آل راشد



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

آل راشد

آل راشد

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
آل راشد

ثقافى-اجتماعى

*** - اللَّهُمَّ اَنَكَ عَفْوٍ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعِفُو عَنَّا - *** - اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك . *** - اللَّهُمَّ اُرْزُقْنَا تَوْبَةً نَصُوحًا قَبْلَ الْمَوْتِ وَ ارْزُقْنَا حُسْنَ الْخَاتِمَةِ . *** -

إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا شَابَتْ عَبِيدَهُمْ.. .. فِي رِقِّهِمْ عَتَقُوهُمْ عِتْقَ أَبْرَارٍ .. .. وَأَنْتَ يَا خَالِقِيُّ أوْلَى بِذَا كَرَمًا.. .. قَدْ شُبْتُ فِي الرِّقِّ فَأَعْتَقَنِي مِنَ النَّارِ .

المواضيع الأخيرة

» الله أول بصفاته لم يزل ولا يزال متصفا بها سبحانه وتعالى
الوَلاء والبَراءُ :: تَعريفُ الوَلاءِ والبَراءِ :: عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في الوَلاءِ والبَراءِ ::  Ooou110أمس في 5:34 pm من طرف عبدالله الآحد

» الإيمان بأن الله خلق آدم على صورته كما قال رسول الله بلا كيف ولا تشبيه
الوَلاء والبَراءُ :: تَعريفُ الوَلاءِ والبَراءِ :: عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في الوَلاءِ والبَراءِ ::  Ooou110السبت مايو 18, 2024 5:13 pm من طرف عبدالله الآحد

» صفات الله الفعلية قديمة النوع حادثة الآجاد أي متجددة الآحاد غير مخلوقة
الوَلاء والبَراءُ :: تَعريفُ الوَلاءِ والبَراءِ :: عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في الوَلاءِ والبَراءِ ::  Ooou110الجمعة مايو 17, 2024 4:29 pm من طرف عبدالله الآحد

» أهل السنة ليسوا مشبهة وعلامة الجهمية تسميتهم بالمشبهة
الوَلاء والبَراءُ :: تَعريفُ الوَلاءِ والبَراءِ :: عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في الوَلاءِ والبَراءِ ::  Ooou110الخميس مايو 16, 2024 4:52 pm من طرف عبدالله الآحد

» أقوال علماء السنة في أن القرآن ليس قديما بقدم الله ولا يوصف بمحدث
الوَلاء والبَراءُ :: تَعريفُ الوَلاءِ والبَراءِ :: عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في الوَلاءِ والبَراءِ ::  Ooou110الثلاثاء مايو 14, 2024 4:57 pm من طرف عبدالله الآحد

» أخطاء فى الحج كيف نتفاداها ؟؟؟
الوَلاء والبَراءُ :: تَعريفُ الوَلاءِ والبَراءِ :: عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في الوَلاءِ والبَراءِ ::  Ooou110الإثنين مايو 13, 2024 10:55 pm من طرف صادق النور

» أنواع التوحيد عرفت بالاستقراء من القرآن والسنة لهذا تقسيم التوحيد ليس ببدعة بل عليها الدليل وعرفها العلماء
الوَلاء والبَراءُ :: تَعريفُ الوَلاءِ والبَراءِ :: عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في الوَلاءِ والبَراءِ ::  Ooou110الإثنين مايو 13, 2024 4:49 pm من طرف عبدالله الآحد

» التحذير من إنكار صفات الله سبحانه لأن ذلك كفر
الوَلاء والبَراءُ :: تَعريفُ الوَلاءِ والبَراءِ :: عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في الوَلاءِ والبَراءِ ::  Ooou110الأحد مايو 12, 2024 4:15 pm من طرف عبدالله الآحد

» اثبات صفة النزول لله والرد على شبهة
الوَلاء والبَراءُ :: تَعريفُ الوَلاءِ والبَراءِ :: عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في الوَلاءِ والبَراءِ ::  Ooou110السبت مايو 11, 2024 4:38 pm من طرف عبدالله الآحد

» هل القرآن مدلول كلام الله؟!
الوَلاء والبَراءُ :: تَعريفُ الوَلاءِ والبَراءِ :: عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في الوَلاءِ والبَراءِ ::  Ooou110الجمعة مايو 10, 2024 4:53 pm من طرف عبدالله الآحد

اهلا بكم

الثلاثاء نوفمبر 08, 2011 2:32 am من طرف mohamed yousef

الوَلاء والبَراءُ :: تَعريفُ الوَلاءِ والبَراءِ :: عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في الوَلاءِ والبَراءِ ::  Ooousu10

المتواجدون الآن ؟

ككل هناك 21 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 21 زائر :: 2 عناكب الفهرسة في محركات البحث

لا أحد


أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 624 بتاريخ الأربعاء سبتمبر 15, 2021 4:26 am

احصائيات

أعضاؤنا قدموا 9691 مساهمة في هذا المنتدى في 3213 موضوع

هذا المنتدى يتوفر على 286 عُضو.

آخر عُضو مُسجل هو عبدالرحمن فمرحباً به.

دخول

لقد نسيت كلمة السر

أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى

أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع

لا يوجد مستخدم

    الوَلاء والبَراءُ :: تَعريفُ الوَلاءِ والبَراءِ :: عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في الوَلاءِ والبَراءِ ::

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5204
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    الوَلاء والبَراءُ :: تَعريفُ الوَلاءِ والبَراءِ :: عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في الوَلاءِ والبَراءِ ::  Empty الوَلاء والبَراءُ :: تَعريفُ الوَلاءِ والبَراءِ :: عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في الوَلاءِ والبَراءِ ::

    مُساهمة من طرف صادق النور الثلاثاء ديسمبر 19, 2023 7:59 am

    :: الوَلاء والبَراءُ ::

    :: تَعريفُ الوَلاءِ والبَراءِ ::


    : تَعريفُ الوَلاءِ لُغةً :
    الوَلاءُ: هو المحبَّةُ والنُّصرةُ والقُربُ، يقال: والى فُلانٌ فُلانًا: إذا أحَبَّه.
    وكلُّ مَن انَضَمَّ إليك، فَعَزَّ بِعِزِّك وامتنع بمَنَعَتِك، فهو مَوْلاك؛ ولهذا تُسَمَّى العَصَبَةُ وبنو العَمِّ مَوَالِيَ، وأصلُ (ولي): يدُلُّ على قُربٍ

    : تَعريفُ الوَلاءِ اصطِلاحًا :

    الوَلاء اصطِلاحًا: هو مُوافَقةُ العَبدِ لرَبِّه فيما يُحِبُّه ويَرْضاه مِنَ الأقوالِ والأفعالِ والاعتِقاداتِ والذَّواتِ، ويَلزَمُ مِن ذلك المَحَبَّةُ والنُّصرةُ للهِ ولرَسولِه ودينِه وعامَّةِ المُؤمِنينَ،
    ويُطلَقُ الوَلاءُ على الميراثِ الذي يَستَحِقُّه المرءُ بسَبَبِ عِتْقِ شَخصٍ في مِلْكِه، أو بسَبَبِ عَقدِ المُوالاةِ،
    والمرادُ هنا المعنى الأوَّلُ، فمَحَلُّ الوَلايةِ الأُمورُ المحبوبةُ للهِ .
    قال اللهُ تعالى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس: 62 - 64] .

    وقال اللهُ سُبحانَه: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [البقرة:257] .

    وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 71] .

    وقال اللهُ تعالى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة: 55، 56].

    قال ابنُ جريرٍ: (يعني تعالى ذِكْرُه بقَولِه: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ليس لكم -أيُّها المُؤمِنونَ- ناصِرٌ إلَّا اللهُ ورَسولُه والمؤمِنونَ، الذين صِفَتُهم ما ذَكَر تعالى ذِكْرُه،
    فأمَّا اليَهودُ والنَّصارى الذين أمَرَكم اللهُ أن تَبَرَّؤوا مِن وَلايتِهم، ونهاكم أن تتَّخِذوا منهم أولياءَ؛ فلَيسُوا لكم أولياءُ ولا نُصَراءُ،
    بل بَعْضُهم أولياءُ بَعضٍ، ولا تتَّخِذوا منهم وَلِيًّا ولا نصيرًا) .

    وقال السَّمعانيُّ: (قَولُه تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10] أي: في التَّوالي والتَّعاضُدِ والتَّراحُمِ، وهو في معنى قَولِه تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة: 71] ) .
    وقال السَّعديُّ: (لَمَّا نهى عن وَلايةِ الكُفَّارِ مِنَ اليَهودِ والنَّصارى وغيرِهم، وذَكَر مآلَ توَلِّيهم أنَّه الخُسرانُ المُبِينُ، أخبَرَ تعالى مَن يَجِبُ ويتعَيَّنُ توَلِّيه، وذكَرَ فائِدةَ ذلك ومَصلَحتَه، فقال: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فوَلايةُ اللهِ تُدرَكُ بالإيمانِ والتَّقوى؛ فكُلُّ من كان مُؤمِنًا تَقيًّا كان لله وَلِيًّا، ومَن كان وَلِيًّا للهِ فهو وَلِيٌّ لرَسولِه، ومن توَلَّى اللهَ ورَسولَه، كان تمامُ ذلك توَلِّي مَن توَلَّاه، وهم المؤمِنونَ الذين قاموا بالإيمانِ ظاهِرًا وباطِنًا، وأخلَصوا للمَعبودِ، بإقامتِهم الصَّلاةَ بشُروطِها وفُروضِها ومُكَمِّلاتِها، وأحسَنوا للخَلْقِ، وبَذَلوا الزَّكاةَ مِن أموالِهم لمُستَحِقِّيها منهم.
    وقَولُه: وَهُمْ رَاكِعُونَ أي: خاضِعونَ لله ذليلونَ؛
    فأداةُ الحَصْرِ في قَولِه: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا تدُلُّ على أنَّه يجِبُ قَصْرُ الوَلايةِ على المذكورينَ، والتبَرِّي مِن وَلايةِ غَيرِهم.
    ثمَّ ذَكَر فائِدةَ هذه الوَلايةِ، فقال: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ أي: فإنَّه مِنَ الحِزبِ المضافِينَ إلى اللهِ إضافةَ عُبوديَّةٍ ووَلايةٍ، وحِزبُه هم الغالِبونَ الذين لهم العاقِبةُ في الدُّنيا والآخِرةِ،
    كما قال تعالى: وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات: 173] ، وهذه بِشارةٌ عَظيمةٌ لِمن قام بأمْرِ اللهِ وصار مِن حِزْبِه وجُندِه؛ أنَّ له الغَلَبةَ، وإنْ أُدِيلَ عليه في بَعضِ الأحيانِ؛ لحِكمةٍ يُريدُها اللهُ تعالى، فآخِرُ أمْرِه الغَلَبةُ والانتِصارُ، ومَن أصدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا؟) .

    : تَعريفُ البَراءِ لُغةً :

    البَراءُ: التَّباعُدُ مِنَ الشَّيءِ ومُزايلتُه وانِقطاعُ العِصمةِ، يُقالُ: بَرِئتُ مِن فلانٍ، أي: انقَطَعَت بيننا العِصمةُ، ولم يَبْقَ بيننا عُلقةٌ، وأصلُ (برأ): يدُلُّ على التَّفصِّي والتَّباعُدُ مِمَّا يُكرَهُ مُجاوَرتُه .

    : تَعريفُ البَراءِ اصطِلاحًا :

    البَراءُ اصطِلاحًا: هو مُوافَقةُ العَبدِ رَبَّه فيما يَسخَطُه ويَكرَهُه مِنَ الأقوالِ والأفعالِ والاعتِقاداتِ والذَّواتِ، ويَلزَمُ مِن ذلك البُعدُ والبُغضُ والعَداوةُ لأعداءِ اللهِ ورُسُلِه والمؤمِنينَ، فمَحَلُّ البَراءِ الأُمورُ المكروهةُ للهِ .

