
    - وقيل لبعضهم: (ما الشَّجَاعَة؟ فقال: صبر ساعة. وقال بعض أهل التجارب: الرجال ثلاثة: فارس، وشجاع، وبطل، فالفارس: الذي يشد إذا شدوا، والشجاع: الداعي إلى البراز والمجيب داعيه، والبطل: الحامي لظهور القوم إذا ولَّوا.
    - قال يعقوب بن السكيت في كتاب ((الألفاظ)): العرب تجعل الشَّجَاعَة في أربع طبقات، تقول: رجلٌ شجاعٌ، فإذا كان فوق ذلك، قالوا: بطلٌ، فإذا كان فوق ذلك، قالوا: بهمةٌ، فإذا كان فوق ذلك، قالوا: أَلْيس
    - وقال بعض الحكماء: (جسم الحرب: الشَّجَاعَة، وقلبها: التدبير، ولسانها: المكيدة، وجناحها: الطاعة، وقائدها: الرفق، وسائقها: النصر)
    - وقال عمرو بن معد يكرب: (الفزعات ثلاثة: فمن كانت فزعته في رجليه، فذاك الذي لا تقله رجلاه، ومن كانت فزعته في رأسه، فذاك الذي يفر عن أبويه، ومن كانت فزعته في قلبه، فذاك الذي لا يقاتل)
    - وقال ابن تيمية: (ولما كان صلاح بني آدم لا يتم في دينهم ودنياهم إلا بالشَّجَاعَة والكرم، بيَّن الله سبحانه أنَّه من تولى عنه بترك الجهاد بنفسه، أبدل الله به من يقوم بذلك، ومن تولَّى عنه بإنفاق ماله، أبدل الله به من يقوم بذلك)
    - وقال ابن القيم: (الجبن والشَّجَاعَة غرائز وأخلاق، فالجبان يفر عن عرسه، والشجاع يقاتل عمَّن لا يعرفه،
    كما قال الشاعر:
    يفر جبان القوم من أم نفسه ويحمي شجاع القوم من لا يناسبه

    والشجاع ضد البخيل؛ لأن البخيل يضن بماله، والشجاع يجود بنفسه،
    كما قال القائل:
    كم بين قوم إنَّما نفقاتهم مال وقوم ينفقون نفوسا)

    - وقال الذهبي: (الشَّجَاعَة والسخاء أخوان، فمن لم يجد بماله، فلن يجود بنفسه)

    فوائد الشَّجَاعَة
    الشَّجَاعَة لها فوائد تعود على الفرد والمجتمع، منها:
    1- أنها سبب لانشراح الصدر:
    قال ابن القيم: (فإنَّ الشجاع منشرح الصدر، واسع البطان، متسع القلب، والجبان أضيق النَّاس صدرًا، وأحصرهم قلبًا، لا فرحة له ولا سرور، ولا لذة له ولا نعيم إلا من جنس ما للحيوان البهيمي، وأما سرور الروح ولذتها، ونعيمها، وابتهاجها، فمحرم على كل جبان، كما هو محرم على كل بخيل، وعلى كل معرض عن الله سبحانه، غافل عن ذكره، جاهل به وبأسمائه تعالى وصفاته ودينه، متعلق القلب بغيره)

    2- الشَّجَاعَة أصل الفضائل:
    فمن يتصف بالشَّجَاعَة يتحلى أيضًا بالنجدة، وعظم الهمة، والثبات، والصبر، والحلم، وعدم الطيش، والشهامة، واحتمال الكد.
    3- الشَّجَاعَة تحمل صاحبها على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق والشيم:
    قال ابن القيم: (والشَّجَاعَة تحمله على عزة النفس، وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وعلى البذل والندى، الذي هو شجاعة النفس، وقوتها، على إخراج المحبوب، ومفارقته، وتحمله على كظم الغيظ، والحلم، فإنَّه بقوة نفسه، وشجاعتها، يمسك عنانها، ويكبحها بلجامها عن النزغ، والبطش، كما قال: ((ليس الشديد بالصرعة، إنَّما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ))، وهو حقيقة الشَّجَاعَة، وهي ملكة يقتدر بها العبد على قهر خصمه)
    4- الرجل الشجاع يحسن الظن بالله:
    قال ابن القيم: (والجبن خلق مذموم عند جميع الخلق، وأهل الجبن: هم أهل سوء الظن بالله، وأهل الشَّجَاعَة والجود: هم أهل حسن الظن بالله، كما قال بعض الحكماء في وصيته: عليكم بأهل السخاء، والشَّجَاعَة، فإنَّهم أهل حسن الظن بالله، والشَّجَاعَة جُنَّة للرجل من المكاره، والجبن إعانة منه لعدوه على نفسه، فهو جند وسلاح يعطيه عدوه ليحاربه به، وقد قالت العرب: الشَّجَاعَة وقاية، والجبن مقتلة، وقد أكذب الله سبحانه أطماع الجبناء في ظنِّهم أنَّ جبنهم ينجيهم من القتل والموت،
    فقال الله تعالى: قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً [الأحزاب: 16]
    5- لا تتم مصلحة الإمارة والسياسة إلا بالشَّجَاعَة:
    قال ابن تيمية: (لا تتم رعاية الخلق وسياستهم، إلا بالجود الذي هو العطاء، والنجدة التي هي الشَّجَاعَة، بل لا يصلح الدين والدنيا إلا بذلك، ولهذا كان من لا يقوم بهما، سلبه الأمر ونقله إلى غيره،
    كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التوبة: 38-39]
    وقال تعالى: هَاأَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد: 38]،
    وقد قال الله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10]،
    فعلق الأمر بالإنفاق الذي هو السخاء، والقتال الذي هو الشَّجَاعَة، وكذلك قال الله تعالى في غير موضع: وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ [التوبة: 41] )
    وقال في موضع آخر: (كما أنَّ عليهم -أي ولاة الأمور- من الشَّجَاعَة والسَّمَاحَة ما ليس على غيرهم؛ لأنَّ مصلحة الإمارة لا تتم إلا بذلك)
    6- الشجاعة تجمع جملة من الفضائل وهي :
    أ- كِبَرُ النفس:
    وهو الاستهانة باليسير، والاقتدار على حمل الكرائه، فصاحبه أبدًا يؤهل نفسه للأمور العظام مع استخفافه لها.
    ب- النَّجدة:
    وهي ثقة النفس عند المخاوف، حتى لا يخامرها جزع.
    ج- عظم الهمة:
    وهي فضيلة للنفس، تحتمل بها سعادة الجد وضدها، حتى الشدائد التي تكون عند الموت.
    د- الثبات:
    وهو فضيلة للنفس، تقوى بها على احتمال الآلام، ومقاومتها في الأهوال خاصة.
    هـ- الحلم:
    وهو فضيلة للنفس، تكسبها الطمأنينة، فلا تكون شغِبَة، ولا يحركها الغضب بسهولة وسرعة.
    و- السكون:
    وهو عدم الطيش، فهو إمَّا عند الخصومات، وإمَّا في الحروب التي يذب بها عن الحريم، أو عن الشريعة. وهو قوة للنفس، تقسر حركتها في هذه الأحوال لشدتها.
    ز- الشهامة:
    وهي الحرص على الأعمال العظام، توقعًا للأحدوثة الجميلة.
    ح- احتمال الكد:
    وهو قوة للنفس، بها تستعمل آلات البدن في الأمور الحسية، بالتمرين وحسن العادة.

    أقسام الشَّجَاعَة

    ذكر الراغب الأصفهاني في كتابه (الذريعة) خمسة أنواع للشجاعة وهي:
    - (سبعيَّة: كمن أقدم لثوران غضب وتطلُّب غَلَبة.
    - وبهيميَّة: كمن حارب توصلًا إلى مأكل أو منكح.
    - وتجريبيَّة: كمن حارب مرارًا فظفر. فجعل ذلك أصلًا يبني عليه.
    - وجهاديَّة: كمن يحارب ذبًّا عن الدين.
    - وحكميَّة: وهي ما تكون في كل ذلك عن فكر، وتمييز، وهيئة محمودة، بقدر ما يجب وعلى ما يجب، ألا ترى أنَّه يحمد من أقدم على كافر؛ غضبًا لدين الله، أو طمعًا في ثوابه، أو خوفًا من عقابه، أو اعتمادًا على ما رأى من إنجاز وعد الله في نصرة أوليائه، فإن كل ذلك محمود، وإن كان محض الشَّجَاعَة هو أن لا يقصد بالإقدام حوز ثواب، أو دفع عقاب...
    ومن الشَّجَاعَة المحمودة مجاهدة الإنسان نفسه، أو غيره، وكل واحد منهما ضربان:
    - مجاهدة النفس بالقول: وذلك بالتعلم، وبالفعل: وذلك بقمع الشهوة، وتهذيب الحمية.
    - ومجاهدة الغير بالقول: وذلك تزيين الحق وتعليمه، وبالفعل: وذلك مدافعة الباطل ومتعاطيه بالحرب)

    مراتب الشجعان

    تحدث ابن القيم عن مراتب الشجعان فقال:
    (أوَّل مراتبهم الهُمام؛ وسمي بذلك لهمته وعزمه، وجاء على بناء فُعَال كشجاع.
    الثاني المقدام؛ وسمي بذلك من الإقدام، وهو ضد الإحجام وجاء على أوزان المبالغة، كمعطاء، ومنحار، لكثير العطاء، والنحر، وهذا البناء يستوي فيه المذكر والمؤنث، كامرأة معطار كثيرة التعطر، ومذكار تلد الذكور.
    الثالث الباسل: وهو اسم فاعل من بسل يبسل، كشرف يشرف، والبسالة الشَّجَاعَة والشدة، وضدها فشل يفشل فشالة، وهي على وزنها فعلًا ومصدرًا وهي الرذالة.
    الرابع البطل: وجمعه أبطال وفي تسميته قولان:
    أحدهما: لأنَّه يبطل فعل الأقران، فتبطل عند شجاعة الشجعان، فيكون بطل بمعنى مفعول في المعنى؛ لأنَّ هذا الفعل غير متعد.
    والثاني: أنَّه بمعنى فاعل لفظًا ومعنى؛ لأنَّه الذي يبطل شجاعة غيره فيجعلها بمنزلة العدم، فهو بطل بمعنى مبطل.
    ويجوز أن يكون بطل بمعنى مبطل بوزن مكرم، وهو الذي قد بطله غيره، فلشجاعته تحاماه النَّاس، فبطلوا فعله باستسلامهم له، وترك محاربتهم إياه.
    الخامس: الصنديد بكسر الصاد)

    صور الشَّجَاعَة


    1- الإقدام في ساحات الوغى في الجهاد في سبيل الله، والاستهانة بالموت.
    2- الجرأة في إنكار المنكر وبيان الحق:
    قال صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الجهاد، كلمة عدلٍ عند سلطانٍ جائر ))

    3- الشَّجَاعَة في الأعمال التي تحتاج إلى تحمل المخاطر ورباطة الجأش:
    كرجال الشرطة، ورجال الإطفاء، وعمال المناجم، وغيرهم.
    4- حضور الذهن عند الشدائد:
    من أكبر مظاهر الشَّجَاعَة، حضور الذهن عند الشدائد، فشجاعٌ من إذا عراه خطبٌ، لم يذهب برشده، بل يقابله برزانة وثبات، ويتصرف فيه بذهن حاضر، وعقل غير مشتت
    5- الشَّجَاعَة الأدبية:
    والمراد بها أن يبدي الإنسان رأيه، وما يعتقد أنَّه الحق، مهما ظنَّ النَّاس به، أو تقوَّلوا عليه، فيقول الحق بأدب، وإن تألَّم منه النَّاس، ويعترف بالخطأ، وإن نالته عقوبة، ويرفض العمل بما لا يراه صوابًا

    وسائل اكتساب خلق الشَّجَاعَة

    1- اللجوء إلى الله بالدعاء والإكثار من الذكر:
    قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ [الأنفال:45]
    (للعلماء في هذا الذكر ثلاثة أقوال:
    الأول: اذكروا الله عند جزع قلوبكم، فإن ذكره يعين على الثبات في الشدائد.
    الثاني: اثبتوا بقلوبكم، واذكروه بألسنتكم، فإن القلب لا يسكن عند اللقاء ويضطرب اللسان، فأمر بالذكر حتى يثبت القلب على اليقين، ويثبت اللسان على الذكر،
    ويقول ما قاله أصحاب طالوت: وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة: 250] ، وهذه الحالة لا تكون إلا عن قوة المعرفة، واتقاد البصيرة، وهي الشَّجَاعَة المحمودة في النَّاس.
    الثالث: اذكروا ما عندكم من وعد الله لكم في ابتياعه أنفسكم ومثامنته لكم)

    2- (ترسيخ عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر، وأن الإنسان لن يصيبه إلا ما كتب الله له.
    3- ترسيخ عقيدة الإيمان باليوم الآخر.
    4- غرس اليقين بما أعده الله من النعيم في الجنة، للذين يقاتلون في سبيل الله.
    5- التدريب العملي بدفع الإنسان إلى المواقف المحرجة، التي لا يتخلص منها إلا بأن يتشجع.
    6- الاقتناع بأن معظم مثيرات الجبن، لا تعدو كونها مجرد أوهام لا حقيقة لها.
    7- القدوة الحسنة وعرض مشاهد الشجعان، وذكر قصصهم.
    8- إثارة دوافع التنافس، ومكافأة الأشجع بعطاءات مادية)
    ضوابط استعمال الشَّجَاعَة

    1- الاستعانة بها في طاعة الله، ومن ذلك الجهاد في سبيل الله:
    فيجب استعمال الشَّجَاعَة فيما يقربِّ إلى الله سبحانه وتعالى، من مقارعة الأعداء، والإقدام في ساحات الوغى في الجهاد في سبيل الله.
    قال ابن تيمية: (ومما ينبغي أن يعلم أن الشَّجَاعَة، إنَّما فضيلتها في الدين لأجل الجهاد في سبيل الله، وإلا فالشَّجَاعَة إذا لم يستعن بها صاحبها على الجهاد في سبيل الله كانت إمَّا وبالًا عليه إن استعان بها صاحبها على طاعة الشيطان، وإمَّا غير نافعة له إن استعملها فيما لا يقربه إلى الله تعالى، فشجاعة علي، والزبير، وخالد، وأبي دجانة، والبراء بن مالك، وأبي طلحة، وغيرهم من شجعان الصحابة إنَّما صارت من فضائلهم؛ لاستعانتهم بها على الجهاد في سبيل الله، فإنَّهم بذلك استحقوا ما حمد الله به المجاهدين،
    وإذا كان كذلك فمعلومٌ أنَّ الجهاد منه ما يكون بالقتال باليد، ومنه ما يكون بالحجة والبيان والدعوة،
    قال الله تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان:51-52] ، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يجاهد الكفار بالقرآن جهادًا كبيرًا، وهذه السورة مكيَّة نزلت بمكة قبل أن يهاجر النَّبي، وقبل أن يؤمر بالقتال، ولم يؤذن له، وإنَّما كان هذا الجهاد بالعلم والقلب، والبيان والدعوة لا بالقتال، وأما القتال فيحتاج إلى التدبير، والرأي، ويحتاج إلى شجاعة القلب، وإلى القتال باليد، وهو إلى الرأي والشَّجَاعَة في القلب، في الرأس المطاع، أحوج منه إلى قوة البدن)
    2- أن تكون في موضعها:
    فـيُقْدِمُ الشجاع في موضع الإقدام، ويثبت في موضع الثبات، ويحجم في موضع الإحجام.
    وقال ابن القيم: (ولما كانت الشَّجَاعَة خلقًا كريمًا من أخلاق النفس ترتب عليها أربعة أمور: وهي مظهرها وثمرتها، الإقدام في موضع الإقدام، والإحجام في موضع الإحجام، والثبات في موضع الثبات، والزوال في موضع الزوال. وضد ذلك مخلٌّ بالشَّجَاعَة، وهو إمَّا جبن، وإمَّا تهور، وأما خفة وطيش)
    3- أن تقترن بالرأي الصحيح:
    قال ابن القيم: (وإذا اجتمع في الرجل الرَّأي والشَّجَاعَة، فهو الذي يصلح لتدبير الجيوش وسياسة أمر الحرب. والنَّاس ثلاثة، رجل، ونصف رجل، ولا شيء، فالرَّجل من اجتمع له أصالة الرأي والشَّجَاعَة، فهذا الرجل الكامل،
    ونصف الرجل، وهو من انفرد بأحد الوصفين دون الآخر، والذي هو لا شيء، من عري من الوصفين جميعًا)
    وقال أيضًا: (وصحة الرأي لقاح الشَّجَاعَة، فإذا اجتمعا كان النصر والظفر، وإن قعدا فالخذلان والخيبة، وإن وجد الرأي بلا شجاعة فالجبن والعجز، وإن حصلت الشَّجَاعَة بلا رأي فالتَّهور والعطب، والصبر لقاح البصيرة، فإذا اجتمعا فالخير في اجتماعهما، قال الحسن: إذا شئت أن ترى بصيرًا لا صبر له رأيته، وإذا شئت أن ترى صابرًا لا بصيرة له رأيته، فإذا رأيت صابرًا بصيرًا فذاك)
    نماذج من شجاعة النَّبي صلى الله عليه وسلم

    - عن علي رضي الله عنه قال: (لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد النَّاس يومئذ بأسًا)
    - قال رجل للبراء رضي الله عنه: ((يا أبا عمارة، أفررتم يوم حنين؟ قال: لا والله، ما ولَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه خرج شبان أصحابه وأَخِفَّاؤُهم حُسَّرًا ليس عليهم سلاح أو كثير سلاح، فلقوا قومًا رماة لا يكاد يسقط لهم سهم، جمع هوازن، وبني نصر، فرشقوهم رشقًا ما يكادون يخطئون، فأقبلوا هناك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود به، فنزل فاستنصر وقال: أنا النَّبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، ثُمَّ صفَّهم ))
    - وعن عباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: ((شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم نفارقه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي، فلما التقى المسلمون والكفار، ولَّى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قِبَلَ الكفار، قال عباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها؛ إرادةَ أن لا تسرع، وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيْ عباس، ناد أصحاب السمرة. فقال عباس: -وكان رجلًا صيِّتًا- فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة، قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي، عطفة البقر على أولادها. فقالوا: يا لبيك يا لبيك، قال: فاقتتلوا والكفار، والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار، قال: ثُمَّ قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج، فقالوا: يا بني الحارث بن الخزرج، يا بني الحارث بن الخزرج، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا حين حمي الوطيس ))
    - وعن أنس رضي الله عنه قال: ((كان النَّبي صلى الله عليه وسلم أحسن النَّاس، وأجود النَّاس، وأشجع النَّاس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق النَّاس قِبَل الصوت، فاستقبلهم النَّبي صلى الله عليه وسلم، قد سبق النَّاس إلى الصوت وهو يقول: لن تراعوا لن تراعوا، وهو على فرس لأبي طلحة عري، ما عليه سرج، في عنقه سيف، فقال: لقد وجدته بحرًا، أو إنَّه لبحر

    نماذج من شجاعة الصحابة رضي الله عنهم

    (وقد كان الموروث صلوات الله وسلامه عليه أشجع النَّاس، فكذلك وارثه وخليفته من بعده أشجع الأمة بالقياس،
    ويكفي أنَّ عمر بن الخطاب سهم من كنانته، وخالد بن الوليد سلاح من أسلحته، والمهاجرون والأنصار أهل بيعته وشوكته،
    وما منهم إلا من اعترف أنَّه يستمد من ثباته وشجاعته)

    شجاعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
    قال ابن القيم رحمه الله: (وكان الصديق رضي الله عنه أشجع الأمة بعد رسول الله... برز على الصحابة كلهم بثبات قلبه،
    في كل موطن من المواطن التي تزلزل الجبال، وهو في ذلك ثابت القلب، ربيط الجأش، يلوذ به شجعان الصحابة وأبطالهم، فيثبتهم ويشجعهم، ولو لم يكن له إلا ثبات قلبه يوم الغار، وليلته، وثبات قلبه يوم بدر، وهو يقول للنَّبي يا رسول الله كفاك بعض مناشدتك ربك، فإنه منجز لك ما وعدك، وثبات قلبه يوم أحد، وقد صرخ الشيطان في النَّاس بأن محمدًا قد قتل، ولم يبق أحد مع رسول الله إلا دون عشرين في أحد، وهو مع ذلك ثابت القلب ساكن الجأش، وثبات قلبه يوم الخندق وقد زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وثبات قلبه يوم الحديبية، وقد قلق فارس الإسلام عمر بن الخطاب، حتى إنَّ الصديق ليثبته ويسكنه ويطمئنه، وثبات قلبه يوم حنين حيث فر النَّاس وهو لم يفر، وثبات قلبه حين النازلة التي اهتزت لها الدنيا أجمع، وكادت تزول لها الجبال، وعقرت لها أقدام الأبطال، وماجت لها قلوب أهل الإسلام ،كموج البحر عند هبوب قواصف الرياح، وصاح لها الشيطان في أقطار الأرض أبلغ الصياح، وخرج النَّاس بها من دين الله أفواجًا، وأثار عدو الله بها أقطار الأرض عجاجًا، وانقطع لها الوحي من السماء، وكاد لولا دفاع الله لطمس نجوم الاهتداء، وأنكرت الصحابة بها قلوبهم، وكيف لا وقد فقدوا رسولهم من بين أظهرهم، وحبيبهم، وطاشت الأحلام، وغشي الآفاق ما غشيها من الظلام، واشْرَأَبَّ النفاق، ومد أهله الأعناق، ورفع الباطل رأسًا كان تحت قدم الرسول موضوعًا، وسمع المسلمون من أعداء الله ما لم يكن في حياته بينهم مسموعًا، وطمع عدو الله أن يعيد النَّاس إلى عبادة الأصنام،
    وأن يصرف وجوههم عن البيت الحرام، وأن يصد قلوبهم عن الإيمان والقرآن، ويدعوهم إلى ما كانوا عليه من التهود، والتمجس، والشرك، وعبادة الصلبان، فشمَّر الصديق رضي الله عنه من جده عن ساق غير خوار، وانتضى سيف عزمه الذي هو ثاني ذي الفقار، وامتطى من ظهور عزائمه جوادًا لم يكن يكبو يوم السباق، وتقدم جنود الإسلام فكان أفرسهم إنَّما همه اللحاق، وقال والله لأجاهدن أعداء الإسلام جهدي، ولأصدقنهم الحرب حتى تنفرد سالفتي، أو أفرد وحدي، ولأدخلنهم في الباب الذي خرجوا منه، ولَأَرُدَّنَّهُمْ إلى الحق الذي رغبوا عنه، فثبَّت الله بذلك القلب الذي لو وزن بقلوب الأمة لرجحها جيوش الإسلام، وأذلَّ بها المنافقين، والمرتدين، وأهل الكتاب، وعبدة الأصنام، حتى استقامت قناة الدين من بعد اعوجاجها، وجرت الملة الحنيفية على سننها ومنهاجها، وتولَّى حزب الشيطان وهم الخاسرون، وأذَّن مؤذن الإيمان على رؤوس الخلائق فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة: 56]
    هذا وما ضعفت جيوش عزماته، ولا استكانت ولا وهنت، بل لم تزل الجيوش بها مؤيَّدة ومنصورة، وما فرحت عزائم أعدائه بالظفر في موطن من المواطن، بل لم تزل مغلوبة مكسورة، تلك لعمر الله الشَّجَاعَة التي تضاءلت لها فرسان الأمم، والهمَّة التي تصاغرت عندها عليات الهمم، ويحق لصديق الأمة أن يضرب من هذا المغنم بأوفر نصيب، وكيف لا وقد فاز من ميراث النبوة بكمال التعصب)
    - وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال ((لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر بعده وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل النَّاس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل النَّاس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله. فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه. فقال عمر بن الخطاب فوالله ما هو إلا أن رأيت الله عزَّ وجلَّ قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنَّه الحق ))

    - وعن عروة بن الزبير، قال: سألت ابن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنَّبي صلى الله عليه وسلم،
    قال: ((بينا النَّبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنقه، فخنقه خنقا شديدًا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم وقال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ الآية [غافر: 28] ))
    - وعن محمد بن عقيل بن أبي طالب، قال: (خطبنا علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فقال: أيها النَّاس، أخبروني بأشجع النَّاس، قالوا: لو قلنا أنت يا أمير المؤمنين، فقال: أما إني ما بارزت أحدًا إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني بأشجع النَّاس؟
    قالوا: لا نعلم، فمن؟ قال: أبو بكر الصديق، إنا لما كان يوم بدر جعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشًا
    فقلنا: من يكون مع النَّبي صلى الله عليه وسلم لا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر شاهرًا بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يهوي إليه أحد إلا هوى إليه، وهذا أشجع النَّاس،
    قال علي: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذته قريش فهذا يجؤه، وهذا يتلتله،
    وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلهًا واحدًا، قال: فوالله ما دنا منه إليه أحد إلا أبو بكر، يضرب هذا، ويجأ هذا، ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله، ثم رفع علي بردة كانت عليه فبكى حتى أخضل لحيته،
    ثم قال علي: أنشدكم الله، أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر ؟ قال: فسكت القوم، فقال: ألا تجيبوني ؟
    والله لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض مثل مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه)
    شجاعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
    - عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: (ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر )
    - وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: (لما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لم تعلم قريش بإسلامه،
    فقال: أي أهل مكة أنشأ للحديث؟ فقالوا: جميل بن معمر الجمحي، فخرج إليه وأنا معه أتبع أثره، أعقل ما أرى وأسمع، فأتاه
    فقال: يا جميل، إني قد أسلمت، قال: فوالله ما رد عليه كلمة حتى قام عامدًا إلى المسجد، فنادى أندية قريش،
    فقال: يا معشر قريش، إنَّ ابن الخطاب قد صبأ، فقال عمر: كذب ولكني أسلمت وآمنت بالله، وصدَّقت رسوله، فثاوروه، فقاتلهم حتى ركدت الشمس على رؤوسهم، حتى فتر عمر وجلس، فقاموا على رأسه، فقال عمر: افعلوا ما بدا لكم، فوالله لو كنا ثلاث مائة رجل لقد تركتموها لنا أو تركناها لكم...)
    - وعن محمد بن إسحاق قال: (فلما قدم عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو ابن العاص، على قريش ولم يدركوا ما طلبوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وردهم النجاشي بما يكرهون، أسلم عمر بن الخطاب، وكان رجلًا ذا شكيمة، لا يرام ما وراء ظهره، امتنع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحمزة بن عبد المطلب، حتى غزا قريشًا، فكان عبد الله بن مسعود يقول: ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر بن الخطاب، فلما أسلم قاتل قريشًا حتى صلَّى عند الكعبة وصلَّينا معه،
    وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة)
    شجاعة علي رضي الله عنه:
    - عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه - في سياق ذكره ليوم خيبر - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لأعطين الراية رجلًا يحب الله ورسوله، أو يحبه الله ورسوله. قال: فأتيت عليًّا فجئت به أقوده وهو أرمد، حتى أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فبسق في عينيه فبرأ، وأعطاه الرَّاية
    شجاعة الزبير رضي الله عنه:
    - عن عمرو بن دينار قال كان يقال: (أشجع النَّاس الزبير، وأبسلهم علي رضي الله عنهما، والباسل فوق الشجاع)
    - وعن هشام بن عروة، عن أبيه، (أنَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا للزبير يوم اليرموك، ألا تشد فنشد معك؟
    فقال: إنِّي إن شددت كذبتم، فقالوا لا نفعل، فحمل عليهم حتى شق صفوفهم فجاوزهم وما معه أحد، ثم رجع مقبلًا فأخذوا بلجامه فضربوه ضربتين على عاتقه بينهما ضربة ضربها يوم بدر، قال عروة: كنت أدخل أصابعي في تلك الضربات ألعب وأنا صغير )

    - وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: ((كنت يوم الأحزاب، جعلت أنا وعمر بن أبي سلمة في النساء، فنظرت فإذا أنا بالزبير على فرسه يختلف إلى بني قريظة مرتين، أو ثلاثًا، فلما رجعت قلت يا أبت رأيتك تختلف، قال: أو هل رأيتني يا بني؟ قلت: نعم، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من يأت بني قريظة فيأتيني بخبرهم؟ فانطلقت فلما رجعت جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه، فقال: فداك أبي وأمي ))
    شجاعة خالد بن الوليد رضي الله عنه:
    قال خالد بن الوليد رضي الله عنه: (لقد رأيتني يوم مؤتة تقطَّعت في يدي تسعة أسياف، وصبرت في يدي صفيحة لي يمانية )
    ولما احتضر قال: (لقد طلبت القتل مظانه، فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي، وما من عملي شيءٌ أرجى عندي بعد لا إله إلا الله من ليلة بتها وأنا متترس بترسي، والسماء تهلبني ننتظر الصبح حتى نغير على الكفار، ثُمَّ قال: إذا أنا مت فانظروا سلاحي وفرسي فاجعلوها عدَّة في سبيل الله عزَّ وجلَّ)
    شجاعة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:
    عن عامر بن سعد عن أبيه رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع له أبويه قال: كان رجل من المشركين قد خرق المسلمين، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم لسعد: ارم فداك أبي وأمي، قال: فنزعت بسهم لي فيه نصل، فأصبت جنبه، فوقع وانكشفت عوراته، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نظرت إلى نواجذه ))
    نماذج أخرى من شجاعة الصحابة رضي الله عنهم:
    - عن أنس رضي الله عنه، قال: ((غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئنِ اللهُ أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني أصحابه، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني المشركين، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ،
    فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر، إنِّي أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع،
    قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربةً بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه، قال أنس كنا نرى، أو نظن أنَّ هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ إلى آخر الآية ))
    - وعنه رضي الله عنه، قال: ((أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ سيفًا يوم أحد فقال: من يأخذ مني هذا؟ فبسطوا أيديهم كل إنسان منهم يقول أنا أنا. قال: فمن يأخذه بحقه؟ قال: فأحجم القوم، فقال سماك بن خرشة أبو دجانة: أنا آخذه بحقه. قال فأخذه ففلق به هام المشركين ))

    ----------------------------------------------------------------
    وما زلنا أحبابنا تابعونا جزاكم الله خيرا
    ولا تنسونا من صالح دعائكم


