آل راشد



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

آل راشد

آل راشد

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
آل راشد

ثقافى-اجتماعى

*** - اللَّهُمَّ اَنَكَ عَفْوٍ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعِفُو عَنَّا - *** - اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك . *** - اللَّهُمَّ اُرْزُقْنَا تَوْبَةً نَصُوحًا قَبْلَ الْمَوْتِ وَ ارْزُقْنَا حُسْنَ الْخَاتِمَةِ . *** -

إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا شَابَتْ عَبِيدَهُمْ.. .. فِي رِقِّهِمْ عَتَقُوهُمْ عِتْقَ أَبْرَارٍ .. .. وَأَنْتَ يَا خَالِقِيُّ أوْلَى بِذَا كَرَمًا.. .. قَدْ شُبْتُ فِي الرِّقِّ فَأَعْتَقَنِي مِنَ النَّارِ .

المواضيع الأخيرة

» هل القرآن مدلول كلام الله؟!
 مَبادِئ عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ - عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ وفوائدُه - خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ  - أصول عقيدة أهل السنه والجماعه                                                                        Ooou110اليوم في 4:53 pm من طرف عبدالله الآحد

» إيضاح حركى لمناسك الحج وشرح جميع المناسك
 مَبادِئ عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ - عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ وفوائدُه - خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ  - أصول عقيدة أهل السنه والجماعه                                                                        Ooou110أمس في 7:57 pm من طرف صادق النور

» النذر لغير الله شرك أكبر
 مَبادِئ عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ - عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ وفوائدُه - خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ  - أصول عقيدة أهل السنه والجماعه                                                                        Ooou110أمس في 3:57 pm من طرف عبدالله الآحد

» الجواب عن شبهة أن أهل السنة ينزلون آيات الكفار عن المسلمين
 مَبادِئ عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ - عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ وفوائدُه - خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ  - أصول عقيدة أهل السنه والجماعه                                                                        Ooou110الأربعاء مايو 08, 2024 4:55 pm من طرف عبدالله الآحد

» عقيدة أهل السنة في كلام الله عز وجل
 مَبادِئ عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ - عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ وفوائدُه - خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ  - أصول عقيدة أهل السنه والجماعه                                                                        Ooou110الثلاثاء مايو 07, 2024 5:10 pm من طرف عبدالله الآحد

» فَضْلَ صِلَةِ الأَرْحَامِ -* - * كَيْفَ تَصِل رَحِمَك .
 مَبادِئ عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ - عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ وفوائدُه - خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ  - أصول عقيدة أهل السنه والجماعه                                                                        Ooou110الإثنين مايو 06, 2024 10:13 pm من طرف صادق النور

» القرآن من آحاد كلام الله ليس قديما بقدم الله ونوع كلام الله قديم
 مَبادِئ عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ - عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ وفوائدُه - خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ  - أصول عقيدة أهل السنه والجماعه                                                                        Ooou110الإثنين مايو 06, 2024 4:13 pm من طرف عبدالله الآحد

» قول فى البدعة والسنة !!!
 مَبادِئ عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ - عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ وفوائدُه - خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ  - أصول عقيدة أهل السنه والجماعه                                                                        Ooou110الأحد مايو 05, 2024 10:31 pm من طرف صادق النور

» الكتب المهمة التي ينصح بقراءتها في العقيدة الإسلامية الصحيحة
 مَبادِئ عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ - عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ وفوائدُه - خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ  - أصول عقيدة أهل السنه والجماعه                                                                        Ooou110الأحد مايو 05, 2024 3:23 pm من طرف عبدالله الآحد

» كلام الله قديم النوع حادث الآحاد أي متجدد الآحاد وهو غير مخلوق
 مَبادِئ عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ - عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ وفوائدُه - خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ  - أصول عقيدة أهل السنه والجماعه                                                                        Ooou110السبت مايو 04, 2024 4:51 pm من طرف عبدالله الآحد

اهلا بكم

الثلاثاء نوفمبر 08, 2011 2:32 am من طرف mohamed yousef

 مَبادِئ عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ - عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ وفوائدُه - خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ  - أصول عقيدة أهل السنه والجماعه                                                                        Ooousu10

المتواجدون الآن ؟

ككل هناك 25 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 25 زائر :: 2 عناكب الفهرسة في محركات البحث

لا أحد


أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 624 بتاريخ الأربعاء سبتمبر 15, 2021 4:26 am

احصائيات

أعضاؤنا قدموا 9672 مساهمة في هذا المنتدى في 3205 موضوع

هذا المنتدى يتوفر على 286 عُضو.

آخر عُضو مُسجل هو عبدالرحمن فمرحباً به.

دخول

لقد نسيت كلمة السر

أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى

أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع


    مَبادِئ عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ - عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ وفوائدُه - خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ - أصول عقيدة أهل السنه والجماعه

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5203
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

     مَبادِئ عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ - عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ وفوائدُه - خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ  - أصول عقيدة أهل السنه والجماعه                                                                        Empty مَبادِئ عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ - عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ وفوائدُه - خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ - أصول عقيدة أهل السنه والجماعه

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس نوفمبر 16, 2023 2:13 pm


    بسم الله الرحمن الرحيم
    والحمد لله رب العالمين أن خلقنا مسلمين موحدين
    والصلاة والسلام علي سيدنا محمد أشرف المرسلين وأمام المحجلين وصفوة الصفوه وخاتم النبوه وفاتح الجنه وعلي آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً طيباً مباركا فيه .

    -----
    - -
    مَبادِئ عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ
    - -

    ::  تعريفُ العَقيدةِ لُغةً
    العقيدةُ في اللُّغةِ: من العَقْدِ، وهو الجمعُ بين أطرافِ الشَّيء، والشَّدُّ وشِدَّةُ التَّوثُّقِ
    : تعريفُ العَقيدةِ اصطِلاحًا
    العَقيدةُ في الاصطِلاحِ: هي جَزْمُ القَلبِ وعَقْدُه على توحيدِ اللهِ تعالى وما وَجَب الإيمانُ به دونَ شكٍّ
    : تعريفُ الإيمانِ لغةً
    الإيمانُ في اللُّغةِ: بمعنى التَّصديقِ، وأصلُ الأمنِ: هو طُمَأنينةُ النَّفسِ وزوالُ الخَوفِ
    : تعريفُ الإيمانِ اصطِلاحًا
    الإيمانُ في الاصطِلاح هو: التَّصديقُ الجازمُ بكلِّ ما أخبَرَ به اللهُ ورسولُهُ مع الإقرارِ والطُّمأنينةِ، والقَبولُ والانقيادُ له .
    قال ابنُ تَيميَّةَ: (... الإيمانُ وإن كان يتضمَّنُ التَّصديقَ فليس هو مجرَّدَ التَّصديقِ،
    وإنَّما هو الإقرارُ والطُّمأنينةُ؛ وذلك لأنَّ التَّصديقَ إنَّما يَعرِضُ للخَبَرِ فقط، فأمَّا الأمرُ فليس فيه تصديقٌ من حيثُ هو أمرٌ،
    وكلامُ الله خبرٌ وأمرٌ؛ فالخبَرُ يستوجِبُ تصديقَ المخبِرِ، والأمرُ يَستَوجِبُ الانقيادَ له والاستِسلامَ، وهو عملٌ في القَلبِ جِماعُه الخُضوعُ والانقيادُ للأمرِ، وإن لم يفعَلِ المأمورَ به، فإذا قوبل الخَبَرُ بالتَّصديقِ والأمرُ بالانقيادِ، فقد حصل أصلُ الإيمانِ في القلبِ، وهو الطُّمَأنينةُ والإقرارُ؛ فإنَّ اشتقاقَه من الأمنِ الذي هو القَرارُ والطُّمأنينةُ، وذلك إنَّما يحصُلُ إذا استقرَّ في القَلبِ التَّصديقُ والانقيادُ) .
    وقال ابنُ عُثيمين: (نقول: إنَّ الإيمانَ هو التَّصديقُ المستلزِمُ للقَبولِ وللانقيادِ؛ قَبولِ الخَبَرِ، والانقيادِ للأمْرِ والنَّهيِ، هذا هو الإيمانُ، وأمَّا مجرَّدُ أنَّ الإنسانَ يقولُ: أنا مؤمِنٌ بالله، وأنا أعترفُ بأنَّ اللهَ موجودٌ، وأنَّ له رسُلًا، لكِنَّه لا يَعمَلُ، فلا يَنَفعُه هذا الإيمانُ؛ فالإيمانُ الذي ينفع هو ما ذَكَرْتُ، وقد يُطلَقُ الإيمانُ لغةً على مجرَّد التَّصديقِ، ويقال: هذا مؤمِنٌ بشَيءٍ، لكِنَّه كافِرٌ بأشياءَ، فهذا ليس الإيمانَ الشَّرعيَّ) .

    : تعريفُ التَّوحيدِ لُغةً

    التَّوحيدُ لُغةً: من الوَحْدةِ، وهي الانفِرادُ، ومعنى وحَّده توحيدًا، أي: جعَلَه واحدًا

    : تعريفُ التَّوحيد اصطِلاحًا
    التَّوحيدُ اصطِلاحًا: إفرادُ اللهِ سُبحانَه بما يختصُّ به من الرُّبوبيَّةِ والألوهيَّةِ والأسماءِ والصِّفاتِ .
    قال ابنُ القَيِّم: (ليس التَّوحيدُ مجرَّدَ إقرارِ العَبدِ بأنَّه لا خالِقَ إلَّا اللهُ، وأنَّ اللهَ ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكُه،
    كما كان عبَّادُ الأصنامِ مُقرِّين بذلك وهم مُشرِكون، بل التَّوحيدُ يتضمَّنُ من محبَّة اللهِ، والخُضوعِ له، والذُّلِّ له، وكمالِ الانقيادِ لطاعتِه، وإخلاصِ العبادةِ له، وإرادةِ وَجْهِه الأعلى بجَميعِ الأقوالِ والأعمالِ، والمنعِ والعَطاءِ، والحبِّ والبُغضِ-
    ما يحولُ بين صاحِبِه وبين الأسبابِ الدَّاعيةِ إلى المعاصي والإصرارِ عليها، ومَن عَرَف هذا عَرَف قولَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ حرَّم على النَّارِ من قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ، يبتغي بذلك وَجْهَ اللهِ  )) ...
    وما جاء من هذا الضَّربِ مِن الأحاديثِ التي أَشكَلت على كثيرٍ من النَّاسِ، حتى ظنَّها بعضُهم منسوخةً، وظنَّها بعضُهم قيلَت قَبلَ وُرودِ الأوامِرِ والنَّواهي واستِقرارِ الشَّرعِ، وحمَلَها بعضُهم على نارِ المشركينِ والكفَّارِ،
    وأوَّلَ بعضُهم الدُّخولَ بالخُلودِ، وقال: المعنى لا يدخُلُها خالدًا، ونحو ذلك من التَّأويلاتِ المُستَكرَهةِ. والشَّارعُ -صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه- لم يجعَلْ ذلك حاصلًا بمجرَّدِ قَولِ اللِّسانِ فقط، فإنَّ هذا خلافُ المعلومِ بالاضطرارِ مِن دينِ الإسلامِ؛ فإنَّ المنافقينَ يقولونَها بألسِنَتِهم، وهم تحتَ الجاحِدينَ لها؛ في الدَّركِ الأسفَلِ من النَّارِ، فلا بدَّ من قَولِ القَلبِ، وقَولِ اللِّسانِ) .

    : العَلاقةُ بين العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ

    العَقيدةُ والإيمانُ والتَّوحيدُ: هي في الجُملةِ ألفاظٌ مُتقارِبةٌ عند أهل السُّنَّةِ، إلَّا أنَّهم قد يَذكُرون مَسائِلَ في كتُبِ العقائِدِ لا يَذكُرونَها في كُتُبِ التَّوحيدِ، وقد يحدُثُ العَكسُ، وكذلك الإيمانُ.
    وقد يُفرَّقُ بين علمِ العَقيدةِ والتَّوحيدِ اصطِلاحًا باعتبارِ أنَّ عِلمَ التَّوحيدِ يُعنى بإثباتِ العَقيدةِ الصَّحيحةِ بأدلَّتِها الثَّابتةِ، وأنَّ عِلمَ العَقيدةِ يُعنى مع ذلك بردِّ الشُّبُهاتِ ومناقَشةِ الدِّيانات والفِرَق المخالِفةِ، فعليه تكونُ العَقيدة أعمَّ موضوعًا من التَّوحيدِ .

    وقيل: العَقيدةُ أعمُّ، والتَّوحيدُ أخصُّ، فعلمُ التَّوحيدِ معناه: الإيمانُ بتفرُّدِ الرَّبِّ في رُبوبيَّتِه وإلهيَّتِه وأسمائِه وصِفاتِه، فيرجعُ عِلمُ التَّوحيدِ إلى الإيمانِ باللهِ، وأمَّا العَقيدةُ فتتعلَّقُ بالإيمانِ باللهِ ومَلائِكتِه وكُتُبهِ ورُسُلهِ واليَومِ الآخِرِ وبالقَدَرِ، وعلى ذلك فالعَقيدةُ تَشمَلُ كِلا الأمرَينِ؛ التَّوحيدَ والإيمانَ، فهي أعمُّ منهما .
    أمَّا الفَرقُ بيْن التَّوحيدِ والإيمانِ؛ فالتَّوحيدُ هو: "إفرادُ اللهِ عزَّ وجلَّ بما يختصُّ به ويجِبُ له".
    والإيمانُ هو:"التَّصديقُ المتضمِّنُ للقَبولِ والإذعانِ"، وبينهما عمومٌ وخُصوصٌ؛ فكلُّ موحِّدٍ مؤمِنٌ، وكُلُّ مؤمِنٍ مُوحِّدٌ بالمعنى العامِّ، ولكِنْ أحيانًا يكونُ التَّوحيدُ أخصَّ من الإيمانِ، وأحيانًا يكونُ الإيمان أخَصَّ من التَّوحيدِ .

    علمُ التَّوحيدِ والإيمانِ
    جاءت به الأنبياءُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ، وآخِرُهم نبيُّنا محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثمَّ نَقَله عنه الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم، ولم يكونوا بحاجةٍ إلى تدوينِه أو تصنيفِ كتُبٍ فيه، ثم ألَّفَ العُلماءُ كُتبَ الحديثِ؛ الصِّحاحُ، والسُّننُ، وغيرُها، وفيها كثيرٌ من الأحاديثِ والآثارِ المتَعلِّقةِ بالعَقائدِ.
    ثمَّ بدأ التَّصنيفُ في عقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ حين ظهَرَت فِرَقُ الجَهْميَّةِ والمعَطِّلةِ والشِّيعةِ، فأصبح التَّصنيفُ في العقيدةِ ضرورةً لا بُدَّ منها؛ لنَفيِ تحريفِ الغالِينَ، وانتِحالِ المُبطِلينَ، وتأويلِ الجاهِلينَ،
    ومِن ذلك الرِّسالةُ التي كتَبَها مالِكُ بنُ أنسٍ (ت: 179هـ) في القَدَر إلى تلميذِه عبدِ اللهِ بنِ وَهبٍ المصْريِّ (ت: 197هـ)


    : مؤلَّفاتُ عِلمِ العَقيدةِ عندَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ
    1. (العَقيدةُ الطَّحاويَّةُ) للطَّحاويِّ (ت: 321 هـ).
    2. (شرحُ أُصولِ اعتقادِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ) للَّالَكائيِّ (ت: 418هـ).
    3. (عقيدةُ السَّلَفِ أصحابِ الحديثِ) للصابوني (ت: 449هـ).
    4. (الاعتقادُ القادريُّ) للكرجيِّ (ت: 489 هـ).
    5. (الاعتِقادُ) لابن أبي يَعْلى (ت: 526 هـ).
    6. (لُمْعةُ الاعتقادِ) للموفَّقِ ابنِ قُدامةَ (ت: 620هـ).
    7. (الاعِتقادُ الخالِصُ مِنَ الشَّكِّ والانتِقادِ) لابنِ العَطَّارِ (ت: 724هـ).
    8. (العَقيدةُ الواسِطيَّةُ) لابن تَيميَّةَ (ت: 728 هـ).

    : مؤلَّفاتُ عِلمِ الإيمانِ عند أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ
    1. (كتابُ الإيمانِ ومَعالِمِه وسُنَنِه واستِكمالِ درَجاتِه) لأبي عُبَيدٍ القاسِمِ بنِ سلامٍ (ت: 224 هـ).
    2. (الإيمانُ) لابن أبي شيبةَ (ت: 235 هـ).
    3. (الإيمانُ) للعَدنيِّ (ت: 243 هـ).
    4. (الإيمانُ) لابنِ مَنْدَهْ (ت: 395 هـ).
    5. (مسائِلُ الإيمانِ) لأبي يَعْلى (ت: 458 هـ).
    6. (الإيمانُ الكبيرُ) و (الإيمانُ الأوسَطُ) لابن تَيميَّةَ (ت: 728 هـ).
    7. (أصولُ الإيمانِ) لمحمَّدِ بنِ عبدِ الوهَّابِ (ت: 1206 هـ).
    8. (التَّوضيحُ والبيانُ لشجَرةِ الإيمانِ) للسَّعديِّ (ت: 1376 هـ).

    : مؤلَّفاتُ عِلمِ التَّوحيدِ عِندَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ
    1. (التَّوحيدُ وإثباتُ صِفاتِ الرَّبِّ) لابنِ خزيمة (ت: 311هـ).
    2. (التَّوحيدُ ومَعرِفةُ أسماءِ اللهِ عزَّ وجَلَّ وصِفاتِه على الاتِّفاقِ والتفرُّدِ) لابنِ مَنْدَه (ت: 359هـ).
    3. (الأربعون في دلائِلِ التَّوحيدِ) للهَرَويِّ (ت: 481 هـ).
    4. (التَّوحيدُ لله عزَّ وجَلَّ) لعبدِ الغني المَقْدسيِّ (ت: 600 هـ).
    5. (التَّوحيدُ) لابنِ رَجَبٍ (ت: 795 هـ).
    6. (تجريدُ التَّوحيدِ المفيد) للمقريزيِّ (ت: 845 هـ).
    7. (الدُّرُّ النَّضيدُ في إخلاصِ كَلِمةِ التَّوحيدِ) للشَّوكاني (ت: 1205 هـ).
    8. (كتابُ التَّوحيدُ) لـمُحمَّدِ بنِ عبدِ الوهَّابِ (ت: 1206 هـ).
    9. (سُلَّم الوصولِ إلى عِلمِ الأُصولِ في التَّوحيدِ واتِّباعِ الرَّسولِ) لحافِظ الحَكَميِّ (ت: 1377 هـ).

    : مُسَمَّياتٌ أُخرى لكُتُبِ العقائِدِ
    لعِلمِ العقائِدِ مُسمَّياتٌ أخرى عند أهلِ السُّنَّةِ؛ مِثلُ: السُّنَّةِ  ، والشَّريعةِ  ، وأُصولِ الدِّينِ  ، والفِقهِ الأكبَرِ .
    ومن هذه الكُتُب:
    1. كتابُ (السُّنَّةِ) لأحمدَ بنِ حنْبل (ت: 241 هـ).
    2. (السُّنَّةُ) لابنِ أبي عاصِمٍ (ت: 287 هـ).
    3. (الإبانةُ عن أُصولِ الدِّيانةِ) لأبي الحَسَنِ الأشعَريِّ (ت: 324 هـ).
    4. (الشَّريعةُ) للآجُرِّي (ت: 360 هـ).
    5. (الإبانةُ عن شريعةِ الفِرقةِ النَّاجيةِ ومُجانَبةِ الفِرَقِ المذمومةِ)، و (الشَّرحُ والإبانةُ عن أصولِ الدِّيانةِ) لابنِ بَطَّة (ت: 387هـ).

    : حكمُ تعَلُّم عِلمِ العَقيدة والإيمانِ والتَّوحيدِ
    إنَّ تعَلُّمَ هذه العُلومِ بطَريقةٍ إجماليَّةٍ تَصِحُّ بها عقيدةُ المسلِمِ: فرضُ عينٍ على كلِّ مكَلَّفٍ مِن ذكَرٍ وأُنثى،
    وأمَّا المعرفةُ التَّفصيليَّةُ فهي فرضُ كفايةٍ، فإذا قام بعضُ المسلمينَ بدراسةِ تَفاصيلِ العقيدةِ، ومعرفةِ الأدلَّةِ النَّقليةِ والعَقليةِ ومعرفةِ الرَّدِّ على شُبُهاتِ المخالِفينَ؛ سَقَط الإثمُ عن الباقينَ .

    : فَضلُ عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ وفوائدُه

    1- تعلُّقُ عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ بأعظَمِ شَيءٍ، وهو اللهُ سُبحانَه وتعالى
    عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سُئِلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّ الأعمالِ أفْضَلُ؟ قالَ: ((إيمانٌ باللهِ ورَسولِه  )) .
    2- أنَّ جميعَ الرُّسُلِ دَعَوا أقوامَهم إلى التَّوحيدِ أوَّلًا
    كلُّ رُسُلِ اللهِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ قد دعَوا النَّاسَ إلى توحيدِ اللهِ وإخلاصِ عبادتِه؛ من أولِّهم نوحٍ عليه السَّلامِ، إلى آخِرِهم محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .
    قال الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] .
    وقال اللهُ سُبحانَه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] .
    3- أنَّ اللهَ تعالى أمَرَ بالتَّوحيدِ جميعَ العِبادِ
    قال اللهُ تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد: 19] .
    وقال اللهُ سُبحانَه: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة: 5] .
    4- أنَّ التَّوحيدَ حَقُّ اللهِ على العَبيدِ
    عن مُعاذٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((حقُّ اللهِ على عِبادِه أن يعبُدوه ولا يُشرِكوا به شَيئًا  )) .
    5- أنَّ التَّوحيدَ ملَّةُ أبينا إبراهيمَ عليه السَّلامُ التي أمَرَنا اللهُ باتِّباعِها
    قال اللهُ تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 123] .
    وهي أيضًا دعوتُه عليه السَّلامُ؛ قال اللهُ تعالى حاكيًا دعاءَهُ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ [إبراهيم: 35] .
    6- أنَّ التَّوحيدَ شَرطٌ لقَبولِ العَمَلِ
    جميعُ الأعمالِ والأقوالِ الظَّاهِرةِ والباطِنةِ متوقِّفةٌ في قَبولِها وفي كَمالِها، وفي ترتُّبِ الثَّوابِ عليها: على التَّوحيدِ، فكلَّما قَوِيَ التَّوحيدُ والإخلاصُ للهِ كمَلَت هذه الأمورُ وتمَّت.
    قال اللهُ تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ [الأنبياء: 94] .
    وقال اللهُ سُبحانَه: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء: 19] .
    وإذا جاء العبدُ بغير إيمانٍ فإنَّه يخسَرُ جميعَ عَمَلِه الصَّالحِ.
    قال اللهُ تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر: 65] .
    7- تحقيقُ السَّعادةِ لجَميعِ البَشَريَّةِ في الدُّنيا
    لا راحةَ ولا طُمأنينةَ ولا سعادةَ إلَّا بأن يَعرِفَ العَبدُ ربَّه بأسمائِه وصِفاتِه وأفعالِه من جهةٍ صحيحةٍ، صادِقةٍ ناصِحةٍ، وهي جِهةُ الوَحيِ.
    قال ابنُ تَيميَّةَ: (حاجةُ العَبدِ إلى الرِّسالةِ أعظَمُ بكثيرٍ من حاجةِ المريضِ إلى الطِّبِّ؛ فإنَّ آخِرَ ما يُقدَّرُ بعَدَمِ الطَّبيبِ مَوتُ الأبدانِ، وأمَّا إذا لم يحصُلْ للعَبدِ نورُ الرِّسالةِ وحياتِها، مات قلبُه موتًا لا ُترجى الحياةُ معه أبدًا، أو شَقِيَ شقاوةً لا سعادةَ معها أبدًا) .
    8- أنَّه يُسَهِّلُ على العَبدِ فِعلَ الخَيراتِ وتَرْكَ المُنكَراتِ ويُسَلِّيه عن المُصِيباتِ
    المُخلِصُ للهِ في إيمانِه وتَوحيدِه تخِفُّ عليه الطَّاعاتُ؛ لِما يرجو من ثوابِ ربِّه ورِضوانِه، ويَهونُ عليه تركُ ما تهواه النَّفسُ من المعاصي؛ لِما يَخشى من سَخَطِه وعِقابِه، وبحسَبِ تَكميلِ العَبدِ للتَّوحيدِ والإيمانِ يتلقَّى المكارِهَ والآلامَ بقَلبٍ مُنشَرحٍ، ونَفسٍ مُطمَئِنَّةٍ، وتسليمٍ ورضًا بأقدارِ اللهِ المُؤلِمةِ.
    9- أنَّ التَّوحيدَ يحرِّرُ الإنسانَ من عُبوديَّةِ المَخلوقينَ والتعلُّقِ بهم وخَوفِهم ورَجائِهم والعَمَلِ لأجْلِهم
    بالتَّوحيدِ والإيمانِ الصَّحيحِ يكونُ العبدُ متألِّهًا متعبِّدًا لله، لا يرجو سواه، ولا يخشى إلَّا إيَّاه، ولا يُنيبُ إلَّا إليه، وبذلك يتمُّ فلاحُه، ويتحقَّقُ نجاحُه.
    10- أنَّ اللهَ تكفَّلَ لأهلِ التَّوحيدِ والإيمانِ بالفَتحِ والنَّصرِ في الدُّنيا
    بالتَّوحيدِ يَحصُلُ العِزُّ والشَّرَفُ للمؤمنين، وبه تحصُلُ الهِدايةُ وتَيسيرُ الأُمورِ، ويتحقَّقُ صَلاحُ الأحوالِ، والتَّسديدُ في الأقوالِ والأفعالِ، وبه يَدفَعُ اللهُ عنهم شرورَ الدُّنيا والآخرةِ، ويمُنُّ عليهم بالحياةِ الطَّيِّبةِ.
    11- تحقيقُ الجَماعةِ والاجتِماعِ
    التَّوحيدُ هو الطَّريقةُ المُثْلى لجَمعِ شَملِ المُسلِمينَ ووَحدةِ صَفِّهم، وإصلاحِ ما فسَدَ مِن شُؤونِ دينِهم ودُنياهم، والتَّاريخُ شاهِدٌ على ذلك، فالدُّوَلُ التي قامت على السُّنَّةِ هي التي جمعت شَمْلَ المسلمينَ، وقام بها الجِهادُ، والأمرُ بالمعروفِ، والنَّهيُ عن المنكَرِ، وعزَّ بها الإسلامُ قديمًا وحديثًا.
    12- التَّوحيدُ يُثمِرُ الأمنَ التامَّ في الدُّنيا والآخِرةِ
    قال الله عزَّ وجلَّ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 82] .
    13- مضاعفةُ الحَسَناتِ
    إذا تحقَّق الإيمانُ في قَلبِ العبدِ تحقُّقًا كاملًا، فإنَّ القليلَ مِن عَمَلِه يصيرُ كثيرًا، وتتضاعَفُ أعمالُه وأقوالُه بغير حصرٍ ولا حسابٍ، وترجَحُ كَلِمةُ الإخلاصِ في مِيزانِه.
    قال الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النساء: 173] .
    وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا أحسنَ أحَدُكم إسلامَه فكلُّ حَسَنةٍ يعملُها تُكتبُ له بعَشْرِ أمثالِها إلى سَبعِمائةِ ضِعفٍ، وكلُّ سيئةٍ يَعمَلُها تُكتبُ له بمِثْلِها  )) .
    قال ابنُ رجب: (مضاعفةُ الحَسَناتِ زيادةً على العَشرِ تكونُ بحسَبِ حُسنِ الإسلامِ، كما جاء ذلك مصرَّحًا به في حديثِ أبي هُرَيرةَ وغَيرِه، وتكونُ بحسَبِ كمالِ الإخلاصِ، وبحسَبِ فَضلِ ذلك العَمَلِ في نَفْسِه، وبحسَبِ الحاجةِ إليه) .
    وعن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما يروي عن رَبِّه عزَّ وجلَّ قال: ((إنَّ الله كَتَب الحسَناتِ والسَّيِّئاتِ، ثمَّ بيَّن ذلك؛ فمن هَمَّ بحَسَنةٍ فلم يَعمَلْها كتَبَها اللهُ له عِندَه حَسَنةً كامِلةً، فإنْ هو هَمَّ بها فعمِلَها كَتَبها اللهُ له عنده عَشْرَ حَسَناتٍ إلى سَبعِمائةِ ضِعفٍ، إلى أضعافٍ كثيرةٍ  )) .
    قال ابنُ العربي: (ذلك من فَضلِ اللهِ على حسَبِ ما يَعلَمُ مِنَ الصِّدقِ في النيَّاتِ، وخُلوصِ الطَّوِيَّاتِ، والرَّغبةِ في الخيراتِ، والمواظَبةِ على الصَّالحاتِ) .
    وقال السَّعديُّ: (ومن أسبابِ المضاعَفةِ، وهو أصلٌ وأساسٌ لِما تقدَّمَ: صِحَّةُ العَقيدة، وقوَّةُ الإيمانِ باللهِ وصِفاتِه، وقوَّةُ إرادةِ العَبدِ، ورَغبتِه في الخَيرِ؛ فإنَّ أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ المحضةِ، وأهلَ العِلمِ الكامِلِ المفصَّلِ بأسماءِ اللهِ وصِفاتِه، وقوَّةِ لِقاءِ اللهِ: تُضَاعَفُ أعمالُهم مضاعفةً كبيرةً لا يحصُلُ مِثلُها ولا قريبٌ منها لمن لم يشارِكوهم في هذا الإيمانِ والعَقيدةِ؛ ولهذا كان السَّلَفُ يقولون: أهلُ السُّنَّةِ إن قعَدَت بهم أعمالُهم قامت بهم عقائدُهم، وأهلُ البِدَع إن كثُرَت أعمالُهم قَعَدت بهم عقائِدُهم( .
    14- التَّوحيدُ يغفرُ اللهُ به الذُّنوبَ ويُكَفِّرُ به السَّيِّئاتِ
    عن أبي ذرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ:... ومَن لَقِيَني بقُرابِ الأرض خطيئةً لا يُشرِكُ بي شَيئًا، لَقِيتُه بمِثْلِها مَغفِرةً  )) .
    15- التَّوحيدُ يُدخِلُ اللهُ به الجَنَّةَ
    عن عُبادةَ بنِ الصَّامتِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((من شَهِدَ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَه لا شريكَ له، وأنَّ مُحمَّدًا عبدُه ورَسولُه، وأنَّ عيسى عبدُ اللهِ ورسولُه، وكَلِمتُه ألقاها إلى مريمَ وروحٌ منه، وأن الجنَّةَ حقٌّ، وأنَّ النَّارَ حقٌّ- أدخَلَه اللهُ الجنَّةَ على ما كان مِنَ العمَلِ  )) .
    وعن جابرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((من مات لا يُشرِكُ باللهِ شَيئًا دَخَل الجنَّةَ  )) .
    16- التَّوحيدُ يمنَعُ مِن دُخولِ النَّارِ
    عن عتبانَ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((... فإنَّ اللهَ حرَّم على النَّارِ مَن قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ، يبتغي بذلك وَجْهَ اللهِ  )) .
    وعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا دَخَلَ أهلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، وأهلُ النَّارِ النَّارَ، يقولُ اللهُ: مَن كانَ في قَلبِه مِثقالُ حَبَّةٍ مِن خَرْدَلٍ مِن إيمانٍ فأخْرِجُوه  )) .
    17- نَيلُ شفاعةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
    عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أسعدُ النَّاسِ بشَفاعتي يومَ القيامةِ من قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ، خالِصًا مِن قَلْبِه أو نَفْسِه ))  .

    :

    بدايةُ ظُهورِ عَقيدةِ التَّوحيدِ

    - عَقيدةُ التَّوحيدِ هي دينُ الفِطرةِ التي فَطَر اللهُ النَّاسَ عليها
    قال اللهُ تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الروم: 30] .
    - وآدمُ عليه السَّلامُ قد فطره اللهُ على العَقيدةِ السَّليمةِ، فكان مُوحِّدًا لله تعالى مُعتَقِدًا لله ما يجِبُ له من التَّعظيمِ والطَّاعةِ.
    قال اللهُ تعالى حاكِيًا دُعاءَ آدَمَ وحَوَّاءَ عليهما السَّلامُ: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23] ، فلم يَدْعُوَا غَيرَ اللهِ سُبحانَه، وأنابَا إليه؛ لاعتِقادِهما الصَّحيحِ أنَّ اللهَ يَسمَعُ ويَعلَمُ ويَقْدِرُ، وأنَّه وَحْدَه الذي يَغفِرُ الذُّنوبَ ويَرحَمُ عِبادَه.
    - وقد أخَذَ اللهُ على بني آدَمَ العَهدَ والمِيثاقَ بأنَّه رَبُّهم، وأشهَدَهم بذلك على أنفُسِهم.
    قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف: 172-173] .
    - والنَّاسُ كُلُّهم يُولَدونَ على الفِطرةِ ويَنشَؤونَ عليها ما لم تَصْرِفْهم عنها صوارِفُ الشَّرِّ والضَّلالِ
    عن عِياضٍ المُجاشِعيِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالَ: ((أَلَا إنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ ما جَهِلْتُمْ ممَّا عَلَّمَنِي يَومِي هذا: كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ، وإني خلقتُ عبادي حُنَفاءَ كُلَّهم، وإنَّهم أَتَتْهم الشَّياطينُ فاجتالَتْهم عن دينِهم، وحَرَّمَتْ عليهم ما أحلَلْتُ لهم، وأمَرَتْهم أن يُشرِكوا بي ما لم أُنزِلْ به سُلطانًا...  )) . الحديث.
    وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما من مولودٍ إلَّا يُولَدُ على الفِطرةِ، فأبواه يهَوِّدانِه، أو ينَصِّرانِه، أو يُمجِّسانِه )) .
    فعَقيدةُ التَّوحيدِ هي الأصلُ الذي كان عليه آدَمُ -عليه السَّلامُ- والأجيالُ الأولى من ذُرِّيَّتِه
    قال الله تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [البقرة: 213] .
    أي: إنَّ النَّاس كانوا مجتَمِعين منذ عهدِ آدمَ عليه السَّلامُ على دِينٍ واحدٍ، هو دينُ الإسلامِ، وظلُّوا على ذلك مدَّةَ عَشرةِ قرونٍ، فاختلَفوا في دِينهم حتى عبَدوا الأصنامَ، فبعَث الله النَّبيِّين ينهَوْن عن ذلك الكُفرِ، مُبشِّرين مَن أطاعهم بالجنَّةِ، ومُنذِرين مَن عصاهم بالنَّارِ، وكان أوَّلَهم نوحٌ عليه السَّلامُ .
    عن عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّه قال: (كان بين نوحٍ وآدمَ عشرةُ قرونٍ، كلُّهم على شريعةٍ من الحَقِّ، فاختلفوا؛ فبعث اللهُ النبيِّينَ مُبشِّرينَ ومُنذِرينَ) .
    قال ابنُ تَيميَّةَ: (لم يكُنِ الشِّركُ أصلًا في الآدميِّينَ، بل كان آدَمُ ومن كان على دينِه من بنيه على التَّوحيدِ لله؛ لاتِّباعِهم النبُوَّةَ؛
    قال اللهُ تعالى: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا [يونس: 19] .
    قال ابنُ عباس: "كان بين آدَمَ ونوحٍ عَشرةُ قرونٍ كلُّهم على الإسلامِ
    فبتركِهم اتِّباعَ شريعةِ الأنبياءِ وَقَعوا في الشِّركِ، لا بوُقوعِهم في الشِّركِ خرجوا عن شريعةِ الإسلامِ؛ فإن آدَمَ أمرَهم بما أمَرَه اللهُ به؛ حيث قال له: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 38، 39] .