    قال ابنُ عثيمين: (البَراءُ والوَلاءُ لله سُبحانَه: أن يتبَرَّأَ الإنسانُ من كُلِّ ما تبَرَّأَ اللهُ منه،
    كما قال سُبحانَه وتعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا [الممتحنة: 4] وهذا مع القَومِ المُشرِكينَ،

    كما قال سُبحانَه: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التوبة: 3] ، فيَجِبُ على كُلِّ مُؤمِنٍ أن يتبرَّأَ مِن كُلِّ مُشرِكٍ وكافِرٍ، فهذا في الأشخاصِ.
    وكذلك يجِبُ على المسلِمِ أن يتبَرَّأَ مِن كُلِّ عَمَلٍ لا يُرضي اللهَ ورَسولَه وإنْ لم يكُنْ كُفرًا، كالفُسُوقِ والعِصْيانِ،

    كما قال سُبحانَه: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات: 7] ، وإذا كان مُؤمِنٌ عِندَه إيمانٌ، وعِندَه مَعصيةٌ، فنُواليه على إيمانِه، ونَكرَهُه على مَعاصيه) .
    وبحَسَبِ ما تقَدَّمَ ذِكرُه في تَعريفِ الوَلاءِ والبَراءِ يتَّضِحُ أنَّهما يتعَلَّقانِ بأربَعةِ أُمورٍ:
    1- الأقوالُ: فذِكرُ اللهِ مَحبوبٌ له، واللَّعنُ والسَّبُّ مَبغوضٌ له.
    2- الأفعالُ: فالصَّلاةُ والزَّكاةُ والزَّواجُ أمورٌ مَحبوبةٌ للهِ، والرِّبَا والزِّنَا وشُربُ الخَمرِ أفعالٌ يُبغِضُها.
    3- الاعتِقاداتُ: فالإيمانُ والتَّوحيدُ مَحبوبٌ للهِ، والكُفرُ والشِّرْكُ مَبغوضٌ له.
    4- الذَّواتُ: فالمؤمِنُ الموَحِّدُ مَحبوبٌ للهِ، والكافِرُ والمُشرِكُ والمنافِقُ مَبغوضٌ له .

    ثانياًً : أهميَّةُ الوَلاءِ والبَراءِ :

    1- الوَلاءُ والبَراءُ شَرطٌ في الإيمانِ.
    قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة: 51] .
    قال الشِّنقيطيُّ: (قَولُه تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة: 51] ذَكَر في هذه الآيةِ الكريمةِ أنَّ مَن توَلَّى اليهودَ والنَّصارى مِنَ المسلِمينَ، فإنَّه يكونُ منهم بتوَلِّيه إيَّاهم، وبَيَّن في مَوضِعٍ آخَرَ أنَّ تَوَلِّيَهم مُوجِبٌ لسَخَطِ اللهِ، والخُلودِ في عَذابِه، وأنَّ مُتَوَلِّيَهم لو كان مُؤمِنًا ما توَلَّاهم،
    وهو قَولُه تعالى: تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة: 80، 81]،

    ونهى في مَوضِعٍ آخَرَ عن توَلِّيهم مُبَيِّنًا سبَبَ التَّنفيرِ منه، وهو قَولُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ [الممتحنة: 13].
    وبيَّن في مَوضِعٍ آخَرَ: أنَّ مَحَلَّ ذلك فيما إذا لم تكُنِ الموالاةُ بسَبَبِ خَوفٍ وتَقِيَّةٍ، وإن كانت بسَبَبِ ذلك فصاحِبُها معذورٌ، وهو قَولُه تعالى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران: 28] ، فهذه الآيةُ الكريمةُ فيها بَيانٌ لكُلِّ الآياتِ القاضيةِ بمَنْعِ مُوالاةِ الكُفَّارِ مُطلَقًا، وإيضاحٌ لأنَّ مَحَلَّ ذلك في حالةِ الاختيارِ، وأمَّا عِندَ الخَوفِ والتَّقِيَّةِ فيُرَخَّصُ في مُوالاتِهم بقَدْرِ المُداراةِ التي يكتفي بها شَرَّهم، ويُشتَرَطُ في ذلك سَلامةُ الباطِنِ مِن تلك المُوالاةِ:
    ومَن يأتي الأُمورَ على اضطِرارٍ ... فليس كمِثْلِ آتيها اختيارًا
    ويُفهَمُ من ظواهِرِ هذه الآياتِ أنَّ مَن تَوَلَّى الكُفَّارَ عَمدًا اختيارًا؛ رغبةً فيهم: أنَّه كافِرٌ مِثلُهم) .

    وقال اللهُ سُبحانَه: تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة: 83-84] .

    قال ابنُ تَيميَّةَ: (فذَكَر جُملةً شَرطيَّةً تقتضي أنَّه إذا وُجِدَ الشَّرطُ وُجِد المشروطُ، بحَرفِ (لو) التي تَقتَضي مع الشَّرطِ انتِفاءَ المَشروطِ، فقال: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء، فدلَّ على أنَّ الإيمانَ المذكورَ يَنْفي اتِّخاذَهم أولياءَ ويُضادُّه، ولا يجتَمِعُ الإيمانُ واتِّخاذُهم أولياءَ في القَلْبِ، ودَلَّ ذلك على أنَّ مَن اتَّخَذَهم أولياءَ ما فعَلَ الإيمانَ الواجِبَ من الإيمانِ باللهِ والنَّبيِّ وما أُنزِلَ إليه) .
    وعن جَريرِ بنِ عَبدِ اللهِ البَجَليِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: أتيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يُبايِعُ، فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، ابْسُطْ يَدَك حتَّى أبايِعَك، واشتَرِطْ عليَّ؛ فأنت أعلَمُ. قال: ((أبايِعُك على أن تَعبُدَ اللهَ، وتُقيمَ الصَّلاةَ، وتُؤتيَ الزَّكاةَ، وتُناصِحَ المُسلِمينَ، وتُفارِقَ المُشرِكينَ)) .
    وعن بَهزِ بنِ حَكيمٍ عن أبيه عن جَدِّه: قال: قُلتُ: يا نَبيَّ اللهِ، ما أتيتُك حتَّى حَلَفْتُ أكثَرَ مِن عَدَدِهنَّ -لأصابعِ يَدَيه- ألَّا آتيَك، ولا آتيَ دِينَك، وإنِّي كنُت امرءًا لا أعقِلُ شَيئًا إلَّا ما عَلَّمَني اللهُ ورَسولُه، وإنِّي أسألُك بوَجهِ اللهِ عزَّ وجَلَّ: بمَ بَعَثَك رَبُّك إلينا؟ قال: ((بالإسلامِ))، قال: قُلتُ: وما آياتُ الإسلامِ؟ قال: ((أن تقولَ: أسلَمْتُ وَجْهِيَ إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ وتخَلَّيتُ، وتُقيمَ الصَّلاةَ، وتُؤتيَ الزَّكاةَ، كُلُّ مُسلِمٍ على مُسلِمٍ مُحَرَّمٌ، أخوانِ نَصيرانِ، لا يَقبَلُ اللهُ عزَّ وجَلَّ مِن مُشرِكٍ بَعْدَما أسلَمَ عَمَلًا أو يُفارِقَ المُشركِينَ إلى المُسلِمينَ )) .

    قال ابنُ باز: (مَحَبَّةُ الكُفَّارِ وإعانتُهم على باطِلِهم، واتِّخاذُهم أصحابًا وأخْدانًا، ونَحوُ ذلك:
    مِن كبائِرِ الذُّنوبِ، ومِن وَسائِلِ الكُفرِ باللهِ؛ فإنْ نَصَرَهم على المُسلِمينَ وساعَدَهم ضِدَّ المُسلِمينَ، فهذا هو التوَلِّي، وهو من أنواِع الرِّدَّةِ عن الإسلامِ؛ لقَولِ اللهِ سُبحانَه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة: 51] ) .

    وقال ابنُ عُثَيمين: (مُوالاةُ الكُفَّارِ تكونُ بمُناصَرتِهم وُمعاونَتِهم على ما هم عليه مِن الكُفرِ والضَّلالِ، ومُوادَّتُهم تكونُ بفِعلِ الأسبابِ التي تكونُ بها موَدَّتُهم، فتَجِدُه يُوادُّهم -أي: يَطلُبُ وُدَّهم بكُلِّ طَريقٍ-، وهذا لا شَكَّ يُنافي الإيمانَ كُلَّه أو كَمالَه؛ فالواجِبُ على المؤمِنِ مُعاداةُ مَن حادَّ اللهَ ورَسولَه ولو كان أقرَبَ قَريبٍ إليه، وبُغْضُه والبُعدُ عنه، ولكِنْ هذا لا يَمنَعُ نَصيحتَه، ودَعوتَه للحَقِّ) .
    2- أنَّها سَبَبٌ لذَوقِ القَلبِ حَلاوةَ الإيمانِ ولَذَّةَ اليَقينِ.

    عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ثَلَاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَدَ حَلاوَةَ الإيمَانِ: أنْ يَكونَ اللَّهُ ورَسولُهُ أحَبَّ إليه ممَّا سِوَاهما، وأنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّه إلَّا لِلَّهِ، وأَنْ يَكْرَهَ أنْ يَعُودَ في الكُفْرِ كما يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ في النَّارِ )) .
    قال ابنُ عثيمين: (أعمالُ القَلْبِ الأربعةُ التي لا تُنالُ وَلايةُ اللهِ إلَّا بها، ولا يَجِدُ أحَدٌ طَعمَ الإيمانِ إلَّا بها، وهي: الحُبُّ في اللهِ، والبُغضُ في اللهِ، والوَلاءُ في اللهِ، والعَداءُ في اللهِ- لا تُنالُ وَلايةُ اللهِ إلَّا بها، فلو صَلَّى الإنسانُ وصام ووالى أعداءَ اللهِ؛ فإنَّه لا يَنالُه وَلايةُ اللهِ) .

    3- عَقيدةُ الوَلاءِ والبَراءِ جُزءٌ مِن معنى الشَّهادةِ الواجِبةِ للدُّخولِ في الإسلامِ.

    قال اللهُ تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: 26 - 28] .
    فالنَّفيُ الموجودُ في شَهادةِ: (لا إلهَ إلَّا اللهُ) يقتضي البَراءةَ مِن كُلِّ ما يُعبَدُ مِن دُونِ اللهِ.

    قال ابنُ كثيرٍ: (يقولُ تعالى مخبِرًا عن عَبدِه ورَسولِه وخَليلِه إمامِ الحُنَفاءِ، ووالِدِ مَن بُعِثَ بَعْدَه من الأنبياءِ، الذي تنتَسِبُ إليه قُرَيشٌ في نَسَبِها ومَذهَبِها: أنَّه تبَرَّأَ مِن أبيه وقَومِه في عِبادتِهم الأوثانَ،
    فقال: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ أي: هذه الكَلِمةَ، وهي عِبادةُ اللهِ تعالى وَحْدَه لا شَريكَ له، وخَلْعُ ما سِواه مِن الأوثانِ، وهي لا إلهَ إلَّا اللهُ، أي: جعَلَها دائِمةً في ذُرِّيَّتِه يَقتَدي به فيها مَن هداه اللهُ مِن ذُرِّيَّةِ إبراهيمَ، عليه السَّلامُ؛ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي: إليها) .

    وقال السَّعديُّ: (يخبِرُ تعالى عن مِلَّةِ إبراهيمَ الخَليلِ عليه السَّلامُ، الذي ينتَسِبُ إليه أهلُ الكِتابِ والمُشرِكونَ، وكُلُّهم يَزعُمُ أنَّه على طريقتِه، فأخبَرَ عن دينِه الذي وَرَّثَه في ذُرِّيَّتِه، فقال: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ الذين اتَّخَذوا من دونِ اللهِ آلِهةً يَعبُدونَهم ويتَقَّربونَ إليهم: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ أي: مُبغِضٌ له، مجتَنِبٌ مُعادٍ لأهلِه إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فإنِّي أتوَلَّاه، وأرجو أن يَهدِيَني للعِلمِ بالحَقِّ والعَمَلِ به، فكما فطَرَني ودبَّرَني بما يُصلِحُ بَدَني ودُنياي،
    فـ سَيَهْدِينِ لِما يُصلِحُ دِيني وآخِرَتي. وَجَعَلَهَا أي: هذه الخَصلةَ الحَميدةَ، التي هي أُمُّ الِخصالِ وأساسُها، وهي إخلاصُ العِبادةِ للهِ وَحْدَه، والتبَرِّي من عِبادةِ ما سِواه. كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ أي: ذُرِّيَّتِه. لَعَلَّهُمْ إليها يَرْجِعُونَ؛ لشُهرتِها عنه، وتوصِيَتِه لذُرِّيَّتِه، وتوصيةِ بَعضِ بَنِيه؛ إسحاقَ ويَعقوبَ، لبَعضٍ،
    كما قال تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة: 130] إلى آخِرِ الآياتِ؛ فلم تَزَلْ هذه الكَلِمةُ مَوجودةً في ذُرِّيَّتِه عليه السَّلامُ حتَّى دخَلَهم التَّرَفُ والطُّغيانُ) .