    عدل سابقا من قبل sadekalnour في الأربعاء يونيو 22, 2022 2:20 pm عدل 1 مرات

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    ألأخلاق في  ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني Empty ألأخلاق في نظر ألإسلام .. الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف صادق النور الثلاثاء يونيو 21, 2022 1:43 pm

    ومن ألأخلاق المحموده
    الشَّفَقَة
    معنى الشَّفَقَة لغةً:
    الشَّفَق والشَّفَقَة: رِقَّة مِنْ نُصْحٍ أو حُبٍّ، يؤدِّي إلى خوفٍ، والشَّفَقَة: الاسم من الإشْفَاق.. وأَشْفَقْت عليه، فأنا مُشْفِق وشَفِيق.
    والشَّفَق: الخوف، تقول: أنا مُشْفِق عليك، أي: خائف. وأنا مُشْفِق من هذا الأمر، أي: خائف. والشَّفَق -أيضًا- الشَّفَقَة، وهو أن يكون النَّاصح -من بلوغ نُصْحه- خائفًا على المنصُوح، تقول: أَشْفَقْت عليه أن يناله مكروه، والشَّفِيق: النَّاصح الحريص على صلاح المنصوح
    معنى الشَّفَقَة اصطلاحًا:
    قال الرَّاغب: (الإشْفَاق عناية مختلطة بخوف)
    قال ابن القيِّم: (الإشْفَاق رِقَّة الخوف، وهو خوف برحمة من الخائف لمن يُخاف عليه، فنسبته إلى الخوف، نسبة الرَّأفة إلى الرَّحمة، فإنَّها ألطف الرَّحمة وأرقُّها)
    قال الجرجاني: (هي صرف الهمَّة إلى إزالة المكروه عن النَّاس)
    الفرق بين الشَّفَقَة وبعض الصِّفات
    - الفرق بين الشَّفَقَة والخَشْيَة:
    قال أبو هلال: (إنَّ الشَّفَقَة ضرب من الرِّقَّة وضعف القلب، ينال الإنسان، ومِنْ ثمَّ يُقال للأمِّ: أنَّها تُشْفِق على ولدها، أي: تَرِقُّ له، وليست هي من الخَشْيَة والخوف في شيء، والشَّاهد قوله تعالى: إنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ [المؤمنون:57] ، ولو كانت الخَشْيَة هي الشَّفَقَة، لما حَسُن أن يقول ذلك، كما لا يَحْسُن أن يقول: يَخْشَون من خَشْيَة ربِّهم. ومن هذا الأصل قولهم: ثوبٌ شَفَقٌ، إذا كان رقيقًا... فقولك: أَشْفَقت من كذا، معناه: ضَعُف قلبي عن احتماله)
    - الفرق بين الشَّفَقَة والرِّقَّة:
    قال أبو هلال: (إنَّه قد يرِقُّ الإنسان لمن لا يُشْفِق عليه، كالذي يَئِد الموْؤُدَة، فيَرِقُّ لها -لا محالة-؛ لأنَّ طبع الإنسانيَّة يوجب ذلك، ولا يُشْفِق عليها، لأنَّه لو أَشْفَق عليها ما وَأَدَها)
    التَّرغيب في الشَّفَقَة من السنة النبوية

    - عن ابن عمر رضي الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، ومَن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومَن فرَّج عن مسلم كربةً، فرج الله عنه كربةً مِن كربات يوم القيامة، ومَن ستر مسلمًا، ستره الله يوم القيامة ))
    ورواه التِّرمذي بلفظ آخر وقال في تبويبه له: (ما جاء في شَفَقَة المسلم على المسلم)
    - وعن النُّعمان بن بَشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مَثَلُ الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تَدَاعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمَّى ))
    قال ابن حبان: (وفيه مَثَّل النَّبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بما يجب أن يكونوا عليه من الشَّفَقَة والرَّأفة)
    - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أمَّ أحدكم النَّاس فليُخَفِّف؛ فإنَّ فيهم الصَّغير والكبير والضَّعيف والمريض، فإذا صلَّى وحْدَه، فليصل كيف شاء ))
    قال ابن عثيمين: (ومن الشَّفَقَة والرَّحمة بالمؤمنين: أنَّه إذا كان الإنسان إمامًا لهم، فإنَّه لا ينبغي له أن يُطِيل عليهم في الصَّلاة... والمراد بالتَّخفيف: ما وافق سُنَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم، هذا هو التَّخفيف، وليس المراد بالتَّخفيف ما وَافَق أهواء النَّاس)
    - وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: لما جاء نعي جعفر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اصنعوا لآل جعفر طعامًا، فقد أتاهم ما يشغلهم، أو أمر يشغلهم ))
    قال وليُّ الله الدَّهْلوي: (هذا نهاية الشَّفَقَة بأهل المصيبة، وحفظهم من أن يتضوَّروا بالجوع)
    أقوال السَّلف والعلماء في الشَّفَقَة

    - عن أسلم (أنَّ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه استعمل مولى له -يُدْعى هُنَيًّا- على الحِمَى، فقال: يا هُني، اضْمُم جناحك عن المسلمين، واتَّق دعوة المظلوم؛ فإنَّ دعوة المظلوم مستجابة)
    قال العيني: (قوله: اضْمُم جناحك، ضَمُّ الجَناح: كناية عن الرَّحمة والشَّفَقَة، وحاصل المعنى: كُفَّ يدك عن ظلم المسلمين)
    - وعن عبد الملك بن حميد، قال: كنَّا مع عبد الملك بن صالح بدمشق، فأصاب كتابًا في ديوان دمشق: (بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، من عبد الله بن عبَّاس، إلى معاوية بن أبي سفيان، سلام عليك، فإنِّي أحمد إليك الله، الذي لا إله إلا هو، عصمنا الله وإيَّاك بالتَّقوى... أمَّا بعد، فإنَّك من ذوي النُّهى من قريش، وأهل الحلم والخُلُق الجميل منها، فليَصْدر رأيك بما فيه النَّظر لنفسك، والتَّقيَّة على دينك، والشَّفَقَة على الإسلام وأهله، فإنَّه خير لك، وأوفر لحظِّك في دنياك وآخرتك)
    - وقال الجنيد -عندما سُئل عن الشَّفَقَة على الخَلْق ما هي؟-: (تعطيهم من نفسك ما يطلبون، ولا تحمِّلهم ما لا يطيقون، ولا تخاطبهم بما لا يعلمون)
    - وقال أبو الخير: (القلوب ظُرُوف، فقلب مملوء إيمانًا، فعلامته الشَّفَقَة على جميع المسلمين، والاهتمام بما يهمُّهم، ومعاونتهم على أن يعود صلاحه إليهم. وقلب مملوء نفاقًا، فعلامته الحقد والغلُّ والغشُّ والحسد)
    وقال المناوي: (الشَّفَقَة تَحَنُّن الرَّأفة، والإكباب على من يُشفِق عليه، وإنَّما يصير مُنكبًّا بشدَّة الرَّأفة، فإذا كانت الشَّفَقَة بغير مِعَةٍ -مشتقَّة من أمعاء البطن-انتشرت فأفسدت، وإذا كانت في مِعَةٍ، كانت في حصن، فلم تنتشر، ولم تَفْسَد؛ لأنَّ هنا حدًّا يحويها)
    فوائد الشَّفَقَة
    1- أنَّ المتَحَلِّي بها يتحلَّى بخُلُق تحلَّى به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    2- أنَّ أهلها مخصوصون برحمة الله، جزاءً لشَفَقَتهم ورحمتهم بخَلْقه.
    3- أنَّ من ثمارها: محبَّة الله للعبد، ومن ثمَّ محبَّة النَّاس له.
    4- أنَّها ركيزة عظيمة ينبني عليها مجتمع مسلم متماسك، يعطف بعضه على بعض، ويُشفق بعضه على بعض.
    5- أنَّها مظهر من مظاهر العِشْرة الطَّيِّبة، قال محمَّد الغزي: (ومنها: أن تكون الشَّفَقَة على الأخ الموافق أكثر من الشَّفَقَة على الولد. قال أبو زائدة: كتب الأحنف إلى صديق له: أمَّا بعد، فإذا قدم أخ لك موافق، فليكن منك بمنزلة السَّمع والبصر؛
    فإنَّ الأخ الموافق أفضل من الولد المخالف. ألم تسمع قول الله عزَّ وجلَّ لنوح -عليه السَّلام- في ابنه: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود: 46] )
    6- من أعظم فوائدها: أنَّها خُلق مُتعدٍّ إلى جميع خَلْق الله: من إنسان أو حيوان، بعيدٍ أو قريبٍ، مسلمٍ أو غير مسلمٍ.
    7- أنَّها سبب للالتفات إلى ضَعفة المجتمع من الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام والكبار والعَجَزة.
    وغير ذلك من الفوائد العظيمة..

    الشفقة المذمومة

    الشَّفَقَة المذمومة: وهو ما يحصل بسببها تعطيل لشرع الله، أو تهاون في تطبيق حدوده وأوامره، كمن يُشْفِق على من ارتكب جُرمًا يستحق به حدًّا، فيحاول إقالته والعفو عنه، ويحسب أنَّ ذلك من الشَّفَقَة على الخَلق، وهو ليس منها في شيء.
    قال الحسن: (إن منعته أُمُّه عن العشاء في الجماعة -شفقةً- لم يُطِعها)
    قال العيني: (يعني: إن منعت الرَّجل أُمُّه عن الحضور إلى صلاة العشاء مع الجماعة شَفَقَة عليه، أي: لأجل الشَّفَقَة.
    لم يُطِع أمَّه فيه.. مع أنَّ طاعة الوالدين فرض في غير المعصية، وإنَّما عيَّن العشاء، مع أنَّ الحُكم في كلِّ الصَّلوات سواء؛
    لكونها من أثقل الصَّلاة على المنافقين... وإنَّما عيَّن الأمَّ مع أنَّ الأب كذلك في وجوب طاعتهما؛ لأنَّ الأمَّ أكثر شَفَقَة من الأب على الأولاد)
    وعن عامر بن سعد، أنَّ أسامة بن زيد رضي الله عنه أخبر والده سعد بن أبي وقاص: ((أنَّ رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنِّي أَعْزِل عن امرأتي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لِمَ تفعل ذلك؟ فقال الرَّجل: أُشفِق على ولدها، أو على أولادها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان ذلك ضارًّا، ضرَّ فارس والرُّوم )) وقال زهير في روايته: (إن كان لذلك فلا، ما ضارَّ ذلك فارس ولا الرُّوم)
    أو كمن يُشْفِق على الطُّلَّاب فيتركهم يغشُّون في الامتحان شَفَقَة منه عليهم أن يرسبوا.
    أو كمن يَقتل من الأطباء -بدافع الشَّفَقَة- مرضاهم الذين لا يُرجى شفاؤهم، ويتألَّمون من مرضهم.. فكلُّ هذا ممَّا لا تجوز فيه الشَّفَقَة.

    درجات الشَّفَقَة

    للشَّفَقَة ثلاث درجات، كما ذكر الإمام الهروي في كتابه ((منازل السائرين)):
    (الدَّرجة الأولى: إشْفَاق على النَّفس أن تَجْمَح إلى العِناد، وإشْفَاق على العمل أن يصير إلى الضَّياع، وإشْفَاق على الخليقة لمعرفة معاذيرها)
    قال ابن القيِّم في شرحه للدَّرجة: (إشْفَاق على النَّفس أن تَجْمَح إلى العِناد: أي: تُسرع وتذهب إلى طريق الهوى والعصيان،
    ومعاندة العبوديَّة. وإشْفَاق على العمل أن يصير إلى الضَّياع: أي: يخاف على عمله أن يكون من الأعمال
    التي قال الله فيها: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا [الفرقان:23] ، وهي الأعمال التي كانت لغير الله، وعلى غير أمره وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويخاف -أيضًا- أن يَضِيع عمله في المستقبل، إمَّا بتركه، وإمَّا بمعاصي تفرِّقه وتُحبِطه، فيذهب ضائعًا... قال: وإشْفَاق على الخليقة لمعرفة معاذيرها: هذا قد يوهم نوع تناقض، فإنَّه كيف يُشفِق مع معرفة العُذر؟! وليس بمتناقض، فإنَّ الإشْفَاق -كما تقدَّم- خوف مقرون برحمة، فيُشفِق عليهم من جهة مخالفة الأمر والنَّهي، مع نوع رحمة، بملاحظة جَرَيان القدر عليهم)
    (الدَّرجة الثَّانية: إشْفَاقٌ على الوقت أن يشوبه تفرُّقٌ، وعلى القلب أن يزاحمه عارض، وعلى اليقين أن يُداخله سبب)
    قال ابن القيِّم: (الدَّرجة الثَّانية: إشْفَاق على الوقت أن يشوبه تفرُّق، أي: يحذر على وقته أن يخالطه ما يفرِّقه عن الحضور مع الله عزَّ وجلَّ. قال: وعلى القلب أن يزاحمه عارض، والعارض المزاحم: إمَّا فَتْرة، وإما شُبْهة، وإمَّا شهوة، وكلُّ سبب يعوق السَّالك. قال: وعلى اليقين أن يُداخله سبب، هو الطُّمأنينة إلى من بيده الأسباب كلُّها، فمتى داخل يقينه ركونٌ إلى سبب وتعلُّق به، واطمأنَّ إليه، قدح ذلك في يقينه، وليس المراد قطع الأسباب عن أن تكون أسبابًا، والإعراض عنها، فإنَّ هذا زندقة وكُفر ومُحَال... ولكن الذي يريد أن يُحْذَر منه: إضافة يقينه إلى سبب غير الله، ولا يتعلَّق بالأسباب، بل يَـفْنَى بالمسبِّب عنها)
    (الدَّرجة الثَّالثة: إشْفَاق يصون سعيه من العُجب، ويكُفُّ صاحبه عن مخاصمة الخَلْق، ويحمل المريد على حفظ الجِدِّ)
    قال ابن القيِّم: (الدَّرجة الثَّالثة: إشْفَاقٌ يصون سعيه عن العُجب، ويكُفُّ صاحبه عن مخاصمة الخَلْق، ويحمل المريد على حفظ الجِدِّ. الأوَّل: يتعلَّق بالعمل، والثَّاني: بالخَلْق، والثَّالث: بالإرادة، وكلٌّ منها له ما يُفسده.
    فالعُجب: يُفسد العمل، كما يُفسده الرِّياء، فيُشفِق على سعيه من هذا المفْسِد شَفَقَةً تصونه عنه. والمخاصمة للخَلْق مُفْسِدة للخُلُق،
    فيُشفِق على خُلُقه من هذا المفْسِد شَفَقَةً تصونه عنه. والإرادة يُفْسِدها عدم الجِدِّ، وهو الهزل واللَّعب، فيُشْفق على إرادته مما يُفسدها. فإذا صحَّ له عمله وخُلُقه وإرادته، استقام سلوكه وقلبه وحاله)
    صور الشَّفَقَة
    أ- شَفَقَة الإمام على المأمومين، وتجنُّب ما يشق عليهم:
    1- عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((أَعْتم النَّبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، حتى ذهب عامَّة اللَّيل، وحتى نام أهل المسجد، ثمَّ خرج فصلَّى، فقال: إنَّه لوقتها لولا أن أشقَّ على أمَّتي ))
    2- عن أبي هريرة أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أمَّ أحدكم النَّاس فليُخفِّف؛ فإنَّ فيهم الصَّغير والكبير والضَّعيف والمريض، فإذا صلَّى وحده فليصل كيف شاء ))
    ب- الشَّفَقَة على الأبناء، والعطف عليهم، والحُزن إذا أصابهم مكروه:
    1- عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ((قَدِم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: أتقبِّلون صبيانكم؟ فقالوا: نعم. فقالوا: لكنَّا -والله- ما نُقبِّل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأملك إن كان الله نزع منكم الرَّحمة ))، وقال ابن نمير: ((من قلبك الرَّحمة)) قال ابن عثيمين: (وفي هذا دليلٌ على تقبيل الصِّبيان شَفَقَة عليهم ورقَّة لهم ورحمة بهم)
    2- وعن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: ((أرْسَلت ابنة النَّبي صلى الله عليه وسلم إليه: إنَّ ابنًا لي قُبِض فائتنا.
    فأرسل يقرئ السَّلام، ويقول: إنَّ لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكلٌّ عنده بأجل مسمًّى، فلتصبر ولتحتسب.
    فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينَّها، فقام، ومعه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأبيُّ بن كعب، وزيد بن ثابت، ورجال،
    فرُفِع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصَّبي ونَفْسُه تتقَعْقَع - قال: حسبته أنَّه قال: كأنَّها شَنٌّ - ففاضت عيناه. فقال سعد: يا رسول الله، ما هذا؟ فقال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنَّما يرحم الله من عباده الرُّحماء ))
    3- عن شدَّاد بن الهاد رضي الله عنه قال: ((خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشاء، وهو حامل حسنًا أو حسينًا، فتقدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه، ثمَّ كبَّر للصَّلاة، فصلَّى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال أبي: فرفعت رأسي، وإذا الصَّبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلمَّا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصَّلاة، قال النَّاس: يا رسول الله، إنَّك سجدتَّ بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها، حتى ظننَّا أنَّه قد حدث أمر، أو أنَّه يُوحى إليك. قال: كلُّ ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتَحَلَني، فكرهت أن أُعْجِلَه حتى يقضي حاجته ))
    فالنَّبي صلى الله عليه وسلم يركب الطِّفل على ظهره الشَّريف وهو ساجد، ولا يقوم من سجوده، ليُكمل الطِّفل لعبه، حتى لا يزعجه، رحمةً به، وشَفَقَةً عليه.
    5- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: ((كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذِّئب، فذهب بابن إحداهما، فقالت صاحبتها: إنَّما ذهب بابنك. وقالت الأخرى: إنَّما ذهب بابنك. فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكُبرى، فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسِّكين، أشقُّه بينهما. فقالت الصُّغرى: لا تفعل -يرحمك الله-، هو ابنها. فقضى به للصُّغرى))
    قال ابن القيِّم: (ولم يكن سليمان ليفعل، ولكن أوهمهما ذلك، فطابت نفس الكبرى بذلك. استرواحًا منها إلى راحة التَّسلِّي، والتَّأسِّي بذهاب ابن الأخرى. كما ذهب ابنها، ولم تطِبْ نفس الصُّغرى بذلك، بل أدركتها شَفَقَة الأمِّ، ورحمتها، فناشدته أن لا يفعل، استرواحًا إلى بقاء الولد، ومشاهدته حيًّا، وإن اتَّصل إلى الأخرى)
    6- عن أسيد بن حضير رضي الله عنه قال: ((بينما هو يقرأ من اللَّيل سورة البقرة، وفرسه مربوط عنده، إذ جالت الفرس، فسكت فسكتت، فقرأ، فجالت الفرس، فسكت وسكتت الفرس، ثمَّ قرأ، فجالت الفرس، فانصرف، وكان ابنه يحيى قريبًا منها، فأشْفَق أن تصيبه، فلما اجْتَرَّه، رفع رأسه إلى السَّماء حتى ما يراها، فلما أصبح، حدَّث النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ يا ابن حضير، اقرأ يا ابن حضير. قال: فأشْفَقت -يا رسول الله- أن تطأ يحيى... ))
    ج - الشَّفَقَة على النِّساء:
    عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: (تزوَّجني الزُّبير، وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء، غير نَاضِح وغير فرسه، فكنت أَعْلِف فرسه، وأستقي الماء، وأَخْرِز غَرْبَه وأعجن، ولم أكن أُحْسِن أخبز، وكان يخبز جارات لي من الأنصار، وكنَّ نِسْوة صِدْقٍ، وكنت أَنْقُل النَّوَى من أرض الزُّبير -التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي، وهي منِّي على ثُـلُثي فَرْسخ، فجئت يومًا والنَّوَى على رأسي، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار، فدعاني، ثمَّ قال: إخ إخ. ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرِّجال... )
    قال النَّووي: (وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشَّفَقَة على المؤمنين والمؤمنات، ورحمتهم ومواساتهم فيما أمكنه)
    الوسائل المعينة على اكتساب الشَّفَقَة

    1- عدم الشِّبَع:
    قال أبو سليمان الدَّاراني: (من شَبِع دخل عليه ستُّ آفات: فَقَد حلاوة المنَاجاة، وتعذَّر حفظ الحِكْمة، وحرمان الشَّفَقَة على الخَلْق؛
    لأنَّه إذا شَبِع، ظنَّ أنَّ الخَلْق كلَّهم شِبَاعٌ، وثُقْل العبادة، وزيادة الشَّهوات، وأنَّ سائر المؤمنين يدورون حول المساجد، والشِّباع يدورون حول المزابل)
    2- عدم الحسد:
    قال أبو عبد الرَّحمن السُّلمي: (الحسد عدوُّ نعمة الله، وإنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تحاسدوا ))، وحسد المسلمين من قلَّة الشَّفَقَة عليهم.
    3- الاختلاط بالضُّعفاء والمساكين وذوي الحاجة:
    فإنَّه ممَّا يُــرَقِّق القلب، ويدعو إلى الرَّحمة والشَّفَقَة بهؤلاء وغيرهم.
    4- مَسْحُ رأس اليتيم:
    ((عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رجلًا شكا إلى رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قسوةَ قلبِه فقال امسَحْ رأسَ اليتيمِ وأطعِمِ المسكينَ))

    نماذج من الأنبياء والمرسلين في الشفقة


    كان الأنبياء -صلوات الله عليهم- يحرصون في التعامل مع أقوامهم على الرَّحمة بهم والشَّفَقَة عليهم، فكانوا يُشْفِقون عليهم بالرَّغم من إيذاء قومهم لهم، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كأنِّي أنظر إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًّا من الأنبياء، ضربه قومه فأَدْمَوه فهو يمسح الدَّم عن وجهه، ويقول: ربِّ اغفر لقومي، فإنَّهم لا يعلمون )
    قال النَّووي: (فيه ما كانوا عليه -صلوات الله وسلامه عليهم- من الحلم والتَّصبُّر والعفو والشَّفَقَة على قومهم، ودعائهم لهم بالهداية والغُفران، وعذرهم في جنايتهم على أنفسهم: بأنَّهم لا يعلمون. وهذا النَّبي المشار إليه من المتقدِّمين، وقد جرى لنبينا صلى الله عليه وسلم مثل هذا يوم أحد)
    نوح عليه السَّلام:
    قال تعالى: وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود:45-46]
    قال السعدي: (لعلَّه -عليه الصَّلاة والسَّلام- حملته الشَّفَقَة، وأنَّ الله وعده بنجاة أهله، ظنَّ أنَّ الوعد لعمومهم: مَنْ آمن، ومَنْ لم يؤمن، فلذلك دعا ربَّه بذلك الدُّعاء، ومع هذا، ففوَّض الأمر لحكمة الله البالغة)
    إبراهيم عليه السَّلام:
    كان نبيُّ الله إبراهيم -عليه السَّلام- شَفِيقًا على النَّاس، وكان يجادل عن قوم لوط، حتى لا يأتيهم العذاب، وذلك لغلبة الشَّفَقَة عليه،
    قال تعالى: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ [هود:74-76]
    قال ابن عجيبة: (ظاهر قوله تعالى: يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ أنَّ مجادلته كانت عن قومه فقط، لغلبة الشَّفَقَة عليه، كما هو شأنه، ولذلك قال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ حتى قال له تعالى: يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا لـمَّا تَحَتَّمَ عليهم العذاب)
    وقال أيضًا: (والحاصل أنَّ إبراهيم -عليه السَّلام- حملته الشَّفَقَة والرَّحمة، حتى صدر، منه ما صدر مع خُلَّته واصطفائيَّته، فالشَّفَقَة والرَّحمة من شأن الصَّالحين والعارفين المقرَّبين، غير أنَّ العارفين بالله -مع مراد مولاهم- يُشْفِقون على عباد الله، ما لم يتعيَّن مراد الله، فالله أرحم بعباده من غيره. ولذلك قال لخليله، لـمَّا تعيَّن قضاؤه: يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا)
    نماذج من شَفَقَة النَّبي صلى الله عليه وسلم
    1- شَفَقَة النَّبي صلى الله عليه وسلم على أمَّته:
    كان صلى الله عليه وسلم شَفِيقًا على أمَّته، رحيمًا بهم، وشَفَقَته ورحمته لم تكن خاصَّة بالمؤمنين، بل كان يُشْفِق على الكافرين ممَّن لا يدين بدين الإسلام. ونشير هنا إلى بعض النَّماذج التي هي من أقواله وسيرته، فصلوات ربِّي وسلامه عليه:
    - عن أنس رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الشَّفاعة: ((أمَّتي أمَّتي ))
    قال الفارسي أبو الحسين: (انظر هل وصف الله عزَّ وجلَّ أحدًا من عباده بهذا الوصف من الشَّفَقَة والرَّحمة التي وَصَف بها حبيبَه صلى الله عليه وسلم ، ألا تراه في القيامة إذا اشتغل النَّاس بأنفسهم كيف يَدَع حَدَث نفسه، ويقول: (أمَّتي أمَّتي )، يرجع إلى الشَّفَقَة عليهم، ويقول: إنِّي أسلمت نفسي إليك، فافعل بي ما شئت، ولا تردَّني في شفاعتي في عبادك)
    2- شَفَقَة النَّبي صلى الله عليه وسلم على الكفَّار:
    عن عائشة -رضي الله عنها- زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّها قالت للنَّبي صلى الله عليه وسلم: ((هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشدَّ ما لقيت منهم يوم العَقَبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يَالِيلَ بن عبد كُلال، فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت. وأنا مهموم على وجهي، فلم أَسْتَفق إلَّا وأنا بِقَرْن الثَّعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلَّتني، فنظرت، فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إنَّ الله قد سمع قول قومك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعث الله إليك مَلَكَ الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني مَلَك الجبال فسلَّم عليَّ، ثمَّ قال: يا محمَّد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين. فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يُخْرِج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئًا ))
    قال ابن حجر: (وفي هذا الحديث بيان شَفَقَة النَّبي صلى الله عليه وسلم على قومه، ومزيد صبره وحلمه،
    وهو موافق لقوله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ [آل عمران: 159] ،
    وقوله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107] )
    3- شَفَقَة النَّبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه:
    - قال صلى الله عليه وسلم لكعب بن مالك: (أَبْشِر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمُّك. قال: قلت أمن عندك -يا رسول الله- أم من عند الله؟ قال: لا بل من عند الله )
    قال ابن القيِّم: (وفى سرور رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وفرحه به واستنارة وجهه دليل على ما جعل الله فيه من كمال الشَّفَقَة على الأمَّة، والرَّحمة بهم والرَّأفة، حتى لعلَّ فرحه كان أعظم من فرح كعب وصاحبيه)
    - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: ((حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطَّائف، فلم ينل منهم شيئًا.
    فقال: إنَّا قافلون، إن شاء الله. قال أصحابه: نرجع ولم نفتتحه! فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغدوا على القتال. فغدوا عليه، فأصابهم جِراح. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّا قافلون غدًا. قال: فأعجبهم ذلك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ))
    قال النَّووي: (معنى الحديث أنَّه صلى الله عليه وسلم قصد الشَّفَقَة على أصحابه والرِّفق بهم بالرَّحيل عن الطَّائف؛ لصعوبة أمره، وشِدَّة الكفَّار الذين فيه، وتقويتهم بحصنهم، مع أنَّه صلى الله عليه وسلم علم أو رجا أنَّه سيفتحه بعد هذا بلا مشقَّة كما جرى...)
    - عن أبي هريرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّما أنا لكم مثل الوالد أعلِّمكم... ))
    قال علي القاري: ((إنَّما أنا لكم مثل الوالد) أي: ما أنا لكم إلا مثل الوالد في الشَّفَقَة لولده، (أعلِّمكم) أي: أمور دينكم)
    4- شَفَقَة النَّبي صلى الله عليه وسلم على الأطفال:
    - عن شدَّاد بن الهاد رضي الله عنه قال: ((خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشاء، وهو حامل حسنًا أو حسينًا، فتقدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه، ثمَّ كبَّر للصَّلاة، فصلَّى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال أبي: فرفعت رأسي، وإذا الصَّبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلمَّا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصَّلاة، قال النَّاس: يا رسول الله، إنَّك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها، حتى ظننَّا أنَّه قد حدث أمر، أو أنَّه يُوحَى إليك. قال: كلُّ ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتَحَلَني فكرهت أن أُعْجِلَه حتى يقضي حاجته ))
    - عن أبي قتادة رضي الله عنه: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلِّي وهو حامل أُمَامَة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي العاص ابن الرَّبيع، فإذا قام حملها، وإذا سجد وضعها؟ قال يحيى: قال مالك: نعم )
    فمن رحمته صلى الله عليه وسلم وشَفَقَته بأُمَامَة أنَّه كان إذا ركع أو سجد يخشى عليها أن تسقط، فيضعها على الأرض.
    قال النَّووي: (وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشَّفَقَة على المؤمنين والمؤمنات، ورحمتهم ومواساتهم فيما أمكنه)

    نماذج من شَفَقَة الصَّحابة

    أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه:
    - عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه قال: ((كنت جالسًا عند النَّبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه، حتى أبدى عن ركبته، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: أما صاحبكم فقد غامر
    فسلَّم، وقال: إنِّي كان بيني وبين ابن الخطَّاب شيء، فأسرعت إليه ثمَّ ندمت، فسألته أن يغفر لي، فأبى عليَّ، فأقبلت إليك.
    فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر. ثلاثًا، ثمَّ إنَّ عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أثمَّ أبو بكر؟ فقالوا: لا. فأتى إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فسلَّم، فجعل وجه النَّبي صلى الله عليه وسلم يتمعَّر، حتى أشْفَق أبو بكر، فجثا على ركبتيه، فقال: يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم. مـرَّتين، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله بعثني إليكم، فقلتم: كَذَبْت. وقال أبو بكر: صَدَق. وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ مـرَّتين، فما أُوذي بعدها ))
    قال العيني: ((حتى أشْفَق أبو بكر)) أي: حتى خاف أبو بكر أن يكون من رسول الله إلى عمر ما يكره)
    عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه:
    - عن الأصمعي، قال: (كلَّم النَّاس عبد الرَّحمن بن عوف أن يكلِّم عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه في أن يلين لهم؛ فإنَّه قد أخاف الأبكار في خدورهنَّ ؛ فكلَّمه عبد الرَّحمن، فالتفت عمر إلى عبد الرَّحمن -رضي الله عنهما- فقال له: يا عبد الرَّحمن! إنِّي لا أجد لهم إلَّا ذلك، والله لو أنَّهم يعلمون ما لهم عندي من الرَّأفة والرَّحمة والشَّفَقَة؛ لأخذوا ثوبي عن عاتقي)