    : عَقيدةُ التَّوحيدِ هي دَعوةُ الرُّسُلِ عامَّةً


    اتَّفق جميعُ الرُّسُلِ عليهم السَّلامُ على الدَّعوةِ إلى عبادةِ اللهِ وَحْدَه لا شريكَ له، واجتنابِ الشِّركِ.
    قال الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] .
    وقال الله سُبحانَه: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ [النحل: 2] .
    ونوحٌ عليه السَّلامُ قال لقَومِه: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 59] .
    وهود عليه السَّلامُ قال لقَومِه: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 65] .
    وصالحٌ عليه السَّلامُ قال لقَومِه: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 73] .
    وإبراهيمُ عليه السَّلامُ قال لقَومِه: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ [العنكبوت: 16] .
    وشعيبٌ عليه السَّلامُ قال لقَومِه: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 85] .
    وعيسى عليه السَّلامُ قال لقَومِه: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [آل عمران: 51] .
    قال ابنُ تَيميَّةَ: (فإنَّ الرُّسُلَ جميعَهم أُمِروا بالتَّوحيدِ وأَمَروا به؛
    قال اللهُ تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] ، فبَيَّن أنَّه لا بدَّ أن يوحيَ بالتَّوحيد إلى كلِّ رسولٍ،
    وقال الله تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف: 45] ، فبَيَّن أنَّه لم يَشرَعِ الشِّركَ قَطُّ، فهذان النصَّانِ قد دلَّا على أنَّه أمَرَ بالتَّوحيدِ لكلِّ رَسولٍ، ولم يأمُرْ بالإشراكِ قَطُّ، وقد أمر آدَمَ وبَنِيه من حينِ أُهبِطَ باتِّباعِ هُداه الذي يوحيه إلى الأنبياءِ؛ فثَبَت أنَّ عِلَّةَ الشِّركِ كان من تَرْكِ اتِّباعِ الأنبياءِ والمرَسلينَ فيما أُمِروا به من التَّوحيدِ والدِّينِ) .

    : عَقيدةُ التَّوحيدِ في دَعوةِ نبيِّنا مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم

    أغلَبُ آياتِ القُرآنِ الكريمِ جاءت في تقريرِ عَقيدةِ التَّوحيدِ، والدَّعوةِ إلى إخلاصِ العبادةِ للهِ وَحْدَه لا شريكَ له؛ إمَّا بصريحِ العِبارةِ، أو بالإشارةِ.
    إنَّ مُعظَمَ آياتِ القُرآنِ الكريمِ جاءت في تقريرِ تَوحيدِ الألوهيَّةِ، وتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ والأسماءِ والصِّفاتِ، وأُصولِ الإيمانِ والإسلامِ، وأُمورِ الغَيبِ، والقَدَرِ؛ خَيرِه وشرِّه، واليومِ الآخِرِ، والجنَّةِ وأهْلِها ونَعيمِها، والنَّارِ وأهْلِها وعَذابِها. وأصولُ العَقيدةِ تدورُ حولَ هذِه الأُمورِ.
    ومن أوائِلِ ما نزل به القرآنُ، وأمَرَ اللهُ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يفعَلَه: أن يكَبِّرَ اللهَ تعالى ويعظِّمَه وَحْدَه، وأن يُنذِرَ النَّاسَ مِن الشِّركِ، وأن يتطهَّرَ من الآثامِ والذُّنوبِ وغيرِها، ويهجُرَ ما هم عليه من عبادةِ الأصنامِ، ويَصبِرَ على ذلك كُلِّه.
    قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِر [المدثر: 1 - 7]
    وقد ذكر العُلَماءُ أنَّ القرآنَ: ثلثٌ أحكامٌ، وثلثٌ أخبارٌ، وثلثٌ توحيدٌ . وهذا ما فسَّروا به قَولَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ تعدِلُ ثُلُثَ القرآنِ)) .
    وآياتُ الأحكامِ لا تخلو من ذِكْرٍ للعَقيدةِ وأُصولِ الدِّينِ، وذلك من خِلالِ ذِكرِ أسماءِ اللهِ وصفاتِه، وطاعتِه وطاعةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وذِكرِ حِكَمِ التَّشريعِ، ونحوِ ذلك.
    وكذلك آياتُ الأخبارِ والقَصَص أغلَبُها في الإيمانِ والاعتقادِ، مِن خلالِ أخبارِ المغيَّباتِ والوعيدِ واليومِ الآخِرِ، ونحوِ ذلك.

    قال ابنُ القَيِّمِ: (الاعتناءُ في السُّوَرِ المكَيَّةِ إنَّما هو بأصولِ الدِّين؛ِ من تقريرِ التَّوحيدِ، والمَعَاد، والنُّبوَّةِ، وأمَّا تقريرُ الأحكامِ والشَّرائعِ فمَظِنَّتُه السُّوَرُ المدنيَّةُ) .
    وقد كان غالِبُ وَقتِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في عهدِ النُّبُوَّةِ في تقريرِ الاعتقادِ الصَّحيحِ، فالرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قضى ثلاثًا وعِشرينَ سَنةً في الدَّعوةِ إلى اللهِ؛ منها ثلاثَ عَشرةَ سنةً في مكَّةَ، كانت في الدَّعوةِ إلى توحيدِ الله تعالى، ونَبْذِ الشِّركِ والمعتَقَداتِ الفاسِدةِ،
    ومنها عَشرُ سِنينَ في المدينةِ كانت موزَّعةً بين تَشريعِ الأحكامِ، وتثبيتِ العَقيدةِ، والحِفاظِ عليها، وحمايتِها من الشُّبُهاتِ، والجهادِ في سَبيلِها، أي: أنَّ أغلَبَها كذلك في تقريرِ عَقيدة التَّوحيدِ، وأصولِ الدِّينِ، ومن ذلك مجادَلةُ أهلِ الكِتابِ، وبيانُ بُطلانِ مُعتَقَداتِهم المحرَّفةِ، والتَّصَدِّي لشُبهاتِهم وشُبُهاتِ المنافِقينَ، وصَدُّ كَيدِهم للإسلامِ والمسلِمينَ، وكُلُّ هذا من حمايةِ العَقيدةِ.
    وقد قاتَلَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم النَّاسَ على عَقيدة التَّوحيدِ؛ حتى يكونَ الدِّينُ للهِ وَحْدَه، رَغْمَ أنَّ سائِرَ المفاسِدِ والشُّرورِ كانت سائِدةً في ذلك الوَقتِ،
    فجَعل رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الغايةَ من قتالِ النَّاسِ تحقيقَ التَّوحيدِ وأركانِ الإسلامِ؛ لأن مدارَ الخيرِ على صَلاحِ العَقيدةِ، فإذا صلَحَت استقام النَّاسُ على الحقِّ والخَيرِ، وإذا فسَدَت فسدَت أحوالُ النَّاسِ، واستحكَمَت فيهم الأهواءُ والآثامُ، وسَهُلت عليهم المنكَراتُ.
    عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أُمِرتُ أن أقاتِلَ النَّاسَ حتى يَشهَدوا أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ مُحمَّدًا رسولُ اللهِ، ويُقيموا الصَّلاةَ، ويُؤتُوا الزَّكاةَ، فإذا فعلوا ذلك عَصَموا منِّي دماءَهم إلَّا بحقِّ الإسلامِ، وحِسابُهم على اللهِ )) .

    : مِن خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: سَلامةُ المَصدَرِ

    عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ مُعتَمِدةٌ على الكِتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ السَّلَفِ فحَسْبُ، كما أنَّها تتميَّزُ باتِّصالِ سنَدِها بالرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والصَّحابةِ والتَّابعين وأئمَّةِ الهدى.
    وهذه الخاصيَّةُ لا توجَدُ في مذاهبِ أهلِ الكلام والصوفيَّةِ الذين يعتَمِدونَ على العَقلِ والنَّظَرِ، أو على الكَشْفِ والحَدْسِ والإلهامِ والوَجْدِ، أو عن طريقِ أشخاصٍ يَزعُمونَ لهم العِصمةَ، وليسوا بأنبياءَ، أو يدَّعون لهم الإحاطةَ بعِلمِ الغَيبِ مِن أئمَّةٍ أو رُؤساءَ أو أولياءَ أو أقطابٍ أو أغواثٍ أو غَيرِهم، أو يزعُمونَ أنَّه يسَعُهم العَمَلُ بأنظِمةِ البشَرِ وقَوانينِهم المخالفةِ لشريعةِ اللهِ سبحانه.

    قال ابنُ تَيميَّةَ: (... بهذا يتبيَّنُ أنَّ أحَقَّ النَّاسِ بأن تكونَ هي الفِرقةَ النَّاجيةَ أهلُ الحديثِ والسُّنَّةِ، الذين ليس لهم مَتبوعٌ يتَعصَّبونَ له إلَّا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهم أعلَمُ النَّاسِ بأقوالِه وأحوالِه، وأعظمُهم تمييزًا بين صَحيحِها وسَقيمِها، وأئمَّتُهم فُقهاءُ فيها، وأهلُ مَعرفةٍ بمعانيها، واتِّباعًا لها؛ تصديقًا وعَمَلًا، وحبًّا وموالاةً لِمَن والاها، ومُعاداةً لِمَن عاداها... لا يَنصِبونَ مَقالةً ويَجعَلونَها من أصولِ ديِنهم وجُمَل كلامِهم، إن لم تكُنْ ثابتةً فيما جاء به الرَّسولُ، بل يجعلونَ ما بُعِثَ به الرَّسولُ من الكِتابِ والحِكمةِ هو الأصلَ الذي يَعتَقِدونَه ويَعتَمِدونَه، وما تنازعَ فيه النَّاسُ من مسائِلِ الصِّفاتِ والقَدَرِ والوَعيدِ والأسماءِ، والأمرِ بالمعروفِ، والنَّهيِ عن المنكَرِ، وغيرِ ذلك: يردُّونَه إلى اللهِ ورَسولِه، ويُفَسِّرون الألفاظَ المجمَلةَ التي تنازَعَ فيها أهلُ التفَرُّقِ والاختلافِ؛ فما كان من معانيها مُوافِقًا للكِتابِ والسُّنَّةِ أثبتوه، وما كان منها مخالِفًا للكِتابِ والسُّنَّةِ أبطَلوه؛ ولا يتَّبِعونَ الظَّنَّ وما تهوى الأنفُسُ؛ فإنَّ اتِّباعَ الظَّنِّ جَهلٌ، واتِّباعَ هوى النَّفسِ بغيرِ هدًى مِنَ اللهِ: ظلمٌ) .

    وقال ابنُ القَيِّم: (مِن كَيدِه بهم وتحيُّلِه على إخراجِهم من العِلمِ والدِّينِ: أن ألقى على ألسِنَتِهم أنَّ كلامَ اللهِ ورَسولِه ظواهِرُ لفظيَّةٌ لا تفيدُ اليقينَ، وأوحى إليهم أنَّ القواطعَ العقليَّةَ والبَراهينَ اليقينيَّةَ؛ في المناهِجِ الفَلسفيَّةِ والطُّرُقِ الكلاميَّةِ! فحالَ بينهم وبيْن اقتباسِ الهُدى واليقينِ مِن مِشْكاةِ القُرآنِ، وأحالهم على مَنطِقِ اليونانِ، وعلى ما عِندَهم من الدَّعاوى الكاذِبةِ العَرِيَّة عن البُرهانِ، وقال لهم: تلك علومٌ قديمةٌ صَقَلَتها العُقولُ والأذهانُ، ومَرَّتْ عليها القُرونُ والأزمانُ! فانظُرْ كيف تلطَّف بكَيدِه ومَكْرِه حتى أخرَجَهم من الإيمانِ والدِّينِ، كإخراجِ الشَّعرةِ مِنَ العَجِين؟!
    ومِن كَيدِه: ما ألقاه إلى جُهَّالِ المتصوِّفةِ مِنَ الشَّطحِ والطَّامَّاتِ، وأبرزه لهم في قالَبِ الكَشفِ من الخيالاتِ؛ فأوقَعَهم في أنواعِ الأباطيلِ والتُّرَّهاتِ، وفَتَح لهم أبوابَ الدَّعاوى الهائِلاتِ، وأوحى إليهم أنَّ وراءَ العِلمِ طَريقًا إنْ سلكوه أفضى بهم إلى كَشْفِ العِيانِ، وأغناهم عن التقيُّدِ بالسُّنَّةِ والقُرآنِ
    ) .
    -----------------------------------------------------------------------
    التالي : - من خَصائصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: قِيامُها على التَّسليمِ للهِ ولِرَسولِه
    -
    تابعونا جزاكم الله خيرا


    عدل سابقا من قبل صادق النور في الخميس نوفمبر 16, 2023 2:18 pm عدل 1 مرات

    صادق النور و انهار الجنه يعجبهم هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5203
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

     مَبادِئ عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ - عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ وفوائدُه - خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ  - أصول عقيدة أهل السنه والجماعه                                                                        Empty رد: مَبادِئ عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ - عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ وفوائدُه - خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ - أصول عقيدة أهل السنه والجماعه

    مُساهمة من طرف صادق النور الخميس نوفمبر 16, 2023 2:16 pm




    : من خَصائصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: قِيامُها على التَّسليمِ للهِ ولِرَسولِه

    عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ قائِمةٌ على التَّسليمِ لله تعالى، ولِرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّها غيبٌ، والتَّسليمُ بالغَيبِ مِن صِفاتِ المؤمِنينَ التي مدَحَهم اللهُ بها،
    كما قالَ سبحانه: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 2-3] .
    والغَيبُ أمرٌ لا تُدرِكُه العقولُ ولا تُحيُط به، ومن هنا فأهلُ السُّنَّةِ يَقِفون في أمرِ العَقيدةِ على ما جاء عن اللهِ سبحانه وعن رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بخِلافِ أهلِ البِدَعِ والكَلامِ؛ فهم يخوضون في ذلك رجمًا بالغَيبِ، وأنَّى لهم أن يُحيطوا بعِلمِ الغَيبِ؟!
    فلا هم أراحوا عُقولَهم بالتَّسليمِ، ولا عَقائِدَهم وذِمَمَهم بالاتِّباعِ، ولا تركوا عامَّةَ أتباعِهم على الفِطرةِ التي فَطَرَهم اللهُ عليها!
    فالغيبيَّةُ هي إحدى الرَّكائزِ الكُبرى في العَقيدةِ؛ حيث إنَّ كثيرًا مِن مَسائِلِ العَقيدةِ وقَضاياها يقعُ في نِطاقِ الغَيبِ،

    وهذه الخاصيَّةُ لها شواهِدُ كثيرةٌ في الشَّرعِ؛ فمن ذلك:
    1- أنَّ اللهَ ذكَرَها كصفةٍ من صفاتِ المؤمِنينَ اللَّازِمةِ.
    قال اللهُ تعالى: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: 1-3] .
    2- ما ورد في فَضلِ المؤمِنينَ بالغَيبِ وعِظَمِ أجْرِهم.
    قال الله تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 179]

    قال ابنُ القَيِّمِ معلِّقًا على هذه الآيةِ: (فحَظُّكم أنتم وسعادتُكم: في الإيمانِ بالغَيبِ الذي يُطلِعُ عليه رُسُلَه، فإن آمنتُم به وأيقنتُم، فلكم أعظمُ الأجرِ والكرامةِ) .

    : من خَصائِصِ عقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ: الوضوحُ والبيانُ

    تمتازُ عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ بالوُضوحِ والبيانِ؛ فهي خاليةٌ من التعارُضِ، وسالِمةٌ من التَّناقُضِ والغُموضِ، والفَلسفةِ والتعقيدِ في ألفاظِها ومعانيها؛ لأنها مُستَمَدَّةٌ من كلامِ الله المُبِينِ، ومن كلامِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الذي لا يَنطِقُ عن الهوى،
    في حينِ أنَّ المعتَقَداتِ الأُخرى هي من تخليطِ البشَرِ أو تأويلِهم وتحريفِهم؛ ولذلك تأتي مُبهَمةً وغامِضةً، وتكونُ مَليئةً بالتَّناقُضاتِ.
    وأصدقُ مِثالٍ على ذلك: ما حَصَل لعَدَدٍ من أئمَّةِ عِلمِ الكَلامِ والفَلسَفةِ والتصَوُّفِ؛ من اضطرابٍ وتقلُّبٍ ونَدَمٍ؛ بسبَبِ مجانبَتِهم لعَقيدةِ السَّلَفِ، ورُجوعِ كثيرٍ منهم إلى التَّسليمِ، وتقريرِ ما يعتَقِدُه السَّلَفُ، خاصَّةً عند التقَدُّمِ في السِّنِّ، أو عندَ الموتِ .

    : من خصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: البقاءُ والثَّباتُ والاستِقرارُ

    عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ مُستقِرَّةٌ ومحفوظةٌ رِوايةً ودرايةً، في ألفاظِها ومعانيها، تتناقَلُها الأجيالُ جيلًا بعد جِيلٍ، لم يتطرَّقْ إليها التَّبديلُ ولا التَّحريف، ولا الزِّيادةُ ولا النَّقْصُ.
    ومن أسبابِ ذلك: أنَّها مُستَمَدَّةٌ مِن كتابِ اللهِ الذي لا يأتيه الباطِلُ من بينِ يَدَيه ولا مِنْ خَلْفِه، ومِن سُنَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الذي لا يَنطِقُ عن الهوى، وقد تلقَّاها الصَّحابةُ ثمَّ التَّابِعونَ، وتابِعوهم، وأئمَّةُ الهدى المستَمسِكونَ بهَدْيِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى اليَومِ، روايةً ودرايةً، تلقينًا وكتابةً.

    : من خصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: العَقلانيَّةُ

    يُقصَدُ بالعقلانيَّةِ الموافَقةُ للعَقلِ الصَّريحِ.
    قال ابنُ تَيميَّةَ: (والأنبياءُ صَلواتُ اللهِ عليهم وسَلامُه مَعصومونَ، لا يقولونَ على اللهِ إلَّا الحَقَّ، ولا يَنقلونَ عنه إلَّا الصِّدقَ، فمَنِ ادَّعى في أخبارِهم ما يُناقِضُ صريحَ المعقولِ، كان كاذِبًا، بل لا بُدَّ أن يكونَ ذلك المعقولُ ليس بصَريحٍ، أو ذلك المنقولُ ليس بصَحيحٍ، فما عُلِمَ يقينًا أنَّهم أخبَروا به يمتَنِعُ أن يكونَ في العَقلِ ما يُناقِضُه، وما عُلِم يقينًا أنَّ العَقلَ حَكَم به يمتَنِعُ أن يكونَ في أخبارِهم ما يُناقِضُه، بل الأنبياءُ عليهم السَّلامُ قد يُخبِرونَ بما يَعجِزُ العَقلُ عن مَعرفتِه، لا بما يَعلَمُ العَقلُ بُطلانَه، فيُخبِرونَ بمحاراتِ العُقولِ، لا بمُحالاتِ العُقولِ) .
    وقال أيضًا: (ما جاء عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هذا البابِ وغَيرِه كلُّه حَقٌّ، يصدِّقُ بعضُه بعضًا، وهو موافِقٌ لفِطرةِ الخلائِقِ، وما جُعِلَ فيهم من العُقولِ الصَّريحةِ والقُصودِ الصَّحيحةِ؛ لا يخالِفُ العَقلَ الصَّريحَ، ولا القَصدَ الصَّحيحَ، ولا الفطرةَ المستقيمةَ، ولا النَّقلَ الصَّحيحَ الثَّابتَ عن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإنَّما يظُنُّ تعارُضَها من صدَّق بباطلٍ من النُّقولِ،
    أو فَهِمَ منه ما لم يَدُلَّ عليه، أو اعتقَدَ شيئًا ظَنَّه مِن العَقليَّاتِ وهو من الجَهليَّاتِ، أو من الكُشوفاتِ وهو من الكُسوفاتِ، إن كان ذلك مُعارِضًا لمنقولٍ صَحيحٍ، وإلَّا عارَضَ بالعَقلِ الصَّريحِ أو الكَشْفِ الصَّحيحِ ما يظُنُّه منقولًا عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويكونُ كَذِبًا عليه، أو ما يظنُّه لفظًا دالًّا على شيءٍ، ولا يكونُ دالًّا عليه
    ) .

    : مِن خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ: الفِطريَّةُ

    عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ سهلةٌ لا عُسرَ فيها ولا تعقيدَ، فهي موافقةٌ للفطْرةِ.
    قال الله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم: 30] .
    قال ابنُ كثير رحمه الله: (فإنَّه تعالى فَطَر خَلْقَه على معرفتِه وتوحيدِه، وأنَّه لا إلهَ غيرُه) .
    وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((كُلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفِطرةِ، فأبواه يُهَوِّدانِه أو يُنَصِّرانِه أو يمَجِّسانِه، كمَثَلِ البَهيمةِ تُنتَجُ البهيمةَ، هل ترى فيها جَدْعاءَ؟ )) .
    فالإيمانُ فِطريٌّ عند أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ؛ فالمقلِّدون من العوامِّ الذين ليس لهم أهليَّةُ النَّظَرِ والاستدلالِ مُسلِمونَ وإن عجزوا عن إقامةِ الأدِلَّةِ، وإيضاحِ البراهينِ.
    وقد وردت النُّصوصُ وأقوالُ السَّلَفِ وأهلِ السُّنَّةِ بالنَّهيِ عن الغلوِّ والتَّشدُّدِ في أمرِ الدِّينِ أصولًا وفُروعًا، والنَّهيِ عن التكَلُّفِ في طَلَب علمِ ما حُجِبَ عِلمُه.

    : من خصائِصِ عقيدةِ أهلِ السُّنَّة والجماعةِ: الشُّموليَّةُ

    يتَّضِحُ شمولُ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في الأُمورِ الثَّلاثةِ الآتية:
    الأوَّلُ: شمولُ العبادةِ، فالعبادةُ: اسمٌ جامعٌ لكُلِّ ما يحبُّه اللهُ ويرضاه من الأقوالِ والأفعالِ الظَّاهرةِ والباطِنةِ.
    فالعِبادةُ تَشمَلُ العباداتِ القَلبيَّةَ؛ كالمحبَّةِ، والخوفِ، والرَّجاءِ، والتوكُّلِ، وتَشمَلُ العباداتِ القوليَّةَ؛ كالذِّكرِ، والأمرِ بالمعروفِ، والنَّهيِ عن المنكَرِ، وقراءةِ القُرآنِ، وتَشمَلُ العباداتِ الفِعليَّةَ؛ كالصَّلاةِ، والصَّومِ، والحَجِّ، وتَشمَلُ العباداتِ الماليَّةَ؛ كالزَّكاةِ، وصَدَقةِ التطَوُّعِ.
    وتَشمَلُ كذلك الشَّريعةَ كُلَّها؛ فإنَّ العبدَ إذا اجتَنَب المحرَّماتِ، وفَعَل الواجباتِ والمندوباتِ والمباحاتِ مبتغيًا بذلك وَجْهَ الله تعالى، كان فِعْلُه ذلك عبادةً يثابُ عليها.
    الثَّاني: أنَّها تَشمَلُ عَلاقةَ العَبدِ برَبِّه، وعلاقةَ الإنسانِ بغَيرِه مِنَ البَشَرِ، وذلك في مباحثِ التَّوحيدِ بأنواعِه الثَّلاثةِ، وفي مَبحَثِ الوَلاءِ والبراءِ وغَيرِها.
    الثَّالِثُ: أنَّها تَشمَلُ حالَ الإنسانِ في الحياةِ الدُّنيا، وفي الحياةِ البَرزخَّيةِ (القَبرِ)، وفي الحياةِ الأُخرويَّةِ.


    : مِن خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: الوَسَطيَّةُ

    عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ وسَطٌ بين عقائِدِ فِرَقِ الضَّلالِ؛ ففي كُلِّ بابٍ مِن أبوابِ العَقيدةِ هي وسَطٌ بين فريقينِ آراؤُهما متضادَّةٌ، أحدُهما غلا في هذا البابِ، والآخَرُ قَصَّرَ فيه.
    قال ابنُ القَيِّمِ: (لا تجِدُ أهلَ الحَقِّ دائمًا إلَّا وسَطًا بين طرفيِ الباطِلِ، وأهلُ السُّنَّةِ وسَطٌ في النِّحَلِ، كما أنَّ المُسلِمينَ وَسَطٌ في المِلَلِ) .
    وهذه خمسةُ أُصولٍ عَقَديَّةٍ، يتبيَّنُ منها وسطيَّةُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ بَيْنَ الفِرَقِ الأُخرى:
    الأصل الأوَّلُ: بابُ العباداتِ
    توسَّط أهلُ السُّنَّةِ في هذا البابِ بَيْنَ الرَّافضةِ والصُّوفيَّةِ، وبين الدُّروزِ والنُّصَيريِّينَ.
    فالرَّافِضةُ والصُّوفيَّةُ يَعبُدونَ اللهَ بما لم يَشرَعْه مِنَ الأذكارِ والتوسُّلاتِ، وإقامةِ الأعيادِ والاحتِفالاتِ البِدْعيَّةِ، والبِناءِ على القُبورِ، والصَّلاةِ عِندَها، والطَّوافِ بها، والذَّبحِ عِندَها، وكثيرٌ منهم يَعبُدُ أصحابَ القُبورِ بالذَّبحِ لهم، أو دُعائِهم بأن يَشفَعوا له عِندَ اللهِ، أو يَجلِبوا له مَرغوبًا، أو يَدفَعوا عنه مَرهوبًا.
    والدُّروزُ والنُّصَيريُّونَ -الذين يُسَمَّونَ العَلَويِّينَ- تَركوا عبادةَ اللهِ بالكُلِّيَّةِ؛ فلا يُصَلُّونَ، ولا يَصومون، ولا يزكُّونَ، ولا يحجُّونَ... إلخ.
    أمَّا أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ فيَعبُدونَ اللهَ بما جاء في كِتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلم يَترُكوا ما أوجَبَ اللهُ عليهم من العباداتِ، ولم يَبتَدِعوا عباداتٍ من تِلقاءِ أنفُسِهم ؛ عَمَلًا بقَولِ الله تعالى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف: 3] ،
    وبقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن أحدَثَ في أمْرِنا هذا ما ليس منه، فهو رَدٌّ )) ، وفي روايةٍ: ((مَن عَمِلَ عَمَلًا ليس عليه أمرُنا، فهو رَدٌّ)) ، وقَولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في خُطبتِه: ((أمَّا بَعدُ، فإنَّ خيرَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرَ الهَدْيِ هَدْيُ محمَّدٍ، وشرَّ الأمورِ مُحدَثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ )) .
    الأصلُ الثَّاني: بابُ أسماءِ اللهِ وصِفاتِه
    توسَّط أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ في هذا البابِ بَيْنَ المعَطِّلةِ وبين المَمَثِّلةِ.
    فالمُعَطِّلةُ منهم من يُنكِرُ الأسماءَ الحُسْنَى والصِّفاتِ الإلهيَّةَ، كالجَهْميَّةِ.
    ومنهم من يُنكِرُ الصِّفاتِ، كالمعتَزِلةِ.
    ومنهم من يُنكِرُ أكثَرَ الصِّفاتِ ويؤَوِّلها، كالأشاعِرةِ.
    وأمَّا أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ فإنَّهم يُؤمِنونَ بجَميعِ أسماءِ اللهِ وصِفاتِه الثَّابتةِ في النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ، فيُسمُّون اللهَ سُبحانَه بأَسمائِه الحُسْنَى، ولا يُلحِدونَ فيها، ويَصِفون اللهَ تعالى بما وَصَف به نَفْسَه، وبما وصَفَه به أعرَفُ الخَلقِ به؛ رسولُه محمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، من غيرِ تَعطيلٍ ولا تأويلٍ، ومِن غيرِ تمثيلٍ ولا تكييفٍ، ويؤمِنونَ بأنَّها صِفاتٌ حقيقيَّةٌ تليقُ بجَلالِ اللهِ تعالى، ولا تُماثِلُ صفاتِ المخلوقينَ، عملًا بقَولِه تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11] .
    الأصلُ الثَّالِثُ: بابُ القَضاءِ والقَدَرِ
    توسَّط أهلُ السُّنَّة والجماعةِ في هذا البابِ بين القَدَريَّة والجَبريَّةِ.
    فالقَدَريَّةُ نَفَوا القَدَرَ، فقالوا: إنَّ أفعالَ العِبادِ وطاعاتِهم ومَعاصيَهم لم تدخُلْ تحتَ قضاءِ الله وقَدَرِه، فاللهُ تعالى -على زَعْمِهم- لم يخلقْ أفعالَ العبادِ، ولا شاءَها منهم، بل العِبادُ مُستَقِلُّونَ بأفعالِهم، فالعبدُ على زَعْمِهم هو الخالِقُ لفِعْلِه، وهو المريدُ له إرادةً مُستقلَّةً، فأثبتوا خالِقًا مع اللهِ سُبحانَه، وهذا إشراكٌ في الرُّبوبيَّةِ، ففيهم شَبَهٌ من المجوسِ الذين قالوا بأن َّللكونِ خالقَينِ، فهم (مجوسُ هذه الأمَّةِ).
    والجَبْريَّةُ غَلَوا في إثباتِ القَدَرِ، فقالوا: إنَّ العبدَ مجبورٌ على فِعْلِه، فهو كالرِّيشةِ في الهواءِ، لا فِعْلَ له، ولا قُدرةَ، ولا مَشيئةَ.
    فهدى اللهُ أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ للقَولِ الحقِّ والوسَطِ في هذا البابِ؛ فأثبَتوا أنَّ العِبادَ فاعِلونَ حَقيقةً، وأنَّ أفعالَهم تُنسَبُ إليهم على جِهةِ الحقيقةِ، وأنَّ فِعلَ العَبدِ واقعٌ بتَقديرِ اللهِ ومَشيئتِه وخَلْقِه؛ فاللهُ تعالى خالقُ العبادِ وخالِقُ أفعالِهم،
    كما قال سُبحانَه: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 96] ، كما أنَّ للعِبادِ مَشيئةً تحتَ مَشيئةِ اللهِ، كما قال اللهُ تعالى: وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير: 29] .
    الأصلُ الرَّابِعُ: بابُ الوَعدِ والوَعيدِ
    توسَّطَ أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ في هذا البابِ بيْن الوعيديَّةِ وبيْن المُرجِئةِ.
    فالوعيديَّةُ يُغَلِّبونَ نُصوصَ الوَعيدِ على نُصوصِ الوَعدِ، ومنهم الخوارجُ الذين يَرَون أنَّ فاعِلَ الكبيرةِ من المُسلِمينَ -كالزَّاني وشاربِ الخَمرِ- كافرٌ مخلَّدٌ في النَّارِ.
    والمُرجِئةُ غَلَّبوا نصوصَ الرَّجاءِ على نُصوصِ الوَعيدِ، فقالوا: إنَّ الإيمانَ هو التَّصديقُ القَلبيُّ، وأنَّ الأعمالَ ليست من الإيمانِ، فلا يضُرُّ مع الإيمانِ مَعصيةٌ، فالعاصي كالزَّاني وشارِبِ الخَمرِ لا يستحِقُّ دخولَ النَّارِ، وإيمانُه كإيمانِ أبي بَكرٍ وعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما!
    أمَّا أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ فيَرَونَ أنَّ المسلمَ إذا ارتكب معصيةً من الكبائِرِ لا يخرجُ من الإسلامِ، بل هو مُسلِمٌ ناقِصُ الإيمانِ، ما دام لم يرتكِبْ شيئًا من المكفِّراتِ، فهو مؤمِنٌ بإيمانِه، فاسِقٌ بكبيرتِه، وهو في الآخرةِ تحتَ مَشيئةِ اللهِ؛ إن شاء اللهُ عفا عنه، وإن شاء عذَّبه حتَّى يطَهِّرَه من ذُنوبِه، ثمَّ يُدخِلَه الجنَّةَ بِرَحْمتِه، ولا يُخَلَّدُ في النَّارِ إلَّا مَن كَفَر باللهِ تعالى أو أشرَكَ به،
    كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا [النساء: 116] .
    الأصلُ الخامِسُ: بابُ أصحابِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
    توسَّط أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ في هذا البابِ بين الشِّيعةِ وبَيْنَ الخوارِجِ.
    فالشِّيعةُ غَلَوا في حَقِّ آلِ البيتِ، كعليِّ بنِ أبي طالبٍ وأولادِه رَضِيَ اللهُ عنهم، فادَّعَوا أنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عنه معصومٌ، وأنَّه يَعلَمُ الغيبَ، وأنَّه أفضلُ من أبي بكرٍ وعُمَرَ، ومِن غُلاتِهم من يدَّعي ألوهيَّتَه!
    والخوارجُ جَفَوا في حقِّ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، فكَفَّروه، وكفَّروا معاويةَ بنَ أبي سُفيانَ رَضِيَ اللهُ عنهما، وكَفَّروا كلَّ من لم يكُنْ على طريقتِهم.
    كما أنَّ الرَّوافِضَ جَفَوا في حقِّ أكثَرِ الصَّحابةِ، فسَبُّوهم، وقالوا: إنَّهم كُفَّار! وإنَّهم ارتدُّوا بعد النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا يستثنون من الصَّحابةِ إلَّا آلَ البَيتِ ونَفَرًا قليلًا، قالوا: إنَّهم من أولياءِ آلِ البيتِ، كما أنَّهم يشتُمون علانيةً أمَّهاتِ المؤمِنينَ، وأفاضِلَ الصَّحابةِ، حتى أبو بكرٍ وعُمَرُ رضي اللهُ عنهما!
    أمَّا أهلُ السُّنَّة والجماعةِ فيُحِبُّون جميعَ أصحابِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويترضَّون عنهم، ويَرَون أنَّهم أفَضُل هذه الأمَّةِ بعد نبيِّها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّ اللهَ اختارهم لصُحبةِ نبيِّه، ويُمسِكونَ عمَّا حصَلَ بينهم من التَّنازُعِ، ويرونَ أنَّهم مجتَهِدون مأجورون، للمُصيبِ منهم أجرانِ، وللمُخطئِ أجرٌ واحدٌ على اجتهادِه، ويرون أنَّ أفضلَهم أبو بكرٍ، ثمَّ عُمَرُ، ثم عثمانُ، ثم عليٌّ، رَضِيَ اللهُ عنهم أجمعين، ويحبُّون آلَ بيتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويرون أنَّ لهم حقَّين: حقَّ الإسلامِ، وحَقَّ القرابةِ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيوالونَهم، ويترضَّونَ عنهم .

    ---------------------------------------------------------------------
    التالي : - مَصادِرِ العَقيدةِ عند أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ
    --
    تابعونا جزاكم الله خيرا

    صادق النور و انهار الجنه يعجبهم هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5203
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

     مَبادِئ عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ - عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ وفوائدُه - خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ  - أصول عقيدة أهل السنه والجماعه                                                                        Empty مَصادِرِ العَقيدةِ عند أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ

    مُساهمة من طرف صادق النور الجمعة نوفمبر 17, 2023 1:43 pm

    تابع ما قبله :-

    مَصادِرِ العَقيدةِ عند أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ


    : من مَصادِرِ العَقيدةِ عند أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ: النَّقلُ الصَّحيحُ

    إنَّ النَّقلَ الصَّحيحَ يَشمَلُ الكتابَ والسُّنَّة الصَّحيحةَ.
    قال الله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89] ،
    والعَقيدةُ في الله تعالى من أهمِّ ما بيَّن اللهُ في كتابِه.
    وقال اللهُ سُبحانَه عن نبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3-4] .
    لهذا كانت نصوصُ السُّنَّةِ مع الكتابِ هي معتَمَدَ السَّلَفِ في الاستدلالِ على مسائلِ الاعتِقادِ.