    وهكذا كان نبيُّنَا محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يدعُو النَّاسَ إلى التَّوحيدِ، والبراءةِ مِنَ الشِّركِ وأهلِه، وبهذا يتَحقَّقُ إسلامُ العَبدِ.
    قال ابنُ بطَّةَ: (فدعا أي: محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم النَّاسَ إلى الإقرارِ بتوحيدِ اللهِ ومَعرفتِه، والبراءةِ من الأضدادِ والأندادِ) .
    وقال عبدُ اللَّطيفِ بنُ عبدِ الرَّحمنِ آل الشَّيخِ: (إنَّ الكُفرَ بالطَّاغوتِ وما عُبِدَ من دونِ اللهِ شَرطٌ في تحريمِ الدَّمِ والمالِ، وأنَّه لا عِصمةَ بمجَرَّدِ القَولِ والمعرفةِ، ولا بمجَرَّدِ تَرْكِ عبادةِ ما عُبِد من دونِ اللهِ، بل لا بدَّ من الكُفرِ بما عُبِد من دونِ اللهِ، والكُفرُ فيه بُغضُه وتَرْكُه وردُّه، والبراءةُ منه ومعرفةُ بطلانِه، وهذا لا بُدَّ منه في الإسلامِ؛
    قال تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ [البقرة: 256] ، فجمع بين الإيمانِ باللهِ والكُفرِ بالطَّاغوتِ في هذه الآيةِ، ولها نظائِرُ في كتابِ اللهِ،
    كقَولِه تعالى عن إبراهيمَ: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف: 26، 27]؛ فدَلَّت هذه الآيةُ وما قَبْلَها على أنَّ الكُفرَ بالطَّاغوتِ شَرطٌ لا يحصُلُ الإسلامُ بدُونهِ) .

    ثالثاً : عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في الوَلاءِ والبَراءِ :

    الوَلاءُ والبَراءُ مَبنيَّانِ على قاعِدةِ الحُبِّ والبُغضِ، وبناءً على ذلك يمكِنُ تقسيمُ النَّاسِ في هذا الجانِبِ إلى ثلاثةِ أصنافٍ:
    الأوَّلُ: مَن يُحَبُّ جُملةً، وهو مَن آمَنَ باللهِ ورَسولِه، وقام بشَرائعِ الإسلامِ عِلمًا وعَمَلًا واعتِقادًا، فأخلَصَ أعمالَه وأفعالَه وأقوالَه للهِ، وانقاد لأوامِرِه، واجتَنَب نواهِيَه.
    الثَّاني: مَن يُحَبُّ مِن وَجهٍ، ويُبغَضُ مِن وَجهٍ، وهو المسلِمُ الذي خَلَط عَمَلًا صالِحًا وآخَرَ سَيِّئًا، فيُحَبُّ بقَدرِ ما معه مِن خَيرٍ، ويُبغَضُ بقَدرِ ما معه من شَرٍّ.
    قال اللهُ تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات: 9-10] .
    فجعَلَهم إِخوةً رَغْمَ وُجودِ الاقتِتالِ وحُصولِ البَغْيِ مِن بَعْضِهم.
    قال ابنُ تَيميَّةَ: (كان السَّلَفُ مع الاقتِتالِ يُوالي بَعضُهم بَعْضًا مُوالاةَ الدِّينِ، لا يُعادُونَ كمُعاداةِ الكُفَّارِ؛ فيَقبَلُ بَعضُهم بشهادةِ بَعضٍ، ويأخُذُ بَعضُهم العِلمَ عن بَعضٍ، ويتوارَثونَ ويَتناكَحونَ، ويَتعامَلونَ بمُعاملةِ المُسلِمينَ بَعضِهم مع بَعضٍ مع ما كان بيْنهم مِنَ القِتالِ والتَّلاعُنِ وغَيرِ ذلك) .
    وعن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَجُلًا علَى عَهْدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ، وكانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وكانَ يُضْحِكُ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قدْ جَلَدَه في الشَّرَابِ، فَأُتِيَ به يَوْمًا فأمَرَ به فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: اللَّهُمَّ العَنْه، ما أكْثَرَ ما يُؤْتَى بهِ؟! فَقَالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (( لا تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ -ما عَلِمْتُ- إنَّه يُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَهُ )) .

    قال ابن تيمية: (إذا اجتمَعَ في الرَّجُلِ الواحِدِ خَيرٌ وشَرٌّ وفُجورٌ، وطاعةٌ ومَعصيةٌ، وسُنَّةٌ وبِدعةٌ- استحَقَّ مِن الموالاةِ والثَّوابِ بقَدْرِ ما فيه مِنَ الخَيرِ، واستحَقَّ مِن المعاداةِ والعِقابِ بحَسَبِ ما فيه مِنَ الشَّرِّ، فيَجتَمِعُ في الشَّخصِ الواحِدِ مُوجِباتُ الإكرامِ والإهانةِ، فيَجتَمِعُ له من هذا وهذا، كاللِّصِّ الفقيرِ تُقطَعُ يَدُه لسَرِقَتِه، ويُعْطى مِن بَيتِ المالِ ما يَكْفيه لحاجتِه، هذا هو الأصلُ الذي اتَّفَق عليه أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ، وخالَفَهم الخوارِجُ والمُعتَزِلةُ، ومن وافَقَهم عليه) .

    وقال ابنُ باز: (الحُبُّ في اللهِ: أن تُحِبَّ مِن أجْلِ اللهِ جَلَّ وعلا؛ لأنَّك رأيتَه ذا تقوى وإيمانٍ، فتُحِبُّه في اللهِ، وتُبغِضُه في اللهِ؛ لأنَّك رأيتَه كافِرًا عاصِيًا للهِ، فتُبغِضُه في اللهِ، أو عاصِيًا وإن كان مُسلِمًا فتُبغِضُه بقَدْرِ ما عِندَه مِن المعاصي، هكذا المؤمِنُ يتَّسِعُ قَلْبُه لهذا أو هذا؛ يحِبُّ في اللهِ أهلَ الإيمانِ والتَّقوى، ويُبغِضُ في اللهِ أهلَ الكُفرِ والشُّرورِ والمعاصي،
    ويكونُ قَلْبُه مُتَّسِعًا لهذا وهذا، وإذا كان الرَّجُلُ فيه خيرٌ وشَرٌّ، كالمسلِمِ العاصي، أحَبَّه مِن أجْلِ إسلامِه، وأبغَضَه مِن أجْلِ ما عِندَه مِن المعاصي، ويكونُ فيه الأمرانِ، الشُّعْبتانِ: شُعبةُ الحُبِّ، والبُغضِ. أهلُ الإيمانِ والاستقِامةِ يُحِبُّهم حُبًّا كامِلًا، وأهلُ الكُفرِ يُبغِضُهم بُغضًا كامِلًا، وصاحِبُ الشَّائِبَتينِ؛ صاحِبُ المعاصي، يُحِبُّه على قَدْرِ ما عِندَه مِنَ الإيمانِ والإسلامِ، ويُبغِضُه على قَدْرِ ما عِندَه مِن المعاصي والمخالَفاتِ) .
    الثَّالِثُ: مَن يُبغَضُ جُملةً، وهو مَن كَفَر باللهِ ومَلائِكتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليَومِ الآخِرِ، ولم يُؤمِنْ بالقَدَرِ؛ خَيرِه وشَرِّه، أو أشرَكَ باللهِ في عِبادتِه أحَدًا مِن الأنبياءِ والأولِياءِ والصَّالحينَ، وصَرَفَ لهم نوعًا من أنواعِ العِبادةِ، كالحُبِّ والدُّعاءِ، والخَوفِ والرَّجاءِ، والتَّعظيمِ والتوَكُّلِ، والاستِعانةِ والاستِعاذةِ والاستِغاثةِ، والذَّبحِ والنَّذرِ، والذُّلِّ والخُضوعِ، والخَشْيةِ والرَّغبةِ والرَّهبةِ، أو ألحَدَ في أسمائِه وصفاتِه، واتَّبَع غَيرَ سَبيلِ المؤمِنينَ، وانتَحَل ما كان عليه أهلُ البِدَعِ والأهواءِ المضِلَّةِ، وكذلك كُلُّ من قامت به نواقِضُ الإسلامِ، فأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ يتبَرَّؤونَ مِمَّن حادَّ اللهَ ورَسولَه، ولو كان أقرَبَ قَريبٍ.

    قال اللهُ تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة: 22] .

    ويمتَثِلونَ لنَهيِ اللهِ في قَولِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 23-24] .
    ومُوالاةُ هذا الصِّنفِ الثَّاِلِث تتَّخِذُ صُوَرًا ومَراتِبَ مُختَلِفةً، فالحُكمُ فيها ليس حُكمًا واحِدًا؛ فإنَّ مِن صُوَرِ الموالاةِ ما يُوجِبُ نَقْضَ الإيمانِ بالكُلِّيَّةِ، ومنها ما هو دونَ ذلك، فيَكونُ مِن الكَبائِرِ والمحَرَّماتِ.
    وهذه الموالاةُ التي تُناقِضُ الإيمانَ قد تكونُ اعتِقادًا فحَسْبُ، وقد تَظهَرُ في أقوالٍ وأعمالٍ .

    قال الشِّنقيطيُّ: (يَقولُ اللهُ جَلَّ وعلا: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال: 73] ، هذه الآيةُ الكريمةُ مِن الآياتِ العِظامِ التي يُعتبَرُ بها؛ لأنَّ ما ذكَرَه اللهُ جَلَّ وعلا فيها وما حَذَّرَ منه مِنَ الفِتنةِ والفَسادِ الكَبيرِ إنْ لم يُوالِ المُسلِمونَ بَعضُهم بعضًا، ويَقْطعوا مُوالاةُ الكُفَّارِ، ويَترُكوا الكُفَّارَ بَعضُهم يُوالي بَعضًا؛ ما حَذَّرَ به مِن أنَّهم إن لم يُحاِفظوا على صِدقِ المُوالاةِ بيْنهم، ومُقاطعةِ أعدائِهم، تَقَعْ في الأرضِ الفِتنةُ والفَسادُ الكبيرُ، فهو واقِعٌ مُنتَشِرٌ الآنَ: يَدُلُّ على عِظَمِ هذا القُرآنِ العَظيمِ، وأنَّه كلامُ رَبِّ العالَمينَ، وأنَّ تحذيرَه حَقٌّ، وتَرغيبَه حَقٌّ) .
    قال اللهُ تعالى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران: 28] .
    قال ابنُ جريرٍ: (معنى ذلك: لا تتَّخِذوا -أيُّها المؤمِنونَ- الكُفَّارَ ظَهرًا وأنصارًا، توالونَهم على دِينِهم، وتُظاهِرونَهم على المسلِمينَ مِن دونِ المؤمِنينَ، وتَدُلُّونَهم على عَوْراتِهم؛ فإنَّه مَن يَفعَلْ ذلك فليس مِنَ اللهِ في شَيءٍ، يعني بذلك: فقد بَرِئَ مِنَ اللهِ، وبَرِئَ اللهُ منه بارتدادِه عن دينِه، ودُخولِه في الكُفرِ، إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً إلَّا أن تكونوا في سُلطانِهم، فتَخافوهم على أنفُسِكم، فتُظهِروا لهم الوَلايةَ بألسِنَتِكم، وتُضمِروا لهم العَداوةَ، ولا تُشايعوهم على ما هم عليه مِنَ الكُفرِ، ولا تُعينوهم على مُسلِمٍ بفِعلٍ) .
    وقال اللهُ سُبحانَه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ [آل عمران:149] .

