هجرة الحبيب صل الله عليه وسلم أسرار وأنوار
1 - الهجرة .. وبدء الوحي:
طبع الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - على مكارم الأخلاق بعد أن اصطفاه من أطهر الأعراق، وكان مرُّ الأيام يكشف للأقوام من صدقه - صلى الله عليه وسلم - وأمانته، ورحمته، ورقة حاشيته، وترفُّعه عن الآثام، وفضله على الأقران والجدود والأعمام، ما يفسِّر قول الله تعالى في مصطفاه: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، وكانت حياته في بيت خديجة، وصلاته مع المجتمع الذي يعِج بالوثنية، ويضِج بالشر، وتقوم أكثر قواعده على الأحساب الموضوعة، والأنساب المصنوعة - بعيدةً عن ميزان التفاضل الحق في قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13].
مصداق ثناء الله على نبيه الذي لا يعرفه على الحقيقة إلا مولاه:
وحين أنصف النضر بن الحارث في لحظة من لحظات صحو الضمير، وصدق الشعور، فقال: "لقد كان محمد فيكم غلامًا حَدَثًا، أرضاكم قولاً، وأصدقكم حديثًا، حتى إذا بدا في صُدغيه عارضُ الشيب، وجاءكم بما جاءكم به، قلتم: إنه كاذب، والله ما هو بكاذب، والله ما هو بكاذب".
ثم لم يلبث أن انتكست فطرته، وغلبت عليه شِقوته، فمارى النبيَّ، وجارى قومه في ريبهم في الدعوة، وإنكارهم للرسالة،
وقال عن القرآن الكريم: ﴿ لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [الأنفال: 31]، وحكى الله مقالته، وأكذب ضلالته، ودحض سفاهته، وألبسه خزى هواه ﴿ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى ﴾ [فصلت: 16]؛ فقال - تعالى -: ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الأنفال: 31، 32].
وأية ضلالة تلك التي أخذت بمخانقه فلم يقل: "إن كان هذا هو الحق من عندك فألزِمْنا إياه وثبِّتنا عليه"،
ولقد عرفتْ خديجة - رضي الله عنه - محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فآثرته على الذين أرادوا الزواج منها من عِلْية قومها،
وهي السيدة التي عرفتِ الزَّواج، ومقتضيات نقائه وبقائه مودة ورحمة وسكنًا وسكينة - أنفَسَ من ضجيج الحياة، وفوضى المجتمعات.
واصطفى الله محمدًا، وأرسله رحمة للعالمين، وعاد النبي يومًا من غار حراء إلى خديجة، يرجف فؤاده واستقبلته شريكة الحياة بكل إيناسها، وسارعت فزمَّلَتْه كما أمر، حتى قام من نومه، فأخبرها بخبر الغار أحداثًا وأحاديث، وقال: ((لقد خشيت على نفسي))، فقالت: كلا، والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتَصِلُ الرحم، وتحمل الكلَّ، وتكسِبُ المعدوم، وتَقْرِي الضيف، وتُعِين على نوائب الحق"، وهي خلائقُ كلُّ واحدة منها تورث حمدًا، وتصنع مجدًا.
ومضت خديجة مع أبرِّ زوج، وأوفى عشير، حتى أتيا ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعزى، ودَعَتْه بعمومةٍ بينهما، أن يسمع من ابن أخيه، وتحدث محمد والرجل يرهف السمع، ويُنْعِم إلى محمد النظر، ويكشف إشراق وجهه عن المعاني الكبرى التي غلفها حديث محمد، وبادر يقول فيما أورد الإمام البخاري بسنده في الحديث الثالث من كتابه بدء الوحي من صحيحه:
"هذا الناموس الذي أُنْزل على موسى، يا ليتني فيها جذَعًا، ليني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - أوَمُخرِجِيَّ هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قومَه بمثل ما جئتَ به إلا عُودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا، ثم لم يلبث ورقة أن توفي، وفتر الوحي".
منذ ذلك اليوم، وصوت ورقةَ يتردد في سمع النبي بأنه مصطفى الله إلى قومه؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، بإذن ربه، وأنهم مخرجوه، وإن استبعد أن يخرجوه"، قال الإمام ابن حجر في شرحه للحديث: "واستبعد النبي - صلى الله عليه وسلم -
أن يخرجوه؛ لأنه لم يكن فيه سبب يقتضي الإخراج؛ لما اشتمل عليه من مكارم الأخلاق التي تَقَدَّم من خديجة وصفها".