    قال البربهاريُّ: (اعلمْ -رحمَك اللهُ- أنَّ من قال في دينِ اللهِ برأيِه وقياسِه وتأويلِه مِن غيرِ حُجَّةٍ من السُّنَّة والجماعةِ، فقد قال على اللهِ ما لا يعلَمُ، ومن قال على اللهِ ما لا يعلَمُ فهو من المتكَلِّفين، والحقُّ: ما جاء من عندِ اللهِ، والسُّنَّة: سنةُ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والجماعةُ:
    ما اجتمع عليه أصحابُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في خلافةِ أبي بكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ، ومن اقتصر على سُنَّةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وما كان عليه أصحابُه والجماعةُ، فَلَجَ على أهل البِدَعِ كُلِّهم، واستراح بدَنُه، وسَلِمَ له دينُه إن شاء الله؛ لأنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال
    : ((ستفترقُ أمَّتي))، وبيَّن لنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم النَّاجيةَ منها، فقال: ((ما كنتُ أنا عليه اليومَ وأصحابي)) ، فهذا هو الشِّفاءُ والبيانُ، والأمرُ الواضِحُ، والمنارُ المستنيرُ) .
    وقال ابنُ تَيميَّةَ: (من طريقةِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ: اتِّباعُ آثارِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم باطنًا وظاهِرًا، واتِّباعُ سبيلِ السَّابقينَ الأوَّلينَ من المهاجرينَ والأنصارِ، واتِّباعُ وصيَّةِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ حيث قال: ((عليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشدينَ المَهْدِيِّينَ مِن بعدي، تمسَّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ، وإيَّاكم ومُحدَثاتِ الأُمورِ؛ فإنَّ كلَّ مُحَدثةٍ بِدعةٌ، وكُلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ )) ، ويعلمون أنَّ أصدقَ الكلامِ كلامُ اللهِ، وخيرَ الهَدْيِ هديُ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويُؤْثِرون كلامَ الله على كلامِ غيرِه من كلامِ أصنافِ النَّاسِ، ويقدِّمون هَدْيَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على هَدْيِ كلِّ أحدٍ، وبهذا سُمُّوا أهلَ الكتابِ والسُّنَّةِ) .

    : من مَصادِرِ العَقيدةِ عند أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ: الإجماعُ


    الإجماعُ يستندُ في حقيقتِه إلى كتابِ اللهِ سبحانه وسُنَّة نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
    ومسائِلُ الاعتقادِ الكُلِّيَّةُ كُلُّها مجمَعٌ عليها، وأكثَرُ مسائِلِ الاعتقادِ التفصيليَّةِ محلُّ إجماعٍ بين الصَّحابةِ والسَّلَفِ الصَّالحِ، ولا تجتمعُ الأمَّةُ في أمورِ العَقيدةِ ولا غيرِها على ضلالةٍ وباطلٍ، والإجماعُ الذي ينضبِطُ هو ما كان عليه السَّلفُ الصَّالحُ؛ إذ بعدهم كَثُر الخلافُ، وانتشرت الأُمَّةُ . وعلى هذا فإجماعُ السَّلَفِ الصَّالحِ في أمورِ الاعتقادِ حُجَّةٌ شرعيَّةٌ مُلزِمةٌ لمن جاء بَعْدهم، لا تجوزُ مخالفتُه.
    قال الله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 115] .

    : من مَصادِرِ العَقيدةِ عندَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ: العقلُ الصَّريحُ

    العَقلُ مصدَرٌ من مَصادِر المعرفةِ الدِّينيَّةِ، إلَّا أنه ليس مصدرًا مستقلًّا، بل يحتاجُ إلى تنبيهِ الشَّرعِ، وإرشادِه إلى الأدلَّةِ، فالعَقلُ لن يهتديَ إلَّا بالوَحيِ، والوَحيُ لا يُلغي العقلَ.
    والنُّصوصُ الشَّرعيةُ قد جاءت متضمِّنةً لأدِلَّةٍ عقليَّةٍ صافيةٍ من كُلِّ كَدَرٍ، فما على العَقلِ إلَّا فهمُها وإدراكُها.
    قال ابنُ تَيميَّةَ: (لا تحسبَنَّ أنَّ العُقولَ لو تُرِكَت وعلومَها التي تستفيدُها بمجَرَّدِ النَّظَرِ، عَرَفَت اللهَ مَعرفةً مُفَصَّلةً، بصفاتِه وأسمائِه على وَجهِ اليقينِ) .
    وخوضُ العَقلِ في أمورِ الإلهيَّاتِ باستقلالٍ عن الوَحيِ: مَظِنَّةُ الهلاكِ، وسَبيلُ الضَّلالِ.

    قال أبو القاسِمِ الأصبهانيُّ: (أمَّا أهلُ الحَقِّ فجَعَلوا الكتابَ والسُّنَّةَ إمامَهم، وطلبوا الدِّينَ من قِبَلِهما، وما وقع لهم من معقولهِم وخواطِرِهم عَرَضوه على الكِتابِ والسُّنَّةِ، فإن وَجَدوه موافقًا لهما قَبِلوه، وشَكروا اللهَ حيث أراهم ذلك ووفَّقهم إليه، وإن وَجَدوه مخالفًا لهم تركوا ما وقع لهم، وأقبلوا على الكتابِ والسُّنَّة، ورجعوا بالتُّهمةِ على أنفُسِهم؛ فإنَّ الكِتابَ والسُّنَّةَ لا يهديان إلَّا إلى الحَقِّ، ورأيُ الإنسانِ قد يرى الحقَّ، وقد يرى الباطِلَ، وهذا معنى قولِ أبي سليمانَ الدارانيِّ، وهو واحدُ زمانِه في المعرفةِ: ما حدَّثَتني نفسي بشَيءٍ إلَّا طلبتُ منها شاهدَينِ من الكِتابِ والسُّنَّةِ، فإن أتت بهما، وإلَّا رَدَدْتُه في نَحرِها. أو كلامًا هذا معناه) .
    وقال ابنُ تَيميَّةَ: (ما خالف العقلَ الصَّريحَ فهو باطِلٌ، وليس في الكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ باطِلٌ، ولكِنْ فيه ألفاظٌ قد لا يفهمُها بعضُ النَّاس، أو يفهمون منها معنًى باطلًا، فالآفةُ منهم لا من الكتابِ والسُّنَّةِ) .

    وقال أيضًا: (هذا أبو الحسَنِ الأشعريُّ نشأ في الاعتزالِ أربعين عامًا يناظِرُ عليه، ثم رجع عن ذلك وصَرَّح بتضليلِ المعتزلةِ، وبالغ في الرَّدِّ عليهم! وهذا أبو حامد الغزاليُّ مع فَرطِ ذكائه وتألُّهِه ومعرفتِه بالكلامِ والفلسفةِ وسُلوكِه طريقَ الزُّهدِ والرِّياضة والتصَوُّف؛ ينتهي في هذه المسائِلِ إلى الوقفِ والحَيرةِ، ويُحيلُ في آخِرِ أمرِه على طريقةِ أهلِ الكَشْفِ، وإن كان بعد ذلك رجع إلى طريقةِ أهلِ الحديثِ، وصَنَّف "إلجام العوامِّ عن علمِ الكلامِ".

    وكذلك أبو عبدِ اللهِ محمَّدُ بنُ عُمَرَ الرَّازيُّ، قال في كتابه الذي صنَّفه في أقسامِ اللَّذَّات: لقد تأمَّلْتُ الطُّرُقَ الكلاميَّةَ، والمناهِجَ الفلسفيَّةَ، فما رأيتُها تشفي عليلًا، ولا تروي غليلًا، ورأيتُ أقربَ الطُّرُقِ طريقةَ القرآنِ؛ أقرأ في الإثباتِ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] ،
    إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10] ،
    وأقرأُ في النَّفيِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] ، وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه: 110] ، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم: 65] ، ثمَّ قال: ومن جَرَّب مِثلَ تجربتي، عَرَف مِثلَ مَعرفتي) .

    وقال السَّفاريني: (لو كانت مستقلَّةً يعني: العقولَ بمعرفةِ الحقِّ وأحكامِه، لكانت الحُجَّةُ قائمةً على النَّاسِ قبل بَعْثِ الرسُلِ وإنزالِ الكُتُبِ، واللازِمُ باطِلٌ بالنَّصِ؛ قال الله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] .

    : من مَصادِرِ العَقيدةِ عند أهلِ السُّنَّة والجماعةِ: الفِطرةُ السَّويَّةُ

    الفِطرةُ هي خَلقُ الخليقةِ على قَبولِ الإسلامِ، والتهيُّؤِ لتوحيدِ الله، وإدراكِ الحَقِّ.
    والِفطرةُ السَّوِيَّةُ تهدي العبدَ إلى أصولِ التَّوحيد والإيمانِ دونَ استدلالٍ أو برهانٍ.
    والقلوبُ مفطورةٌ على الإقرارِ به سُبحانَه أعظَمَ من كونِها مفطورةً على الإقرارِ بغيره من الموجوداتِ،
    كما قالت الرُّسُلُ: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [إبراهيم: 10] .
    قال ابنُ تَيميَّةَ: (الإقرارُ والاعترافُ بالخالقِ فِطريٌّ ضروريٌّ في نفوسِ النَّاسِ، وإن كان بعضُ النَّاس قد يحصُلُ له ما يُفسِدُ فِطرتَه حتى يحتاجَ إلى نظَرٍ تحصُلُ له به المعرفةُ) .
    وقال أيضًا: (بيَّنْتُ أنَّ أصلَ العِلمِ الإلهيِّ فِطريٌّ ضروريٌّ، وأنَّه أشدُّ رسوخًا في النُّفوسِ مِن مَبدأِ العِلمِ الرِّياضيِّ، كقولِنا: إنَّ الواحِدَ نِصفُ الاثنينِ، ومبدأِ العلمِ الطبيعيِّ، كقولِنا: إنَّ الجِسمَ لا يكونُ في مكانينِ) .

    وقال ابنُ القيِّم: (إذا ثبت أنَّ في الفِطرةَ قوَّةً تقتضي طلبَ معرفةِ الحقِّ وإيثارِه على ما سِواه، وأنَّ ذلك حاصلٌ مركوزٌ فيها من غيرِ تعليمِ الأبوَينِ ولا غيرِهما، بل لو فُرِضَ أنَّ الإنسانَ تربَّى وَحْدَه، ثمَّ عَقَل وَمَّيز، لوجد نفسَه مائلةً إلى ذلك، نافرةً عن ضِدِّه، كما يجد الصبيُّ عند أوَّلِ تمييزِه، يعلَمُ أنَّ الحادِثَ لا بدَّ له من مُحدِثٍ، فهو يلتفتُ إذا ضُرِبَ من خَلْفِه؛ لعِلْمِه أنَّ تلك الضَّربةَ لا بدَّ لها من ضاربٍ، فإذا شعر به بكى حتى يُقتَصَّ له منه، فيَسكُن، فقد ركَزَ في فطرته الإقرارُ بالصَّانعِ، وهو التَّوحيدُ، ومحبَّةُ القِصاصِ، وهو العَدْلُ، وإذا ثبت ذلك ثبت أنَّ نفسَ الفِطرةِ مُقتَضِيةٌ لمعرفته سُبحانَه ومحبَّتِه وإجلالِه وتعظيمِه والخُضوعِ له، من غير تعليمٍ ولا دعاءٍ إلى ذلك، وإن لم يكُنْ فطرةُ كُلِّ أحدٍ مُستَقِلَّةً بتحصيلِ ذلك، بل يحتاج كثيرٌ منهم إلى سببٍ مُعِينٍ للفِطرةِ مُقَوٍّ لها، وقد بيَّنَّا أنَّ هذا السَّبَبَ لا يحدُثُ في الفِطرةِ ما لم يكُنْ فيها، بل يُعينُها ويذكِّرُها ويقوِّيها، فبعث اللهُ النبيِّين مُبشِّرينَ ومُنذِرينَ، يدعون العبادَ إلى موجِبِ هذه الفِطرةِ، فإذا لم يحصُلْ مانعٌ يمنَعُ الفطرةَ عن مقتضاها، استجابت لدعوةِ الرُّسُلِ، ولا بدَّ بما فيها من المقتضي لذلك) .
    ولكِنَّ العَقلَ والفِطرةَ وإن كانا من دلائِلِ التَّوحيدِ، إلَّا أنَّه لا تقومُ الحجَّةُ على بني آدَمَ إلَّا بإرسالِ الرُّسُلِ، وإنزالِ الكُتُبِ، وقَطْعِ العُذرِ.
    قال الله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] ، فلا عذابَ إلَّا بعدَ إرسالِ الرُّسُلِ، وقَطْعِ العُذرِ، وإقامةِ الحُجَّةِ .

    --------------------------------------------------------------------------------------
    التالي : -
    الأصولُ المقَرَّرةُ في عقيدة أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5203
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

     مَبادِئ عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ - عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ وفوائدُه - خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ  - أصول عقيدة أهل السنه والجماعه                                                                        Empty الأصولُ المقَرَّرةُ في عقيدة أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ

    مُساهمة من طرف صادق النور الجمعة نوفمبر 17, 2023 4:52 pm

    تابع ما قبله : -

    : الأصولُ المقَرَّرةُ في عقيدة أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ :

    1- مَسائِلُ التَّوحيدِ، وتشمَلُ التَّوحيدَ بأنواعِه الثَّلاثةِ: (توحيدُ الرُّبوبيَّةِ - توحيدُ الألوهيَّةِ - توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ).
    2- مَسائِلُ الإيمانِ.
    3- أركانُ الإسلامِ والإيمانِ والإحسانِ.
    4- مَسائِلُ الكُفرِ والشِّركِ والنِّفاقِ والرِّدَّةِ ونواقِض الإيمانِ.
    5- المَسائِلُ المتعلِّقةُ بالملائكةِ والجنِّ والغيبيَّاتِ.
    6- الإيمانُ بالقرآنِ الكَريمِ وأنَّه كلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ.
    7- مَسائِلُ النبوَّاتِ والمعجزاتِ وحُقوقِ الأنبياءِ.
    8- مَسائِلُ الكراماتِ وخوارق العاداتِ.
    9- مَسائِلُ القضاءِ والقَدَرِ والإرادةِ والمشيئةِ الإلهيَّةِ.
    10- مَسائِلُ الإيمانِ بالآخِرةِ وما يتعلَّق بها من فتنةِ القَبرِ وعَذابِه، وسؤالِ مُنكَرٍ ونكيرٍ، والنَّفخِ والبَعثِ والحَشرِ، والحَوضِ والميزانِ، والحسابِ والصِّراطِ، والجنَّةِ والنَّارِ.
    11- حُكمُ أهلِ الكبائِرِ، وبيانُ أنَّ أهلَ السُّنَّةِ لا يكَفِّرونَ أحدًا بذنبٍ ما لم يكُنْ كُفرًا.
    12- الشَّفاعةُ.
    13- الفِتَنُ والملاحِمُ وأشراطُ السَّاعةِ، وعلاماتُها الكبرى والصغرى.
    14- مَسائِلُ الحُكمِ بما أنزل اللهُ، وأصولُ الحُكمِ في الإسلامِ.
    15- مَسائِلُ الإمامةِ والخلافةِ، والعَلاقةُ بين الحاكمِ والمحكومِ.
    16- الرَّدُّ على أهلِ البِدَع والأهواءِ، وسائِر المِلَل والنِّحَلِ الضَّالَّةِ، وهَجْر المبتَدِعِ.
    17- رعايةُ حقوقِ صَحابةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من الحُبِّ والوَلاءِ والدِّفاعِ عنهم، وعَدَمِ الخَوضِ فيما جرى بَيْنَهم من الفِتَنِ والقِتالِ.
    18- تفضيلُ الصحابةِ على من بعدهم، واعتقادُ أنَّ أفضَلَ الصَّحابة: أبو بكرٍ، ثمَّ عُمَرُ، ثمَّ عُثمانُ، ثم عليٌّ، رضوانُ اللهِ تعالى عليهم، ثم باقي العَشَرةِ المبشَّرين بالجنَّةِ.
    19- فَضلُ زَوجاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وآلِ بيتِه، وأنَّ حُبَّهم من الإيمانِ، وبُغضَهم من الكُفرِ والنِّفاقِ.
    20- مَسائِلُ الولاءِ والبراءِ، وحُكمُ التشَبُّهِ بالكُفَّارِ.
    21- مَسائِلُ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكَرِ، والجهاد في سَبيلِ اللهِ.
    22- بيانُ مَنهَجِ الفِرقةِ النَّاجيةِ والطَّائفةِ المنصورةِ، وتميزُه عن مناهجِ أهلِ الزَّيغِ والضَّلالِ.
    23- الاعتصامُ بالقُرآنِ والسُّنَّةِ واجتنابُ البِدَع والمحدَثاتِ.
    هذه أهمُّ المَسائِلُ التي اشتمَلَت عليها عقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، إضافةً إلى مواضيعَ كثيرةٍ متفرِّعةٍ عن هذه المَسائِلِ .

    من قواعِدِ الاستدلالِ على مَسائِلِ الاعتقادِ عند أهل السُّنَّةِ والجَماعةِ: تلقِّي مَسائِلِ العَقيدةِ مِن الكِتاب والسُّنَّة

    العَقيدةُ توقيفيَّةٌ؛ فلا تثبُتُ إلَّا بدليلٍ من القرآن الكريم أو السنة النبوية الصحيحة، ولا مَسرحَ فيها للرَّأيِ والاجتهادِ؛
    ومن ثَمَّ فإنَّ مَصادِرها مقصورةٌ على ما جاء في الكِتابِ والسُّنَّةِ؛ لأنَّه لا أحَدَ أعلمُ باللهِ وما يجِبُ له وما ينزَّه عنه، مِنَ اللهِ،
    ولا أحدَ مِنَ النَّاسِ أعلمُ بالله مِن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ولهذا كان منهجُ السَّلَفِ الصَّالحِ ومن تَبِعَهم في تلقِّي العَقيدةِ مقصورًا على الوحيَينِ، فلم يحصُلْ بينهم اختلافٌ في الاعتقادِ، ولا تذبذُبٌ ولا اضطِرابٌ في الأفكارِ والعقائدِ والتصوُّراتِ،
    فكُلُّ ما يلزم النَّاسَ اعتقادُه أو العملُ به، قد بيَّنه اللهُ تعالى بالوَحيِ الصَّادقِ عن طريقِ القرآنِ والسُّنَّة، أو ما يرجِعُ إليهما من إجماعٍ صحيحٍ، أو عقلٍ صريحٍ دَلَّ عليه الوحيُ وأرشد إليه .
    قال الله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] .
    وقال سُبحانَه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9] .
    وقيل لسلمانَ الفارسيِّ رَضِيَ اللهُ عنه: قد علَّمكم نبيُّكم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كُلَّ شيءٍ حتى الخِراءةَ! فقال: (أجَلْ ...) ،
    فمِن بابِ أَوْلى أن يكونَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم علَّم أمَّتَه مَسائِلَ التَّوحيدِ.
    قال ابنُ تَيميَّةَ: (ومحالٌ مع تعليمِهم كُلَّ شيءٍ لهم فيه منفعةٌ في الدِّينِ -وإن دقَّت- أن يترُكَ تعليمَهم ما يقولونَه بألسنَتِهم، ويعتَقِدونَه في قُلوبِهم في رَبِّهم ومَعبودِهم ربِّ العالَمينَ الذي معرفتُه غايةُ المعارِفِ، وعبادتُه أشرفُ المقاصِدِ، والوُصولُ إليه غايةُ المطالِبِ، بل هذا خلاصةُ الدَّعوةِ النَّبَويَّةِ، وزُبدةُ الرِّسالةِ الإلهيَّةِ، فكيف يتوهَّمُ من في قَلبِه أدنى مُسكةٍ من إيمانٍ وحكمةٍ ألَّا يكونَ بيانُ هذا البابِ قد وقع من الرَّسولِ على غايةِ التَّمامِ؟!) .
    وقال أيضًا: (يتبيَّنُ أنَّ أحَقَّ النَّاسِ بأن تكونَ هي الفِرقةَ النَّاجيةَ أهلُ الحديثِ والسُّنَّةِ، الذين ليس لهم متبوعٌ يتعصَّبون له إلَّا رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهم أعلَمُ النَّاسِ بأقوالِه وأحوالِه، وأعظمُهم تمييزًا بين صحيحِها وسقيمِها، وأئِمَّتُهم فُقهاءُ فيها، وأهلُ معرفةٍ بمعانيها، واتِّباعًا لها؛ تصديقًا وعَمَلًا، وحبًّا وموالاةً لِمَن والاها، ومُعاداةً لمن عاداها... لا يَنصِبون مقالةً ويجعلونَها مِن أُصولِ دينِهم، وجُمَل كلامِهم، إن لم تكُنْ ثابتةً فيما جاء به الرَّسولُ، بل يجعلون ما بُعِثَ به الرَّسولُ من الكتابِ والحِكمةِ هو الأصلَ الذي يعتَقِدونه ويعتَمِدونه، وما تنازع فيه النَّاسُ من مَسائِلِ الصِّفاتِ والقَدَر والوعيدِ والأسماءِ، والأمرِ بالمعروفِ، والنَّهْيِ عن المُنكَرِ، وغيرِ ذلك: يردُّونَه إلى الله ورَسولِه، ويفسِّرون الألفاظَ المجمَلةَ التي تنازع فيها أهلُ التفَرُّقِ والاختلافِ؛ فما كان من معانيها موافِقًا للكتاب والسُّنَّة أثبتوه، وما كان منها مخالِفًا للكِتابِ والسُّنَّة أبطلوه) .

    من قواعِدِ الاستِدلالِ على مَسائِلِ الاعتقادِ عند أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: حُجِّيَّةُ فَهْمِ السَّلَفِ الصَّالحِ لنُصوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ

    قال قتادة في قَولِه تعالى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سبأ: 6] : (أصحابُ محمَّدٍ) .
    وقال سفيانُ في قَولِه تعالى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى [النحل: 59] (هم أصحابُ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) .
    وقال البيهقي: (ذَكَر الشَّافعيُّ رَضِيَ اللهُ عنه في كتابِ الرِّسالةِ القديمة، بعد ذِكْرِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم والثَّناءِ عليهم بما هم أهلُه، فقال: "وهم فوقَنا في كلِّ علمٍ واجتهادٍ، ووَرَعٍ وعَقلٍ، وأمرٍ استُدركَ به عِلمٌ، واستُنبط به، وآراؤهم لنا أحمدُ وأولى بنا من آرائِنا عندنا لأنفُسِنا. والله أعلم. ومن أدرَكْنا ممَّن أرضى أو حُكِيَ لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يَعلَموا لرَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيه سُنَّةً إلى قولِهم إن اجتَمَعوا، وقَولِ بعضِهم إن تفَرَّقوا، فهكذا نقولُ: إذا اجتمعوا أخَذْنا باجتماعِهم، وإن قال واحِدُهم ولم يخالِفْه غيرُه أخَذْنا بقولِه، فإن اختلفوا أخَذْنا بقَولِ بعضِهم ولم نخرُجْ من أقاويلِهم كُلِّهم) .
    وقال أحمدُ بنُ حَنبل: (فآمُرُكم ألَّا تؤثِروا على القرآن شيئًا؛ فإنَّه كلامُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ... ثمَّ مِن بعدِ كِتابِ اللهِ سُنَّةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والحديثُ عنه وعن المهديِّين أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والتَّصديقُ بما جاءت به الرُّسُلُ، واتِّباعُ سُنَّة النَّجاةِ،
    وهي التي نقلها أهلُ العِلمِ كابرًا عن كابرٍ
    ) .
    وقال أحمدُ بنُ حَنبل في رسالتِه للخليفةِ المتوكِّلِ في شأنِ القرآنِ: (لستُ بصاحِبِ كلامٍ، ولا أرى الكلامَ في شيءٍ من هذا إلَّا ما كان في كِتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ، أو في حديثٍ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو عن أصحابِه أو عن التَّابعينَ، فأمَّا غيرُ ذلك فإنَّ الكلامَ فيه غيرُ محمودٍ) .
    وقال ابنُ أبي حاتمٍ: (فخَلَف بعدهم التَّابعون الذين اختارهم اللهُ عَزَّ وجَلَّ لإِقامةِ دينِه، وخَصَّهم بحِفظِ فرائضِه وحُدودِه، وأمْرِه ونَهْيِه وأحكامِه، وسُنَنِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وآثارِه؛ فحَفِظوا عن صحابةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما نَشَروه وبثُّوه من الأحكامِ والسُّننِ والآثارِ، وسائِرِ ما وصَفْنا الصَّحابةَ به، رَضِيَ اللهُ عنهم، فأتقَنوه وعَلِموه وفَقِهوا فيه، فكانوا من الإسلامِ والدِّينِ ومراعاةِ أمرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ ونَهْيِه، بحيث وضَعَهم اللهُ عَزَّ وجَلَّ ونصَبَهم له؛ إذ يقولُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة: 100] الآية،... فصاروا برضوانِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ لهم وجميلِ ما أثنى عليهم: بالمنزلةِ التي نزهَّهم الله بها عَن أَن يلحَقَهم مَغمَزٌ، أَو تُدرِكَهم وَصمةٌ؛ لتيقُّظِهم وتحَرُّزِهم وتثبُّتِهم، ولأَنَّهم البَرَرةُ الأتقياءُ الذين ندبهم اللهُ عَزَّ وجَلَّ لإثباتِ دينه، وإِقامةِ سُنَّتِه وسُبُلِه، فلم يكُنْ لاشتغالِنا بالتَّمييزِ بينهم معنًى؛ إذ كُنَّا لا نجِدُ منهم إِلَّا إمامًا مبرزًا مُقَدَّمًا في الفَضلِ والعِلمِ، ووَعْيِ السُّننِ وإثباتِها، ولزومِ الطريقةِ واحتبائِها، رحمةُ اللهِ ومَغفِرتُه عليهم أجمعينَ، إِلَّا ما كان ممَّن ألحق نَفْسَه بهم ودَلَّسها بينهم ممَّن ليس يَلحَقُهم، ولا هو في مِثلِ حالِهم) .

    وقال ابنُ تَيميَّةَ: (كُلُّ من له لسانُ صِدقٍ من مشهورٍ بعلمٍ أو دينٍ: مُعتَرِفٌ بأنَّ خيرَ هذه الأمَّةِ هم الصَّحابةُ، وأن المتَّبِعَ لهم أفضَلُ من غيرِ المتَّبِعِ لهم... ولا تجِدُ إمامًا في العِلمِ والدِّينِ، كمالك، والأوزاعيِّ، والثَّوريِّ، وأبي حنيفةَ، والشَّافعيِّ، وأحمدَ بنِ حَنبلٍ، وإسحاقَ بنِ راهَوَيه، ومِثْل الفُضَيلِ بنِ عِياضٍ، وأبي سُلَيمانَ، ومعروفٍ الكَرْخيِّ، وأمثالِهم- إلَّا وهم مصَرِّحون بأنَّ أفضَلَ عِلْمِهم ما كانوا فيه مقتدينَ فيه بعِلمِ الصَّحابةِ، وهم يَرَون أنَّ الصَّحابة فوقهم في جميعِ أبوابِ الفَضلِ والمناقِبِ، والذين اتَّبَعوهم من أهلِ الآثارِ النبَويَّةِ، وهم أهلُ الحديثِ والسُّنةِ العالِمون بطريقِهم، المتَّبِعون لها، وهم أهلُ العِلمِ بالكِتابِ والسُّنَّةِ في كلِّ عَصرٍ ومِصرٍ) .
    وقال أيضًا: (من المعلوم: أنَّ كُلَّ من كان بكلامِ المتبوعِ وأحوالِه وبواطِنِ أمورِه وظواهِرِها أعلَمَ، وهو بذلك أقوَمُ؛ كان أحَقَّ بالاختِصاصِ به، ولا رَيبَ أنَّ أهلَ الحديثِ أعلمُ الأمَّة وأخصُّها بعِلمِ الرَّسولِ وعِلمِ خاصَّتِه، مِثلُ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ، وسائِرِ العَشَرةِ، ومِثلُ: أُبَيِّ بنِ كعبٍ، وعبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ، ومُعاذِ بنِ جَبَلٍ، وعبدِ اللهِ بنِ سَلامٍ، وسلمانَ الفارسيِّ، وأبي الدَّرداءِ، وعُبادةَ بنِ الصَّامِتِ، وأبي ذَرٍّ الغِفاريِّ، وعَمَّارِ بنِ ياسرٍ، وحذيفةَ بنِ اليَمانِ، ومِثلُ: سَعدِ بنِ مُعاذٍ، وأُسيدِ بنِ حُضيرٍ، وسَعدِ بنِ عُبادةَ، وعَبَّادِ بنِ بِشرٍ، وسالمٍ مولى أبي حُذَيفةَ، وغيرِ هؤلاء ممَّن كان أخَصَّ النَّاسِ بالرَّسولِ، وأعلَمَهم بباطِنِ أمورِه، وأتبَعَهم لذلك؛ فعُلَماءُ الحديثِ أعلَمُ النَّاسِ بهؤلاء، وببواطِنِ أمورِهم، وأتبَعُهم لذلك) .

    وقال ابنُ تَيميَّةَ أيضًا: (يحتاجُ المسلِمونَ إلى شيئينِ: أحدُهما: معرفةُ ما أراد اللهُ ورسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بألفاظِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، بأن يَعرِفوا لغةَ القُرآنِ التي بها نزل، وما قاله الصَّحابةُ والتَّابِعونَ لهم بإحسانٍ، وسائِرُ عُلَماءِ المسلمينَ؛ في معاني تلك الألفاظِ؛ فإن الرَّسولَ لَمَّا خاطبَهم بالكِتابِ والسُّنَّةِ عرَّفَهم ما أراد بتلك الألفاظِ، وكانت مَعرِفةُ الصَّحابةِ لمعاني القُرآنِ أكمَلَ من حِفْظِهم لحروفِه، وقد بلَّغوا تلك المعانيَ إلى التَّابعينَ أعظَمَ ممَّا بَلَّغوا حروفَه؛ فإنَّ المعانيَ العامَّةَ التي يحتاجُ إليها عمومُ المسلِمينَ، مثل معنى التَّوحيدِ، ومعنى الواحِدِ، والأحَدِ، والإيمانِ، والإسلامِ، ونحوِ ذلك؛ كان جميعُ الصَّحابةِ يعرفونَ ما أحبَّ اللهُ ورسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من معرفتِه، ولا يحفَظُ القُرآنَ كُلَّه إلَّا القليلُ منهم، وإن كان كُلُّ شَيءٍ مِن القرآنِ يحفَظُه منهم أهلُ التَّواترِ، والقرآنُ مملوءٌ من ذِكرِ وَصفِ اللهِ بأنَّه أحدٌ وواحِدٌ، ومِن ذِكرِ أنَّ إلهَكم واحدٌ، ومِن ذِكْرِ أنَّه لا إلهَ إلَّا اللهُ، ونحوِ ذلك. فلا بدَّ أن يكونَ الصَّحابةُ يَعرِفون ذلك؛ فإنَّ معرفتَه أصلُ الدِّينِ، وهو أوَّلُ ما دعا الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليه الخَلْقَ، وهو أوَّلُ ما يقاتِلُهم عليه، وهو أوَّلُ ما أمَرَ رسُلَه أن يأمُروا النَّاسَ به) .

    والسَّلَفُ: هم الصَّحابةُ رضي الله عنهم فمَن بَعْدَهم ممَّن تَبِعَهم بإحسانٍ مِنْ أهلِ القُرونِ المفضَّلةِ.
    قال اللهُ تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100] .

    وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((خيرُ النَّاسِ قَرْني، ثمَّ الذين يلونهم، ثم الذين يَلونَهم )) .
    وعَنْ واثِلةَ بنِ الأسقَعِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَزالونَ بخَيرٍ ما دامَ فيكم مَن رآني وصاحَبَني، واللهِ لا تزالونَ بخَيرٍ ما دامَ فيكم من رأى مَن رآني وصاحَبَ مَن صاحَبَني، واللهِ لا تزالونَ بخَيرٍ ما دامَ فيكم مَن رأى مَن رأى مَن رآني، وصاحَبَ مَن صاحَبَ مَن صاحَبَني))

    من قواعِدِ الاستِدلالِ على مَسائِلِ الاعتقادِ عندَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: الإيمانُ والتَّسليمُ والتَّعظيمُ لنُصوصِ الوحيَينِ

    من أُصولِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ التَّسليمُ لِما جاء في كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وما صحَّ من سنَّة نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسَلَّم.
    قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا [الأحزاب: 36] .
    قال ابنُ القَيِّمِ: (أقسم سُبحانَه بنَفْسِه أنَّا لا نؤمِنُ حتى نحَكِّمَ رسولَه في جميعِ ما شَجَر بيننا، وتتَّسِعَ صُدورُنا بحُكمِه، فلا يبقى منها حَرَجٌ، ونسَلِّمَ لحُكمِه تسليمًا، فلا نعارِضَه بعَقلٍ، ولا رأيٍ، ولا هوًى، ولا غيرِه؛ فقد أقسم الرَّبُّ سُبحانَه بنفسِه على نفيِ الإيمانِ عن هؤلاء الذين يقدِّمون العَقلَ على ما جاء به الرَّسولُ، وقد شَهِدوا هم على أنفُسِهم بأنَّهم غيرُ مُؤمِنينَ بمعناه، وإن آمَنوا بلَفْظِه) .
    وقد جاءتْ آثارٌ عن السَّلَفِ الصَّالحِ ومَن بَعْدَهم مِن أهلِ العِلمِ في الحَثِّ على الإيمانِ والتَّسليمِ والتَّعظيمِ لنُصوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ؛ ومِن ذلك:
    1- قال الزُّهْريُّ: (مِن اللهِ عزَّ وجلَّ العِلمُ، وعلى الرَّسولِ البلاغُ، وعلينا التَّسليمُ) .
    2- ذكَرَ عبدُ اللهِ بنُ المبارَكِ قولَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يزني الزاَّني حينَ يزني وهو مؤمِنٌ ... )) الحديث ، فقال قائِلٌ: ما هذا؟! على معنى الإنكارِ، فغَضِبَ ابنُ المبارك وقال: يمنعُنا هؤلاء الأُنَّانُ أن نحدِّثَ بحديثِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أكلَّما جَهِلْنا معنى حديثٍ تَرَكْناه؟ لا بل نَرويه كما سَمِعْنا، ونُلزِمُ الجَهلَ أنفُسَنا .
    3- قال الشَّافعيُّ: (لم أسمَعْ أحدًا نسَبَه النَّاسُ أو نَسَب نَفْسَه إلى علمٍ، يخالِفُ في أنَّ فَرْضَ اللهِ عزَّ وجَلَّ اتِّباعُ أمرِ رَسولِ الله، والتَّسليمُ لحُكمِه بأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لم يجعَلْ لأحَدٍ بَعْدَه إلَّا اتِّباعَه، وأنَّه لا يَلزَمُ قولٌ بكُلِّ حالٍ إلَّا بكتابِ اللهِ أو سُنَّةِ رَسولِه، وأنَّ ما سِواهما تَبَعٌ لهما) .
    4- قال صالحُ بنُ أحمَدَ بنِ حَنْبل: (كتَبَ رجُلٌ إلى أبي يسألُه عن مناظرةِ أهلِ الكلامِ والجُلوسِ معهم، فأملى عليَّ جوابَه:
    أحسنَ اللهُ عاقبَتَك، ودَفَع عنك كلَّ مكروهٍ ومَحذورٍ، الذي كنَّا نسمَعُ وأدرَكْنا عليه من أدرَكْنا من أهلِ العِلمِ: أنَّهم كانوا يكرهونَ الكلامَ والخَوضَ مع أهلِ الزَّيغِ، وإنَّما الأمرُ في التَّسليمِ والانتهاءِ إلى ما في كتابِ اللهِ جَلَّ وعزَّ، لا يَعْدُو ذلك
    ) .
    5- قال ابنُ خزيمة: (إنَّ الأخبارَ في صفاتِ الله موافِقةٌ لكتابِ اللهِ تعالى، نقَلَها الخَلَفُ عن السَّلَف قرنًا بعد قرنٍ مِن لَدُن الصَّحابةِ والتَّابعينَ إلى عَصْرِنا هذا، على سَبيلِ الصِّفاتِ لله تعالى، والمعرفةِ والإيمانِ به، والتَّسليمِ لِما أخبَرَ اللهُ تعالى في تنزيلِه، ونبيُّه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن كتابِه، مع اجتِنابِ التَّأويلِ والجُحودِ، وتركِ التَّمثيلِ والتَّكييفِ) .
    وأهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ لا يقدِّمونَ كلامَ أحدٍ مِنَ النَّاسِ على كلامِ اللهِ تعالى وكلامِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
    قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات: 1] .
    قال عَبدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما في قَوْلِ اللهِ تعالى: لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: (لَا تَقُولُوا خِلَافَ الكِتَابِ والسُّنَّةِ) .
    وقال ابنُ تَيميَّةَ: (من الأُصولِ المتَّفَقِ عليها بين الصَّحابةِ والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ أنَّه لا يُقبَلُ مِن أحَدٍ قَطُّ أن يعارِضَ القرآنَ لا برأيِه ولا ذوقِه، ولا مَعقولِه ولا قياسِه، ولا وَجْدِه؛ فإنَّهم ثبت عنهم بالبراهينِ القطعيَّاتِ والآياتِ البيِّناتِ أنَّ الرَّسولَ جاء بالهُدى ودينِ الحقِّ، وأنَّ القُرآنَ يَهْدي للتي هي أقوَمُ... ولهذا لا يُوجَدُ في كلامِ أحَدٍ مِنَ السَّلَفِ أنَّه عارَضَ القرآنَ بعَقلٍ ورأيٍ وقياسٍ، ولا بذَوقٍ ووَجدٍ ومُكاشَفةٍ، ولا قال قطُّ: قد تعارَضَ في هذا العَقلُ والنَّقلُ!) .