    قال سُلَيمانُ بنُ عَبدِ اللهِ آل الشَّيخِ: (أخبَرَ تعالى أنَّ المؤمِنينَ إن أطاعوا الكُفَّارَ فلا بُدَّ أن يَرُدُّوهم على أعقابِهم عن الإسلامِ؛ فإنَّهم لا يَقنَعونَ منهم بدونِ الكُفرِ، وأخبَرَ أنَّهم إن فعلوا ذلك صاروا من الخاسِرينَ في الدُّنيا والآخِرةِ، ولم يُرَخِّصْ في موافقتِهم وطاعتِهم خَوفًا منهم، وهذا هو الواقِعُ؛ فإنَّهم لا يَقتَنِعونَ مِمَّن وافَقَهم إلَّا بشَهادةِ أنَّهم على حَقٍّ، وإظهارِ العَداوةِ والبَغضاءِ للمُسلِمينَ) .
    وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام: 121] .

    قال الشِّنقيطيُّ: (حذْفُ الفاءِ مِن قَولِه: إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ يَدُلُّ على قَسَمٍ محذوفٍ... فهو قَسَمٌ مِنَ اللهِ جَلَّ وعلا أقسَمَ به على أنَّ مَن اتَّبَع الشَّيطانَ في تحليلِ المَيتةِ أنَّه مُشرِكٌ، وهذا الشِّرْكُ مُخرِجٌ عن المِلَّةِ بإجماعِ المسلِمينَ) .

    وقال اللهُ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ [محمد:25، 26].

    قال ابنُ حزم: (جعَلَهم تعالى مُرتَدِّينَ كُفرًا بعد عِلْمِهم الْحَقَّ، وَبعد أن تبَيَّنَ لهم الهُدى، بقَولِهم للكُفَّارِ ما قَالوا فقط) .
    ويَدخُلُ في مُعتَقَدِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: البَراءةُ مِن أربابِ البِدَعِ والأهواءِ.
    وصاحِبُ البِدعةِ المكَفِّرةِ المُخرِجةِ عن مِلَّةِ الإسلامِ: له مِنَ العَداءِ والبُغضِ بمِثلِ ما للكافِرِ الأصليِّ.

    قال اللهُ تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء: 140].
    وقال اللهُ سُبحانَه: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف: 180] .
    وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 68] .
    وقال اللهُ تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام: 159] .

    وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: تلا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هذه الآيةَ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [آل عمران: 7] قالت: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا رأيتُم الذين يتَّبِعونَ ما تَشابَهَ منه، فأولئك الذين سَمَّى اللهُ؛ فاحْذَروهم)) .

    وعن عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: (لا تجالِسْ أهلَ الأهواءِ؛ فإنَّ مجالَستهَم مُمرِضةٌ للقُلوبِ) .
    وعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما لَمَّا أخبَرَه يَحيى بنُ يَعمَرَ عن القَدَريَّةِ قال: (فإذا لَقِيتَ أولئك فأخبِرْهم أنِّي بَريءٌ منهم، وأنَّهم بُرَآءُ مِنِّي) .
    وعن الحَسَنِ وابنِ سِيرينَ قالا: (لا تُجالِسوا أهلَ الأهواءِ، ولا تُجادِلوهم، ولا تَسمَعوا منهم) .

    وقال الشَّافعيُّ: (حُكْمي في أهلِ الكَلامِ أن يُضْرَبوا بالجَريدِ، ويُحمَلوا على الإبِلِ، ويُطافَ بهم في العَشائِرِ والقبائِلِ، ويُنادى عليهم: هذا جزاءُ مَن تَرَك الكِتابَ والسُّنَّةَ، وأقبَلَ على عِلمِ الكَلامِ) .

    وقال أبو عُثمانَ الصَّابونيُّ حاكيًا مَذهَبَ السَّلَفِ: (اتَّفَقوا مع ذلك على القَولِ بقَهرِ أهلِ البِدَعِ، وإذلالِهم وإخزاِئهم، وإبعادِهم وإقصائِهم، والتَّباعُدِ منهم، ومِن مُصاحبِتهم ومُعاشَرتِهم، والتقَرُّبِ إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ بمُجانبتِهم ومُهاجَرتِهم) .
    وقال البَغَويُّ: (قد مَضَت الصَّحابةُ والتَّابِعونَ وأتباعُهم وعُلَماءُ السُّنَّةِ على هذا، مجمِعينَ مُتَّفِقينَ على مُعاداةِ أهلِ البِدعةِ، ومُهاجَرتِهم) .
    وقال ابنُ قُدامةَ: (من السُّنَّةِ: هِجرانُ أهلِ البِدَعِ ومُباينَتُهم، وتَرْكُ الجِدالِ والخُصوماتِ في الدِّينِ، وتَرْكُ النَّظَرِ في كُتُبِ المبتَدِعةِ والإصغاءِ إلى كلامِهم، وكُلُّ مُحدَثةٍ في الدِّينِ بِدعةٌ، وكُلُّ مُتَسَمٍّ بغيرِ الإسلام ِوالسُّنَّةِ مبتَدِعٌ، كالرَّافِضةِ والجَهْميَّةِ، والخوارِجِ والقَدَريَّةِ، والمُرْجِئةِ والمعتَزِلةِ، والكَرَّامِيَّةِ والكُلَّابِيَّةِ، ونَظائِرِهم، فهذه فِرَقُ الضَّلالِ، وطوائِفُ البِدَعِ. أعاذنا اللهُ منها) .
    وفي حَديثِ كَعبِ بنِ مالِكٍ رَضِي اللهُ عنه في قِصَّةِ الثَّلاثةِ الذين خُلِّفوا في غزوةِ تَبوكَ، فهَجَرهم المسلِمونَ بأمرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم،
    قال النَّوويُّ في ذِكرِ ما فيه مِن فَوائِدَ: (استِحبابُ هِجرانِ أهلِ البِدَعِ والمعاصي الظَّاهِرةِ، وتَرْكِ السَّلامِ عليهم، ومُقاطَعتِهم؛ تَحقيرًا لهم وزَجْرًا) .
    -------------------------------------------------------------------------------
    التالي : -
    رابعاً : : التشَبُّهُ بالكُفَّارِ :

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5204
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    الوَلاء والبَراءُ :: تَعريفُ الوَلاءِ والبَراءِ :: عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في الوَلاءِ والبَراءِ ::  Empty : التشَبُّهُ بالكُفَّارِ

    مُساهمة من طرف صادق النور الثلاثاء ديسمبر 19, 2023 8:09 am

    يتبع ما قبله :-

    رابعاً : : التشَبُّهُ بالكُفَّارِ :

    حَرَص الإسلامُ على تميُّزِ المسلِمينَ عن غَيرِهم حتَّى في المظهَرِ العامِّ، سواءٌ على مستوى الفَردِ أو المجتَمَعِ ككُلٍّ، فحَفَل الكِتابُ والسُّنَّةُ بأدِلَّةٍ كثيرةٍ حَولَ مَسألةِ النَّهيِ عن التشَبُّهِ بالكُفَّارِ ومُسايَرتِهم، فهذا التشَبُّهُ الظَّاهِريُّ له أثَرُه الذي قد يمتَدُّ إلى مُوافَقتِهم فيما هو أشَدُّ مِن اعتِقاداتٍ وتَشريعاتٍ ونحوِ ذلك.
    قال اللهُ تعالى: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يونس: 104، 105].

    قال الغزِّيُّ: (هذه الآيةُ أصلٌ عَظيمٌ في الأمرِ بالتشَبُّهِ بالمؤمِنينَ، والنَّهيِ عن التشَبُّهِ بالمُشرِكينَ، والشِّرْكُ المتَّصِفونَ به شامِلٌ للشِّركِ الأكبَرِ، والشِّرْكِ الأصغَرِ الشَّامِلِ لسائِرِ المعاصي) .
    وقال أيضًا: (التشَبُّهُ عِبارةٌ عن مُحاوَلةِ الإنسانِ أن يكونَ شَبَهَ المتشَبَّهِ به، وعلى هَيئتِه وحِلْيَتِه، ونَعْتِه وصِفَتِه، أو هو عِبارةٌ عن تكَلُّفِ ذلك وتقَصُّدِه وتعَمُّلِه) .
    وقال ابنُ تَيميَّةَ: (المشارَكةُ في الهَدْيِ الظَّاهِرِ تُورِثُ تناسُبًا وتَشاكُلًا بيْن المتشابهِينَ، يقودُ إلى موافَقةِ ما في الأخلاقِ والأعمالِ، وهذا أمرٌ مَحسوسٌ... المشابَهةُ في الظَّاهِرِ تُورِثُ نَوعَ مَودَّةٍ ومَحَبَّةٍ ومُوالاةٍ في الباطِنِ، كما أنَّ المَحَبَّةَ في الباطِنِ تُورِثُ المُشابَهةَ في الظَّاهِرِ، وهذا أمرٌ يَشهَدُ به الحِسُّ والتَّجرِبةُ) .

    قال محمَّدُ بنُ إبراهيمَ آل الشيخ: (اعلَمْ أنَّ التشَبُّهَ بالكُفَّارِ يكونُ بمُجَرَّدِ عَمَلِ ما يَعمَلونَ، قَصَدَ المشابهةَ أوْ لا.
    قال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ ابنُ تَيميَّةَ رحمه اللهُ: وقد نهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الصَّلاةِ عِندَ طُلوعِ الشَّمسِ وعِندَ غُروبِها مُعَلِّلًا ذلك النَّهيَ بأنَّها تَطلُعُ وتَغرُبُ بيْن قَرْنَيْ شَيطانٍ، وحينَئذٍ يَسجُدُ لها الكُفَّارُ.
    ومعلومٌ أنَّ المؤمِنَ لا يَقصِدُ السُّجودَ إلَّا للهِ، وأكثَرُ النَّاسِ قد لا يَعلَمونَ أنَّ طُلوعَها وغُروبَها بَيْنَ قَرْنَي شَيطانٍ، ولا أنَّ الكُفَّارَ يَسجُدونَ لها، ثمَّ إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى عن الصَّلاةِ في ذلك؛ حَسْمًا لمادَّةِ المُشابَهةِ مِن كُلِّ طَريقٍ) .

    وقال ابنُ باز: (الواجِبُ على المؤمِنينَ والمُسلِمينَ أن يَبتَعِدوا عن التشَبُّهِ بأعداءِ اللهِ في جميعِ الأُمورِ، وأن يَستَقِلُّوا بأنفُسِهم في جميعِ أُمورِهم؛ حتَّى يتمَيَّزوا عن عَدُوِّهم، وحتَّى يُعرَفوا أينما كانوا بزِيِّهم وطرائِقِهم وعاداتِهم الإسلاميَّةِ، وأعمالِهم الإسلاميَّةِ.
    لكِنْ لو وُجِدَ شَيءٌ مُشتَرَكٌ، فعَلَه المسلِمونَ والكافِرونَ، فلا يُسَمَّى هذا تشَبُّهًا... فالأمورُ التي للمسلِمينَ فيها نَفعٌ يجوزُ لهم أن يأخُذوها مِن عَدُوِّهم، ولا يُسَمَّى تشَبُّهًا؛ لِما فيه من الإعدادِ والنَّفعِ العامِّ للمُسلِمينَ، وهكذا الأشياءُ التي اشتَرَك فيها المُسلِمونَ، وصارت من عادةِ الجَميعِ لا يكونُ فيها تشَبُّهٌ، وإنَّما التَّشَبُّهُ يكونُ فيما اختَصُّوا به، وصار من زِيِّهم الخاصِّ، المقصودُ أنَّ الأشياءَ التي فيها نَفعٌ لنا، ولا يختَصُّ فيها المُشرِكونَ، أمَّا ما كان خاصًّا بالمُشرِكينَ، ليس لنا فيه نَفعٌ، لا نتزَيَّنُ به،
    لكِنَّ الذي فيه نَفعٌ نأخُذُه منهم، ونحتَجُّ بقَولِه تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّة [الأنفال: 60]، والله سُبحانَه يَقولُ: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف: 32] ، والحَذَر مِن أُمورِ الدِّينِ التي هي من زِيِّهم وأخلاقِهم، وليست من دِينِنا، وإذا كان مِن دِينِنا نَستَعمِلُه، ولو تشَبَّهوا بنا فيه، ولو شارَكونا،
    كما لو أجمَعوا على إرخاءِ اللِّحَى، نُرخِيها نحن، ولو أَرْخَوها، لا نخالِفُهم في ذلك، بل نُرْخِيها؛ لأنَّنا مأمورونَ بإرخائِها، وهكذا لو بَنَوا المساجِدَ، وصَلَّوا في المساجِدِ، لا نَهدِمُ مَساجِدَنا، ما كان مِن دينِنا نَلزَمُه ولو شاركونا فيه، وكذلك الأنظِمةُ التي تنفَعُنا نأخُذُ بها، كنِظامِ المرورِ والشُّرطةِ، ونظامِ كذا وكذا، الذي ينفَعُ الأُمَّةَ) .
    وقال ابنُ عثيمين: (التَّشَبُّهُ أن يأتيَ الإنسانُ بما هو من خَصائِصِهم بحيثُ لا يشارِكُهم فيه أحَدٌ، كلِباسٍ لا يَلبَسُه إلَّا الكُفَّارُ، فإن كان اللِّباسُ شائِعًا بيْن الكُفَّارِ والمُسلِمينَ فليس تشَبُّهًا، لكِنْ إذا كان لباسًا خاصًّا بالكُفَّارِ، سواءٌ كان يَرمُزُ إلى شَيءٍ دِينيٍّ، كلِباسِ الرُّهبانِ، أو إلى شَيءٍ عاديٍّ لكِنْ مَن رآه قال: هذا كافِرٌ بناءً على لباسِه، فهذا حرامٌ) .
    وهناك عددٌ مِن الأدِلَّةِ التي يمكِنُ الاستِدلالُ بها على النَّهيِ عن التَّشَبُّهِ بالكُفَّارِ.