    نماذج من شفقة العلماء

    محمد بن عثمان بن إبراهيم بن زُرعة
    :
    محمد بن عثمان بن إبراهيم بن زُرعة ابن أبي زُرعة بن إبراهيم الثَّقفي.
    قال ابن عساكر: ولي قضاء مصر في سنة أربع وثمانين ومائتين، في إمارة خمارويه.
    كان كثير الشَّفَقَة، رقيق القلب، يَغْرَم عن الفقراء والمستورين إذا أفلسوا، حتى كان بعضهم إذا أراد أن يتنزَّه، أخذ بيد رفيقه فادَّعى عليه عند القاضي، فيعترف ويبكي، ويدَّعي أنَّه لا يقدر على وفائه، ويسأل خصمه فيه، فلا يجيبه، فيغرم عنه.
    وحكى بعض الشَّاميين أنَّه حصلت له إضاقة
    ، فقال لبعض أصدقائه: قدِّمني إلى القاضي فلعلَّه يعطيك عني شيئًا أنتفع به. ففعلت، وقلت: أيَّد الله القاضي: لي على هذا الرَّجل ستون درهمًا صحاحًا. فقال: ما تقول؟ فأقرَّ. فقال: أعطه حقَّه، فبكى، وقال: ما معي شيء. فقال لي: إن رأيت أن تنظره؟ فقلت: لا. قال: فصالحه. فقلت: لا. فقال إنَّك لقيط، فما الذي تريد؟ قلت: السِّجن. فقال: لا تفعل. فأدخل يده تحت مصلَّاه، فأخرج دراهم، فعدَّ لي ستين درهمًا، فدفعتها للرَّجل، وآليت أن لا أفعل ذلك بعدها

    الأمثال في الشَّفَقَة

    - الشَّفيق بسوء ظنٍّ مولع.
    (يراد أنَّ ذا الشَّفَقَة يضع سوء الظَّنِّ في غير موضعه)
    - ما هذا الشَّفَقُ الطَّارِفُ حُبى.
    (الشَّفَق: الشَّفَقَة، والطَّارف: الحادث، وحُبى: اسم امرأة)
    - أشْفَق من أمٍّ على ولد

    ------------------------------------------------------
    وما زلنا أحبابنا تابعونا جزاكم الله خيرا
    ولا تنسونا من صالح دعائكم


    عدل سابقا من قبل sadekalnour في الأربعاء يونيو 22, 2022 2:20 pm عدل 1 مرات

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    ألأخلاق في  ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني Empty ألأخلاق في نظر ألإسلام .. الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف صادق النور الأربعاء يونيو 22, 2022 12:51 pm


    وما زلنا أحبابنا مع خلق من ألأخلاق المحموده في ألأسلام

    خلق  الشهامة

    معنى الشهامة لغةً:
    الشهامة مصدر شهم، وهذه المادة تدلُّ على الذكاء.
    والشهم: الذكي الفؤاد المتوقد، الجلد، والجمع شهام... وقد شهم الرجل، بالضم، شهامة وشهومة إذا كان ذكيًّا، فهو شهم أي جلد.
    وقيل: الشهم معناه في كلام العرب: الحمول، الجيد القيام بما يحمل، الذي لا تلقاه إلا حمولًا، طيب النفس بما حمل
    معنى الشهامة اصطلاحًا:
    قال ابن مسكويه: (الشهامة هي: الحرص على الأعمال العظام توقعًا للأحدوثة الجميلة)
    وقيل الشهامة هي: (الحرص على الأمور العظام؛ توقعًا للذكر الجميل عند الحقِّ والخلق)
    وقيل هي: (عزة النفس وحرصها على مباشرة أمور عظيمة، تستتبع الذكر الجميل)

    أولًا: الترغيب في الشهامة في القرآن الكريم

    - قال تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص: 23- 24]
    قال ابن عطية: (استعمال السؤال بالخطب إنما هو في مصاب، أو مضطهد، أو من يشفق عليه، أو يأتي بمنكر من الأمر، فكأنه بالجملة في شر فأخبرتاه بخبرهما)

    قال الحجازي: (فثار موسى، وتحركت فيه عوامل الشهامة والرجولة، وسقى لهما، وأدلى بدلوه بين دلاء الرجال حتى شربت ماشيتهما)
    - وقال سبحانه: وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء: 104]
    قال السعدي: (ذكر سبحانه ما يقوِّي قلوب المؤمنين، فذكر شيئين: الأول: أن ما يصيبكم من الألم والتعب والجراح ونحو ذلك فإنه يصيب أعداءكم، فليس من المروءة الإنسانية والشهامة الإسلامية أن تكونوا أضعف منهم، وأنتم وإياهم قد تساويتم فيما يوجب ذلك؛ لأن العادة الجارية لا يضعف إلا من توالت عليه الآلام، وانتصر عليه الأعداء على الدوام، لا من يدال مرة، ويدال عليه أخرى)

    ثانيًا: الترغيب في الشهامة في السنة النبوية

    - عن أنس رضي الله عنه، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس،
    قال: وقد فزع أهل المدينة ليلة سمعوا صوتًا، قال: فتلقاهم النبي صلى الله عليه وسلم على فرس لأبي طلحة عُرْيٍ، وهو متقلِّد سيفه، فقال: لم تراعوا، لم تراعوا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجدته بحرًا، يعني الفرس
    ))

    قال القرطبي: (في هذا الحديث ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد جمع له من جودة ركوب الخيل، والشَّجَاعَة، والشهامة، والانتهاض الغائي في الحروب، والفروسية وأهوالها، ما لم يكن عند أحد من الناس،
    ولذلك قال أصحابه عنه: إنه كان أشجع الناس، وأجرأ الناس في حال الباس، ولذلك قالوا: إن الشجاع منهم كان الذي يلوذ بجنابه إذا التحمت الحروب، وناهيك به؛ فإنه ما ولَّى قطُّ منهزمًا، ولا تحدث أحد عنه قط بفرار)

    - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى من الناس إدبارًا، قال: اللهم سبع كسبع يوسف، فأخذتهم سنة حصت كل شيء، حتى أكلوا الجلود والميتة والجيف، وينظر أحدهم إلى السماء، فيرى الدخان من الجوع، فأتاه أبو سفيان، فقال: يا محمد، إنك تأمر بطاعة الله، وبصلة الرحم، وإنَّ قومك قد هلكوا، فادع الله لهم ))
    قال ابن حجر: (قوله: فقيل: يا رسول الله استسق الله لمضر؛ فإنها قد هلكت. إنَّما قال لمضر؛ لأن غالبهم كان بالقرب من مياه الحجاز، وكان الدعاء بالقحط على قريش وهم سكان مكة فسرى القحط إلى من حولهم، فحسن أن يطلب الدعاء لهم، ولعل السائل عدل عن التعبير بقريش؛ لئلا يذكرهم فيذكِّر بجرمهم، فقال: لمضر؛ ليندرجوا فيهم، ويشير أيضًا إلى أنَّ غير المدعو عليهم قد هلكوا بجريرتهم، وقد وقع في الرواية الأخيرة: وإن قومك هلكوا. ولا منافاة بينهما؛ لأنَّ مُضر أيضًا قومه وقد تقدم في المناقب أنه صلى الله عليه وسلم كان من مضر، قوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمضر: إنك لجريء، أي: أتأمرني أن أستسقي لمضر مع ما هم عليه من المعصية والإشراك به؟!)
    فالنبي صلى الله عليه وسلم رغم عداوة قريش وإيذائها للمؤمنين، لما جاءه أبو سفيان يطلب منه الاستسقاء لم يرفض لحسن خلقه، وشهامته، ورغبته في هدايتهم، فإنَّ الشهامة ومكارم الأخلاق مع الأعداء، لها أثر كبير في ذهاب العداوة، أو تخفيفها.

    فوائد الشهامة


    1- الشهامة من مكارم الأخلاق الفاضلة.
    2- إنها من صفات الرجال العظماء.
    3- تشيع المحبة في النفوس.
    4- تزيل العداوة بين الناس.
    5- فيها حفظ الأعراض، ونشر الأمن في المجتمع.
    6- إنَّها علامة على علو الهمة، وشرف النفس.

    موانع اكتساب صفة الشهامة

    1- قسوة القلب.
    2- الأنانية، وخذلان المسلمين، واللامبالاة بمعاناتهم:
    إنَّ خذلان المسلم لأخيه المسلم أمر تنكره الشريعة، وإن من حق المسلم على المسلم أن لا يخذله، (وهو إن حدث ذريعة لخذلان المسلمين جميعًا حيث تنتشر عدوى الأنانية وحب الذات، وإيثار الراحة والمصلحة الخاصة على مشاركة الغير آلامهم وآمالهم، فيكثر التَّنصل من المسؤولية بين المسلمين، حتى يقضي عليهم أعداؤهم واحدًا تلو الآخر، فتموت فيهم خلال الآباء، والشهامة، ونجدة الملهوف، وإغاثة المنكوب، وسوف يجنح المظلوم والضعيف إلى الأعداء طوعًا أو كرهًا، لما يقع به من ضيم وما يصيبه من خذلان من إخوانه ثم ينزوي بعيدًا عنهم، وتنقطع عرى الأخوة بينه وبين من خذلوه وأسلموه للأعداء)

    3- الجبن والبخل:
    فالشهامة إنما تقوم على الشَّجَاعَة لنجدة المحتاج، والكرم لإعانة أصحاب الحاجات، فمن فقدهما ضعفت شهامته، وماتت مروءته.
    4- الذُّل، والهوان، وضعف النفس:
    فالإنسان الذليل والأمة الذليلة أبعد الناس عن النصرة، وتلبية نداء الإغاثة؛ ففاقد الشيء لا يعطيه.
    6- الحقد والعداوة والبغضاء.
    7- تشبه الرجال بالنساء في اللباس، كلبس الذهب والحرير:
    قال ابن القيم: (حرم -الذهب- لما يورثه بملامسته للبدن من الأنوثة والتخنث، وضد الشهامة والرجولة)

    الوسائل المعينة على اكتساب صفة الشهامة


    1- الصبر.
    قال الراغب الأصفهاني: (الصبر يزيل الجزع، ويورث الشهامة المختصة بالرجولية)

    2- الشَّجَاعَة.
    3- علو الهمة وشرف النفس.
    فــ(من سجايا الإسلام التحلي بكبر الهمة، مركز السالب والموجب في شخصك، الرقيب على جوارحك، كبر الهمة يجلب لك بإذن الله خيرًا غير مجذوذ؛ لترقى إلى درجات الكمال، فيجري في عروقك دم الشهامة، والركض في ميدان العلم والعمل، فلا يراك الناس واقفًا إلا على أبواب الفضائل، ولا باسطًا يديك إلا لمهمات الأمور)
    4- العدل والإنصاف.
    5- مصاحبة ذوي الشهامة والنجدة.
    6- الإيمان بالقضاء والقدر.
    فــ (من ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر: أنه يدفع الإنسان إلى العمل والإنتاج والقوة والشهامة؛ فالمجاهد في سبيل الله يمضي في جهاده ولا يهاب الموت؛ لأنه يعلم أن الموت لا بد منه، وأنه إذا جاء لا يؤخر؛ لا يمنع منه حصون ولا جنود،
    أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [النساء: 78]
    قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران: 154] ، وهكذا حينما يستشعر المجاهد هذه الدفعات القوية من الإيمان بالقدر؛ يمضي في جهاده حتى يتحقق النصر على الأعداء، وتتوفر القوة للإسلام والمسلمين)

    نماذج من حياة النبي صلى الله عليه وسلم في الشهامة

    كان للنبي صلى الله عليه وسلم النصيب الأوفى من هذه الصفة،
    فكان صلوات الله وسلامه عليه ((أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، قال: وقد فزع أهل المدينة ليلة سمعوا صوتًا، قال: فتلقاهم النبي صلى الله عليه وسلم على فرس لأبي طلحة عري، وهو متقلد سيفه، فقال: لم تراعوا، لم تراعوا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجدته بحرًا. يعني الفرس ))
    - وعن أبي إسحاق قال سأل رجل البراء رضي الله عنه، فقال يا أبا عمارة أَوَلَّيتم يوم حنين؟ قال البراء وأنا أسمع: ((أما رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُوَلِّ يومئذ، كان أبو سفيان بن الحارث آخذًا بعنان بغلته، فلما غشيه المشركون نزل، فجعل يقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب ))
    وغيرها من الآثار التي تدل على شهامة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

    نماذج من الصحابة رضي الله عنهم في الشهامة

    - عن عبد الرحمن بن عوف قال: (إنِّي لفي الصف يوم بدر، إذ التفت فإذا عن يميني وعن يساري فَتَيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سرًّا من صاحبه: يا عم أرني أبا جهل. فقلت: يا ابن أخي، وما تصنع به؟ قال: عاهدت الله إن رأيته أن أقتله، أو أموت دونه. فقال لي الآخر سرًّا من صاحبه مثله، فما سرني أني بين رجلين مكانهما، فأشرت لهما إليه، فشدا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه، وهما ابنا عفراء )

    قال ابن حجر: (قوله الصقرين.. شبههما به لما اشتهر عنه من الشَّجَاعَة، والشهامة، والإقدام على الصيد، ولأنه إذا تشبث بشيء لم يفارقه حتى يأخذه)
    - وعن أسلم، مولى عمر قال: (خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى السوق، فلحقت عمر امرأة شابة، فقالت: يا أمير المؤمنين، هلك زوجي وترك صبية صغارًا، والله ما ينضجون كراعًا، ولا لهم زرع ولا ضرع، وخشيت أن تأكلهم الضبع، وأنا بنت خفاف بن إيماء الغفاري، وقد شهد أبي الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم. فوقف معها عمر ولم يمض، ثم قال: مرحبًا بنسب قريب، ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطًا في الدار، فحمل عليه غرارتين ملأهما طعامًا، وحمل بينهما نفقة وثيابًا، ثم ناولها بخطامه، ثم قال: اقتاديه، فلن يفنى حتى يأتيكم الله بخير، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، أكثرت لها؟ قال عمر: ثكلتك أمك، والله إني لأرى أبا هذه وأخاها، قد حاصرا حصنًا زمانًا فافتتحاه، ثم أصبحنا نستفيء سهمانهما فيه )

    - وعن سلمة بن الأكوع قال: ((بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره مع رباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا معه، وخرجت معه بفرس طلحة أنديه مع الظهر، فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن الفزاري قد أغار على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستاقه أجمع، وقتل راعيه، قال: فقلت: يا رباح، خذ هذا الفرس فأبلغه طلحة بن عبيد الله، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المشركين قد أغاروا على سرحه، قال: ثم قمت على أكمة، فاستقبلت المدينة، فناديت ثلاثًا: يا صباحاه، ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل وأرتجز، أقول: أنا ابن الأكوع، واليوم يوم الرُّضَّع، فألحق رجلًا منهم فأصك سهمًا في رحله، حتى خلص نصل السهم إلى كتفه، قال: قلت: خذها وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرُّضع قال: فوالله، ما زلت أرميهم وأعقر بهم، فإذا رجع إليَّ فارس أتيت شجرة، فجلست في أصلها، ثم رميته فعقرت به، حتى إذا تضايق الجبل، فدخلوا في تضايقه، علوت الجبل فجعلت أرديهم بالحجارة، قال: فما زلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلفته وراء ظهري، وخلوا بيني وبينه، ثم اتبعتهم أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة، وثلاثين رمحًا، يستخفون ولا يطرحون شيئًا إلا جعلت عليه آرامًا من الحجارة يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى أتوا متضايقًا من ثنية، فإذا هم قد أتاهم فلان بن بدر الفزاري، فجلسوا يتضحون -يعني يتغدون- وجلست على رأس قرن، قال الفزاري: ما هذا الذي أرى؟ قالوا: لقينا من هذا البرح، والله، ما فارقنا منذ غلس يرمينا حتى انتزع كل شيء في أيدينا، قال: فليقم إليه نفر منكم أربعة، قال: فصعد إليَّ منهم أربعة في الجبل، قال: فلما أمكنوني من الكلام، قال: قلت: هل تعرفوني؟ قالوا: لا، ومن أنت؟ قال: قلت: أنا سلمة بن الأكوع، والذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم، لا أطلب رجلًا منكم إلا أدركته، ولا يطلبني رجل منكم فيدركني،
    قال أحدهم: أنا أظنُّ، قال: فرجعوا، فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخللون الشجر،
    قال: فإذا أولهم الأخرم الأسدي، على إثره أبو قتادة الأنصاري، وعلى إثره المقداد بن الأسود الكندي،
    قال: فأخذت بعنان الأخرم، قال: فولوا مدبرين، قلت: يا أخرم، احذرهم لا يقتطعوك حتى يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال: يا سلمة، إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر، وتعلم أنَّ الجنة حقٌّ، والنار حقٌّ، فلا تحُل بيني وبين الشهادة،
    قال: فخليته، فالتقى هو وعبد الرحمن، قال: فعقر بعبد الرحمن فرسه، وطعنه عبد الرحمن فقتله، وتحول على فرسه ولحق أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد الرحمن، فطعنه فقتله،
    فوالذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم، لتبعتهم أعدو على رجلي حتى ما أرى ورائي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولا غبارهم شيئًا حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له: ذو قرد ليشربوا منه وهم عطاش،
    قال: فنظروا إلي أعدو وراءهم، فخليتهم عنه -يعني أجليتهم عنه- فما ذاقوا منه قطرة، قال: ويخرجون فيشتدون في ثنية،
    قال: فأعدو فألحق رجلًا منهم، فأصكه بسهم في نغض كتفه، قال: قلت: خذها وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرُّضَّع.
    قال: يا ثكلته أمه، أكوعُه بُكرة؟ قال: قلت: نعم يا عدو نفسه، أكوعك بكرة، قال: وأردوا فرسين على ثنية،
    قال: فجئت بهما أسوقهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ولحقني عامر بسطيحة فيها مذقة من لبن، وسطيحة فيها ماء، فتوضأت وشربت، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الماء الذي حلأتهم عنه،
    فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ تلك الإبل، وكل شيء استنقذته من المشركين، وكل رمح وبردة،
    وإذا بلال نحر ناقة من الإبل الذي استنقذت من القوم، وإذا هو يشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كبدها وسنامها،
    قال: قلت: يا رسول الله، خلني فأنتخب من القوم مائة رجل فأتبع القوم، فلا يبقى منهم مخبر إلا قتلته،
    قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه في ضوء النار، فقال: يا سلمة، أتراك كنت فاعلًا؟
    قلت: نعم، والذي أكرمك، فقال: إنهم الآن ليقرون في أرض غطفان، قال: فجاء رجل من غطفان،
    فقال: نحر لهم فلان جزورًا فلما كشفوا جلدها رأوا غبارًا، فقالوا: أتاكم القوم، فخرجوا هاربين،
    فلما أصبحنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجَّالتنا سلمة،
    قال: ثم أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمين: سهم الفارس، وسهم الراجل، فجمعهما لي جميعًا، ثم أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه على العضباء راجعين إلى المدينة ))

    - حادثة تبين لنا شهامة عثمان بن طلحة رضي الله عنه، تقول أمُّ سلمة رضي الله عنها: ((... وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة، قالت: ففرَّق بيني وبين زوجي وبين ابني. قالت: فكنت أخرج كلَّ غداة فأجلس بالأبطح،
    فما أزال أبكي حتى أمسي سنة أو قريبًا منها، حتى مرَّ بي رجل من بني عمي أحد بني المغيرة، فرأى ما بي فرحمني،
    فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة، فرَّقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها، قالت: فقالوا: الحقي بزوجك إن شئت.
    قالت: وردَّ بنو عبد الأسد إليَّ عند ذلك ابني، قالت: فارتحلت بعيري ثم أخذت ابني فوضعته في حجري
    ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة، قالت: وما معي أحد من خلق الله،
    قالت: قلت: أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار، فقال: أين يا بنت أبي أمية؟ قالت: أريد زوجي بالمدينة، قال: أو ما معك أحد؟ قلت: لا والله إلا الله وابني هذا،
    قال: والله ما لك من مترك، فأخذ بخطام البعير فانطلق معي يهوي به، فوالله ما صحبت رجلًا من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم استأخر عني، حتى إذا نزلنا استأخر ببعيري فحطَّ عنه، ثم قيَّده في الشجرة،
    ثم تنحَّى إلى شجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله، ثم استأخر عني،
    فقال: اركبي، فإذا ركبت فاستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقاد بي حتى ينزل بي، فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية -
    وكان أبو سلمة بها نازلًا - فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعًا إلى مكة، قال:
    وكانت تقول: ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب أبو سلمة، وما رأيت صاحبًا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة))

    -------------------------------------------------------------
    وما زلنا أحبابنا تابعونا جزاكم الله خيرا
    ولا تنسونا من صالح دعائكم

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    ألأخلاق في  ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني Empty ألأخلاق في نظر ألإسلام .. الجزء الثاني ( المزَاح )

    مُساهمة من طرف صادق النور الثلاثاء يونيو 28, 2022 10:45 pm

    ومن ألأخلاق المحموده .... المزَاح[


    معنى المزَاح لغةً
    :
    المزاح: الدُّعابة، وهو نقيضُ الجِدِّ، من مزَح يمزَح مَزحًا ومِزاحًا ومُزاحًا ومُزاحة، وقد مازحه ممازحة ومِزاحًا، والاسم المزاح، والمزاحة أيضًا
    معنى المزَاح اصطلاحًا:
    المبَاسطة إلى الغير على جهة التَّلطُّف والاستعطاف، دون أذيَّة

    الفرق بين المزَاح وبعض الصِّفات

    - الفرق بين المزَاح والهَزْل:
    أنَّ الهَزْل يقتضي تواضع الهازل لمن يهْزِل بين يديه، والمزَاح لا يقتضي ذلك، فالملِك يُمَازِح خدمه وإن لم يتواضع لهم تواضع الهازل لمن يهْزِل بين يديه، والنَّبي يُمَازِح، ولا يجوز أن يُقال يهْزِل. ويقال لمن يسخر: يهْزِل، ولا يقال: يمزح

    - الفرق بين المزاح والاستهزاء:
    أنَّ المزَاح لا يقتضي تحقير من يمازِحه، ولا اعتقاد ذلك، فالتَّابع يُمَازِح المتبوع من الرُّؤساء والملوك، ولا يقتضي ذلك تحقيرهم ولا اعتقاد تحقيرهم، ولكن يقتضي الاستئناس بهم، والاستهزاء يقتضي تحقير المسْتَهْزَأ به، واعتقاد تحقيره
    وقيل: المزاح: الإيهام للشَّيء في الظَّاهر، وهو على خلافه في الباطن، من غير اغترارٍ للإيقاع في مكروه. والاستهزاء: الإيهام لما يجب في الظَّاهر، والأمر على خلافه في الباطن، على جهة الاغترار
    - الفرق بين المزَاح والمجُون:
    أنَّ المجُون هو صلابة الوجه، وقلَّة الحياء، من قولك: مَجَن الشَّيء، يَمْجُن مُجُونًا، إذا صَلُبَ وغَلُظَ، ومنه سُمِّيت الخشبة التي يَدقُّ عليها القَصَّار الثَّوب: مِيجَنة. والمجُون كلمة مُولَّدة، لم تعرفها العرب، وإنَّما تعرف أصلها... المزاح الإيهام للشيء في الظاهر وهو على خلافه في الباطن من غير اغترار للإيقاع في مكروه. والاستهزاء الإيهام لما يجب في الظاهر، والأمر على خلافه في الباطن على جهة الاغترار
    - الفرق بين المزَاح والمدَاعَبة: !
    فرَّق بعضهم بين المدَاعَبة والمزَاح بأنَّ المدَاعَبة: ما لا يُغْضِب جِدُّه، والمزَاح: ما يُغْضِب جِدُّه

    الأحاديث الواردة في المزَاح

    - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنِّي لأمزح، ولا أقول إلَّا حقًّا ))

    قال المناوي وهو يشرح هذا الحديث: (إنِّي لأمزح. أي: بالقول، وكذا بالفعل، وتخصيصه بالأوَّل ليس عليه مُعَوَّل.
    ولا أقول إلَّا حقًّا. لعصمتي عن الزَّلل في القول والعمل، وذلك كقوله لامرأة... ((لا يدخل الجنَّة عجوز))،
    وقوله لأخرى: ((لأحملنَّك على ولد النَّاقة )) وقيل لابن عيينة: المزَاح سُبَّة. فقال: بل سُنَّة، ولكن مَن يُحْسِنه. وإنَّما كان يمزح لأنَّ النَّاس مأمورون بالتَّأسِّي به، والاقتداء بهديه، فلو ترك اللَّطافة والبشاشة، ولزم العُبُوس والقُطُوب، لأخذ النَّاس مِن أنفسهم بذلك على ما في مخالفة الغريزة من الشَّفَقة والعناء، فمَزح ليمزحوا)

    - عبد الرحمن بن أبي ليلى قال ((حدثنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم كانوا يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فنام رجل منهم فانطلق بعضهم إلى نبل معه، فأخذها، فلما استيقظ الرجل فزع فضحك القوم فقال: ما يضحككم؟ فقالوا: لا إلا أنَّا أخذنا نبل هذا ففزع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحل لمسلم أن يروع مسلمًا ))

    قال الطَّحاوي: (ففي هذا الحديث، ذكر ما فعله الرَّجل المذكور فيه، مِن أَخْذ كِنَانة صاحبه -ليرْتَاع بفقدها- على أنَّ ذلك عنده مباحٌ له، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: ((لا يحلُّ لمسلم أن يروِّع مسلمًا))، فكان قوله ذلك له -بعد فعله ما فعله- ممَّا هو من جنس ما كان فعله نُعَيْمان بسويبط، وما كان فعله عبد الله بن حذافة -
    في حديث علقمة المدلجي- بأصحابه ليضحكوا من ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ليلى لفاعل ما ذُكر فعله إيَّاه فيه: ((لا يحلُّ لمسلم أن يروِّع مسلمًا)) فكان ذلك تحريمًا منه لمثل ذلك،
    ونسخًا لما كان قد تقدَّمه، ممَّا ذكرناه في هذا الباب، ممَّا تعلَّق به من تعلَّق ممَّن يذهب إلى إباحة مثله، إن كان مباحًا حينئذ، واللهَ نسأله التوفيق)
    - عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحسنَ الناسِ خُلُقًا، وكان لي أخٌ يُقالُ له أبو عُمَيرٍ -قال: أحسِبُه- فَطيمٌ، وكان إذا جاء قال: (يا أبا عُمَيرٍ، ما فعَل النُّغَيرُ؟ نُغَرٌ كان يَلعَبُ به ))
    قال ابن حجر وهو يعدِّد فوائد الحديث: (وفيه جواز الممَازَحة، وتكرير المزْح، وأنَّها إباحة سنَّة لا رخصة، وأنَّ مُمَازَحة الصَّبي الذي -لم يميِّز- جائزة، وتكرير زيارة الممْزُوح معه، وفيه ترك التَّكبُّر والتَّرفُّع، والفرق بين كون الكبير في الطَّريق فيتَوَاقَر، أو في البيت فيَمْزَح)
    أقوال السلف والعلماء في المزَاح

    المزَاح منه ما هو مذموم، ومنه ما هو محمود، فكلُّ ما جاء في ذَمِّه، فالمقصود به المذموم من المزَاح:

    - قال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: (مَن أكثرَ مِن شيءٍ عُرف به، ومَن مازح، استُخِفَّ به، ومن كَثُر ضَحِكه، ذهبت هيبته)

    - عن عيسى بن عبد العزيز، أنَّ عمر بن عبد العزيز كتب إلى عدي بن أرطأة: (اِنْهَ مَن قِبَلَك عن المزَاح، فإنَّه يُذْهِب المروءة، ويُوغِر الصَّدر)
    - أوصى يَعْلَى بن مُنْيَة بثلاثٍ، فقال -في كلامٍ طويل-: (إيَّاكم والمزَاح؛ فإنَّه يُذهب بالبهاء، ويُعْقِب المذمَّة، ويزري بالمروءة)

    - قال عمر بن عبد العزيز: (امتنعوا من المزَاح، تسلم لكم الأعراض)

    - عن ابن المنكدر قال: (قالت لي أمِّي: يا بُنيَّ، لا تُمَازِح الصِّبيان فتهون عليهم. وقد كانت أدركت النَّبي صلى الله عليه وسلم)

    - قال سعيد بن العاص لابنه: (يا بُنَيَّ، لا تُمَازِح الشَّريف، فيحقد عليك، ولا تُمَازِح الدَّنيَّ، فيجترئ عليك)

    - كان العبَّاس رضي الله عنه يقول: (مَزَح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار المزْح سنَّة)

    - قيل لسفيان بن عيينة: المزَاح هُجنة. فقال: (بل سنَّة، ولكن الشَّأن فيمن يُحسِنه، ويضعه مواضعه)

    - قال سالم بن قتيبة لأهل بيته: (لا تُمَازِحوا فيُستَخَفَّ بكم، ولا تدخلوا الأسواق فترقَّ أخلاقكم)

    - قال الأحنف: (مَن كَثُر مِزَاحه ذهبت هيبته، ومَن كَثُر ضَحِكه استُخِفَّ به)

    - قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: (لا يكون المزَاح إلَّا مِن سَخَفٍ أو بَطَر)

    - قال علي رضي الله عنه: (ستٌّ مِن المروءة، ثلاثٌ في الحضر، وثلاثٌ في السَّفر، وأمَّا اللَّاتي في الحضر: فتلاوة كتاب الله،

    وعِمَارة مساجد الله، واتِّخاذ الإخوان في الله، وأمَّا اللَّاتي في السَّفر: فبذل الزَّاد، وحُسْن الخُلُق، والمزَاح في غير معاصي)

    [size=24] حُكم المزَاح

    المزَاح مباحٌ، وقد يُسْتَحبُّ إذا كان فيه تَطْيِيب نفس المخَاطَب، ومؤانسته بالضَّوابط الشَّرعية، وقد يكون منهيًّا عنه،
    إذا أفرط فيه صاحبه أو داوم عليه، أو كان فيه تحقيرٌ أو استهزاء أو كذب، أو ترويع لمسلم أو نحوه ممَّا فيه ضرَر.