    : من قواعِدِ الاستِدلالِ على مَسائِلِ الاعتِقادِ عندَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: جمعُ النُّصوصِ في البابِ الواحِدِ، وإعمالُها بعد تصحيحِها

    يَجِبُ عند بيانِ مسألةٍ عَقَديَّةٍ جمعُ كلِّ ما يتعلَّقُ بها من أدلَّةٍ مع تحريرِ دَلالةِ كلِّ دليلٍ منها،
    وتصحيحُ النَّقل ِعن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، واعتمادُ فَهْمِ الصَّحابةِ والثِّقاتِ مِن عُلَماءِ السَّلَفِ الصَّالحِ رَضِيَ اللهُ عنهم،
    فإنْ بدا ما ظاهرُه التَّعارُضُ بين تلك الأدلَّةِ عند المجتَهِدِ لا في الواقعِ ونَفسِ الأمرِ، فيَجِبُ الجمعُ بينها، وعدمُ إهمالهِا بردِّ ما غَمُضَ منها واشتَبَه إلى ما ظهر منها واتَّضح، وتقييدُ مُطلَقِها بمقيَّدِها، وتخصيُص عامِّها بخاصِّها،
    فإن كان التَّعارُضُ في الواقِعِ ونَفْسِ الأمرِ فبنَسْخِ مَنسوخِها بناسخِها، وذلك في الأحكامِ دونَ الأخبارِ، فلا يَدخُلُها نَسخٌ، وإنْ لم يكُنْ إلى عِلمِ ذلك من سَبيلٍ، فيرُدُّه إلى عالِمِه تبارك وتعالى .
    قال الله تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء: 82] .
    وقال اللهُ تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ * تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 41-42] .
    وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: تَلَا رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [آل عمران: 7] قالَتْ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا رَأَيْتُم الذين يَتَّبِعُونَ ما تَشَابَهَ منه فأولئك الذين سَمَّى اللَّهُ؛ فاحْذَروهم )) .
    فاتِّباع المتشابهِ مِن طُرقِ أهل البِدَعِ في الاستِدلالِ.
    قال الآجُرِّيُّ: (المعتزلةُ يخالفون هذا كُلَّه، لا يلتَفِتون إلى سُنَنِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا إلى سُنَنِ أصحابِه رَضِيَ اللهُ عنهم، وإنَّما يُعارِضونَ بمُتشابهِ القُرآنِ، وبما أراهم العَقلُ عندهم، وليس هذا طريقَ المسلِمينَ، وإنَّما هذا طريقُ من قد زاغ عن طريقِ الحقِّ، وقد لَعِبَ به الشيَّطانُ، وقد حذَّرَنا اللهُ عزَّ وجَلَّ ممَّن هذه صفتُه، وحذَّرَناهم النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وحذَّرَناهم أئمةُ المسلمينَ قديمًا وحديثًا) .
    وقال الشَّاطبي: (مدارُ الغَلَطِ في هذا الفَصلِ إنَّما هو على حَرفٍ واحدٍ، إنَّما هو الجَهلُ بمقاصِدِ الشَّرعِ، وعدمُ ضمِّ أطرافِه بَعضِها إلى بعضٍ؛ فإنَّ مأخَذَ الأدِلَّة عند الأئمَّة الرَّاسخينَ إنَّما هو على أن تؤخَذَ الشَّريعةُ كالصُّورةِ الواحِدةِ، بحَسَبِ ما ثبت من كليَّاتِها وجزئيَّاتها المرتَّبةِ عليها، وعامِّها المرتَّبِ على خاصِّها، ومُطلَقِها المحمولِ على مُقيَّدِها، ومجمَلِها المفسَّر بمُبَيِّنِها، إلى ما سوى ذلك من مَناحيها، فإذا حَصَل للنَّاظرِ مِن جُملتِها حُكْمٌ من الأحكامِ، فذلك هو الذي نطَقَت به حين استُنطِقَت، وما مثَلُها إلَّا مثَلُ الإنسانِ الصَّحيحِ السَّويِّ، فكما أنَّ الإنسانَ لا يكونُ إنسانًا يُستنطَقُ فينطِقُ باليدِ وَحْدَها، ولا بالرِّجل وَحْدَها، ولا بالرَّأسِ وَحْدَه، ولا باللِّسانِ وَحْدَه، بل بجُملتِه التي سمِّيَ بها إنسانًا، كذلك الشَّريعةُ لا يُطلَبُ منها الُحكمُ على حقيقةِ الاستنباطِ إلَّا بجملتِها، لا من دليلٍ منها، أيَّ دليلٍ كان، وإن ظهر لبادي الرَّأيِ نُطقُ ذلك الدَّليلِ، فإنَّما هو توهُّميٌّ لا حقيقيٌّ، كاليَدِ إذا استُنطِقَت فإنَّما تَنطِقُ توهُّمًا لا حقيقةً، من حيثُ عَلِمت أنَّها يدُ إنسانٍ، لا من حيثُ هي إنسانٌ؛ لأنَّه محالٌ.
    فشأنُ الرَّاسخين تصوُّرُ الشَّريعةِ صورةً واحدةً يخدُمُ بعضُها بعضًا؛ كأعضاءِ الإنسانِ إذا صُوِّرت صورةً متَّحِدةً.
    وشأنُ متَّبِعي المتشابِهاتِ أخذُ دليلٍ ما -أيَّ دليل كان- عفوًا وأخذًا أوَّليًّا، وإن كان ثَمَّ ما يعارِضُه من كُليٍّ أو جُزئيٍّ، فكما أنَّ العُضوَ الواحِدَ لا يعطى في مفهومِ أحكامِ الشَّريعةِ حُكمًا حقيقيًّا، فمتَّبِعُه مُتَّبِعُ مُتشابهٍ، ولا يتَّبِعُه إلَّا من في قَلْبِه زَيغٌ، كما شَهِدَ اللهُ به
    ) .
    وقال أحمدُ بنُ حَنبلٍ: (الحديثُ إذا لم تُجَمْع طُرُقُه لم تَفهَمْه، والحديثُ يفَسِّرُ بعضُه بعضًا) .
    وقال ابنُ خُزيمةَ: (لا أعرِفُ أنَّه رُوِيَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حديثانِ بإسنادَينِ صحيحينِ متضادَّانِ، فمن كان عِندَه فليأتِ به حتى أؤلِّفَ بينهما) .
    وقال الخطيبُ البغداديُّ: (قلَّما يتمهَّرُ في عِلمِ الحديثِ، ويقِفُ على غوامِضِه، ويستثيرُ الخَفِيَّ من فوائِدِه؛ إلَّا من جَمَع متفَرِّقَه، وألَّف مُتشَتِّتَه، وضَمَّ بعضَه إلى بعضٍ، واشتغل بتصنيفِ أبوابِه، وترتيبِ أصنافِه) .
    وقال ابنُ حَجَر: (المتعيِّنُ على من يتكلَّمُ على الأحاديثِ أن يجمَعَ طرُقَها، ثم يجمَعَ ألفاظَ المتونِ إذا صحَّت الطُّرُقُ، ويَشرَحَها على أنَّه حديثٌ واحدٌ؛ فإنَّ الحديثَ أَولى ما فُسِّر بالحديثِ) .
    وممَّا يَلتحِقُ بهذا المعنى جمعُ رواياتِ الحديثِ الواحِدِ، والنَّظَرُ في أسانيدِه وألفاظِه معًا، وقَبولُ ما ثَبَت، وطَرْحُ ما لم يَثبُتْ.
    وقد كانت لأهلِ البِدَعِ مواقِفُ خالفوا بها إجماعَ أهلِ السُّنَّةِ بسَبَبِ مخالفتِهم لهذا الأصلِ العَظيمِ، فكانوا يجتَزئون من النُّصوصِ بطَرَفٍ، مع إغضاءِ الطَّرْفِ عن بقيَّةِ الأطرافِ، فصارت كلُّ فرقةٍ منهم من الدِّينِ بطَرَفٍ، وبَقِيَ أهلُ السُّنَّة في كُلِّ قضيَّةٍ عَقَديَّةٍ وَسَطًا بين طرَفَينِ.
    قال أبو بكرٍ الباقِلَّانيُّ: (الأخبارُ على ضربينِ: ضربٌ منها يُعلَمُ أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تكلَّم به؛ إما بضَرورةٍ أو دليلٍ، ومنها ما لا يُعلَمُ كونُه متكَلِّمًا به، فكُلُّ خبرين عُلِمَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تكلَّم بهما، فلا يصِحُّ دخولُ التَّعارُضِ فيهما على وَجهٍ، وإن كان ظاهِرُهما متعارضَينِ؛ لأنَّ معنى التعارُضِ بين الخبرَينِ والقُرآنِ مِن أمرٍ ونهيٍ وغيرِ ذلك: أن يكونَ مُوجِبُ أحَدِهما منافيًا لموجِبِ الآخَرِ، وذلك يُبطِلُ التَّكليفَ إن كانا أمرًا ونهيًا، وإباحةً وحظرًا، أو يوجِبُ كونَ أحَدِهما صِدقًا، والآخرِ كَذِبًا إن كانا خبرينِ، والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم منزَّهٌ عن ذلك أجمعَ، ومعصومٌ منه باتِّفاقِ الأمَّةِ، وكلٌّ مُثبِتٌ للنبُوَّةِ، وإذا ثبتت هذه الجُملةُ، وجب متى عُلِمَ أنَّ قولَينِ ظاهِرُهما التَّعارضُ، ونفى أحدُهما لموجِبِ الآخَرِ، أن يُحمَلَ النَّفيُ والإثباتُ على أنَّهما في زمانينِ أو فريقينِ، أو على شَخصَينِ، أو على صِفتَينِ مختلفتَينِ، هذا ما لا بدَّ منه مع العِلمِ بإحالةِ مناقضتِه عليه السَّلامُ في شيءٍ من تقريرِ الشَّرعِ والبَلاغ، وهذا مِثلُ أن يُعلَمَ أنَّه قال: الصَّلاةُ واجبةٌ على أمَّتي، وقال أيضًا: ليست بواجبةٍ، أو الحَجُّ واجبٌ على زيدٍ هذا، وهو غيرُ واجبٍ عليه، وقد نهيتُه عنه، ولم أنْهَه عنه، وهو مطيعٌ لله فيه وهو عاصٍ به، وأمثال ذلك؛ فيَجِبُ أن يكونَ المرادُ بهذا أو نحوِه أنَّه آمِرٌ للأُمَّةِ بالصَّلاةِ في وَقتٍ، وغيرُ آمرٍ لها بها في غَيرِه، وآمِرٌ لها بها إذا كانت مُتطهِّرةً، وناهٍ عنها إذا كانت مُحدَثةً، وآمِرٌ لزيدٍ بالحَجِّ إذا قدَرَ، وغيرُ آمرٍ إذا لم يَقدِرْ، فلا بُدَّ من حَملِ ما عُلِمَ أنَّه تكلَّمَ به من التَّعارُضِ على بعضِ هذه الوُجوهِ، وليس يقع التعارضُ بين قَولَيه) .
    وقال ابنُ القَيِّمِ: (أمَّا طريقةُ الصَّحابةِ والتَّابعينَ وأئمَّةِ الحديثِ؛ كالشَّافعيِّ، والإمامِ أحمدَ، ومالكٍ، وأبي حنيفةَ، وأبي يوسُفَ، والبُخاريِّ، وإسحاقَ، فعكسُ هذه الطَّريقِ، وهي أنَّهم يردُّون المتشابِهَ إلى المحكَمِ، ويأخُذونَ من المحكَمِ ما يُفسِّرُ لهم المتشابِهَ ويبيِّنُه لهم، فتتَّفِقُ دَلالتُه مع دَلالة المحكَمِ، وتوافِقُ النُّصوص بعضُها بعضًا، ويصدِّقُ بعضُها بعضًا؛ فإنَّها كُلَّها من عند اللهِ، وما كان من عندِ اللهِ فلا اختِلافَ فيه ولا تناقُضَ، وإنَّما الاختِلافُ والتَّناقُضُ فيما كان مِن عندِ غَيرِه) .

    : من قواعِدِ الاستِدلالِ على مَسائِلِ الاعتِقادِ عندَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: الإيمانُ بالنُّصوصِ على ظاهِرِها وردُّ التَّأويلِ

    يُقصَد بظاهِرِ النُّصوصِ مَدلولُها المفهومُ بمقتضى الخِطابِ العربي، فالواجِبُ في نصوصِ الوَحيِ إجراؤُها على ظاهِرِها المتبادِرِ، واعتقادُ أنَّ هذا المعنى هو مرادُ المتكلِّمِ.
    وصرفُ الكلامِ عن ظاهِرِه المتبادِرِ من غيرِ دَليلٍ يُوجِبُه: تحكُّمٌ غيرُ مَقبولٍ، سَبَبُه الجَهلُ أو الهوى، وهو أقرَبُ إلى التَّحريفِ مِنَ التَّأويلِ .
    قال الشَّافعيُّ: (الأصلُ قرآنٌ أو سنَّةٌ، فإنْ لم يكن فقياسٌ عليهما، وإذا اتَّصَل الحديثُ عن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وصَحَّ الإسنادُ به، فهو سُنَّةٌ، والإجماعُ أكبَرُ من الخبرِ المنفَرِدِ، والحديثُ على ظاهِرِه، وإذا احتمَلَ المعانيَ فما أشبَهَ منها ظاهِرَ الأحاديثِ أَولاها به، وإذا تكافأَتِ الأحاديثُ فأصحُّها إسنادًا أَولاها) .
    وقال ابنُ تَيميَّةَ: (لم يكُنْ في الصَّحابةِ مَن تأوَّلَ شيئًا من نصوصِه -أي: نُصوصِ الوَحْيِ- على خلافِ ما دلَّ عليه، لا فيما أخبَرَ به اللهُ عن أسمائِه وصِفاتِه، ولا فيما أخبَرَ به عمَّا بعد الموتِ) .
    وقال ابنُ القَيِّمِ: (إذا سُئِلَ عن تفسيرِ آيةٍ من كتابِ اللهِ تعالى أو سنَّةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فليس له أن يُخرِجَها عن ظاهِرِها بوجوهِ التَّأويلاتِ الفاسِدةِ الموافِقةِ نِحْلتَه وهَواه، ومَن فَعَل ذلك استحقَّ المنعَ من الإفتاءِ والحَجْرَ عليه، وهذا الذي ذكَرْناه هو الذي صرَّح به أئمَّةُ الإسلامِ قديمًا وحديثًا) .
    وقال ابنُ الوزيرِ: (النَّقصُ في الدِّينِ برَدِّ النُّصوصِ والظَّواهِرِ، وردِّ حقائقِها إلى المجازِ من غيرِ طَريقٍ قاطعةٍ تدُلُّ على ثبوتِ الموجِبِ للتَّأويلِ إلَّا مجرَّد التَّقليدِ لبَعضِ أهلِ الكلامِ في قواعدَ لم يتَّفِقوا عليها) .
    وقال ابنُ حَجَرٍ: (وقد توسَّع من تأخَّر عن القُرونِ الثَّلاثةِ الفاضِلةِ في غالبِ الأُمورِ التي أنكَرَها أئمَّةُ التَّابعينَ وأتباعُهم، ولم يقتَنِعوا بذلك حتى مَزَجوا مَسائِلَ الدِّيانةِ بكلامِ اليونانِ، وجعلوا كلامَ الفلاسفةِ أصلًا يردُّون إليه ما خالفَه مِن الآثارِ بالتَّأويلِ -ولو كان مُستَكرَهًا-، ثمَّ لم يكتفوا بذلك حتى زعَموا أنَّ الذي رتَّبوه هو أشرَفُ العُلومِ، وأَوْلاها بالتَّحصيلِ، وأنَّ من لم يستَعمِلْ ما اصطلحوا عليه فهو عامِّيٌّ جاهِلٌ فالسعيدُ من تمسَّك بما كان عليه السَّلَفُ، واجتنب ما أحدَثَه الخَلَفُ) .
    ففي لزومِ الإيمانِ بالنُّصوصِ على ظاهِرِها المُرادِ، ودَفْعِ التَّأويلِ المتعَسِّف بغيرِ دليلٍ: مُوافَقةٌ لنُصوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ لَفظًا ومَعنًى، مع بُعدٍ عن التكلُّفِ في الدِّينِ، والقَولِ على اللهِ بغيرِ عِلمٍ، والافتراءِ على رَسولِه الأمينِ، فضلًا عمَّا في ذلك من مَصلحةِ سَدِّ بابِ الخُروجِ على العَقيدةِ ببِدْعةٍ مُحدَثةٍ، وسدِّ بابِ الخُروجِ على الشَّريعةِ، والاجتراءِ على الحُرُماتِ، والتهاوُنِ بالطَّاعاتِ، والوقوعِ في المنكَراتِ، بصَرْفِ ألفاظِ الوَعد والوَعيدِ عن حقيقتِها وظاهِرِها، ودعوى أنَّ كلَّ ذلك غيرُ مرادٍ.
    قال ابنُ تَيميَّةَ: (لَفظُ "التَّأويلِ" فيه اشتراكٌ بين ما عناه اللهُ في القُرآنِ، وبين ما كان يُطلِقُه طوائفُ من السَّلَف، وبين اصطِلاحِ طوائفَ من المتأخِّرينِ، فبسَبَبِ الاشتراكِ في لَفظِ التَّأويل اعتقد كلُّ من فَهِمَ منه معنًى بلُغتِه أنَّ ذلك هو المذكورُ في القُرآنِ،... ويبَيِّنُ ذلك أنَّ الصَّحابةَ والتَّابعينَ لم يمتنِعْ أحدٌ منهم عن تفسيرِ آيةٍ من كتابِ اللهِ، ولا قال: هذه من المتشابِهِ الذي لا يُعلَمُ معناه، ولا قال قطُّ أحدٌ من سَلَفِ الأمَّةِ ولا من الأئمَّة المتبوعينَ: إنَّ في القُرآنِ آياتٍ لا يُعلَمُ معناها، ولا يَفهمُها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا أهلُ العِلمِ والإيمانِ جميعُهم، وإنَّما قد يَنفُون عِلمَ بعضِ ذلك عن بَعضِ النَّاس، وهذا لا رَيْبَ فيه) .
    ----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
    التالي : -
    : من قواعِدِ الاستِدلالِ على مَسائِلِ الاعتِقادِ عندَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: دَرءُ التَّعارُضِ بيْن صحيحِ النَّقلِ وصَريحِ العَقلِ
    -
    تابعونا جزاكم الله خيرا

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5203
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

     مَبادِئ عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ - عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ وفوائدُه - خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ  - أصول عقيدة أهل السنه والجماعه                                                                        Empty : من قواعِدِ الاستِدلالِ على مَسائِلِ الاعتِقادِ عندَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: دَرءُ التَّعارُضِ بيْن صحيحِ النَّقلِ وصَريحِ العَقلِ

    مُساهمة من طرف صادق النور الجمعة نوفمبر 17, 2023 5:05 pm

    ما تابع ما قبله :-
    : من قواعِدِ الاستِدلالِ على مَسائِلِ الاعتِقادِ عندَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: دَرءُ التَّعارُضِ بيْن صحيحِ النَّقلِ وصَريحِ العَقلِ

    نُصوصُ الكِتابِ والسُّنَّةِ الصَّحيحةِ والصَّريحةِ في دَلالتِها: لا يعارِضُها شيءٌ من المعقولاتِ الصَّريحةِ؛ ذلك أنَّ العقل السَّويَّ شاهِدٌ بصحَّةِ الشَّريعةِ إجمالًا وتفصيلًا.
    فإن وُجِد ما يوهِمُ التعارضَ بين العَقلِ والنَّقلِ، فإمَّا أن يكونَ النقلُ غيرَ صحيحٍ، أو يكونُ صحيحًا ولكِنْ ليس فيه دَلالةٌ صحيحةٌ على المدَّعى، وإمَّا أن يكونَ العَقلُ فاسِدًا .
    قال مالِكٌ: (كلَّما جاءَنا رَجُلٌ أجدَلُ من رجُلٍ تركْنا ما نزل به جِبريلُ على مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لجَدَلِه؟) .
    وقال الشَّافِعيُّ: (كُلُّ شيءٍ خالف أمرَ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَقَط، ولا يقومُ معه رأيٌ ولا قياسٌ؛ فإنَّ اللهَ تعالى قطَعَ العُذرَ بقَولِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فليس لأحدٍ معه أمرٌ ولا نهيٌ غيرُ ما أَمَرَ هو به) .
    وقال ابنُ تَيميَّةَ: (ليس في المعقولِ الصَّريحِ ما يمكِنُ أن يكونَ مُقَدَّمًا على ما جاءت به الرُّسُلُ؛ وذلك لأنَّ الآياتِ والبراهينَ دالَّةٌ على صِدقِ الرُّسُلِ، وأنَّهم لا يقولون على اللهِ إلَّا الحَقَّ، وأنَّهم معصومون فيما يبلِّغوَنه عن اللهِ مِنَ الخَبَرِ والطَّلبِ، لا يجوزُ أن يَستقِرَّ في خَبَرِهم عن اللهِ شَيءٌ من الخطأِ، كما اتَّفَق على ذلك جميعُ المقِرِّين بالرُّسُلِ مِن المُسلِمينَ واليَهودِ والنَّصارى وغَيرِهم؛ فوجَبَ أنَّ جميعَ ما يخبِرُ به الرَّسولُ عن اللهِ صِدقٌ وحقٌّ، لا يجوزُ أن يكونَ في ذلك شَيءٌ مناقِضٌ لدليلٍ عَقليٍّ ولا سَمعيٍّ، فمتى عَلِمَ المؤمِنُ بالرَّسولِ أنَّه أخبَرَ بشَيءٍ من ذلك، جزم جزمًا قاطعًا أنَّه حقٌّ، وأنَّه لا يجوزُ أن يكونَ في الباطِنِ بخلافِ ما أخبَرَ به، وأنَّه يمتنعُ أن يعارضَه دليلٌ قَطعيٌّ ولا عَقليٌّ ولا سَمعٌّي، وأنَّ كلَّ ما ظنَّ أنَّه عارَضَه من ذلك فإنَّما هو حُجَجٌ داحِضةٌ، وشُبَهٌ من جِنسِ شُبَه السُّوفسطائيَّةِ، وإذا كان العَقلُ العالِمُ بصِدقِ الرَّسولِ قد شهد له بذلك، وأنه يمتنعُ أن يعارِضَ خبرَه دليلٌ صحيحٌ؛ كان هذا العَقلُ شاهدًا بأنَّ كل ما خالف خبَرَ الرَّسولِ فهو باطِلٌ، فيكونُ هذا العَقلُ والسَّمعُ جميعًا شَهِدا ببُطلانِ العَقلِ المخالِف للسَّمعِ) .
    وقال ابنُ تَيميَّةَ أيضًا: (مِنَ الأُصولِ المتَّفَقِ عليها بين الصَّحابةِ والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ أنَّه لا يُقبَلُ مِن أحَدٍ قَطُّ أن يعارِضَ القُرآنَ لا برأيِه ولا ذَوقِه ولا مَعقولِه، ولا قياسِه ولا وَجْدِه؛ فإنَّهم ثَبَت عنهم بالبراهينِ القطعيَّاتِ، والآياتِ البيِّناتِ أنَّ الرَّسولَ جاء بالهُدى ودينِ الحقِّ، وأنَّ القُرآنَ يَهدي للتي هي أقوَمُ) .

    : من قواعِدِ الاستِدلالِ على مَسائِلِ الاعتِقادِ عندَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: السُّكوتُ عمَّا سَكَت عنه اللهُ ورسولُه والإمْسَاكُ عمَّا أمسَكَ عنه السَّلَفُ الصَّالحُ


    كلُّ مسألةٍ مِن المَسائِلِ الشَّرعيَّةِ -ولا سيَّما مَسائِلِ الاعتقادِ- لا يُحكَمُ فيها نفيًا أو إثباتًا إلَّا بدليلٍ، فما ورد الدَّليلُ بإثباتِه أُثبت، وما ورد بنَفْيه نُفِيَ، وما لم يرِدْ بإثباتِه ولا بنَفْيِه دليلٌ توقَّفْنا، ولم نحكُمْ فيه بشيءٍ؛ لا إثباتًا ولا نفيًا، ولا يعني هذا أنَّ المسألةَ خاليةٌ عن الدَّليل، بل قد يكونُ عليها دليلٌ، لكِنْ لا نعلَمُه، فالواجِبُ التوقُّفُ: إمَّا مُطلقًا، أو لحين وجدانِ الدَّليلِ .
    قال الله تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا [الإسراء: 36] .
    أي: ولا تَقُلْ أو تفعَلْ شيئًا بمُجَرَّدِ الظَّنِّ، فتَتْبَعْ ما لا عِلمَ لك به، ولا دليلَ على صِحَّته .
    وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ذَرُوني ما تركتُكم؛ فإنَّما هَلَك مَن كان قَبْلَكم بكَثرةِ سُؤالِهم، واخِتلافِهم على أنبيائِهم، فإذا أمرتُكم بشَيءٍ فأْتُوا منه ما استَطَعْتُم، وإذا نهيتُكم عن شَيءٍ فدَعُوه )) .
    وقال عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه: (من عَلِمَ فلْيقُلْ، ومن لم يَعلَمْ فليقُل: اللهُ أعلَمُ؛ فإنَّ منَ العِلمِ أن يقولَ لِما لا يَعلَمُ: لا أعلَمُ؛ فإنَّ اللهَ قال لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: 86] ) .
    وسأل رجلٌ أبا حنيفةَ: ما تقولُ فيما أحدثه النَّاسُ من الكلامِ في الأعراضِ والأجسامِ؟ فقال: (مقالاتُ الفلاسِفةِ، عليك بالأثَرِ وطريقةِ السَّلَفِ، وإيَّاك وكلَّ مُحدَثةٍ؛ فإنَّها بِدعةٌ) .
    وقال الأوزاعيُّ: (اصبِرْ نفسَك على السُّنةِ، وقِفْ حيث وقَفَ القَومُ، وقُلْ فيما قالوا، وكُفَّ عما كَفُّوا، واسلُكْ سَبيلَ سَلَفِك الصَّالحِ؛ فإنَّه يسعُك ما يَسَعُهم) .

    : من قواعِدِ الاستِدلالِ على مَسائِلِ الاعتِقادِ عندَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: مُوافَقةُ النُّصوصِ لَفظًا ومعنًى أَولى مِن مُوافقتِها في المعنى دونَ اللَّفظِ


    لا شكَّ أنَّ مُتابَعةَ الكِتابِ والسُّنَّةِ في اللَّفظِ والمعنى أكمَلُ وأتمُّ من متابعتِهما في المعنى دونَ اللَّفظِ، ويكونُ ذلك باعتِمادِ ألفاظِ ومُصطلَحاتِ الكِتابِ والسُّنَّةِ لا سيَّما عند تقريرِ مَسائِلِ الاعتِقادِ وأُصولِ الدِّينِ، والتعبيرِ بها عن المعاني الشَّرعيَّةِ وَفْقَ لغةِ القُرآنِ وبيانِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فالتَّعبيرُ عن حقائِقِ الإيمانِ بعباراتِ القُرآنِ أَولى من التَّعبيرِ عنها بغَيرِها؛ فإنَّ ألفاظَ القُرآنِ يجِبُ الإيمانُ بها، وهي تنزيلٌ مِن حكيمٍ حَميدٍ، وفيها مِنَ الحِكَمِ والمعاني ما لا تنقَضي عجائبُه، وأمَّا الألفاظُ المحْدَثةُ ففيها إجمالٌ واشتِباهٌ ونِزاعٌ .
    قال ابنُ تَيميَّةَ: (السَّلَفُ كانوا يراعونَ لَفْظَ القُرآنِ والحديثِ فيما يُثبِتونَه ويَنفُونَه عن اللهِ مِن صِفاتِه وأفعالِه، فلا يأتونَ بلَفظٍ محدَثٍ مُبتدَعٍ في النَّفيِ والإثباتِ، بل كُلُّ معنًى صحيحٌ؛ فإنَّه داخِلٌ فيما أخبَرَ به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والألفاظُ المبتَدَعةُ ليس لها ضابِطٌ، بل كُلُّ قَومٍ يُريدونَ بها معنًى غَيرَ المعنى الذي أراده أولئك، كلَفظِ الجِسمِ والجِهةِ والحيِّزِ والجَبرِ، ونحوِ ذلك؛ بخِلافِ ألفاظِ الرَّسولِ؛ فإنَّ مُرادَه بها يُعلَمُ، كما يُعلَمُ مُرادُه بسائِرِ ألفاظِه) .
    وقال ابنُ القَيِّمِ: (إنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يحافِظُ على ألفاظِ القُرآنِ تَقديمًا وتأخيرًا، وتعريفًا وتنكيرًا كما يحافِظُ على معانيه، ومنه قَولُه، وقد بدأ بالصَّفا: ((أَبدأُ بما بدَأَ اللهُ به)) ، ومنه بداءتُه في الوُضوءِ بالوَجهِ ثمَّ اليَدَينِ اتِّباعًا للَفظِ القُرآنِ ، ومنه قَولُه في حديثِ البراءِ بنِ عازِبٍ: ((آمنتُ بكتابِك الذي أنزَلْتَ، ونبيِّك الذي أرسَلْتَ )) ؛
    موافقةً لقَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ [الأحزاب: 45]

    : من قواعِدِ الاستِدلالِ على مَسائِلِ الاعتِقادِ عندَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: لا نَسْخَ في الأخبارِ ولا في أُصولِ الدِّينِ


    إنَّ ما ذَكَره اللهُ من أخبارِ الجنَّةِ والنَّارِ، والحِسابِ والعِقابِ، والبَعثِ والحَشرِ والجَزاءِ، وغيرِ ذلك من الأخبارِ ومَسائِلِ الاعتقادِ:
    هي أمورٌ مُحكَمةٌ ثابتةٌ؛ لأنَّه تعالى إذا أخبَرَ عن شيءٍ فإنما يخبِرُ بعِلْمِه، وعِلْمُه أزليٌّ لا أوَّلَ له،
    وهو مطابِقٌ للأمرِ في نَفْسِه، عَلِمَ ما كان وما يكون وما سيكونُ، فلو أخبَرَ عن شيءٍ أنَّه كان أو سيكونُ،
    ثمَّ أخبَرَ بنَقيضِ ذلك أو برَفْعِه، لكان ذلك خُلفًا وكَذِبًا، مستلزمًا سَبْقَ الجَهلِ، وحُدوثَ العِلمِ وتجدُّدَه، وهذا مما يُعلَمُ ضرورةً أنَّ اللهَ تعالى منزَّهٌ عنه، بل هو من صفاتِ المخلوقينَ المربوبينَ، لا من صفاتِ الخالِقِ سُبحانَه .
    قال ابنُ تَيميَّةَ: (كتابُ اللهِ نوعانِ: خَبَرٌ وأمرٌ، أمَّا الخبرُ فلا يجوزُ أن يتناقضَ، ولكِنْ قد يفسِّرُ أحدُ الخبرَينِ الآخَرَ، ويبيِّن معناه، وأمَّا الأمرُ فيَدخُلُه النَّسخُ، ولا يُنسَخُ ما أنزل اللهُ إلَّا بما أنزَلَه اللهُ، فمن أراد أن يَنسَخَ شَرعَ اللهِ الذي أنزله، برَأْيِه وهواه؛ كان مُلحِدًا، وكذلك من دَفَع خَبَرَ اللهِ برأيه ونظرِه، كان مُلحِدًا) .
    وقال ابنُ القَيِّمِ: (لا يُعلَمُ أحدٌ يجوِّزُ النَّاسِخَ في أخبارِ اللهِ غيرُ صِنفٍ مِنَ الرَّوافِضِ يَصِفونَه بالبَداءِ، تعالى الله عن ذلك عُلوًّا كبيرًا! فلم يَزَلْ الله سُبحانَه عالِمًا) .

    : مِن قواعِدِ الاستِدلالِ على مَسائِلِ الاعتِقادِ عندَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: ردُّ التَّنازُعِ إلى الكِتابِ والسُّنَّةِ

    قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59] .
    أي: يا أيُّها المؤمنون أطيعوا اللهَ تعالى، وأطيعوا رَسولَه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وذلك بامتثالِ أمْرِهما، واجتنابِ نَهْيِهما، وأطيعوا أيضًا الوُلاةَ عليكم الذين يَلُون لكم أمورَ دِينكم ودُنياكم، وهم الأمَراءُ والعُلَماءُ؛ فأطيعوهم فيما لم يكُنْ فيه مخالفةٌ لطاعةِ اللهِ تعالى وطاعةِ رَسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فإن اختلَفْتُم -أيُّها المؤمنون- في شيءٍ مِن أمرِ دِينِكم؛ مِن أصولِه وفروعِه، فاطلُبوا معرفةَ حُكمِه من كتابِ الله تعالى وسنَّةِ رَسولِه صلَّى الله عليه إنْ كُنتُم مؤمنينَ باللهِ تعالى حقًّا، ومؤمنينَ بالآخرةِ أيضًا؛ فردُّكم لِما اختلفْتُم فيه إلى الكِتابِ والسُّنَّةِ خَيرٌ لكم وأفضَلُ في دِينكم ودُنياكم وآخرتِكم، وأحسنُ عاقبةً .
    قال ابنُ أبي العزِّ الحَنَفيُّ: (مَسائِلُ النِّزاعِ التي تتنازعُ فيها الأمَّةُ، في الأُصولِ والفُروعِ إذا لم تُرَدَّ إلى اللهِ والرَّسولِ، لم يتبيَّن فيها الحقُّ، بل يصيرُ فيها المتنازِعونَ على غيرِ بيِّنةٍ مِن أَمْرِهم، فإنْ رَحِمَهم الله أقرَّ بعضُهم بعضًا، ولم يَبْغِ بَعضُهم على بعضٍ، كما كان الصَّحابةُ في خلافةِ عُمَرَ وعُثمانَ يتنازعون في بعضِ مَسائِلِ الاجتهادِ، فيُقِرُّ بعضُهم بعضًا، ولا يعتدي ولا يُعتدَى عليه، وإن لم يُرحَموا وقع بينهم الاختِلافُ المذمومُ، فبغى بعضُهم على بعضٍ؛ إمَّا بالقَولِ، مثلُ: تكفيرِه وتفسيقِه، وإمَّا بالفِعلِ، مِثلُ: حَبسِه وضَرْبِه وقَتْلِه، والذين امتَحَنوا النَّاسَ بخَلْقِ القُرآنِ كانوا من هؤلاء؛ ابتَدَعوا بِدعةً، وكفَّروا من خالفَهم فيها، واستحَلُّوا مَنْعَ حقِّه وعقوبتَه!) .