    فمِنَ القُرآنِ:
    1- قَولُ اللهِ تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [الجاثية: 18-19] .
    2- قَولُ اللهِ سُبحانَه: وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ [المائدة: 49] .

    ومِنَ السُّنَّةِ:
    1- ما جاء عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن كانَ قَبْلَكم، شِبْرًا شِبْرًا وذِراعًا بذِراعٍ، حتَّى لو دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُموهم))، قُلْنا: يا رَسولَ اللَّهِ، اليَهُودُ والنَّصارَى؟ قال: ((فمَن؟)) .

    2- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى تَأخُذَ أُمَّتي بأَخْذِ القُرُونِ قَبْلَها، شِبْرًا بشِبْرٍ وذِراعًا بذِراعٍ))، فقِيلَ: يا رَسولَ اللَّهِ، كَفارِسَ والرُّومِ؟ فقالَ: (( ومَنِ النَّاسُ إلَّا أُولَئِكَ؟ )) .

    قال المناويُّ: (أي: لتتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن قَبلَكم اتِّباعًا شِبرًا مُتلَبِّسًا بشِبرٍ، وذِراعًا متلَبِّسًا بذراعٍ، وهو كنايةٌ عن شِدَّةِ الموافَقةِ لهم في المخالَفاتِ والمعاصي لا الكُفْرِ، ثمَّ إنَّ هذا لَفظٌ خَبَرٌ مَعناه النَّهيُ عن اتِّباعِهم، ومَنْعُهم من الالتِفاتِ لغيرِ دِينِ الإسلامِ؛ لأنَّ نُورَه قد بَهَر الأنوارَ، وشِرعَتَه نسَخَت الشَّرائِعَ، وذا مِن مُعجِزاتِه، فقد اتَّبَع كثيرٌ مِن أمَّتِه سَنَنَ فارِسَ في شِيَمِهم ومَراكِبِهم ومَلابِسِهم، وإقامةِ شِعارِهم في الحُروبِ وغَيرِها، وأهلِ الكِتابَينِ في زَخْرفةِ المساجِدِ، وتعظيمِ القُبورِ، حتَّى كاد أن يَعبُدَها العوامُّ، وقَبولِ الرِّشَا، وإقامةِ الحُدودِ على الضُّعَفاءِ دونَ الأقوياءِ، وتَرْكِ العَمَلِ يومَ الجُمُعةِ، والتَّسليمِ بالأصابِعِ... إلى غيرِ ذلك ممَّا هو أشنَعُ وأبشَعُ) .
    3- عن أبي واقِدٍ اللَّيثيِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّهم خَرَجوا عن مكَّةَ مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى حُنَينٍ، وكان للكُفَّارِ سِدرةٌ يَعكُفونَ عِندَها، ويُعَلِّقونَ بها أسلِحَتَهم، يُقالُ لها: ذاتُ أنواطٍ، فمَرَرْنا بسِدرةٍ خَضْراءَ عظيمةٍ، فقُلْنا: يا رَسولَ اللهِ، اجعَلْ لنا ذاتَ أنواطٍ كما لهم ذاتُ أنواطٍ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((قُلْتُم -والذي نفسي بيَدِه- كما قال قَومُ موسى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف: 138] ، إنَّها السُّنَنُ، لتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَن كان قَبْلَكم سُنَّةً سُنَّةً)) .

    قال نَجمُ الدِّينِ الغزِّيُّ ذاكِرًا أخلاقَ الجاهليَّةِ: (منها: تعظيمُ شَجَرةٍ مخصوصةٍ، أو بُقعةٍ مَخصوصةٍ، أو حَجَرٍ مَخصوصٍ لم يعظِّمْه الشَّرعُ الشَّريفُ. وهذا يتَّفِقُ لعوامِّ المُسلِمينَ في سائرِ البِلادِ، فرُبَّما تَبَرَّكوا بشَجَرةٍ فعلَّقوا عليها خِرَقًا من أثوابِهم، وربَّما طافوا بها وتمَسَّحوا، وربَّما عَظَّموا بعضَ القُبورِ والمَشاهِدِ، وعَكَفوا عليها في بَعضِ الأيَّامِ واللَّيالي، ورُبَّما تمَسَّحوا بالسُّتورِ المعَلَّقةِ عليها) .
    والأحاديثُ الوارِدةُ في الإخبارِ عن اتِّباعِ كثيرٍ مِنَ الأمَّةِ سُنَنَ الأُمَمِ الماضيةِ خرَجَتَ مخرجَ الخَبَرِ عن وقوعِ ذلك، وذَمًّا لمُشابَهةِ اليَهودِ والنَّصارى، وفارِسَ والرُّومِ، وذلك قد ورد مُفَصَّلًا في عدَدٍ مِن الأبوابِ الاعتِقاديَّةِ والعَمَليَّةِ.
    ومن ذلك الرَّهبانيَّةُ التي ابتَدَعَها النَّصارى:
    قال اللهُ تعالى: ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد: 27] .
    قال علي القاري في شَرحِ هذا الحَديثِ: ( ... (ورهبانيَّةً): نُصِبَ بفِعلٍ يُفَسِّرُه ما بَعْدَه، أي: ابتَدَعوا رهبانيَّةً (ابتَدَعوها) يُقالُ: ابتَدَع: إذا أتى بشَيءٍ بَديعٍ، أي: جديدٍ لم يفعَلْه قَبْلَه أحدٌ، (ما كتَبْناها) أي: ما فرَضْنا تلك الرَّهبانيَّةَ (عليهم): مِن تَرْكِ التلَذُّذِ بالأطعِمةِ، وتَرْكِ التزَوُّجِ، والاعتزالِ عن النَّاسِ، والتوطُّنِ في رُؤوسِ الجِبالِ، والمواضِعِ البَعيدةِ عن العُمرانِ...
    قال تعالى: فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [الحديد: 27] أي: لم يَرْعَوا الرَّهبانيَّةَ حَقَّ رِعايتِها، وضَيَّعوا وكَفَروا بدينِ عيسى... ودَخَلوا في دينِ مُلوكِهم، وتركُوا الترَهُّبَ، وأقام منهم أناسٌ على دينِ عيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، حتَّى أدركوا محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فآمَنوا به، فذلك قَولُه عزَّ وجَلَّ: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد: 27] ) .
    وعن أبي هُريرةَ رَضِي اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، ولَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وقَارِبُوا، وأَبْشِرُوا، واسْتَعِينُوا بالغَدْوَةِ والرَّوْحَةِ وشيءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ))
    ومن الأَمثِلةِ على ذلك أيضًا المَنهِيَّاتُ الواردةُ في شأنِ الصَّلاةِ مِن أجْلِ تحقيقِ مُخالَفةِ الكُفَّارِ والمُشرِكينَ.

