بسم الله الرحمن الرحيم
وصلاة وسلاماً علي سيد ألأولين وآلآخرين سيدنا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين
قضيه الرزق من مفهوم صميم الدين
قضية الرزق من القضايا التي كثيرا ما يصاب الإنسان أمامها بالحيرة، والمعصوم وحده من عصمه الرحمن.
دائما ما يتساءل الإنسان ..
لماذا يصير هذا فقير وغيره أغنياء؟!
ولماذا قد يتأخر الرزق؟
ولماذا تضيق الحال أمام الكثيرين،
ولماذا البعض يكد ويتعب ولا ينال إلا القليل من الرزق وغيره يأتيه الكثير والكثير وهو منعم مرتاح.
1 - قضية الرزق من قضايا الإيمان
المسألة ليست في مال أو قوت يأتيك أو يتأخر، كثير كان أم قليل، يكفيك أو لا يكفيك، بل قضية الرزق من قضايا الإيمان.
جاءت في كتاب الله وسنة رسول اللهصل الله عليه وسلم وهي من الغيب، فأنت تؤمن بأن لك رزقا مكتوبا لك ومقسوم من عند الله
من قبل أن تُخلق لكنك لا تدري أهو كثير أم قليل، ويأتيك سهلا ميسرا أم لن يأتيك إلا من بعد مشقة، لا تدري أهو يصلك اليوم أو غدا. تريد أن تقنع به لكن قلته في مقابل حاجتك قد تضر بقناعتك، وبالتالي تضر بإيمانك بالله.
ثم أنت عليك أن تأخذ بالأسباب، وتتوكل على الله، ثم تنتظر ما يتفضل الله به عليك.
وعليك أن ترضى وتقنع بما قسمه الله لك، وليس لك أن تنظر إلى من هو أفضل منك قسمة، بل عليك أن تنظر إلى من هو دونك فهو أجدر ألا تزدري نعمة الله عليك، فتحمد الله وتشكره.
2- "الرزَّاقُ" من أسماء الله الحسنى
والرَّزْقُ من أفعال الله، فلا يصح أن ينسب إلى غيره، و"الرزَّاقُ" من أسمائه، فلا يسمى غير الله رزاقا أو رازقاً كما لا يسمى خالقاً.
والرزَّاقُ، صيغة مبالغة من رازق؛ للدلالة على الكثرة، فالرزَّاق: الكثير الرزق، صفةٌ من صفات الفعل، وهو شأن من شؤون ربوبيته عزَّ وجلَّ، فهو كثير الرزق سبحانه وتعالى، وهو رزاق لجميع عباده.
وقد ورد اسم "الرزاق" مرة واحدة في القرآن الكريم في سورة الذاريات، في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}. الذاريات 58
والرزاق، هو الذي يرزق مرة بعد مرة، وقوله: {ذو القوة المتين} يدل على أنه لا يعجزه
شيء من هذا العطاء والرزق، فيعطى ويخلق بالقدرة المعجزة التي لا نهاية لها؛ قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} [ص: 54].
3 -الرزق من عند الله وحده
وقد اختص الله سبحانه وتعالى بأمر الرزق وتيسيره، فالأرْزاق كلها بيد الله وحده، فهو خالق الأرزاق، وموصلها إلى خلقه، وخالق أسباب التمتع بها؛ فالواجب نسبتها إليه وحده وشكره عليها فهو مولاها وواهبها.
قال تعالى: {فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ} العنكبوت 17
تأمل تقديم: {عِندَ اللَّهِ} على {الرزق}، إذ لم يقل
سبحانه: فابتغوا الرزق عند الله، ولكن قال: ابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ. فالرزقُ لا يُبتغى من عند غيره جل في علاه.
وقال تعالى: {يَأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}.فاطر 3
وقال تعالى: {وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يرزقها وإياكم}، العنكبوت 60أي لا
تطيق جمعه أو تحصيله، ولا تؤخر شيئًا منه لغد اللَّهُ يَرْزُقُهَا، أي يقيض لها الرزق على ضعفها، وييسره لها، ويخرجه،
ويبعث إلى كل مخلوق من الرزق ما يصلحه، حتى الذر في قرار الأرض، والطير في مرتفعات الجو والهواء.