    قال النَّوويُّ: (اعلم أنَّ المزَاح المنهيَّ عنه، هو الذي فيه إفراط ويُداوَم عليه، فإنَّه يُورث الضَّحك، وقسوة القلب،
    ويُشغل عن ذكر الله، والفِكْر في مهمَّات الدِّين، ويؤول في كثيرٍ من الأوقات إلى الإيذاء، ويُورث الأحقاد، ويُسقط المهابة والوَقار، فأمَّا ما سَلِم مِن هذه الأمور، فهو المباح الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله على النُّدرة؛ لمصلحة تَطْيِيب نفس المخَاطب ومؤانسته، وهو سنَّةٌ مستحبَّة)

    وقال ابن حجر: (أخرج التِّرمذي -وحسَّنه- من حديث أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله، إنَّك تداعبنا! قال: ((إنِّي لا أقول إلَّا حقًّا )) وأخرج من حديث ابن عبَّاس (( لا تمار أخاك، ولا تمازحه...)) الحديث.
    والجمع بينهما: أنَّ المنهيَّ عنه ما فيه إفراط أو مداومة عليه؛ لما فيه من الشُّغل عن ذكر الله، والتَّفكُّر في مهمَّات الدِّين،
    ويؤول -كثيرًا- إلى قسوة القلب، والإيذاء والحقد، وسقوط المهابة والوَقَار، والذي يَسلَم من ذلك هو المباح،
    فإن صادف مصلحة -مثل تَطْيِيب نفس المخَاطَب ومؤانسته- فهو مستحبٌّ. قال الغزالي: مِن الغلط أن يُتَّخذ المزَاح حرفةً،
    ويُتَمَسَّك بأنَّه صلى الله عليه وسلم مَزَح، فهو كمن يدور مع الزنج حيث دار، وينظر رقصهم، ويتمسَّك بأنَّه صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة أن تنظر إليهم)
    وقال المرتضى الزبيدي: (قال الأئمَّة: الإكثار منه، والخروج عن الحدِّ، مخلٌّ بالمروءة والوَقَار، والتَّنزُّه عنه بالمرَّة والتَّقبُّض، مخلٌّ بالسُّنَّة والسِّيرة النَّبويَّة المأمور باتِّباعها والاقتداء، وخير الأمور أوسطها)

    وقال القاري: (صرَّح العلماء بأنَّ المزَاح -بشرطه- من جملة المستحبَّات)

    النَّوع الأوَّل: المزَاح المذموم

    المزاح المذموم هو ما اشتمل على محظور من المحظورات كترويع المسلمين أو الكذب، أو غلب على صاحبه وأفرط فيه،

    يقول النَّوويُّ: (المزَاح المنهيَّ عنه، هو الذي فيه إفراط ويُداوَم عليه، فإنَّه يورث الضَّحك وقسوة القلب، ويشغل عن ذكر الله والفِكْر في مهمَّات الدِّين، ويؤول في كثيرٍ من الأوقات إلى الإيذاء، ويُورث الأحقاد، ويُسقط المهابة والوَقَار)

    أضرار المزَاح المذموم

    1- الإفراط والمبالغة في المزَاح مَضْيَعة للوقت، وشاغلٌ عن ما هو أهمُّ، فالمداومة عليه تدلُّ عدم تقدير للزَّمن المهْدَر الذي كان ينبغي أن يستغلَّ فيما هو أولى.
    2- الإكثار من المزَاح، يجلب كثرة الضَّحك، وقسوة القلب، وقد مرَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم على قوم يتضاحكون ويتمازحون، فقال لهم -عليه الصَّلاة والسَّلام-: ((أكثروا من ذكر هاذم اللَّذَّات ))
    ، فنبَّههم إلى ما يُلين قلوبهم، بدل ما هم فيه من كثرة الضَّحك الذي يقسِّي القلب.
    3- المزَاح المذموم يؤول في كثيرٍ من الأحيان إلى الإيذاء، وتوريث الأحقاد، فينبغي تجنُّبه.
    4- المزاح المذموم وكثرته، يُذهِب المهابة من قلوب النَّاس لهذا المكثر من المزاح، ويُذهِب عنه الوَقار.

    الوسائل المعينة على ترك المزَاح المذموم

    1- التَّفكُّر في الأضرار التي قد تنتج عن المزَاح المذموم، واستحضار عواقبه السَّيئة.
    2- مراقبة الله واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم باجتناب المزاح الذي فيه ترويع للمسلمين وغير ذلك مما نهي عنه.
    3- شَغْل النَّفس بما ينفع، فالاشتغال بالنَّافع يُبعد المرء عن ممارسة الضَّار.
    4- ذكر الموت، ولقد أرشد إليه النَّبي صلى الله عليه وسلم، حين مرَّ بقوم يتضاحكون ويتمازحون، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا من ذكر هاذم اللَّذَّات ))

    النَّوع الثَّاني: المزَاح المحمود

    وهو ما سَلِم من المحظورات الشرعية، ولم يغلب على صاحبه، وكانت فيه مصلحة، وتحققت فيه الضوابط الشرعية.

    قال النَّوويُّ: (فأمَّا ما سَلِم من هذه الأمور، فهو المباح الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله على النُّدرة؛
    لمصلحة تَطْيِيب نفس المخَاطَب ومؤانسته، وهو سنَّةٌ مستحبَّة)

    ضوابط المزَاح المحمود

    1- ألا يكون فيه استهزاء بشيء من أمور الدِّين:

    فالاستهزاء بالدِّين، يُعتبر ناقضًا مِن نواقض الإسلام، ومُخْرِجًا لصاحبه من الملَّة، قال سبحانه وتعالى:وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التَّوبة: 65-66]

    2- أن لا يتضمَّن المزَاح سخريةً أو استهزاءً بالآخرين:

    وما أكثر هذه الآفة في المزَّاحين، ولا يخفى أنَّ السُّخرية بالآخرين، تُعتبر كبيرةً من الكبائر، قال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات: 11]
    3- أن يكون هذا المزَاح بصدق:

    فلا يُدخِل المازح فيه الكذبَ من أجل إضحاك من حوله، فقد جعل النَّبي صلى الله عليه وسلم هذا ضابطًا لمزْحِه الذي يجب علينا أن نتأسَّى به فيه، وذلك عندما قال له الصَّحابة -رضوان الله عليهم-: يا رسول الله، إنَّك تداعبنا! قال: ((إنِّي لا أقول إلَّا حقًّا ))
    وقال -عليه الصَّلاة والسَّلام-: ((ويلٌ للذي يحدِّث فيكذب ليضحك به القوم، ويلٌ له، ويلٌ له ))
    4- أن لا يترتَّب عليه ضرر على الآخرين:

    وذلك مثل ترويع الشَّخص بقصد المزَاح معه، فقد نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال ((حدثنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم كانوا يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فنام رجل منهم فانطلق بعضهم إلى نبل معه، فأخذها، فلما استيقظ الرجل فزع فضحك القوم فقال: ما يضحككم؟ فقالوا: لا إلا أنَّا أخذنا نبل هذا ففزع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحل لمسلم أن يروع مسلمًا ))

    5- أن لا يتَّخذ المرء المزَاح دَيْدَنه وعادته:

    وإنَّما يكون كالملح في الطَّعام، فإنَّ الإكثار من المزَاح مُذْهِب للمروءة، ويُفقد الشَّخص الهيبة، وقد يؤدِّي إلى أن يجعل الشَّخص عرضةً لسخرية الآخرين منه. كما ينبغي عليه ألا يبالغ في المزَاح، ولا يطيل فيه.

    6- أن يراعي الشَّخصَ الذي يمزح معه:

    فما كلُّ أحدٍ يُمْزَح معه، ولا بدَّ من إنزال النَّاس منازلهم في المزَاح، فقد قيل: (لا تمازح الشَّريف فيحقد عليك، ولا الدَّنيَّ فيجترئ عليك) فلا يكون مع مَن لا يليق بهم المزْح؛ ممَّن يحرجهم لمكانتهم، ولا يكون مع السُّفهاء؛ حتى لا يجترئوا على المازح.
    7- أن يخلو من المعاصي التي كثيرًا ما تصاحب المزَاح غير المنضبط:
    وذلك كالغيبة والهَمْز واللَّمز.

    8- اختيار الوقت المناسب للمزاح:
    وهذا من الضَّوابط المهمَّة للمَزْح، فليس كلُّ وقتٍ يَصلُح للمِزَاح، ولا كلُّ زمانٍ تليق فيه الدُّعابة.

    فوائد المزَاح المحمود


    - المزَاح المعتدل يحبِّب الشَّخص إلى النَّاس، ويُكسبه وُدَّهم، ويجعله مرغوبًا محبوبًا.
    - مؤانسة الأصحاب، وإدخال السُّرور عليهم.
    - التَّخفيف عن النَّفس، وإبعاد الملَالة والسَّأَم عنها.

    - نماذج من مزاح النَّبي صلى الله عليه وسلم

    - عن أنس رضي الله عنه: ((أنَّ رجلًا من أهل البادية كان اسمه زاهرًا، يهدي النَّبي صلى الله عليه وسلم الهديَّة من البادية، فيجهِّزه النَّبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج، فقال رسول الله: إنَّ زاهرًا باديتنا، ونحن حاضروه.
    وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّه، وكان رجلًا دميمًا، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبيع متاعه،
    فاحتضنه من خلفه، ولا يبصره الرَّجل، فقال: أرسلني، مَنْ هذا؟ فالتفت، فعرف النَّبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يَأْلُو ما ألصق ظهره بصدر النَّبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من يشتري العبد؟
    فقال: يا رسول الله، إذًا والله تجدني كاسدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكن -عند الله- لست بكاسد.
    أو قال: لكن -عند الله- أنت غال
    ))

    - عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنَّ رجلًا استحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إنِّي حاملك على ولد النَّاقة.
    فقال: يا رسول الله، ما أصنع بولد النَّاقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النُّوق؟
    ))

    - نماذج من مزاح السَّلف

    - كان علي رضي الله عنه فيه دعابة، فقد قال عمر رضي الله عنه: (أرجو ألَّا يخالف إن شاء الله، وما أظنُّ أن يلي إلَّا أحد هذين الرَّجلين: علي أو عثمان؛ فإن وليَ عثمان، فرجل فيه لين، وإن وليَ علي ففيه دعابة)

    - عن بكر بن عبد الله قال: (كان أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم، يَتبادَحون بالبطِّيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرِّجال)

    - قال عطاء بن السَّائب: (كان سعيد بن جبير لا يقصُّ علينا إلَّا أبكانا بوعظه، ولا يقوم من مجلسنا حتى يضحكنا بمزحه)

    - قال غالب القطَّان: (أتيت ابن سيرين يومًا، فسألت عن هشام، فقال: تُوفِّي البارحة، أما شعرت؟!
    فقلت: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، فضحك، فقلت: لعلَّه أراد النَّوم)
    - قال ابن سيرين: (ليس من حُسْن الخُلُق، الغَضَب من المزْح)

    - نماذج من مزاح العلماء المعاصرين:

    - كان الشيخ ابن باز رحمه الله حريصًا على ملاطفة جُلَّاسه، وإدخال السُّرور عليهم، وكان يداعبهم، ويمازحهم مزاحًا لا إسراف فيه ولا إسفاف، فمن ذلك: جاءه -ذات مرَّة- مُطَلِّق، فقال له: ما اسمك؟ قال: ذيب، قال: ما اسم زوجتك؟ قال: ذيبة، فقال رحمه الله -مداعبًا-: أسأل الله العافية! أنت ذيب، وهي ذيبة، كيف يعيش بينكما الأولاد؟!

    - وهذا الموقف حدث للشَّيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى، حيث يقول راوي القصَّة:

    (صلى الشَّيخ في الحرم المكي، وعند خروجه استقلَّ سيَّارة تاكسي، وأراد التَّوجُّه إلى مِنى، وأثناء الطَّريق أراد السَّائق أن يتعرَّف على الرَّاكب، فقال من الشَّيخ؟ فأجابه الشَّيخ: محمد بن عثيمين. فأجابه السَّائق: أنت الشَّيخ ابن عثيمين؟! -ظنًّا منه أنَّه يمزح معه- فقال: نعم. فقال السَّائق -وهو يهزُّ رأسه متعجبًا من جرأته في تقمُّص شخصية الشَّيخ ابن عثيمين، فقال الشَّيخ للسَّائق: ومن الأخ؟ فأجاب السَّائق: أنا الشَّيخ عبد العزيز بن باز. وكان ذلك في حياة ابن باز مفتي عام المملكة، فأجابه الشَّيخ: لكن ابن باز ضرير،
    ولا يمكن أن يسوق سيَّارة! ولما تبيَّن للسَّائق أنَّه الشَّيخ ابن عثيمين، اعتذر منه، وكان في غاية الحرج. وهذا يدلُّنا على تواضع الشَّيخ، ومداعبته لعامة النَّاس)

    - ركب أحد طلبة العلم مع الشَّيخ الألباني رحمه الله في سيَّارته، وكان الشَّيخ يُسرع في السَّير. فقال له الطَّالب:
    خفِّف يا شيخ! فإنَّ الشَّيخ ابن باز يرى أنَّ تجاوُز السُّرعة إلقاء بالنَّفس إلى التَّهلكة.
    فقال الشَّيخ الألباني رحمه الله: هذه فتوى من لم يجرِّب فنَّ القيادة. فقال الطَّالب: هل أُخْبِر الشَّيخ ابن باز؟
    قال الألباني: أخبره. فلمَّا حدَّث الطَّالب الشَّيخ ابن باز رحمه الله بما قال الشَّيخ الألباني، ضحك؛
    وقال: قل له هذه فتوى من لم يجرِّب دفع الدِّيات !!

    أقوالٌ وأمثالٌ في المزَاح

    - كان يقال: لكلِّ شيء بَذْر، وبَذْر العداوة المزَاح
    - وأجود ما قيل في كراهة المزَاح قولهم: (إنَّ المزَاح هو السُّباب الأصغر)
    - وقال خالد بن صفوان التميمي: (المزَاح سُباب النَّوكى)
    - وقال أبو عبيد: (من أمثال أكثم بن صيفي: المزْحَة تُذهب المهابة. يقول: إذا عُرف بها الرَّجل، قلَّت هيبته)
    - وقال بعض الحكماء: (الخصومة تُمرِض القلوب، وتثبِّت فيها النِّفاق. والمزَاح يُذهب ببهاء العزِّ)
    - وفي المثل العربيِّ: (المزَاح لقاحُ الضَّغائن)
    - لا تمازح الشَّريف فيحقد عليك، ولا الدَّنيَّ فيجترئ عليك
    - المزْح أوَّله فرحٌ، وآخره ترحٌ
    - الإفراط في المزْح مُجُونٌ وجنون، والاقتصاد فيه ظُرف، والتَّقصير عنه ندامة
    - قال ابن المعتز: (المزْح يأكل الهيبة، كما تأكل النَّار الحطب)
    - من كَثُر مَزْحه، لم يسلم من استخفافٍ به، أو حقدٍ عليه
    - من كَثُر مِزَاحه، تنازعه الحقد والهوان
    - رُبَّ مَزحٍ في غَوره جِدٌّ وكَدٌّ
    - أوَّل أسباب القطيعة: المراء والمزْح
    - وكان يقال: (المزْح في الكلام، كالملح في الطَّعام)

    - وقال الحجَّاج بن يوسف لابن القرِّيَّة: (ما زالت الحكماء تكره المزَاح، وتنهى عنه، فقال: المزَاح من أدنى منزلته إلى أقصاها عشرة أبواب: المزاح أوَّله فرح، وآخره تَرح. المزاح نقائض السُّفهاء، كالشِّعر نقائض الشُّعراء. والمزَاح يوغر صدر الصَّديق، ويُنفِّر الرَّفيق. والمزاح يُبدِي السَّرائر؛ لأنَّه يُظهر المعَاير. والمزاح يُسقِط المروءة، ويُبدِي الخَنا. لم يجر المزْح خيرًا، وكثيرًا ما جرَّ شرًّا. الغالب بالمزاح واترٌ، والمغلوب به ثائرٌ. والمزاح يجلِب الشَّتمَ صغيرُه، والحربَ كبيرُه، وليس بعد الحرب إلَّا عفوٌ بعد قُدْرة.
    فقال الحجَّاج: حسبك، الموت خيرٌ من عفوٍ معه قُدْرة)

    - العرب تقول: (لو كان المزَاح فحلًا، لكان الشَّرُّ له نسلًا)
    - وتقول العرب -أيضًا-: (لو كان المزَاح فَحْلًا، ما أَلْقح إلَّا جهلًا)
    - وقيل: (إذا كان المزَاح أوَّل الكلام، كان آخره الشَّتم واللكام)
    - قيل: (المزَاح يبدي المهانة، ويُذهب المهابة، والغالب فيه واترٌ، والمغلوب ثائرٌ)
    - قيل: (احذر فلتات المزاح، فسَقْطَة الاسترسال لا تُقَال)
    - قال أكثم بن صيفي: (قد يُشْهَر السِّلاح في بعض المزَاح)
    -----------------------------------------------------------
    تابعونا جزاكم الله خيرا ما زلنا في واحة ألأخلاق في ألإسلام
    جزاكم الله خيرا
    ولا تنسونا من صالح دعائكم
    /size]

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    ألأخلاق في  ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني Empty ألأخلاق في نظر ألإسلام .. الجزء الثاني ( النُّبْل ) - ( النَّزَاهَة )

    مُساهمة من طرف صادق النور الأربعاء يونيو 29, 2022 12:30 pm

    ومن ألأخلاق المحموده .....  النُّبْل


    معنى النُّبْل لغةً:
    النُّبْل -بالضَّم- الذَّكاءُ والنَّجابة، من نَـبُل نُـبْلًا ونَبالة، والنَّبِيلة: الفَضِيلة. وقيل: نَبِيل، أَي: عاقل. وقيل: حاذِق، وهو نَبِيل الرَّأْي، أَي: جيِّده، وقيل: نَبِيل، أَي: رفيق بإِصلاح عِظام الأُمور، ونبل فلان: كرم حسبه وحمدت شمائله
    معنى النُّبْل اصطلاحًا: !
    النُّبْل: هو خُلُقٌ حميد، يتحلَّى صاحبه بالذَّكاء والنَّجابة في ذاته، والفضل والرِّفق في تعامله مع النَّاس، مع حِذْقٍ في الرَّأي والعمل

    الفرق بين النُّبْل والجَمَال
    قال أبو هلال عن النُّبل: (هو ما يرتفع به الإنسان من الرُّوَاء، ومن المنظر، ومن الأخلاق والأفعال، وممَّا يَختصُّ به من ذلك في نفسه دون ما يُضَاف، يقال: رجل نَبِيلٌ: في فعله ومنظره، وفَرَسٌ نَبِيلٌ: في حُسْنه وتمامه.
    والجمال يكون في ذلك، وفي المال وفي العشيرة، والأحوال الظَّاهرة، فهو أعمُّ من النُّبْل، ألا ترى أنَّه يقال لك في المال والعشيرة: جمالٌ، ولا يقال لك في المال: نُبْل، ولا هو نَبِيل في ماله، والجمال -أيضًا- يُستعمل في موضع الحُسْن، فيقال: وجه جميل، كما يقال: وجه حَسَن، ولا يقال: نَبِيل، بهذا المعنى)

    أقوال السَّلف والعلماء في النُّبْل
    - قال معاوية رضي الله عنه: (أتدري من النَّبِيل؟ هو الذي إذا رأيته هِبْتَه، وإذا غاب عنك اغتبته)

    - (قيل لمعاوية بن أبي سفيان: ما المروءة؟ فقال: إصلاح المعيشة، واحتمال الجَرِيرَة. قيل له: فما النُّبْل؟ قال: مؤاخاة الأَكْفَاء، ومداجَاة الأعداء)
    - (وقيل لمعاوية: ما المروءة؟ فقال: احتمال الجَرِيرَة، وإصلاح أمر العشيرة. فقيل له: وما النُّبْل؟ فقال: الحِلْم عند الغضب، والعفو عند القدرة)
    - وقال الغزالي: (وأما النُّبْل فهو سرور النَّفس بالأفعال العظام)
    - وقال الجاحظ: (ومتى كنت من أهل النُّبْل لم يضرك التَّبذُّل، ومتى لم تكن من أهله لم ينفعك التَّنَـبُّل)
    - وقال -أيضًا-: (النُّبْل كَلف بالمولِّي عنه، شَنف للمقبل عليه، لازق بمن رفضه، شديد النِّفار ممَّن طلبه)
    - وقيل: الحياء يزيد في النُّبْل
    - وقال يحيى بن خالد: (من حقوق المروءة، وأمارة النُّبْل: أن تتواضع لمن دونك، وتنصف من هو مثلك، وتستوفي على من هو فوقك. ولله درُّ النَّابغة حين يقول:
    ومن عصاك فَعاقبْه معاقبةً تنهى الظلومَ ولا تقعُد على ضَمَد
    إلا لمثلك أو من أنت سابقُه سبقَ الجواد إذا استولى على الأمد)
    - وقيل: (النَّبِيل: مجمع لجميع الفضائل الخُلقيَّة والجسميَّة والاجتماعيَّة)

    فوائد النُّبْل
    1- النُّبْل أهله يعيشون كِرَامًا، ويموتون كِرَامًا.
    2- النُّبْل من مكارم الأخلاق الفاضلة.
    3- النُّبْل من صفات العظماء والحُكماء.
    4- النُّبْل علامة على عُلوِّ الهمَّة، وشرف النَّفس.
    5- النُّبْل ينتج حُسْن الخُلُق، كالحِلْم والصَّبر.
    6- القائد المتَّصف بالنُّبْل يكون حاذقًا في تعامله.

    موانع اكتساب النُّبْل

    1- التَّكبُّر والتَّعالي على الخَلْق.
    2- الدَّناءة وسوء الخُلُق.
    3- ظُلْم النَّاس.
    4- التَّعجُّل والحُمْق، وسوء التَّفْكير، ونقصان الحِكْمة في الأمور.
    5- البخل والشُّح.
    قال الجاحظ: (وإن كان النُّبْل بالتَّنَـبُّل، واستحقاق العِظَم بالتَّعظُّم، وبقلَّة النَّدم والاعتذار، وبالتَّهاون بالإقرار، فكلُّ من كان أقلَّ حياءً، وأتمَّ قِحةً، وأشدَّ تَصَلُّفًا، وأضعف عُدَّةً، أحقُّ بالنُّبْل وأولى بالعُذر. وليس الذي يوجب لك الرِّفعة أن تكون -
    عند نفسك دون أن يراك النَّاس- رفيعًا، وتكون في الحقيقة وضيعًا، ومتى كنت من أهل النُّبْل، لم يضرُّك التَّبذُّل،
    ومتى لم تكن من أهله، لم ينفعك التَّنَـبُّل، وليس النُّبْل كالرِّزق، يكون مرزوقًا الحرمان أَلْيَق به، ولا يكون نَبِيلًا السَّخافة أَشْبه به،
    وكلُّ شيء من أمر الدُّنْيا قد يحظى به غير أهله، كما يحظى به أهله، وما ظنُّك بشيء: المروءة خصلة من خصاله،
    وبُعْد الهمَّة خُلَّة من خلاله، وبهاء المنظر سبب من أسبابه، وجَزَالة اللَّفظ شُعْبة من شُعَبه، والمقامات الكريمة طريق من طرقه.
    واعلم أنَّك متى لم تأخذ للنُّبل أُهْبته، ولم تُقِم له أَدَاته، وتأته من وجهه، وتَقُم بحقِّه، كنت مع العناء مُبْغَضًا، ومع التكلُّف مُستصْلَفًا، ومن تبغَّض فقد استهدف للشِّتام، وتصدَّى للمَلام)

    نماذج للنُّبْل
    نماذج من نبل السَّلف:
    1- قال سعيد بن العاص: (ما شاتمت رجلًا مُذْ كنت رجلًا؛ لأنِّي لا أُشَاتم إلَّا أحدَ رجلين: إمَّا كريم، فأنا أحقُّ من احتمله، وإمَّا لئيم، فأنا أولى من رفع نفسه عنه)
    2- قال الأشعث بن قيس لقومه: (إنَّما أنا رجل منكم، ليس لي فضل عليكم، ولكنِّي أبسط لكم وجهي، وأبذل لكم مالي، وأحفظ حريمكم، وأعود مريضكم، فمن فعل مثل هذا فهو مثلي، ومن زاد عليه فهو خير منِّي، ومن قصَّر عنه فأنا خير منه، فقيل له: ما يدعوك إلى هذا؟ قال: أَحُضُّهم على السُّؤدد ومكارم الأخلاق)
    3- قال يحيى بن أكثم: قال الرَّشيدي: ما أنبل المراتب؟ قلت: ما أنت فيه يا أمير المؤمنين. قال: فتعرف أجلَّ منِّي؟ قلت: لا. قال: لكنِّي أعرفه؛ رجل في حَلْقَة يقول:
    حدَّثنا فلان عن فلان عن رسول الله. قال: قلت يا أمير المؤمنين، أهذا خير منك، وأنت ابن عمِّ رسول الله، ووليُّ عهد المؤمنين؟ قال: نعم، وَيْلك! هذا خير منِّي؛ لأنَّ اسمه مقترن باسم رسول الله لا يموت أبدًا، ونحن نموت ونفنى، والعلماء باقون ما بقي الدَّهر

    4- لما قحطت البادية في أيام هشام، قدمت عليه العرب، فهابوا أن يتكلَّموا، وفيهم دِرْوَاس بن حبيب ابن ست عشرة سنة، له ذُؤابة، وعليه شَمْلَتان، فوقعت عليه عينا هشام، فقال لحاجبه: ما يشاء أحد يدخل علي إلَّا دخل، حتى الصِّبيان؟!
    فوثب دِرْوَاس بن حبيب حتى وقف بين يديه مُطْرِقًا، فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّ للكلام نَشْرًا وطيًّا، وإنَّه لا يُعرف ما في طيِّه
    إلا بنَشْرِه، فإن أذِنت لي أن أنشُره نشَرته. قال: انشُر، لا أبا لك، وقد أعجبه كلامه مع حداثة سنِّه. فقال: إنَّه أصابتنا سنون ثلاث: سنة أذابت الشَّحم، وسنة أكلت اللَّحم، وسنة أنقت العظم، وفي أيديكم فضول أموال، فإن كانت لله ففرِّقوها على عباده، وإن كانت لهم فعَلَام تحبسونها عنهم؟ وإن كانت لكم فتصدَّقوا بها عليهم  فقال هشام: ما ترك لنا الغلام في واحدة من الثَّلاث عُذْرًا. فأمر للبوادي بمائة ألف دينار، وله بمائة ألف درهم، فقال: ارددها يا أمير المؤمنين إلى جائزة العرب، فإنِّي أخاف أن تعجز عن بلوغ كفاية. فقال: أما لك حاجة؟ قال: ما لي حاجة في خاصَّة نفسي دون عامَّة المسلمين. فخرج وهو من أنبل القوم

    من صفات النُّبْل
    من صفات النُّبْل، المروءة وبُعْد الهمَّة، وبهاء المنظر، وجَزَالة اللَّفظ، والمقامات الكريمة
    أبو عاصم النَّبِيل، وسبب لقبه بذلك:
    روى أبو عبيد الآجرِّي عن أبي داود، قال: (كان أبو عاصم يحفظ قدر ألف حديث من جيِّد حديثه، وكان فيه مِزَاح،
    ويقال: إنَّما قيل له: النَّبِيل؛ لأنَّ فيلًا قدم البصرة، فذهب النَّاس ينظرون إليه، فقال له ابن جريج: ما لك لا تنظر؟
    قال: لا أجد منك عوضًا، قال: أنت نَبِيل)
    ===============================================
    ومن ألأخلاق المحموده .....   النَّزَاهَة


    معنى النَّزَاهَة لغةً:
    أصل هذه المادة يدُلُّ على بعد في مكان وغيره، فالنزاهة مصدر نَزُهَ نَزاهةً، وتَنَــزَّهَ تنَزُّهًا، إذا بَعُدَ، ونَــزَّهَ نفْسَه عن القبيح: نَحَّاها، والنَّزاهةُ البُعْد عن السُّوء. وإنَّ فلانًا لنزيه كريم: إذا كان بعيدًا عن اللُّؤْم. والـتَّنَزُّه: أن يرفع نفسه عن الشَّيء تكرُّمًا، ورغبة عنه. وفلان يتَنَزَّه عن مَلَائم الأخْلَاق، أي: يترفَّع عمَّا يُذَمُّ منها
    معنى النَّزَاهَة اصطلاحًا:
    قال المناوي: (النَّزَاهَة: اكتساب المال من غير مَهَانة، ولا ظُلْم، وإنفاقه في المصارف الحميدة)
    وقال -أيضًا-: (النَّزَاهَة البُعْد عن السُّوء)
    وقال أبو طالب المكي: (ومعنى التَّنَزُّه: التَّباعد من الدَّناءة والأوساخ)

    الفرق بين النَّزَاهَة والعِفَّة
    قال أبو حيَّان التَّوحيدي: (قلت لبعض العلماء: العِفَّة والنَّزَاهَة خصلة واحدة.
    فقال لي: ظلمت... العِفَّة الإمساك عن المحظور، والنَّزَاهَة الوقوف عن المباح، وفي العِفَّة ذبٌّ عن الدِّين،
    وفي النَّزَاهَة حفظ للمروءة)

    أولًا: النَّزَاهَة في القرآن الكريم

    - قال تعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدَّثر: 4]
    قال ابن عبد البر: (تأوَّلوا قوله تعالى: (وثيابك فطهِّر)، على ما تأوَّله عليه جمهور السَّلف، من أنَّها طهارة القلب، وطهارة الجيب، ونزاهة الـنَّفْس عن الدَّنايا والآثام والذُّنوب)
    - قال تعالى: يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: 222]
    قال الرَّازي: (أمَّا قوله تعالى: يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ففيه وجوه أحدها: المراد منه الـتَّنْزِيه عن الذُّنوب والمعاصي؛ وذلك لأنَّ التَّائب هو الذي فعله ثمَّ تركه، والمتَطَهِّر هو الذي ما فعله تَنَزُّهًا عنه، ولا ثالث لهذين القسمين، واللَّفظ مُحْتمل لذلك؛ لأنَّ الذَّنب نجاسة روحانيَّة،
    ولذلك قال: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التَّوبة: 28]، فتركه يكون طهارة روحانيَّة،
    وبهذا المعنى يُوصَف الله تعالى بأنَّه طاهر مُطَهَّر؛ من حيث كونه مُنَزَّهًا عن العيوب والقبائح)

    ثانيًا: النَّزَاهَة في السُّنَّة النَّبويَّة
    - عن النُّعمان بن بَشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما مُشَبَّهات، لا يعلمها كثير من النَّاس، فمن اتَّقى المشَبَّهات، استبرأ لدينه وعِرْضه، ومن وقع في الشُّبهات، كرَاعٍ يرعى حول الحِمَى، يوشك أن يُوَاقعه، أَلَا وإنَّ لكلِّ ملك حِمَى، أَلَا إنَّ حِمَى الله في أرضه محارمه، أَلَا وإنَّ في الجسد مُضْغة، إذا صَلُحَت، صَلُح الجسد كلُّه، وإذا فَسَدَت، فَسَد الجسد كلُّه، أَلَا وهي القلب ))
    قال ابن رجب: (من اتَّقى الأمور المشْتبَهة عليه، التي لا تتبيَّن له: أحلال هي أو حرام؟ فإنَّه مُسْتَبرئ لدينه، بمعنى: أنَّه طالبٌ له البَرَاء والـنَّزَاهَة مما يُدَنِّسه ويُشِينه)
    - وعن علي بن الحسين رضي الله عنهما ((أنَّ صفيَّة -زوج النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم- أخبرته: أنَّها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه في المسجد، في العشر الأواخر من رمضان، فتحدَّثت عنده ساعة، ثمَّ قامت تَنْقلب، فقام النَّبي صلى الله عليه وسلم معها يَقْلِبها، حتى إذا بلغت باب المسجد -عند باب أمِّ سَلَمة- مرَّ رجلان من الأنصار، فسلَّما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهما النَّبي صلى الله عليه وسلم: على رِسْلِكما، إنَّما هي صفيَّة بنت حُيي. فقالا: سبحان الله يا رسول الله! وكَبُر عليهما. فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ الشَّيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدَّم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئًا ))
    قال الماوردي: (هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أبعد خلق الله من الرِّيَب وأصونهم من التُّهم... فكيف من تخالجت فيه الشُّكوك، وتقابلت فيه الظَّنون؟ فهل يَعْرى مَن في مواقف الرِّيَب مِن قادح محقَّق، ولائم مُصدَّق؟)
    - عن أبي الحوراء السَّعديِّ قال: قلت للحسن بن عليٍّ: ما حفظت من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دَعْ ما يُرِيبك إلى ما لا يُرِيبك.. ))
    فالنَّزَاهَة أن نصون النَّفس عن مواقف الرِّيبة، ونتنزَّه عن مساوئ الأخلاق، ونترفَّع عمَّا يُذَمُّ منها.
    - عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: ((سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: يا حكيم، إنَّ هذا المال خَضِرة حُلْوة، فمن أخذه بسخاوة نفس، بورك له فيه، ومن أخذه بإشْراف نفس، لم يُـبَارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع، اليد العُليا خير من اليد السُّفلى ))
    قال النَّووي: (قال العلماء: إشْراف النَّفس، تطلُّعها إليه، وتعرُّضها له، وطمعها فيه.
    وأمَّا طِيب النَّفس، فذكر القاضي فيه احتمالين، أظهرهما: أنَّه عائد على الآخذ، ومعناه: مَن أخذه بغير سؤال، ولا إشْراف وتطلُّع، بورك له فيه. والثَّاني: أنَّه عائد إلى الدَّافع، ومعناه: مَن أخذه ممَّن يدفع منشرحًا بدفعه إليه، طَيِّب النَّفس، لا بسؤالٍ اضطرَّه إليه، أو نحوه ممَّا لا تطيب معه نفس الدَّافع)
    وفي هذا الحديث: الحثُّ على النَّـزَاهَة والقناعة، والرِّضا بما تيسَّر، وإن كان قليلًا، والإجمال في الكَسْب، وأنَّه لا يغترُّ الإنسان بكثرة ما يَحْصُل له بإشْرافٍ ونحوه؛ فإنَّه لا يُبارك له فيه.