    - فمِنها ما يتعَلَّقُ بالنِّداءِ للصَّلاةِ، كما جاء عن أبي عُمَيرِ بنِ أنَسٍ عن عُمومةٍ له من الأنصارِ قالوا: ((اهتَمَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للصَّلاةِ كيف يَجمَعُ النَّاسَ لها؟ فقيل له: انصِبْ رايةً عند حُضورِ الصَّلاةِ، فإذا رأوها آذَنَ بَعضُهم بعضًا، فلم يُعِجْبه ذلك، قال: فذُكِرَ له القُنْعُ -شَبُّورُ اليهودِ-، فلم يُعجِبْه ذلك، وقال: هو مِن أمرِ اليَهودِ، فذُكِرَ له النَّاقوسُ، قال: هو مِن أمرِ النَّصارى، فانصرف عبدُ اللهِ بنُ زيدِ بنِ عبدِ رَبِّه، وهو مهتَمٌّ لِهَمِّ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأُرِيَ الأذانَ في مَنامِه، فغدا على رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخبَرَه، فقال: يا رَسولَ اللهِ: إنِّي لبَيْنَ نائمٍ ويَقْظانَ، إذ أتاني آتٍ، فأَراني الأذانَ، قال: وكان عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه قد رآه قبل ذلك، فكتَمَه عِشرينَ يومًا، ثمَّ أخبَرَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال له: ما منَعَك أن تخبِرَني؟! فقال: سبَقَني عبدُ اللهِ بنُ زَيدٍ، فاستحيَيْتُ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا بِلاُل، قمْ فانظُرْ ما يأمُرُك به عبدُ اللهِ بنُ زَيدٍ فافعَلْه. قال: فأذَّنَ بلِالٌ)) .
    قال ابنُ تَيميَّةَ: (هذا يقتضي كراهةَ هذا النَّوعِ مِنَ الأصواتِ مُطلَقًا في غيرِ الصَّلاةِ أيضًا؛ لأنَّه مِن أمْرِ اليَهودِ والنَّصارى؛ فإنَّ النَّصارى يَضرِبونَ بالنَّواقيسِ في أوقاتٍ مُتعَدِّدةٍ، غيرِ أوقاتِ عِباداتِهم، وإنَّما شِعارُ الدِّينِ الحَنيفِ الأذانُ المتضَمِّنُ للإعلانِ بذِكرِ اللهِ، الذي به تُفتَحُ أبوابُ السَّماءِ، فتَهرُبُ الشَّياطينُ، وتَنزِلُ الرَّحمةُ) .
    - ومنها ما يتعَلَّقُ بهَيئةِ الصَّلاةِ:
    فعن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّه قال: اشْتَكَى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَصَلَّينا ورَاءَه وهو قَاعِدٌ، وأبو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ تَكْبِيرَه، فَالْتَفَتَ إلينا فَرَآنَا قِيَامًا، فأشَارَ إلينا فَقَعَدْنَا، فَصَلَّينا بصَلَاتِه قُعُودًا، فلَمَّا سَلَّمَ قال: ((إنْ كِدْتُم آنِفًا لَتَفْعَلونَ فِعْلَ فَارِسَ والرُّومِ؛ يَقُومونَ على مُلُوكِهم وهم قُعودٌ، فلا تَفعَلوا، ائْتَمُّوا بأئِمَّتِكم؛ إنْ صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وإنْ صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا)) .
    في هذا الحَديثِ: أنَّه أمَرَهم بتَرْكِ القيامِ الذي هو فَرضٌ في الصَّلاةِ، وعَلَّل ذلك بأنَّ قيامَ المأمومِينَ مع قعودِ الإمامِ يُشبِهُ فِعلَ فارِسَ والرُّومِ بعُظَمائِهم في قيامِهم وهم قُعودٌ.
    وفي هذا الحَديثِ أيضًا أنَّه نهى عمَّا يُشبِهُ فِعلَ فارِسَ والرُّومِ، مع أنَّ نِيَّتَنا غيرُ نيَّتِهم؛ لقَولِه: ((فلا تَفعَلوا))؛ مما يَدُلُّ على أنَّ النَّهيَ وارِدٌ حتَّى في مجَرَّدِ مُشابَهتِهم في الصُّورةِ .
    وعن أبي هُرَيرةَ رَضِي اللهُ عنه عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه نهى أن يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُختَصِرًا .
    وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّها كانت تَكرَهُ أن يَجعَلَ المصَلِّي يَدَه في خاصِرتِه، وتقولُ: (إنَّ اليَهودَ تَفعَلُه) .
    وجاء النَّهيُ عن مُشابَهةِ الكُفَّارِ كذلك في مَسائِلَ تتعَلَّقُ بأحكامِ الصِّيامِ.
    ومن ذلك:
    - التسَحُّرُ؛ فعن عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: (( فَصْلُ ما بيْنَ صِيَامِنا وَصِيامِ أَهْلِ الكِتابِ أُكْلَةُ السَّحَرِ )).
    - ومِن ذلك صيامُ اليَومِ التَّاسِعِ مِن شَهرِ اللهِ المحَرَّمِ مع العاشِرِ منه؛ مخالَفةً لليَهودِ الذين كانوا يَصومونَ اليَومَ العاشِرَ فقط.
    فعن عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: حِينَ صَامَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومَ عَاشُورَاءَ وأَمَرَ بصِيَامِه، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، إنَّه يَومٌ تُعَظِّمُه اليَهُودُ وَالنَّصَارى، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فإذا كانَ العامُ المُقْبِلُ إنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا اليومَ التَّاسِعَ))، قال: فلم يَأتِ العامُ المُقْبِلُ حتَّى تُوُفِّيَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .
    قال ابنُ تَيميَّةَ: (فتدَبَّرْ هذا، يومُ عاشَوراءَ يَومٌ فاضِلٌ، يُكَفِّرُ سَنةً ماضِيةً، صامه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأمَرَ بصِيامِه، ورَغَّب فيه، ثمَّ لَمَّا قِيلَ له قُبَيلَ وَفاتِه: إنَّه يومٌ تُعَظِّمُه اليَهودُ والنَّصارى، أمَرَ بمخالفتِهم بضَمِّ يَومٍ آخَرَ إليه، وعَزَم على ذلك؛ ولهذا استحَبَّ العُلَماءُ -منهم الإمامُ أحمدُ- أن يصومَ تاسُوعاءَ وعاشُوراءَ، وبذلك عَلَّلَت الصِّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم) .
    - ومِن أحكامِ الصِّيامِ المقَرَّرةِ في الشَّرعِ مُخالَفةً لليَهودِ والنَّصارى: تعجيلُ الفِطرِ للصَّائِمِ.
    فعن أبي هُرَيرةَ رَضِي اللهُ عنه عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَزالُ الدِّينُ ظاهِرًا ما عَجَّلَ النَّاسُ الفِطرَ؛ لأنَّ اليَهودَ والنَّصارى يؤخِّرونَ)) .
    قال ابنُ تَيميَّةَ: (هذا نَصٌّ في أنَّ ظُهورَ الدِّينِ الحاصِلَ بتَعجيلِ الفِطْرِ؛ لأجْلِ مخالَفةِ اليَهودِ والنَّصارى، وإذا كان مُخالفتُهم سَبَبًا لظُهورِ الدِّينِ -فإنَّما المقصودُ بإرسالِ الرُّسُلِ أن يَظهَرَ دِينُ اللهِ على الدِّينِ كُلِّه- فيكونُ نَفسُ مخالفَتِهم مِن أكبَرِ مَقاصِدِ البَعْثةِ) .
    وفي أحكامِ الحَجِّ جاء النَّهيُ عن مُخالَفةِ أهلِ الجاهِليَّةِ كذلك.
    فعن قَيسِ بنِ أبي حازمٍ، قال: (دَخَلَ أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ علَى امْرَأَةٍ مِن أحْمَسَ يُقالُ لها: زَيْنَبُ، فَرَآها لا تَكَلَّمُ، فقال: ما لها لا تَكَلَّمُ؟ قالوا: حَجَّتْ مُصْمِتةً، قال لها: تَكَلَّمِي؛ فإنَّ هذا لا يَحِلُّ، هذا مِن عَمَلِ الجَاهِلِيَّةِ، فَتَكَلَّمَتْ، فقالت: مَن أنتَ؟ قال: امرُؤٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ، قالت: أيُّ المُهَاجِرينَ؟ قال: مِن قُرَيشٍ، قالت: مِن أيِّ قُرَيشٍ أنْتَ؟
    قالَ: إنَّكِ لَسَؤولٌ! أنَا أبو بَكْرٍ، قالَتْ: ما بَقَاؤُنَا على هذا الأمْرِ الصَّالِحِ الذي جَاءَ اللَّهُ به بَعْدَ الجَاهِلِيَّةِ؟
    قال: بَقَاؤُكم عليه ما استَقَامَتْ بكم أئِمَّتُكم، قالتْ: وما الأئِمَّةُ؟ قالَ: أمَا كانَ لِقَوْمِكِ رُؤُوسٌ وأشْرافٌ يَأمُرُونَهم فيُطِيعُونَهم؟
    قالت: بَلَى، قالَ: فَهم أُولَئِكِ على النَّاسِ) .

    قال ابنُ تَيميَّةَ: (فأخبَرَ أبو بكرٍ أنَّ الصَّمتَ المُطلَقَ لا يَحِلُّ، وعقَّب ذلك بقَولِه: هذا مِن عَمَلِ الجاهليَّةِ، قاصِدًا بذلك عَيْبَ هذا العَمَلِ وذَمَّه. وتَعقيبُ الحُكمِ بالوَصْفِ: دليلٌ على أنَّ الوَصفَ عِلَّةٌ، ولم يُشرَعْ في الإسلامِ، فيَدخُلُ في هذا: كُلُّ ما اتُّخِذَ من عِبادةٍ مِمَّا كان أهلُ الجاهِليَّةِ يتعَبَّدونَ به، ولم يَشرَعِ اللهُ التعَبُّدَ به في الإسلامِ، وإنْ لم يَنَوَّهْ عنه بعَيْنِه، كالمُكَاءِ والتَّصْديةِ؛ فإنَّ اللهَ تعالى قال عن الكافِرينَ: وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً [الأنفال: 35] . والمُكاءُ: الصَّفيرُ ونَحوُه. والتَّصْديةُ: التَّصفيقُ؛ فاتخاذُ هذا قُربةً وطاعةً: مِن عَمَلِ الجاهليَّةِ الذي لم يُشرَعْ في الإسلامِ،
    وكذلك: بُروزُ المُحرِمِ وغَيرِه للشَّمسِ، حتَّى لا يَستَظِلَّ بظِلٍّ، أو تَرْكُ الطَّوافِ بالثِّيابِ المتقَدِّمةِ، أو تَرْكُ كُلِّ ما عُمِلَ في غيرِ الحَرَمِ، ونحوُ ذلك من أُمورِ الجاهِليَّةِ التي كانوا يتَّخِذونَها عِباداتٍ) .
    وجاء النَّهيُ أيضًا عن مُشابَهةِ المُشرِكينَ في أعيادِهم.
    فعن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قَدِمَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المدينةَ ولهم يومانِ يَلعَبونَ فيهما، فقال: ((ما هذانِ اليومانِ؟ قالوا: كنَّا نَلعَبُ فيهما في الجاهليَّةِ، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ اللَّهَ قد أبدلَكم بِهما خيرًا منهما: يومَ الأَضْحى ويومَ الفِطْرِ)) .
    فلم يُقِرَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هذينِ اليَومَينِ، ولا تَرَك أصحابَه يَلعَبونَ فيهما على عادةِ النَّاسِ، بل قال: ((إنَّ اللهَ قد أبدَلَكم بهما خيرًا منهما...))، والإبدالُ مِنَ الشَّيءِ يَقتَضي تَرْكَ المبدَلِ منه. وقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((خيرًا منهما)) يقتضي الاعتياضَ بما شُرِعَ لنا عمَّا كان في الجاهِليَّةِ.
    والمحذورُ في أعيادِ أهلِ الكِتابَينِ أشَدُّ مِنَ المحذورِ في أعيادِ الجاهليَّةِ؛ فإنَّ الأُمَّةَ قد حُذِّروا مِن مُشابَهةِ اليَهودِ والنَّصارى، وأُخبِروا أنَّه سيَفعَلُ قَومٌ منهم هذا المحذورَ، بخِلافِ دينِ الجاهليَّةِ الذي لا يعودُ إلَّا في آخِرِ الدَّهرِ عندَ اختِرامِ أنفُسِ المؤمِنينَ عُمومًا .
    ومِن الأحكامِ الشَّرعيَّةِ التي ورد فيها النَّهيُ عن مُشابَهةِ اليَهودِ: تَرْكُ مُؤاكَلةِ المَرأةِ حالَ حَيضِها.

    فعن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ اليَهُودَ كانوا إذَا حَاضَتِ المَرْأةُ فيهم لم يُؤَاكِلُوها، ولم يُجَامِعُوهُنَّ في البُيُوتِ، فَسَأَلَ أصْحَابُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في الْمَحِيضِ[البقرة: 222] إلى آخِرِ الآيَةِ،
    فَقالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اصنَعُوا كُلَّ شَيءٍ إلَّا النِّكاحَ)) فَبَلَغَ ذلكَ اليَهُودَ، فَقالوا: ما يُرِيدُ هذا الرَّجُلُ أنْ يَدَعَ مِن أمْرِنَا شيئًا إلَّا خَالَفَنا فِيهِ! فَجَاءَ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ، وعَبَّادُ بنُ بِشْرٍ فَقالَا: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ اليَهُودَ تَقُولُ: كَذَا وكَذَا، فلا نُجَامِعُهُنَّ؟ فَتَغَيَّرَ وجْهُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى ظَنَنَّا أنْ قدْ وجَدَ عليهما، فَخَرَجَا فَاسْتقْبلَهما هَدِيَّةٌ مِن لَبَنٍ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأرْسَلَ في آثَارِهما فَسَقَاهما، فَعَرَفَا أنْ لم يَجِدْ عليهما .
    هذا الحَديثُ يَدُلُّ على كَثرةِ ما شرَعَه اللهُ لنبيِّه مِن مخالفةِ اليَهودِ، وأنَّه خالَفَهم في عامَّةِ أُمورِهم، حتَّى قالوا: ما يريدُ أن يدَعَ مِن أمْرِنا شَيئًا إلَّا خالَفَنا فيه .
    قال ابنُ تَيميَّةَ عن مُخالَفةِ الكُفَّارِ: (تارةً تَكونُ في أصلِ الحُكمِ، وتارةً في وَصْفِه. ومجانبةُ الحائِضِ: لم يُخالَفوا أي: اليَهودُ في أصلِه، بل خُولِفوا في وَصْفِه؛ حيث شَرَع اللهُ مُقارَبةَ الحائِضِ في غيرِ مَحَلِّ الأذى، فلمَّا أراد بَعضُ الصَّحابةِ أن يعتَدِيَ في المخالَفةِ إلى تَرْكِ ما شَرَعه اللهُ، تغَيَّرَ وَجهُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) .
    وجاء النَّهيُ أيضًا في مَسائِلَ تتعَلَّقُ بمَظهَرِ المُسلِمِ مِن لبِاسٍ وزِينةٍ ونَحوِ ذلك.
    فعن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((خالِفُوا المُشْرِكِينَ، أحْفُوا الشَّوارِبَ، وأَوْفُوا اللِّحَى)) .
    وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((جُزُّوا الشَّوارِبَ، وأرْخُوا اللِّحَى، خالِفوا المجوسَ)) .
    وعن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن تَشَبَّهَ بقَومٍ فهو مِنهم)) .
    قال ابنُ عُثَيمين: (يَحرُمُ على الإنسانِ أن يتشَبَّهَ بالكُفَّارِ، قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميَّةَ في كِتابِه اقتِضاءِ الصِّراطِ المُستَقيمِ: أقَلُّ أحوالِ هذا الحديثِ التَّحريمُ، وإن كان ظاهِرًا يقتضي كُفرَ المتشَبِّهِ بهم. ومن فوائِدِ الحديثِ: أنَّه متى حَصَل الشَّبَهُ ثَبَت الحُكمُ، سواءٌ كان بإرادةٍ أم بغيرِ إرادةٍ. فلو قال قائِلٌ: إنَّه لَبِسَ ثيابَ الكُفَّارِ، لكِنْ لم يقصِدِ التَّشَبُّهَ، قُلْنا: ولكِنْ حَصَل الشَّبَهُ، والنيَّةُ محَلُّها القَلبُ، فنُنكِرُ عليه ما أظهَرَه مِنَ المُشابَهةِ، وأمَّا فيما بيْنه وبيْن رَبِّه، فهذا ليس إلينا) .
    فمخالَفةُ المُشرِكينَ -ومنهم المجوسُ- أمرٌ مَقصودٌ للشَّارِعِ، وقد فَهِمَ السَّلَفُ كراهةَ التَّشَبُّهِ بالمجوسِ في هذا وغَيرِه، فكَرِهوا أشياءَ غَيرَ مَنصوصةٍ بعَينِها عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولكِنَّها من هَدْيِ المجوسِ، منها: حَلْقُ القَفَا.
    قال المَروزيُّ: سألتُ أبا عبدِ اللهِ -يعني: أحمدَ بنَ حَنبَلٍ- عن حَلْقِ القَفَا، فقال: (هو مِن فِعلِ المجوسِ، ومَن تَشَبَّه بقَومٍ فهو منهم) .