2 - على طريق المرسلين:
هذا ورقة يسارع فيُلَطِّف من دهشة الرسول من خبر إخراج قومه له فيقول: "لم يأت رجل قط بمثل ما جئتَ به إلا عودي"، والإمام ابن حجر يقرر من كلام ورقة ما قد يكون قاعدةً في مداخلة الناس،
وهو يقول: "وفيه دليل على أن المجيب يقيم الدليل على ما يجيب به إن اقتضاه المقام".
إنهم يعادون محمدًا، ويؤذونه، ويكذبونه، ويحاصرونه والذين آمنوا معه، وبعض قومه الذين كانوا على دين قريش،
ويضطرون النبي إلى أن يأذن لمن يريدون ترك خير دار، وأبرِّ جوار؛ ليَسْلَم لهم دينهم في جوار مَلِك لا يُظْلم أحد عنده
فكانت الهجرة إلى الحبشة حين أذن الله للمسلمين بالهجرة إلى المدينة، كما توعد الأقوامُ رسلهم بالإخراج من ديارهم،
فهاجر إبراهيم، وهاجر لوط - عليهما السلام -: ﴿ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ﴾ [الأعراف: 88].
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ﴾ [إبراهيم: 13].
والحافظ ابن كثير يستوعب هذه الآيات وغيرها في هذا السياق، فيقول : "يخبر الله تعالى عما توعدت به الأمم الكافرة رسلَهم من الإخراج من أرضهم، والنفي من بين أظهرهم، كما قال قوم شعيب له ولمن آمن به: ﴿ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ﴾ [الأعراف: 88].
وكما قال آل لوط: ﴿ أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ﴾ [النمل: 56].
وقال تعالى إخبارًا عن مشركي قريش: ﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 76].
وقال: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].
وقال رحمه الله: "وكان من صُنْعِه تعالى أن أظهر رسوله، ونصره، وجعل له بسبب خروجه من مكة أنصارًا وأعوانًا وجندًا، يقاتلون في سبيل الله تعالى، ولم يزل يرقِّيه تعالى من شيء إلى شيء، حتى فتح له مكة التي أخرجته، ومكن له فيها،
وأرغم أنوف أعدائه من سائر أهل الأرض، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وظهرت كلمة الله ودينه على سائر الأديان في مشارق الأرض ومغاربها في أيسر زمن؛ ولهذا قال الله تعالى في أعقاب الآية 13 من سورة إبراهيم:
﴿ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾ [إبراهيم: 13، 14].
كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [الصافات: 171 - 173].
وقال تعالى: ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ﴾ [المجادلة: 21].
إلى آخر ما أورد من آيات، لو تدبرها المسلمون، وأخذوا بها أنفسهم، وارتفعوا إلى مستواها من الإيمان بالله، والإذعان لأمره، واجتناب نواهيه، لربَط الله بها على قلوبهم، فكانوا على قلب رجل واحد، لا تقوى القوة العالمية على أن تجد في صفهم ثغرة، أو يكون لها عليهم سلطان أو إمرة.
﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [المائدة: 56].
﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ﴾ [المدثر: 31].
ومن أصدق من الله قيلاً: ﴿ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ * وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ﴾ [إبراهيم: 13 - 15].
وإنه لوعدٌ من الله - كما قال الإمام الطبري - لأنبيائه بالنصر على عدوهم، قال: "لما تمادت أمم الرسل في الكفر وتوعدوا رسلهم بالوقوع بهم - على حال الإخراج الذي تكرر في آيات - إلا أن تَعُود الأمم إلى دين أقوامهم الذي لم يعتقده المرسلون،
ولم يكن ذِكْرُهم إلا على معنى التغليب، لقد أوحى الله إلى الرسل أن يقتلوا من كفر بهم من أممهم، ووعَدَهم النصر،
وكل ذلك كان وعيدًا وتهدُّدًا لمشركي قوم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - على كفرهم به، وجرأتهم على نبيه،
وتثبيتًا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأمرًا له بالصبر على ما لقي المكروه فيه من مشركي قومه، كما صبر من كان قبله من أولي العزم من الرسل، ومعرفة أن عاقبة أمر مَن كفر الهلاك، وعاقبته النصر عليهم، سنة الله في الذين خلوا من قبل،
وتلتقي آيات القرآن في توكيد وعيد المشركين لأقوامهم عصرًا بعد عصر بالإخراج من الديار، وأن الوعيد كان واقعًا ظالمًا من أقوام، وأنه كان محاولة من مشركي مكة؛ حيث يقول تعالى:
﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 76].