    أقوال السَّلف والعلماء في النَّزَاهَة
    - قال عمر بن عبد العزيز: (إذا كان في القاضي خمس خصال، فقد كَمُل: علمٌ بما كان قَبله، ونَزَاهةٌ عن الطَّمع، وحِلْمٌ عن الخَصْم، واقتداءٌ بالأئمة، ومُشَاورة أهل العلم والرأي)
    - وقال ابن حزم: (نَزَاهة النَّفس، وهذه صفة فاضلة مُتَرَكِّبة من النَّجدة والجود والعدل والفهم؛ لأنَّه فَهِم قلَّة الفائدة في استعمال ضدِّها، فاستعملها، وكانت فيه نجدة أنتجت له عزَّة نفسه، فتنزَّه، وكانت فيه طبيعة سخاوة نفس، فلم يهتمَّ لما فاته، وكانت فيه طبيعة عدل، حببت إليه القُنوُع وقلَّة الطَّمع)
    - وقال الماوردي: (والنَّفس الشَّريفة تطلب الصِّيانة، وتُـرَاعي النَّزاهَة، وتحتمل من الضُّرِّ ما احتملت، ومن الشِّدَّة ما طاقت، فيبقى تحمُّلها ويدوم تصوُّنها،
    - وقال ابن الجوزي: (دليل كمال صورة الباطن، حُسن الطَّبائع والأخلاق،
    فالطَّبائع: العِفَّة والنَّـزَاهَة والأنَفَة من الجهل، ومُبَاعدة الشَّرَه. والأخلاق: الكَرَم والإيثار وسَتْر العيوب، وابتداء المعروف،
    والحِلْم عن الجاهل. فمن رُزِق هذه الأشياء، رَقَّته إلى الكمال، وظهر عنه أشرف الخِلال، وإن نقصت خُلَّة، أوجبت النَّقص)
    - وقال أبو يزيد الفيض: (سألت موسى بن أَعْيَنَ عن قول الله عزَّ وجلَّ: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27] ، قال: تنزَّهوا عن أشياء من الحلال؛ مخافة أن يقعوا في الحرام، فسمَّاهم متَّقين)

    فوائد النَّزَاهَة
    1- النَّزَاهَة طاعة لله سبحانه وتعالى.
    2- النَّزَاهَة تحفظ النَّفس عن الانزلاق والانحراف.
    3- النَّزَاهَة خُلُق يثمر أخلاقًا أخرى، كالقناعة والورع.
    4- النَّزاهَة من ثمارها: محبَّة الله للعبد، ومِن ثَمَّ محبَّة النَّاس له.
    5- المتحلِّي بالنَّزاهَة، يتحلَّى بخُلُق تحلَّى به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    6- النَّزاهَة سبب من أسباب التَّقوى.

    أقسام النَّزَاهَة

    قَسَّم الماوردي النَّزَاهَة إلى قسمين، فقال: (النَّزاهة نوعان: أحدهما: النَّزاهة عن المطامع الدَّنيَّة.
    والثَّاني: النَّزاهة عن مواقف الرِّيبة.
    فأمَّا المطامع الدَّنيَّة؛ فلأنَّ الطَّمَع ذلٌّ، والدَّناءة لُؤْم، وهما أدفع شيء للمروءة...
    والباعث على ذلك شيئان: الشَّرَه، وقلَّة الأنَفَة، فلا يقنع بما أُوتي وإن كان كثيرًا، لأجل شَرَهه، ولا يستنكف ممَّا منع،
    وإن كان حقيرًا، لقلَّة أنَفَته. وهذه حال من لا يرضى لنفسه قدرًا، ويرى المال أعظم خطرًا، فيرى بذل أهون الأمرين لأجلِّهما مغنمًا، وليس لمن كان المال عنده أجل، ونفسه عليه أقل، إصغاءً لتأنيبٍ، ولا قبول لتأديب. وحَسْم هذه المطامع شيئان: اليأس، والقناعة...
    وأمَّا مواقف الرِّيبة: فهي التَّردُّد بين منزلتي حَمْدٍ وذمٍّ، والوقوف بين حالتي سلامةٍ وسقمٍ، فتتوجَّه إليه لائمة المتوهِّمين، ويناله ذِلَّة المريبين، وكفى بصاحبها موقفًا، إن صحَّ افتُضح، وإن لم يصح امتُهن. وقد قال النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم: ((دَعْ ما يرِيبك إلى ما لا يريبك ))
    والدَّاعي إلى هذه الحال شيئان: الاسترسال، وحسن الظَّنِّ.
    والمانع منهما شيئان: الحياء والحذر. وربَّما انتفت الرِّيبة بحسن الثِّقة، وارتفعت التُّهمة بطول الخبرة)

    من صور النَّزاهَة
    1- التَّنَزُّه عن المال المشبوه:
    عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان لأبي بكر غلام يُخْرج له الخَراج، وكان أبو بكر يأكل من خَراجه، فجاء يومًا بشيء،
    فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهَّنت لإنسان في الجاهلية، وما أُحْسِن الكَهَانَة، إلَّا أنِّي خدعته، فلقيني، فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلتَ منه. فأدخل أبو بكر يده، فقاء كلَّ شيء في بطنه)

    2- التَّنَزُّه عن مواقف الرِّيبة:
    وقد تقدم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عندما أتته صفية تزوره في المسجد، وهو معتكف، ثم خرج ليوصلها، فرآه رجلان من الأنصار، فسلما عليه، فقال لهما النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((على رِسْلِكما، إنَّما هي صفيَّة بنت حُيي )) خوفًا من أن يقذف الشيطان في قلبيهما شيئًا فيهلكا.
    3- التَّنَزُّه عن أشياء من الحلال، مخافة الوقوع في الحرام:
    (عن أبي يزيد الفيض، قال: سألت موسى بن أَعْيَنَ عن قول الله: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27] ، قال: تنزَّهوا عن أشياء من الحلال؛ مخافة أن يقعوا في الحرام، فسمَّاهم متَّقين)
    4- التَّنَزُّه عن ذمِّ النَّاس وفُحْش القول:
    قال الماوردي: (النَّزَاهَة عن الذمِّ كرم، والتَّجاوز في المدح مَلَقٌ يصدر عن مَهَانة. والسَّرَف في الذمِّ انتقام يصدر عن شَرٍّ، وكلاهما شَيْن، وإن سَلِم من الكذب)

    موانع اكتساب النَّزَاهَة

    1- الطَّمع في الدُّنْيا ونسيان الآخرة.
    قال ابن حزم: (ولولا الطَّمع، ما ذلَّ أحدٌ لأحدٍ)
    2- الشَّرَه، وحبُّ التَّوسُّع في جمع الأموال.
    3- الجبن؛ لأنَّه يُولِّد المهَانَة والذُّلَّ.
    4- البخل والشُّحُّ؛ لأنَّه يُوَلِّد الطَّمع.
    قال ابن حزم: (فإذًا نَزَاهة النَّفس مُتَـرَكِّبة من هذه الصِّفات -أي: النَّجدة والجود والعدل والفهم- فالطَّمع الذي هو ضدُّها، مُتَـرَكِّب من الصِّفات المضادَّة لهذه الأربع الصِّفات، وهي: الجبن والشُّح والجَوْر والجهل)
    5- الانهماك في الشَّهوات.

    الوسائل المعينة على اكتساب النَّزَاهَة
    1- الدُّعاء:
    كان من دعائه صلى الله عليه وسلم الهِدَاية إلى أحسن الأخلاق، فكان يقول: ((واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنِّي سيِّئها، لا يصرف عنِّي سيِّئها إلا أنت ))
    2- القناعة والبُعْد عن الطَّمع:
    عن عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قد أفلح من أسلم، ورُزِق كفافًا، وقَنَّعه الله ))
    وقال ابن حجر: (وفيه إشارةٌ إلى فضل القناعة، وذمِّ الشَّرَه)
    3- النَّجدة والجود والعدل:
    قال ابن حزم: (نَزَاهة النَّفس، وهذه صفة فاضلة مُتَـرَكِّبة من النَّجدة والجود والعدل والفهم؛ لأنَّه فَهِم قلَّة الفائدة في استعمال ضدِّها، فاستعملها، وكانت فيه نجدة أنتجت له عزَّة نفسه، فتنزَّه، وكانت فيه طبيعة سخاوة نفس، فلم يهتمَّ لما فاته، وكانت فيه طبيعة عدل، حبَّبت إليه القُنوُع وقلَّة الطَّمع. فإذًا نَزَاهة النَّفس مُتَـرَكِّبةٌ من هذه الصِّفات)
    4- الزُّهد عمَّا في أيدي النَّاس.
    5- عدم مصاحبة أهل الطَّمع والشَّرَه.

    نماذج للنَّزَاهة من حياة النَّبي صلى الله عليه وسلم

    - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنِّي لأنقلب إلى أهلي، فأجد التَّمرة ساقطة على فراشي، فأرفعها لآكلها، ثمَّ أخشى أن تكون صدقة، فألقيها ))

    نماذج للنَّزَاهة من حياة السلف
    أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه:
    - عن الحسن بن علي رضي الله عنه قال: (لما احتضر أبو بكر رضي الله عنه قال: يا عائشة، انظري اللَّقحة التي كنَّا نشرب من لبنها، والجَفْنة التي كنَّا نصْطَبح فيها، والقطيفة التي كنَّا نلبسها، فإنَّا كنَّا ننتفع بذلك حين كنَّا في أمر المسلمين، فإذا مِت فاردديه إلى عمر، فلمَّا مات أبو بكر رضي الله عنه، أرسلت به إلى عمر رضي الله عنه، فقال عمر رضي الله عنه: رضي الله عنك يا أبا بكر، لقد أتعبت من جاء بعدك)
    عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه:
    - عن عمر رضي الله عنه قال: (إنَّه لا أجده يحلُّ لي أن آكل من مالكم هذا، إلَّا كما كنت آكل من صلب مالي: الخبز والزَّيت، والخبز والسَّمن، قال: فكان ربَّما يُؤْتى بالجَفْنة قد صُنعت بالزَّيت، وممَّا يليه منها سمن، فيعتذر إلى القوم، ويقول: إنِّي رجل عربي، ولست أستمري الزَّيت) .
    - وعن زيد بن أسلم: (أنَّ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه شرب لبنًا فأعجبه، فقال للذي سقاه: من أين لك هذا اللَّبن؟ فأخبره أنَّه ورد على ماء قد سمَّاه، فإذا نَعَمٌ من نَعَمِ الصَّدقة، وهم يسقون، فحلبوه لي مِن ألبانها، فجعلته في سقائي، وهو هذا، فأدخل عمر يده فاستقاءه)
    سالم بن عبد الله بن عمر:
    - دخل هشام بن عبد الملك إلى الكعبة، فإذا هو بسالم، فقال له: سَلْني حاجتك. فقال: إنِّي أستحي من الله أن أسأل في بيته غيره، فلمَّا خرجا منها، قال: الآن قد خرجت منها فاسأل، فقال: والله ما سألت الدُّنْيا ممن يملكها، فكيف أسأل فيها من لا يملكها؟ .
    عمر بن عبد العزيز:
    - كان عمر بن عبد العزيز قد طلق نفسه عن الفيء، فلم يُرْزق منه شيئًا إلَّا عطاءه مع المسلمين، فدخل عليه ابن أبي زكريا،
    فقال: يا أمير المؤمنين، إنِّي أريد أن أكلِّمك بشيء، قال: قل. قال: قد بلغني أنَّك ترزق العامل من عمالك ثلاث مائة دينار.
    قال: نعم. قال: ولم ذلك؟ قال: أردت أن أغنيهم عن الخيانة. قال: فأنت، يا أمير المؤمنين، أولى بذلك. قال: فأخرج ذراعه، وقال: يا ابن أبي زكريا، إن هذا نَبَت من الفيء، ولست معيدًا إليه منه شيئًا أبدًا .
    - وقال عمرو بن مهاجر: (اشتهى عمر بن عبد العزيز تفَّاحًا، فأهدى له رجل -من أهل بيته- تفَّاحًا، فقال: ما أطيب ريحه وأحسنه! ارفعه يا غلام للذي أتى به، وأقرئ فلانًا السَّلام، وقل له: إنَّ هديَّتك وقعت عندنا بحيث نُحِبُّ. فقلت: يا أمير المؤمنين، ابن عمك، ورجل من أهل بيتك، وقد بلغك أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل الهديَّة.
    فقال: ويحك! إنَّ الهديَّة كانت للنَّبي صلى الله عليه وسلم هديَّة، وهذه لنا رشوة) .
    طلحة بن عبد الله بن طاهر:
    - (كان طلحة بن عبد الله بن طاهر، يُـنَادم أحمد بن أبي خالد الأحول، فأطال مُنَادَمته، وبلغه أنَّ عليه عَيْلة ودينًا، فوجَّه إليه أحمد بن أبي خالد ألف ألف درهم، فحلف الطَّاهري أن لا يقبلها، فبلغ إبراهيم بن العبَّاس، فقال: لله دَرُّ أحمد متبرِّعًا، ودَرُّ الطَّاهري متنزِّهًا) .
    قالوا عن النزاهة

    - نزِّه سمعك عن سماع الكذب، كما تنزِّه لسانك عن التَّفوُّه به

    - وقال أعرابي: عِزُّ الـنَّزَاهَة، أشرف من سرور الفائدة
    ------------------------------------------
    وما زلنا أحبابي نرتع ونتمتع في واحة ألأخلاق المحموده .. تابعونا جزاكم الله خيرا
    ولا تنسونا من صالح دعائكم

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    ألأخلاق في  ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني Empty ألأخلاق في نظر ألإسلام .. الجزء الثاني ( النَّشَاط ) - ( النُّصْرَة )

    مُساهمة من طرف صادق النور الأربعاء يونيو 29, 2022 2:09 pm

    ومن ألأخلاق المحموده ..... النَّشَاط

    معنى النَّشَاط لغةً:
    النَّشاطُ ضدُّ الكَسَلِ، من نَشَطَ الإنسان يَنْشَط ويَنْشِط نَشاطًا، فهو نَشِيطٌ، طَيِّب النَّفس للعمل، والنَّعت: ناشِطٌ، ويكون ذلك في الإِنسان والدَّابة
    معنى النَّشَاط اصطلاحًا:
    قال أبو حيان التَّوحيدي: (النَّشَاط: الهَشَاشَة، والهَشَاشَة: الخِفَّة والطَّلَاقة)
    وقال ابن الأثير: (النَّشَاط هو: أن يَخِفَّ الإنسان إلى الأمر، ويُؤْثِر فعله)

    التَّرغيب في النَّشَاط
    - عن أنس رضي الله عنه: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور، حين بلغه إقبال أبي سفيان. قال: فتكلَّم أبو بكر فأعرض عنه، ثمَّ تكلَّم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة، فقال: إيَّانا تريد، يا رسول الله؟ والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نُخِيضَها البحرَ لأخَضْناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى بَرْكِ الغماد لفعلنا )

    قال ابن كثير: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث، تطييبًا لقلوبهم؛ ليكونوا فيما يفعلونه أنشط لهم)
    - وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكلِّ عمل شِرَّة، ولكلِّ شِرَّة فَتْرة، فمن كانت فَتْرته إلى سنَّتي، فقد أفلح، ومن كانت إلى غير ذلك، فقد هلك ))
    قال الهيتمي: (شِرَّة: أي بكسر المعجمة، فشدَّة للرَّاء، فتاء تأنيث: نَشَاط وهمَّة)
    - وعن عبادة بن الصَّامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السَّمع والطَّاعة في العسر واليسر، والمنْشَط والمكْرَه، وعلى أَثَـرَة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحقِّ أينما كنَّا، لا نخاف في الله لومة لائم )
    قال أبو الوليد الباجي: (... ((والمنْشَط والمكْرَه))، يريد: وقت النَّشَاط إلى امتثال أوامره، ووقت الكراهية لذلك. ولعلَّه أن يريد بالمنْشَط: وجود السَّبيل إلى ذلك، والتَّفرُّغ له، وطِيب الوقت، وضعف العدو)
    - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهمَّ إنِّي أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والهَـرَم، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من عذاب القبر ))
    فالنَّبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوَّذ من الكسل، والذي هو ضدَّ النَّشَاط.
    قال ابن حجر: (الكَسَل: ترك الشَّيء، مع القُدْرة على الأخذ في عمله)
    - وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب مكان كلِّ عقدة: عليك ليل طويل، فارقد، فإن استيقظ فذكر الله، انحلَّت عقدة، فإن توضأ انحلَّت عقدة، فإن صلَّى انحلَّت عقده، فأصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان ))
    قال النووي: (قوله صلى الله عليه وسلم: فأصبح نشيطًا طيب النفس. معناه لسروره بما وفَّقه الله الكريم له من الطاعة، ووعده به من ثوابه، مع ما يبارك له في نفسه، وتصرفه في كلِّ أموره، مع ما زال عنه من عقد الشيطان وتثبيطه)
    - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، وحبل ممدود بين ساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ فقيل: يا رسول الله، هذه حَمْنة بنت جحش، تصلِّي، فإذا أعْيت، تعلَّقت به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لتصلِّ ما أطاقت، فإذا أعْيت، فلتجلس. قال زياد: فقال: ما هذا؟ فقالوا: لزينب، تصلِّي، فإذا كَسِلت أو فَتَرت، أمسكت به. فقال: حُلُّوه.
    فقال: ليصلِّ أحدكم نشاطه، فإذا كَسِل أو فَتَر فليقعد
    ))
    قال النَّووي: (فيه: الحثُّ على الاقتصاد في العبادة، والنَّهي عن التَّعمُّق، والأمر بالإقبال عليها بنشاط)

    أقوال السلف والعلماء في النَّشَاط

    - قال علي رضي الله عنه: (أوصيكم بتقوى الله في الغيب والشَّهادة، وكلمة الحقِّ في الرِّضا والغضب، والقصد في الغِنَى والفقر، والعدل في الصَّديق والعدو، والعمل في النَّشَاط والكسل)

    - وقال ابن القيِّم: (الكسَالى أكثر النَّاس همًّا وغمًّا وحزنًا، ليس لهم فرح ولا سرور، بخلاف أرباب النَّشَاط والجِدِّ في العمل)
    - وقال آخر: (كلبٌ طوَّاف، خيرٌ من أسد رابض)
    - وقال آخر: (لا يفترس الأسد الظبي وهو رابض)
    - وقال آخر: (اجعل الاجتهاد غنيمة صحَّتك، والعمل فرصة فراغك)
    - وقال آخر: (العمل تُرْس يقي سهام البلاء، والجِدُّ سيف يقطع أعناق الشَّقاء)
    - وقال لسان الدِّين الخطيب: (الكسل مَزْلَقة الرِّبح، ومَسْخَرَة الصبح، وآفة الصَّانع، وأرَضَة البضائع. إذا رقدت النَّفس في فراش الكسل، استغرقها نوم الغفلة عن صالح العمل. والفلَّاح إذا ملَّ الحركة، عدم البركة. والعَزْم سوق، والتَّاجر الجسور مرزوق)
    - وقال حسين المهدي: (إن التَّنقُّل والمشي يعين على طلب الرِّزق، ويُكْسِب الصِّحة، ويجدِّد للإنسان النَّشَاط، ويغرس فيه الأمل، ويُبْعده عن الكسل، وأي قيمة لإنسان فارغ كسول في حياة مفعمة بالجِدِّ والعمل وحبِّ الإنتاج، فمن رضي الخُمُول كان فارغًا كسولًا، تموت آماله وهو يرمقها بعين النَّدامة، لا غاية له يسعى إلى تحقيقها، ولا طريق واضحة يسير فيها، إنَّ حياته كلَّها شقاء)

    فوائد النَّشَاط
    1- أنَّ النَّشَاط خُلُق من أخلاق المؤمنين.
    2- النَّشَاط سبب صفاء الذِّهن، وصدق الحِسِّ، وكثرة الصَّواب.
    قال ابن عبد ربِّه: (وبالنَّشَاط يصفو الذِّهن، ويصْدق الحِسُّ، ويكثر الصَّواب)
    3- علامة من علامات دحر الشيطان بذكر الله.
    4- به تعمر الدنيا، وتفتح البلدان لنشر دين الله.
    5- به يُذاد عن الأوطان، وتُحمى الأعراض وتُنشر الفضيلة، وتُدحر الرذيلة.
    6- النشاط في عمل الخير يكسب المرء حبَّ الله ورضا الناس، ويرفع ذكره في العالمين.
    7- كثرة تحصيل الثواب، والاجتهاد في الطاعات، وبلوغ أعلى المقامات.
    8- أنَّ النَّشَاط سبب الوصول إلى كلِّ خير: من العِزِّ والغنى والرِّفعة والنَّبَاهة.
    قال الرَّاغب: (مَن تعطَّل وتبطَّل، انسلخ من الإنسانيَّة، بل من الحيوانيَّة، وصار من جنس الموتى، وحقُّ الإنسان أن يتأمَّل قوَّته، ويسعى بحسب ذلك إلى ما يفيده السَّعادة، ويتحقَّق أنَّ اضطرابه -أي: نشاطه- سبب وصوله من الذُّل إلى العزِّ، ومن الفقر إلى الغِنَى، ومن الضعة إلى الرِّفعة، ومن الخُمُول إلى النَّبَاهة)

    أقسام النَّشَاط
    ينقسم النَّشَاط إلى قسمين:
    القسم الأوَّل: النَّشَاط المحمود: وهو النشاط في الطاعات والأمور النافعة طلبًا لمرضاة الله.
    القسم الثَّاني: النَّشَاط المذموم: وهو ما لا ينفع في الآخرة، أو كان على وجه الرِّياء؛ الشِّرك الأصغر
    قال الغزالي: (اعلم أنَّ الرَّجل قد يبيت مع القوم في موضع، فيقومون للتَّهجُّد، أو يقوم بعضهم فيصلُّون اللَّيل كلَّه أو بعضه، وهو مَّمن يقوم في بيته ساعة قريبة، فإذا رآهم انبعث نشاطه للموافقة، حتى يزيد على ما كان يعتاده، أو يصلِّي، مع أنَّه كان لا يعتاد الصَّلاة باللَّيل أصلًا، وكذلك قد يقع في موضع يصوم فيه أهل الموضع، فينبعث له نشاطٌ في الصَّوم، ولولاهم لما انبعث هذا النَّشَاط، فهذا ربَّما يُظنُّ أنَّه رياء، وأنَّ الواجب ترك الموافقة، وليس كذلك على الإطلاق، بل له تفصيل؛
    لأنَّ كلَّ مؤمن راغب في عبادة الله تعالى، وفي قيام اللَّيل وصيام النَّهار، ولكن قد تعوقه العوائق، ويمنعه الاشتغال،
    ويغلبه التَّمكُّن من الشَّهوات، أو تستهويه الغفلة، فربَّما تكون مشاهدة الغير سبب زوال الغفلة، أو تندفع العوائق والأشغال في بعض المواضع، فينبعث له النَّشَاط، فقد يكون الرَّجل في منزله، فتقطعه الأسباب عن التَّهجُّد، مثل تمكُّنه من النَّوم على فراش وثير،
    أو تمكُّنه من التَّمتُّع بزوجته، أو المحادثة مع أهله وأقاربه، أو الاشتغال بأولاده، أو مطالعة حساب له مع مُعَامليه،
    فإذا وقع في منزلٍ غريبٍ، اندفعت عنه هذه الشَّواغل، التي تفتر رغبته عن الخير، وحصلت له أسباب باعثة على الخير،
    كمشاهدته إيَّاهم، وقد أقبلوا على الله، وأعرضوا عن الدُّنْيا، فإنَّه ينظر إليهم، فينافسهم، ويشقُّ عليه أن يسبقوه بطاعة الله،
    فتتحرَّك داعيته للدِّين، لا للرِّياء، أو ربَّما يفارقه النَّوم لاستنكاره الموضع أو سبب آخر، فيغتنم زوال النَّوم، وفي منزله ربَّما يغلبه النَّوم، وربَّما ينضاف إليه أنَّه في منزله على الدَّوام، والنَّفس لا تسمح بالتَّهجُّد دائمًا، وتسمح بالتَّهجُّد وقتًا قليلًا، فيكون ذلك سبب هذا النَّشَاط، مع اندفاع سائر العوائق... وكذلك قد يَحْضُر الإنسان يوم الجمعة في الجامع من نشاط الصَّلاة ما لا يحضره كلَّ يوم، ويمكن أن يكون ذلك لحبِّ حمدهم، ويمكن أن يكون نشاطه بسبب نشاطهم، وزوال غفلته بسبب إقبالهم على الله تعالى،
    وقد يتحرَّك بذلك باعث الدِّين، ويقارنه نزوع النَّفس إلى حبِّ الحمد، فمهما علم أنَّ الغالب على قلبه إرادة الدِّين، فلا ينبغي أن يترك العمل بما يجده من حبِّ الحمد، بل ينبغي أن يردَّ ذلك على نفسه بالكراهية، ويشتغل بالعبادة)

    صور النَّشَاط

    1- استثمار الوقت والاستفادة منه، وعدم تضييعه فيما لا يفيد.
    2- الإقبال على كلِّ عمل جدِّي، مع الالتزام والانضباط.
    3- الإتقان في العمل، وتنظيمه.
    4- تحديد الأهداف، والسَّعي إلى تحقيقها.
    5- الإقبال على فعل الطَّاعات بجدٍّ ونشاط:
    قال تعالى: وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى [التَّوبة: 54]
    قال السعدي: (ينبغي للعبد أن لا يأتي الصَّلاة إلَّا وهو نشيط البدن والقلب إليها)

    موانع اكتساب النَّشَاط
    1- عدم الذِّكر والوضوء والصَّلاة عند الاستيقاظ.
    2- مخالفة أوامر الله، والبُعْد عن طاعته.
    3- التَّشاؤم والطِّيرة، والبُعْد عن التَّفاؤل؛ حيث إنَّه بالتَّشاؤم يتكاسل الإنسان، ويحصل له الهمُّ والحزن.
    4- العزلة وعدم الاختلاط بالصَّالحين.
    5- مجالسة الكسالى والمثبِّطين.
    6- عدم الشُّعور بالمسؤوليَّة.
    7- النِّفاق يورث الكَسَل في العبادة لا محالة، كما قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النَّساء: 142]
    8- التَّسويف، وهو داء عضال ومرض قتَّال، إذ إنَّ (سوف) جندٌ مِن جنود إبليس،
    9- شِبَع البطن، قال صلى الله عليه وسلم: ((ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطن بحسب ابن آدم لُقَيْمَات يُقِمْن صلبه ))
    ، قال ابن قدامة: (كثرة الأكل تورث الكَسَل والفُتُور)
    10- فتح الفم عند التَّثاؤب وعدم دفعه، عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه مرفوعًا: ((إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فيهِ )) ؛ لأنَّه سبب الكَسَل عن الطَّاعة والحضور فيها، ولذا صار منسوبًا إلى الشَّيطان،
    كما قال صلَّى الله تعالى عليه وسلَّم: ((التَّثاؤب مِن الشَّيطان ))
    11- التَّواكل، وذلك بسبب فهم بعض النَّاس أنَّه لا حاجة للعمل، لأنَّ قَدَر الله ماض سواء عمل أم لم يعمل، فأدَّى بهم هذا التَّواكل إلى العَجْز والكَسَل وعدم النشاط.
    12- السَّهر باللَّيل يوجب الكَسَل بالنَّهار عمَّا تجب الحقوق فيه مِن الطَّاعات ومصالح الدُّنيا والدِّين
    13- حبُّ الرَّاحة والدَّعة وإيثار البطالة.