    وعن المعتَمِرِ بنِ سُلَيمانَ التَّيميِّ قال: كان أبي إذا جَزَّ شَعرَه لم يحلِقْ قَفاه، قيل له: لمَ؟ قال: كان يَكرَهُ أن يتشَبَّهَ بالعَجَمِ .
    وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اليَهودَ والنَّصارى لا يَصبُغونَ، فخالِفوهم)) .
    وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما قال: رَأَى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ، فقال: ((أأُمُّكَ أَمَرَتْكَ بهذا؟)) قُلتُ: أَغْسِلُهما، قال: ((بَلْ أَحْرِقْهما)). وفي روايةٍ: رَأَى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ، فقال: ((إنَّ هذِه مِن ثِيَابِ الكُفَّارِ؛ فلا تَلْبَسْهَا)) .
    وعن أبي عُثمانَ النَّهديِّ قال: كتَبَ إلينا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه ونحن بأذربيجان: (... وإيَّاكُمْ والتنَعُّمَ، وزِيَّ أهلِ الشِّرْكِ، ولَبُوسَ الحَرِيرِ) .
    فمخالَفةُ المُشرِكينَ أصلٌ في دينِ اللهِ تعالى وأحكامِ شَريعتِه، وعليه عَمَلُ الصَّحابةِ فمَن بَعْدَهم من الأئِمَّةِ، وقد حكى ابنُ تَيميَّةَ إجماعَ الأُمَّةِ في الجُملةِ على النَّهيِ عن التَّشَبُّهِ بأهلِ الكِتابِ والأعاجِمِ .
    ولا تعارُضَ بيْن النَّهيِ عن التَّشَبُّهِ بالكُفَّارِ وبيْن قاعِدةِ أنَّ شَرعَ مَن قَبْلَنا شَرعٌ لنا، ما لم يَرِدْ شَرعُنا بخِلافِه؛
    فتلك القاعدةُ مَبنيَّةٌ على شَيئَينِ مُنتَفِيَينِ في مَسألةِ التَّشَبُّهِ بهم:
    الأوَّلُ: أن يَثبُتَ أنَّ ذلك شَرعٌ لهم، بنَقلٍ موثوقٍ به، مِثلُ أن يُخبِرَنا اللهُ في كِتابِه، أو بما صَحَّ على لسانِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأمَّا مُجَرَّدُ الرُّجوعِ إلى قَولِهم، أو إلى ما في كُتُبِهم، فلا يجوزُ بالاتِّفاقِ.
    الثَّاني: ألَّا يَكونَ في شَرْعِنا بيانٌ خاصٌّ حَولَ ذلك بالموافَقةِ أو بالمُخالَفةِ، فقد أَمَرَنا نَبيُّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يكونَ هَدْيُنا مخالِفًا لهَدْيِ اليَهودِ والنَّصارى، وإنَّما تجيءُ الموافَقةُ في بعضِ الأحكامِ العارِضةِ، لا في الهَدْيِ الرَّاتِبِ، والشِّعارِ الدَّائِمِ.
    - وقد تَشتَبِهُ مَسألةُ التَّشَبُّه أيضًا مع ما رواه ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: (كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أهْلِ الكِتاب فِيما لم يُؤْمَرْ فيه، وكان أهْلُ الكِتابِ يَسْدِلُونَ أشْعَارَهم، وكانَ المُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُؤُوسَهم، فَسَدَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ناصِيَتَه، ثُمَّ فَرَقَ بَعْدُ) .
    فالجوابُ على ذلك مِن عِدَّةِ وُجوهٍ:
    منها: أنَّ هذا كان مُتقَدِّمًا، ثمَّ نَسَخ اللهُ ذلك، وشَرَع لنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مخالفةَ أهلِ الكِتابِ، وأمَرَه بذلك، وفي مَتنِ الحَديثِ: أنَّه سَدَلَ شَعرَه مُوافَقةً لهم، ثمَّ فَرَق شَعرَه بَعْدُ؛ وصار الفَرْقُ شِعارًا للمُسلِمينَ، وكان مِن الشُّروطِ على أهلِ الذِّمَّةِ ألَّا يَفرُقوا شُعورَهم.
    وممَّا يُوضِّحُ ذلك أنَّ اللهَ تعالى شَرَع له في أوَّلِ الأمرِ استِقبالَ بَيتِ المَقدِسِ مُوافقةً لأهلِ الكِتابِ، ثمَّ نَسَخَ ذلك، وأمَرَه باستِقبالِ الكَعبةِ، وأخبَرَه عن اليَهودِ وغَيرِهم مِنَ السُّفَهاءِ أنَّهم سيَقولونَ: مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة: 142] ، وأخبَرَه أنَّهم لا يَرضَونَ عنه حتَّى يتَّبِعَ قِبلتَهم، وأنَّه إنِ اتَّبَع أهواءَهم مِن بَعدِ ما جاءه مِنَ العِلمِ، فما له مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ ولا نصيرٍ.
    وممَّا يوضِّحُ ذلك أيضًا أنَّ يومَ عاشُوراءَ الذي صامه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقال: ((نحن أحَقُّ بموسى منكم)) قد شَرَعَ قُبَيلَ مَوتِه مخالفةَ اليَهودِ في صَومِه، وأمَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذلك؛
    ولهذا فابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما الذي قال: (كان يُعجِبُه مُوافَقةُ أهلِ الكِتابِ فيما لم يُؤمَرْ فيه بشَيءٍ) هو الذي روى أيضًا شَرْعَ المخالَفةِ في صَومِ عاشُوراءَ، وكان أشَدَّ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم أمرًا بمخالَفةِ اليَهودِ في صَومِ عاشُوراءَ.

    ومن الأوجُهِ: أنَّه على فَرْضِ أنَّ ذلك لم يُنسَخْ، فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو الذي كان له أن يُوافِقَهم؛ لأنَّه يَعلَمُ حَقَّهم مِن باطِلِهم، بما يُعَلِّمُه اللهُ إيَّاه، ونحن نتَّبِعُه، فأمَّا نحن فلا يجوزُ لنا أن نأخُذَ شيئًا من الدِّينِ عنهم، لا مِن أقوالِهم، ولا مِن أفعالِهم، بإجماعِ المُسلِمينَ المعلومِ بالاضطرارِ مِن دِينِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم،
    ولو قال رجُلٌ: يُستحَبُّ لنا مُوافَقةُ أهلِ الكِتابِ الموجودينَ في زَمانِنا، لكان قد خَرَج عن دِينِ الأُمَّةِ.
    ومن الأوجُهِ: أنَّنا مَنهيُّونَ عن التَّشَبُّهِ بهم فيما لم نُؤمَر به، فأمَّا ما أُمرنا به فلا رَيبَ في اتِّباعِه، سواءٌ فَعَلَه الكُفَّارُ أو تَرَكوه؛ فلا ينبغي تَرْكُ ما أمَرَ اللهُ به لأجْلِ أنَّ الكُفَّارَ تَفعَلُه، مع ملاحَظةِ أنَّ اللهَ لم يَأمُرْنا بشَيءٍ يوُافِقوننا عليه إلَّا ولا بُدَّ فيه مِن نَوعِ مُغايرةٍ يتمَيَّزُ بها دينُ اللهِ المحكَمُ عن غَيرِه .


    خامساً : : العَلاقةُ بيْن التَّشَبُّهِ والوَلاءِ :

    إنْ كان الأمرُ المتشَبَّهُ به مِن مُوجِباتِ كُفرِ أصحابِه، فإنَّ مُوافَقتَهم فيه مُوافَقةٌ في شُعبةٍ مِن شُعَبِ الكُفرِ،
    والمُشابَهةُ في الظَّاهِرِ تُورِثُ نَوعَ مودَّةٍ ومَحَبَّةٍ، ومُوالاةٍ في الباطِنِ، كما أنَّ المَحَبَّةَ في الباطِنِ تُورِثُ المُشابَهةَ في الظَّاهِرِ،
    وهذا أمرٌ يَشهَدُ به الحِسُّ والتَّجْرِبةُ، وإذا كانت المشابَهةُ في أُمورٍ دُنيويَّةٍ مِثلُ اللِّباسِ وغَيرِه تُورِثُ المَحَبَّةَ والموالاةَ لهم،
    فكيف بالمُشابَهةِ في أُمورٍ دِينيَّةٍ؟! فإنَّ إفضاءَها إلى نَوعٍ مِنَ الموالاةِ أكثَرُ وأشَدُّ، والمَحَبَّةُ والموالاةُ لهم تُنافي الإيمانَ.

    قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ [المائدة: 51 - 53] .

    وقال اللهُ سُبحانَه: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة: 78 - 81] .
    فبَيَّن سُبحانَه وتعالى أنَّ الإيمانَ باللهِ والنَّبيِّ وما أُنزِلَ إليه: مُستلزِمٌ لعَدَمِ وَلايتِهم.

    وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة: 22] .
    فأخبَرَ سُبحانَه أنَّه لا يُوجَدُ مُؤمِنٌ يُوادُّ كافِرًا، فمَن وادَّ الكُفَّارَ فليس بمؤمِنٍ، والمشابَهةُ الظَّاهِرةُ مَظِنَّةُ الموادَّةِ، فتكونُ مُحَرَّمةً .

    قال ابنُ جريرٍ: (يعني جَلَّ ثناؤهُ بقَولِه: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22] لا تجِدُ -يا محمَّدُ- قَومًا يُصَدِّقونَ اللهَ، ويُقِرُّونَ باليَومِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَن حادَّ اللهَ ورَسولَه وشاقَّهما وخالَفَ أمرَ اللهِ ونَهْيَه، وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ .
    يقولُ: ولو كان الذين حادُّوا اللهَ ورَسولَه آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ، وإنَّما أخبَرَ اللهُ جَلَّ ثناؤه نبيَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بهذه الآيةِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [المجادلة: 14] ليسوا من أهلِ الإيمانِ باللهِ ولا باليَومِ الآخِرِ؛ فلذلك تَوَلَّوا الذين توَلَّوهم مِنَ اليَهودِ) .