    ---------------------------------------------------------------------------------------
    التالي : -
    -
    : المُرادُ بالتَّأويلِ وانقسامُه إلى تأويلٍ صَحيحٍ وتأويلٍ فاسِدٍ

    وما زلنا أحبابنا تابعونا

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5203
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

     مَبادِئ عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ - عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ وفوائدُه - خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ  - أصول عقيدة أهل السنه والجماعه                                                                        Empty رد: مَبادِئ عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ - عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ وفوائدُه - خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ - أصول عقيدة أهل السنه والجماعه

    مُساهمة من طرف صادق النور الجمعة نوفمبر 17, 2023 8:44 pm

    تابع ما قبله : -

    : المُرادُ بالتَّأويلِ وانقسامُه إلى تأويلٍ صَحيحٍ وتأويلٍ فاسِدٍ


    المرادُ بالتَّأويلِ في كِتابِ اللهِ سُبحانَه وتعالى:
    حقيقةُ المعنى الذي يَؤُولُ اللَّفظُ إليه، وهي الحقيقةُ الموجودةُ في الخارجِ؛
    فإنَّ الكلامَ نوعانِ: خَبَرٌ وطَلَبٌ؛ فتأويلُ الخبرِ هو الحقيقةُ، وتأويلُ الوَعدِ والوَعيدِ هو نفسُ الموعودِ والمتوعَّدِ به،
    وتأويلُ ما أخبَرَ اللهُ به من صفاتِه وأفعالِه نَفْسُ ما هو عليه سُبحانَه، وما هو موصوفٌ به من الصِّفاتِ العُلا، وتأويلُ الأمرِ هو نَفْسُ الأفعالِ المأمورِ بها .
    عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: (كانَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُكْثِرُ أنْ يَقُولَ في رُكُوعِه وسُجُودِه: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنا وبِحَمْدِك، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، يَتَأَوَّلُ القُرآنَ) .

    والمُرادُ بالتَّأويلِ في اصطِلاحِ أهلِ التَّفسيرِ والسَّلَفِ مِن أهلِ الفِقهِ والحَديثِ: التَّفسيرُ والبيانُ .
    قال ابنُ القَيِّمِ: (فالتَّأويلُ الصَّحيحُ هو القِسمانِ الأوَّلانِ، وهما حقيقةُ المعنى وما يَؤُولُ إليه في الخارجِ، أو تفسيرُه وبيانُ معناه، وهذا التَّأويل يعمُّ المحكَمَ والمتشابِهَ، والأمرَ والخَبَرَ... فالتَّأويل الذي يوافِقُ ما دلَّت عليه النُّصوصُ وجاءت به السُّنَّةُ ويطابِقُها: هو التَّأويلُ الصَّحيحُ، والتَّأويلُ الذي يخالِفُ ما دلَّت عليه النُّصوصُ وجاءت به السُّنةُ: هو التَّأويلُ الفاسِدُ) .
    والتَّأويلُ في اصطِلاحِ الأُصوليِّينَ هو: صرفُ اللَّفظِ عن ظاهِرِه المتبادِرِ منه إلى معنًى محتمِلٍ بدَليلٍ.
    وهو قِسمانِ:
    1- تأويلٌ صَحيحٌ مَقبولٌ: وهو صرفُ اللَّفظِ عن ظاهِرِه المتبادِرِ منه، لدَليلٍ صحيحٍ مِن القُرآنِ أو السُّنَّةِ.
    2- تأويلٌ فاسدٌ غيرُ مَقبولٍ: وهو صرفُ اللَّفظِ عن ظاهِرِه المتبادِرِ منه، لشيءٍ يعتَقِدُه المجتهِدُ دليلًا، ولكِنَّه ليس بدليلٍ في حقيقةِ الأمرِ.
    وحملُ اللَّفظِ على غيرِ ظاهِرِه بغَيرِ دليلٍ ليس بتأويلٍ في الحقيقةِ، بل هو تحريفٌ وتلاعبٌ بكتابِ اللهِ وسُنَّةِ نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومن هذا تأويلاتُ الجَهميَّةِ والباطنيَّةِ وغُلاةِ الرَّافِضةِ لبَعضِ آياتِ القُرآنِ الكَريمِ، والقاعِدةُ المقرَّرةُ عندَ أهلِ العِلمِ: أنَّه لا يجوزُ صَرْفُ شَيءٍ من كتابِ اللهِ ولا سُنَّةِ رَسولهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ظاهِرِه المتبادِرِ منه إلَّا بدليلٍ يجِبُ الرُّجوعُ إليه .

    قال ابنُ عثيمينَ عن النَّوعِ الثَّاني: (هو الذي درَجَ عليه أهلُ التَّحريفِ في صِفاتِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، مِثالُه: قَولُه تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] : ظاهِرُ اللَّفظِ أنَّ اللهَ تعالى استوى على العَرْشِ؛ استقَرَّ عليه، وعلا عليه، فإذا قال قائِلٌ: معنى اسْتَوَى: استولى على العَرْشِ، فنقول: هذا تأويلٌ عندك؛ لأنَّك صرفتَ اللَّفظَ عن ظاهِرِه، لكِنْ هذا تحريفٌ في الحقيقةِ؛ لأنَّه ما دلَّ عليه دليلٌ، بل الدَّليلُ على خلافِه) .

    : مَوقِفُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ من التَّأويلِ :

    : ذِكرُ إجماعِ الصَّحابةِ والتَّابعينَ وأهلِ السُّنَّةِ وأصحابِ الحَديثِ والفُقَهاءِ على نبذِ التَّأويلِ :

    : أولاً : - إجماعُ الصَّحابةِ والتَّابعينَ

    1. قال الأوزاعيُّ: (كنَّا والتَّابعون متوافِرونَ نقول: إنَّ اللهَ تعالى ذِكْرُه فوقَ عَرْشِه، ونؤمِنُ بما وردت السُّنَّةُ به من صفاتِه جلَّ وعلا) .

    2. قال ابنُ خزيمةَ: (إنَّ الأخبارَ في صِفاتِ اللهِ مُوافِقةٌ لكتابِ اللهِ تعالى، نقَلَها الخَلَفُ عن السَّلَفِ قَرنًا بعد قَرنٍ، مِن لدُنِ الصَّحابةِ والتَّابعينَ إلى عَصْرِنا هذا، على سبيل الصِّفاتِ لله تعالى، والمعرفةِ والإيمانِ به، والتَّسليمِ لِما أخبَرَ اللهُ تعالى في تنزيلِه، ونبيُّه الرَّسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن كتابِه، مع اجتنابِ التَّأويلِ والجُحودِ، وتَرْكِ التَّمثيلِ والتَّكييفِ) .

    3. قال ابنُ القَطَّان: (أجمعوا على وَصْفِ اللهِ تعالى بجَميعِ ما وَصَف نَفْسَه، ووصَفَه به نبيُّه، مِن غيرِ اعتِراضٍ فيه، ولا تكييفٍ له، وأنَّ الإيمانَ به واجِبٌ، وترْكَ التَّكييفِ له لازمٌ) .
    4. قال ابنُ تَيميَّةَ: (جميعُ ما في القُرآنِ مِن آياتِ الصِّفاتِ، فليس عن الصَّحابةِ اختِلافٌ في تأويلِها، وقد طالَعْتُ التفاسيرَ المنقولةَ عن الصَّحابة، وما رَوَوه من الحديثِ، ووقفتُ من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتُبِ الكِبارِ والصِّغارِ أكثَرَ من مائةِ تفسيرٍ، فلم أجِدْ -إلى ساعتي هذه- عن أحدٍ مِن الصَّحابةِ أنَّه تأوَّل شيئًا من آياتِ الصِّفاتِ، أو أحاديثِ الصِّفاتِ بخِلافِ مقتضاه المفهومِ المعروفِ، بل عنهم من تقريرِ ذلك وتثبيتِه، وبيانِ أنَّ ذلك من صفاتِ اللهِ؛ ممَّا يخالِفُ كلامَ المتأوِّلينَ: ما لا يُحصِيه إلَّا اللهُ!) .

    ثانياً :- : إجماعُ أهلِ السُّنَّةِ وأصحابِ الحَديثِ
    1- قال الترمذيُّ عَقِبَ روايتِه لحَديثٍ في فَضلِ الصَّدَقةِ، فيه ذكرُ صفةِ اليمينِ للرَّحمنِ جلَّ ذِكرُه: (قال غيرُ واحدٍ مِن أهلِ العِلمِ في هذا الحديثِ وما يُشبِهُ هذا من الرِّواياتِ مِن الصِّفاتِ، ونُزولِ الربِّ تبارك وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيا.
    قالوا: قد ثَبَتت الرِّواياتُ في هذا، ويؤمَنُ بها، ولا يُتوهَّمُ، ولا يُقالُ: كيف؟ هكذا رُوِي عن مالكِ بن أنَسٍ، وسفيانِ بنِ عُيَينةَ، وعبدِ اللهِ بنِ المبارَكِ: أنَّهم قالوا في هذه الأحاديثِ: أمِرُّوها بلا كيفٍ، وهكذا قولُ أهلِ العِلمِ مِن أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ
    ) .

    2- قال أبو عُثمانَ الصَّابوني: (أصحابُ الحديثِ -حَفِظَ الله أحياءَهم ورَحِمَ أمواتَهم- يشهَدون لله تعالى بالوحدانيَّةِ، وللرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالرِّسالةِ والنبوَّة، ويعرفونَ ربَّهم عزَّ وجَلَّ بصِفاتِه التي نطق بها وحيُه وتنزيلُه، أو شَهِدَ له بها رسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على ما وردت الأخبارُ الصِّحاحُ به، ونَقَلت العدولُ الثقاتُ عنه، ويُثبتون له -جلَّ جلالُه- ما أثبتَه لنَفْسِه في كتابِه وعلى لسانِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا يَعتَقِدونَ تَشبيهًا لصفاتِه بصِفاتِ خَلْقِه... ولا يحرِّفون الكَلِمَ عن مواضِعِه... تحريف المُعتَزِلةِ والجَهْميَّةِ... وقد أعاذ اللهُ تعالى أهلَ السُّنَّةِ مِن التَّحريفِ والتَّشبيهِ والتَّكييفِ، ومَنَّ عليهم بالتَّعريفِ والتَّفهيمِ؛ حتى سَلَكوا سَبيلَ التَّوحيدِ والتَّنزيهِ، وتركوا القولَ بالتَّعطيلِ والتَّشبيهِ) .
    3- قال ابنُ عبد البَرِّ: (أهلُ السُّنَّةِ مُجمِعون على الإقرارِ بالصِّفاتِ الواردةِ كُلِّها في القُرآنِ والسُّنةِ، والإيمانِ بها، وحمْلِها على الحقيقةِ لا على المجازِ، إلَّا أنَّهم لا يكَيِّفون شيئًا من ذلك، ولا يَحُدُّون فيه صفةً محصورةً.
    وأمَّا أهلُ البِدَعِ، والجَهميَّةُ، والمعتزلةُ كُلُّها، والخوارجُ: فكلُّهم ينكِرُها، ولا يحمِلُ شيئًا منها على الحقيقةِ، ويزعُمون أنَّ من أقَرَّ بها مشَبِّهٌ، وهم عند من أثبتها نافون للمَعبودِ، والحَقُّ فيما قاله القائِلونَ بما نَطَق به كتابُ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهم أئمَّةُ الجَماعةِ
    ) .
    4- قال البَغَوي عند تفسيرِه لِقَولِه تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ [الأعراف: 54] : (أولَّت المعتزلةُ الاستواءَ بالاستيلاءِ، فأمَّا أهلُ السُّنَّةِ يقولون: الاستواءُ على العَرشِ صِفةٌ لله تعالى بلا كيفٍ، يجبُ على الرجُلِ الإيمانُ به، ويَكِلُ العلمَ فيه إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ) .

    ثالتاً : - : إجماعُ الفُقَهاءِ وأئمَّةِ العِلمِ

    1- قال محمَّدُ بنُ الحسَنِ؛ صاحِبُ أبي حنيفةَ: (اتَّفق الفُقَهاءُ كُلُّهم من المشرِقِ إلى المغربِ على الإيمانِ بالقُرآنِ والأحاديثِ التي جاء بها الثِّقاتُ عن رَسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في صفةِ الرَّبِّ عزَّ وجَلَّ من غير تفسيرٍ ، ولا وَصفٍ، ولا تَشبيهٍ، فمن فَسَّر اليومَ شَيئًا من ذلك فقد خرج ممَّا كان عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفارق الجماعةَ؛ لأنَّه وصَفَه بصِفةِ لاشَيءٍ) .

    2- قال ابنُ خزيمةَ: (فنحن وجميعُ علمائِنا من أهلِ الحِجازِ، وتهامةَ، واليَمَنِ، والعِراقِ، والشَّامِ، ومِصرَ: مذهبُنا أنَّا نُثبِتُ لله ما أثبته اللهُ لنَفْسِه؛ نُقِرُّ بذلك بألسنتِنا، ونصدِّقُ بذلك بقُلوبِنا من غير أن نُشَبِّهَ وَجهَ خالقِنا بوَجهِ أحدٍ من المخلوقين، عزَّ ربُّنا عن أن يُشبَّه بالمخلوقينَ، وجلَّ ربُّنا عن مقالةِ المعطِّلين، وعزَّ أن يكونَ عدَمًا كما قاله المُبطِلون؛ لأنَّ ما لا صفةَ له عدمٌ، تعالى الله عمَّا يقولُ الجهميُّون الذين يُنكِرون صفاتِ خالِقِنا، التي وصف اللهُ بها نفسَه في محكَمِ تنزيلِه، وعلى لسانِ نبيِّه محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) .

    وقال الخطيبُ البغداديُّ: (أمَّا الكلامُ في الصِّفاتِ فإنَّ ما رُوِيَ عنها في السُّنَنِ الصِّحاحِ، مَذهَبُ السَّلَفِ إثباتُها وإجراؤُها على ظواهِرِها، ونَفيُ الكيفيَّةِ والتَّشبيهِ عنها) .
    3- قال ابنُ عبدِ البَرِّ: (رُوينا عن مالكِ بنِ أنسٍ، والأوزاعيِّ، وسُفيانَ بنِ سَعيدٍ، وسفيانَ بنِ عُيَينةَ، ومَعْمَرِ بنِ راشِدٍ، في الأحاديثِ في الصِّفاتِ: أنَّهم كُلَّهم قالوا: أمِرُّوها كما جاءت) .
    4- قال ابنُ كثيرٍ عند تَفسيرِه لِقَولِه تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ [الأعراف: 54] : (فللنَّاسِ في هذا المقامِ مَقالاتٌ كثيرة جدًّا، ليس هذا موضِعَ بَسْطِها، وإنَّما يُسلَك في هذا المقامِ مذهبُ السَّلَفِ الصَّالحِ: مالكٍ، والأوزاعيِّ، والثَّوريِّ، واللَّيثِ بنِ سَعدٍ، والشَّافعيِّ، وأحمدَ بنِ حَنبلٍ، وإسحاقَ بنِ راهَوَيه، وغيرِهم من أئمَّةِ المسلِمينَ قديمًا وحديثًا، وهو إمرارُها كما جاءت من غيرِ تكييفٍ، ولا تشبيهٍ، ولا تعطيلٍ) .

    : موقِفُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ من التَّفويضِ :

    : حقيقةُ مذهَبِ أصحابِ التَّفويضِ :

    المُفَوِّضةُ هم طائفةٌ من المنتَسِبينَ إلى السُّنَّةِ واتِّباعِ السَّلَفِ يقولون: نؤمِنُ بصِفاتِ اللهِ، ولكِنَّ اللهَ أعلمُ بمرادِه منها، ومنهم من يتبنَّى إجراءَ النُّصوصِ على ظاهِرِها مع تفويضِ عِلمِ معناها إلى اللهِ، ويَزعمُ أنَّه مذهَبُ السَّلَفِ.
    فهم طائفتان؛ من حيث إثباتُ ظواهِرِ النُّصوصِ ونفيُها:
    الطائفةُ الأُولى: تقول: المرادُ بهذه النُّصوصِ خِلافُ مدلولها الظَّاهِرِ، ولا يَعرِفُ أحدٌ من الأنبياءِ ولا الملائِكةِ ولا الصَّحابةِ ولا أحدٌ من الأمَّةِ ما أراد اللهُ بها!
    الطائفةُ الثَّانية: تقولُ: بل تُجرى على ظاهِرِها، وتُحمَلُ عليه، ومع هذا فلا يَعلمُ تأويلَها إلَّا اللهُ تعالى .

    الفَرقُ بين مَذهَبِ السَّلَفِ وبين مَذهَبِ المُفَوِّضةِ مِن جِهتَينِ:


    1- أنَّ السَّلَفَ أثبَتوا اللَّفظَ وما دَلَّ عليه من المعاني، مع فَهْمِهم المعنى المرادَ من حيثُ الوضعُ اللُّغويُّ، ومن حيثُ معرفةُ مرادِ المتكَلِّمِ، فيَعلَمونَ معنى السَّمعِ والبَصَرِ، والوَجهِ واليَدَينِ، والصِّراطِ والميزانِ، ونحوِ ذلك.
    أمَّا المُفَوِّضةُ فهم وإن كانوا قد أثبتوا اللَّفظَ، وفَهِموه من حيثُ وَضعُ اللُّغةِ، لكِنَّهم توقَّفوا في تعيينِ المرادِ به في حَقِّ اللهِ تعالى، بل يمنعونَ أن يكونَ ظاهِرُه مرادًا.
    2- السَّلَفُ فوَّضوا العِلمَ بالكيفيَّةِ دونَ العِلمِ بالمعنى، فيَعلَمونَ معنى السَّمعِ والبَصَرِ، والوَجهِ، واليدينِ، ويعلمون معانيَ ما أخبَرَ اللهُ به من مَسائِلِ اليومِ الآخِرِ مِن أنواعِ النَّعيمِ، وصُنوفِ العذابِ، ولكِنَّهم يَجهَلونَ كَيفيَّةَ ذلك وحقيقتَه، أمَّا المُفَوِّضةُ فقد فوَّضوا العلمَ بالكيفيَّةِ والمعنى جميعًا، فلا يَعلَمونَ معانيَ نُصوصِ الصِّفاتِ، ولا معانيَ نصوصِ المعادِ، بل يقولونَ: لا ندري ما أراد اللهُ بها؛
    ولذلك سمَّاهم أهلُ العِلمِ: أهلَ التَّجهيلِ .
    الفَرقُ بين التَّفويضِ والتَّأويلِ:
    لا فَرْقَ بين أهلِ التَّفويضِ وأهلِ التَّأويلِ؛ من حيثُ نفيُهم للصِّفاتِ التي دلَّت عليها نصوصُ الكِتابِ والسُّنَّةِ، فكُلُّهم من نُفاةِ الصِّفاتِ.
    ولكِنَّ الفَرْقَ في طريقةِ إثباتِهم لها؛ فالمُفَوِّضةُ يُثبِتون اللَّفظَ ويَنفُونَ المعنى، ويَتركونَ نِسبةَ عِلْمِه إلى اللهِ تعالى، والمؤَوِّلةُ يَصرِفون المعنى بما يخالِفُ ظاهِرَ النُّصوصِ.
    فالمُفَوِّضة يقولون في قَولِه تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وقولِه: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ: لا نعلَمُ ما معنى «استوى»، ولا معنى «يد»، ونفَوِّض معناهما إلى اللهِ،
    والمؤَوِّلة يقولون: استوى بمعنى استولى، ويدُ اللهِ بمعنى قُدرةِ اللهِ؛ فصَرَفوا المعنى إلى معنًى آخَرَ يخالِفُ ظاهِرَ النَّصِّ .

    : الأدِلَّةُ على بُطلانِ مَذهَبِ التَّفويضِ :


    1- تواترُ الآياتِ والأحاديثِ على إثباتِ صفةٍ مُعَيَّنةٍ، بأساليبَ متعدِّدةٍ، ودَلالاتٍ مُتعاضِدة: يؤكِّدُ أن هذا الظَّاهِرَ هو المطلوبُ فَهمُه.
    2- فَسَّر أئمَّةُ السَّلَف كثيرًا من آياتِ الصِّفاتِ؛ كقولهم في الاستواء إنَّه: العُلُوُّ، والاستقرارُ، والارتفاعُ ؛ ممَّا يدُلُّ على أنَّهم فَهِموا معناها.
    3- تفريقُ السَّلَفِ بين إدراكِ المعنى وإدراكِ الكَيفِ، وقد أوردَ الذَّهبيُّ قولَ مالِكٍ: (الكَيفُ غَيرُ مَعقولٍ، والاستِواءُ منه غيرُ مَجهولٍ، والإيمانُ به واجِبٌ، والسُّؤالُ عنه بِدعةٌ) ثمَّ قال مُعَقِّبًا: (هذا ثابِتٌ عن مالكٍ، وتقدَّم نحوُه عن رَبيعةَ شَيخِ مالِكٍ، وهو قَولُ أهلِ السُّنَّةِ قاطِبةً: أنَّ كيفيةَ الاستواءِ لا نَعقِلُها، بل نجهَلُها، وأنَّ استواءَه معلومٌ، كما أخبَرَ في كتابِه، وأنَّه كما يَليقُ به) .
    4- يَلزَمُ مِن مَذهَبِ التَّفويضِ لوازمُ باطِلةٌ؛ منها:
    أ- القدحُ في الرَّبِّ جلَّ وعلا، وفي القُرآنِ الكريمِ، وفي الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وذلك بأن يكونَ اللهُ تعالى أنزل كلامًا لا يُفهَم، وأمر بتدبُّر ما لا يُتدَبَّر، وأن يكونَ القرآنُ الذي هو النُّورُ المُبِينُ والذِّكرُ الكريمُ سَببًا لأنواعِ الاختِلافاتِ والضَّلالاتِ، وأن يكونَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يبيِّن للنَّاسِ ما نُزِّل إليهم، وبهذا تكونُ قد فَسَدت الرِّسالةُ، وبطَلَت الحُجَّةُ.
    ب- أن يتسلَّطَ المتأوِّلةُ على المُفَوِّضةِ، فينسُبون هذه الطَّريقةَ إلى السَّلَفِ، فيَكونُ السَّلَفُ من الصَّحابة وخيارِ التَّابعينَ بمنزلةِ الأمِّيِّينَ الذين لا يَعلَمونَ الكِتابَ إلَّا أمانيَّ.
    ج- استطالةُ نُفاةِ المَعادِ وغَيرِهم من الملاحِدةِ على المُفَوِّضةِ، فيقولُ الواحِدُ منهم: الحقُّ في نفسِ الأمرِ ما عِلمتُه برَأْيي وعقلي، وليس في النُّصوصِ ما يناقِضُ ذلك؛ لأنَّ تلك النُّصوصَ مُشكِلةٌ ومُتَشابِهةٌ لا يَعلَمُ أحدٌ معناها، وما لا يُعلَمُ معناه لا يجوزُ الاستدلالُ به، فيبقى مَذهبُ التَّفويضِ سَدًّا لبابِ الهدى والبيانِ مِن جِهةِ الأنبياءِ، وفتحًا لبابِ مَن يُعارِضُهم من أهلِ الضَّلالاتِ مِنَ الفَلاسِفةِ، والملاحِدةِ الباطنيَّةِ، وأصحابِ الأذواقِ والمواجيدِ والتَّأويلاتِ الشَّنيعةِ .

    : مَوقِفُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ من التَّعطيلِ :

    المرادُ بالتَّعطيلِ: إنكارُ ما أثبَتَه اللهُ لِنَفْسِه من الأسماءِ والصِّفاتِ، سواءٌ كان إنكارًا كليًّا أو جزئيًّا، وسواءٌ كان ذلك بتحريفٍ أو بجُحودٍ.
    والفرقُ بين التَّعطيلِ والتَّحريفِ: أنَّ التَّحريفَ في الدَّليلِ، والتَّعطيلَ في المدلولِ؛
    فمثلًا:
    إذا قال قائِلٌ: معنى قَولِه تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان [المائدة: 64] ، أي: بل قوَّتاه، فهذا محرِّفٌ للدَّليلِ، ومُعَطِّلٌ للمُرادِ الصَّحيحِ؛ لأنَّ المرادَ اليدُ الحقيقيَّةُ؛ لذا فقد عطَّل المعنى المرادَ، وأثبت معنًى آخَرَ غيرَ مرادٍ.
    وإذا قال: لا أدري، فأنا أفوِّضُ الأمرَ إلى اللهِ، دونَ أن أثبِتَ اليَدَ الحقيقيَّةَ، أو اليدَ المحَرَّفَ إليها اللَّفظُ فهذا معَطِّلٌ، وليس بمحَرِّفٍ؛ لأنَّه لم يغَيِّرْ معنى اللَّفظِ، ولم يفَسِّرْه بغيرِ مُرادِه، ولكِنْ عطَّل معناه الذي يرادُ به، وهو إثباتُ يدٍ حَقيقيَّةٍ لله عزَّ وجَلَّ.
    وأهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ يتبرَّؤون مِن كِلا الأمرَينِ التَّعطيلِ والتَّحريفِ .

    : مَوقِفُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ من التَّكييفِ :

    التَّكييفُ: هو أن تُذكَرَ كيفيَّةُ الصِّفةِ.
    ولفظةُ (تكييفٍ): لم تَرِدْ في الكِتابِ والسُّنَّةِ، لكِنْ ورد ما يدُلُّ على النَّهيِ عنها.
    وليس المرادُ ألَّا نعتَقِدَ لصفاتِ اللهِ كيفيَّةً ما، بل يجِبُ أن نعتَقِدَ لها كيفيَّةً، ولكِنَّ المنفيَّ عِلمُنا بتلك الكيفيَّةِ؛ فاستواءُ اللهِ على العَرْشِ له كيفيَّةٌ ونزولُه إلى السَّماءِ الدُّنيا، وغَيرُها مِنَ الصِّفاتِ الفِعليَّةِ لها كيفيَّةٌ لا تُعلَمُ.

    فأهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ لا يكَيِّفون صفاتِ اللهِ، مُستَنِدينَ في ذلك إلى أدِلَّةٍ؛ منها:
    عمومُ قَولِه تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33] .
    فإذا جاء رجلٌ وقال: إنَّ الله استوى على العرشِ، ووصف كيفيَّةً معيَّنةً، فقد قال على الله ما لا يَعلَم؛ فاللهُ أخبَرَنا بأنَّه استوى، ولكِنْ لم يُطلِعْنا على كيفيَّةِ استوائِه.
    وثمَّةَ دليلٌ عقليٌّ، وهو أنَّ كيفيَّةَ الشَّيءِ لا تُدرَكُ إلَّا بأحدِ أُمورٍ ثلاثةٍ:
    مشاهدتِه، أو مشاهدةِ نظيرِه، أو خبرِ الصَّادِقِ عنه .
    عن يحيى بن يحيى، قال: كنَّا عند مالكِ بنِ أنَسٍ، فجاء رجلٌ، فقال: يا أبا عبدِ اللهِ، الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] ، كيف استوى؟ قال: فأطرَقَ مالكٌ رأسَه، حتى علاه الرُّحَضاءُ ، ثم قال: (الاستواءُ غيرُ مجهولٍ، والكيفُ غيرُ مَعقولٍ، والإيمانُ به واجِبٌ، والسُّؤالُ عنه بدعةٌ) .

    : مَوقِفُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ من التَّمثيلِ :

    التَّمثيلُ: ذِكرُ مماثِلٍ للشَّيءِ، وبيْنه وبيْن التَّكييفِ عمومٌ وخصوصٌ مُطلَقٌ؛ لأنَّ كُلَّ ممثِّلٍ مكيِّفٌ، وليس كلُّ مكَيِّفٍ مُمثِّلًا.
    فالتَّمثيلُ: ذِكرُ الصِّفةِ مقيَّدةً بمُماثِلٍ؛ فتقولُ: يد فلانٍ مِثلُ يدِ فُلانٍ، والتَّكييفُ: ذِكرُ الصِّفةِ غيرَ مُقيَّدةٍ بمُماثِلٍ، مِثلُ أن تقولَ: كيفيَّةُ يدِ فلانٍ كذا وكذا.
    والكَيفيَّةُ لا تكونُ إلَّا في الصِّفةِ والهيئةِ، والتَّمثيلُ يكونُ في ذلك وفي العَدَدِ.
    والتَّعبيرُ بالتَّمثيلِ أَولى من التَّعبيرِ بالتَّشبيهِ؛ لأن القرآنَ عبَّرَ به.
    قال الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] ، وكلُّ تعبيرٍ عَبَّر به القرآُن فهو أولى من غَيرِه؛ إذ لا أفصَحَ من القُرآنِ، ولا أدَلَّ على المعنى المرادِ منه.
    ولأنَّ التَّشْبيهَ عندَ بَعضِ النَّاسِ يعني إثباتَ الصِّفاتِ، فإذا قُلْنا: من غيرِ تَشبيهٍ، فكأنَّنا نقولُ له: من غيرِ إثباتِ صِفاتٍ، فصار لفظُ التَّشْبيهِ يوهِمُ معنًى فاسدًا؛ فالعدولُ عنه أَولى.
    ولأنَّ نَفْيَ التَّشْبيهِ على الإطلاقِ غيرُ صحيحٍ؛ فما من شيئينِ مِن الأعيانِ أو من الصِّفاتِ إلَّا وبينهما اشتراكٌ مِن بَعضِ الوُجوهِ، والاشتراكُ نوعُ تشابُه، فلو نَفَيتَ التَّشْبيهَ مُطلقًا؛ لكُنتَ نفيتَ كُلَّ ما يَشتَرِكُ فيه الخالِقُ والمخلوقُ في شيءٍ ما؛
    فمثلًا: الوُجودُ يشترِكُ في أصلِه الخالقُ والمخلوقُ، لكِنْ فرقٌ بين الوجودينِ، وكذلك السَّمعُ فيه اشتراكٌ؛ فالخالِقُ له سمعٌ، والإنسانُ له سَمعٌ، لكِنَّ بينهما فرقًا.
    وأهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ يُثبتون لله عزَّ وجَلَّ الصِّفاتِ بدونِ مماثلةٍ؛ فاللهُ عزَّ وجَلَّ لا يماثِلُ خَلْقَه فيما وَصَفَ به نَفْسَه.
    قال اللهُ تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] .
    وقال اللهُ سُبحانَه: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 4] .
    وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا [البقرة: 22] أي: نُظَراءَ مماثِلينَ.
    فلا يمكِنُ التَّماثُلُ بين الخالِقِ والمخلوقِ أبدًا، فثمَّةَ تباينٌ عظيمٌ بين الخالِقِ والمخلوقِ؛ في ذاتِه وصِفاتِه وأفعالِه.
    وإنَّنا نشاهِدُ في المخلوقاتِ أشياءَ تتَّفِقُ في الأسماءِ وتختَلِفُ في المسمَّياتِ، وبينهما تفاوتٌ عَظيمٌ في حقيقةِ الأمرِ؛ فاليَدُ شيءٌ مُشترَكٌ بين الإنسانِ والحيوانِ، ولكِنَّ يدَ الإنسانِ ليست كيدِ الجَمَل مثلًا، فإذا كان التَّفاوتُ واقعًا بين المسمَّياتِ في المخلوقاتِ مع اتِّفاقِ الاسمِ، فحُصولُ هذا التَّفاوتِ بين الخالِقِ والمخلوقِ أَولى وأعظَمُ .
    قال ابنُ أبي العِزِّ: (المشهورُ من استِعمالِ هذا اللَّفظِ عند عُلَماءِ السُّنَّةِ المشهورينَ: أنَّهم لا يُريدونَ بنَفيِ التَّشْبيهِ نفيَ الصِّفاتِ، ولا يَصِفونَ به كُلَّ من أثبَتَ الصِّفاتِ، بل مرادُهم أنَّه لا يُشْبِهُ المخلوقَ في أسمائِه وصفاتِه وأفعالِه، كما تقدَّم من كلامِ أبي حنيفةَ رحمه اللهُ؛ أنَّه تعالى يعلَمُ لا كعِلْمنا، ويقدِرُ لا كقُدرتِنا، ويرى لا كرُؤيتِنا، وهذا معنى قَولِه تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] ، فنفى المِثْلَ وأثبَتَ الصِّفةَ) .
    ---------------------------------------------------------------------------------------------
    التالي : -
    -
    : مَوقِفُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ من المَنطِقِ الأَرُسطيِّ :

    : التَّعريفُ بالمَنطِقِ الأرُسطيِّ :

    -
    تابعونا جزاكم الله خيرا

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5203
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

     مَبادِئ عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ - عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ وفوائدُه - خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ  - أصول عقيدة أهل السنه والجماعه                                                                        Empty : مَوقِفُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ من المَنطِقِ الأَرُسطيِّ : : التَّعريفُ بالمَنطِقِ الأرُسطيِّ : -

    مُساهمة من طرف صادق النور الأحد نوفمبر 19, 2023 6:52 am

    تابع ما قبله : -

    : مَوقِفُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ من المَنطِقِ الأَرُسطيِّ :

    : التَّعريفُ بالمَنطِقِ الأرُسطيِّ :

    يزعُمُ أصحابُ المنطِقِ أنَّ المنطِقَ نوعان: ظاهرٌ وباطِنٌ، والظَّاهِرُ هو الألفاظُ والكلامُ، وتقويمُه إنَّما يكونُ بالنَّحوِ في النَّثرِ، وبالعَرُوضِ في الشِّعرِ، وأمَّا الباطِنُ فهو عملُ العَقلِ، وفِكرُه، وتقويمُه إنَّما يكونُ بالمنطِقِ الاصطِلاحيِّ، والمشهورُ عندهم أنَّه: (آلةٌ قانونيَّةٌ تَعصِمُ مراعاتُها الذِّهنَ عن الخطَأِ في الفِكرِ، أو أن يَزلَّ في تفكيرِه)