    الوسائل المعينة على اكتساب النَّشَاط وزيادته
    1- ذكر الله:
    قال تعالى: اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ [المائدة: 20]
    (فإنَّ ذكرها داعٍ إلى محبَّته تعالى، ومُنَشِّط على العبادة)
    2- التَّذكير بآيات الله:
    قال تعالى: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [السجدة: 15]
    قال السعدي: (يقابلونها بالقبول والافتقار إليها والانقياد والتَّسليم لها، وتجد عندهم آذانًا سامعةً، وقلوبًا واعيةً، فيزداد بها إيمانهم، ويتمُّ بها إيقانهم، وتُحدث لهم نشاطًا، ويفرحون بها سرورًا واغتباطًا)
    وقال تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55]
    (والتذكير نوعان: تذكير بما لم يعرف تفصيله... والنَّوع الثَّاني: تذكيرٌ بما هو معلومٌ للمؤمنين، ولكن انسحبت عليه الغفلة والذُّهول، فيُذَكَّرون بذلك، ويُكَرَّر عليهم؛ ليرسخ في أذهانهم، وينتبهوا، ويعملوا بما تذكَّروه من ذلك، وليحدث لهم نشاطًا وهمَّة، توجب لهم الانتفاع والارتفاع)
    3- الفَرَح بفضل الله ورحمته:
    قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 57-58]
    (وإنَّما أمر الله تعالى بالفرح بفضله ورحمته؛ لأنَّ ذلك ممَّا يوجب انبساط النَّفس ونشاطها)
    4- التَّأمُّل في قصص السَّابقين:
    قال تعالى: وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود: 120]
    فؤادك (أي: قلبك؛ ليطمئن ويَثْبُت، ويصبر كما صبر أولو العزم من الرُّسل، فإنَّ النُّفوس تأنس بالاقتداء، وتنشط على الأعمال، وتريد المنافسة لغيرها، ويتأيَّد الحقُّ بذكر شواهده، وكثرة من قام به)
    5- الفَأْل الحسن:
    فإنَّ (فيه من المصلحة: النَّشَاط والسُّرور، وتقوية النُّفوس على المطالب النَّافعة) فـ(الإنسان إذا تفاءل، نشط واستبشر، وحصل له خير)
    6- القيام بأوامر الله، وامتثال طاعته:
    قال ابن القيِّم: (السَّالك في أوَّل الأمر، يجد تعب التَّكاليف، ومشقَّة العمل؛ لعدم أنس قلبه بمعبوده، فإذا حَصل للقلب روح الأنس، زالت عنه تلك التَّكاليف والمشاق، فصارت قرَّة عين له، وقوَّة ولذَّة، فتصير الصَّلاة قرَّة عينه، بعد أن كانت عملًا عليه، ويستريح بها بعد أن كان يطلب الرَّاحة منها)
    7- طلب نعيم الله ورجاء ما وُعد به الصَّالحون:
    يقول الغزالي: (فإن قلت: فأين مظنة الرجاء وموضعه المحمود؟ فاعلم أنه محمود في موضعين... الثاني: أن تفتر نفسه عن فضائل الأعمال، ويقتصر على الفرائض، فيرجِّي نفسه نعيم الله تعالى وما وعَد به الصَّالحين، حتى ينبعث من الرَّجاء، نشاط العبادة، فيقبل على الفضائل،
    ويتذكَّر قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون: 1-2] إلى قوله: أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون: 10-11] ، فالرَّجاء الأوَّل، يقمع القنوط المانع من التَّوبة، والرَّجاء الثَّاني يقمع الفتور المانع من النَّشَاط والتَّشمُّر)
    8- الشُّعور بالمسؤولية، وعدم التَّهاون بما كُلِّف به.
    9- المبادرة والمداومة والمثابرة في كلِّ الظُّروف:
    قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: 200] ،
    وقال سبحانه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت: 69]

    نماذج في النشاط من حياة النَّبي صلى الله عليه وسلم

    - عن البراء رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب ينقل التُّراب، وقد وارى التُّراب بياض بطنه، وهو يقول:
    ((لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدَّقنا ولا صلَّينا
    فأَنْزِل السَّكينة علينا وثبِّت الأقدام إن لاقينا
    إنَّ الأُلى قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا
    ))
    - عن أبي إسحاق قال: سألت الأسود بن يزيد عمَّا حدَّثته عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: (كان ينام أوَّل الليل، ويُحيي آخره، ثمَّ إن كانت له حاجة إلى أهله، قضى حاجته، ثمَّ ينام، فإذا كان عند النِّداء الأوَّل - قالت - وثب - ولا والله ما قالت قام - فأفاض عليه الماء - ولا والله ما قالت: اغتسل. وأنا أعلم ما تريد - وإن لم يكن جُنُبًا توضَّأ وضوء الرَّجل للصَّلاة، ثمَّ صلَّى الرَّكعتين
    نماذج في النشاط من حياة السَّلف

    - عن عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أشيروا عليَّ أيها النَّاس -وإنَّما يريد الأنصار-؛ وذلك أنَّهم كانوا عدد النَّاس، وذلك أنَّهم حين بايعوه بالعقبة، قالوا: يا رسول الله، إنَّا برآء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذممنا، نمنعك ممَّا نمنع منه أبناءنا ونساءنا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوَّف ألَّا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلَّا ممَّن دَهَمه بالمدينة من عدوِّه،
    وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدوٍّ من بلادهم، فلمَّا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك،
    قال له سعد بن معاذ: والله لكأنَّك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. قال: فقد آمنَّا بك، وصدَّقناك، وشهدنا أنَّ ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السَّمع والطَّاعة، فامض يا رسول الله لما أمرك الله. فوالذي بعثك بالحقِّ، إن استعرضت بنا هذا البحر، فخضته لخضناه معك، ما يتخلَّف منَّا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوَّنا غدًا، إنَّا لصُبُرٌ في الحرب،
    صُدُقٌ عند اللِّقاء، ولعلَّ الله يريك منَّا ما تقرُّ به عينك، فسِر بنا على بركة الله. فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشَّطه ذلك، ثمَّ قال: سيروا على بركة الله وأبشروا، فإنَّ الله قد وعدني إحدى الطَّائفتين، والله لكأنِّي الآن أنظر إلى مصارع القوم
    ) :
    ذكر الحافظ الذَّهبي في ترجمة أبي حاتم الرَّازي، أنَّ أبا حاتم قال: قال لي أبو زرعة (ما رأيت أحرص على طلب الحديث منك. فقلت له: إنَّ عبد الرَّحمن ابني لحريص. فقال: من أشبه أباه فما ظلم، قال الرَّقَّام: فسألت عبد الرَّحمن عن اتفاق كثرة السماع له، وسؤالاته لأبيه، فقال: ربَّما يأكل وأقرأ عليه، ويمشي وأقرأ عليه، ويدخل الخلاء وأقرأ عليه، ويدخل البيت في طلب شيء وأقرأ عليه)
    وعن الخوارزمي قال: قال ابن أبي حاتم: (كنَّا بمصر سبعة أشهر لا نأكل فيها مرقة، نهارنا ندور على الشيوخ، وبالليل ننسخ ونقابل، فأتينا يومًا -أنا ورفيق لي- شيخنا، فقالوا: هو عليل، فرأيت سمكة أعجبتنا فاشتريناها، فلمَّا صرنا إلى البيت، حضر وقت مجلس بعض الشُّيوخ، فمضينا، فلم تزل السَّمكة ثلاثة أيام، وكادت أن تنتن، فأكلناها نيِّئةً، لم نتفرَّغ نشويها، ثم قال: لا يُسْتطاع العلم براحة الجسد)
    ابن حجر العسقلاني:
    ذكر السَّخاوي: أنَّ شيخه الحافظ ابن حجر قرأ (سنن ابن ماجه) في أربعة مجالس، و(صحيح مسلم) في أربعة مجالس، وكتاب النَّسائي الكبير في عشرة مجالس، كلُّ مجلس نحو أربع ساعات، ومعجم الطَّبراني الصَّغير في مجلس واحد بين الظُّهر والعصر، وهذا أسرع ما وقع له
    ============================================
    ومن ألأخلاق المحموده ..... النُّصْرَة

    معنى النُّصْرَة في اللُّغة:
    النُّصرة: النَّصْر والعون، وهي اسم من نَصَرَه على عَدوِّه يَنْصُره نَصْرًا، أي: أعانَه وقَوَّاه، والنَّصيرُ والنَّاصِر واحد
    معنى النُّصْرَة في الاصطلاح:
    يُقصد بالنُّصْرَة: تلك الغَيْرة الإيمانيَّة، التي تدفع المسلم لرفع الظُّلم عن أخيه المسلم المستَضْعف
    أولًا: الترغيب في النُّصْرَة في القرآن الكريم
    - قال سبحانه: وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا [النِّساء: 75]
    قال الحافظ ابن كثير في هذه الآية: (يحرِّض تعالى عباده المؤمنين على الجهاد في سبيله، وعلى السَّعي في استنقاذ المستضعفين بمكَّة من الرِّجال والنِّساء والصِّبيان، المتبرِّمين بالمقام بها؛ ولهذا قال تعالى: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ [النِّساء: 75] يعني: مكَّة، كقوله تعالى: وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [محمَّد: 13]

    - وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الأنفال: 72]
    قال الطَّبري: وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ يقول: (إن استنصركم هؤلاء -الذين آمنوا ولم يهاجروا- في الدِّين، يعني بأنَّهم من أهل دينكم، على أعدائكم وأعدائهم من المشركين، فعليكم أيُّها المؤمنون -من المهاجرين والأنصار- النَّصر، إلا أن يستنصروكم على قوم بينكم وبينهم ميثاق، يعني: عهد قد وَثِق به بعضكم على بعض أن لا يحاربه)
    وقال ابن العربي في هذه الآية وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ: (يريد: إن دعوا من أرض الحرب عونكم بنفير أو مال لاستنقاذهم، فأعينوهم، فذلك عليكم فرض، إلَّا على قوم بينكم وبينهم عهد، فلا تقاتلوهم عليهم حتى يتمَّ العهد، أو ينبذ على سواء. إلَّا أن يكونوا أُسَراء مستضعفين؛ فإنَّ الوِلَاية معهم قائمة، والنُّصْرَة لهم واجبة بالبدن، بألَّا يبقى منَّا عين تَطْرف حتى نخرج إلى استنقاذهم، إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم، حتى لا يبقى لأحد درهم، كذلك قال مالك وجميع العلماء: فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون على ما حلَّ بالخَلْق في تركهم إخوانهم في أَسْر العدوِّ، وبأيديهم خزائن الأموال، وفضول الأحوال، والعُدَّة والعدد، والقوَّة والجَلَد)
    ثانيًا: الترغيب في النُّصْرَة في السُّنَّة النَّبَويِّة
    - عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انصر أخاك ظالـمًا، أو مَظْلومًا. فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مَظْلومًا، أفرأيت إذا كان ظالـمًا، كيف أنصره؟ قال: تَحْجُزُه، أو تمنعه من الظُّلم، فإنَّ ذلك نَصْره ))
    قال العلائي: (هذا من بليغ الكلام، الذي لم يُنْسج على منواله، و((أو)) للتَّنويع والتَّقسيم، وسمِّي رَدُّ المظالم نَصْرًا؛ لأنَّ النَّصْر هو العون، ومنع الظَّالم عون له على مصلحته، والظَّالم مَقْهور مع نفسه الأمَّارة، وهي في تلك الحالة عاتية عليه، فردُّه عونٌ له على قَـهْرها، ونُصْرةٌ له عليها)
    - وقد رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه أيضًا بلفظ: ((لينصر الرَّجل أخاه ظالـمًا أو مَظْلومًا، إن كان ظالـمًا فلينهه، فإنَّه له نَصْرٌ، وإن كان مَظْلومًا فلينصره))
    قال البيهقي: (معنى هذا: أنَّ الظَّالم مظْلوم من جهته،
    كما قال الله عزَّ وجلَّ: وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ [النِّساء: 110]، فكما ينبغي أن يُنْصر المظْلوم -إذا كان غير نفس الظَّالم ليدفع الظُّلم عنه- كذلك ينبغي أن يُنْصر إذا كان نفس الظَّالم؛ ليدفع ظلمه عن نفسه)
    وقال ابن بطَّال: (النَّصْر عند العرب الإعانة، وتفسيره لنَصْر الظَّالم: بمنعه من الظُّلم؛ من تسمية الشَّيء بما يؤول إليه، وهو من وجيز البلاغة)
    - وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: ((أمرنا بسبع: بعيادة المريض، واتِّباع الجنائز، وتشميت العاطس، وردِّ السَّلام، وإجابة الدَّاعي، وإِبْرَار المقْسِم، ونَصْر المظْلوم ))
    - وقال صلى الله عليه وسلم: ((من نَصَر أخاه بظَهْر الغيب، نَصَره الله في الدُّنْيا والآخرة))
    - وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم أخو المسلم، لا يَظْلِمه، ولا يُسْلِمه، ومن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كُرْبة، فرَّج الله عنه كُرْبة من كُرُبات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله يوم القيامة ))
    قال الحافظ ابن حجر: (قوله ((لا يَظْلِمه)) هو خَبَر بمعنى الأمر، فإنَّ ظُلم المسلم للمسلم حرام، وقوله: ((ولا يُسْلِمه)) أي: لا يتركه مع من يُؤذيه، ولا فيما يُؤذيه، بل يَنْصُره، ويدفع عنه، وهذا أخصُّ مِنْ تَرْك الظُّلم)
    - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: ((لما رَجَعَت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مُهَاجرة البحر،
    قال: ألا تُحَدِّثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟ قال فتية منهم: بلى يا رسول الله، بينا نحن جلوس مرَّت بنا عجوز من عجائز رهابينهم، تحمل على رأسها قُلَّة من ماء، فمرَّت بفتى منهم، فجعل إحدى يديه بين كتفيها، ثمَّ دفعها، فخرَّت على ركبتيها، فانكسرت قلَّتها، فلمَّا ارتفعت، التفتت إليه، فقالت: سوف تعلم -يا غُدر- إذا وضع الله الكرسيَّ، وجمع الأولين والآخرين، وتكلَّمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غدًا، قال: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: صَدَقَت صَدَقَت، كيف يقدِّس الله أمَّة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟!
    ))
    قال السِّندي: (يقدِّس الله) أي: يُطَهِّرهم من الدَّنس والآثام)
    وقال المناوي: (استخبار فيه إنكار وتعجُّب، أي: أخبروني كيف يُطهِّر الله قومًا لا ينصرون العاجز الضَّعيف على الظَّالم القويِّ، مع تمكُّنهم من ذلك؟ أي: لا يطهِّرهم الله أبدًا)
    فوائد النُّصْرَة

    1- تقديس الله للأمَّة، أي: تطهيرها من دنس الذُّنوب، كما ورد في الحديث النَّبَوي الشَّريف.
    2- في النصرة إقامة الشرع بإظهار العدل.
    قال ابن الجوزي: (وأما نَصْر المظْلوم فلمعنيين، أحدهما: إقامة الشَّرع بإظهار العدل، والثَّاني: نَصْر الأخ المسلم، أو الدَّفع عن الكِتَابِي وفاءً بالذِّمَّة)
    3- أنَّ الله عزَّ وجلَّ يقيم وينصر ويمكِّن الدَّولة التي يُنْصَر فيها المظْلوم، ويأخذ فيها حقَّه، قال ابن تيمية: (إنَّ الله يقيم الدَّولة العادلة، وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدَّولة الظَّالمة، وإن كانت مسلمة)
    4- نجاة الأمَّة من العقاب، فإن لم تَنْصر الأمَّةُ المظْلوم، وتأخذ على يد الظَّالم، وتمنعه من الظُّلم، فسَيَعُمُّ العقابُ الجميع، قال تعالى: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 25]
    5- أنَّ الذي يَنْصُر المظْلوم يَنْصُره الله، والجزاء من جنس العمل، فالله سبحانه وتعالى يُسخر له من يقف إلى جانبه وينصره في الدُّنْيا، ويتولَّاه الله في الآخرة، كما في الحديث الذي سبق: ((من نَصَر أخاه بظَهْر الغيب، نَصَره الله في الدُّنْيا والآخرة ))
    6- نجاة الأمة من الفتنة والفساد، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال: 72-73]
    قال الطبري: (فبيِّنٌ أنَّ أولى التأويلين بقوله: إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ، تأويلُ من قال: إلا تفعلوا ما أمرتكم به من التعاون والنصرة على الدين، تكن فتنة في الأرض)
    حُكم نُصْرَة المظْلوم

    قال ابن بطَّال: (وأمَّا نَصْر المظْلوم، ففرضٌ على من يقدر عليه، ويُطَاع أمره)
    وقال: (نَصْر المظْلوم فرض واجب على المؤمنين على الكِفَاية، فمن قام به، سقط عن الباقين، ويتعيَّن فرض ذلك على السُّلطان، ثمَّ على كلِّ من له قُدْرة على نُصْرته، إذا لم يكن هناك من ينصره غيره، من سلطان وشبهه)
    وقال النَّووي: (وأمَّا نَصْر المظْلوم، فمن فروض الكِفَاية، وهو من جُمْلة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وإنَّما يتوجَّه الأمر به لمن قَدِر عليه، ولم يخَفْ ضررًا)
    وقال الحافظ ابن حجر: (هو فرض كِفَاية، وهو عامٌّ في المظْلومين، وكذلك في النَّاصرين، بناء على أنَّ فرض الكِفَاية مُخَاطب به الجميع، وهو الرَّاجح، ويتعيَّن -أحيانًا- على من له القُدْرة عليه وحده، إذا لم يترتَّب على إنكاره مَفْسدةٌ أشدُّ من مفسدة المنكَر، فلو علم أو غَلَب على ظنِّه أنَّه لا يفيد، سَقَط الوجوب، وبَقِي أصل الاستحباب بالشَّرط المذكور، فلو تساوت المفسدتان تَخَيَّر، وشَرْط النَّاصر أن يكون عالـمًا بكون الفعل ظُلمًا)
    صور النُّصْرَة
    1- النُّصْرَة قبل وقوع الظُّلم:
    نُصْرة المظْلوم قد تكون أثناء وقوع الظُّلم عليه، أو قبل ذلك أو بعده، قال الحافظ ابن حجر: (ويقع النَّصْر مع وقوع الظُّلم، وهو حينئذ حقيقة، وقد يقع قبل وقوعه، كمن أنقذ إنسانًا من يد إنسان طالبه بمال ظُلمًا، وهدَّده إنْ لم يبذله، وقد يقع بَعْدُ، وهو كثير)
    2- النُّصْرَة بالنُّصح للظَّالم:
    إذا رأى المسلم حقًّا مهضومًا، وظُلمًا بيِّنًا، عليه أن يقوم بنصح الظَّالم وتذكيره بالله، يقول ابن عثيمين: (إذا رأيت شخصًا يظلم جاره بالإساءة إليه، وعدم المبالاة به، فإنَّه يجب عليك أن تَنْصُر هذا وهذا -الظَّالم والمظْلوم-: فتذهب إلى الظَّالم الجار، الذي أخلَّ بحقوق جاره، وتنصحه، وتبيِّن له ما في إساءة الجِوَار من الإثم والعقوبة، وما في حُسْن الجِوَار من الأجر والمثوبة، وتُكرِّر عليه، حتى يهديه الله فيرْتَدع، وتنصر المظْلوم الجار، وتقول له: أنا سوف أنصح جارك، وسوف أكلِّمه، فإن هداه الله، فهذا هو المطلوب، وإن لم يهتد فأخبرني، حتى نكون أنا وأنت عند القاضي أو الحاكم سواء، نتعاون على دفع ظلم هذا الظَّالم.
    وكذلك إذا وجدت شخصًا جحد لأخيه حقًّا، تدري أنَّه جحده، أنَّ أخيه عليه هذا الحقُّ، فتذهب إلى هذا الظَّالم الذي جحد حقَّ أخيه، وتنصحه، وتبيِّن له ما في أكل المال بالباطل من العقوبة، وأنَّه لا خير في أكل المال بالباطل، لا في الدُّنْيا ولا في الآخرة، بل هو شَرٌّ، حتى يؤدي ما عليه)
    3- النُّصْرَة بالشَّفاعة للمظْلوم:
    ومن صُوَره: الشَّفاعة للمظْلوم، حتى يأخذ حقَّه، كما قال الله عزَّ وجلَّ: مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا [النِّساء: 85]
    قال الحافظ ابن كثير: (وقوله: مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا أي: من سعى في أمر، فترتَّب عليه خير، كان له نصيب من ذلك، وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا أي: يكون عليه وِزْرٌ من ذلك الأمر، الذي ترتَّب على سعيه ونيَّته)
    وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه السائل أو طلبت إليه حاجة قال: ((اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء ))
    (أي: إذا عرض المحتاج حاجته علي، فاشفعوا له إلي، فإنكم إن شفعتم حصل لكم الأجر، سواء قبلت شفاعتكم أم لا، ويجري الله على لسان نبيه ما شاء، أي: من موجبات قضاء الحاجة أو عدمها، أي: إن قضيتها أو لم أقضها فهو بتقدير الله تعالى وقضائه)
    4- النُّصْرَة بدفع أذى السُّلطان عن المظلوم:
    فالمسلم ينصر أخاه المظْلوم بدفع أذى السُّلطان عنه، سواءً كان بمُنَاصَحتهم، أو بقول كلمة الحقِّ عندهم، وقد تبرَّأ صلى الله عليه وسلم ممَّن يعين الظَّالم على ظُلْمه، فقال: ((إنَّه ستكون بعدي أمراء، مَنْ صدَّقهم بكَذِبهم، وأعانهم على ظُلْمهم، فليس منِّي، ولست منه، وليس بوارد عليَّ الحوض، ومن لم يصدِّقهم بكَذِبهم، ولم يعنهم على ظُلْمهم، فهو منِّي وأنا منه، وهو وارد عليَّ الحوض ))
    واستحسن عمرو بن العاص صفاتٍ يتَّصف بها الرُّوم، فقال: (إنَّ فيهم لخصالًا أربعًا: إنَّهم لأحلم النَّاس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرَّة بعد فرَّة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظُلْم الملوك )
    5- النُّصْرَة في الجهاد:
    النُّصْرَة بالجهاد من الصُّور العظيمة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض دعوته في المواسم بمنى، ويقول: ((مَنْ يؤويني؟ مَنْ ينصرني؟ )) وحين بُويع بيعة العقبة، اشترط النُّصْرَة، فقال: ((... وأسألكم لنفسي ولأصحابي: أن تُؤْوونا وتنصرونا، وتمنعونا ممَّا منعتم منه أنفسكم))
    6- نصرة الظالم بمنعه من الظلم:
    عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انصر أخاك ظالـمًا أو مظلومًا. فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالـمًا كيف أنصره؟ قال: تحجزه، أو تمنعه، من الظلم، فإنَّ ذلك نصره ))
    قال ابن بطال: (النصرة عند العرب: الإعانة والتأييد، وقد فسره رسول الله أنَّ نصر الظالم منعه من الظلم؛ لأنَّه إذا تركته على ظلمه، ولم تكفَّه عنه، أدَّاه ذلك إلى أن يُقتصَّ منه؛ فمنعك له مما يوجب عليه القصاص نصره، وهذا يدلُّ من باب الحكم للشيء، وتسميته بما يؤول إليه)
    الوسائل المعينة على اكتساب صفة النُّصْرَة
    1- أن تعلم أنَّ نُصْرة المظْلوم طاعة لله ورسوله.
    2- أن تستشعر الأخوة الإيمانية، قال البيهقي: (وإنَّما أُمِر كلُّ واحد بنصرة أخيه المسلم، إذا رآه يُظْلم، وقَدِر على نَصْره؛ لأنَّ الإسلام إذا جمعهما صارا كالبدن الواحد، كما أنَّ أُخوَّة النَّسب لو جمعتهما، كانا كالبدن الواحد، والدِّين أقوى من القرابة، وأولى بالمحافظة عليه منها، وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله عزَّ وجلَّ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات: 10])
    3- أن تستحضر عظمة الله وقدرته ومعيَّته لك، فيهون عليك أمر الظَّالم ولا تخشاه، كما قال النَّبيَّان الكريمان موسى وهارون لربِّهما في شأن فرعون: قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى [طه: 45-47]
    نماذج من نصرة النَّبي صلى الله عليه وسلم للمظْلوم

    - كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يحمل الكَلَّ ويعين على نوائب الحقِّ، وينتصر للمظْلوم، وقد شَهِد حِلْفًا في الجاهليَّة من أجل نُصْرَة المظْلوم، وقد قال صلى الله عليه وسلم في ذلك: ((شَهِدت حلف المطَيَّبين مع عُمُومَتي وأنا غلام؛ فما أحبُّ أنَّ لي حُمْر النَّعم وأنِّي أنكُثه ))
    وعن محمَّد بن إسحاق، قال: (تداعت قبائل من قريش إلى حِلْف، فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان ابن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرَّة بن كعب بن لؤي، لشَرَفه وسنِّه، فكان حِلْفهم عنده: بنو هاشم، وبنو المطَّلب، وأسد بن عبد العزَّى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرَّة. فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكَّة مَظْلومًا من أهلها وغيرهم -ممَّن دخلها من سائر النَّاس- إلا قاموا معه، وكانوا على مَن ظَلَمه حتى تُرَدَّ عليه مَظْلمته، فسمَّت قريشٌ ذلك الحِلْف: حِلْف الفُضُول)
    - قال ابن إسحاق: حدَّثني عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان الثَّقفي، وكان واعية، قال: قدم رجل من إرَاشَ -قال ابن هشام: ويقال: إرَاشَة- بإبل له مكَّة، فابتاعها منه أبو جهل، فمَطَلَه بأثمانها. فأقبل الإرَاشِيُّ حتى وقف على نادٍ من قريش،
    ورسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية المسجد جالس، فقال: يا معشر قريش، مَنْ رجل يؤدِّيني على أبي الحكم بن هشام،
    فإنِّي رجل غريب، ابن سبيل، وقد غَلَبَني على حَقِّي؟ قال: فقال له أهل ذلك المجلس: أترى ذلك الرَّجل الجالس -لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يهزؤون به؛ لما يعلمون بينه وبين أبي جهل من العداوة- اذهب إليه فإنَّه يؤدِّيك عليه.
    فأقبل الإرَاشِيُّ حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عبد الله، إنَّ أبا الحكم بن هشام قد غَلَبَني على حقٍّ لي قِبَلَه، وأنا رجل غريب، ابن سبيل، وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يؤدِّيني عليه، يأخذ لي حَقِّي منه، فأشاروا لي إليك، فَخُذ لي حَقِّي منه، يرحمك الله. قال: انطلق إليه. وقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلمَّا رأوه قام معه، قالوا لرجل ممَّن معهم: اتبعه، فانظر ماذا يصنع.
    قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه، فضرب عليه بابه، فقال: من هذا؟ قال: محمَّد، فاخرج إليَّ. فخرج إليه، وما في وجهه من رائحة، قد انتقع لونه، فقال: أعط هذا الرَّجل حقَّه. قال: نعم، لا تبرح حتى أعطيه الذي له.
    قال: فدخل، فخرج إليه بحقِّه، فدفعه إليه. قال: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال للإرَاشِي: الْحَقْ بشأنك.
    فأقبل الإرَاشِي حتى وقف على ذلك المجلس، فقال: جزاه الله خيرًا، فقد والله أخذ لي حَقِّي. قال: وجاء الرَّجل الذي بعثوا معه، فقالوا: ويحك! ماذا رأيت؟ قال: عجبًا من العجب، والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه، فخرج إليه وما معه روحه،
    فقال له: أعط هذا حقَّه، فقال: نعم، لا تبرح حتى أُخْرِج إليه حقَّه، فدخل فخرج إليه بحقِّه، فأعطاه إياه. قال: ثمَّ لم يلبث أبو جهل أن جاء، فقالوا له: ويلك! ما لك؟ والله ما رأينا مثل ما صنعت قط! قال: ويحكم، والله ما هو إلَّا أن ضرب عليَّ بابي، وسمعت صوته، فملئت رعبًا، ثم خرجت إليه، وإنَّ فوق رأسه لفحلًا من الإبل، ما رأيت مثل هَامَتِه، ولا قَصَرَتِه، ولا أنيابه لِفَحلٍ قطُّ، والله لو أَبَيْت لأكلني
    - وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: ((كنت أضرب غلامًا لي بالسُّوط، فسمعت صوتًا من خلفي: اعلم أبا مسعود. فلم أفهم الصَّوت من الغضب، قال: فلمَّا دنا منِّي إذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يقول: اعلم، أبا مسعود، اعلم، أبا مسعود. قال: فألقيت السَّوط من يدي، فقال: اعلم، أبا مسعود، أنَّ الله أقدر عليك منك على هذا الغلام. قال: فقلت: لا أضرب مملوكًا بعده أبدًا. وفي رواية: فقلت: يا رسول الله، هو حرٌّ لوجه الله، فقال: أما لو لم تفعل لَلَفَحتك النَّار، أو لمسَّتك النَّار
    ))
    -----------------------------------------------
    وما زلنا أحبابنا تابعونا جزاكم الله خيرا ولا تنسونا من صالح دعائكم

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    ألأخلاق في  ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني Empty ألأخلاق في نظر ألإسلام .. الجزء الثاني .. ( النَّصِيحَة )