وقد تحدى الله تعالى خلقه بقضية الرزق وأنه لا يملكه سواه فقال جل ذكره: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ}. الملك 21
ومن علم أن الرزق من عند الله، فليحسن التوكل على الله وحده سبحانه في طلب الرزق كما أرشد إلى ذلك الرسول صل الله عليه
وسلم، فقال: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا».
4 -الرزق مقسوم محتوم
لأن الله تعالى تكفل به، فهو يرزق جميع خلقه القوي منهم والضعيف، الحقير والعزيز.. فلكلٍّ رزقَه لا يسلبه أحدٌ أو ينازعه إياه؛
لأن الله كفّله.. فرزق الله لا يستطيع أن يمنعه ولا يرده أحد، وإذا أرادك الله برَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا.
قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ}. الذاريات 23
وفي السنة النبوية ما يشير إلى أن الرزق مكتوب ومحتوم، وأن ما قضاه الله سبحانه وتعالى وقدره كائن ولا بد،
عن أبي أمامة رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ رُوح القدس نفَثَ في رُوعي أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل
أجلَها، وتستوعب رِزقَها، فاتَّقوا الله، وأجمِلوا في الطلب، ولا يحملَنَّ أحدَكم استبطاءُ الرِّزق أن يطلبه بمعصية؛ فإن الله تعالى لا يُنال ما عنده إلا بطاعته".
وإن مما قضاه الله وقدره من قبل أن يولد الإنسان، أربعة أمور: العمل، والرزق، والسعادة أو الشقاء.
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعود قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ "إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ
أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ
وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيد" صحيح البخاري.
فما كُتب للعبد مِن رِزق وأجل، فلا بد أن يستكمله قبل موته؛ عن جابر رضي الله عنه؛ أن النبي صل الله عليه وسلم قال: "لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ فَرَّ مِنْ رِزْقِهِ كَمَا يَفِرُّ مِنَ المَوْتِ، لأَدْرَكَهُ رِزْقُهُ كما يُدْرِكُهُ المَوْتُ".
وتأمَّل هذا الحديثَ: عن أم حبيبة رضي الله عنها؛ أنها قالت: "اللَّهُمَّ مَتِّعْنِي بِزَوْجِي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَبِأَبِي أبي
سُفْيَانَ، وبِأَخِي مُعَاويةَ"، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد سألْتِ اللهَ لآجالٍ مضروبة، وآثارٍ موطوءة، وأرزاقٍ مقسومة،
لا يُعجِّل شيئًا منها قبْل حِلِّه، ولا يُؤخِّر منها شيئًا بعْد حلِّه، ولو سألتِ الله أن يُعَافِيَكِ من عذابٍ في النار، وعذاب في القبر، لكان خيرًا لكِ"
5 - قضية الرزق مرتبطة بالخلق
- فما دام هناك خلق فلابد له من رزق، والله تعالى لم يخلق خلقا دون أن يجعل له رزقا، قل أو كثر، وأرزاق الخلق على الخالق
وحده، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}، هود 6 والدابة: هي كل ما يدب على الأرض ومنها الإنسان والحيوان والنبات وجميع الكائنات الحية الدقيقة وغيرها.
وقال تعالى: {اللًّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ}. الروم 40
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}. فاطر 3
- ومن أجل ذلك فإنه سبحانه لما خلق السموات والأرض خلقها في يومين عمومًا، ثم عمد إلى الأرض فقدر فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، في أربعة أيام أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا، وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ، وهيأ فيها السكن للساكن سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ}.فصلت 9
- فهذا الكوكب الذي نعيش عليه (الأرض) كوكب غني بما فيه من أنواع المعايش، ولا يزال البشر يكتشفون من المعايش التي
أودعها الله في هذا الكوكب العجيب الأمور الكثيرة في أرضه، وفيما يخرج من زرعه، وفي الدواب التي بثها، وهذه الثروة الحيوانية،
وفي هذه الكائنات البحرية، والبحر الذي تستخرجون منه لحمًا طريًا، وفي هذه الجبال وما أنزل فيها من الحديد، وخلق فيها من
المعادن، ذهب وفضة، ونحاس، وغير ذلك. قال تعالي: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ}. ألأعراف 10
- وما يحصل في الأرض من المجاعات فإنما هو بذنوب العباد، واحتباس المطر كذلك، وما يحدث من المجاعات هو بظلم بعضهم لبعض، وتسلط بعضهم على بعض، وإلا فإن في الأرض ما يكفيهم وزيادة.