    : الأسبابُ الشَّرعيَّةُ لرَفضِ المَنطِقِ الأرُسطيِّ


    1- عدمُ صِحَّةِ نتائجِه وصِدقِ قضاياه بصورةٍ دائِمةٍ ومُطَّرِدةٍ، فيظنُّ من يرى صِدْقَه في بَعضِ الجوانِبِ أنَّ ما يتعَلَّقُ بالعقائِدِ مُبرهَنٌ كذلك بمِثلِ تلك البراهينِ؛
    قال الغزاليُّ في مَعرِضِ نَقدِه للمَنطِقِ: (ربَّما يَنظُرُ في المنطقِ أيضًا مَن يَستحسِنُه ويراه واضحًا، فيظُنُّ أنَّ ما يُنقَل عنهم من الكُفريَّاتِ مُؤيَّدٌ بمثلِ تلك البراهينِ، فاستعجَلَ بالكُفرِ قبل الانتهاءِ إلى العُلومِ الإلهيَّةِ، فهذه الآفةُ أيضًا مُتطرِّقةٌ إليه) .
    وقال ابنُ تَيميَّةَ: (كنتُ أحسَبُ أنَّ قضاياه -أي المنطِقِ- صادقةٌ؛ لِما رأيتُ من صدقِ كثيرٍ منها، ثم تبيَّن لي فيما بعدُ خطأُ طائفةٍ من قضاياه... وتبيَّن لي أنَّ كثيرًا ممَّا ذكروه في أصولِهم في الإلهيَّاتِ وفي المنطِقِ هو من أُصولِ فَسادِ قولِهم في الإلهيَّاتِ) .
    2- قُصورُ البُرهانِ الفَلسفيِّ عن الوُصولِ بالإنسانِ إلى اليَقينِ عندَ تَطبيقِه في الإلهيَّاتِ.
    قال الغزاليُّ: (لهم نوعٌ من الظُّلمِ في هذا العِلمِ، وهو أنَّهم يَجمَعون للبُرهانِ شُروطًا يُعلَم أنَّها تُورِثُ اليَقينَ لا محالةَ، لكنَّهم عند الانتهاءِ إلى المقاصِدِ الدِّينيَّةِ ما أمكَنَهم الوفاءُ بتلك الشُّروطِ، بل تساهَلوا غايةَ التَّساهُلِ) .
    3- ما يلزَمُ منه من لوازمَ فاسِدةٍ تُناقِضُ العِلمَ والإيمانَ، وتُفضي إلى أنواعٍ مِنَ الجَهلِ والكُفرِ والضَّلالِ . ومن ذلك:
    أ- القولُ بقِدَم العالَمِ؛ وذلك لأنَّ الإلهَ لا يسبِقُ العالمَ في الوُجودِ الزَّمنيِّ، وإن كان يَسبِقُه في الوُجودِ الفِكْريِّ، مِثلَما تسبِقُ المقَدِّمةُ النَّتيجةَ في الوُجودِ الفِكريِّ .
    ب- إنكارُ الصِّفاتِ الثُّبوتيَّةِ لله تعالى، بل يَصِفونَه بالنَّفيِ المحْضِ، أو بما لا يتضَمَّنُ إلَّا النَّفيَ؛ ولهذا قالوا: الواحِدُ لا يَصدُرُ عنه إلَّا واحِدٌ؛ لأنَّه لو صدَرَ عنه اثنانِ لكان ذلك مخالِفًا للوَحْدةِ، وبهذا نَفَوا أن يكونَ اللهُ فاعلًا مُختارًا !
    ج- إنكارُ عِلمِ اللهِ تعالى بالجزئيَّاتِ؛ فالله تعالى عِندَهم يَعلَمُ الأمورَ الكُلِّيَّةَ دونَ أفرادِها وجزئيَّاتها؛ وذلك لأنَّ هذه الجزئيَّاتِ في تغيُّرٍ وتجَدُّدٍ، فلو تعلَّق عِلمُ اللهِ تعالى بها للَزِمَه التغيُّرُ والتجَدُّدُ بتغيُّرِ المعلومِ وتجَدُّدِه، فيلزَمُ من ذلك التغيُّرُ في ذاتِ الله تعالى، وهو الواحِدُ الأحَدُ !
    د- إنكارُ النبُوَّاتِ: لَمَّا رأى الفلاسفةُ اشتراكَ النُّفوسِ في كثيرٍ مِن الأحوالِ عادةً، جعلوا ذلك أمرًا عامًّا وكُليًّا ومُلزِمًا لكُلِّ النُّفوسِ، ورَأَوا لبعضِ النُّفوسِ قوَّةً حَدْسيَّةً، وتأثيرًا في بعضِ الأمورِ، وأمورًا متخَيَّلةً، فلمَّا بلَغَهم من أمرِ الأنبياءِ كالمُعجِزاتِ، ونزولِ الوَحيِ، ورؤيةِ الملائِكةِ، وغيرِ ذلك؛ جعلوا ما يحدُثُ للأنبياءِ على نحوِ ما يكونُ لتلك النُّفوسِ، فليست النبُوَّةُ -عندهم- هبةَ اللهِ ومِنَّتَه على بَعضِ عِبادِه، بل هي أمرٌ مُكتَسَبٌ تستعِدُّ له النُّفوسُ بأنواعِ الرِّياضاتِ .
    هـ- إنكارُ الأخبارِ المتواترةِ؛ وذلك أنَّ الأُمورَ المعلومةَ بالتواتُرِ والتَّجرِبةِ والحَدْسِ عند المناطِقةِ؛ احتماليَّةُ الصِّدقِ، ويختصُّ بها من عَلِمَها، فلا تكونُ حُجَّةً على غيرِه، كما أنَّ صِدْقَها قاصِرٌ على الجزئيَّةِ التي جُرِّبت، أو سُمِعَت، أو شُوهِدت، فهي جزئيَّةٌ من جهةِ نَفْسِها، ومن جِهةِ العِلمِ بها، وعليه، فما يتواترُ عن الأنبياءِ مِن أمرِ المُعجِزاتِ وغيرِها من أحوالِهم وشرائِعِهم لا تقومُ به حُجَّةٌ، وهذا من أُصولِ الإلحادِ والزَّندَقةِ، وبناءً على هذا يقولُ من يقولُ من أهلِ الإلحادِ: هذا لم يتواتَرْ عندي، فلا تقومُ به الحُجَّةُ عليَّ. فيقالُ له: اسمَعْ كما سَمِعَ غَيرُك، وحينَئذٍ يَحصُلُ لك العِلمُ، وإنَّما هذا كقولِ من يقولُ: رؤيةُ الهلالِ أو غيرِه لا تحصُلُ إلَّا بالحِسِّ، وأنا لم أَرَه، فيقالُ له: انظُرْ إليه كما نظَرَ غَيرُك فستراه، إذا كنتَ لم تصَدِّقِ المخبِرينَ.
    ثمَّ إنَّه ليس من شَرطِ قيامِ حُجَّةِ الله تعالى عِلمُ المدعُوِّين بها؛ ولهذا لم يكُنْ إعراضُ الكفَّارِ عن استماعِ القُرآنِ وتدَبُّرِه مانعًا من قيامِ الحُجَّةِ عليهم، وأيضًا فإنَّ عَدَمَ العِلمِ ليس عِلمًا بالعدَمِ؛ فهم إذا لم يَعلَموا ذلك لم يكُنْ هذا عِلمًا منهم بعَدَمِ ذلك، ولا بعدَمِ عِلمِ غَيرِهم به، بل هم كما قال الله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ... [يونس: 39] .

    : الأسبابُ العَقليَّةُ لرَفضِ المَنطِقِ الأرُسطيِّ

    1- المنطِقُ الأرُسطيُّ عِلمٌ تجريديٌّ لا صلةَ له بالواقعِ؛ فهو يبحثُ في عالمِ الكُليَّاتِ، وهذا العالَمُ ليس له وجودٌ في الخارجِ، بل وجودُه في الذِّهنِ، فالمنطِقُ يتجاهَلُ البَحثَ في الجُزئيَّاتِ والأعيانِ المشخَّصةِ في الواقِعِ .
    2- أنَّنا نرى كثيرًا من العُلومِ؛ كعُلومِ النَّحوِ والعَرُوضِ والهندَسةِ والطِّبِّ والفَلَكِ تتقدَّمُ تقَدُّمًا كبيرًا دونَ أن يكونَ كِبارُ الباحثينَ فيها ممَّن تخرَّجوا على مَنطِقِ أرُسطُو .

    : حُكمُ الاشتغالِ بالمَنطِقِ الأرُسطيِّ

    قال ابنُ تَيميَّةَ: (ما زال عُلَماءُ المُسلمين وأئمَّةُ الدِّين يذمُّونه، ويذمُّون أهلَه، ويَنهَون عنه وعن أهلِه، حتى رأيتُ للمتأخِّرينَ فُتيا فيها خطوطُ جماعةٍ مِن أعيانِ زَمانِهم من أئمَّةِ الشَّافعيَّةِ والحَنَفيَّة وغيرِهم، فيها كلامٌ عَظيمٌ في تحريمِه، وعقوبةِ أهلِه) .
    وسُئِلَ ابنُ الصَّلاحِ عَمَّن اشتغل بالمنطِقِ والفَلسفةِ تعَلُّمًا وتعليمًا، وهل المنطِقُ ممَّا أباح الشَّارعُ تعَلُّمَه وتعليمَه؟ وهل نُقِلَ عن الصَّحابةِ والتَّابعينَ والأئِمَّةِ المجتَهِدينَ إباحتُه أو الاشتغالُ به؟ وهل يجوزُ أن يُستعمَلَ في إثباتِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ الاصطِلاحاتُ المنطقيَّة أم لا؟ فقال:
    (... أمَّا المنطِقُ فهو مدخَلُ الفلسفةِ، ومَدخَلُ الشَّرِّ شَرٌّ، وليس الاشتغالُ بتعليمِه وتعلُّمِه ممَّا أباحه الشَّارعُ، ولا استباحه أحدٌ من الصَّحابةِ والتَّابعينَ، والأئمَّةِ المجتهدين، والسَّلَفِ الصَّالحين، وسائِرِ من يُقتدى به من أعلامِ الأمَّةِ وسادتِها وقادتِها، قد برَّأ اللهُ الجميعَ من معرَّةِ ذلك وأدناسِه، وطَهَّرهم من أوضارِه.
    وأمَّا استِعمالُ الاصطِلاحاتِ المَنطقيَّةِ في مباحِثِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ فمِن المنكَراتِ المستبشَعةِ، والرَّقاعاتِ المُستَحدَثةِ، وليس بالأحكامِ الشَّرعيَّةِ -والحمد الله- افتقارٌ إلى المنطِقِ أصلًا، وما يَزعُمُه المنطقيُّ للمَنطِقِ منِ أمرِ الحَدِّ والبُرهانِ فقَعاقِعُ قد أغنى الله عنها بالطَّريقِ الأقومِ، والسَّبيلِ الأسلَمِ الأطهَرِ- كلَّ صحيحِ الذِّهنِ، لا سيَّما مَن خَدَم نظريَّاتِ العُلومِ الشَّرعيَّةِ، ولقد تمَّت الشَّريعةُ وعُلومُها، وخاض في بحارِ الحقائِقِ والدَّقائقِ عُلَماؤُها؛ حيث لا منطِقَ ولا فَلسَفةَ ولا فلاسِفةَ، ومَن زَعَم أنَّه يَشتَغِلُ مع نَفْسِه بالمنطِقِ والفلسفةِ لفائدةٍ يَزعُمُها، فقد خدَعَه الشَّيطانُ ومَكَرَ به
    ) .
    وذَهَب بَعْضُ العُلَماءِ إلى جوازِ تَعَلُّمِ فِئةٍ مِنَ النَّاسِ المَنْطِقَ لبَيانِ عَوارِه، وإثباتِ فَسادِه، وعَديمِ فائدتِه، وذلك بشُروطٍ،
    قال الأخضَريُّ: (المُختارُ الصَّحيحُ جَوازُه لذَكِيِّ القَريحةِ، صَحيحِ الذِّهْنِ، سَليمِ الطَّبعِ، مُمارِسِ الكِتابِ والسُّنَّةِ؛ لئلَّا يَؤُولَ به إلى اتِّباعِ بَعْضِ الطُّرُقِ الوَهميَّةِ، فيُفسِدَ المُقَدِّماتِ والأَقْيِسَةَ النَّظَريَّةَ، فتَزِلَّ قَدَمُه في بَعْضِ الدَّرَكاتِ السُّفْلِيَّةِ، ومنه ضَلَّت المُعتَزِلةُ والقَدَريَّةُ وغَيْرُهم من الطَّوائِفِ البِدْعِيَّةِ، فخاضوا في ذلك حتى بدَّلوا وغَيَّروا في السُّنَّةِ الشَّرعيَّةِ، والمِلَّةِ المُحَمَّديةِ؛ فباؤُوا بضَلالةٍ جَلِيَّةٍ، وجَهالةٍ غَبيَّةٍ) .

    :
    التَّعريفُ بالكَشْفِ والرُّؤى
    :

    : أولاً - التَّعريفُ بالكَشْفِ

    الكَشْفُ هو الاطِّلاعُ على المعاني الغَيبيَّةِ والأُمورِ الخَفيَّةِ .
    وللمتصَوِّفةِ بَعضُ المصطَلَحاتِ التي تحمِلُ معنى الكَشْفِ؛ منها:
    الخاطِرُ، والوارِدُ، والتجَلِّي، والذَّوقُ، وغيرُ ذلك.

    : التَّعريفُ بالرُّؤى

    الرُّؤى جمعُ رُؤيا: وهي ما يُرى في المنامِ .

    : مَوقِفُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ من ذلك :

    يجِبُ ردُّ الأحوالِ والأذواقِ والمكاشَفاتِ والرُّؤى ونَحوِها إلى الكِتابِ والسُّنَّةِ، ووَزْنُها بميزانِ الشَّرعِ.
    قال اللهُ تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65] .
    وقال الله سُبحانَه: قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران: 31] .
    وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسولِ [النساء: 59] .

    فالشَّرع هو الحاكِمُ والميزانُ، وكُلُّ الأقوالِ والاعتقاداتِ والأحوالِ مَردودةٌ مرفوضةٌ إلَّا ما قَبِلَه الشَّرعُ منها وزكَّاه.
    فمَنشَأُ ضَلالِ مَن ضَلَّ من المتصَوِّفةِ جَعْلُهم الذَّوقَ والوَجدَ والحالَ ونحوَ ذلك حاكِمًا يتحاكَمون إليه فيما يصِحُّ ويمتَنِعُ، ونبَذوا لذلك مُوجِبَ العِلمِ والنُّصوصِ الشَّرعيَّةِ .
    وإنَّ المؤمِنَ إذا صحَّت مَعرِفتُه باللهِ ورَسولِه ودينِه، وصدَقَت متابعَتُه للشَّرعِ ظاهِرًا وباطنًا؛ يَفتَحُ اللهُ عليه بإلهاماتٍ صَحيحةٍ، وفِراساتٍ صائبةٍ، وأحوالٍ صادِقةٍ.
    قال اللهُ تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا [النساء: 66] .
    وقال اللهُ سُبحانَه: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 282] .
    وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال: 29] .

    وعن حُذيفةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال عن الدَّجَّالِ: (مَكتوبٌ بين عَينَيه: كافِرٌ، يَقرَؤه كُلُّ مُؤمِنٍ كاتبٍ وغيرِ كاتِبٍ) .
    قال ابنُ تَيميَّةَ: (دَلَّ على أنَّ المؤمِنَ يتبيَّنُ له ما لا يتبيَّنُ لغيرِه، ولا سيَّما في الفِتَنِ، ويَنكشِفُ له حالُ الكذَّابِ الوضَّاعِ على اللهِ ورَسولِه؛ فإنَّ الدَّجَّالَ أكذَبُ خَلْقِ اللهِ، مع أنَّ اللهَ يُجري على يديه أمورًا هائلةً، ومخاريقَ مُزلزِلةً؛ حتى إنَّ من رآه افتَتَن به، فيكشِفُها اللهُ للمؤمِنِ حتى يعتَقِدَ كَذِبَها وبُطلانَها، وكلَّما قَوِيَ الإيمانُ في القَلبِ قَوِيَ انكِشافُ الأمورِ له، وعَرَف حقائِقَها من بواطِلِها، وكُلَّما ضَعُف الإيمانُ ضَعُف الكَشفُ، وذلك مِثلُ السِّراجِ القَويِّ والسِّراجِ الضَّعيفِ في البيتِ المُظلِمِ) .
    ورُوِيَ عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: (اقتَرِبوا من أفواه المطيعينَ، واسمَعوا منهم ما يقولونَ؛ فإنَّه تتجَلَّى لهم أمورٌ صادِقةٌ) .
    وقال أبو حَفصٍ النَّيسابوريُّ: (من لم يُرَبِّ أفعالَه وأحوالَه كُلَّ وَقتٍ بالكِتابِ والسُّنَّةِ، ولم يتَّهِم خواطِرَه، فلا تعُدَّه مِنَ الرِّجالِ!) .
    وقال أبو عثمانَ النَّيسابوريُّ: (من أمَّرَ السُّنَّةَ على نَفْسِه قولًا وفعلًا نَطَق بالحِكمةِ، ومن أمَّرَ الهوى على نَفْسِه نَطَق بالبِدعةِ؛ لأنَّ اللهَ يَقولُ: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النــور: 54]) .
    وقال أبو العبَّاسِ بنُ عَطاءٍ: (من ألزمَ نَفْسَه آدابَ السُّنَّةِ نوَّرَ اللهُ قَلْبَه بنورِ المعرفةِ، ولا أشرَفَ من متابعةِ الحَبيبِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أوامِرِه وأفعالِه وأخلاقِه، والتأدُّبِ بآدابِه) .
    وقال ابنُ تَيميَّةَ: (اتَّفق أولياءُ اللهِ على أنَّ الرَّجُلَ لو طار في الهواءِ أو مشى على الماءِ لم يُغتَرَّ به حتى يُنظَرَ متابعتُه لرَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وموافقتُه لأمرِه ونَهْيِه) .
    وقال أيضًا: (كثيرٌ مِنَ المتَصَوِّفةِ والفُقَراءِ يَبني على مَناماتٍ وأذواقٍ وخَيالاتٍ يَعتَقِدُها كَشْفًا، وهي خَيالاتٌ غَيرُ مُطابِقةٍ وأوهامٌ غَيرُ صادِقةٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [النجم: 28] )( .
    وخرقُ العادةِ لا يدُلُّ على الوِلايةِ، فقد يظهَرُ شيءٌ مِمَّا يُظَنُّ أنَّه كرامةٌ على يدِ أُناسٍ غيرِ صَالِحينَ بل قد يحصُلُ على لسانِ بعضِ المجانينِ شَيءٌ من ذلك، فيغترُّ به مَن جَهِل حالَه، فيَظُنُّ أنَّه مِن أولياءِ اللهِ المقَرَّبين

    : من قواعِدِ الرَّدِّ على المخالِفينَ: مُطالبتُهم بإثباتِ صِحَّة نَقْلِهم أو سلامةِ استِدلالِهم :

    كلُّ دعوى لا بدَّ مِن إقامةِ الدَّليلِ عليها بدليلٍ نقليٍّ صحيحٍ أو عقليٍّ صريحٍ.
    قال الله تعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة: 111] .
    وقال اللهُ سُبحانَه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الأحقاف: 4] ، فطالَبَهم أوَّلًا بالطَّريقِ العَقليِّ، وثانيًا بالطَّريقِ السَّمعيِّ .
    وكثيرٌ مِن أهلِ البِدَعِ يَستدِلُّ على بدعتِه بنَقلٍ ضَعيفٍ أو موضوعٍ، أو دَلالةٍ ضَعيفةٍ، أو بعَقلٍ فاسِدٍ.
    أمَّا أهلُ الفلسفةِ والكلامِ فيَكثُرُ عندهم الاستِدلالُ بالأقيِسةِ العَقليَّةِ الفاسِدةِ، أو الاحتِمالاتِ والتَّجويزاتِ .

    : من قواعِدِ الرَّدِّ على المُخالِفينَ: موافقةُ النُّصوصِ لَفظًا ومعنًى أَولى من ِموافقتها في المعنى دونَ اللَّفظِ :

    مُتابعةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ في اللَّفظِ والمعنى أكمَلُ وأتَمُّ مِن المتابعةِ في المعنى دونَ اللَّفظِ؛ ففي حديثِ البراءِ بنَ عازبٍ رضي اللهُ عنهما أن الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم علَّمه كلماتٍ يقولُهنَّ إذا أخذ مَضْجَعَه، وفيها ((... آمنتُ بكتابِك الذي أنزَلْتَ، ونبيِّك الذي أرسَلْتَ))، قال البراء: ((فردَّدْتُهنَّ لأستَذكِرَهنَّ فقُلتُ: آمنتُ برَسولِك الذي أرسلْتَ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قُلْ: آمنتُ بنبيِّك الذي أرسلْتَ )) ، وفي هذا تحقيقٌ لكمالِ الموافَقةِ في اللَّفظِ والمعنى.
    ولهذا مَنَع جَمعٌ مِنَ العُلَماءِ نَقلَ حَديثِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالمعنى، ومَن أجازه اشترطَ أن يكونَ النَّاقِلُ عاقلًا عالِمًا بما يُحيلُ المعنى من اللَّفظِ، مُدرِكًا لأساليبِ العَرَبِ حتى يَستبِينَ الفُروقَ .
    والنَّاسُ في مُوافَقةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ أقسامٌ:
    الأوَّلُ: مَن يوافِقُهما لفظًا ومعنًى، وهذا أسعدُ النَّاسِ بالحَقِّ.
    الثَّاني: مَن يُوافِقُهما في المعنى دونَ اللَّفظِ، فيتكَلَّمُ في المعاني الشَّرعيَّةِ الصَّحيحةِ بألفاظٍ غيرِ شَرعيَّةٍ، وهذا كالألفاظِ المجمَلةِ التي تحتَمِلُ حقًّا وباطلًا، فيدخُلُ فيهم من نفى ظاهِرَ نُصوصِ الصِّفاتِ قاصِدًا نَفيَ المعنى الظَّاهِرِ المختَصِّ بالمخلوقِ، فنفيُه صحيحٌ، لكِنْ ظاهِرُ النُّصوصِ لم يدلَّ على باطِلٍ حتَّى يستوجِبَ هذا النَّفيَ، وإنَّما نفى هذا ما توهَّمه أنَّه ظاهِرُ النَّصِّ، وإن لم يكُنْ كذلك في نَفسِ الأمرِ.
    الثَّالِثُ: مَن يوافِقُ الكِتابَ والسُّنَّةَ في اللَّفظِ دونَ المعنى، كالقرامِطةِ الذين يعبِّرونَ عن عقائِدِهم الفاسِدةِ بألفاظٍ شَرعيَّةٍ، فالصَّلاةُ عندهم كَشْفُ أسرارِهم، والصِّيامُ كِتمانُها، والحَجُّ القَصدُ إلى شُيوخِهم، ونحوُ ذلك !
    الرَّابِعُ: مَن يخالِفُ الكِتابَ والسُّنَّةَ لَفظًا ومعنًى، وهؤلاء أشقى الطَّوائِفِ، وهم مِن الكَفَرةِ والملاحِدةِ ونَحوِهم.

    : من قَواعِدِ الرَّدِّ على المُخالِفينَ: عدمُ بَترِ الدَّليلِ والاستِدلالِ بجُزءٍ منه :


    شَأنُ أهلِ الابتِداعِ الاستِدلالُ بجُزءٍ من الدَّليلِ حتَّى يَجِدوا من الكَلِماتِ الشَّرعيَّةِ ما يُسَوِّغ لهم بِدْعتَهم، ويجعَلُها تَرُوجُ عند ضُعَفاءِ المُسلِمينَ.
    قال مُحَمَّدُ بنُ كَعبٍ القُرَظيُّ: (لا تُخاصِموا هذه القَدَريَّةَ ولا تجالِسوهم، والذي نفسي بيَدِه لا يجالِسُهم رجلٌ لم يجعَلِ اللهُ له فِقهًا في دينِه، ولا عِلمًا في كتابِه، إلَّا أمرضوه، والذي نفسُ مُحَمَّدٍ بيَدِه لوَدِدْتُ أنَّ يميني هذه تُقطَعُ على كِبَرِ سِنِّي، وأنهم أتمُّوا آيةً من كِتابِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، ولكِنَّهم يأخُذونَ بأوَّلِها ويترُكونَ آخِرَها، ويأخُذونَ بآخِرِها ويترُكونَ أوَّلَها، والذي نفسي بيَدِه لَإبليسُ أعلَمُ باللهِ تعالى منهم؛ يَعلَمُ مَن أغواه، وهم يَزعُمونَ أنَّهم يُغوون أنفُسَهم ويُرشِدونَها!) .
    ولَمَّا احتَجَّ غيلانُ الدِّمشقيُّ عند عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ على مقالتِه في القَدَرِ بقَولِه تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان: 2-3] قال له عُمَرُ: (اقرأ آخِرَ السُّورةِ: وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الإنسان: 30، 31] ثمَّ قال: ما تقولُ يا غيلانُ؟ قال: أقولُ: قد كنتُ أعمى فبصَّرْتَني، وأصَمَّ فأسمَعْتَني، وضالًّا فهَدَيْتَني فتاب، ثم رَجَع إلى مقالتِه في عَهدِ هِشامِ بنِ ِعبد المَلِك؛ فصَلَبه .

    : من قَواعِدِ الرَّدِّ على المُخالِفينَ: قَبولُ الحَقِّ مِن أيِّ جِهةٍ جاء :

    الحقُّ يُقبَلُ لكَونِه مُوافِقًا للدَّليلِ في نَفْسِه، وإن جاء من غيرِ أهلِه، وأهلُ السُّنَّةِ يَقبَلونَ ما عندَ جَميعِ الطَّوائِفِ مِن الحقِّ، ويردُّون ما عندَها مِنَ الباطِلِ.
    ولَمَّا دَلَّ الشَّيطانُ أبا هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه إلى آيةِ الكُرسيِّ؛ لتكونَ له حِرْزًا من الشَّيطانِ، وذلك مقابِلَ فكِّه مِنَ الأسرِ، قال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((صدَقَك، وهو كذوبٌ )) .
    وعن معاذٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (أُحذِّرُكم زَيغةَ الحَكيمِ؛ فإنَّ الشَّيطانَ قد يَقولُ كَلِمةَ الضَّلالةِ على لِسانِ الحَكيمِ، وقد يقولُ المنافِقُ كَلِمةَ الحَقِّ. فقيل له: ما يُدريني -رحمك اللهُ- أنَّ الحَكيمَ قد يقولُ كَلِمةَ الضَّلالةِ، وأنَّ المنافِقَ قد يقولُ كَلِمةَ الحَقِّ؟ قال: بلى، اجتنِبْ من كلامِ الحَكيمِ المشتَهراتِ التي يُقالُ لها: ما هذه؟! ولا يَثْنِك ذلك عنه؛ فإنَّه لعَلَّه أن يراجِعَ، وتلقَّ الحقَّ إذا سَمِعْتَه؛ فإنَّ على الحَقِّ نُورًا) .
    قال ابنُ تَيميَّةَ -مبيِّنًا مَنْهَجَه في التَّعامُلِ مع المخالِفينَ له مِن أهلِ الكلامِ وغَيرِهم-: (ليس كلُّ من ذكَرْنا شيئًا من قَولِه مِن المتكلِّمينَ وغَيرِهم يقولُ بجَميعِ ما نقولُه في هذا البابِ وغَيرِه، ولكِنَّ الحقَّ يُقبَلُ من كُلِّ من تكلَّم به) .
    وقال ابنُ القَيِّمِ: (فمن هداه اللهُ سُبحانَه إلى الأخذِ بالحقِّ حيثُ كان، ومع مَن كان، ولو كان مع من يُبغِضُه ويُعاديه، وردِّ الباطِلِ مع من كان، ولو كان مع مَن يحِبُّه ويُواليه؛ فهو ممَّن هُدِيَ لِما اختُلِفَ فيه من الحَقِّ) .

    : من قَواعِدِ الرَّدِّ على المُخالِفينَ: الحَقُّ لا يُعرَفُ بالرِّجالِ، فإذا عُرِفَ الحَقُّ عُرِفَ أهلُه :

    الحقُّ ما وافق الدَّليلَ من غيرِ التفاتٍ إلى كثرةِ المُقبِلينَ، أو قِلَّة المعرِضينَ؛ فالحَقُّ لا يوزَن بالرِّجالِ، وإنَّما يوزَن الرِّجالُ بالحَقِّ، ومجرَّدُ نُفورِ النَّافِرينَ، أو محبَّةُ الموافِقينَ لا يدُلُّ على صِحَّةِ قَولٍ أو فسادِه.
    وكلُّ أحدٍ مِنَ النَّاسِ يُؤخَذُ مِن قَولِه ويُرَدُّ، إلَّا الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ وذلك لأجْلِ ثُبوتِ العِصمةِ للشَّارعِ وَحْدَه، أمَّا غيرُه فيَعتريه مِن نَقْصِ العِلمِ والفَهْمِ ما يَستوجِبُ عَرْضَ قَولِه على الشَّرعِ .

    : من قَواعِدِ الرَّدِّ على المُخالِفينَ: النَّظَرُ في حُكمِ الكَلامِ الوارِدِ عن غَيرِ الشَّارعِ الحَكيمِ :

    ما يقولُه سائرُ النَّاسِ مِنَ الكَلامِ في الجوانِبِ الشَّرعيَّةِ لا بُدَّ مِن عَرْضِه على الكِتابِ والسُّنَّةِ، فإنْ وافَقَهما فهو حقٌّ يُقبَلُ، وإن خالَفَهما فهو باطِلٌ يُرَدُّ، وإن احتَمَل الجهتَينِ؛ فإمَّا أن يُعرَفَ مُرادُ المتكَلِّمُ فيُحكَمُ له أو عليه بحسَبِ المرادِ، وإمَّا ألَّا يُعرَفَ مُرادُه، فيُنظَرُ في سيرتِه؛ فإن كانت حَسَنةً حُمِلَ كَلامُه على الوَجهِ الحَسَنِ، وإن كانت سيرتُه سَيِّئةً حُمِلَ كَلامُه على الوَجهِ السَّيِّئ.
    أمَّا إذا عُرِفَ مرادُه لكِنْ لم يُعرَفْ: هل جاء الشَّرعُ بتَصديقِه أو بتَكذيبِه؛ فإنَّه يُمسَكُ عنه، ولا يُتكلَّمُ إلَّا بعِلمٍ قام عليه الدَّليلُ .

    : من قَواعِدِ الرَّدِّ على المُخالِفينَ: السُّكوتُ عما سكت اللهُ عنه ورَسولُه :


    كلُّ مسألةٍ من مَسائِلِ الاعتِقادِ لا يُحكَمُ فيها نفيًا أو إثباتًا إلَّا بدليلٍ؛ فما ورد الدَّليلُ بإثباتِه أثبَتْناه، وما ورد بنَفْيه نَفَيناه، وما لم يَرِدْ بإثباتِه ولا بنَفْيه دليلٌ توقَّفْنا، ولم نحكُمْ فيه بشيءٍ لا إثباتًا ولا نفيًا، ولا يعني هذا أنَّ المسألةَ خاليةٌ عن الدَّليلِ، بل قد يكونُ عليها دليلٌ، لكِنْ لا نَعلَمُه، فالواجِبُ علينا التوقُّفُ لحينِ وِجدانِ الدَّليلِ .
    قال اللهُ تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا [الإسراء: 36] .

    : من قَواعِدِ الرَّدِّ على المُخالِفينَ: الامتناعُ عن مناظَرةِ أهلِ السَّفْسَطةِ

    إذا وضَحَ الحقُّ وبان لم يَبْقَ للمُعارَضةِ والمجادَلةِ محلٌّ، فإذا جحَدَه الخَصمُ كان سوفسطائيًّا ؛ فلا ينبغي مُناظَرتُه بعد ذلك.
    قال اللهُ تعالى: وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29] .
    وقال الله سُبحانَه: يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ ... [الأنفال: 6] .
    وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 68] .
    فكُلُّ من جادل في الحَقِّ بعد وُضوحِه وبَيانِه فقد غالطَ؛ شرعًا وعَقْلًا .
    ولهذا كان من الأسئلةِ ما ليس له جوابٌ غيرُ السُّكوتِ، كما جاء عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يأتي الشَّيطانُ أحَدَكم فيقولُ: من خَلَق كذا؟ من خَلَق كذا؟ حتى يقولَ: من خَلَق ربَّك؟ فإذا بلَغَه فلْيستَعِذْ باللهِ ولْيَنتهِ )) .
    -----------------------------------------------------------------------------
    التالي : -
    : من قَواعِدِ الرَّدِّ على المُخالِفينَ: الباطِلُ لا يُرَدُّ بالباطِلِ، بل بالحَقِّ :

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5203
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

     مَبادِئ عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ - عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ وفوائدُه - خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ  - أصول عقيدة أهل السنه والجماعه                                                                        Empty : من قَواعِدِ الرَّدِّ على المُخالِفينَ: الباطِلُ لا يُرَدُّ بالباطِلِ، بل بالحَقِّ

    مُساهمة من طرف صادق النور الأحد نوفمبر 19, 2023 7:17 am

    تابع ما قبله : -
    : من قَواعِدِ الرَّدِّ على المُخالِفينَ: الباطِلُ لا يُرَدُّ بالباطِلِ، بل بالحَقِّ :
    السَّلَفُ والأئمَّةُ يذمُّون ما كان من الكلامِ والعَقليَّاتِ باطلًا، وإن قُصِدَ به نَصرُ الكِتابِ والسُّنَّةِ، فيذموُّن من قابَلَ بِدعةً ببِدعةٍ، وفاسِدًا بفاسِدٍ ؛ فالباطِلُ يُرَدُّ بالحَقِّ المحضِ، والبِدْعةُ تُرَدُّ بالسُّنَّةِ الصَّحيحةِ.
    قال ابنُ قُتَيبةَ: (تعمَّق آخرون في النَّظَرِ، وزَعَموا أنَّهم يريدون تصحيحَ التَّوحيدِ بنَفيِ التَّشْبيهِ عن الخالِقِ، فأبطلوا الصِّفاتِ؛ مِثلُ: الحِلمِ، والقُدرةِ، والجلالِ، والعَفْوِ، وأشباهِ ذلك) .
    وأراد بَعضُ مُثبِتةِ القَدَرِ الرَّدَّ على نُفاتِه، فأنكروا فِعلَ العَبدِ واختيارَه، والشِّيعةُ أرادوا الإنكارَ على الخوارجِ الذين كفَّروا عليًّا رَضِيَ اللهُ عنه، فوَقَعوا في سائِرِ الصَّحابةِ -عدا آلِ البَيتِ- تكفيرًا وتفسيقًا!

    : من قَواعِدِ الرَّدِّ على المُخالِفينَ: عدمُ العِلمِ بالدَّليلِ ليس عِلمًا بالعَدَمِ :

    بعضُ المتناظِرينَ قد يجعَلُ عُمدتَه في نفيِ وُجودِ أمرٍ ما عَدَمَ عِلْمِه بالدَّليلِ على وُجودِه، والأصلُ أنَّ عَدَمَ العِلمِ بالدَّليلِ ليس عِلمًا بالعَدَمِ، وعَدَمَ الوِجدانِ ليس نفيًا للوُجودِ، فكما أنَّ الإثباتَ يحتاجُ إلى دليلٍ، فكذلك النَّفيُ يحتاجُ إلى دليلٍ، وإلَّا فما لم يُعلَم وجودُه بدليلٍ مُعَيَّنٍ، قد يكون معلومًا بأدِلَّةٍ أُخرى.
    قال اللهُ تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [يونس: 39] فهذا نعيٌ على كُلِّ من كذَّب بما قَصَر عنه عِلْمُه.
    فمن نفى كثيرًا من الغيبيَّاتِ؛ كالصِّفاتِ، والقَدَرِ، والملائِكةِ، والجِنِّ، وأحوالِ البَرزَخِ، والمعادِ؛ لعَدَمِ قيامِ دَليلِ الحِسِّ والمشاهَدةِ، أو دليلِ العَقلِ -كما يَزعُمُ- كان غالطًا؛ لأنَّه أخَبَر عن نَفْسِه، ولا يمنَعُ أن يكونَ غيرُه قد قام عندَه دليلُ العقلِ، أو دليلُ السَّمعِ، أو دليلُ المشاهَدةِ، كما وقع ذلك للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مشاهَدةِ الجِنِّ والملائكةِ وأحوالِ البَرزَخِ والمَعادِ.
    ويُستَثنى من هذه القاعدةِ ما إذا كان وجودُ المدلولِ مُستلزِمًا لوجودِ الدَّليلِ، وقد عُلِمَ عدمُ الدَّليل، فيَقَعُ العلمُ بعَدَمِ المدلول المستلزِم لدليلِه؛ لأنَّ عَدَمَ اللَّازمِ دليلٌ على عدمِ الملزومِ، فمثلًا: قد ثبَتَ توافُرُ الدَّواعي على نَقْلِ كِتابِ اللهِ تعالى ودينِه؛ فإنَّه لا يجوزُ على الأمَّةِ كتمانُ ما يحتاجُ النَّاسُ إلى نَقْلِه، فلمَّا لم يُنقَلْ ما يحتاجون إليه في أمرِ دِينِهم نقلًا عامًّا، عَلِمْنا يقينًا عدمَ ذلك، نحوُ سورةٍ زائدةٍ، أو صلاةٍ سادِسةٍ، ونَحْو ذلك .