    مُساهمة من طرف صادق النور الأربعاء يونيو 29, 2022 6:16 pm

    ومن ألأخلاق المحموده .....
    النَّصِيحَة



    معنى النَّصِيحَة لغةً:
    النصيحة اسم من نَصَحَه، ونصح له، كمنعه، نُصْحًا ونَصاحَةً ونَصاحِيَةً، يقال: نَصَحَ الشيءُ: خَلَصَ، والناصحُ: الْخَالِصُ من العَسَلِ وغَيْرِهِ، وكلُّ شيءٍ خَلَصَ، فَقَدْ نَصَحَ، فأصل النُّصْح في اللُّغة: الخُلوص، والنُّصْح نقيض الغِشِّ
    معنى النَّصِيحَة اصطلاحًا:
    قال الخطابي: (النَّصِيحَة كلمة جامعة معناها حيازة الحظ للمنصوح له)
    وقال الجرجاني: (النصح: إخلاص العمل عن شوائب الفساد.
    والنَّصِيحَة: هي الدعاء إلى ما فيه الصلاح، والنهي عما فيه الفساد)
    الفرق بين النَّصِيحَة والتعيير
    أن النصيحة والتعيير يشتركان في أن كلًّا منهما ذكر للإنسان بما يكره ذكره، ويفترقان في أنَّ النصيحة فيها مصلحةٌ لعامة المسلمين أو لخاصتهم أو مصلحة المنصوح نفسه، أما التعيير فالمقصود منه مجرد الذم والعيب، وإظهار السوء وإشاعته وإن ظهر في قالب النصح
    أولًا: الترغيب في النصيحة في القرآن الكريم
    - قال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف: 61-62]
    (أي: وظيفتي تبليغكم، ببيان توحيده وأوامره ونواهيه، على وجه النَّصِيحَة لكم والشفقة عليكم)

    - وقال سبحانه حكاية عن هود عليه السلام: قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ [الأعراف: 67-68]
    (أي: ناصح لكم فيما أدعوكم إليه، أمين على ما أقول لكم لا أكذب فيه)
    - وقوله أيضًا حكاية عن صالح عليه السلام: يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ [الأعراف: 79]
    - وكذلك قوله حكاية عن شعيب عليه السلام: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ [الأعراف: 93]
    (فهذه النصوص القرآنية تفيد أن النَّصِيحَة من أبلغ ما يوجهها الأنبياء عليهم السلام إلى قومهم، وأنَّها تؤدي ثمارها في حالة السلب والإيجاب بالنسبة للنَّاصح، فإن قبلها القوم، عاد نفعها عليه وعليهم في الدنيا والآخرة، وإن رفضوها، فالنتيجة الحتمية هي العذاب لهم، والأجر للناصح. إذًا فكلُّ ناصح فهو مأجور على نصيحته مهما كانت النتائج، وذلك إذا خلصت نيته، وعمل بتوجيهات الربِّ سبحانه وتعالى)
    ثانيًا: الترغيب في النصيحة في السُّنَّة النَّبويَّة
    - عن تميم الداري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدين النَّصِيحَة. قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ))
    قال الخطابي: (فمعنى النَّصِيحَة لله سبحانه، صحة الاعتقاد في وحدانيته، وإخلاص النية في عبادته، والنَّصِيحَة لكتاب الله، الإيمان به والعمل بما فيه، والنَّصِيحَة لرسوله، التصديق بنبوته، وبذل الطاعة له فيما أمر به ونهى عنه، والنَّصِيحَة لأئمة المؤمنين، أن يطيعهم في الحقِّ، وأن لا يرى الخروج عليهم بالسيف إذا جاروا، والنَّصِيحَة لعامة المسلمين إرشادهم إلى مصالحهم)
    وقال النووي: (هذا حديث عظيم الشأن، وعليه مدار الإسلام... وأما ما قاله جماعات من العلماء، أنه أحد أرباع الإسلام أي: أحد الأحاديث الأربعة التي تجمع أمور الإسلام فليس كما قالوه، بل المدار على هذا وحده)
    - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حق المسلم على المسلم ست. قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمِّته وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه ))
    (قوله: ((وإذا استنصحك فانصح له)) أي: إذا استشارك في عمل من الأعمال: هل يعمله أم لا، فانصح له بما تحبُّه لنفسك. فإن كان العمل نافعًا من كلِّ وجه، فحثه على فعله، وإن كان مضرًّا، فحذره منه، وإن احتوى على نفع وضرر، فاشرح له ذلك،
    ووازن بين المصالح والمفاسد. وكذلك إذا شاورك على معاملة أحد من الناس، أو تزويجه، أو التزوج منه، فابذل له محض نصيحتك، وأعمل له من الرأي ما تعمله لنفسك، وإيَّاك أن تغشه في شيء من ذلك. فمن غشَّ المسلمين فليس منهم، وقد ترك واجب النَّصِيحَة. وهذه النَّصِيحَة واجبة مطلقًا، ولكنها تتأكد إذا استنصحك، وطلب منك الرأي النَّافع، ولهذا قيده في هذه الحالة التي تتأكد)
    - وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: ((بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكلِّ مسلم ))
    قال العيني: (وقال الخطابي: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم النَّصِيحَة للمسلمين شرطًا في الذي يبايع عليه كالصلاة، والزكاة، فلذلك تراه قرنها بهما)
    - وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه ))
    قال المناوي: (أي: يبصر من نفسه بما لا يراه بدونه، ولا ينظر الإنسان في المرآة إلا وجهه ونفسه، ولو أنه جهد كلَّ الجهد أن يرى جرم المرآة لا يراه؛ لأنَّ صورة نفسه حاجبة له،
    وقال الطيبي: إنَّ المؤمن في إراءة عيب أخيه إليه،كالمرآة المجلُوَّة التي تحكي كلَّ ما ارتسم فيها من الصور، ولو كان أدنى شيء، فالمؤمن إذا نظر إلى أخيه يستشف من وراء حاله تعريفات، وتلويحات، فإذا ظهر له منه عيب قادح كافحه، فإن رجع صادقه،
    وقال العامري: معناه كن لأخيك كالمرآة تريه محاسن أحواله، وتبعثه على الشكر، وتمنعه من الكبر، وتريه قبائح أموره بلين في خفية، تنصحه ولا تفضحه، هذا في العامَّة، أما الخواص فمن اجتمع فيه خلائق الإيمان، وتكاملت عنده آداب الإسلام، ثم تجوهر باطنه عن أخلاق النفس، ترقى قلبه إلى ذروة الإحسان، فيصير لصفائه كالمرآة، إذا نظر إليه المؤمنون، رأوا قبائح أحوالهم في صفاء حاله، وسوء آدابهم في حسن شمائله)
    أقوال السلف والعلماء في النَّصِيحَة
    - سئل ابن عباس رضي الله عنهما، عن أمر السلطان بالمعروف، ونهيه عن المنكر،
    فقال: (إن كنت فاعلًا ولابد، ففيما بينك وبينه)
    - وقال أبو عبد الله أحمد بن حنبل: (ليس على المسلم نصح الذِّمِّي، وعليه نصح المسلم)
    - وقال الفضيل بن عياض: (الحبُّ أفضل من الخوف، ألا ترى إذا كان لك عبدان أحدهما يحبك، والآخر يخافك، فالذي يحبك منهما ينصحك شاهدًا كنت أو غائبًا لحبِّه إياك، والذي يخافك عسى أن ينصحك إذا شهدت لما يخاف، ويغشَّك إذا غبت ولا ينصحك)
    - وقال الحسن: (إنك لن تبلغ حقَّ نصيحتك لأخيك، حتى تأمره بما تعجز عنه)
    - وسئل ابن المبارك أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: (النصح لله، قيل: فالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؟، قال: جهده إذا نصح أن لا يأمر ولا ينهى)
    - وقال عمر بن عبد العزيز: (لو أنَّ المرء لا يعظ أخاه حتى يحكم أمر نفسه، ويكمل الذي خلق له من عبادة ربه، إذن لتواكل الناس الخير، وإذن يرفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقلَّ الواعظون والساعون لله عزَّ وجلَّ بالنَّصِيحَة في الأرض)
    - وقال الفضيل بن عياض: (ما أدرك عندنا من أدرك بكثرة الصلاة والصيام، وإنما أدرك عندنا بسخاء الأنفس، وسلامة الصدور، والنصح للأمة)
    - وقال معمر: (كان يقال: أنصح الناس لك من خاف الله فيك. وكان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد، وعظوه سرًّا حتى قال بعضهم: من وعظ أخاه فيما بينه وبينه، فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبَّخه)
    - وقال الفضيل: (المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير)
    - وقال عبد العزيز بن أبي رواد: (كان من كان قبلكم إذا رأى الرجل من أخيه شيئًا، يأمره في رفق، فيؤجر في أمره ونهيه، وإن أحد هؤلاء يخرق بصاحبه، فيستغضب أخاه ويهتك ستره)
    فوائد النَّصِيحَة
    1- النَّصِيحَة لبُّ الدين، وجوهر الإيمان.
    2- النصيحة دليل حبِّ الخير للآخرين، وبغض الشرِّ لهم.
    3- تكثير الأصحاب؛ إذ إنه يؤمن منه الجانب، وتقليل الحساد؛ إذ إنه لا يحب لغيره الشر والفساد.
    4- صلاح المجتمع؛ إذ تشاع فيه الفضيلة، وتستر فيه الرذيلة.
    5- إحلال الرحمة، والوداد مكان القسوة والشقاق.
    6- من قام بها على وجهها يستحق الإكرام لا اللوم والتقريع.

    حُكم النَّصِيحَة
    أولًا: اتفق العلماء على أنها واجبة.
    ثانيًا: اختلفوا في نوع فرضيتها؛ فذهب بعضهم إلى أنها فرض عين، وذهب البعض الآخر إلى أنها فرض كفاية

    والدليل على وجوب النَّصِيحَة: قوله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي سبق ذكره ((الدين النَّصِيحَة... ))
    وما ورد في حديث جرير رضي الله عنه، حيث قال: ((بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة... ))، وغيره من الأحاديث.
    قال ابن مفلح: (ظاهر كلام أحمد والأصحاب وجوب النصح للمسلم، وإن لم يسأله ذلك كما هو ظاهر الأخبار)
    وقال ابن بطال: (النَّصِيحَة فرض يجزئ فيه من قام به، ويسقط عن الباقين.
    قال: والنَّصِيحَة لازمة على قدر الطاقة إذا علم الناصح أنه يقبل نصحه، ويطاع أمره، وأمن على نفسه المكروه،
    فإن خشي على نفسه أذى فهو في سعة)
    صور النَّصِيحَة
    أ- النَّصِيحَة لله تعالى:
    من صور النَّصِيحَة لله تعالى:
    1- (الإيمان به ونفي الشريك عنه.
    2- ترك الإلحاد في صفاته ووصفه بصفات الكمال والجلال كلها.
    3- تنزيهه سبحانه وتعالى من جميع النقائص.
    4- القيام بطاعته واجتناب معصيته.
    5- الحب فيه، والبغض فيه، وموالاة من أطاعه، ومعاداة من عصاه، وجهاد من كفر به.
    6- الاعتراف بنعمته وشكره عليها.
    7- الإخلاص في جميع الأمور.
    8- الدعاء إلى جميع الأوصاف المذكورة والحث عليها والتلطف في جميع الناس أو من أمكن منهم عليها، قال الخطابي: وحقيقة هذه الإضافة راجعة إلى العبد في نصحه نفسه فالله تعالى غني عن نصح الناصح)
    9- (الخضوع له ظاهرًا وباطنًا، والرغبة في محابه، بفعل طاعته، والرهبة من مساخطه، بترك معصيته، والجهاد في رد العاصين إليه)
    ب- النَّصِيحَة لكتابه سبحانه وتعالى:
    وتشمل صورًا عدة منها:
    (الإيمان بأنَّه كلام الله تعالى وتنزيله، لا يشبهه شيء من كلام الخلق، ولا يقدر على مثله أحد من الخلق.
    تعظيمه وتلاوته حق تلاوته، وتحسينها والخشوع عندها، وإقامة حروفه في التلاوة.
    الذب عنه لتأويل المحرِّفين، وتعرض الطاعنين.
    التصديق بما فيه، والوقوف مع أحكامه، وتفهم علومه وأمثاله.
    الاعتبار بمواعظه، والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه، والتسليم لمتشابهه.
    البحث عن عمومه وخصوصه، وناسخه ومنسوخه، ونشر علومه والدعاء إليه)
    ج- النَّصِيحَة لرسوله صلى الله عليه وسلم:
    من صور النَّصِيحَة لرسوله صلى الله عليه وسلم:
    (1- تصديقه على الرسالة والإيمان بجميع ما جاء به.
    2- طاعته في أمره ونهيه.
    3- نصرته حيًّا وميتًا، ومعاداة من عاداه وموالاة من والاه.
    4- إعظام حقِّه وتوقيره.
    5- إحياء طريقته، وسنته، وبثُّ دعوته، ونشر شريعته، ونفي التهمة عنها، واستثارة علومها، والتفقه في معانيها والدعاء إليها.
    6- التخلُّق بأخلاقه والتأدب بآدابه.
    7- محبة أهل بيته، وأصحابه، ومجانبة من ابتدع في سنته، أو تعرض لأحد من أصحابه، ونحو ذلك)
    د- النَّصِيحَة لأئمة المسلمين:
    من صور النَّصِيحَة لأئمة المسلمين:
    1- (إعانتهم على ما حُمِّلوا القيام به.
    2- تنبيههم عند الغفلة، وسدُّ خلتهم عند الهفوة، وجمع الكلمة عليهم، وردُّ القلوب النافرة إليهم.
    3- دفعهم عن الظلم بالتي هي أحسن)
    4- (معاونتهم على الحقِّ، وطاعتهم فيه، وأمرهم به، وتنبيههم وتذكيرهم برفق ولطف.
    5- إعلامهم بما غفلوا عنه، ولم يبلغهم من حقوق المسلمين.
    6- ترك الخروج عليهم، وتألف قلوب الناس لطاعتهم.
    7- الصلاة خلفهم، والجهاد معهم، وأداء الصدقات إليهم.
    8- أن لا يغروا بالثناء الكاذب عليهم.
    9- أن يُدعى لهم بالصلاح)
    ه- النَّصِيحَة لعامة المسلمين:
    تندرج تحت النَّصِيحَة لعامة المسلمين صور كثيرة منها:
    1- (الشَّفقة عليهم.
    2- السعي فيما يعود نفعه عليهم.
    3- تعليمهم ما ينفعهم، وكف وجوه الأذى عنهم.
    4- أن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه)
    5- (إرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم.
    6- ستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم، وجلب المنافع لهم.
    7- أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص.
    8- توقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم.
    9- تخولهم بالموعظة الحسنة.
    10- ترك غشِّهم وحسدهم.
    11- الذبُّ عن أموالهم وأعراضهم)
    ضوابط في النَّصِيحَة
    1- الإخلاص في النَّصِيحَة:
    على الناصح أن يرجو بنصيحته وجه الله تبارك وتعالى، فلا يقصد بنصيحته الأغراض الدنيوية من رياء، وسمعة، وحب شهرة وغيرها، أو عيب المنصوح والحطَّ من قدره. قال تعالى: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر: 3] ، وقال سبحانه: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة: 5]،
    وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّما الأعمال بالنيات، وإنما لكلِّ امرئ ما نوى ))
    2- العلم بما ينصح به:
    الذي يقوم بالنَّصِيحَة لا ينصح في أمر يجهله، بل لا بد أن يكون عالـمًا بما ينصح به، قال تعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36]
    3- أن لا يجهر بنصيحته:
    بل ينبغي أن يسرَّ بنصيحته للمنصوح له، فلا ينصحه أمام الملأ:
    قال الشافعي:
    تعمدني بنصحك في انفرادي وجنبني النَّصِيحَة في الجماعة
    فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه
    وإن خالفتني وعصيت قولي فلا تجزع إذا لم تعط طاعة
    وقال أيضًا: (من وعظ أخاه سرًّا، فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية، فقد فضحه وشانه)
    وعن سليمان الخواص قال: (من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما فضحه)
    وقال ابن رجب: (كان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد، وعظوه سرًّا حتى قال بعضهم: من وعظ أخاه فيما بينه وبينه، فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبَّخه)
    وقال ابن حزم: (إذا نصحت فانصح سرًّا لا جهرًا، أو بتعريض لا بتصريح، إلا لمن لا يفهم، فلا بدَّ من التصريح له)
    4- مراعاة الوقت والمكان المناسب.
    5- اللين والرفق في النَّصِيحَة:
    أن تكون النَّصِيحَة بالرفق واللين، والأسلوب الحسن، مع انتقاء الألفاظ المحبَّبة، وعدم استخدام الأساليب المنفِّرة،
    قال تعالى: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125]
    وقال سبحانه: وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء: 53]
    فعن ثابت، أن صلة بن أشيم وأصحابه، أبصروا رجلًا قد أسبل إزاره، فأراد أصحابه أن يأخذوه بألسنتهم، فقال صلة: (دعوني أكفيكموه، فقال: يا ابن أخي إنَّ لي إليك حاجة، قال: فما ذاك يا عم؟ قال: ترفع إزارك، قال: نعم، ونعمة عين، فقال لأصحابه: هذا كان مثل لو أخذتموه بشدة؟ قال: لا أفعل، وفعل)
    6- أن لا تكون النَّصِيحَة على شرط القبول:
    قال ابن حزم: (لا تنصح على شرط القبول منك، فإن تعديت هذه الوجوه، فأنت ظالم لا ناصح، وطالب طاعة لا مؤدي حق ديانة وأخوة، وليس هذا حكم العقل ولا حكم الصداقة، ولكن حكم الأمير مع رعيته والسيد مع عبيده)
    وسائل وأساليب النَّصِيحَة
    1- البدء بقضاء حاجته ثمَّ القيام بنصيحته:
    مما يدل على ذلك ما روي عن حكيم بن حزام قال: ((سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني،
    ثم قال لي: يا حكيم، إنَّ هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بُورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يُبارَك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى. قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدًا بعدك شيئًا حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر يدعو حكيمًا ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئًا، ثم إنَّ عمر دعاه ليعطيه فيأبى أن يقبله، فقال: يا معشر المسلمين، إني أعرض عليه حقَّه الذي قسم الله له من هذا الفيء، فيأبى أن يأخذه فلم يرزأ حكيم أحدًا من الناس بعد النَّبي صلى الله عليه وسلم حتى توفي رحمه الله ))
    2- تقديم الهدية:
    الهدية لها أثرها في النفس، كما أنها تحمل معاني تربوية، ووصايا إيمانية.
    3- التواصل بالرسائل:
    وهي وسيلة جيِّدة للتناصح، وقد استعملها الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الإسلام، وما زال السلف الصالح يقتفون أثره في هذه السنة المباركة.
    4- الزيارة للعلماء والدعاة:
    فالمنصوح قد يتقبل من شخص دون آخر؛ ولذلك فقد يكون من وسائل قبول بعض الناس للنصيحة زيارة عالم تقي، أو داعية جليل، يسوق النَّصِيحَة بأسلوبه المؤثر.
    5- الصحبة والخلطة:
    الصحبة من الوسائل التي توثق الصلة بالأشخاص، وتقرِّب الداعية من المدعو، وكلما كانت العلاقة أعمق، كان التناصح أكبر وأسرع، فالعلاقات السطحية بالمدعوين، قد لا تمكن الداعية من إيصال نصحه إليهم، ولذلك لا بد من اللقاءات الأخوية، والرحلات التربوية، والمخيمات الدعوية
    نماذج من نصائح الرسول صلى الله عليه وسلم

    كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يناصح صحابته في جميع الأمور، فكان يناصحهم في الأمور التعبدية، والقضايا الدعوية، والشؤون الأسرية وغيرها.
    - فعن معاذ رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب. فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أنَّ الله افترض عليهم خمس صلوات في كلِّ يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أنَّ الله افترض عليهم صدقة تُؤخذ من أغنيائهم فتردُّ في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنَّه ليس بينها وبين الله حجاب ))

    - وأيضًا نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذًا وأبا موسى الأشعري حينما بعثهما إلى اليمن فقال: ((يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا، وتطاوعا ولا تختلفا ))
    - تعليمه صلى الله عليه وسلم للرجل الصلاة، كما في الحديث المشهور بحديث المسيء صلاته، فعن أبي هريرة رضي الله عنه
    قال: ((إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجل فصلى، فسلم على النَّبي صلى الله عليه وسلم، فردَّ،
    وقال: ارجع فصلِّ فإنك لم تصل. فرجع يصلي كما صلى، ثم جاء فسلم على النَّبي صلى الله عليه وسلم
    فقال: ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ ثلاثًا. فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلِّمني. فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر،
    ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئنَّ راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، وافعل ذلك في صلاتك كلها
    ))
    - وعن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها: ((أن أبا عمرو بن حفص طلَّقها البتَّة، وهو غائب، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته، فقال: والله! ما لك علينا من شيء، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له،
    فقال لها: ليس لك عليه نفقة، فأمرها أن تعتدَّ في بيت أمِّ شريك، ثمَّ قال: تلك امرأة يغشاها أصحابي. اعتدِّي عند ابن أمِّ مكتوم،
    فإنَّه رجل أعمى تضعين ثيابك، فإذا حللت فآذنيني، قالت: فلمَّا حللت ذكرت له أنَّ معاوية ابن أبي سفيان وأبا جهم خطباني،
    فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمَّا أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأمَّا معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد. فكرهته، ثمَّ قال: انكحي أسامة. فنكحته، فجعل الله فيه خيرًا كثيرًا واغتبطت به
    ))
    - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((كنت عند النَّبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه رجل فأخبره أنَّه تزوَّج امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنظرت إليها؟ قال: لا. قال: فاذهب فانظر إليها، فإنَّ في أعين الأنصار شيئًا ))

    - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: ((إنَّ عبد الله هلك وترك تسع بنات -أو قال: سبع- فتزوَّجت امرأة ثيِّبًا.
    فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جابر، تزوَّجت؟ قال: قلت: نعم. قال: فبكر أم ثيِّب؟ قال: قلت: بل ثيِّب يا رسول الله! قال: فهلَّا جارية تلاعبها وتلاعبك- أو قال: تضاحكها وتضاحكك؟- قال: قلت له: إنَّ عبد الله هلك وترك تسع بنات- أو سبع- وإنِّي كرهت أن آتيهنَّ أو أجيئهنَّ بمثلهنَّ، فأحببت أن أجيء بامرأة تقوم عليهنَّ وتصلحهنَّ. قال: فبارك الله لك أو قال لي خيرًا
    ))

    - وعن جابر بن عبد الله قال: ((أعتق رجل من بني عذرة عبدًا له عن دبر، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    فقال: ألك مال غيره؟ فقال: لا. فقال: من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله العدوي بثمانمائة درهم،
    فجاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعها إليه، ثُمَّ قال: ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك،
    فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء، فهكذا وهكذا. يقول فبين يديك، وعن يمينك، وعن شمالك

    نماذج من نصائح السلف

    - عن أبي جحيفة، قال: ((آخى النَّبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أمَّ الدرداء متبذِّلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعامًا فقال: كلْ،
    قال: فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم. فنام، ثم ذهب يقوم فقال: نم. فلما كان من آخر الليل، قال سلمان: قم الآن. فصليا، فقال له سلمان: إنَّ لربِّك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعط كلَّ ذي حقٍّ حقَّه. فأتى النَّبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان ))

    - وعن علقمة قال: (كنَّا جلوسًا مع ابن مسعود، فجاء خبَّاب فقال: يا أبا عبد الرحمن، أيستطيع هؤلاء الشباب أن يقرؤوا كما تقرأ؟ قال أمَّا إنك لو شئت أمرت بعضهم يقرأ عليك. قال: أجل. قال: اقرأ يا علقمة، فقال زيد ابن حدير أخو زياد بن حدير:
    أتأمر علقمة أن يقرأ وليس بأقرئنا؟! قال: أما إنَّك إن شئت أخبرتك بما قال النَّبي صلى الله عليه وسلم في قومك وقومه،
    فقرأت خمسين آية من سورة مريم، فقال عبد الله: كيف ترى؟ قال قد أحسن، قال عبد الله: ما أقرأ شيئًا إلا وهو يقرؤه،
    ثم التفت إلى خبَّاب وعليه خاتم من ذهب فقال: ألم يأن لهذا الخاتم أن يلقى؟ قال: أما إنك لن تراه عليَّ بعد اليوم فألقاه )

    - وعن ابن حرملة، مولى أسامة بن زيد (أنَّ الحجاج بن أيمن ابن أم أيمن -وكان أيمن أخا أسامة لأمه، وهو رجل من الأنصار- فدخل الحجاج، فصلى صلاة لا يتم ركوعه ولا سجوده، فرآه ابن عمر، فدعاه حين فرغ، فقال: يا ابن أخي، أتحسب أنك صليت؟ إنَّك لم تصلِّ، فعُد لصلاتك)

    - دخل عطاء بن أبي رباح على هشام بن عبد الملك، فقال له هشام: (مرحبًا مرحبًا هاهنا، هاهنا، فرفعه حتى مسَّت ركبته ركبته، وعنده أشراف الناس يتحدَّثون فسكتوا. فقال هشام: ما حاجتك يا أبا محمد؟ قال: يا أمير المؤمنين، أهل الحرمين أهل الله،
    وجيران رسول الله صلى الله عليه وسلم، تقسم فيهم أعطياتهم وأرزاقهم؛ قال: نعم، يا غلام اكتب لأهل المدينة وأهل مكة بعطاءين وأرزاقهم لسنة. ثم قال: هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أهل الحجاز وأهل نجد، أصل العرب وقادة الإسلام تردُّ فيهم فضول صدقاتهم. قال: نعم، اكتب يا غلام بأن تُردَّ فيهم صدقاتهم. هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟
    قال: نعم يا أمير المؤمنين، أهل الثغور يرمون من وراء بيضتكم، ويقاتلون عدوكم قد أجريتم لهم أرزاقًا تدرُّها عليهم،
    فإنهم إن يهلكوا غزيتم. قال: نعم، اكتب بحمل أرزاقهم إليهم يا غلام. هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟
    قال: نعم يا أمير المؤمنين، أهل ذمتكم لا تجبى صغارهم ولا تتعتع كبارهم، ولا يكلفون ما لا يطيقون، فإنَّ ما تجبونه معونة لكم على عدوكم. قال: نعم، اكتب يا غلام بأن لا يحمَّلوا ما لا يطيقون. هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، اتقِ الله في نفسك، فإنَّك وحدك، وتموت وحدك، وتحشر وحدك، وتحاسب وحدك، لا والله ما معك ممن ترى أحد.
    قال: وأكبَّ هشام، وقام عطاء. فلمَّا كنا عند الباب، إذا رجل قد تبعه بكيس ما أدري ما فيه أدراهم أم دنانير!
    وقال: إنَّ أمير المؤمنين أمر لك بهذا. قال: لا أسألكم عليه أجرًا، إنَّ أجري إلا عند ربِّ العالمين. ثم خرج عطاء،
    ولا والله ما شرب عندهم حسوة من ماء فما فوقه)

    - وعن هارون بن عبد الله الحمَّال قال: (جاءني أحمد بن حنبل بالليل فدقَّ عليَّ الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: أنا أحمد،
    فبادرت أن خرجت إليه، فمسَّاني ومسَّيته، قلت: حاجة يا أبا عبد الله؟ قال: نعم، شغلت اليوم قلبي، قلت: بماذا يا أبا عبد الله؟
    قال: جزت عليك اليوم وأنت قاعد تحدث الناس في الفيء، والناس في الشمس بأيديهم الأقلام والدفاتر، لا تفعل مرة أخرى،
    إذا قعدت فاقعد مع الناس)

    الأمثال في النَّصِيحَة

    - أخُوك من صَدَقَك النَّصِيحَة. أي صدقك في النَّصِيحَة

    - اسْمَعْ مِمَّنْ لاَ يَجِدُ مِنْكَ بُدًّا.
    يضرب في قبول النَّصِيحَة، أي: اقْبَلْ نصيحة من يطلب نفعك يعني الأبوين،
    ومن لا يستجلب بنصحك نفعًا إلى نفسه، بل إلى نفسك

    - إنَّ كَثِير النَّصِيحَة يَهجُم عَلَى كَثِيرِ الظِّنَّةِ. أي إذا بالَغْتَ في النَّصِيحَة اتَّهمك من تنصحه
    ---------------------------------------------------------------
    وما زلنا أحبابنا تابعونا وجزاكم الله خيرا

    ولا تنسونا من صالح دعائكم

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5191
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    ألأخلاق في  ألإسلام .. ألأخلاق المحموده ..الجزء الثاني Empty ألأخلاق في نظر ألإسلام .. الجزء الثاني ( الورع )

    مُساهمة من طرف صادق النور الأربعاء يونيو 29, 2022 6:54 pm

    ومن ألأخلاق المحموده ..
    الورع


    معنى الورع لغةً:
    الورع: التَّـقْوَى، والتَّحَرُّج، والكَفُّ عن المحارِم. من وَرِعَ الرَّجُلُ، كوَرِثَ، والورِع، بكسر الرَّاءِ: الرجلُ التَّقِي المتَحَرِّج،

    والورَعُ في الأصل: الكَفُّ عن المحارِم والتحَرُّج منه، ثم اسْتعِير للكفِّ عن المباح والحلالِ
    معنى الورع اصطلاحًا:
    الورع: هو اجتناب الشبهات؛ خوفًا من الوقوع في المحرمات

    وعرفه القرافي بقوله: (ترك ما لا بأس به؛ حذرًا مما به البأس)

    وقال الكفوي: (الورع: الاجتناب عن الشبهات سواء كان تحصيلًا أو غير تحصيل)

    الفرق بين الزهد والورع

    قال ابن القيم: (والفرق بينه وبين الورع: أنَّ الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة. والورع ترك ما يخشى ضرره في الآخرة)

    الترغيب في الورع من السنة النبوية

    - عن سعد بن أبي وقاص وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فضل العلم أحبُّ إليَّ من فضل العبادة، وخير دينكم الورع))

    قال المناوي: (لأنَّ الوَرِع دائم المراقبة للحقِّ، مستديم الحذر أن يمزج باطلًا بحقٍّ، كما قال الحبر: كان عمر كالطير الحذر. والمراقبة توزن بالمشاهدة، ودوام الحذر يعقب النجاة والظفر)
    - وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإنَّ الصدق طمأنينة، وإنَّ الكذب ريبة ))

    قال ابن حجر: (قوله: ((يريبك)) بفتح أوله ويجوز الضمُّ، يقال: رابه يريبه بالفتح، وأرابه يريبه بالضمِّ ريبة، وهي الشكُّ والتردد، والمعنى إذا شككت في شيء فدعه، وترك ما يُشَكُّ فيه أصل عظيم في الورع...
    قال الخطابي: كلُّ ما شككت فيه، فالورع اجتنابه)
    - وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما مشبَّهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتَّقى المشبَّهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحِمَى يوشك أن يُواقعه، ألا وإنَّ لكلِّ ملك حمى، ألا إنَّ حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإنَّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه، ألا وهي القلب ))

    قال ابن رجب: (هذا الحديث حديث عظيم؛ وهو أحد الأحاديث التي مدار الدين عليها، وقد قيل: إنَّه ثلث العلم أو ربعه... ومعنى الحديث: أنَّ الله أنزل كتابه، وبيَّن فيه حلاله وحرامه، وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ما خفي من دلالة الكتاب على التحليل والتحريم، فصرَّح بتحريم أشياء غير مصرَّح بها في الكتاب، وإن كانت عامتها مستنبطة من الكتاب وراجعة إليه،
    فصار الحلال والحرام على قسمين:
    أحدهما: ما هو واضح لا خفاء به على عموم الأمة؛ لاستفاضته بينهم وانتشاره فيهم،
    ولا يكاد يخفى إلا على من نشأ ببادية بعيدة عن دار الإسلام؛ فهذا هو الحلال البيِّن والحرام البيِّن. ومنه: ما تحليله وتحريمه لعينه، كالطيبات من المطاعم، والمشارب والملابس، والمناكح، والخبائث من ذلك كله.
    ومنه: ما تحليله وتحريمه من جهة كسبه، كالبيع، والنكاح، والهبة، والهدية، وكالربا، والقمار، والزنا، والسرقة، والغصب، والخيانة، وغير ذلك.
    القسم الثاني: ما لم ينتشر تحريمه وتحليله في عموم الأمة؛ لخفاء دلالة النص عليه،
    ووقوع تنازع العلماء فيه ونحو ذلك، فيشتبه على كثير من الناس، هل هو من الحلال أو من الحرام؟
    وأمَّا خواص أهل العلم الراسخون فيه فلا يشتبه عليهم؛ بل عندهم من العلم الذي اختصوا به عن أكثر الناس ما يستدلون به على حلِّ ذلك أو حرمته، فهؤلاء لا يكون ذلك مشتبهًا عليهم لوضوح حكمه عندهم.