6 - الرزق ليس مرتبطًا بالإيمان والكفر
فالله تعالى يرزق الكافر ويرزق المؤمن، يرزق جميع الناس من أهل الإيمان، وأهل الضلال. وقد يزيد أهل الضلال والجهل في الرزق، ويوسع عليهم في الدنيا، ويضيق على أهل الإيمان والصلاح.
قال الله تعالى: {وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)
وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا ۚ وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}.الزخرف
وهذا لا يعني التلازُمَ بين الكفر وسَعة الرزق، بل على العكس الإيمان والطاعة تزيد في الرزق وتنزل به البركة، كما أن المعصية تمحق بركة الرزق.
والواقع خيرُ شاهدٍ؛ فقد تجد أن كثير من الكفار يعيشون في فقرٍ مدقع، وعلى العكس تجد أيضا أن كثيرا من المسلمين يعيشون في
رغد العيش وسعة من الرزق؛ فمن تمام عدْل الله تعالى أن كلَّ من أخَذَ بأسباب الرزق، أعطاه الله -إن شاء الله- إياه.
والحاصل أن الله يقابل عبده المؤمن بالفضل، والكافرَ بالعدل، ولا يُسأل عما يفعل.
جاء في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح": "إن المؤمن إذا اكتسب حسنةً، يكافئه الله -تعالى- بأن يوسِّع عليه رزقه، ويرغد
عيشه في الدنيا، وبأن يجزَى ويثاب في الآخرة، والكافر إذا اكتسب حسنة في الدنيا بأن يفكَّ أسيرًا، أو ينقذ غريقًا، يكافئه الله -تعالى- في الدنيا، ولا يجزى بها في الآخرة".
أما المؤمن، فيريد الدنيا والآخرة، وإرادته الآخرةَ غالبةٌ؛ فيُجازَى بحسناته في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة،
روى أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صل الله عليه وسلم- قال: "إن الله -عز وجل- لا يظلم المؤمن حسنةً، يثاب عليها
الرزق في الدنيا، ويجزَى بها في الآخرة، وأما الكافر فيُطعم بحسناته في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيرًا".
7 - الأخذ بأسباب الرزق
طلب الرزق أمرٌ حضّ عليه الشّرع ببذل الأسباب الموصلة إليه، والتوكلّ على الله بعد ذلك، وهذا هو الأصل العام الذي شرعه الله لعباده، أن يطلبوا الشيء بأسبابه الشرعية والحسية. وقد حثّت الشريعة الغراء الإنسان المسلم على العمل والجدّ، وأوصت بالابتعاد عن الذل والمسألة، كما حضّ على ذلك العقل، وحضت عليه الفطرة السليمة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "طلب الحلال واجب على كل مسلم".
وجعل الله تعالى للرزق قوانين لا تتغير ولا تتبدل، من اتبعها نال الرزق منه سبحانه، وأول هذه القوانين أن الرزق يحتاج إلى سعي
وطلب، قال الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. الجمعه 10
ففي الآية إشارة واضحة للسعي في طلب الرزق، فالله هو الرازق لكن على الإنسان ألا يركن لذلك فيتواكل، بل يأخذ بالأسباب جميعها، ويسعى متوكلا على الله وحده.
الأصل أن الرزق وغيره: قائم على الأسباب، فلا ينال الرزق إلا بالسعي، قال تعالى: {هوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي
مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}، الملك. قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي: مناكبها: أطرافها وفجاجها ونواحيها.