    : من قَواعِدِ الرَّدِّ على المُخالِفينَ: النظرُ في لازمِ القَولِ :

    اللَّازمُ مِن قَولِ الله تعالى، وقَولِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إذا صَحَّ أن يكونَ لازمًا، فهو حقٌّ يَثبُت ويُحكَمُ به؛ لأنَّ كلامَ اللهِ ورَسولِه حَقٌّ، ولازِمُ الحقِّ حقٌّ، ولأنَّ اللهَ تعالى عالمٌ بما يكونُ لازمًا من كلامِه وكلامِ رَسولِه، فيكونُ مرادًا.
    وأمَّا اللَّازِمُ مِن قَولِ الناسِ فله ثلاثُ حالاتٍ :
    الأُولى: أن يُذكَرَ له لازمُ قَولِه فيلتَزِمُه، مثلُ أن يقولَ لِمن يُثبِت وزنَ الأعمالِ في الآخرةِ: يَلزَمُك القَولُ بجوازِ وزنِ الأعراضِ. فيَقولُ المثبِتُ: نعم، ألتزمُ به؛ لأنَّ أحوالَ الآخِرةِ تَختَلِفُ عن أحوالِ الدُّنيا، واللهُ تعالى على كُلِّ شَيءٍ قديرٌ، ثمَّ إنَّه قد وُجِدَ في زمانِنا هذا موازينُ للحرارةِ والبُرودةِ والإضاءةِ، ونحوِ ذلك من الأعراضِ.
    وهذا اللَّازِمُ يجوزُ إضافتُه إليه إذا عُلِمَ منه أنَّه لا يَمنعُه.
    الثَّانية: أن يُذكَرَ له لازمُ قَولِه، فيَمنَعُ التَّلازمَ بينه وبين قَولِه، مِثلُ أن يقولَ نافي الصِّفاتِ لِمن يُثبِتُها: يَلزمُك أن يكونَ اللهُ تعالى مُشابِهًا للخَلْقِ في صِفاتِه، فيَقولُ المثبِتُ: لا يلزمُ ذلك؛ لأنَّنا عندما أضَفْنا الصِّفاتِ إلى الخالِقِ سُبحانَه قطَعْنا توهُّمَ الاشتراكِ والمشابَهةِ، كما أنَّك -أيُّها النَّافي للصِّفاتِ- تُثبِتُ ذاتًا لله تعالى، وتمنَعُ أن يكونَ اللهُ مُشابهًا للخَلْقِ في ذاتِه، فقُلْ ذلك أيضًا في الصِّفاتِ؛ إذ لا فَرْقَ بينهما.
    وهذا اللَّازِمُ لا يجوزُ إضافتُه إليه بَعْدَ أن بَيَّن هو وَجهَ امتِناعِ التَّلازُمِ بيْن قَولِه وبيْن ما أُضيفَ إليه.
    الثَّالِثةُ: أن يكونَ اللَّازمُ مَسكوتًا عنه، فلا يُذكَرُ بالتزامٍ ولا مَنعٍ، فهذا حُكمُه ألَّا يُنسَبَ إليه؛ لأنَّه إذا ذُكِرَ له اللَّازِمُ فقد يلتَزِمُه، وقد يمنَعُ التَّلازُمَ، وقد يتبيَّنُ له وَجهُ الحَقِّ فيرجِعُ عن اللَّازمِ والملزومِ جميعًا؛ ولأجْلِ هذه الاحتِمالاتِ فلا ينبغي إضافةُ اللَّازمِ إليه، ولا سِيَّما أنَّ الإنسانَ بشَرٌ وتعتريه حالاتٌ نَفسيَّةٌ وخارجيَّةٌ تُوجِبُ له الذُّهولَ عن اللَّازمِ؛ِ فقد يَغفُلُ، أو يسهو، أو يَنغَلِقُ فِكْرُه، أو يقولُ القَولَ في مَضايِقِ المُناظراتِ من غيرِ تدبُّرٍ في لوازِمِه، ونحو ذلك .
    وقد تُذكَرُ اللَّوازِمُ الباطِلةُ لإظهارِ شَناعةِ المذهَبِ الباطِلِ؛ لأنَّ العاقِلَ إذا نُبِّه إلى ما يَلزَمُ قَولَه من اللَّوازمِ الفاسِدةِ، فقد ينتَبِهُ ويَرجِعُ عن قَولِه.
    وأهلُ البِدَع -لاضطِرابِهم وتناقُضِهم- قد يفِرُّ الواحِدُ منهم من اللَّازمِ الحَقِّ؛ ليقَعَ في اللَّازِمِ الباطِلِ، وهو يَظُنُّ في ذلك السَّلامةَ؛ كالقَدَريِّ يفرُّ من لازمِ كَونِ اللهِ يُضِلُّ من يشاء؛ فيقَعُ في لازمِ كَونِه يَقَعُ في مُلكِه ما لا يشاءُ! وكذلك مُنكِرُ الصِّفاتِ يفِرُّ من التَّشْبيه -بزَعْمِه-؛ فيَقَعُ في التَّعطيلِ!

    : من قَواعِدِ الرَّدِّ على المُخالِفينَ: الاستِدلالُ بالدَّليلِ المتَّفَقِ عليه على المسألةِ المُتنازَعِ فيها :

    مَقصودُ المُناظَرةِ ردُّ الخَصْمِ إلى الصَّوابِ بطريقٍ يَعرِفُه، فلا بُدَّ مِنَ الرُّجوعِ إلى دليلٍ يَعرِفُه الخَصمُ السَّائِلُ مَعرِفةَ الخَصمِ المستَدِلِّ.
    ولهذا كان الرُّجوعُ عند المسلِمينَ إلى الكِتابِ والسُّنَّةِ؛ لاتِّفاقِهم عليهما، وكان المرجوعُ إليه عند التَّنازُعِ مع غيرِ المسلِمينَ ما يُسَلِّمُ به الكُفَّارُ،
    كما قال اللهُ تعالى في محاجَّتِهم: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ * بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [المؤمنون: 84 - 90] .

    : من قَواعِدِ الرَّدِّ على المُخالِفينَ: الجمعُ بين المتماثِلاتِ والتَّفريقُ بين المُختلِفاتِ :

    جاءت الشَّريعةُ بالجَمْعِ بين المُتمَاثِلاتِ، والتَّفريقِ بَيْنَ المُختلِفاتِ؛ فالشيءُ يعطى حكمَ نظيرِه، ويُنفى عنه حُكمُ مخالفِه، ولا يجوزُ العكسُ بحالٍ: وهو أن يُفرَّقَ بين متماثلينِ، أو يُجمَعَ بين مختلفينِ.
    قال الله تعالى في ذمِّ اليهودِ: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة: 85] .
    وذلك أنَّهم أغفلوا حكمَ التَّوراةِ في سَفْكِ الدِّماءِ، وإخراجِ أنفُسِهم من ديارِهم، وأقاموه في مُفاداةِ الأسرى، وكان الواجِبُ عليهم إقامتَه في شأنِهم كُلِّه.
    وقال الله تعالى في شأنِهم أيضًا: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ [البقرة: 91] .
    فكَفَروا برسالةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مع ما فيها من التَّصديقِ لِما معهم من التَّوراةِ والإنجيلِ، والجَميعُ يخرجُ من مِشكاةٍ واحِدةٍ، فكان الكفرُ ببعض ذلك كُفرًا بالجميعِ وجَحدًا له.
    هذا في جانِبِ التَّفريقِ بين المتماثِلاتِ، أمَّا في جانبِ الجَمعِ بيْن المختَلِفاتِ فقد قاس اليهودُ الرَّبَّ جل جلالُه على المخلوقِ الضَّعيفِ القاصِرِ، فوصفوه سُبحانَه بصفات المخلوقينَ، فقالوا: يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة: 64] ، وقالوا: إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران: 181] ، وقالوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30] .
    فكل من فرَّق بين متماثلَينِ، أو جمَعَ بين مختلفينِ من مبتدِعة المسلمين؛ ففيه شَبَهٌ من اليهودِ والنَّصارى.
    فنُفاةُ الصِّفاتِ بَعضِها أو جميعِها، أو الصِّفاتِ دونَ الأسماءِ، أو الصِّفاتِ والأسماءِ جميعًا: فرقَّوا بين المتماثِلاتِ؛ إذ القَولُ في بعضِ الصِّفاتِ كالقَولِ في البعضِ الآخَرِ نفيًا وإثباتًا، وكذلك القولُ في الصِّفاتِ كالقَولِ في الأسماءِ، وكذلك القَولُ في الصِّفاتِ والأسماءِ فَرعٌ عن القَولِ في الذَّاتِ.
    وهم أيضًا قد جمعوا بين المختَلِفاتِ؛ لأنَّهم لم يعتَقِدوا التَّعطيلَ إلَّا بعد أن قامت عندهم شُبهةُ التَّشْبيهِ؛ ولهذا كان كلُّ معطِّلٍ مُشَبِّهًا.
    والوَعيديَّةُ من الخوارجِ والمعتَزِلةِ فرَّقوا بين نصوصِ الوَعيدِ، فآمنوا بها، وبين نُصوصِ الوَعدِ فكَفَروا بها، والجميعُ يخرجُ من مِشكاةٍ واحدةٍ! وفي المقابِلِ المُرجِئةُ آمنوا بنُصوصِ الوَعدِ، وكَفَروا بنصوصِ الوَعيدِ.
    والشِّيعةُ فَرَّقوا بين الصَّحابةِ رِضوانُ اللهِ عليهم، فتوَلَّوا آلَ البيتِ منهم، وعادَوا غيرَهم، والواجِبُ موالاتُهم جميعهم، وجمعوا بين الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبين غيرِه في إثباتِ العِصْمةِ؛ فأثبتوا العصمة لأئمَّتِهم، والواجبُ التفريقُ في العصمةِ بين الرُّسُلِ وغيرِهم مِنَ النَّاس.
    وممَّن خالف هذه القاعدةَ أيضًا مَن فَرَّقَ بين الكِتابِ والسُّنَّةِ، فاعتمد الكِتابَ دونَ السُّنَّةِ، وكذلك من فَرَّق بين نصوصِ الأحكامِ فاعتَمَدها، وبين نصوصِ العقائِدِ فأعرَضَ عنها بتأويلٍ أو تفويضٍ، أو تكذيبٍ إن كانت أحاديثَ آحادٍ، وكذلك من فَرَّق بين السُّنَّة المتواترةِ وسُنَّةِ الآحادِ في بابِ العقائِدِ أو الأحكامِ.
    فكُلُّ هؤلاء واقعون في التناقُضِ والاضطِرابِ، والواجبُ عليهم الجَمعُ بين المتماثِلاتِ، والتفريقُ بين المختلِفاتِ؛ حتى يَسلَموا ممَّا هم فيه من التَّناقضِ والضَّلالِ .

    : من قَواعِدِ الرَّدِّ على المُخالِفينَ: المُعارضةُ الصَّحيحةُ هي التي يمكِنُ اطِّرادُها :

    قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللهُ المُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة: 258] .
    فلما سوَّى الملحِدُ نفسَه بالله تعالى في ادِّعاء الإحياءِ والإماتةِ، طالبه إبراهيمُ بإجراءِ المساواةِ في غيرها من حقوقِ الرُّبوبيَّةِ،
    ومنها: التصَرُّفُ في الكونِ وفي كواكبه وأجرامه، ومن ذلك أنَّ الله تعالى يُسَيِّرُ الشمسَ من المشرِقِ على المغربِ، فإن كان صادقًا في ادِّعاء المساواةِ لله تعالى في الإحياء والإماتة، فلْيعكِسْ إذَن حركةَ هذه الشَّمسِ؛ لتسيرَ من المغربِ إلى المشرِقِ، فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ .
    وكذلك يقال -مثلًا- لنُفاةِ بَعضِ الصِّفاتِ بقَصدِ التنزيهِ: اطْرُدوا حُجَّتَكم وانفُوا سائِرَ الصِّفاتِ، بل وسائِرَ الأسماءِ، حتى صفةَ الوُجودِ؛ لأنَّ المخلوقَ يتَّصف بها، فمن طَرَد منهم لم يَبْقَ عنده إلهٌ يُعبَدُ، ولا رَبٌّ يُصَلَّى له ويُسجَدُ، ومن فَرَّق بَقِيَ في التناقُضِ، والمحقُّ من أثبت الصِّفاتِ جميعًا مع نفيِ التَّشْبيهِ والمماثَلةِ بين الخالِقِ والمخلوقِ

    : من قَواعِدِ الرَّدِّ على المُخالِفينَ: مخاطبةُ أهلِ الاصطِلاحِ باصطِلاحِهم الخاصِّ :

    قال ابنُ تَيميَّةَ: (أمَّا مخاطبةُ أهلِ الاصطِلاحِ باصطِلاحِهم ولُغتِهم، فليس بمكروهٍ إذا احتيجَ إلى ذلك، وكانت المعاني صحيحةً؛ كمُخاطبةِ العَجَمِ مِنَ الرُّومِ والفُرسِ والتُّركِ بلُغَتِهم وعُرْفِهم؛ فإنَّ هذا جائزٌ حَسَنٌ للحاجة، وإنَّما كَرِهه الأئمَّةُ إذا لم يُحتَجْ إليه... فالسَّلَفُ والأئمَّةُ لم يذمُّوا الكلامَ لمجَرَّدِ ما فيه من الاصطِلاحاتِ المولَّدةِ، كلَفظِ الجَوهَرِ، والعَرَضِ، والِجسمِ، وغيرِ ذلك، بل لأنَّ المعانيَ التي يعبِّرون عنها بهذه العباراتِ فيها من باطِلِ المذمومِ في الأدِلَّةِ والأحكامِ ما يجِبُ النَّهيُ عنه؛ لاشتِمالِ هذه الألفاظِ على معانٍ مجمَلةٍ في النَّفيِ والإثباتِ،
    كما قال الإمامُ أحمَدُ في وَصْفِه لأهل البِدَعِ، فقال: هم مختَلِفونَ في الكِتابِ، مخالِفونَ للكِتابِ، متَّفِقونَ على مفارَقةِ الكِتابِ... يتكلَّمون بالمتشابِهِ من الكلامِ، ويخْدعُونَ جُهَّال النَّاسِ بما يُلَبِّسون عليهم". فإذا عُرِفَت المعاني التي يَقصِدونها بأمثالِ هذه العباراتِ، ووُزِنَت بالكِتابِ والسُّنَّة بحيث يثبُتُ الحَقُّ الذي أثبته الكِتابُ والسُّنَّةُ، ويُنفى الباطِلُ الذي نفاه الكِتابُ والسُّنَّةُ؛ كان ذلك هو الحقَّ، بخِلافِ ما سلَكَه أهلُ الأهواءِ مِن التَّكَلُّمِ بهذه الألفاظِ نفيًا وإثباتًا في الوَسائِلِ والمَسائِلِ، مِن غَيرِ بَيانِ التَّفصيلِ والتَّقسيمِ، الذي هو من الصِّراطِ المُستَقيمِ، وهذا من مَثاراتِ الشُّبَهِ.
    فإنَّه لا يُوجَدُ في كَلامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا أحَدٍ مِنَ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ، ولا أحَدٍ مِنَ الأئِمَّةِ المتبوعينَ: أنَّه علَّق بمُسَمَّى لَفظِ الجَوهَرِ والجِسْمِ والتحَيُّزِ والعَرَضِ ونحوِ ذلك شَيئًا من أُصولِ الدِّينِ، لا الدَّلائِلَ ولا المَسائِلَ
    ) .
    فمُخاطَبةُ أهلِ الاصطِلاح بلُغتِهم واصطِلاحِهم تفيدُ مِن وُجوهٍ:
    الأوَّلُ: أنَّهم يفهَمون الحُجَّةَ.
    الثَّاني: أن ذلك أبلغُ في الرَّدِّ عليهم، وكَسْرِهم.
    الثَّالِثُ: بيانُ تمكُّنِ أهلِ الحَقِّ مِن معاني مَسائِلِهم، وعَرْضِها بأيِّ أسلوبٍ يقتضيه الموقِفُ.

    : من قَواعِدِ الرَّدِّ على المُخالِفينَ: التوقُّفُ عند الإيهامِ، والاستفصالُ عند الإجمالِ :

    إذا أورد المُنازعُ لفظًا مجمَلًا يحتَمِلُ حقًّا وباطلًا، فينبغي الاستفسارُ عن مُرادِ صاحِبِها بها؛ فإن أراد بها حقًّا قُبِل، وإن أراد بها باطِلًا رُدَّ.
    وبعد اختيارِ المعنى الصَّحيحِ المرادِ مِن العبارةِ الموهِمةِ يُمنعُ من إطلاقِها، ويُركبُ للمعنى لفظُه الشَّرعيُّ، حتى ينتفيَ عنه الإيهامُ والإجمالُ:
    مثال ذلك: لفظُ الجِهةِ لله تعالى:
    فلو سأل سائِلٌ: هل تُثبِتون لله تعالى الجِهةَ؟
    فالجوابُ: أنَّ لفظَ الِجهةِ لم يَرِدْ في الكِتابِ ولا في السُّنَّةِ لا إثباتًا ولا نفيًا، وهو لفظٌ مجمَلٌ محتَمِلٌ، ويغني عنه ما ثَبَت في الكِتابِ والسُّنَّةِ مِن أنَّ الله تعالى في السَّماءِ.
    أمَّا الِجهةُ فقد يُرادُ بها جهةُ سُفلٍ، أو جهةُ عُلوٍّ تحيطُ باللهِ تعالى، أو جِهةُ عُلُوٍّ لا تحيطُ به.
    أما المعنى الأوَّلُ فباطِلٌ؛ لمنافاتِه العلوَّ لله تعالى الثَّابِتَ بالكتابِ والسُّنةِ والإجماعِ والعَقلِ والفِطرةِ.
    والثَّاني باطِلٌ أيضًا؛ لأنَّ الله تعالى أعظمُ من أن يحيطَ به شَيءٌ مِن مخلوقاتِه.
    وأمَّا المعنى الثَّالِث فحَقٌّ يجب إثباتُه وقَبولُه؛ لأنَّ الله تعالى هو العَليُّ الأعلى، ولا يحيطُ به شيءٌ من مخلوقاتِه .
    ولهذا يوجَدُ كثيرًا في كلامِ السَّلَف النَّهيُ عن إطلاقِ النَّفيِ أو الإثباتِ في مِثلِ هذه المواطِنِ:
    قال أحمدُ بنُ حَنبلٍ: (فالجوابُ للجَهْميِّ إذا سأل فقال: أخبِرونا عن القرآنِ: هو اللهُ أو غيرُ اللهِ؟ قيل له: وإنَّ اللهَ جَلَّ ثناؤه لم يقُلْ في القرآنِ: إنَّ القرآنَ أنا، ولم يقُلْ: غيري، وقال: هو كلامي، فسَمَّيناه باسمٍ سمَّاه اللهُ به، فقلنا: كلامُ اللهِ. فمَن سَمَّى القرآنَ باسمٍ سَمَّاه الله به، كان من المهتَدِين، ومن سمَّاه باسمٍ غيرِه كان من الضَّالِّينِ) .

    : من قَواعِدِ الرَّدِّ على المُخالِفينَ: استفادةُ طالِبِ الحقِّ من رَدِّ أهلِ البِدَع بَعضِهم على بَعضٍ :

    قال ابنُ تَيميَّةَ: (المناظَرةُ تارةً تكونُ بين الحقِّ والباطِلِ، وتارةً بيْن القولينِ الباطِلينِ لتبيينِ بُطلانِهما، أو بُطلانِ أحدِهما، أو كونِ أحَدِهما أشدَّ بُطلانًا من الآخَرِ؛ فإنَّ هذا يُنتَفَعُ به كثيرًا في أقوالِ أهلِ الكَلامِ والفَلسفةِ وأمثالِهم ممَّن يقولُ أحدُهم القَولَ الفاسِدَ ويُنكِرُ على مُنازِعِه ما هو أقربُ منه إلى الصَّوابِ، فيُبَيِّنُ أنَّ قولَ منازعِه أحَقُّ بالصِّحَّةِ إن كان قولُه صحيحًا، وأنَّ قَولَه أحقُّ بالفسادِ إن كان قولُ مُنازعِه فاسدًا؛ لتنقطِعَ بذلك حُجَّةُ الباطِلِ، فإنَّ هذا أمرٌ مُهِمٌّ؛ إذ كان المُبطِلون يُعارضونَ نُصوصَ الكِتابِ والسُّنَّةِ بأقوالِهم؛ فإنَّ بيانَ فَسادِها أحدُ رُكنيِ الحَقِّ، وأحدُ المطلوبَينِ) .
    وقال ابنُ القَيِّمِ: (من المعلومِ أنَّ كلَّ مُبطلٍ أنكرَ على خَصْمِه شيئًا من الباطِلِ قد شاركه في بعضِه أو في نظيرِه؛ فإنَّه لا يتمكَّنُ من دَحْضِ حُجَّتِه وكَسرِ باطِلِه؛ لأنَّ خَصمَه تسلَّط عليه بمِثْلِ ما سُلِّط هو به عليه، وهذا شأنُ أهلِ الأهواءِ مع بَعْضِهم البَعضِ؛ ولهذا كان عامَّةُ ما يأتون به أبدًا يُناقِضُ بَعضُهم بَعضًا، ويَكسِرُ أقوالَ بعضِهم ببَعضٍ، وفي هذا مَنفعةٌ جليلةٌ لطالبِ الحَقِّ؛ فإنَّه يكتفي بإبطالِ كُلِّ فِرقةٍ لقَولِ الفِرقةِ الأُخرى) .
    فمثلًا إذا استدلَّ متأوِّلُ الصِّفاتِ على مُنكِرِ المعادِ وحَشْرِ الأجسادِ بنُصوصِ الوَحيِ، أبدَى لها مُنكرُ المعادِ تأويلاتٍ تخالِفُ ظاهِرَها، وقال للمُستَدِلِّ بها: تأوَّلتُ أنا هذه النُّصوصَ -نُصوصَ المعادِ- كما تأوَّلتَ أنت نصوصَ الصِّفاتِ، ولا سيَّما أنَّها أكثَرُ وأصرَحُ، فإذا تطرَّق التَّأويلُ إليها، فهو إلى ما دُونهَا أقربُ تطَرُّقًا، ولا نجاةَ من هذا التَّناقُضِ إلَّا بالإيمانِ بجَميعِ النُّصوصِ، وإجرائِها على ظاهِرِها، ومَنعِ التَّأويلِ فيها .

    : من قَواعِدِ الرَّدِّ على المُخالِفينَ: العِلمُ بأنَّ القطعيَّةَ والظَّنِّيَّةَ من الأُمورِ النِّسْبيَّةِ الإضافيَّةِ :

    كونُ العِلمِ -أو الدَّليلِ- بَديهيًّا أو نَظَريًّا، قَطعيًّا أو ظَنِّيًّا: هو من الأمورِ النِّسبيَّةِ الإضافيَّةِ التي تختَلِفُ باختلافِ المُدرِك المستدِلِّ، فقد يكون قطعيًّا عند أحدٍ، ولكِنَّ غيرَه لا يَعرِفُه إلَّا بالنَّظَرِ؛ فالقَطعُ أو الظَّنُّ ليس صفةً لازمةً للدَّليلِ بحيثُ يَشتَرِكُ في ذلك جميعُ النَّاسِ.
    وعليه، فمن أنكَرَ بعضَ الأحاديثِ بحُجَّةِ أنَّها ظَنِّيَّة، فهذا إخبارٌ منه عن حالِه؛ إذ لم يحصُلْ له مِنَ الطُّرُقِ ما يُفيدُه العِلمَ والقَطعَ، ولا يلزمُ من ذلك النَّفيُ العامُّ، فغَيرُه مِن أهلِ الحَديثِ والسُّنَّةِ حَصَل له العِلمُ والقطعُ بمدلولِ تلك الأحاديثِ .

    : من قَواعِدِ الرَّدِّ على المُخالِفينَ: معرفةُ أنَّ الاصطِلاحاتِ الحادثةَ لا تغَيِّرُ من الحَقائِقِ شَيئًا :

    قد يَستخدِمُ المبتَدِعةُ بعضَ الألفاظِ الحَسَنةِ، فيَصِفونَ بها ما هم عليه مِنَ العَقائدِ الفاسِدةِ، ويَستَخدِمونَ في حَقِّ مُنازِعيهم مِن أهلِ السُّنَّةِ الألفاظَ الذَّميمةَ والألقابَ الشَّنيعةَ.
    فأهلُ الكلامِ يُسَمُّونَ ما عِندَهم من الكلامِ عَقليَّاتٍ وقَطعيَّاتٍ ويَقينيَّاتٍ، ويسَمُّونَ ما عِندَ غَيرِهم مِنَ العُلومِ ظواهِرَ وظنيَّاتٍ، ومحَرِّفو الكَلِمِ عن مواضِعِه يسمُّونَ تحريفَهم تأويلًا، والمعطِّلةُ للصِّفاتِ يُسَمُّونَ نَفْيَ الصِّفاتِ تَنزيهًا وتقديسًا وتوحيدًا، ويسمُّون إثباتَها تجسيمًا وتَشبيهًا وحَشْوًا، ويلقِّبونَ مُثْبِتيها بالمجسِّمةِ، والمشَبِّهةِ والحَشويَّةِ. والمتصَوِّفة يسمُّون خَيالاتِهم الشَّيطانيَّةَ حقائِقَ ومعارِفَ يَقينيَّةً، وقد يُسَمُّونها توحيدًا، ويُسَمُّونَ ما عندَ أهلِ السُّنَّةِ ظواهِرَ ورُسومًا، وعوائِقَ وحُجُبًا! وكلُّ هذه الاصطِلاحات لا تغيِّرُ من الحقائِقِ شَيئًا .

    : من قَواعِدِ الرَّدِّ على المُخالِفينَ: الحَيدةُ عن الجَوابِ دَلالةٌ على انقِطاعِ الحُجَّةِ :

    الحَيدةُ هي: جوابُ السَّائِلِ بغيرِ ما سأل عنه، ومثالُ الحَيدةِ ما ذَكَره اللهُ تعالى في قِصَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ مع قَومِه فقال: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ [الشعراء: 70 - 73] فصاروا بين أمرَينِ: أن يقولوا بالإيجابِ، وليس لهم حُجَّةٌ على ذلك إلَّا مجرَّدُ الدَّعوى، أو يقولوا بالنَّفيِ، فتظهَرَ حُجَّةُ إبراهيمَ عليهم، فلمَّا أدركوا أنَّ أيًّا من الأمرينِ لا يَصلُحُ جوابًا يخلِّصُهم، حادوا عن الجوابِ، فـ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [الشعراء: 74] ، وهذا ليس جوابًا لسُؤالِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، وإنَّما حَيدةٌ وانقِطاعٌ .
    ومن أمثلةِ حَيدةِ أهلِ البِدَعِ ما أجاب به بِشرٌ المِرِّيسيُّ عبدَ العزيزِ المكِّيَّ حين سأله: هل لله علمٌ؟ فقال بِشرٌ: اللهُ لا يَجهَلُ ؛ لأنَّه أدرك إن هو أجاب بالإثباتِ فقد أبطل حُجَّتَه في كونِ القُرآنِ مَخلوقًا؛ لأنَّه لا يستطيعُ أن يقولَ: عِلمُ اللهِ مَخلوقٌ، والقرآنُ مِن عِلمِ اللهِ، وإن أجاب بالنَّفيِ كان ذلك منه تكذيبًا صريحًا بنُصوصِ التَّنزيلِ، فحاد عن الجوابِ؛ لئلَّا يَلزَمَه أحدُ الوجهَينِ .
    --------------------------------------------------------------------------------------------
    التالي : -
    : خصائِصُ مَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في تَقريرِ مَسائِلِ الاعتِقادِ :

    : من خَصائِصِ مَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في تَقريرِ مَسائِلِ الاعتِقادِ: وَحدةُ المَصدَرِ :



    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5203
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

     مَبادِئ عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ - عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ وفوائدُه - خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ  - أصول عقيدة أهل السنه والجماعه                                                                        Empty : خصائِصُ مَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في تَقريرِ مَسائِلِ الاعتِقادِ : : من خَصائِصِ مَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في تَقريرِ مَسائِلِ الاعتِقادِ: وَحدةُ المَصدَرِ :

    مُساهمة من طرف صادق النور الإثنين نوفمبر 20, 2023 6:26 am

    تابع ما قبله :-

    : خصائِصُ مَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في تَقريرِ مَسائِلِ الاعتِقادِ :

    : من خَصائِصِ مَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في تَقريرِ مَسائِلِ الاعتِقادِ: وَحدةُ المَصدَرِ :

    قال ابنُ عبدِ البَرِّ: (ليس في الاعتِقادِ كُلِّه في صِفاتِ اللهِ وأسمائِه إلَّا ما جاء منصوصًا في كتابِ اللهِ، أو صحَّ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو أجمَعَت عليه الأمَّةُ، وما جاء من أخبارِ الآحادِ في ذلك كُلِّه أو نحوِه يُسَلَّمُ له، ولا يناظَرُ فيه)

    : من خَصائِصِ مَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في تَقريرِ مَسائِلِ الاعتِقادِ: أنَّه مَنهَجٌ توقيفيٌّ :

    مَنهَجُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ مَنهَجٌ يقومُ على التَّسليمِ المطلَقِ لنُصوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، لا يردُّون منها شيئًا، ولا يُعارِضونَها بشَيءٍ؛ لا بعَقلٍ ولا ذَوقٍ ولا مَنامٍ ولا غيرِ ذلك، بل يَقِفونَ حيث تَقِفُ بهم النُّصوصُ، ولا يَتجاوَزونَها إلى إعمالِ رأيٍ أو قياسٍ أو ذَوقٍ، مُلتَزِمينَ قَولَه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات: 1] .

    قال الرَّبيعُ بنُ خُثَيمٍ: (يا عبدَ اللهِ، ما علَّمَك اللهُ في كتابِه مِن عِلمٍ فاحمَدِ اللهَ، وما استأثَرَ عليك به من عِلمٍ فكِلْه إلى عالِمِه، ولا تتكَلَّفْ؛ فإنَّ اللهَ جَلَّ وعَزَّ يقولُ لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص: 86-88] ) .

    أمَّا أهلُ البِدعِ فقد أصَّلوا لأنفُسِهم قواعدَ حاكَموا إليها نُصوصَ الكِتابِ والسُّنَّةِ؛ فما وافَقَ منها تلك القواعِدِ قالوا به مُعَضِّدينَ لا محتجِّينَ، وما خالف ردُّوه بتضعيفٍ إن كان حديثًا، أو تأويلٍ إنْ كان قُرآنًا أو حديثًا، وإن أحسَنوا المعامَلةَ فوَّضوا العِلمَ به، وعَزَلوه عن الحُكمِ والاحتِجاجِ به.
    قال يُونُسُ بنُ عَبدِ الأعلى: سَمِعتُ الشَّافعيَّ يومَ ناظَرَه حَفصٌ الفردُ، قال لي: (يا أبا موسى، لَأَنْ يلقى اللهَ عزَّ وجَلَّ العبدُ بكُلِّ ذنبٍ ما خلا الشِّركَ: خَيرٌ من أن يلقاه بشيءٍ من الكلامِ، لقد سمعتُ مِن حَفصٍ كلامًا لا أقدِرُ أن أحكِيَه!) .
    وقال ابنُ عُيَينةَ: (سَمِعتُ من جابرٍ الجعفيِّ كلامًا خَشِيتُ أن يقَعَ عليَّ وعليه البيتُ!) .

    : من خَصائِصِ مَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في تَقريرِ مَسائِلِ الاعتِقادِ: تجنُّبُ الجَدَلِ والخُصوماتِ في الدِّينِ :

    كان للسَّلَفِ مَوقِفٌ واضِحٌ وصَريحٌ مِنَ الجَدَلِ والخُصوماتِ في مَسائِلِ الاعتِقادِ، حتى عدُّوا الكلامَ والتمحُّلَ فيها من البِدَعِ، التي شدَّدوا النَّكيرَ على مُقتَرفيها.
    قال مالِكٌ: (الكلامُ في الدِّينِ أكرَهُه، ولم يَزَلْ أهلُ بلَدِنا يَكرَهونَه، ويَنهَون عنه، نحوُ الكلامِ في رأيِ جَهمٍ والقَدَرِ، وكُلِّ ما أشبهَ ذلك، ولا أحِبُّ الكلامَ إلَّا فيما تحتَه عَمَلٌ، فأمَّا الكلامُ في دينِ اللهِ، وفي اللهِ عزَّ وجَلَّ، فالسُّكوتُ أحبُّ إليَّ؛ لأنِّي رأيتُ أهلَ بَلَدِنا يَنْهَونَ عن الكلامِ في دينِ اللهِ، إلَّا فيما تحتَه عَمَلٌ) .
    وقال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (الذي قاله مالِكٌ -رحمه الله- عليه جماعةُ الفُقَهاءِ والعُلَماءِ قديمًا وحديثًا، من أهلِ الحَديثِ والفتوى، وإنَّما خالف ذلك أهلُ البِدَعِ: المعتَزِلةُ وسائِرُ الفِرَقِ، وأمَّا الجماعةُ فعلى ما قال مالِكٌ رحمه الله) .
    ويُسْتَثْنى من ذلك للضَّرورةِ التَّوسعُ في الكَلامِ في مَسائِل الاعتِقادِ بعِلمٍ؛ لردِّ باطِلٍ يُحتاجُ في ردِّه إلى تبيينٍ وتَفصيلٍ، أو لتوضيحِ الحقِّ وتبيينِه بأدِلَّتِه النَّقليَّةِ والعَقليَّةِ؛ خَوفًا من ضَلالةٍ أن تَعُمَّ؛ فمِنْ واجبِ العُلَماءِ بَيانُ الحقِّ، ودَفعُ الباطِلِ في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ بما يُناسِبُ الحالَ .

    : من خَصائِصِ مَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في تَقريرِ مَسائِلِ الاعتِقادِ: اتِّفاقُ السَّلَفِ في مَسائِلِ العَقيدةِ :

    قال أبو القاسِمِ الأصبهانيُّ: (ممَّا يدُلُّ على أنَّ أهلَ الحَديثِ هم على الحَقِّ أنَّك لو طالعْتَ جميعَ كُتُبِهم المصنَّفةِ من أَوَّلِهم إلى آخِرِهم؛ قَديمِهم وحديثِهم، مع اختلِاِف بلدانِهم وزَمانِهم، وتباعُدِ ما بينهم في الدِّيارِ، وسُكونِ كلِّ واحدٍ منهم قُطرًا من الأقطارِ- وجَدْتَهم في بيانِ الاعتِقادِ على وتيرةٍ واحدةٍ، ونَمَطٍ واحدٍ، يَجْرونَ فيه على طريقةٍ لا يَحيدون عنها، ولا يَميلونَ فيها، قولُهم في ذلك واحِدٌ، ونقْلُهم واحِدٌ، لا ترى بينهم اختِلافًا ولا تَفَرُّقًا في شَيءٍ ما وإن قَلَّ، بل لو جمعْتَ جميعَ ما جرى على ألسِنَتِهم ونَقَلوه عن سَلَفِهم، وجَدْتَه كأنَّه جاء من قَلبٍ واحِدٍ، وجرى على لسانٍ واحِدٍ، وهل على الحَقِّ دليلٌ أبيَنُ مِن هذا؟!) .

    : من نَتائِجِ الالتزامِ بمَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في تقريرِ مَسائِلِ الاعتِقادِ: تحقيقُ كَمالِ الدِّينِ، وتَمامِ النِّعْمةِ، وقيامِ الحُجَّةِ :


    التزامُ هذا المنهَجِ فيه اعتِرافٌ حقيقيٌّ بأنَّ اللهَ تعالى أكمَلَ الدِّينَ، وأتمَّ النِّعمةَ، وأنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بلَّغ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، وأقام الحُجَّةَ، وأوضَحَ المحَجَّةَ، وأنَّ الصَّحابةَ رِضوانُ اللهِ عليهم أقاموا الدِّينَ عِلمًا وعَمَلًا، وبَلَّغوه لفظًا ومعنًى. وهذا وإن كان واضِحًا في كُلِّ مَسائِلِ الدِّيانةِ إلَّا أنَّه في مَسائِلِ الاعتِقادِ أشَدُّ وُضوحًا.