إن الذي أخرج النبيَّ والذين آمنوا معه من مكة إلى المدينة، هو الله تعالى لحِكَم جليلة، وأسرار عَلِيَّة، مِن أبهرها وأظهرها أن يجد المسلمون بلدًا يستطيعون أن يعبدوا الله فيه آمنين، قادرين على الحركة بالدعوة حتى تبلغ ما شاء الله في مشارق الأرض ومغاربها، وتتم نعمة الله بإرسال محمد؛ كما قال تعالى:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [سبأ: 28].
3 - القرية التي أخرجته:
مكة أم القرى واجه فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - صناديد قريش، ودعاهم إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، فخاشنوه، وصَدُّوا عن سبيله، إيثارًا لأصنامهم التي لا تبصر ولا تسمع، ولا تضر ولا تنفع، على عبادة الله مخلصين له الدين، وآذوا نبيهم والذين آمنوا معه، وجاوزوا في ذلك المدى، وطاش في ذلك صوابهم، فقتلوا من الآباء والأبناء من قتلوا،
وهاجر من شاء إلى الحبشة وغيرها من المواقع، وجرت أحداث، واتصل حوار كان يديره المشركون بالهوى ومصالحهم المادية، ومحاولة التمكين لشركهم، والتوطين لأصنامهم، وما كان الرسول بالذي يقبل أيسر مساومة في توحيد الله، وإخلاص الوجه لعبادته، وطالما دعاهم إلى أن يقولوا "لا إله إلا الله" ليسُودوا بها من سواهم، ويدين لهم بها العرب والعجم على سواء، ولكنه - صلوات الله عليه - كان منهم كمن يضرب في حديد بارد.
لقد أصم الشركُ عن توحيد الله آذان المشركين في أم القرى وما حولها، وقالوا:
﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ﴾ [فصلت: 5].
ولم يعُد في قوسِ صبرِ المسلمين مَنْزَع، وبدت تباشير الفرج القريب تتهلل بها وجوه الوافدين من يثرب في مواسم الحج، وأيام عكاظ وذي المجنة وذي المجاز، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخامره قولُ ورقة بن نوفل منذ بدء الوحي، ويحرص على لقاء الوفود، حتى رأى دار هجرته في نومه: ((وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح)) في حديث الإمام البخاري الذي مر بين يديك، وأذن الله بالهجرة إلى يثرب، وأخذ المسلمون إليها الطريق مستخْفِين إلا من كان على مثل شجاعة أبي حفصٍ عمرَ، ووجد المهاجرون في المدينة:
﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].
واستأنى الرسولُ صاحبَه أبا بكر، وأمَنَّ الناسِ عليه؛ فقد استأذن مرات في أن يهاجر، فكان النبي يقول له:
((عسى الله أن يجعلَ لك صاحبًا))، فكانا كما قال الله تعالى:
﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40].
وكان ذلك بعد أن أداروا بينهم الرأي في "دار الندوة" بم يتخلصون إلى الأبد من محمد؟
﴿ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].
4 - في الطريق إلى يثرب:
لقد قدَّر النبي وفكر في الهجرة وما تستوجب من حَيطة وحذر، واستعان بالكتمان، وهو يعلم أن وراء تدبيره تدبيرَ ربه وحفظ مولاه، الذي يمهل ولا يهمل، ويملي للطغاة إلى حين، ويروي غراس اليقين في ذلك بين أعطاف المؤمنين:
﴿ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الزمر: 61].