وقد حثّ الإسلام الإنسان على العمل والجدّ، وأوصى بالابتعاد عن الذل والمسألة، ففي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه".
الرسول صلى الله عليه وسلم جاءه رجل من الأنصار يسأله فقال له الرسول الكريم: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى: حِلس - كساء
يفرش في البيت - نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب (إناء) نشرب فيه الماء، قال: ائتني بهما، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صل
الله عليه وسلم وقال: من يشتري هذين؟ - يعني أجرى مزاداً عليهما - قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال من يزد على درهم؟
مرتين أو ثلاثاً، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري وقال: اشترِ بأحدهما طعاما
وانبذه إلى أهلك، واشترِ بالآخر قدوماً فائتني به، فشد رسول الله صل الله عليه وسلم عوداً بيده ثم قال له: اذهب فاحتطب وبع ولا
أرينك خمسة عشر يوماً، فذهب الرجل يحتطب ويبيع فجاء وقد أصاب عشرة دراهم فاشترى ببعضها ثوباً وببعضها طعاماً،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة" [أخرجه أبو داود].
فهذا حث مباشر من الرسول الكريم على العمل مهما كان صعبا، وعلى الابتعاد عن مواطن الذل والسؤال، فالعمل شرف مهما كان متواضعًا.
وروي عن لقمان رحمه الله أنه قال لابنه: "يا بني، استعن بالكسب الحلال؛ فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال:
رقة في دِينه، وضعف في عقله، وذهاب مروءته، وأعظم من هذه الخصال: استخفاف الناس به".
ومخلوقات الله جميعها مفطورة على السعي طلبا للرزق، وبحثاً عن قوت يومها، فالطيور تبدأ من أول النهار في البحث عن الطعام،
وفي الحديث، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ أَنَّكُمْ تَتوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ، تَغْدُو خِمَاصًا،
وَتَرُوحُ بِطَانًا" صححه الألباني؛ ففي الحديث بيان: أن الطير "تغدو"؛ أي: تذهب في أول النهار بحثا عن الطعام،
وهذا من مباشرة الأسباب، مع أن الحديث في بيان تقرير التوكل، وتصحيح مقامه؛ فدل على أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل، بل هو من تمامه .
ورب الأسرة - وكل من يعول - مسؤول عن السعي لنيل رزق أولاده، لذلك ينبغي عليه العمل في حرفة، أو مهنة مشروعة، حيث إنَّ طلب الرزق الحلال فريضة على كل مسلم، فالحرفة المشروعة والخالصة لله تعالى تتحوّل إلى عبادة يؤجر صاحبها عليها، وبالتالي فإنَّ الرزق لا يُنال إلّا بالسعي والعمل. وفعل الأسباب الشرعية لا يقدح في التوكل، وإنما يربي النفس على البذل والحركة النافعة.
ولقد خَلق الله تعالى الكون وهيّأ فيه أسباب الرزق، فخَلق الأرض فيها ينبت الزرع، وعليها يعيش الإنسان، وخلق السماء منها يهطل المطر؛ فينبت هذا الزرع، ليأكل الإنسان، وخلق الدوابّ وسخّرها للإنسان في أصوافها، وأوبارها، وأشعارها، ولحومها وألبانها، وخلق للإنسان الأعضاء التي بها يتكسّب، والعقل الذي به يفكّر، فتستقيم حياته، ثمّ أمره بأن يسعى لطلب رزقه، فالرزق لا يأتي على متكاسلٍ ومتواكلٍ، وقد سعى الأنبياء والصّالحون لطلب رزقهم، والأكل من عمل أيديهم.
ولقد عمل الأنبياء ولم ينتظروا مجيء الرزق إليهم، وإنما أكلوا من عمل أيديهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أكل أحد
طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده"،
قال تعالى: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان]، قال بعض المفسرين: أي: يتجرون ويحترفون.
فرسل الله وصالحو عباده أُمروا بفعل سبب الرزق، ودفع الهلكة عن أنفسهم.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "كان آدم عليه السلام حراثًا، ونوح نجارًا، وإدريس خياطًا، وإبراهيم ولوط زارعين، وصالح تاجرًا، وداود زرّادًا، وموسى وشعيب ومحمد صلوات الله عليهم رعاة".