    : من نَتائِجِ الالتزامِ بمَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في تقريرِ مَسائِلِ الاعتِقادِ: بيانُ ثُبوتِ العِصمةِ للقرآنِ الكَريمِ والسُّنَّةِ النَّبَويةِ :


    الالتزامُ بهذا المَنهَجِ يُفيدُ إثباتَ العِصْمةِ للشَّريعةِ الإسْلاميَّةِ الحَكيمةِ، بحيثُ لا يجوزُ الاستِدراكُ عليها، وذلك بعد أن تَقَرَّرَ بالأدِلَّةِ والبراهينِ اليَقينيَّةِ أنْ ليس في الشَّرعِ ما يُخالِفُ مُقتَضَياتِ العُقولِ الصَّحيحةِ، كما أنَّه ليس في العَقلِ الصَّحيحِ ما يخالِفُ نصًّا صَحيحًا صريحًا من نُصوص الكِتاب والسُّنَّةِ.
    وعليه، فيَجِبُ النَّظَرُ إلى الشَّريعةِ بعَينِ الكَمالِ لا بعَينِ النُّقصانِ، واعتِبارُها اعتبارًا كلِّيًّا في العَقائِدِ والعِباداتِ والمعامَلاتِ، وعدمُ الخروجِ عنها البتَّةَ، كيف وقد ثبت كمالُها وتمامُه؟! فالزَّائدُ والمُنقِصُ في جهتِها هو المبتَدِعُ بإطلاقٍ، المنحرِفُ عن جادَّةِ الصَّوابِ إلى بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ، وهذا هو الذي أغفلَهَ المبتَدِعونَ؛ فدخَلَ عليهم بسَبَبِه الاستِدراكُ على الشَّرعِ، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا .

    : من نَتائِجِ الالتزامِ بمَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في تقريرِ مَسائِلِ الاعتِقادِ: التَّصديقُ بجَميعِ نُصوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ :

    الالتزامُ بمَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ يُفيدُ التَّصديقَ بجَميعِ نُصوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، والاستِدلالَ بها مجتَمِعةً ما لم يكُنْ بَيْنَ بَعضِها نَسْخٌ؛ لأنَّها خرَجَت من مِشكاةٍ واحدةٍ، وتكلَّم بها من وَصَف نَفْسَه بكَمالِ العِلمِ وتمامِ الحِكمةِ، فلا يجوزُ ضَربُ بَعْضِها ببَعضٍ؛ لأنَّ ذلك يَقتَضي التَّكذيبَ ببَعضِ الحَقِّ؛ إذ إنَّه من بابِ مُعارَضةِ حَقٍّ بحَقٍّ، وهذا يقتَضي التَّكذيبَ بأحَدِهما أو الاشتِباهَ والحَيرةَ.

    قال اللهُ تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ * وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر: 32-33] .
    فلو صَدَق الإنسانُ فيما يَقولُه، ولم يصَدِّقْ بالحَقِّ الذي يَقولُه غَيرُه، لم يكُنْ ممدوحًا، حتَّى يكونَ ممَّن يجيءُ بالصِّدقِ ويُصَدِّقُ به، فأولئك هم المتَّقونَ .

    : من نَتائِجِ الالتزامِ بمَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في تقريرِ مَسائِلِ الاعتِقادِ: تعظيمُ نُصوص الكِتابِ والسُّنَّةِ :

    إنَّ الالتزامَ بهذا بمَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ يَجعَلُ المسلِمَ في مَوقِفِ المعظِّمِ لنُصوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ؛ لأنَّه يعتقدُ أنَّ كُلَّ ما تضمَّنَته هو الحقُّ والصَّوابُ، وفي خلافِها الباطِلُ والضَّلالُ.
    أمَّا المخالِفونَ فقد سقَطَت مِن نُفوسِهم هيبةُ النُّصوصِ، حتَّى استحَلُّوا حُرُماتِها، وعاثُوا فيها تكذيبًا أو تحريفًا، وإن أحسَنوا المعاملةَ أعرَضوا عنها بقُلوبِهم وعُقولِهم، ولم يَستَدِلُّوا بشَيءٍ منها،
    فهم كما قال اللهُ سُبحَانه عَنِ اليَهُودِ: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [البقرة: 78] .

    : من نَتائِجِ الالتزامِ بمَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في تقريرِ مَسائِلِ الاعتِقادِ: عِصْمةُ عُلومِ أهلِ السُّنَّةِ :


    أهلُ السُّنَّةِ معصومون فيما يأخُذونَه عن إجماعِ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ؛ لأنَّ إجماعَهم حُجَّةٌ، ولا تجتَمِعُ هذه الأمَّةُ على ضَلالٍة، فكيف إذا أجمَعَ السَّلَفُ الصَّالِحُ من الصَّحابةِ والتَّابِعينَ وتابعيهم على مسألةٍ؟! فإن َّخلِافَهم فيها لا يجوزُ؛ لأنَّه خِلافُ الإجماعِ، وخِلافُ تلك القُرونِ المفضَّلةِ.

    : من نَتائِجِ الالتزامِ بمَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في تقريرِ مَسائِلِ الاعتِقادِ: السُّكوتُ عمَّا سكت عنه السَّلَفُ الصَّالحُ :


    كلُّ مسألةٍ سَكَت عنها السَّلَفُ الصَّالحُ وتكلَّم فيها الخَلَفُ، فالسكوتُ عنها أَولى وأليَقُ.
    قال عُمَرُ بنُ عبدِ العَزيزِ رَحِمه اللهُ في وَصِيَّتِه إلى عَدِيِّ بنِ أرطأَةَ: (فإنِّي أُوصيكَ بتقوى اللهِ، والاقتصادِ في أمْرِه، واتِّباعِ سُنَّةِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتَرْكِ ما أحدَثَ المحْدِثونَ ممَّا قد جَرَت سُنَّتُه، وكُفُوا مُؤنتَه، فعليكم بلُزومِ السُّنَّةِ؛ فإنَّ السُّنَّةَ إنَّما سَنَّها من قد عَرَف ما في خِلافِها مِنَ الخَطَأِ والزَّلَلِ، والحُمقِ والتعَمُّقِ، فارْضَ لنَفْسِك ما رَضِيَ به القَومُ لأنفُسِهم؛ فإنَّهم عن عِلمٍ وَقَفوا، وببَصَرٍ نافذٍ قد كَفُّوا، فلَئِنْ قُلتُم: أمرٌ حَدَث بَعْدَهم؛ ما أحدَثَه بعدهم إلَّا من اتَّبع غيرَ سُنَّتِهم، ورَغِبَ بنفسِه عنهم، إنَّهم لهم السابقون؛ فقد تكَلَّموا منه بما يكفي، ووَصَفوا منه ما يَشْفي، فما دُونَهم مَقْصَرٌ، وما فَوقَهم مَحْسَرٌ، لقد قَصَّر عنهم آخرون فضَلُّوا، وإنَّهم بين ذلك لعلى هُدًى مُستقيمٍ) .

    : من نَتائِجِ الالتزامِ بمَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في تقريرِ مَسائِلِ الاعتِقادِ: النَّجاةُ المَحْضةُ مَوقوفةٌ على مُتابَعةِ مَذهَبِ أهلِ السُّنَّةِ الـمُتَمَسِّكِينَ بكتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولِهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ :


    إنَّ النَّجاةَ المحْضةَ وَقْفٌ على مَن كان على مِثلِ ما كان عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه، وهو الاعْتِصامُ بالقُرآنِ الكَريمِ والسُّنَّةِ النَّبَويَّةِ، ومَنهَجُهُم إنَّما يُعرَفُ عن طريقِ السُّنَنِ المَرْويَّة، والآثارِ الصَّحابيَّة، وأَولى النَّاسِ بمعرفةِ ذلك هم أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ؛ وذلك لاشتِغالِهم وعنايتِهم بها، وانتسابِهم إليها، بعَكْسِ أهلِ البِدَعِ الذين هم مِن أبعَدِ النَّاسِ عن مَعرِفةِ ما كان عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه، مُستَغنينَ عن ذلك بالمحاراتِ الفَلسفيَّةِ، والخيالاتِ الصُّوفيَّةِ، ومنهم من يَعتَرِفُ بقِلَّةِ بضاعتِه مِن الإرثِ النَّبَويِّ، ومنهم من لو اطَّلَعْتَ على مصنَّفاتِه لا تكاد تقِفُ على آيةٍ كريمةٍ، أو حديثٍ شَريفٍ، أو أثَرٍ عن صَحابيٍّ.

    : مِن نَتائِجِ الالتزامِ بمَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في تقريرِ مَسائِلِ الاعتِقادِ: شَرَفُ الانتِسابِ إلى السَّلَفِ الصَّالِحِ :

    كلُّ مَنِ التَزمَ بمَنهَجِ السَّلَفِ الصَّالحِ واتَّبَعَهُم بإِحسَانٍ في الاعْتِقادِ والعِلمِ والعَمَلِ، فهو منهم وإن تأخَّر زمانُهُ عن زَمَنِهم؛ فالمرءُ مع من أحَبَّ.
    قال أبو الوفاءِ بنُ عَقيلٍ لبَعضِ أصحابِه: (أنا أقطَعُ أنَّ الصَّحابةَ ماتوا وما عَرَفوا الجوهَرَ والعَرَضَ، فإن رضيتَ أن تكونَ مِثلَهم فكُنْ، وإن رأيتَ أنَّ طريقةَ المتكلِّمينَ أَولى من طريقةِ أبي بَكرٍ وعُمَرَ فبِئسَ ما رأيتَ!) .

    : من نَتائِجِ الالتزامِ بمَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في تقريرِ مَسائِلِ الاعتِقادِ: عدمُ صحَّةِ الإيمانِ المَشروطِ :

    الالتزامُ بمَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ يقرِّرُ عدَمَ صِحَّةِ الإيمانِ المَشروطِ؛ إذ لا بُدَّ مِنَ تسليمٍ مُطلَقٍ لِلوَحْيِ المعصُومِ،
    كمن يقولُ: أنا لا أؤمِنُ بخَبَرِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حتى أعلَمَ انتِفاءَ المعارِضِ العَقليِّ، أو أنا لا أؤمِنُ حتى تُصَدِّقَ خبَرَه رُؤيا منامٍ، أو كَشفٌ، أو ذَوقٌ، أو تَجرِبةٌ مَعمليَّةٌ، أو نحوُ ذلك من الشَّرائِطِ، فهذا إيمانٌ لا يصِحُّ، وصاحِبُه فيه شَبَهٌ من المُشرِكِينَ الذين قال الله عنهم: وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ [الأنعام: 124] ،
    ومِنَ اليَهودِ الذين قال اللهُ عنهم: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة: 55] .
    فالواجِبُ على الإنسانِ أن يؤمِنَ باللهِ ورِسالاتِه إيمانًا مُطلَقًا غيرَ مَشروطٍ؛ .
    ولهذا كان شِعارُ أهلِ الإيمانِ: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [البقرة: 285] ، وشعارُ أهلِ الكُفرِ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [البقرة: 93] .

    : من نَتائِجِ الالتزامِ بمَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في تقريرِ مَسائِلِ الاعتِقادِ: كثرةُ الصَّوابِ وقِلَّةُ الخَطَأِ :


    الاعتِمادُ على الكِتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ الأُمَّةِ في الاستِدلالِ: يقلِّلُ الخطأَ، ويُكثِّرُ الصَّوابَ والتَّوفيقَ، والخطأُ يكونُ بسَبَبِ نَقصِ عِلمِ المُستَدِلِّ، أو قُصورِ فَهْمِه، أو سُوءِ قَصْدِه، وهذا يوجَدُ في بَعضِ أهلِ السُّنَّةِ،
    لكِنَّ الخَطَأَ الواقِعَ مِن أهلِ السُّنةِ بالنِّسبةِ إلى غَيرِهم مِن أهلِ البِدَعِ كالخَطَأِ الواقِعِ مِن المُسلِمينَ بالنِّسبةِ إلى بقيَّةِ المِلَلِ، فكلُّ شرٍّ يكونُ في بعضِ المُسلِمينَ فهو في غَيرِهم أكثَرُ، وكلُّ خَيرٍ يكونُ في غَيرِهم فهو فيهم أعلى وأعظَمُ،
    وأهلُ الحديثِ والسُّنَّةِ، يَعرِفونَ الحقَّ، ويَرحَمونَ الخَلْقَ، فاجْتمعَ لهُم العِلمُ والرَّحمةُ أمَّا أهلُ البِدَعِ فيُكَذِّبونَ بالحَقِّ، ويُكفِّرون الخَلْقَ؛ فلا عِلمَ ولا رحمةَ !
    ------------------------------------------------------------------------------
    التالي : -

    : من نَتائِجِ الالتزامِ بمَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في تقريرِ مَسائِلِ الاعتِقادِ: الاستِغناءُ بالكِتابِ والسُّنَّةِ عمَّا سِواهما :

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع

    صادق النور
    صادق النور
    مدير عام


    عدد المساهمات : 5203
    تاريخ التسجيل : 02/02/2010

     مَبادِئ عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ - عِلمِ العَقيدةِ والإيمانِ والتَّوحيدِ وفوائدُه - خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ  - أصول عقيدة أهل السنه والجماعه                                                                        Empty : من نَتائِجِ الالتزامِ بمَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في تقريرِ مَسائِلِ الاعتِقادِ: الاستِغناءُ بالكِتابِ والسُّنَّةِ عمَّا سِواهما :

    مُساهمة من طرف صادق النور الإثنين نوفمبر 20, 2023 6:44 am

    يتبع ما قبله :

    : من نَتائِجِ الالتزامِ بمَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في تقريرِ مَسائِلِ الاعتِقادِ: الاستِغناءُ بالكِتابِ والسُّنَّةِ عمَّا سِواهما :

    ألالتزامُ بمَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ يُفيدُ الاستغناءَ بالكِتابِ والسُّنَّةِ عن النَّظَرِ في الكُتُبِ المتقدِّمةِ؛ كالتَّوارةِ والإنجيلِ والزَّبورِ؛ لِما أصابَها مِنَ التَّحريفِ والتَّبديلِ، والزِّيادةِ والنُّقصانِ، فالقُرآنُ الكريمُ كِتابٌ مُستَقِلٌّ بنَفْسِه، ناسخٌ لِما قَبْلَه، لم يحوِجِ اللهُ تعالى أهلَه إلى كتابٍ آخرَ،كما هو حالُ أهلِ الزَّبورِ والإنجيلِ مع التَّوراةِ، فالنَّصارى لا يَستَغنُونَ عنِ التَّوراةِ بالإِنجِيلِ، والقرآنُ قد اشتَمَل على جميعِ ما في الكُتُبِ الأُخرى من المحاسِنِ، وعلى زياداتٍ كثيرةٍ لا تُوجَدُ فيها، مع ضمانِ الحِفظِ ونزاهةِ النَّصِّ عن التَّحريفِ؛ ولهذا كان مُصَدِّقًا لِما بيْن يَدَيه من الكِتابِ، ومُهيمِنًا عليه، يقرِّرُ ما فيه من الحَقِّ، ويُبطِلُ ما حُرِّفَ منه، ويَنسَخُ ما نسَخَه اللهُ تعالى .

    : من نَتائِجِ الالتزامِ بمَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في تقريرِ مَسائِلِ الاعتِقادِ: أنَّ طريقةَ السَّلَفِ أَسلَمُ وأعلَمُ وأحكَمُ :

    عضُ أهلِ البِدعِ يقولونَ: طَريقةُ السَّلَفِ أَسْلَمُ، وطريقةُ الخَلَفِ أعلَمُ وأحكَمُ، ويَقصِدونَ بذلك التَّأويلَ الذي هو صرفُ النُّصوصِ إلى معنًى قد تحتَمِلُه اللُّغةُ، لكِنْ في غيرِ هذا السِّياقِ المعيَّنِ، والتَّأويلُ عِندَهم مظنونٌ بالاتِّفاقِ،
    فلا أحدَ منهم يقطَعُ بالمعنى الذي صَرَفوا اللَّفظَ إليه، فهُم على غيرِ يقينٍ مِن صِحَّةِ أقوالهِم، بل تركوا النُّصوصَ الَّتي فيها الحقُّ واليقينُ، ولَجَؤُوا إلى احتِمالاتٍ وتجويزاتٍ مزَّقَتْهم كُلَّ ممَزَّقٍ، مع حَيرةٍ وضَياعٍ

    : من نَتائِجِ الالتزامِ بمَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في تقريرِ مَسائِلِ الاعتِقادِ:
    : اجتماعُ محاسِنِ الفِرَقِ الأُخرى لأهلِ السُّنَّةِ خالِصةً من كلِّ كَدَرٍ :


    الالتزامُ بمَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ يَجمَعُ لأهلِ السُّنَّةِ ما عند الفِرَقِ الأخرى من الحَقِّ، مع نَبْذِ أباطيلِهم؛ لأنَّ ما عِندَ الفِرَقِ المخالِفةِ للحَقِّ شُبَهٌ، والشُّبهةُ ما أشبَهَت الحقَّ من وجهٍ؛ ولهذا تَشتَبِهُ على النَّاسِ، فأهلُ السُّنَّةِ يأخُذونَ بالوَجْهِ الحقِّ، ويَدَعونَ الوَجْهَ الباطِلَ، وسببُ هذا التَّوفيقِ هو استِدلالُهم بجميعِ النُّصوصِ مِن غَيرِ توهُّمِ تعارُضٍ بينها، أو بينها وبين العَقلِ الصَّحيحِ الصَّريحِ، أمَّا أهلُ الفِرَقِ الأُخرى فقد ضَرَبوا النُّصوصَ بَعْضَها ببَعْضٍ، أو عارَضوها بآرائِهم وأقيسَتِهم الفاسِدةِ، فآمَنوا ببَعضِ الكِتِاب وكَفَروا ببعضٍ، وأهلُ السُّنَّة آمَنوا بالكِتابِ كُلِّه، وأقاموه عِلمًا وعَمَلًا.

    : من نَتائِجِ الالتزامِ بمَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في تقريرِ مَسائِلِ الاعتِقادِ: مخالفةُ مَسالِكِ الأُمَمِ الضَّالَّةِ  :

    الالتزامُ بمَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ يُفيدُ مُجانبةَ مَسالِكِ الأُمَمِ الضَّالَّةِ من اليَهودِ والنَّصارى وغَيرِهم، وقد أُمِرْنا بمخالفةِ طَرائِقِهم، وتجنُّبِ سُنَنِهم، ومنها أنَّهم ردُّوا على الرُّسُلِ ما أخبَروا به، واعتَرَضوا عليهم بالاعتراضاتِ الباطِلةِ،
    كما قالت اليهودُ لموسى عليه السَّلامُ: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة: 55] .
    وقال الذين كَفَروا: وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ [الأنعام: 124] .
    وكلُّ من أوقَفَ الإيمانَ بالنُّصوصِ على مُوافَقةِ عَقْلِه أو قياسِه أو ذَوقِه أو كَشْفِه أو منامِه أو حِسِّه؛ ففيه شَبَهٌ من شَبَه اليَهودِ والنَّصارى وغيرِهم من الكافرين، وقد أُمِرْنا بمخالَفتِهم؛ ولهذا لا تكادُ تَجِدُ شُبهةً أو مقالةً مُنحَرِفةً في الفِرَقِ المخالِفةِ لأهلِ السُّنَّةِ، إلَّا وفي اليَهودِ والنَّصارى نَظيرُها.

    : من نَتائِجِ الالتزامِ بمَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في تقريرِ مَسائِلِ الاعتِقادِ:
    : ما تَلزَمُه المُخالفةُ مِنَ الكُفرِ، وما يلتَزِمُه المُخالِفُ من الدَّعوى إلى بِدْعتِه :


    مخالفةُ مَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ تؤدِّي إلى كثيرٍ مِنَ الكُفريَّاتِ؛ كنَفْيِ الصِّفاتِ، والقَولِ بخَلْقِ القُرآنِ، والتَّكذيبِ بالقَدَرِ، ونَفْيِ حكمةِ الربِّ تعالى ومَشيئتِه واختيارِه، والحُلولِ والاتِّحادِ، وتفضيلِ الأولياءِ على الأنبياءِ، والتكذيبِ بأخبارِ المَعادِ وحَشْرِ الأجسادِ، والطَّعنِ في الصَّحابةِ وحَمَلةِ الدِّينِ، وغيرِ ذلك من الأُمورِ الكُفْريَّةِ، وقد كان لكُلِّ فرِقةٍ من الفِرَقِ المخالِفةِ لأهلِ السُّنَّةِ نَصيبٌ مِن هذه الأُمورِ وغَيرِها.
    كما أنَّه يَغلِبُ على مخالِفِ مَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ أن يكونَ داعيًا إلى بِدعتِه؛ لأنَّه يَعتَقِدُه دِينًا وشِرعةً، وأنَّ ما عليه غيرُه بدعةٌ وضلالةٌ .  

    : من نَتائِجِ الالتزامِ بمَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في تقريرِ مَسائِلِ الاعتِقادِ:
    : اليَقينُ والثَّباتُ لأهلِ السُّنَّةِ، وفي مُقابِلِه الاضطِرابُ والتنَقُّلُ لأهلِ البِدَعِ :


    الالتِزامُ بمَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ يُفيدُ الرَّجُلَ يقينًا وثباتًا، ومخالفتُه تُورِثُه اضطِرابًا وتنقُّلًا.
    فتجِدُ أهلَ الكلامِ هم أكثَرُ النَّاسِ انتِقالًا من قَولٍ إلى قَولٍ، وجَزمًا بالقَولِ في موضِعٍ، وجزمًا بنَقيضِه وتكفيرِ قائِلِه في موضِعٍ آخَرَ! وهذا دليلُ عَدَمِ اليَقينِ.
    أمَّا أهلُ السُّنَّةِ والحديثِ فما يُعلَمُ أحدٌ من عُلَمائِهم، ولا صالِحُ عامَّتِهم رجَعَ قَطُّ عن اعتِقادِه، بل هم أعظمُ النَّاسِ صَبرًا على ذلك، وإن امتُحِنوا بأنواعِ المحَنِ، وفُتِنوا بأنواعِ الفِتَنِ، وهذه حالُ الأنبياءِ وأتباعِهم من المتقدِّمينَ، كأهلِ الأُخدودِ ونحوِهم، وكسَلَفِ الأُمَّةِ مِنَ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ وغيرِهم مِنَ الأئِمَّةِ .

    : من نَتائِجِ الالتزامِ بمَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في تقريرِ مَسائِلِ الاعتِقادِ:
    : أنَّ أهلَ السُّنَّةِ أعمَقُ عِلمًا وأسَدُّ عَقلًا :


    لَمَّا كان أهلُ السُّنَّةِ مُلتَزِمينَ بالمَنهَجِ الصَّحيحِ، كان كلامُهم صَحيحًا متَّفِقًا، لا يتكلَّمون إلَّا بعِلمٍ عَقليٍّ أو سَمعيٍّ؛ لأنَّ اعتِقادَ الحَقِّ الثَّابِتِ يقوِّي الإدراكَ ويصَحِّحُه .
    قال اللهُ تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد: 17] .

    قال ابنُ القيِّمِ في قَولِ اللهِ تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النــور: 35]:
    (النُّورُ على النُّورِ: نورُ الفِطرةِ الصَّحيحةِ والإدراكِ الصَّحيحِ، ونورُ الوَحيِ والكِتابِ؛ فيَنضافُ أحدُ النُّورَينِ إلى الآخَرِ، فيزدادُ العَبدُ نُورًا على نُورٍ؛ ولهذا يكادُ يَنطِقُ بالحَقِّ والحِكمةِ قَبلَ أن يَسمَعَ ما فيه بالأثَرِ، ثمَّ يُبلِّغُه الأثَرُ بمِثلِ ما وقع في قَلْبِه ونطَق به، فيتَّفِقُ عنده شاهدُ العَقلِ والشَّرعِ والفِطرةِ والوَحيِ، فيُريه عَقلُه وفِطرتُه وذَوقُه أنَّ الذي جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم هو الحقُّ، لا يتعارَضُ عِندَه العَقلُ والنَّقلُ البتَّةَ، بل يتصادقانِ ويتوافقانِ) .

    : من نَتائِجِ الالتزامِ بمَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في تقريرِ مَسائِلِ الاعتِقادِ:
    :  أنَّ الالتِزامَ بهذا المَنهَجِ يُوحِّدُ صفوفِ المُسلِمينَ، ويَجمَعُ كَلِمتَهم؛ على تنوُّعِ اهتِماماتِهم العِلميَّةِ والعَمَليَّةِ، وتفاضُلِ مقاديرِهم في العِلمِ والإيمانِ :


    الالتِزامُ بمَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ يُوحِّدُ صُفوفَ المُسلِمينَ، ويَجمَعُ كَلِمَتَهم، ولا يعني هذا وُجوبَ الاتِّفاقِ في جميعِ تفاصيلِ المسائِلِ ودَقائِقِها، ولكِنِ المطلوبُ الاتِّفاقُ في الطَّريقِ والمَنهَجِ الموصِلِ إلى الحقِّ؛ فإن وُجِدَ اختِلافٌ بَعْدَ ذلك لم يُفسِدْ للوُدِّ قَضِيَّةً، بل يندَفِعُ بالتناصُحِ والتشاوُرِ، وتذوبُ حِدَّتُه في بَحرِ الأُلفةِ والمودَّةِ.
    قال أبو القاسِمِ الأصبهانيِّ: (السَّبَبُ في اتِّفاقِ أهلِ الحديثِ أنَّهم أخذوا الدِّينَ من الكِتابِ والسُّنَّةِ وطَريقِ النَّقلِ، فأورَثَهم الاتِّفاقَ والائتِلافَ، وأهلُ البِدَعِ أخَذوا الدِّينَ من المعقولاتِ والآراءِ، فأورَثَهم الافتراقَ والاختِلافَ؛ فإنَّ النَّقلَ والرِّوايةَ مِنَ الثِّقاتِ المتقِنينَ قلَّما تختَلِفُ، وإن اختَلَفت في لفظٍ أو كَلِمةٍ فذلك اختِلافٌ لا يضرُّ الدِّينَ، ولا يَقدَحُ فيه، وأمَّا دَلائِلُ العَقلِ فقلَّما تتَّفِقُ، بل عَقلُ كُلِّ واحدٍ يُري صاحِبَه غَيرَ ما يرى الآخَرُ، وهذا بيِّنٌ والحَمدُ للهِ، وبهذا يَظهَرُ مُفارقةُ الاختلافِ في مذاهِبِ الفُروعِ اختلافَ العقائِدِ في الأُصولِ، فإنَّا وجَدْنا أصحابَ رَسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ورَضِيَ عنهم- اختَلَفوا في أحكامِ الدِّينِ فلم يَفتَرِقوا، ولم يَصِيروا شِيَعًا؛ لأنَّهم لم يُفارِقوا الدِّينَ، ونَظَروا فيما أذِنَ لهم، فاختَلَفت أقوالُهم وآراُؤهم في مسائِلَ كثيرةٍ) .

    : حُكمُ من خالَفَ مَنهَجَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في تقريرِ مَسائلِ الاعتِقادِ :

    بيَّن النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ هذه الأُمَّةَ ستَفتَرِقُ إلى ثلاثٍ وسبعينَ فِرقةً، وأنَّ جميعَها في النَّارِ إلَّا واحِدةً هي النَّاجيةُ، وهي الجماعةُ، وهي الفِرقةُ المنصورةُ، وأنَّ سَبَبَ نَجاتِها هو التِزامُها بما كان عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه عِلمًا وعَمَلًا .
    وقد قرَّرَ أهلُ العِلمِ بأنَّ الفِرقةَ النَّاجيةَ والطَّائِفةَ المنصورةَ هم أصحابُ الحديثِ،
    حتى قال الإمامُ أحمَدُ: (إنْ لم يكونوا أصحابَ الحديثِ، فلا أدري من هم) .
    ورُوِيَ نحوُه عن يزيدَ بنِ هارونَ، وأحمدَ بنِ سنان، وعليِّ بنِ المَدينيِّ، والبُخاريِّ، رَحِمَهم اللهُ .

    وأهلُ الحديث والسُّنَّة: هم الذين ليس لهم مَتبوعٌ يتعصَّبون له إلَّا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فهم أعلمُ النَّاسِ بأقوالِه وأحوالِه، وأعظمُهم تَمييزًا بين صَحيحِ السُّنَّة وسقيمِها، وأئمَّتُهم فُقَهاءُ فيها، وأهلُ معرفةٍ بمعانيها، وهم أيضًا أعظَمُ النَّاسِ اتِّباعًا لها؛ تصديقًا وعَمَلًا وحُبًّا، ومُوالاةً لِمن والاها، ومُعاداةً لمن عاداها... فلا يَنصِبونَ مَقالةً عن رأيٍ أو ذَوقٍ، ويَجعَلونَها مِن أُصولِ دينِهم وجُمَلِ كَلامِهم، إنْ لم تكُنْ ثابتةً فيما جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بل يَجعَلونَ ما بُعِث به من الكِتابِ والحِكمةِ هو الأصلَ الذي يَعتَقِدونَه ويَعتَمِدونَه.
    وما تنازع فيه النَّاسُ من مسائِلِ الصِّفاتِ والقَدَرِ والوَعيدِ والأسماءِ والأحكامِ، ومسائِلِ المَعادِ وحَشْرِ الأجسادِ وغيرِ ذلك، يردُّونَه إلى اللهِ ورَسولِه، فما كان من معانيها مُوافِقًا للكتابِ والسُّنَّةِ أثبَتوه، وما كان منها مُخالِفًا للكتابِ والسُّنَّةِ أبطَلوه، ولا يتَّبعون الظَّنَّ وما تهوى الأنفُسُ؛ فإنَّ اتِّباعَ الظنِّ جَهلٌ، واتِّباعَ هوى النَّفسِ بغيرِ هُدًى مِنَ اللهِ ظُلمٌ .
    وعليه، فما عدا طائفةَ أهلِ الحديثِ هم أهلُ أهواءٍ وبِدَعٍ وتفَرُّقٍ، محكومٌ على جُملتِهم بمخالَفةِ الصِّراطِ المُستقيمِ؛ صراطِ الذين أنعم اللهُ عليهم بالهدايةِ والتَّوفيقِ.
    قال ابنُ عبدِ البَرِّ: (أَجمعَ أهلُ الفِقهِ والآثارِ مِن جَميعِ الأمصارِ أنَّ أهلَ الكلامِ أهلُ بِدَعٍ وزَيغٍ، ولا يُعَدُّونَ عند الجَميعِ في جميعِ الأمصارِ: في طَبَقاتِ العُلَماءِ، وإنَّما العُلَماءُ أهلُ الأثَرِ والتفقُّهِ فيه، ويتفاضَلونَ فيه بالإتقانِ والمَيْزِ والفَهمِ) .
    وقال هارونُ الرَّشيدُ: (طلبتُ أربعةً فوَجْدتُها في أربعةٍ: طَلَبتُ الكُفرَ فوجَدْتُه في الجَهْميَّةِ، وطلبتُ الكَلامَ والشَّغْبَ فوجَدْتُه في المعتَزِلةِ، وطلبتُ الكَذِبَ فوجَدْتُه عند الرَّاِفضةِ، وطلبتُ الحَقَّ فوجدتُه مع أصحابِ الحديثِ) .

    وقال الشَّافعيُّ: (حُكمي في أصحابِ الكَلامِ أن يُضرَبوا بالجَريدِ والنِّعالِ، ويُحمَلوا على الإبِلِ، ويُطافَ بهم في العشائِرِ والقبائِلِ، فينادَى عليهم: هذا جزاءُ مَن تَرَك الكِتابَ والسُّنَّةَ، وأخَذَ في الكلامِ) .
    وقال أحمدُ بنُ حَنبلٍ: (إنَّه لا يُفلِحُ صاحِبُ كَلامٍ أبدًا، ولا تكادُ ترى أحدًا نَظَر في الكَلامِ إلَّا وفي قَلْبِه دَغَلٌ) .
    وقال ابنُ خُوَيزٍ المالكيُّ: (أهلُ الأهواءِ عندَ مالكٍ وسائِرِ أصحابِنا هم أهلُ الكلامِ، فكُلُّ مُتكلِّمٍ فهو من أهلِ الأهواءِ والبِدَعِ؛ أشعريًّا كان أو غيرَ أشعريٍّ، ولا تُقبَلُ له شهادةٌ في الإسلامِ أبدًا، ويُهجَرُ ويؤدَّبُ على بِدعتِه، فإن تمادى عليه استُتيبَ منها) .
    -----------------------------------------------------------------
    جزاكم الله خيرا علي حسن المتابعه بارك الله فيكم وزادكم الله حرصاً وإيماناً وتقوي ومحبه لله ولرسوله صل الله عليه وسلم
    ----
    لا تنسونا من صالح دعائكم
    -----
    الموضوع الرئيسي لفضيله الشيخ / علوي بن عبد القادر السقاف
    الشيخ / علوي بن عبد القادر بن محمد بن هادي السَّقَّاف من مواليد عام 1376هـ، في مكة المكرمة فهي المنشأ والأصل، وانتقل إلى المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية عام 1395ه‍ للدراسة واستقر بها.

    الدراسة
    درس المرحلة الابتدائية والمتوسطة والثانوية بمكة المكرمة وأنهى دراسته بها عام 1395ه‍.
    درس المرحلة الجامعية بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن وأنهى دراسته بها عام 1401ه‍.
    درس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قسم أصول الدين (انتساباً).
    الوظيفة
    عمل في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن حتى عام 1428.
    المشرف العام على موقع الدرر السنية (حالياً).
    طلب العلم
    استفاد من والده - يرحمه الله - أشياء كثيرة منها حب العلم والقراءة حيث قرأ عليه عدداً من الكتب منها: أجزاء من صحيحي البخاري ومسلم وبعض الكتب في المذهب الشافعي.
    شُغف بطلب العلم والاهتمام بالدليل وقرأ وتأثر كثيراً بشيخ الإسلام ابن تيمية وبأئمة أهل السنة من قبله وبعده.
    التقى بعدد من علماء أهل السنة المعاصرين وقرأ لهم وعليهم واستفاد منهم.
    له اهتمام خاص بمسائل التوحيد والعقيدة.
    المؤلفات
    له عددٌ من الكتب والمؤلفات منها:

    كتاب (كل بدعة ضلالة) قراءة ناقدة وهادئة لكتاب مفهوم البدعة وأثره في اضطراب الفتوى المعاصرة. (تأليف)
    كتاب العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية (تحقيق)
    كتاب: التوسط والاقتصاد في أن الكفر يكون بالقول أوالفعل أوالاعتقاد. (تأليف)
    كتاب: صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة. (تأليف)
    كتاب: المنتخب من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية. (انتقاء)
    كتاب: شرح العقيدة الواسطية ،للشيخ محمد خليل هرَّاس. (تحقيق)
    كتاب: ملحق كتاب شرح العقيدة الواسطية. (تأليف)
    كتاب: مختصر كتاب الاعتصام للشاطبي. (اختصار)
    كتاب: منظومة سلم الوصول إلى مباحث علم الوصول (تحقيق).
    كما أشرف على تأليف عدد من الكتب، منها:

    كتاب: خزانة الكتب.
    كتاب: ملخص فقه العبادات (الطهارة، الصلاة، الصوم، الحج والعمرة).
    كتاب: موسوعة الأخلاق.
    كتاب: عائشة أم المؤمنين.
    كتاب: زاد العباد
    كتاب: الأشاعرة والماتريدية في ميزان أهل السنة والجماعة.
    ---------------------------------------------------
    بارك الله فيكم إين ما كنتم وجمعنا وإياكم علي محبه الله وحبيبه المصطفي المجتبي محمد بن عبد الله صل الله عليه وسلم وعلي أصحابه الكرام البرره

    صادق النور يعجبه هذا الموضوع


      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة مايو 10, 2024 10:24 pm