    وقال السَّعديُّ: (يقولُ تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22] أي: لا يجتَمِعُ هذا وهذا؛ فلا يكونُ العَبدُ مُؤمِنًا باللهِ واليَومِ الآخِرِ حقيقةً إلَّا كان عامِلًا على مقتضى الإيمانِ ولوازِمِه؛ من مَحَبَّةِ مَن قام بالإيمانِ وُموالاتِه، وبُغْضِ مَن لم يَقُمْ به ومُعاداتِه، ولو كان أقرَبَ النَّاسِ إليه. وهذا هو الإيمانُ على الحقيقةِ، الذي وُجِدَت ثمَرَتُه والمقصودُ منه، وأهلُ هذا الوَصفِ هم الذين كَتَب اللهُ في قُلوبِهم الإيمانَ، أي: رسَمَه، وثَبَّتَه وغَرَسَه غَرسًا لا يتزلزَلُ، ولا تؤَثِّرُ فيه الشُّبَهُ والشُّكوكُ) .
    ------------------------------------------------------------------------------------------
    التالي : -
    -
    : الفَرْقُ بيْن المُوالاةِ وبيْن المُعامَلةِ بالحُسنى :
    -
    تابعونا أحبابنا جزاكم الله خيرا

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5204
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

    الوَلاء والبَراءُ :: تَعريفُ الوَلاءِ والبَراءِ :: عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في الوَلاءِ والبَراءِ ::  Empty : الفَرْقُ بيْن المُوالاةِ وبيْن المُعامَلةِ بالحُسنى

    مُساهمة من طرف صادق النور الثلاثاء ديسمبر 19, 2023 8:38 am

    يتبع ما قبله : -

    : الفَرْقُ بيْن المُوالاةِ وبيْن المُعامَلةِ بالحُسنى :

    الأصلُ في هذا قَولُ اللهِ عزَّ وجَلَّ: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّنْ دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة: 8] .
    وعن أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قالت: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهي مُشْرِكَةٌ في عَهْدِ قُرَيْشٍ إذْ عَاهَدَهم، فَاستَفْتَيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهي رَاغِبَةٌ، أفأَصِلُ أُمِّي؟ قال: ((نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ )) .
    قال ابنُ جريرٍ: (أَولى الأقوالِ في ذلك بالصَّوابِ قَولُ من قال: عُنِيَ بذلك: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ [الممتحنة: 8] من جميعِ أصنافِ المِلَل ِوالأديانِ: أن تَبَرُّوهم وتَصِلوهم، وتُقْسِطوا إليهم.
    إنَّ الله عزَّ وجَلَّ عَمَّ بقَولِه: الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ جميعَ من كان ذلك صِفَتَه، فلم يَخصُصْ به بَعضًا دونَ بَعضٍ، ولا معنى لقَولِ من قال: ذلك منسوخٌ؛ لأنَّ بِرَّ المؤمِنِ مِن أهلِ الحَربِ مِمَّن بيْنه وبيْنه قَرابةُ نَسَبٍ، أو مِمَّن لا قرابةَ بينْه وبيْنه ولا نَسَبَ- غيرُ مُحَرَّمٍ، ولا منهيٍّ عنه، إذا لم يكُنْ في ذلك دَلالةٌ له أو لأهل ِالحَربِ على عَورةٍ لأهلِ الإسلامِ، أو تقويةٌ لهم بكُراعٍ أو سِلاحٍ، قد بَيَّن صِحَّةَ ما قُلْنا في ذلك الخَبَرُ الذي ذكَرْناه عن ابنِ الزُّبَيرِ في قِصَّةِ أسماءَ وأُمِّها) .
    قال ابنُ القَيِّمِ: (الذي يقومُ عليه الدَّليلُ وُجوبُ الإنفاقِ، وإن اختَلَف الدِّينانِ؛
    لِقَولِه تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا [العنكبوت: 8] ، وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان: 15] ،
    وليس مِنَ الإحسانِ ولا من المعروفِ تَرْكُ أبيه وأمِّه في غايةِ الضَّرورةِ والفاقةِ، وهو في غايةِ الغِنى، وقد ذَمَّ اللهُ تبارك وتعالى قاطِعِي الرَّحِمِ، وعَظَّمَ قطيعَتَها، وأوجَبَ حَقَّها وإن كانت كافِرةً؛
    قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ [النساء: 1] ،
    وقال تعالى: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [الرعد: 25] ،

    وفي الحديثِ: ((لا يَدخُلُ الجنَّةَ قاطِعُ رَحِمٍ )) ... وصِلةُ الرَّحِمِ واجِبةٌ وإن كانت لكافِرٍ؛ فله دِينُه، وللواصِلِ دينُه) .
    وقال ابنُ حَجَرٍ: (البِرُّ والصِّلةُ والإحسانُ لا يَستلزِمُ التَّحابُبَ والتَّوادُدَ المنهيَّ عنه .
    في قَولِه تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ... الآية [المجادلة: 22] ؛ فإنها عامَّةٌ في حَقِّ مَن قاتَلَ، ومَن لم يُقاتِلْ، واللهُ أعلَمُ) .

    وقال ابنُ باز: (اللهُ سُبحانَه حَرَّم مُوالاةَ الكُفَّارِ ونهى عن اتِّخاذِهم بِطانةً في الآياتِ المحكَماتِ، ولم يَفْصِلْ بيْن أجناسِهم، ولا بيْن مَن قاتَلَنَا ومَن لم يُقاتِلْنا...
    وإنَّما معنى الآيةِ المذكورةِ عِندَ أهْلِ العِلْمِ: الرُّخصةُ في الإحسانِ إلى الكُفَّارِ، والصَّدقةِ عليهم إذا كانوا مُسالِمينَ لنا بمُوجِبِ عَهدٍ أو أمانٍ أو ذِمَّةٍ) .
    وقال ابنُ عُثَيمين: (الصَّدَقةُ على غَيرِ المُسلِمينَ جائِزةٌ إذا كانوا ليسُوا حَربًا لنا، في حالِ أمانٍ وهُدْنةٍ ومُعاهَدةٍ ونحوِ ذلك، فلا بأسَ؛ لِقَولِ الله عزَّ وجَلَّ: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة: 8] ) .

    وعن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: كانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَمَرِضَ، فأتَاهُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعُودُه، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأسِه، فقال له: ((أسْلِمْ))، فَنَظَرَ إلى أبِيهِ وهو عِنْدَه، فقال له: أطِعْ أبا القاسِمِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يقولُ: ((الحَمْدُ لِلَّهِ الذي أنْقَذَه مِنَ النَّارِ )) .

    قال ابنُ حَجَرٍ
    : (قال ابنُ بطَّالٍ: إنَّما تُشرَعُ عِيادتُه إذا رُجِيَ أن يُجيبَ إلى الدُّخولِ في الإسلامِ، فأمَّا إذا لم يطمَعْ في ذلك فلا. انتهى. والذي يَظهَرُ أنَّ ذلك يختَلِفُ باختِلافِ المقاصِدِ، فقد يقَعُ بعيادتِه مَصلحةٌ أُخرى) .
    وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ اليَهُودِ على رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَقالوا: السَّامُ عَيكم، قالت عَائِشَةُ: فَفَهِمْتُها، فَقُلتُ: وعليكم السَّامُ واللَّعْنةُ، فقال رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَهْلًا يا عَائِشةُ، إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ في الأمْرِ كُلِّه )) فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أوَلم تَسْمَعْ ما قالوا؟! قال رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((قد قُلتُ: وعليكم)) . وفي روايةٍ: (فَفَطِنَتْ بهم عائِشةُ فَسَبَّتْهم، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَهْ يا عَائِشَةُ، فإنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الفُحْشَ والتَّفَحُّشَ ))
    فأنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجَلَّ: وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ [المجادلة: 8] إلى آخِرِ الآيةِ( .
    والتَّعامُلُ مع الكُفَّارِ بالبَيعِ والشِّراءِ والهَدِيَّةِ ونحوِ ذلك لا يَدخُلُ في مُسَمَّى الموالاةِ، بل يُباحُ للمُسلِمِ البَيعُ والشِّراءُ مع الكُفَّارِ،
    ودليلُ ذلك حديثُ عبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: كُنَّا مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ بغَنَمٍ يَسُوقُها، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((بَيْعًا أمْ عَطِيَّةً؟ -أوْ قالَ:- أمْ هِبَةً؟ ))، قال: لَا، بَلْ بَيْعٌ، فَاشْتَرَى منه شَاةً .
    قال ابنُ بَطَّالٍ: (الشِّراءُ والبَيعُ مِنَ الكُفَّارِ كُلِّهم جائِزٌ، إلَّا أنَّ أهلَ الحَربِ لا يبُاعُ منهم ما يَستعينونَ به على إهلاكِ المُسلِمينَ مِن العِدَّةِ والسِّلاحِ، ولا ما يَقْوَونَ به عليهم) .
    وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: (اشترى رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من يَهوديٍّ طَعامًا، ورَهَنه دِرْعَه) .
    قال ابنُ القَيِّمِ: (فيه دليلٌ على جوازِ مُعامَلتِهم) .
    وقال ابنُ تَيميَّةَ: (أمَّا مُعاملةُ التَّتَرِ فيجوزُ فيها ما يجوزُ في مُعامَلةِ أمثالِهم، ويَحرُمُ فيها ما يَحرُمُ في مُعامَلةِ أمثالِهم، فيجوزُ أن يَبتاعَ الرَّجُلُ مِن مَواشيهم وخَيْلِهم ونَحوِ ذلك، كما يبتاعُ مِن مَواشي الأعرابِ والتُّركماِن والأكرادِ وخَيْلِهم، ويجوزُ أن يبيعَهم مِن الطَّعامِ والثِّيابِ ونحوِ ذلك ما يَبيعُه لأمثالِهم، فأمَّا إن باعهم أو باع غَيرَهم ما يُعِينُهم به على المحَرَّماتِ، كبَيعِ الخَيلِ والسِّلاحِ لِمن يُقاتِلُ به قِتالًا مُحَرَّمًا، فهذا لا يجوزُ... وإذا عَلِمَ أنَّ في أموالِهم شَيئًا مُحَرَّمًا لا تُعرَفُ عَينُه، فهذا لا تَحرُمُ مُعاملتُهم فيه، كما إذا عَلِمَ أنَّ في الأسواقِ ما هو مَغصوبٌ أو مَسروقٌ، ولم يَعلَمْ عَينَه) .

    وقال ابنُ تَيميَّةَ أيضًا: (إنَّ الرَّجُلَ لو سافَرَ إلى دارِ الحَربِ لِيَشتريَ منها، جاز عندنا،
    كما دَلَّ عليه حديثُ تجارةِ أبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه في حياةِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى أرضِ الشَّامِ، وهي دارُ حَربٍ، وحَديثُ عُمَرَ رَضِي اللهُ عنه وأحاديثُ أُخَرُ بَسَطْتُ القَولَ فيها في غيرِ هذا الموضِعِ، مع أنَّه لا بُدَّ أن تَشتَمِلَ أسواقُهم على بَيعِ ما يُستعانُ به على المعصيةِ، فأمَّا بيعُ المُسلِمينَ لهم في أعيادِهم ما يَستعينونَ به على عِيدِهم؛ مِنَ الطَّعامِ واللِّباسِ، والرَّيحانِ ونحوِ ذلك، أو إهداءُ ذلك لهم- فهذا فيه نوعُ إعانةٍ على إقامةِ عِيدِهم المحَرَّمِ، وهو مبنيٌّ على أصلٍ، وهو: أنَّ بَيعَ الكُفَّارِ عِنبًا أو عَصيرًا يتَّخِذونَه خَمرًا: لا يجوزُ، وكذلك لا يجوزُ بيعُهم سِلاحًا يُقاتِلونَ به مُسلِمًا) .
    وقال ابنُ باز: (الوَلاءُ والبَراءُ مَعناه مَحَبَّةُ المؤمِنينَ ومُوالاتُهم، وبُغضُ الكافِرينَ ومُعاداتُهم، والبَراءةُ منهم ومِن دينِهم، هذا هو الوَلاءُ والبَراءُ،
    كما قال اللهُ سُبحانَه في سورةِ المُمتحَنةِ: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ الآية [الممتحنة: 4] ، وليس معنى بُغْضِهم وعَداوتِهم أن تَظلِمَهم أو تتعَدَّى عليهم إذا لم يكونوا مُحارِبينَ، وإنَّما معناه: أن تُبغِضَهم في قَلْبِك، وتُعاديَهم بقَلْبِك، ولا يكونوا أصحابًا لك، لكِنْ لا تُؤذِهم، ولا تَضُرَّهم، ولا تَظْلِمْهم، فإذا سَلَّموا تَرُدُّ عليهم السَّلامَ، وتنصَحُهم، وتوَجِّهُهم إلى الخيرِ،
    كما قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ الآية [العنكبوت: 46] ، وأهلُ الكِتابِ هم اليَهودُ والنَّصارى، وهكذا غَيرُهم مِنَ الكُفَّارِ الذين لهم أمانٌ أو عَهدٌ أو ذِمَّةٌ، لكِنْ مَن ظَلَم منهم يُجازى على ظُلْمِه، وإلَّا فالمشروعُ للمؤمِنِ الجِدالُ بالتي هي أحسَنُ مع المُسلِمينَ والكُفَّارِ، مع بُغْضِهم في اللهِ) .
    --------------------------------------------------------------------------------
    جزاكم الله خيراً
    لا تنسونا من صالح دعائكم

    صادق النور و انهار الجنه يعجبهم هذا الموضوع


      الوقت/التاريخ الآن هو الإثنين مايو 20, 2024 8:18 am