إن إسرار الرسول إلى أبي بكر بخبر الهجرة، واللهفة التي اعتلجت كلمات في قول أبي بكر: "الصحبةَ يا رسول الله"، وقول الصادق الأمين: ((الصحبة يا أبا بكر))، ودموع السرور التي تضاعف بها سناء وجه الصِّدِّيق - رضي الله عنه - موقفٌ من مواقف تكشف عن وفاء النبي وعرفانه لقدر أول الرجال إسلامًا، وأعظمهم إيمانًا، وأحقهم بأن يكون في المشهد العظيم: "ثاني اثنين"، لتصل هذه الحلقات أمثالها في بلاء أبي بكر في الدعوة وافتدائه للنبي الأعظم، ووفائه، وعطائه للمسلمين والمستضعفين بخاصة، ويكون هذا الموقف نورًا نرى فيه أبا بكر يرصد ماله ورجاله لإنجاح هذه المخاطرة التي جُن لها جنون المشركين بقدر ما واجهها وخاض غمراتها المسلمون بارتياح ويقين.
وكان القرآن الكريم يغادي النبي ويراوحه بمثل قوله تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [القصص: 85].
إن الإمام القرطبي يقول في كلام نفيس: "ختم الله السورة ببشارة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - بِرَدِّه إلى مكة قاهرًا لأعدائه، وأورد في "معاد" معانيَ لا توضع في كِفة ميزان أمام مراد "مكة" فهو يقول: "والأول أكثر"، وهو قول جابر بن عبدالله، وابن عباس، ومجاهد، وغيرهم، وأورد أن مَعادَ الرجل بلدُه الذي ينصرف منه ثم يعود إليه".
قال مقاتل: "خرج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الغار ليلاً مهاجِرًا إلى المدينة، مخافة الطلب، أقول وتلك مشاعرُ بشرية مُحَسَّة، وإن كان - صلوات الله عليه - يغمره اليقين بأن الله كالِئُه وهاديه وحاميه، وحاشا أن تكون هجرته هربًا،
لكنها أمر الله ووحيه لمصطفاه في رؤياه، وإن تسبب المشركون في دواعيها ودوافعها جاهلين أن الله خيرٌ حافظًا لنبيه وأوليائه.
قال مقاتل: "فلما رجع الرسول إلى الطريق، ونزل الجُحفة، عرف الطريق إلى مكة فاشتاق إليها، فقال له جبريل إن الله يقول:
﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ﴾ [القصص: 85]؛ مكَّةَ ظاهرًا عليها.
واستظهره الفخر الرازي، وقال: "لأن ظاهر المعاد أنه كان فيه وفارَقه وعاد إليه، وذكر كلام العلماء أن هذا من أعلام النبوة؛
لأنه أخبر بغيب كان بعد ذلك، كما أخبر حين جاء نصر الله والفتح"؛ من تفسيره،
وأورد ابن كثير أحد أقوال ابن عباس أن المراد عودته إلى مكة في الفتح، وهو عنده أمارة على قرب انتهاء أجل النبي؛
كما فسر ابن عباس سورة النصر، وليس بعد الفتح والنصر إلا الموت، فالفردوس الأعلى والدرجات العلا التي كتبها الله لخيرته من خلقه، وصفوته من رسله، وأكرَمِ مَن فَدى رسالته بهجرته وجهاده حتى أكمل الله به الدين، وأتم النعمة على المسلمين،
وترك فيهم كتاب ربه الذي حفظه، ولم يستحفظه سبحانه أحدًا، وحفظ معه السنة يأخذها لا محالة من أراد أن يعرف مراد الله من كتابه وكلماته.
وصدق الله العظيم: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ﴾ [محمد: 13].
إن أمثال الآية كثيرة في كتاب الله، وتؤكد أن القرى التي عتت عن أمر ربها عاجلها الله، وربما أمهلها قليلاً، ثم كان أخْذُه صاعقًا وبيلاً، والإخراج في هذه الآية يحدده، وأمثال ما صرح به الله في بعض الآيات:
﴿ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ ﴾ [التوبة: 13].
فهم قد جاوزوا الحدود في دواعي الإخراج، ودوافع التحول عن مكة التي كان يضن بها.
وقد روى ابن أبي حاتم بسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خرج من مكة إلى الغار وأتاه، التفت إلى مكة وقال: ((أنت أحب البلاد إلى الله، وأنت أحب البلاد إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما خرجتُ))، فأنزل الله على نبيه: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ ﴾ [محمد: 13]؛
والآيات تُلقي التراب في وجوه الطغاة الذين يظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق، ويربط بها الله على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحبه؛ لتظل خيول الإسلام مُسْرَجة حول العقيدة الحقة، ومن دون البلاد والعباد حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله، ومن خلال إيغال المشركين في أذى النبي وصحبه، علَّم الله رسوله في مكة أن يدعو في صلاته، وفي غيرها،
ويفزع إلى مولاه أن يتولاه؛ روى الترمذي وقال حسن صحيح عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة ثم أمرنا بالهجرة، فنزلت: ﴿ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 80].