قالت عائشة رضي الله عنها: "كان أصحاب رسول الله عمالَ أنفسهم"، وربما تناوبوا في سماع رسول الله، حيث كان عند بعضهم
يوم للعمل، ويوم لطلب العلم، قال عمر رضي الله عنه: "كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي
المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك ...".
ولمّا حثّ ديننا الحنيف على طلب الرزق، فقد حصر هذا الطلب بالطرق المشروعة، فحرّم السرقة والنهب وكلّ طريقٍ مشبوهٍ للحصول على الرزق.
والحاصل أن الأصل هو أن الرزق لا يأتي إلا بالسعي، إلا أن يكون معجزة، كنزول المائدة على عيسى عليه السلام، أو تكثير الطعام والماء بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كرامة كالذي حصل لمريم.
يقول علي بن ابي طالب رضي الله عنه: الرزق نوعان، رزق تطلبه ورزق يطلبك
فأما الذي يطلبك فسوف يأتيك ولو على ضعفك، وأما الذي تطلبه فلن يأتيك إلا بسعيك، وهو أيضًا من رزقك، فالأول فضل من الله والثاني عدل من الله.
فقد يخرق الله العادة، ويرزق عبدا من عباده، بلا سبب ولا سعي، معجزة لنبي، أو كرامة لولي.
وهذا هو ما حصل لمريم عليها السلام؛ فرزقها الله من غير سبب حسي ظاهر؛ كرامة لها؛ لأنها ليست نبية، في قول الجمهور.
قال الله تعالى: {ُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. آل عمران 37
قال القرطبي رحمه الله في تفسيره: "وكان زكريا، إذا دخل عليها، يجد عندها فاكهة الشتاء في القيظ، وفاكهة القيظ في الشتاء!
فقال: يا مريم؛ أنى لك هذا؟
فقالت: هو من عند الله!
8- كثرة الرزق لا تدل على محبة الله
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}،الروم 37 وبعض الناس لا يعرف هذه الحكمة؛ فيظن إغناءه محبة ونعمة، وفقره كراهية ونقمة!
قال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلاَّ} الفجر أي: ليس الأمر كذلك، ما كل من وسعت عليه أكرمته، ولا كل من قَدَرت عليه أكون قد أهنته، بل هذا ابتلاء ليشكر العبد على السراء، ويصبر على الضراء، فمن رزق الشكر والصبر كان كل قضاء يقضيه الله خيرًا
له، كما في الصحيح عن النبي –صل الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيرًا له. وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له. وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له".
فهذه الدنيا الفانية يعطيها الله لمن يحب، ومن لا يحب: أعطاها لقارون وهو لا يحبه، وأعطاها لعبد الرحمن بن عوف الصحابي لجليل وهو يحبه.. أعطاها لفرعون وهو لا يحبه، وأعطاها لسيدنا سليمان وهو يحبه.. فهذه الدنيا لا يمكن أن تكون مقياس لمحبة الله، أو عدم محبته.
فقد تكفّل اللهُ بالرزق لعباده سواءً بذلك من آمن منهم أو من كفر به، إلّا أنّ رزق الله لعباده المؤمنين يختلف عن ذلك الرزق الذي يأتي لأيّ إنسان.
قال الله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ}، المؤمنون 55 فالله سبحانه يرزق الجميع،
ولكنه قد يزيد أهل الضلال والجهل في الرزق، ويوسع عليهم في الدنيا، وقد يقتر على أهل الإيمان، فلا يظن أن العطاء والزيادة دليل المحبة والاصطفاء!
بل بين الله تعالى أنه لولا أن يكفر الناس جميعًا لأراهم الله تعالى عطاياه لأهل الكفر، فقال جل ذكره: {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً
وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف].