    أما من لم يصل إلى ما وصلوا إليه فهو مشتبه عليه؛ فهذا الذي اشتبه عليه إن اتقى ما اشتبه عليه حلَّه وحرمه، واجتنبه فقد استبرأ لدينه وعرضه، بمعنى أنه طلب لهما البراءة مما يشينهما، وهذا معنى الحديث الآخر: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) وهذا هو الورع، وبه يحصل كمال التقوى)

    أقوال السلف والعلماء في الورع

    - قال أبو الدرداء: (تمام التقوى أن يتقي اللهَ العبدُ، حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال، خشية أن يكون حرامًا، حجابًا بينه وبين الحرام)

    - وقال الحسن: (مازالت التقوى بالمتقين؛ حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام).
    - وقال الثوري: (إنما سموا المتقين؛ لأنهم اتقوا ما لا يُتَّقى. ورُوي عن ابن عمر قال: إني لأحبُّ أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها).
    - وقال ميمون بن مهران: (لا يسلم للرجل الحلال؛ حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزًا من الحلال).
    - وقال سفيان بن عيينة: (لا يصيب عبد حقيقة الإيمان؛ حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزًا من الحلال، وحتى يدع الإثم وما تشابه منه)
    - وقال إبراهيم بن أدهم: (الورع ترك كلِّ شبهة، وترك ما لا يعنيك هو ترك الفضلات).
    - وقال الشبلي: (الورع أن يتورَّع عن كلِّ ما سوى الله. وقال إسحاق بن خلف: الورع في المنطق أشدُّ منه في الذهب والفضة، والزهد في الرياسة أشدُّ منه في الذهب والفضة؛ لأنهما يبذلان في طلب الرياسة).
    - وقال أبو سليمان الداراني: (الورع أول الزهد، كما أنَّ القناعة أول الرضا).
    - وقال يحيى بن معاذ: (الورع الوقوف على حدِّ العلم من غير تأويل). وقال: (الورع على وجهين: ورع في الظاهر، وورع في الباطن، فورع الظاهر أن لا يتحرك إلا لله، وورع الباطن هو أن لا تُدخل قلبك سواه). وقال: (من لم ينظر في الدقيق من الورع؛ لم يصل إلى الجليل من العطاء).

    - وقيل: (الورع الخروج من الشهوات، وترك السيئات).
    - وقيل: (من دقَّ في الدنيا ورعه - أو نظره - جلَّ في القيامة خطره).
    - وقال يونس بن عبيد: (الورع الخروج من كلِّ شبهة، ومحاسبة النفس في كلِّ طرفة عين).
    - وقال سفيان الثوري: (ما رأيت أسهل من الورع، ما حاك في نفسك فاتركه).
    - وقال سهل: (الحلال هو الذي لا يُعصَى الله فيه، والصافي منه الذي لا ينسى الله فيه،

    وسأل الحسن غلامًا، فقال له: ما ملاك الدين؟ قال: الورع. قال: فما آفته؟ قال: الطمع. فعجب الحسن منه).
    - وقال الحسن: (مثقال ذرةٍ من الورع، خيرٌ من ألف مثقال من الصوم والصلاة).
    - وقال أبو هريرة: (جلساء الله تعالى غدًا أهل الورع والزهد)
    - وقال بعض السلف: (لا يبلغ العبد حقيقة التقوى؛ حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس).
    - وقال بعض الصحابة: (كنا ندع سبعين بابًا من الحلال؛ مخافة أن نقع في بابٍ من الحرام)
    - وقال الهروي: (الورع توَقٍّ مستقصًى على حذر، وتحرُّجٌ على تعظيم)
    - وقال ابن مسكويه: (وأما الورع فهو لزوم الأعمال الجميلة التي فيها كمال النفس)
    - وقال سفيان: (عليك بالورع يخفف الله حسابك، ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وادفع الشك باليقين يسلم لك دينك)

    فوائد الورع


    1- من فوائده أنه يجلب محبة الله سبحانه وتعالى.
    2- فيه الاقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم.
    3- فيه ترك الشبهات، والبعد عنها.
    4- به يطيب المطعم والمشرب.
    5- أنه سببٌ لاستجابة الدعاء.
    6- أنه خير خصال الدين، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
    7- فيه الاستبراء للدين والعرض.
    8- أنه سمةٌ من سمات العُبَّاد.
    9- الورع سببٌ من أسباب كمال التقوى.

    أقسام الورع

    قال ابن تيمية: (فأما الورع المشروع المستحب، الذي بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم فهو: اتقاء ما يخاف أن يكون سببًا للذمِّ والعذاب عند عدم المعارض الراجح. ويدخل في ذلك أداء الواجبات، والمشتبهات التي تشبه الواجب، وترك المحرمات والمشتبهات التي تشبه الحرام، وإن أدخلت فيها المكروهات قلت: نخاف أن يكون سببًا للنقص والعذاب)

    1- الورع الواجب:

    (وأما الورع الواجب: فهو اتقاء ما يكون سببًا للذمِّ والعذاب، وهو فعل الواجب وترك المحرم، والفرق بينهما فيما اشتبه أمن الواجب هو أم ليس منه؟ وما اشتبه تحريمه أمن المحرم أم ليس منه؟ فأما ما لا ريب في حله فليس تركه من الورع،
    وما لا ريب في سقوطه فليس فعله من الورع. وقولي (عند عدم المعارض الراجح) فإنه قد لا يترك الحرام البيِّن، أو المشتبه،
    إلا عند ترك ما هو حسنة موقعها في الشريعة أعظم من ترك تلك السيئة، مثل من يترك الائتمام بالإمام الفاسق؛
    فيترك الجمعة والجماعة والحجَّ والغزو، وكذلك قد لا يؤدي الواجب البين، أو المشتبه إلا بفعل سيئةٍ أعظم إثمًا من تركه،
    مثل من لا يمكنه أداء الواجبات من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لذوي السلطان، إلا بقتال فيه من الفساد أعظم من فساد ظلمه. والأصل في الورع المشتبه،
    قول النبي صلى الله عليه وسلم ((الحلال بَيِّنٌ، والحرام بَيِّنٌ، وبين ذلك أمور مشتبهات، لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس، فمن ترك الشبهات؛ استبرأ عرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات؛ وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى؛ يوشك أن يواقعه ))

    وهذا في الصحيحين. وفي السنن قوله: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ))
    وقوله: ((البرُّ ما اطمأنَّت إليه النفس، وسكن إليه القلب )) وقوله في صحيح مسلم في رواية: ((البرُّ حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وإن أفتاك الناس ))
    ((وإنه رأى على فراشه تمرة، فقال: لولا أني أخاف أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها )))

    2- الورع الفاسد:

    قال ابن تيمية: (كثيرٌ من الناس تنفر نفسه عن أشياء لعادةٍ ونحوها، فيكون ذلك مما يقوِّي تحريمها واشتباهها عنده، ويكون بعضهم في أوهام وظنون كاذبة، فتكون تلك الظنون مبناها على الورع الفاسد، فيكون صاحبه ممن قال الله تعالى فيه
    : إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ [النجم: 23]، وهذه حال أهل الوسوسة في النجاسات؛ فإنهم من أهل الورع الفاسد المركب من نوع دين، وضعف عقل، وعلم،
    وكذلك ورع قوم يعدون غالب أموال الناس محرمة أو مشتبهة أو كلها، وآلَ الأمر ببعضهم إلى إحلالها لذي سلطان؛
    لأنَّه مستحقٌّ لها وإلى أنَّه لا يقطع بها يد السارق ولا يحكم فيها بالأموال المغصوبة.
    وقد أنكر حال هؤلاء الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره، وذم المتنطعين في الورع. وقد روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هلك المتنطعون. قالها ثلاثًا ))
    وورع أهل البدع كثيرٌ منه من هذا الباب، بل ورع اليهود والنصارى والكفار عن واجبات دين الإسلام من هذا الباب،
    وكذلك ما ذمه الله تعالى في القرآن من ورعهم عمَّا حرَّموه ولم يحرِّمه الله تعالى، كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام.
    ومن هذا الباب الورع الذي ذمَّه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في الصحيح، لما ترخَّص في أشياء؛
    فبلغه أن أقوامًا تنزهوا عنها فقال: ((ما بال رجالٍ يتنزهون عن أشياء أترخَّص فيها، والله إني لأرجو أن أكون أعلمهم بالله وأخشاهم. وفي رواية: أخشاهم وأعلمهم بحدوده له ))

    وكذلك حديث صاحب القبلة. ولهذا يحتاج المتدين المتورع إلى علمٍ كثيرٍ بالكتاب والسنة والفقه في الدين، وإلا فقد يفسد تورعه الفاسد أكثر مما يصلحه، كما فعله الكفار وأهل البدع من الخوارج والروافض وغيرهم.

    الثالثة: جهة المعارض الراجح. هذا أصعب من الذي قبله؛ فإنَّ الشيء قد يكون جهة فساده يقتضي تركه فيلحظه المتورع؛
    ولا لحظ ما يعارضه من الصلاح الراجح؛ وبالعكس فهذا هذا. وقد تبين أنَّ من جعل الورع الترك فقط؛ وأدخل في هذا الورع أفعال قوم ذوي مقاصد صالحة بلا بصيرة من دينهم، وأعرض عما فوتوه بورعهم من الحسنات الراجحة، فإنَّ الذي فاته من دين الإسلام أعظم مما أدركه، فإنَّه قد يعيب أقوامًا هم إلى النجاة والسعادة أقرب)

    3- الورع المندوب: وهو الوقوف عن الشبهات

    4- الورع الذي هو فضيلة: وهو الكفُّ عن كثير من المباحات والاقتصار على أقل الضرورات، وذلك للنبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين

    درجات الورع

    قال الهروي: (الورع على ثلاث درجات:

    الدرجة الأولى: تجنُّب القبائح لصون النفس، وتوفير الحسنات، وصيانة الإيمان.

    الدرجة الثانية: حفظ الحدود عند ما لا بأس به، إبقاءً على الصيانة والتقوى، وصعودًا عن الدناءة، وتخلصًا عن اقتحام الحدود.

    الدرجة الثالثة: التورُّع عن كلِّ داعيةٍ تدعو إلى شتات الوقت، والتعلُّق بالتفرُّق، وعارض يعارض حال الجميع)

    وقال الغزالي: (الورع عن الحرام على أربع درجات:

    الأولى: ورع العدول: وهو الذي يجب الفسق باقتحامه، وتسقط العدالة به، ويثبت اسم العصيان، والتعرض للنار بسببه، وهو الورع عن كلِّ ما تحرمه فتاوى الفقهاء.

    الثانية: ورع الصالحين: وهو الامتناع عما يتطرق إليه احتمال التحريم، ولكن المفتي يرخص في التناول بناء على الظاهر، فهو من مواقع الشبهة على الجملة.

    الثالثة: ما لا تحرِّمه الفتوى، ولا شبهة في حلِّه، ولكن يُخاف منه أداؤه إلى محرم، وهو ترك ما لا بأس به مخافة مما به بأس، وهذا ورع المتقين.

    الرابعة: ما لا بأس به أصلًا، ولا يخاف منه أن يؤدي إلى ما به بأس، ولكنه يتناول لغير الله، وعلى غير نية التقوِّي به على عبادة الله، أو تتطرَّق إلى أسبابه المسهلة له كراهية، أو معصية، والامتناع منه ورع الصديقين

    صور ومظاهر الورع

    الورع له صور ومظاهر عدة، وقد ذكر ابن أبي الدنيا مظاهر للورع، منها:
    1- الورع في النظر:
    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليٍّ رضي الله عنه: ((لا تتبع النظرة النظرة؛ فإنَّ لك الأولى، وليست لك الآخرة ))

    عن أنس رضي الله عنه قال: (إذا مرَّت بك امرأة، فغمِّض عينيك حتى تجاوزك)

    عن داود الطائي قال: (كانوا يكرهون فضول النظر)

    قال عمرو بن مرة: (ما أحبُّ أني بصير، كنت نظرت نظرةً وأنا شاب)

    وقال وكيع: خرجنا مع سفيان الثوري في يوم عيد؛ فقال: (إنَّ أول ما نبدأ به في يومنا غضُّ أبصارنا)

    2- الورع في السمع:
    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من استمع إلى حديث قومٍ لا يحبُّون أن يستمع حديثهم، أذيب في أذنه الآنك ))
    وعن نافع قال: (سمع ابن عمر مزمارًا - قال - فوضع أصبعيه على أذنيه ونأى عن الطريق، وقال لي: يا نافع هل تسمع شيئًا؟ قال فقلت لا. قال فرفع أصبعيه من أذنيه وقال: كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا )

    3- الورع في الشم:
    فعن محمد بن سعد بن أبي وقاص قال: (قدم على عمر رضي الله عنه مسكٌ وعنبرٌ من البحرين، فقال عمر: والله لوددت أني أجد امرأةً حسنةً تزن لي هذا الطيب؛ حتى أفرقه بين المسلمين. فقالت له امرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل: أنا جيدة الوزن، فهلمَّ أزن لك. قال: لا. قالت: ولم؟ قال: إني أخشى أن تأخذيه هكذا -وأدخل أصابعه في صدغيه- وتمسحين عنقك، فأُصيب فضلًا عن المسلمين)
    وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله (أنه أُتي بغنائم مسك؛ فأخذ بأنفه، فقالوا: يا أمير المؤمنين: تأخذ بأنفك لهذا؟ قال: إنما ينتفع من هذا بريحه؛ فأكره أن أجد ريحه دون المسلمين)

    4- الورع في اللسان:

    فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه اطلع على أبي بكر رضي الله عنه وهو يمدُّ لسانه، فقال: ما تصنع يا خليفة رسول الله؟ قال: هذا أوردني الموارد، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس شيءٌ من الجسد إلا يشكو إلى الله اللسان على حدَّته ))
    وعن الحسن بن حي قال: (فتشت عن الورع؛ فلم أجده في شيءٍ أقل منه في اللسان)
    وعن الفضيل بن عياض قال: (أشدُّ الورع في اللسان)
    وعن يونس بن عبيد قال: (إنك لتعرف ورع الرجل في كلامه)
    وسئل عبد الله بن المبارك: (أيُّ الورع أشد؟ قال: اللسان)

    5- الورع في البطن:

    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون: 51] ،
    وقال: أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة: 172] ، ثم ذكر العبد يطيل السفر أشعث أغبر، رافعًا يديه: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِي بالحرام، فأنَّى يُستجاب لهذا؟ ))
    وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من استطاع منكم ألا يجعل في بطنه إلا طيبًا فليفعل؛ فإن أول ما ينتن من الإنسان بطنه ))
    وعن أبي صالح الحنفي قال: (دخلت على أم كلثوم فقالت: ائتوا أبا صالح بطعام. فأتوني بمرقةٍ فيها حبوب،
    فقلت: أتطعموني هذا وأنتم أمراء؟ قالت: كيف لو رأيت أمير المؤمنين عليًّا، وأُتِيَ بأُتْرجٍّ، فأخذ الحسن أو الحسين منها أُتْـرُجَّةً لصبي لهم، فانتزعها من يده، وقسمها بين المسلمين)

    6- الورع في الفتوى:

    كان الصحابة ومن بعدهم من التابعين رضي الله عنهم، يتورعون أشدَّ الورع عن الفتوى، فكانوا يدفعون الفتوى عن أنفسهم،
    ولا يُقدمون عليها.
    فعن البراء رضي الله عنه قال: (لقد رأيت ثلاثمائة من أهل بدر، ما منهم من أحد، إلا وهو يحبُّ أن يكفيه صاحبُه الفتوى)

    وقال ابن أبي ليلى: (أدركت مئةً وعشرين من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يُسأل أحدهم المسألة، فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول وما منهم من أحد يحدث بحديث أو يُسأل عن شيء، إلا ودَّ أنَّ أخاه كفاه)

    (كان ابن سيرين إذا سئل عن شيء من الحلال والحرام تغير لونه وتبدل، حتى كأنه ليس بالذي كان.

    وقال عطاء بن السائب: أدركت أقوامًا، إن كان أحدهم ليسأل عن الشيء فيتكلَّم وإنه ليرعد.

    وروي عن مالك أنه كان إذا سئل عن مسألة، كأنه بين الجنة والنار)

    وقال نفيس بن الأشعث: (كان محمد بن سيرين إذا سُئل عن شيء من فقه الحلال والحرام، تغيَّر لونه، وتبدَّل حتى كأنَّه ليس بالذي كان)
    وقال أبو حصين عثمان بن عاصم التابعي الجليل: (إنَّ أحدهم ليفتي في المسألة، ولو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر)

    وسائل اكتساب الورع

    ذكر الحكيم الترمذي بعض الوسائل في اكتساب الورع فقال:
    (فالورع من التورع يكون بخمسة أشياء:
    أحدهما: بالعلم.
    الثاني: بتذكرة منه لما عليه، ورغبته فيما له.
    والثالث: بتذكرة عظمة الله، وجلاله وقدرته وسلطانه.
    والرابع: بتذكرة استحيائه من الملك الجبار.
    والخامس: بتذكرة خوفه من غضب الله عليه، وبقائه له على الشبه)

    مفاهيم مغلوطة في الورع :

    يقع الغلط في الورع من ثلاث جهات

    : أحدها: اعتقاد كثيرٍ من الناس أنه من باب الترك، فلا يرون الورع إلا في ترك الحرام،
    لا في أداء الواجب، وهذا يُبتلى به كثيرٌ من المتدينة المتورعة؛ ترى أحدهم يتورع عن الكلمة الكاذبة،
    وعن الدرهم فيه شبهة؛ لكونه من مال ظالم أو معاملةٍ فاسدة، ويتورع عن الركون إلى الظلمة؛ من أجل البدع في الدين،
    وذوي الفجور في الدنيا، ومع هذا يترك أمورًا واجبةً عليه، إما عينًا، وإما كفاية، وقد تعينت عليه من صلة رحم، وحقِّ جار، ومسكين، وصاحب، ويتيم، وابن سبيل، وحقِّ مسلم، وذي سلطان، وذي علم، وعن أمرٍ بمعروف، ونهيٍ عن منكر،
    وعن الجهاد في سبيل الله، إلى غير ذلك مما فيه نفعً للخلق في دينهم ودنياهم مما وجب عليه، أو يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعالى، بل من جهة التكليف ونحو ذلك.
    وهذا الورع قد يوقع صاحبه في البدع الكبار؛ فإنَّ ورع الخوارج، والروافض، والمعتزلة، ونحوهم من هذا الجنس، تورعوا عن الظلم وعمَّا اعتقدوه ظلمًا من مخالطة الظلمة في زعمهم، حتى تركوا الواجبات الكبار من الجمعة والجماعة، والحج، والجهاد، ونصيحة المسلمين، والرحمة لهم، وأهل هذا الورع ممن أنكر عليهم الأئمة، كالأئمة الأربعة، وصار حالهم يذكر في اعتقاد أهل السنة والجماعة.

    الجهة الثانية من الاعتقاد الفاسد
    :
    أنه إذا فعل الواجب والمشتبه، وترك المحرم والمشتبه، فينبغي أن يكون اعتقاد الوجوب والتحريم بأدلة الكتاب والسنة، وبالعلم لا بالهوى)

    نماذج من ورع النبي صلى الله عليه وسلم

    كان رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة في الورع فكان زاهدًا ورعًا، وقد ضرب لنا نموذجًا أعلى في الورع فهذا أنس رضي الله عنه يحكي لنا مشهدًا من مشاهد الورع؛ فيقول:
    - ((مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بتمرةٍ مسقوطة، فقال: لولا أن تكون صدقة لأكلتها ))

    - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إني لأنقلب إلى أهلي، فأجد التمرة ساقطةً على فراشي، فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة؛ فألقيها ))

    قال ابن حجر: (والنكتة في ذكره هنا، ما فيه من تعيين المحل الذي رأى فيه التمرة، وهو فراشه صلى الله عليه وسلم،
    ومع ذلك لم يأكلها، وذلك أبلغ في الورع)

    وقال المهلب: (إنما تركها صلى الله عليه وسلم تورعًا وليس بواجب؛ لأنَّ الأصل أنَّ كلَّ شيء في بيت الإنسان على الإباحة حتى يقوم دليلٌ على التحريم)

    - وعن أبي هريرة رضي الله عنه ((أنَّ الحسن بن علي رضي الله عنهما أخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم بالفارسية: كخ، كخ! أما تعرف أنَّا لا نأكل الصدقة ))

    - وعن رجلٍ من الأنصار قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
    وهو على القبر يوصي الحافر: ((أوسع مِن قِبَل رجليه، أوسع من قِبَل رأسه، فلما رجع استقبله داعي امرأة،
    فجاء وجيء بالطعام فوضع يده، ثم وضع القوم فأكلوا، فنظر آباؤنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوك لقمة في فمه،
    ثم قال: أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها. فأرسلت المرأة قالت: يا رسول الله، إني أرسلت إلى البقيع يشترى لي شاة فلم أجد، فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة، أن أرسل إلي بها بثمنها، فلم يوجد، فأرسلت إلى امرأته، فأرسلت إلي بها.
    فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أطعميه الأسارى ))

    نماذج من ورع السلف

    ورع أبي بكر رضي الله عنه
    :
    عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، غلامٌ يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيء، فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنتُ لإنسانٍ في الجاهلية، وما أُحسِن الكهانة إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك هذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كلَّ شيءٍ في بطنه )

    ورع عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
    - عن عاصم بن عمر (عن عمر قال: إنه لا أجده يحل لي أن آكل من مالكم هذا، إلا كما كنت آكل من صلب مالي: الخبز والزيت، والخبز والسمن قال: فكان ربما يُؤتى بالجفنة قد صُنعت بالزيت، ومما يليه منها سمن، فيعتذر إلى القوم ويقول: إني رجل عربي، ولست أستمرئ الزيت)

    - وعن نافع (أنَّ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه، كان فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف في أربعة، وفرض لابن عمر ثلاثة آلاف وخمس مائة، فقيل له هو من المهاجرين، فلِمَ نقصته من أربعة آلاف؟ فقال: إنما هاجر به أبواه، يقول: ليس هو كمن هاجر بنفسه )

    قال ابن عثيمين: (وهذا يدلُّ دلالة عظيمة على شدة ورع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وهكذا يجب على من تولَّى شيئًا من أمور المسلمين ألا يحابي قريبًا لقربه، ولا غنيًّا لغناه، ولا فقيرًا لفقره، بل ينزل كلَّ أحد منزلته، فهذا من الورع والعدل، ولم يقل عبد الله بن عمر: يا أبت، أنا مهاجر، ولو شئت لبقيت في مكة؛ بل وافق على ما فرضه له أبوه)

    ورع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
    عن قزعة، قال: (رأيت على ابن عمر ثيابًا خشنة أو جشبة، فقلت له: إني قد أتيتك بثوب لين مما يصنع بخراسان، وتقرُّ عيناي أن أراه عليك. قال: أرنيه. فلمسه، وقال: أحرير هذا؟ قلت: لا، إنَّه من قطن. قال: إني أخاف أن ألبسه، أخاف أكون مختالًا فخورًا، والله لا يحبُّ كلَّ مختال فخور)

    - وعن طاووس قال: (ما رأيت أورع من ابن عمر، ولا أعلم من ابن عباس)

    ورع عمر بن عبد العزيز:
    - عن ابن السماك قال: (كان عمر بن عبد العزيز يقسم تفاحًا بين الناس، فجاء ابن له وأخذ تفاحة من ذلك التفاح، فوثب إليه ففك يده؛ فأخذ تلك التفاحة؛ فطرحها في التفاح، فذهب إلى أمه مستغيثًا فقالت له: ما لك أي بني؟ فأخبرها؛ فأرسلت بدرهمين فاشترت تفاحًا، فأكلت وأطعمته، ورفعت لعمر، فلما فرغ مما بين يديه دخل إليها، فأخرجت له طبقًا من تفاح، فقال: من أين هذا يا فاطمة؟ فأخبرته فقال: رحمك الله، والله إن كنت لأشتهيه)

    - وعن فاطمة بنت عبد الملك قالت: (اشتهى عمر بن عبد العزيز يوما عسلًا فلم يكن عندنا، فوجهنا رجلًا على دابة من دواب البريد إلى بعلبك، فأتى بعسل، فقلنا يومًا: إنك ذكرت عسلًا وعندنا عسل، فهل لك فيه؟ قال: نعم. فأتيناه به فشرب، ثم قال: من أين لكم هذا العسل؟ قالت: قلت: وجهنا رجلًا على دابة من دواب البريد بدينارين إلى بعلبك فاشترى لنا عسلًا. قالت: فأرسل إلى الرجل فجاء، فقال: انطلق بهذا العسل إلى السوق، فبعه، فاردد إلينا رأس مالنا، وانظر الفضل، فاجعله في علف دواب البريد، ولو كان ينفع المسلمين قيءٌ لتقيأت)

    ورع محمد بن سيرين:
    - عن العلاء بن زياد أنَّه كان يقول: (لو كنت متمنيًا لتمنيت فقه الحسن، وورع ابن سيرين، وصواب مطرِّف، وصلاة مسلم بن يسار)
    - وعن عاصم قال: (سمعت مورقًا العجلي يقول: ما رأيت أحدًا أفقه في ورعه، ولا أورع في فقهه من محمد بن سيرين.
    وقال عاصم: وذُكِرَ محمد عند أبي قلابة، فقال: اصرفوه كيف شئتم، فلتجدنه أشدكم ورعًا، وأملككم لنفسه)

    - وقال بكر بن عبد الله المزني: (من أراد أن ينظر إلى أورع من أدركنا، فلينظر إلى محمد بن سيرين.
    وقال هشام بن حسان: كان محمد يتجر، فإذا ارتاب في شيءٍ تركه)

    - وعن هشام بن حسان: (أنَّ ابن سيرين اشترى بيعًا من منونيا، فأشرف فيه على ربح ثمانين ألفا، فعرض في قلبه شيء، فتركه. قال هشام: ما هو والله بربا).
    - وقال: محمد بن سعد: (سألت الأنصاري عن سبب الدَّين الذي ركب محمد بن سيرين حتى حبس؟
    قال: اشترى طعامًا بأربعين ألفًا، فأُخبر عن أصل الطعام بشيء، فكرهه، فتركه، أو تصدق به، فحبس على المال،
    حبسته امرأة، وكان الذي حبسه مالك بن المنذر. وقال هشام: ترك محمد أربعين ألفًا في شيء ما يرون به اليوم بأسًا)

    نماذج من ورع العلماء المتقدمين

    ورع عبد الله بن المبارك:

    - عن الحسن بن عرفة قال: (قال لي ابن المبارك: استعرت قلمًا بأرض الشام، فذهبت على أن أردَّه، فلما قدمت مرو نظرت فإذا هو معي، فرجعت إلى الشام؛ حتى رددته على صاحبه)

    - وقال الحسن بن الربيع: (لما احتضر ابن المبارك في السفر، قال: أشتهي سويقًا. فلم نجده إلا عند رجل كان يعمل للسلطان، وكان معنا في السفينة، فذكرنا ذلك لعبد الله، فقال: دعوه. فمات ولم يشربه)

    ورع أبي وائل شقيق بن سلمة:

    (كان أبو وائل يقول لجاريته، إذا جاء يحيى -يعني ابنه- بشيءٍ فلا تقبليه، وإذا جاء أصحابي بشيء، فخذيه. وكان ابنه قاضيًا على الكناسة.

    وكان لأبي وائل -رحمه الله- خصٌّ من قصب، يكون فيه هو وفرسه، فإذا غزا نقضه، وتصدق به، فإذا رجع أنشأ بناءه.
    قلت: -القائل الذهبي- قد كان هذا السيد رأسًا في العلم والعمل)

    --------------------------------------------------------
    وما زلنا أحبابنا تابعونا في الجزء الثالث من موسوعه ألأخلاق المحموده في ألإسلام

    وجزاكم الله خيرا

    لا تنسونا من صالح دعائكم

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع


      الوقت/التاريخ الآن هو الإثنين أبريل 29, 2024 5:37 pm