والذين كتبوا في شمائله - صلى الله عليه وسلم - ذكروا أنه كان يُعجبُه الاسم الحسن والكنية الحسنة، وكان يستبشر ويتفاءل،
وما كان التشاؤم من سماته - حاشاه - وذكروا أنه في أحرج المواقف، وأعتى ظروف التحدي كان على أرفع مستوًى بشريٍّ من تفاؤله واستبشاره وأمله في الله، ومن خلال ما كان يتحرك فيه من الرصد والطلب في الهجرة، يَرْوُون أنه كان ينظر إلى الأمام دائمًا، وكان أبو بكر يتقدمه تارة ويتأخر عنه تارة؛ افتداءً له - صلوات الله عليه -
روى عبدالله بن بريدة الأسلمي عن أبيه بُريدة أنه ركب في سبعين رجلاً من أهله بني سهم، فتلقى النبيَّ في طريق هجرته،
فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من أنت؟))، قال: أنا بريدة، فالتفت النبي فقال: ((يا أبا بكر، بَرُد أمرنا وصلَح!))، ثم قال لي: ((ممن أنت؟))، قلت: مِن أسلَمَ، فقال لأبي بكر: ((سَلِمنا))، ثم قال لي: ((مِن بني مَن؟))، قلت: من بني سَهْم، فقال: ((خرج سهمك يا أبا بكرٍ)).
إنه النبي الذي أدخله ربه مُدْخَل صدق إلى المدينة بعد أن كان مع الله على الصدق والوفاء، وصبَّر النفس مع أولي العزم في التأسي والافتداء، وهو يقول: ((والمهاجر مَن هجر ما نهى الله عنه))؛ البخاري بسنده عن ابن عمر - رضي الله عنهما - ويقول: ((لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية))؛ البخاري بسنده
==========
ونتذكر مع دروس الهجره
1- إذا نزلت أقدار الله على العبد بِما لا يحبه العبد من البلاء، فلا بدَّ من الصبر عليها، مع عدم الاعتراض على قَضاء الله - جلَّ وعلا - لأن قضاءه يستوجب الإيمان والصبْرَ احتسابًا، وليرحَمنا بِهذه الأقدار من عذابِ وخزْيِ الآخرة إنْ تعامَلْنا معها بشكْلٍ يُحبُّه الله ويرضاه.
2- أنَّ الْهجرة تُعلِّمنا الاستبشار وعدم اليأس وحُسْنَ الظنِّ بالله - جلَّ وعلا -: ﴿ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40].
3- وأن النصر مع الصبْر، وأنَّ مع العسر يسرًا.
اللهم إنا نسألك الثبات على اليقين والإيمان، وأن تُبلِّغنا الفردوس الأعلى من الجنان،
ونحن على منهج الإسلام وسنَّة المصطفى العَدْنان.
والعاقبة عند ربك للمتقين.
لا تنسونا من صالح دعائكم
اليوم في 2:19 pm من طرف عبدالله الآحد
» فضل توحيد الله سبحانه
أمس في 3:20 pm من طرف عبدالله الآحد
» وجوب الدعوة إلى توحيد الله سبحانه
الخميس نوفمبر 21, 2024 3:00 pm من طرف عبدالله الآحد
» كتاب الترجيح في مسائل الطهارة والصلاة
الأربعاء نوفمبر 20, 2024 9:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» وجوب التوكل على الله وخده لا شريك له
الأربعاء نوفمبر 20, 2024 3:26 pm من طرف عبدالله الآحد
» أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 5:24 pm من طرف عبدالله الآحد
» العبادة وأركانها
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 2:55 pm من طرف عبدالله الآحد
» الراجح من أقوال العلماء أن جلسة الاستراحة سنة في الصلاة
الإثنين نوفمبر 18, 2024 2:31 pm من طرف عبدالله الآحد
» -(( 3 -))- خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم
الأحد نوفمبر 17, 2024 10:15 pm من طرف صادق النور
» لا يعلم الغيب إلا الله وحده لا شريك له
الأحد نوفمبر 17, 2024 3:12 pm من طرف عبدالله الآحد