فكثرة الرزق ليست دليلاً على محبة الله؛ لأنّ الإنسان يرى أحيانًا رزقًا كثيرًا بيد أهل الضلال والجهل، ورزقاً قليلاً مع أهل الإيمان،
وقال النبي صل الله عليه وسلم قال: "إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج"، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] [8].
وقال تعالى: {قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَداًّ}؛ مريم 75 فالله تعالى قد يوسَّع رزقه على الكفار والعصاة إملاءً واستدراجًا.
أيضا لم يقل أحد بأن قلة الرزق من علامات الصالحين، لم نجد من أهل العلم من صرَّح بهذا؛ ولكنهم اختلفوا في: هل الأفضل الفقير الصابر أو الغني الشاكر؟
فقد كان عدد كبير من العشرة المبشَّرين بالجنة وغيرهم، عندهم من الأموال والتجارة ما يصعب حصرُه؛ كعثمانَ بنِ عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو بكر الصديق نفسُه كان تاجرًا.
وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم – فقيرا لكنه كان أيضا من أكثر الناس قناعةً وزهدًا؛ فعن عائشة - رضي الله عنها -: أنها قالت
لعُرْوَة ابن أختها: "إن كنَّا لننظر إلى الهلال، ثلاثة أهلَّة في شهريْن، وما أُوقِدَ في أبيات رسول الله - صلى الله عليه وسلم – نارٌ،
فقلتُ: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء؛ إلا أنه قد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيرانٌ من الأنصار، كان لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبياتهم فيَسْقِينَاهُ".
حكى عمر بن الخطاب رضي الله عنه حال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد دخل عليه في غرفته، وهو على حصير ما بينه وبينه
شيء، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، وإن عند رجليه قَرَظًا مصبوبًا، وعند رأسه أهب معلقة، فرأيت أثر الحصير في
جنبه فبكيت، فقال: "ما يبكيك؟ فقلت: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول الله، فقال: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟".
وكان النبيُّ - صل الله عليه وسلم - يسأل ربَّه أن يجعل رزقه كفافًا؛ أي: مقدار حاجته؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "اللهم اجعل رزقَ آل محمَّدٍ قوتًا".
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "قد أفلح مَنْ أسلم ورُزِقَ كفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه"
وعن عبيد الله بن محصن الخَطَمِيُّ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أصبح منكم آمِنًا في سِرْبِه، معافًى في جسده، عنده قوتُ يومه؛ فكأنَّما حِيزَتْ له الدنيا"
--------------------------------
تابعونا جزاكم الله خيرا
ولا تنسونا من صالح دعائكم
أمس في 6:20 pm من طرف صادق النور
» عظمة الله سبحانه وتعالى والتحذير من الاستهزاء بالله والعياذ بالله
أمس في 5:54 pm من طرف عبدالله الآحد
» أَسْرارُ اَلْمُسَبَّحَةِ اَوْ السُّبْحَةِ وَأَنْواعُها وَأَعْدادُها - - ( ( اَلْجُزْءُ الثَّانِي ))
أمس في 8:06 am من طرف صادق النور
» أقسام صفات الله
السبت أبريل 27, 2024 8:52 pm من طرف عبدالله الآحد
» اثبات أن الله يتكلم بالصوت والحرف وأن القرآن كلامه حقيقة
الجمعة أبريل 26, 2024 4:11 pm من طرف عبدالله الآحد
» الرياء شرك أصغر إن كان يسيرا
الخميس أبريل 25, 2024 4:39 pm من طرف عبدالله الآحد
» لم يصح تأويل صفة من صفات الله عن أحد من السلف
الأربعاء أبريل 24, 2024 5:12 pm من طرف عبدالله الآحد
» إثبات رؤية الله للمؤمنين في الجنة
الثلاثاء أبريل 23, 2024 7:24 am من طرف عبدالله الآحد
» الرد على من زعم أن أهل السنة وافقوا اليهود
الثلاثاء أبريل 23, 2024 5:40 am من طرف عبدالله الآحد
» طائِفُهُ الصَّفْوِيِّينَ - - اَلْدوَلهُ الصِّفْوِيهُ
الإثنين أبريل 22, 2024 11:18 am من طرف صادق النور